|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#491
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السابع الحلقة (489) سُورَةُ الْأَحْقَافِ صـ 219 إلى صـ 226 [ ص: 219 ] وبعض العلماء يقول : إن أرأيتم بمعنى أخبروني . والعلم عند الله - تعالى - . قوله - تعالى - : وشهد شاهد من بني إسراءيل على مثله . التحقيق - إن شاء الله - أن هذه الآية الكريمة جارية على أسلوب عربي معروف ، وهو إطلاق المثل على الذات نفسها ، كقولهم : مثلك لا يفعل هذا ، يعنون لا ينبغي لك أنت أن تفعله . وعلى هذا فالمعنى : وشهد شاهد من بني إسرائيل على أن هذا القرآن وحي منزل حقا من عند الله ، لا أنه شهد على شيء آخر مماثل له; ولذا قال - تعالى - : فآمن واستكبرتم . ومما يوضح هذا تكرر إطلاق المثل في القرآن مرادا به الذات ، كقوله - تعالى - : أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات الآية [ 6 \ 122 ] . فقوله : كمن مثله في الظلمات ، أي كمن هو نفسه في الظلمات ، وقوله - تعالى - : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا [ 2 \ 137 ] أي فإن آمنوا بما آمنتم به ، لا بشيء آخر مماثل له - على التحقيق - . ويستأنس له بالقراءة المروية عن ابن عباس وابن مسعود فإن آمنوا بما آمنتم به الآية . القول بأن لفظة ( ما ) في الآية مصدرية ، وأن المراد تشبيه الإيمان بالإيمان ، أي فإن آمنوا بإيمان مثل إيمانكم فقد اهتدوا ، لا يخفى بعده . والشاهد في الآية هو عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - كما قال الجمهور ، وعليه فهذه الآية مدنية في سورة مكية . وقيل : إن الشاهد موسى بن عمران - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - وقيل غير ذلك . قوله - تعالى - : وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه . [ ص: 220 ] أظهر أقوال العلماء في هذه الآية الكريمة أن الكافرين الذين قالوا للمؤمنين لو كان خيرا ما سبقونا إليه ، أنهم كفار مكة ، وأن مرادهم أن فقراء المسلمين وضعفاءهم : كبلال وعمار وصهيب وخباب ونحوهم - أحقر عند الله من أن يختار لهم الطريق التي فيها الخير . وأنهم هم الذين لهم عند الله عظمة وجاه واستحقاق السبق لكل خير ; لزعمهم أن الله أكرمهم في الدنيا بالمال والجاه ، وأن أولئك الفقراء لا مال لهم ولا جاه ، وأن ذلك التفضيل في الدنيا يستلزم التفضيل في الآخرة . وهذا المعنى الذي استظهرناه في هذه الآية الكريمة - تدل له آيات كثيرة من كتاب الله ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن . أما ادعاؤهم أن ما أعطوا من المال والأولاد والجاه في الدنيا ، دليل على أنهم سيعطون مثله في الآخرة ، وتكذيب الله لهم في ذلك - فقد جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 \ 55 - 56 ] . وقوله - تعالى - : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا الآية [ 19 \ 77 - 79 ] . وقوله - تعالى - : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 \ 35 ] مع قوله : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى الآية [ 34 \ 37 ] . وقوله - تعالى - : ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ [ 41 \ 50 ] . وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] . وأما احتقار الكفار لضعفاء المؤمنين وفقرائهم ، وزعمهم أنهم أحقر عند الله من أن يصيبهم بخير ، وأنما هم عليه لو كان خيرا لسبقهم إليه أصحاب الغنى والجاه والولد من الكفار - فقد دلت عليه آيات أخر ، كقوله - تعالى - في " الأنعام " : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا [ 6 \ 53 ] . فهمزة الإنكار في قوله : أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ، تدل على إنكارهم أن الله يمن على أولئك الضعفاء بخير . [ ص: 221 ] وقد رد الله عليهم بقوله : أليس الله بأعلم بالشاكرين وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم الآية [ 6 \ 53 - 54 ] . وقوله - تعالى - في " الأعراف " : ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون [ 7 \ 48 - 49 ] . وقوله - تعالى - في " ص " : وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار أأتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار [ 38 \ 62 - 63 ] . فقد قال غير واحد : إن الرجال الذين كانوا يعدونهم من الأشرار هم ضعفاء المسلمين الذين كانوا يسخرون منهم في دار الدنيا ، ويزعمون أنهم أحقر من أن ينالهم الله بخير ، ويدل له قوله : أأتخذناهم سخريا وسيسخر ضعفاء المسلمين في الجنة من الكفار الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا وهم في النار ، كما قال - تعالى - : إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون إلى قوله - تعالى - : فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون [ 83 \ 29 - 36 ] . وقوله - تعالى - : زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة الآية [ 2 \ 212 ] . قوله - تعالى - : وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا . قد قدمنا الآيات الموضحة في سورة " الشعراء " في الكلام على قوله - تعالى - : لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ 26 \ 194 - 195 ] وفي سورة " الزمر " في الكلام على قوله - تعالى - : قرءانا عربيا غير ذي عوج الآية [ 39 \ 28 ] . قوله - تعالى - : لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين . قد قدمنا الآيات الموضحة له مع بيان أنواع الإنذار في القرآن في أول سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به الآية [ 7 \ 2 ] . وفي أول سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الآية [ 18 \ 2 ] . قوله - تعالى - : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . [ ص: 222 ] قد قدمنا الكلام عليه في سورة " فصلت " في الكلام على قوله - تعالى - : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة الآية [ 41 ] . قوله - تعالى - : ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا . قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو : حسنا بضم الحاء وسكون السين ، وكذلك هو في مصاحفهم . وقرأه عاصم وحمزة والكسائي : إحسانا بهمزة مكسورة وإسكان الحاء ، وألف بعد السين . وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذه الآية في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا [ 17 \ 23 ] . وقال أبو حيان في البحر : قيل : ضمن ووصينا معنى ألزمنا ، فيتعدى لاثنين ، فانتصب حسنا وإحسانا على المفعول الثاني لوصينا . وقيل : التقدير إيصاء ذا حسن أو ذا إحسان ، ويجوز أن يكون حسنا بمعنى إحسان ، فيكون مفعولا به ، أي ووصيناه بها لإحساننا إليهما ، فيكون الإحسان من الله - تعالى - . وقيل : النصب على المصدر على تضمين معنى أحسنا بالوصية للإنسان بوالديه إحسانا . ا هـ منه ، وكلها له وجه . قوله - تعالى - : حملته أمه كرها ووضعته كرها . قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر : كرها بفتح الكاف في الموضعين . وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر : كرها بضم الكاف في الموضعين . وهما لغتان كالضعف والضعف . ومعنى حملته كرها أنها في حال حملها به تلاقي مشقة شديدة . [ ص: 223 ] ومن المعلوم ما تلاقيه الحامل من المشقة والضعف ، إذا أثقلت وكبر الجنين في بطنها . ومعنى وضعته كرها : أنها في حالة وضع الولد تلاقي من ألم الطلق وكربه مشقة شديدة ، كما هو معلوم . وهذه المشاق العظيمة التي تلاقيها الأم في حمل الولد ووضعه ، لا شك أنها يعظم حقها بها ، ويتحتم برها والإحسان إليها ، كما لا يخفى . وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من المشقة التي تعانيها الحامل ، ودلت عليه آية أخرى ، وهي قوله - تعالى - في " لقمان " : ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن [ 31 \ 14 ] أي تهن به وهنا على وهن ، أي ضعفا على ضعف; لأن الحمل كلما تزايد وعظم في بطنها ، ازدادت ضعفا على ضعف . وقوله في آية " الأحقاف " هذه كرها في الموضعين - مصدر منكر ، وهو حال ، أي حملته ذات كره ووضعته ذات كره ، وإتيان المصدر المنكر حالا كثير ، كما أشار له في الخلاصة بقوله : ومصدر منكر حالا يقع بكثرة كبغتة زيد طلع وقال بعضهم : كرها في الموضعين نعت لمصدر ، أي حملته حملا ذا كره ، ووضعته وضعا ذا كره . والعلم عند الله - تعالى - . قوله - تعالى - : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا . هذه الآية الكريمة ليس فيها بانفرادها تعرض لبيان أقل مدة الحمل ، ولكنها بضميمة بعض الآيات الأخرى إليها يعلم أقل أمد الحمل ; لأن هذه الآية الكريمة من سورة " الأحقاف " صرحت بأن أمد الحمل والفصال معا - ثلاثون شهرا . وقوله - تعالى - في " لقمان " : وفصاله في عامين . وقوله في " البقرة " : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين [ 2 \ 233 ] - يبين أن أمد الفصال عامان ، وهما أربعة وعشرون شهرا ، فإذا طرحتها من الثلاثين بقيت ستة أشهر ، فتعين كونها أمدا للحمل ، وهي أقله ، ولا خلاف في ذلك بين العلماء . [ ص: 224 ] ودلالة هذه الآيات على أن ستة أشهر أمد الحمل - هي المعروفة عند علماء الأصول بدلالة الإشارة . وقد أوضحنا الكلام عليها في مباحث الحج ، في سورة " الحج " في مبحث أقوال أهل العلم في حكم المبيت بمزدلفة ، وأشرنا لهذا النوع من البيان في ترجمة هذا الكتاب المبارك . قوله - تعالى - : حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة . قد قدمنا الكلام عليه في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : حتى يبلغ أشده [ 6 \ 152 ] وفي ترجمة هذا الكتاب المبارك . قوله - تعالى - : والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين أولئك الذين حق عليهم القول . التحقيق - إن شاء الله - أن الذي في قوله : والذي قال لوالديه بمعنى الذين ، وأن الآية عامة في كل عاق لوالديه مكذب بالبعث . والدليل من القرآن على أن ( الذي ) بمعنى الذين ، وأن المراد به العموم - أن الذي في قوله : والذي قال لوالديه مبتدأ خبره قوله - تعالى - : أولئك الذين حق عليهم القول الآية . والإخبار عن لفظة الذي في قوله : أولئك الذين حق عليهم القول بصيغة الجمع - صريح في أن المراد بالذي العموم لا الإفراد . وخير ما يفسر به القرآن القرآن . وبهذا الدليل القرآني تعلم أن قول من قال في هذه الآية الكريمة أنها نازلة في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - ليس بصحيح ، كما جزمت عائشة - رضي الله عنها - ببطلانه . وفي نفس آية " الأحقاف " هذه دليل آخر واضح على بطلانه ، وهو أن الله صرح بأن الذين قالوا تلك المقالة حق عليهم القول ، وهو قوله : ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] . [ ص: 225 ] ومعلوم أن عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما - أسلم وحسن إسلامه ، وهو من خيار المسلمين وأفاضل الصحابة - رضي الله عنهم - . وغاية ما في هذه الآية الكريمة هو إطلاق ( الذي ) وإرادة ( الذين ) ، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب ; لأن لفظ الذي مفرد ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها ، وقد تقرر في علم الأصول أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم ، كما أشار له في مراقي السعود بقوله : صيغة كل أو الجميع وقد تلا الذي التي الفروع فمن إطلاق الذي وإرادة الذين في القرآن - هذه الآية الكريمة من سورة " الأحقاف " . وقوله - تعالى - في سورة " البقرة " : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا الآية [ 2 \ 17 ] . أي كمثل الذين استوقدوا ، بدليل قوله : ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون [ 2 \ 17 ] بصيغة الجمع في الضمائر الثلاثة التي هي بنورهم و تركهم ، والواو في لا يبصرون . وقوله - تعالى - في " البقرة " أيضا : كالذي ينفق ماله رئاء الناس [ 2 \ 264 ] أي كالذين ينفقون ; بدليل قوله : لا يقدرون على شيء مما كسبوا [ 2 \ 264 ] . وقوله في " الزمر " : والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون [ 39 \ 33 ] . وقوله في " التوبة " : وخضتم كالذي خاضوا [ 9 \ 69 ] أي كالذين خاضوا بناء على أنها موصولة لا مصدرية ، ونظير ذلك من كلام العرب قول أشهب بن رميلة : فإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد وقول عديل بن الفرخ العجلي : وبت أساقي القوم إخوتي الذي غوايتهم غيي ورشدهم رشدي وقول الراجز : يا رب عبس لا تبارك في أحد في قائم منهم ولا في من قعد وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : أف لكما كلمة تضجر . وقائل ذلك عاق [ ص: 226 ] لوالديه غير مجتنب نهي الله في قوله : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف الآية [ 17 \ 23 ] . وقوله : أتعدانني فعل ، مضارع وعد ، وحذف واوه في المضارع مطرد ، كما ذكره في الخلاصة بقوله : إلا الذي قاموا بإطراف المسد فا أمر أو مضارع من كوعد احذف وفي كعدة ذاك اطرد والنون الأولى نون الرفع ، والثانية نون الوقاية ، كما لا يخفى . وقرأ هذا الحرف أبو عمرو وابن عامر في رواية ابن ذكوان وعاصم وحمزة والكسائي : أتعدانني ، بنونين مكسورتين مخففتين وياء ساكنة . وقرأه هشام عن ابن عامر بنون مشددة مكسورة وبياء ساكنة . وقرأه نافع وابن كثير بنونين مكسورتين مخففتين وياء مفتوحة ، والهمزة للإنكار . وقوله : أن أخرج أي أبعث من قبري حيا بعد الموت . والمصدر المنسبك من أن وصلتها هو المفعول الثاني لتعدانني ، يعني أتعدانني الخروج من قبري حيا بعد الموت ، والحال قد مضت القرون ، أي هلكت الأمم الأولى ، ولم يحي منهم أحد ، ولم يرجع بعد أن مات . وهما ، أي والداه ، يستغيثان الله ، أي يطلبانه أن يغيثهما بأن يهدي ولدهما إلى الحق والإقرار بالبعث ، ويقولان لولدهما : ويلك آمن ، أي بالله وبالبعث بعد الموت . والمراد بقولهما : ويلك - حثه على الإيمان . إن وعد الله حق ، أي وعده بالبعث بعد الموت حق لا شك فيه ، فيقول ذلك الولد العاق المنكر للبعث : ما هذا إن الذي تعدانني إياه من البعث بعد الموت إلا أساطير الأولين . والأساطير جمع أسطورة . وقيل : جمع إسطارة ، ومراده بها ما سطره الأولون ، أي كتبوه من الأشياء التي لا حقيقة لها . وقوله : أولئك ترجع الإشارة فيه إلى العاقين المكذبين بالبعث المذكورين في قوله : والذي قال لوالديه أف لكما الآية . ![]()
__________________
|
#492
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السابع الحلقة (490) سُورَةُ الْأَحْقَافِ صـ 227 إلى صـ 234 [ ص: 227 ] وقوله : حق عليهم القول أي وجبت عليهم كلمة العذاب . وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة " يس " في الكلام على قوله - تعالى - : لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون [ 36 \ 7 ] . وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن منكري البعث يحق عليهم القول لكفرهم - قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] . قوله - تعالى - : ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون . معنى الآية الكريمة أنه يقال للكفار يوم يعرضون على النار : أذهبتم طيباتكم . فقول : يعرضون على النار - قال بعض العلماء : معناه يباشرون حرها ، كقول العرب : عرضهم على السيف إذا قتلهم به ، وهو معنى معروف في كلام العرب . وقد ذكر - تعالى - مثل ما ذكر هنا في قوله : ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق [ 46 \ 34 ] وهذا يدل على أن المراد بالعرض مباشرة العذاب ; لقوله : قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون [ 6 ] . وقوله - تعالى - : وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا [ 40 \ 45 - 46 ] ; لأنه عرض عذاب . وقال بعض العلماء : معنى عرضهم على النار هو تقريبهم منها ، والكشف لهم عنها حتى يروها ، كما قال - تعالى - : ورأى المجرمون النار الآية [ 18 \ 53 ] . وقال - تعالى - : وجيء يومئذ بجهنم [ 89 \ 23 ] . وقال بعض العلماء في الكلام قلب ، وهو مروي عن ابن عباس وغيره . قالوا : والمعنى : ويوم تعرض النار على الذين كفروا . قالوا : وهو كقول العرب : عرضت الناقة على الحوض . يعنون عرضت الحوض على الناقة ، ويدل لهذا قوله - تعالى - : وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا [ 18 \ 100 ] . [ ص: 228 ] قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذا النوع الذي ذكروه من القلب في الآية ، كقلب الفاعل مفعولا ، والمفعول فاعلا ، ونحو ذلك - اختلف فيه علماء العربية ، فمنعه البلاغيون إلا في التشبيه ، فأجازوا قلب المشبه مشبها به والمشبه به مشبها بشرط أن يتضمن ذلك نكتة وسرا لطيفا ، كما هو المعروف عندهم في مبحث التشبيه المقلوب . وأجازه كثير من علماء العربية . والذي يظهر لنا أنه أسلوب عربي نطقت به العرب في لغتها ، إلا أنه يحفظ ما سمع منه ، ولا يقاس عليه ، ومن أمثلته في التشبيه قول الراجز : ومنهل مغبرة أرجاؤه كأن لون أرضه سماؤه أي كأن سماءه لون أرضه ، وقول الآخر : وبدا الصباح كأن غرته وجه الخليفة حين يمتدح لأن أصل المراد تشبيه وجه الخليفة بغرة الصباح ، فقلب التشبيه ليوهم أن الفرع أقوى من الأصل في وجه الشبه . قالوا : ومن أمثلته في القرآن وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة [ 28 \ 76 ] ; لأن العصبة من الرجال هي التي تنوء بالمفاتيح ، أي تنهض بها بمشقة وجهد لكثرتها وثقلها ، وقوله - تعالى - : فعميت عليهم الأنباء [ 28 \ 66 ] . أي عموا عنها . ومن أمثلته في كلام العرب قول كعب بن زهير : كأن أوب ذراعيها إذا عرقت وقد تلفع بالقور العساقيل لأن معنى قوله : تلفع لبس اللفاع وهو اللحاف ، والقور : الحجارة العظام ، والعساقيل : السراب . والكلام مقلوب ; لأن القور هي التي تلتحف بالعساقيل لا العكس ، كما أوضحه لبيد في معلقته بقوله : فبتلك إذ رقص اللوامع بالضحى واجتاب أردية السراب إكامها فصرح بأن الإكام التي هي الحجارة اجتابت ، أي لبست ، أردية السراب . والأردية جمع رداء ، وهذا النوع من القلب وإن أجازه بعضهم فلا ينبغي حمل الآية [ ص: 229 ] عليه ; لأنه خلاف الظاهر ، ولا دليل عليه يجب الرجوع إليه . وظاهر الآية جار على الأسلوب العربي الفصيح ، كما أوضحه أبو حيان في البحر المحيط . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها قرأه ابن كثير وابن عامر : أأذهبتم بهمزتين ، وهما على أصولهما في ذلك . فابن كثير يسهل الثانية بدون ألف إدخال بين الهمزتين . وهشام يحققها ويسهلها مع ألف الإدخال . وابن ذكوان يحققها من غير إدخال . وقرأه نافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي : أذهبتم طيباتكم بهمزة واحدة على الخبر من غير استفهام . واعلم أن للعلماء كلاما كثيرا في هذه الآية قائلين : إنها تدل على أنه ينبغي التقشف والإقلال من التمتع بالمآكل والمشارب والملابس ، ونحو ذلك . وإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يفعل ذلك خوفا منه أن يدخل في عموم من يقال لهم يوم القيامة : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا الآية . والمفسرون يذكرون هنا آثارا كثيرة في ذلك ، وأحوال أهل الصفة وما لاقوه من شدة العيش . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق : إن شاء الله في معنى هذه الآية هو أنها في الكفار ، وليست في المؤمنين الذين يتمتعون باللذات التي أباحها الله لهم ; لأنه - تعالى - ما أباحها لهم ليذهب بها حسناتهم . وإنما قلنا : إن هذا هو التحقيق ; لأن الكتاب والسنة الصحيحة دالان عليه ، والله - تعالى - يقول : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ 4 \ 59 ] . أما كون الآية في الكفار فقد صرح الله - تعالى - به في قوله : ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم الآية . والقرآن والسنة الصحيحة قد دلا على أن الكافر إن عمل عملا صالحا مطابقا للشرع ، مخلصا فيه لله ، كالكافر الذي يبر والديه ، ويصل الرحم ويقري الضيف ، وينفس عن المكروب ، ويعين المظلوم يبتغي بذلك وجه الله - يثاب بعمله في دار الدنيا خاصة بالرزق [ ص: 230 ] والعافية ، ونحو ذلك ، ولا نصيب له في الآخرة . فمن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [ 11 \ 15 - 16 ] . وقوله - تعالى - : ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب [ 42 \ 20 ] . وقد قيد - تعالى - هذا الثواب الدنيوي المذكور في الآيات بمشيئته وإرادته ، في قوله - تعالى - : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا [ 17 \ 18 ] . وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة; يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا ، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزي بها " . هذا لفظ مسلم في صحيحه . وفي لفظ له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا ، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة ، ويعقبه رزقا في الدنيا على طاعته " ا هـ . فهذا الحديث الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه التصريح بأن الكافر يجازى بحسناته في الدنيا فقط ، وأن المؤمن يجازى بحسناته في الدنيا والآخرة معا ، وبمقتضى ذلك يتعين تعيينا لا محيص عنه أن الذي أذهب طيباته في الدنيا واستمتع بها هو الكافر; لأنه لا يجزى بحسناته إلا في الدنيا خاصة . وأما المؤمن الذي يجزى بحسناته في الدنيا والآخرة معا - فلم يذهب طيباته في الدنيا ; لأن حسناته مدخرة له في الآخرة ، مع أن الله - تعالى - يثيبه بها في الدنيا ، كما قال - تعالى - : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب [ 65 \ 2 - 3 ] فجعل المخرج من الضيق له ورزقه من حيث لا يحتسب - ثوابا في الدنيا ، وليس ينقص أجر تقواه في الآخرة . والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة ، وعلى كل حال فالله - جل وعلا - أباح لعباده على [ ص: 231 ] لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - الطيبات في الحياة الدنيا ، وأجاز لهم التمتع بها ، ومع ذلك جعلها خاصة بهم في الآخرة ، كما قال - تعالى - : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة [ 7 \ 32 ] . فدل هذا النص القرآني أن تمتع المؤمنين بالزينة والطيبات من الرزق في الحياة الدنيا لم يمنعهم من اختصاصهم بالتنعم بذلك يوم القيامة ، وهو صريح في أنهم لم يذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا . ولا ينافي هذا أن من كان يعاني شدة الفقر في الدنيا كأصحاب الصفة ، يكون لهم أجر زائد على ذلك ; لأن المؤمنين يؤجرون بما يصيبهم في الدنيا من المصائب والشدائد ، كما هو معلوم . والنصوص الدالة على أن الكافر هو الذي يذهب طيباته في الحياة الدنيا ; لأنه يجزى في الدنيا فقط كالآيات المذكورة ، وحديث أنس المذكور عند مسلم - قد قدمناها موضحة في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا وذكرنا هناك أسانيد الحديث المذكور وألفاظه . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فاليوم تجزون عذاب الهون أي عذاب الهوان ، وهو الذل والصغار . وقوله - تعالى - : بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ، الباء في قوله : بما كنتم - سببية ، وما مصدرية ، أي تجزون عذاب الهون بسبب كونكم مستكبرين في الأرض ، وكونكم فاسقين . وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من كون الاستكبار في الأرض والفسق من أسباب عذاب الهون ، وهو عذاب النار - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : أليس في جهنم مثوى للمتكبرين [ 39 \ 60 ] . وقوله - تعالى - : وأما الذين فسقوا فمأواهم النار الآية [ 32 \ 20 ] . وقد قدمنا النتائج الوخيمة الناشئة عن التكبر في سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : فما يكون لك أن تتكبر فيها الآية [ 7 \ 13 ] . [ ص: 232 ] وقوله - تعالى - : بغير الحق مع أنه من المعلوم أنهم لا يستكبرون في الأرض إلا استكبارا متلبسا بغير الحق ، كقوله - تعالى - : ولا طائر يطير بجناحيه [ 6 \ 38 ] ومعلوم أنه لا يطير إلا بجناحيه ، وقوله : فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم [ 2 \ 79 ] . ومعلوم أنهم لا يكتبونه إلا بأيديهم ، ونحو ذلك من الآيات ، وهو أسلوب عربي نزل به القرآن . قوله - تعالى - : واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف . أبهم - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أخا عاد ولم يعينه ، ولكنه بين في آيات أخرى أنه هود - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - كقوله - تعالى - : وإلى عاد أخاهم هودا في سورة " الأعراف " [ 7 \ 65 ] . وسورة " هود " [ 11 \ 50 ] . وغير ذلك من المواضع . قوله - تعالى - : ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم . ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن النبي هودا نهى قومه أن يعبدوا غير الله ، وأمرهم بعبادته - تعالى - وحده ، وأنه خوفهم من عذاب الله ، إن تمادوا في شركهم به . وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية جاءا موضحين في آيات أخر . أما الأول منهما ففي قوله - تعالى - : وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره في سورة " الأعراف " [ 7 \ 65 ] . وسورة " هود " [ 11 \ 50 ] . ونحو ذلك من الآيات . وأما خوفه عليهم العذاب العظيم فقد ذكره في " الشعراء " في قوله - تعالى - : واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم [ 26 \ 132 - 135 ] . وهو يوم القيامة . قوله - تعالى - : قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين . ومعنى قوله - تعالى - : لتأفكنا عن آلهتنا ، أي لتصرفنا عن عبادتها إلى عبادة الله وحده . وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين : [ ص: 233 ] أحدهما : إنكار عاد على هود أنه جاءهم ، ليتركوا عبادة الأوثان ، ويعبدوا الله وحده . والثاني : أنهم قالوا له : ائتنا بما تعدنا من العذاب وعجله لنا إن كنت صادقا فيما تقول ، عنادا منهم وعتوا . وهذان الأمران جاءا موضحين في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في " الأعراف " : قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين [ 7 \ 70 ] . قوله - تعالى - : وأبلغكم ما أرسلت به . ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن نبي الله هودا قال لقومه إنه يبلغهم ما أرسل به إليهم; لأنه ليس عليه إلا البلاغ ، وهذا المعنى جاء مذكورا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في " الأعراف " : قال ياقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين [ 7 \ 67 - 68 ] . وقوله - تعالى - في سورة " هود " : فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم الآية [ 11 \ 57 ] . قوله - تعالى - : بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " فصلت " في الكلام على قوله - تعالى - : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات [ 41 \ 16 ] . قوله - تعالى - : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه . لفظة إن في هذه الآية الكريمة فيها للمفسرين ثلاثة أوجه ، يدل استقراء القرآن على أن واحدا منها هو الحق ، دون الاثنين الآخرين . قال بعض العلماء : إن شرطية ، وجزاء الشرط محذوف ، والتقدير إن مكناكم فيه طغيتم وبغيتم . وقال بعضهم : إن زائدة بعد ما الموصولة حملا لـ ما الموصولة على ما النافية ; لأن ما النافية تزاد بعدها لفظة إن كما هو معلوم . [ ص: 234 ] كقول قتيلة بنت الحارث أو النضر العبدرية : أبلغ بها ميتا بأن تحية ما إن نزل بها النجائب تخفقوا وقول دريد بن الصمة في الخنساء : ما إن رأيت ولا سمعت به كاليوم طالي أينق جرب فـ ( إن ) زائدة بعد ( ما ) النافية في البيتين ، وهو كثير ، وقد حملوا على ذلك ( ما ) الموصولة ، فقالوا : تزاد بعدها ( إن ) كآية " الأحقاف " هذه . وأنشد لذلك الأخفش : يرجي المرء ما إن لا يراه وتعرض دون أدناه الخطوب أي يرجي المرء الشيء الذي لا يراه ، وإن زائدة ، وهذان هما الوجهان اللذان لا تظهر صحة واحد منهما . لأن الأول منهما فيه حذف وتقدير . والثاني منهما فيه زيادة كلمة . وكل ذلك لا يصار إليه إلا بدليل يجب الرجوع إليه . أما الوجه الثالث الذي هو الصواب - إن شاء الله - فهو أن لفظة ( إن ) نافية بعد ( ما ) الموصولة ، أي ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه من القوة في الأجسام ، وكثرة الأموال والأولاد والعدد . وإنما قلنا : إن القرآن يشهد لهذا القول لكثرة الآيات الدالة عليه ، فإن الله - جل وعلا - في آيات كثيرة من كتابه يهدد كفار مكة بأن الأمم الماضية كانت أشد منهم بطشا وقوة ، وأكثر منهم عددا وأموالا وأولادا ، فلما كذبوا الرسل أهلكهم الله ليخافوا من تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهلكهم الله بسببه ، كما أهلك الأمم التي هي أقوى منهم ، كقوله - تعالى - في " المؤمن " : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون [ 40 \ 82 ] . وقوله فيها أيضا : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم الآية [ 40 \ 21 ] . ![]()
__________________
|
#493
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السابع الحلقة (491) سُورَةُ الْأَحْقَافِ صـ 235 إلى صـ 242 [ ص: 235 ] وقوله - تعالى - في " الروم " : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها الآية [ 30 \ 9 ] . وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " الزخرف " في الكلام على قوله - تعالى - : فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين [ 43 \ 10 ] . قوله - تعالى - : فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الجاثية " في الكلام على قوله - تعالى - : ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم [ الآية \ 10 ] . قوله - تعالى - : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من سورة " الأحقاف " أنه صرف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - نفرا من الجن والنفر دون العشرة يستمعون القرآن وأنهم لما حضروه ، قال بعضهم لبعض : أنصتوا أي اسكتوا مستمعين ، وأنه لما قضى ، أي انتهى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قراءته ولوا أي رجعوا إلى قومهم من الجن في حال كونهم منذرين ، أي مخوفين لهم من عذاب الله إن لم يؤمنوا بالله ، ويجيبوا داعيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأخبروا قومهم أن هذا الكتاب الذي سمعوه يتلى ، المنزل من بعد موسى - يهدي إلى الحق ، وهو ضد الباطل ، وإلى طريق مستقيم ، أي لا اعوجاج فيه . وقد دل القرآن العظيم أن استماع هؤلاء النفر من الجن ، وقولهم ما قالوا عن القرآن كله - وقع ولم يعلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أوحى الله ذلك إليه ، كما قال - تعالى - في القصة بعينها مع بيانها وبسطها ، بتفصيل الأقوال التي قالتها الجن ، بعد استماعهم القرآن العظيم : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا [ 82 \ 1 - 2 ] إلى آخر الآيات . [ ص: 236 ] قوله - تعالى - : يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم . منطوق هذه الآية أن من أجاب داعي الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - وآمن به ، وبما جاء به من الحق - غفر الله له ذنوبه ، وأجاره من العذاب الأليم . ومفهومها ، أعني مفهوم مخالفتها المعروف بدليل الخطاب ، أن من لم يجب داعي الله من الجن ، ولم يؤمن به لم يغفر له ، ولم يجره من عذاب أليم ، بل يعذبه ويدخله النار ، وهذا المفهوم جاء مصرحا به مبينا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 11 \ 119 ] . وقوله - تعالى - : ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] . وقوله - تعالى - : قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار [ 7 \ 38 ] . وقوله - تعالى - : فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون [ 26 \ 94 - 95 ] . إلى غير ذلك من الآيات . أما دخول المؤمنين المجيبين داعي الله من الجن الجنة - فلم تتعرض له الآية الكريمة بإثبات ولا نفي ، وقد دلت آية أخرى على أن المؤمنين من الجن يدخلون الجنة ، وهي قوله - تعالى - في سورة " الرحمن " : ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 46 - 47 ] . وبه تعلم أن ما ذهب إليه بعض أهل العلم ، قائلين : إنه يفهم من هذه الآية ، من أن المؤمنين من الجن لا يدخلون الجنة ، وأن جزاء إيمانهم وإجابتهم داعي الله ، هو الغفران وإجارتهم من العذاب الأليم فقط ، كما هو نص الآية - كله خلاف التحقيق . وقد أوضحنا ذلك في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في الكلام على هذه الآية ، من سورة " الأحقاف " فقلنا فيه ما نصه : هذه الآية يفهم من ظاهرها ، أن جزاء المطيع من الجن غفران ذنوبه ، وإجارته من عذاب أليم ، لا دخوله الجنة . وقد تمسك جماعة من العلماء منهم ، الإمام أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - بظاهر هذه الآية ، فقالوا : إن المؤمنين المطيعين من الجن لا يدخلون الجنة ، مع أنه جاء في آية أخرى ما يدل على أن مؤمنيهم في الجنة ، وهي قوله - تعالى - : ولمن خاف مقام ربه جنتان ; لأنه - تعالى - بين شموله للجن والإنس ، بقوله : فبأي آلاء ربكما تكذبان . [ ص: 237 ] ويستأنس لهذا بقوله - تعالى - : لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان [ 55 \ 56 ] . فإنه يشير إلى أن في الجنة جنا يطمثون النساء كالإنس . والجواب عن هذا أن آية " الأحقاف " نص فيها على الغفران والإجارة من العذاب ، ولم يتعرض فيها لدخول الجنة بنفي ولا إثبات ، وآية " الرحمن " نص فيها على دخولهم الجنة ; لأنه - تعالى - قال فيها : ولمن خاف مقام ربه جنتان . وقد تقرر في الأصول أن الموصولات من صيغ العموم ، فقوله : ولمن خاف ، يعم كل خائف مقام ربه ، ثم صرح بشمول ذلك الجن والإنس معا بقوله : فبأي آلاء ربكما تكذبان . فبين أن الوعد بالجنتين لمن خاف مقام ربه من آلائه ، أي نعمه على الإنس والجن ، فلا تعارض بين الآيتين ; لأن إحداهما بينت ما لم تعرض له الأخرى . ولو سلمنا أن قوله : يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ، يفهم منه عدم دخولهم الجنة ، فإنه إنما يدل عليه بالمفهوم ، وقوله : ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان يدل على دخولهم الجنة بعموم المنطوق . والمنطوق مقدم على المفهوم كما تقرر في الأصول . ولا يخفى أنا إذا أردنا تحقيق هذا المفهوم المدعى وجدناه معدوما من أصله ; للإجماع على أن قسمة المفهوم ثنائية ، إما أن يكون مفهوم موافقة أو مخالفة ، ولا ثالث . ولا يدخل هذا المفهوم المدعى في شيء من أقسام المفهومين . أما عدم دخوله في مفهوم الموافقة بقسميه فواضح . وأما عدم دخوله في شيء من أنواع مفهوم المخالفة ، فلأن عدم دخوله في مفهوم الحصر أو الغاية أو العدد أو الصفة أو الظرف - واضح . فلم يبق من أنواع مفهوم المخالفة يتوهم دخوله فيه إلا مفهوم الشرط أو اللقب ، وليس داخلا في واحد منهما ، فظهر عدم دخوله فيه أصلا . أما وجه توهم دخوله في مفهوم الشرط ، فلأن قوله : يغفر لكم من ذنوبكم [ ص: 238 ] فعل مضارع مجزوم بكونه جزاء الطلب . وجمهور علماء العربية على أن الفعل إذا كان كذلك فهو مجزوم بشرط مقدر ، لا بالجملة قبله ، كما قيل به . وعلى الصحيح الذي هو مذهب الجمهور ، فتقرير المعنى : أجيبوا داعي الله وآمنوا به إن تفعلوا ذلك يغفر لكم ، فيتوهم في الآية مفهوم هذا الشرط المقدر . والجواب عن هذا : أن مفهوم الشرط عند القائل به ، إنما هو في فعل الشرط لا في جزائه ، وهو معتبر هنا في فعل الشرط على عادته ، فمفهوم أن تجيبوا داعي الله وتؤمنوا به يغفر لكم ، أنهم إن لم يجيبوا داعي الله ولم يؤمنوا به ; لم يغفر لهم ، وهو كذلك . أما جزاء الشرط فلا مفهوم له ; لاحتمال أن تترتب على الشرط الواحد مشروطات كثيرة ، فيذكر بعضها جزاء له ، فلا يدل على نفي غيره . كما لو قلت لشخص مثلا : إن تسرق يجب عليك غرم ما سرقت . فهذا الكلام حق ولا يدل على نفي غير الغرم كالقطع ; لأن قطع اليد مرتب أيضا على السرقة ، كالغرم . وكذلك الغفران والإجارة من العذاب ودخول الجنة - كلها مرتبة على إجابة داعي الله والإيمان به . فذكر في الآية بعضها وسكت فيها عن بعض ، ثم بين في موضع آخر ، وهذا لا إشكال فيه . وأما وجه توهم دخوله في مفهوم اللقب ، فلأن اللقب في اصطلاح الأصوليين هو ما لم يمكن انتظام الكلام العربي دونه ، أعني المسند إليه ، سواء كان لقبا أو كنية أو اسما أو اسم جنس أو غير ذلك . وقد أوضحنا اللقب غاية في " المائدة " . والجواب عن عدم دخوله في مفهوم اللقب ، أن الغفران والإجارة من العذاب المدعى بالفرض أنهما لقبان لجنس مصدريهما ، وأن تخصيصهما بالذكر يدل على نفي غيرهما في الآية سندان لا مسند إليهما ، بدليل أن المصدر فيهما كامن في الفعل ، ولا يستند إلى الفعل [ ص: 239 ] إجماعا ، ما لم يرد مجرد لفظه على سبيل الحكاية . ومفهوم اللقب عند القائل به إنما هو فيما إذا كان اللقب مسندا إليه ; لأن تخصيصه بالذكر عند القائل به يدل على اختصاص الحكم به دون غيره ، وإلا لما كان للتخصيص بالذكر فائدة ، كما عللوا به مفهوم الصفة . وأجيب من جهة الجمهور : بأن اللقب ذكر ليمكن الحكم ، لا لتخصيصه بالحكم; إذ لا يمكن الإسناد بدون مسند إليه . ومما يوضح ذلك أن مفهوم الصفة الذي حمل عليه اللقب عند القائل به - إنما هو في المسند إليه لا في المسند ; لأن المسند إليه هو الذي تراعى أفراده وصفاتها ، فيقصد بعضها بالذكر دون بعض فيختص الحكم بالمذكور . أما المسند فإنه لا يراعى فيه شيء من الأفراد والأوصاف أصلا ، وإنما يراعى فيه مجرد الماهية التي هي الحقيقة الذهنية . ولو حكمت مثلا على الإنسان بأنه حيوان - فإن المسند إليه الذي هو الإنسان في هذا المثال يقصد به جميع أفراده ; لأن كل فرد منها حيوان بخلاف المسند الذي هو الحيوان في هذا المثال ، فلا يقصد به إلا مطلق ماهيته وحقيقته الذهنية من غير مراعاة الأفراد; لأنه لو روعيت أفراده لاستلزم الحكم على الإنسان بأنه فرد آخر من أفراد الحيوان كالفرش مثلا . والحكم بالمباين على المباين باطل إذا كان إيجابيا باتفاق العقلاء . وعامة النظار على أن موضوع القضية إذا كانت غير طبيعية يراعى فيه ما يصدق عليه عنوانها من الأفراد باعتبار الوجود الخارجي إن كانت خارجية ، أو الذهني إن كانت حقيقية . أما المحمول من حيث هو فلا تراعى فيه الأفراد البتة . وإنما يراعى فيه مطلق الماهية ، ولو سلمنا تسليما جدليا أن مثل هذه الآية يدخل في مفهوم اللقب - فجماهير العلماء على أن مفهوم اللقب لا عبرة به ، وربما كان اعتباره كفرا ، كما لو اعتبر معتبر مفهوم اللقب في قوله تعالى : ( محمد رسول الله ) [ 48 \ 29 ] فقال : يفهم من مفهوم لقبه أن غير محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يكن رسول الله ، فهذا كفر بإجماع المسلمين . فالتحقيق أن اعتبار مفهوم اللقب لا دليل عليه شرعا ولا لغة ولا عقلا ، سواء كان [ ص: 240 ] اسم جنس ، أو اسم عين ، أو اسم جمع أو غير ذلك . فقولك : جاء زيد ، لا يفهم منه عدم مجيء عمرو . وقولك : رأيت أسدا ، لا يفهم منه عدم رؤيتك لغير الأسد . والقول بالفرق بين اسم الجنس فيعتبر ، واسم العين فلا يعتبر ، لا يظهر . فلا عبرة بقول الصيرفي وأبي بكر الدقاق وغيرهما من الشافعية . ولا بقول ابن خويز منداد وابن القصار من المالكية ، ولا بقول بعض الحنابلة باعتبار مفهوم اللقب ; لأنه لا دليل على اعتباره عند القائل به ، إلا أنه يقول : لو لم يكن اللقب مختصا بالحكم لما كان لتخصيصه بالذكر فائدة ، كما علل به مفهوم الصفة ; لأن الجمهور يقولون : ذكر اللقب ليسند إليه ، وهو واضح لا إشكال فيه . وأشار صاحب مراقي السعود إلى تعريف اللقب بالاصطلاح الأصولي ، وأنه أضعف المفاهيم - بقوله : أضعفها اللقب وهو ما أبي من دونه نظم الكلام العرب وحاصل فقه هذه المسألة أن الجن مكلفون على لسان نبينا - صلى الله عليه وسلم - بدلالة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين ، وأن كافرهم في النار بإجماع المسلمين ، وهو صريح قوله - تعالى - : لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 11 \ 119 ] . وقوله - تعالى - : فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون [ 26 \ 94 - 95 ] . وقوله - تعالى - : قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار [ 7 \ 38 ] . إلى غير ذلك من الآيات . وأن مؤمنيهم اختلف في دخولهم الجنة ، ومنشأ الخلاف الاختلاف في فهم الآيتين المذكورتين . والظاهر دخولهم الجنة كما بينا ، والعلم عند الله - تعالى - . ا هـ . منه بلفظه . قوله - تعالى - : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير . قد قدمنا الآيات الموضحة لهذه الآية ، وأنها من الآيات الدالة على البعث في [ ص: 241 ] " البقرة " و " النحل " و " الجاثية " ، وغير ذلك من المواضع ، وأحلنا على ذلك مرارا ، والباء في قوله : بقادر يسوغه أن النفي متناول ل ( أن ) فما بعدها ، فهو في معنى أليس الله بقادر ؟ ويوضح ذلك قوله بعد : بلى . مقررا لقدرته على البعث وغيره . قوله - تعالى - : فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل . اختلف العلماء في المراد بأولي العزم من الرسل في هذه الآية الكريمة اختلافا كثيرا . وأشهر الأقوال في ذلك أنهم خمسة ، وهم الذين قدمنا ذكرهم في " الأحزاب " و " الشورى " ، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد - عليهم الصلاة والسلام - . وعلى هذا القول فالرسل الذين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصبر كما صبروا - أربعة ، فصار هو - صلى الله عليه وسلم - خامسهم . واعلم أن القول بأن المراد بأولي العزم جميع الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وأن لفظة من في قوله : من الرسل بيانية يظهر أنه خلاف التحقيق ، كما دل على ذلك بعض الآيات القرآنية ، كقوله - تعالى - : فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت الآية [ 68 \ 48 ] ، فأمر الله - جل وعلا - نبيه في آية " القلم " هذه بالصبر ، ونهاه عن أن يكون مثل يونس ; لأنه هو صاحب الحوت ، وكقوله : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما [ 20 \ 115 ] . فآية " القلم " ، وآية " طه " المذكورتان كلتاهما تدل على أن أولي العزم من الرسل الذين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يصبر كصبرهم ليسوا جميع الرسل . والعلم عند الله - تعالى - . قوله - تعالى - : ولا تستعجل لهم . نهى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة ، أن يستعجل العذاب لقومه ، أي يدعو الله عليهم بتعجيله لهم ، فمفعول ( تستعجل ) محذوف ، تقديره العذاب ، كما قاله القرطبي ، وهو الظاهر . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن طلب تعجيل العذاب لهم - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا [ 73 \ 11 ] . وقوله - تعالى - : فمهل الكافرين أمهلهم رويدا [ 86 \ 17 ] . [ ص: 242 ] فإن قوله : ومهلهم قليلا ، وقوله : فمهل الكافرين أمهلهم رويدا موضح لمعنى قوله : ولا تستعجل لهم . والمراد بالآيات ، نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن طلب تعجيل العذاب لهم ; لأنهم معذبون لا محالة ، عند انتهاء المدة المحددة للإمهال ، كما يوضحه قوله - تعالى - : فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا [ 19 \ 84 ] . وقوله - تعالى - : نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ [ 31 \ 24 ] . وقوله - تعالى - : قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار الآية [ 2 \ 126 ] . وقوله - تعالى - : لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد [ 3 \ 196 - 197 ] . وقوله - تعالى - : قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون [ 10 \ 69 - 70 ] . إلى غير ذلك من الآيات . قوله - تعالى - : كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يونس " في الكلام على قوله - تعالى - : ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم [ 10 \ 45 ] . وفي سورة " قد أفلح المؤمنون " في الكلام على قوله - تعالى - : قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين [ 23 \ 113 ] . وبينا في الكلام على آية " قد أفلح المؤمنون " وجه إزالة إشكال معروف في الآيات المذكورة . قوله - تعالى - : بلاغ . التحقيق - إن شاء الله - أن أصوب القولين في قوله : بلاغ أنه خبر مبتدإ محذوف تقديره : هذا بلاغ ، أي هذا القرآن بلاغ من الله إلى خلقه . ويدل لهذا قوله - تعالى - في سورة " إبراهيم " : هذا بلاغ للناس ولينذروا به [ 14 \ 52 ] . وقوله في " الأنبياء " : إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين [ 21 \ 106 ] . وخير ما يفسر به القرآن القرآن . ![]()
__________________
|
#494
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السابع الحلقة (492) سُورَةُ مُحَمَّدٍ صـ 243 إلى صـ 250 والبلاغ اسم مصدر بمعنى التبليغ ، وقد علم باستقراء اللغة العربية أن الفعال يأتي [ ص: 243 ] كثيرا بمعنى التفعيل ، كبلغه بلاغا ، أي تبليغا ، وكلمه كلاما ، أي تكليما ، وطلقها طلاقا ، وسرحها سراحا ، وبينه بيانا . كل ذلك بمعنى التفعيل ; لأن فعل - مضعفة العين ، غير معتلة اللام ولا مهموزته - قياس مصدرها التفعيل . وما جاء منه على خلاف ذلك - يحفظ ولا يقاس عليه ، كما هو معلوم في محله . أما القول بأن المعنى : وذلك اللبث بلاغ ، فهو خلاف الظاهر كما ترى ، والعلم عند الله - تعالى - . [ ص: 244 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ مُحَمَّدٍ سُورَةُ الْقِتَالِ وَهِيَ سُورَةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . قَوْلُهُ - تَعَالَى - : الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ . قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مِنَ الصُّدُودِ ; لِأَنَّ صَدَّ فِي الْآيَةِ لَازِمَةٌ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مِنَ الصَّدِّ ; لِأَنَّ صَدَّ فِي الْآيَةِ مُتَعَدِّيَةٌ . وَعَلَيْهِ فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ ، أَيْ صَدُّوا غَيْرَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، أَيْ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ . وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ هُوَ الصَّوَابُ ; لِأَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ صَدَّ لَازِمَةٌ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ تَكْرَارًا مَعَ قَوْلِهِ : كَفَرُوا ; لِأَنَّ الْكُفْرَ هُوَ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الصُّدُودِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ . وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ صَدَّ مُتَعَدِّيَةٌ فَلَا تَكْرَارَ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ ضَالُّونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ، مُضِلُّونَ لِغَيْرِهِمْ بِصَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ " النَّحْلِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ الْآيَةَ [ 16 \ 97 ] ، أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا دَارَ بَيْنَ التَّأْكِيدِ وَالتَّأْسِيسِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى التَّأْسِيسِ ، إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ أَيْ أَبْطَلَ ثَوَابَهَا ، فَمَا عَمِلَهُ الْكَافِرُ مِنْ حَسَنٍ فِي الدُّنْيَا ، كَقَرْيِ الضَّيْفِ ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ ، وَحَمْيِ الْجَارِ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَالتَّنْفِيسِ عَنِ الْمَكْرُوبِ ، يَبْطُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَيَضْمَحِلُّ وَيَكُونُ لَا أَثَرَ لَهُ ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - : [ ص: 245 ] وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [ 25 \ 23 ] . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ . وَقِيلَ : أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ، أَيْ أَبْطَلَ كَيْدَهُمُ الَّذِي أَرَادُوا أَنْ يَكِيدُوا بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ أَيْ غَفَرَ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ وَتَجَاوَزَ لَهُمْ عَنْ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ أَيْ أَصْلَحَ لَهُمْ شَأْنَهُمْ وَحَالَهُمْ إِصْلَاحًا لَا فَسَادَ مَعَهُ ، وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - هُنَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنْ يُبْطِلَ أَعْمَالَ الْكَافِرِينَ ، وَيُبْقِيَ أَعْمَالَ الْمُؤْمِنِينَ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ 1 \ 15 - 16 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [ 42 \ 20 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [ 25 \ 23 - 24 ] . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا مَعَ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ ، مَعَ زِيَادَةِ إِيضَاحٍ مُهِمَّةٍ فِي سُورَةِ " بَنِي إِسْرَائِيلَ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [ 17 \ 19 ] . وَفِي سُورَةِ " النَّحْلِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ [ 16 \ 97 ] . وَذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْهُ فِي سُورَةِ " الْأَحْقَافِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا الْآيَةَ [ 46 \ 20 ] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ أَصْلُهُ مِنَ الضَّلَالِ بِمَعْنَى الْغَيْبَةِ وَالِاضْمِحْلَالِ ، لَا مِنَ الضَّالَّةِ كَمَا زَعَمَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ : وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [ 6 \ 24 ] . وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعَانِيَ الضَّلَالِ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ فِي سُورَةِ " الشُّعَرَاءِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ : قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [ 26 \ 20 ] . وَفِي آخِرِ " الْكَهْفِ " فِي الْكَلَامِ [ ص: 246 ] عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْآيَةَ [ 18 \ 104 ] . وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْكَهْفِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ الْآيَةَ [ 18 \ 2 ] . وَفِي سُورَةِ " النَّحْلِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ [ 16 \ 97 ] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ [ 47 \ 2 ] . قَالَ فِيهِ ابْنُ كَثِيرٍ : هُوَ عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ بَعْدَ بِعْثَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . ا هـ مِنْهُ . وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [ 11 \ 17 ] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَهُوَ الْحَقُّ جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ تَتَضَمَّنُ شَهَادَةَ اللَّهِ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ عَلَى هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْحَقُّ مِنَ اللَّهِ ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - : وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [ 6 \ 66 ] . قَالَ - تَعَالَى - : وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ [ 69 - 51 ] . وَقَالَ - تَعَالَى - : قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ الْآيَةَ [ 10 \ 108 ] . وَقَالَ - تَعَالَى - : يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ الْآيَةَ [ 4 \ 170 ] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - : ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ [ 47 \ 3 ] أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مِنْ إِضْلَالِ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ ، أَيْ إِبْطَالِهَا وَاضْمِحْلَالِهَا وَبَقَاءِ ثَوَابِ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَتَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِمْ وَإِصْلَاحِ حَالِهِمْ ، كُلُّهُ وَاقِعٌ بِسَبَبِ أَنَّ الْكُفَّارَ اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ ، وَمَنِ اتَّبَعَ الْبَاطِلَ فَعَمَلُهُ بَاطِلٌ . وَالزَّائِلُ الْمُضْمَحِلُّ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ بَاطِلًا ، وَضِدُّهُ الْحَقُّ . وَبِسَبَبِ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ ، وَمُتَّبِعُ الْحَقِّ أَعْمَالُهُ حَقٌّ ، فَهِيَ ثَابِتَةٌ بَاقِيَةٌ ، لَا زَائِلَةٌ مُضْمَحِلَّةٌ . [ ص: 247 ] وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَعْمَالِ يَسْتَلْزِمُ اخْتِلَافَ الثَّوَابِ ، لَا يَتَوَهَّمُ اسْتِوَاءَهُمَا إِلَّا الْكَافِرُ الْجَاهِلُ الَّذِي يَسْتَوْجِبُ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [ 68 \ 35 - 36 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ 38 \ 28 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [ 45 \ 21 ] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ . قَالَ فِيهِ الزَّمَخْشَرِيُّ : فَإِنْ قُلْتَ : أَيْنَ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ ؟ قُلْتُ : فِي جَعْلِ اتِّبَاعِ الْبَاطِلِ مَثَلًا لِعَمَلِ الْكُفَّارِ ، وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ مَثَلًا لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِينَ . أَوْ فِي أَنَّ جَعَلَ الْإِضْلَالَ مَثَلًا لِخَيْبَةِ الْكُفَّارِ ، وَتَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ مَثَلًا لِفَوْزِ الْمُؤْمِنِينَ . ا هـ مِنْهُ . وَأَصْلُ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ يُرَادُ مِنْهُ بَيَانُ الشَّيْءِ بِذِكْرِ نَظِيرِهِ الَّذِي هُوَ مَثَلٌ لَهُ . قوله - تعالى - : فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها . قوله - تعالى - : فضرب الرقاب مصدر نائب عن فعله ، وهو بمعنى فعل الأمر ، ومعلوم أن صيغ الأمر في اللغة العربية أربع : وهي فعل الأمر ، كقوله - تعالى - : أقم الصلاة لدلوك الشمس الآية [ 17 \ 78 ] . واسم فعل الأمر ، كقوله - تعالى - : عليكم أنفسكم الآية [ 5 \ 105 ] . والفعل المضارع المجزوم بلام الأمر كقوله - تعالى - : ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم الآية [ 22 \ 29 ] . والمصدر النائب عن فعله ، كقوله - تعالى - : فضرب الرقاب ، أي فاضربوا رقابهم ، وقوله - تعالى - : حتى إذا أثخنتموهم ، أي أوجعتم فيهم قتلا . [ ص: 248 ] فالإثخان هو الإكثار من قتل العدو حتى يضعف ويثقل عن النهوض . وقوله : فشدوا الوثاق ، أي فأسروهم ، والوثاق - بالفتح والكسر - اسم لما يؤسر به الأسير من قيد ونحوه . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من الأمر بقتل الكفار حتى يثخنهم المسلمون ، ثم بعد ذلك يأسرونهم - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض الآية [ 8 \ 68 ] . وقد أمر بقتلهم في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية [ 9 \ 5 ] . وقوله : فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان [ 8 \ 12 ] . وقوله - تعالى - : وقاتلوا المشركين كافة الآية [ 9 \ 36 ] . وقوله : فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم الآية [ 8 \ 57 ] . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فإما منا بعد وإما فداء أي فإما تمنون عليهم منا ، أو تفادونهم فداء . ومعلوم أن المصدر إذا سيق لتفصيل وجب حذف عامله ، كما قال في الخلاصة : وما لتفصيل كإما منا عامله يحذف حيث عنا ومنه قول الشاعر : لأجهدن فإما درء واقعة تخشى وإما بلوغ السؤل والأمل وقال بعض العلماء : هذه الآية منسوخة بالآيات التي ذكرنا قبلها ، وممن يروى عنه هذا القول ابن عباس والسدي وقتادة والضحاك وابن جريج . وذكر ابن جرير عن أبي بكر - رضي الله عنه - ما يؤيده . ونسخ هذه الآية هو مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - فإنه لا يجوز عنده المن ولا الفداء ; لأن الآية منسوخة عنده ، بل يخير عنده الإمام بين القتل والاسترقاق . ومعلوم أن آيات السيف النازلة في براءة نزلت بعد سورة القتال هذه . وأكثر أهل العلم يقولون : إن الآية ليست منسوخة ، وإن جميع الآيات المذكورة [ ص: 249 ] محكمة ، فالإمام مخير ، وله أن يفعل ما رآه مصلحة للمسلمين من من وفداء وقتل واسترقاق . قالوا : قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث أسيرين يوم بدر ، وأخذ فداء غيرهما من الأسارى . ومن على ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة ، وكان يسترق السبي من العرب وغيرهم . وقال الشوكاني في نيل الأوطار : والحاصل أنه قد ثبت في جنس أسارى الكفار جواز القتل والمن والفداء والاسترقاق ، فمن ادعى أن بعض هذه الأمور تختص ببعض الكفار دون بعض لم يقبل منه ذلك إلا بدليل ناهض يخصص العمومات ، والمجوز قائم في مقام المنع ، وقول علي وفعله عند بعض المانعين من استرقاق ذكور العرب حجة ، وقد استرق بني ناجية ذكورهم وإناثهم وباعهم ، كما هو مشهور في كتب السير والتواريخ اهـ محل الغرض منه . ومعلوم أن بني ناجية من العرب . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لم يختلف المسلمون في جواز الملك بالرق . ومعلوم أن سببه أسر المسلمين الكفار في الجهاد ، والله - تبارك وتعالى - في كتابه يعبر عن الملك بالرق بعبارة هي أبلغ العبارات ، في توكيد ثبوت ملك الرقيق ، وهي ملك اليمين ; لأن ما ملكته يمين الإنسان فهو مملوك له تماما ، وتحت تصرفه تماما ، كقوله - تعالى - : فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم [ 4 \ 3 ] . وقوله : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين في سورة " قد أفلح المؤمنون " [ 23 \ 5 - 6 ] . و " سأل سائل " [ 70 \ 29 - 30 ] . وقوله : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم الآية [ 4 \ 24 ] . وقوله : والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم الآية [ 24 \ 33 ] . وقوله : والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم [ 4 \ 36 ] . وقوله : لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك الآية [ 33 \ 52 ] . وقوله : ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك الآية [ 33 \ 50 ] . وقوله : [ ص: 250 ] أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن [ 24 \ 31 ] . وقوله : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات [ 16 \ 71 ] . وقوله : فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم [ 16 \ 71 ] . وقوله : هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء الآية [ 30 \ 28 ] . فالمراد بملك اليمين في جميع هذه الآيات كلها الملك بالرق ، والأحاديث والآيات بمثل ذلك يتعذر حصرها ، وهي معلومة ، فلا ينكر الرق في الإسلام إلا مكابر أو ملحد أو من لا يؤمن بكتاب الله ولا بسنة رسوله . وقد قدمنا حكمة الملك بالرق وإزالة الإشكال في ملك الرقيق المسلم في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] . ومن المعلوم أن كثيرا من أجلاء علماء المسلمين ومحدثيهم الكبار كانوا أرقاء مملوكين ، أو أبناء أرقاء مملوكين . فهذا محمد بن سيرين كان أبوه سيرين عبدا لأنس بن مالك . وهذا مكحول كان عبدا لامرأة من هذيل ، فأعتقته . ومثل هذا أكثر من أن يحصى ، كما هو معلوم . واعلم أن ما يدعيه بعض من المتعصبين لنفي الرق في الإسلام من أن آية " القتال " هذه دلت على نفي الرق من أصله ; لأنها أوجبت واحدا من أمرين لا ثالث لهما ، وهما المن والفداء فقط - فهو استدلال ساقط من وجهين : أحدهما : أن فيه استدلالا بالآية ، على شيء لم يدخل فيها ، ولم تتناوله أصلا ، والاستدلال إن كان كذلك فسقوطه كما ترى . وإيضاح ذلك أن هذه الآية التي فيها تقسيم حكم الأسارى إلى من وفداء ، لم تتناول قطعا إلا الرجال المقاتلين من الكفار ; لأن قوله : فضرب الرقاب ، وقوله : حتى إذا أثخنتموهم - صريح في ذلك كما ترى . وعلى إثخان هؤلاء المقاتلين رتب بالفاء قوله : فشدوا الوثاق . فظهر أن الآية لم تتناول أنثى ولا صغيرا البتة . ![]()
__________________
|
#495
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السابع الحلقة (493) سُورَةُ مُحَمَّدٍ صـ 251 إلى صـ 258 ويزيد ذلك إيضاحا أن النهي عن قتل نساء الكفار وصبيانهم ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 251 ] وأكثر أهل الرق في أقطار الدنيا إنما هو من النساء والصبيان . ولو كان الذي يدعي نفي الرق من أصله يعترف بأن الآية ، لا يمكن أن يستدل بها على شيء غير الرجال المقاتلين ، لقصر نفي الرق الذي زعمه على الرجال الذين أسروا في حال كونهم مقاتلين ، ولو قصره على هؤلاء ، لم يمكنه أن يقول بنفي الرق من أصله كما ترى . الوجه الثاني : هو ما قدمنا من الأدلة على ثبوت الرق في الإسلام . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : حتى تضع الحرب أوزارها أي : إذا لقيتم الكفار فاضربوا أعناقهم حتى إذا أثخنتموهم قتلا فأسروهم حتى تضع الحرب أوزارها أي حتى تنتهي الحرب . وأظهر الأقوال في معنى وضع الحرب أوزارها أنه وضع السلاح ، والعرب تسمي السلاح وزرا ، وتطلق العرب الأوزار على آلات الحرب وما يساعد فيها كالخيل ، ومنه قول الأعشى : وأعددت للحرب أوزارها رماحا طوالا وخيلا ذكورا وفي معنى أوزار الحرب أقوال أخر معروفة تركناها ، لأن هذا أظهرها عندنا . والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم . ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين ، إن نصروا ربهم ، نصرهم على أعدائهم ، وثبت أقدامهم ، أي عصمهم من الفرار والهزيمة . وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة ، وبين في بعضها صفات الذين وعدهم بهذا النصر كقوله تعالى : ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز [ 22 \ 40 ] ، ثم بين صفات الموعودين بهذا النصر في قوله تعالى بعده : الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [ 22 \ 41 ] ، وكقوله تعالى : وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 \ 47 ] ، وقوله تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا [ 40 \ 51 ] ، وقوله تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 171 - 173 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . [ ص: 252 ] وقوله تعالى في بيان صفات من وعدهم بالنصر في الآيات المذكورة : الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف [ 22 \ 41 ] . يدل على أن الذين لا يقيمون الصلاة ، ولا يؤتون الزكاة ، ولا يأمرون بالمعروف ، ولا ينهون عن المنكر ، ليس لهم وعد من الله بالنصر البتة . فمثلهم كمثل الأجير الذي لم يعمل لمستأجره شيئا ، ثم جاءه يطلب منه الأجرة . فالذين يرتكبون جميع المعاصي ممن يتسمون باسم المسلمين ، ثم يقولون : إن الله سينصرنا - مغررون ; لأنهم ليسوا من حزب الله الموعودين بنصره كما لا يخفى . ومعنى نصر المؤمنين لله - نصرهم لدينه ولكتابه ، وسعيهم وجهادهم في أن تكون كلمته هي العليا ، وأن تقام حدوده في أرضه ، وتمتثل أوامره وتجتنب نواهيه ، ويحكم في عباده بما أنزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم . قوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها . قد قدمنا إيضاحه في سورة هود في الكلام على قوله تعالى : وما هي من الظالمين ببعيد [ 11 \ 83 ] ، وأحلنا على الآيات الموضحة لذلك في سورة الروم في الكلام على قوله تعالى : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض [ 30 \ 9 ] ، وأوضحناها في الزخرف في الكلام على قوله : فأهلكنا أشد منهم بطشا [ 43 \ 8 ] ، وفي الأحقاف في الكلام على قوله تعالى : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه [ 46 \ 26 ] ، وفي غير ذلك من المواضع . قوله تعالى : وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم . الآيات التي توضح معنى هذه الآية ، هي المشار إليها في نفس الآية ، التي ذكرنا قبلها . وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من إخراج كفار مكة للنبي - صلى الله عليه وسلم - منها بينه في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم [ 60 \ ] ، [ ص: 253 ] وقوله تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك [ 8 - 30 ] . وقد أخرجوه فعلا بمكرهم المذكور ، وبين - جل وعلا - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذين أخرجوا من ديارهم لا ذنب لهم يستوجبون به الإخراج إلا الإيمان بالله ، كما قال تعالى : الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله [ 22 \ 40 ] ، وقال تعالى : يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم [ 60 \ 1 ] ، أي يخرجون الرسول وإياكم لأجل إيمانكم بربكم . وقال تعالى في إخراجهم له : ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول [ 9 \ 13 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وقرأ هذا الحرف عامة السبعة ، غير ابن كثير بهمزة مفتوحة بعد الكاف وياء مشددة مكسورة ونون ساكنة . وقرأه ابن كثير : " وكائن " بألف بعد الكاف ، وهمزة مكسورة . وكلهم عند الوقف يقفون على النون الساكنة ، كحال الصلة ، إلا أبا عمرو فإنه يقف على الياء . وقد قدمنا أوجه القراءة في " كأين " ومعناها ، وما فيها من اللغات ، مع بعض الشواهد العربية في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة [ 22 \ 45 ] . قوله تعالى : مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين أنهار الماء وأنهار الخمر التي ذكرها الله في هذه الآية بين بعض صفاتها في آيات أخرى ، كقوله تعالى : تجري من تحتها الأنهار [ 47 \ 12 ] في آيات كثيرة ، وقوله : وماء مسكوب [ 56 \ 31 ] ، وقوله : إن المتقين في ظلال وعيون [ 77 \ 41 ] ، وقوله : [ ص: 254 ] فيها عين جارية [ 88 \ 12 ] ، وقد بين تعالى من صفات خمر الجنة أنها لا تسكر شاربها ، ولا تسبب له الصداع الذي هو وجع الرأس في آيات من كتابه ، كقوله تعالى : لا يصدعون عنها ولا ينزفون [ 56 \ 19 ] ، وقوله : لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون [ 37 \ 47 ] . وقد قدمنا معنى هذه الآيات بإيضاح في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه [ 5 \ 90 ] . الآية وقوله تعالى في الآية الكريمة : غير آسن أي غير متغير اللون ولا الطعم . والآسن والآجن معناهما واحد ، ومنه قول ذي الرمة : ومنهل آجن قفر محاضره تذرو الرياح على جماته البعرا وقول الراجز : ومنهل فيه الغراب ميت كأنه من الأجون زيت سقيت منها القوم واستقيت وبما ذكرنا تعلم أن قوله : غير آسن كقوله : من لبن لم يتغير طعمه . قوله تعالى : ولهم فيها من كل الثمرات . قد بين تعالى في سورة البقرة أن الثمار التي يرزقها أهل الجنة يشبه بعضها بعضا في الجودة والحسن والكمال ، ليس فيها شيء رديء ، وذلك في قوله تعالى : كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها [ 2 \ 25 ] . قوله تعالى : وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم [ 22 \ 19 ] . قوله تعالى : فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة [ 47 \ 18 ] . [ ص: 255 ] قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى : هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون [ 43 \ 66 ] . قوله تعالى : فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم . التحقيق إن شاء الله تعالى في معنى هذه الآية الكريمة ، أن الكفار يوم القيامة ، إذا جاءتهم الساعة ، يتذكرون ويؤمنون بالله ورسله ، وأن الإيمان في ذلك الوقت لا ينفعهم لفوات وقته ، فقوله : ذكراهم مبتدأ خبره فأنى لهم أي كيف تنفعهم ذكراهم وإيمانهم بالله ، وقد فات الوقت الذي يقبل فيه الإيمان . والضمير المرفوع في جاءتهم عائد إلى الساعة التي هي القيامة . وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، من أن الكفار يوم القيامة يؤمنون ، ولا ينفعهم إيمانهم - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد [ 34 \ 52 ] ، وقوله تعالى : وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى [ 86 \ 23 ] . وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : هل ينظرون إلا تأويله إلى قوله : أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل [ 7 \ 53 ] . فظهر أن قوله : فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم على حذف مضاف ، أي أنى لهم نفع ذكراهم . والذكرى اسم مصدر بمعنى الاتعاظ الحامل على الإيمان . قوله تعالى : فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت . ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه إذا أنزل سورة محكمة ، أي متقنة الألفاظ والمعاني ، واضحة الدلالة ، لا نسخ فيها وذكر فيها وجوب قتال الكفار ، تسبب عن ذلك ، كون الذين في قلوبهم مرض أي شك ونفاق ، ينظرون كنظر الإنسان الذي يغشى عليه ; لأنه في سياق الموت ، لأن نظر من كان كذلك تدور فيه عينه ويزيغ بصره . [ ص: 256 ] وهذا إنما وقع لهم من شدة الخوف من بأس الكفار المأمور بقتالهم . وقد صرح - جل وعلا - بأن ذلك من الخوف المذكور في قوله : فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت [ 33 \ 19 ] . وقد بين تعالى أن الأغنياء من هؤلاء المنافقين ، إذا أنزل الله سورة فيها الأمر بالجهاد ، استأذنوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في التخلف عن الجهاد ، وذمهم الله على ذلك ، وذلك في قوله تعالى : وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون [ 9 \ 86 ] . قوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها . الهمزة في قوله : أفلا يتدبرون للإنكار ، والفاء عاطفة على جملة محذوفة ، على أصح القولين ، والتقدير : أيعرضون عن كتاب الله فلا يتدبرون القرآن ; كما أشار له في الخلاصة بقوله : وحذف متبوع بدا هنا استبح وقوله تعالى : أم على قلوب أقفالها " أم " فيه منقطعة بمعنى بل ، فقد أنكر تعالى عليهم إعراضهم عن تدبر القرآن ، بأداة الإنكار التي هي الهمزة ، وبين أن قلوبهم عليها أقفال لا تنفتح لخير ، ولا لفهم قرآن . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من التوبيخ والإنكار على من أعرض عن تدبر كتاب الله ، جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ 4 \ 82 ] ، وقوله تعالى : أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين [ 23 \ 68 ] ، وقوله تعالى : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] . وقد ذم - جل وعلا - المعرض عن هذا القرآن العظيم في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها [ 18 \ 57 ] ، وقوله تعالى : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها [ 32 \ 22 ] . [ ص: 257 ] ومعلوم أن كل من لم يشتغل بتدبر آيات هذا القرآن العظيم أي تصفحها وتفهمها ، وإدراك معانيها والعمل بها ، فإنه معرض عنها ، غير متدبر لها فيستحق الإنكار والتوبيخ المذكور في الآيات إن كان الله أعطاه فهما يقدر به على التدبر ، وقد شكا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه من هجر قومه هذا القرآن ، كما قال تعالى : وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا [ 25 - 30 ] . وهذه الآيات المذكورة تدل على أن تدبر القرآن وتفهمه وتعلمه والعمل به ، أمر لا بد منه للمسلمين . وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المشتغلين بذلك هم خير الناس . كما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " وقال تعالى : ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون [ 3 \ 79 ] . فإعراض كثير من الأقطار عن النظر في كتاب الله وتفهمه والعمل به وبالسنة الثابتة المبينة له ، من أعظم المناكر وأشنعها ، وإن ظن فاعلوه أنهم على هدى . ولا يخفى على عاقل أن القول بمنع العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - اكتفاء عنهما بالمذاهب المدونة ، وانتفاء الحاجة إلى تعلمهما ; لوجود ما يكفي عنهما من مذاهب الأئمة - من أعظم الباطل . وهو مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة ومخالف لأقوال الأئمة الأربعة . [ ص: 258 ] فمرتكبه مخالف لله ولرسوله ولأصحاب رسوله جميعا وللأئمة رحمهم الله ، كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى . مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة المسألة الأولى : اعلم أن قول بعض متأخري الأصوليين : إن تدبر هذا القرآن العظيم ، وتفهمه والعمل به لا يجوز إلا للمجتهدين خاصة ، وإن كل من لم يبلغ درجة الاجتهاد المطلق بشروطه المقررة عندهم التي لم يستند اشتراط كثير منها إلى دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس جلي ، ولا أثر عن الصحابة - قول لا مستند له من دليل شرعي أصلا . بل الحق الذي لا شك فيه ، أن كل من له قدرة من المسلمين ، على التعلم والتفهم ، وإدراك معاني الكتاب والسنة ، يجب عليه تعلمهما ، والعمل بما علم منهما . أما العمل بهما مع الجهل بما يعمل به منهما فممنوع إجماعا . وأما ما علمه منهما علما صحيحا ناشئا عن تعلم صحيح . فله أن يعمل به . ولو آية واحدة أو حديثا واحدا . ومعلوم أن هذا الذم والإنكار على من يتدبر كتاب الله - عام لجميع الناس . ومما يوضح ذلك أن المخاطبين الأولين به الذين نزل فيهم هم المنافقون والكفار ، ليس أحد منهم مستكملا لشروط الاجتهاد المقررة عند أهل الأصول ، بل ليس عندهم شيء منها أصلا . فلو كان القرآن لا يجوز أن ينتفع بالعمل به والاهتداء بهديه إلا المجتهدون بالإصلاح الأصولي لما وبخ الله الكفار وأنكر عليهم عدم الاهتداء بهداه ، ولما أقام عليهم الحجة به حتى يحصلوا شروط الاجتهاد المقررة عند متأخري الأصوليين ، كما ترى . ومعلوم أن من المقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول ، وإذا فدخول الكفار والمنافقين في الآيات المذكورة قطعي ، ولو كان لا يصح الانتفاع بهدي القرآن إلا لخصوص المجتهدين لما أنكر الله على الكفار عدم تدبرهم كتاب الله ، وعدم عملهم به . ![]()
__________________
|
#496
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السابع الحلقة (494) سُورَةُ مُحَمَّدٍ صـ 259 إلى صـ 266 وقد علمت أن الواقع خلاف ذلك قطعا ، ولا يخفى أن شروط الاجتهاد لا تشترط إلا [ ص: 259 ] فيما فيه مجال للاجتهاد . والأمور المنصوصة في نصوص صحيحة من الكتاب والسنة ، لا يجوز الاجتهاد فيها لأحد ، حتى تشترط فيها شروط الاجتهاد ، بل ليس فيها إلا الاتباع ، وبذلك تعلم أن ما ذكره صاحب مراقي السعود تبعا للقرافي من قوله : من لم يكن مجتهدا فالعمل منه بمعنى النص مما يحظل لا يصح على إطلاقه بحال لمعارضته لآيات وأحاديث كثيرة من غير استناد إلى دليل . ومن المعلوم أنه لا يصح تخصيص عمومات الكتاب والسنة ، إلا بدليل يجب الرجوع إليه . ومن المعلوم أيضا أن عمومات الآيات والأحاديث الدالة على حث جميع الناس على العمل بكتاب الله ، وسنة رسوله - أكثر من أن تحصى ، كقوله - صلى الله عليه وسلم : " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي " وقوله - صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي " الحديث ، ونحو ذلك مما لا يحصى . فتخصيص جميع تلك النصوص بخصوص المجتهدين ، وتحريم الانتفاع بهدي الكتاب والسنة على غيرهم تحريما باتا يحتاج إلى دليل من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح تخصيص تلك النصوص بآراء جماعات من المتأخرين المقرين على أنفسهم بأنهم من المقلدين . ومعلوم أن المقلد الصرف ، لا يجوز عده من العلماء ولا من ورثة الأنبياء ، كما سترى إيضاحه إن شاء الله . وقال صاحب مراقي السعود في نشر البنود في شرحه لبيته المذكور [ ص: 260 ] آنفا ما نصه : يعني أن غير المجتهد يحظل له ، أي يمنع أن يعمل بمعنى نص من كتاب أو سنة وإن صح سندها لاحتمال عوارضه من نسخ وتقييد ، وتخصيص وغير ذلك من العوارض التي لا يضبطها إلا المجتهد ، فلا يخلصه من الله إلا تقليد مجتهد ، قاله القرافي . انتهى محل الغرض منه بلفظه . وبه تعلم أنه لا مستند له ، ولا للقرافي الذي تبعه في منع جميع المسلمين غير المجتهدين من العمل بكتاب الله ، وسنة رسوله ، إلا مطلق احتمال العوارض ، التي تعرض لنصوص الكتاب والسنة ، من نسخ أو تخصيص أو تقييد ونحو ذلك ، وهو مردود من وجهين : الأول : أن الأصل السلامة من النسخ حتى يثبت ورود الناسخ ، والعام ظاهر في العموم حتى يثبت ورود المخصص ، والمطلق ظاهر في الإطلاق حتى يثبت ورود المقيد ، والنص يجب العمل به حتى يثبت النسخ بدليل شرعي ، والظاهر يجب العمل به عموما كان أو إطلاقا أو غيرهما حتى يرد دليل صارف عنه إلى المحتمل المرجوح ، كما هو معروف في محله . وأول من زعم أنه لا يجوز العمل بالعام حتى يبحث عن المخصص فلا يوجد ، ونحو ذلك - أبو العباس بن سريج ، وتبعه جماعات من المتأخرين ، حتى حكموا على ذلك الإجماع حكاية لا أساس لها . وقد أوضح ابن القاسم العبادي في الآيات البينات غلطهم في ذلك ، في كلامه على شرح المحل لقول ابن السبكي في جمع الجوامع ، ويتمسك بالعام في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البحث عن المخصص ، وكذا بعد الوفاة ، خلافا لابن سريج ا هـ . وعلى كل حال فظواهر النصوص من عموم وإطلاق ونحو ذلك ، لا يجوز تركها إلا لدليل يجب الرجوع إليه ، من مخصص أو مقيد ، لا لمجرد مطلق الاحتمال ، كما هو معلوم في محله . [ ص: 261 ] فادعاء كثير من المتأخرين ، أنه يجب ترك العمل به حتى يبحث عن المخصص والمقيد مثلا - خلاف التحقيق . الوجه الثاني : أن غير المجتهد إذا تعلم آيات القرآن ، أو بعض أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعمل بها ، تعلم ذلك النص العام أو المطلق ، وتعلم معه مخصصه ومقيده إن كان مخصصا أو مقيدا ، وتعلم ناسخه إن كان منسوخا ، وتعلم ذلك سهل جدا ، بسؤال العلماء العارفين به ، ومراجعة كتب التفسير والحديث المعتد بها في ذلك ، والصحابة كانوا في العصر الأول يتعلم أحدهم آية فيعمل بها ، وحديثا فيعمل به ، ولا يمتنع من العمل بذلك حتى يحصل رتبة الاجتهاد المطلق ، وربما عمل الإنسان بما علم فعلمه ما لم يكن يعلم ، كما يشير له قوله تعالى : واتقوا الله ويعلمكم الله [ 2 \ 282 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا [ 8 \ 29 ] ، على القول بأن الفرقان هو العلم النافع الذي يفرق به بين الحق والباطل . وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به الآية [ 57 \ 28 ] . وهذه التقوى التي دلت الآيات على أن الله يعلم صاحبها بسببها ما لم يكن يعلم ، لا تزيد على عمله بما علم ، من أمر الله وعليه فهي عمل ببعض ما علم زاده الله به علم ما لم يكن يعلم . فالقول بمنع العمل بما علم من الكتاب والسنة ، حتى يحصل رتبة الاجتهاد المطلق ، هو عين السعي في حرمان جميع المسلمين من الانتفاع بنور القرآن ، حتى يحصلوا شرطا مفقودا في اعتقاد القائلين بذلك . وادعاء مثل هذا على الله وعلى كتابه وعلى سنة رسوله - هو كما ترى . [ ص: 262 ] تنبيه مهم : يجب على كل مسلم يخاف العرض على ربه يوم القيامة ، أن يتأمل فيه ليرى لنفسه المخرج من هذه الورطة العظمى ، والطامة الكبرى ، التي عمت جل بلاد المسلمين من المعمورة . وهي ادعاء الاستغناء عن كتاب الله وسنة رسوله ، استغناء تاما في جميع الأحكام من عبادات ومعاملات ، وحدود وغير ذلك ، بالمذاهب المدونة . وبناء هذا على مقدمتين : إحداهما : أن العمل بالكتاب والسنة لا يجوز إلا للمجتهدين . والثانية : أن المجتهدين معدومون عدما كليا ، لا وجود لأحد منهم في الدنيا ، وأنه بناء على هاتين المقدمتين ، يمنع العمل بكتاب الله وسنة رسوله منعا باتا على جميع أهل الأرض ، ويستغنى عنهما بالمذاهب المدونة . وزاد كثير منهم على هذا منع تقليد غير المذاهب الأربعة ، وأن ذلك يلزم استمراره إلى آخر الزمان . فتأمل يا أخي رحمك الله : كيف يسوغ لمسلم ، أن يقول بمنع الاهتداء بكتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعدم وجوب تعلمهما والعمل بهما استغناء عنهما بكلام رجال غير معصومين ولا خلاف في أنهم يخطئون . فإن كان قصدهم أن الكتاب والسنة ، لا حاجة إلى تعلمهما ، وأنهما يغني غيرهما ، فهذا بهتان عظيم ، ومنكر من القول وزور . وإن كان قصدهم أن تعلمهما صعب لا يقدر عليه ، فهو أيضا زعم باطل ; لأن تعلم الكتاب والسنة أيسر من تعلم مسائل الآراء والاجتهاد المنتشرة ، مع كونها في غاية التعقيد [ ص: 263 ] والكثرة ، والله - جل وعلا - يقول في سورة القمر مرات متعددة : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ 54 \ 17 - 22 - 32 - 40 ] ، ويقول تعالى في الدخان : فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون [ 44 \ 58 ] ، ويقول في مريم : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] . فهو كتاب ميسر بتيسير الله لمن وفقه الله للعمل به ، والله - جل وعلا - يقول : بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم [ 29 \ 49 ] ، ويقول : ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 7 \ 52 ] . فلا شك أن الذي يتباعد عن هداه يحاول التباعد عن هدى الله ورحمته . ولا شك أن هذا القرآن العظيم هو النور الذي أنزله الله إلى أرضه ، ليستضاء به ، فيعلم في ضوئه الحق من الباطل ، والحسن من القبيح ، والنافع من الضار ، والرشد من الغي . قال الله تعالى : ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا [ 4 \ 174 ] . وقال تعالى : قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم [ 5 \ 15 ] ، وقال تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا [ 42 \ 52 ] ، وقال تعالى : فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا [ 64 \ 8 ] ، وقال تعالى : فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون [ 7 \ 157 ] . فإذا علمت أيها المسلم أن هذا القرآن العظيم ، هو النور الذي أنزله الله ليستضاء به ، ويهتدى بهداه في أرضه ، فكيف ترضى لبصيرتك أن تعمى عن النور . فلا تكن خفاشي البصيرة ، واحذر أن تكون ممن قيل فيهم : خفافيش أعماها النهار بضوئه ووافقها قطع من الليل مظلم مثل النهار يزيد أبصار الورى نورا ويعمي أعين الخفاش [ ص: 264 ] يكاد البرق يخطف أبصارهم [ 2 \ 20 ] ، أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب [ 13 \ 19 ] . ولا شك أن من عميت بصيرته عن النور تخبط في الظلام ، ومن لم يجعل الله له نورا ، فما له من نور . وبهذا تعلم أيها المسلم المنصف ، أنه يجب عليك الجد والاجتهاد في تعلم كتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالوسائل النافعة المنتجة ، والعمل بكل ما علمك الله منهما علما صحيحا . ولتعلم أن تعلم كتاب الله وسنة رسوله في هذا الزمان أيسر منه بكثير في القرون الأولى ، لسهولة معرفة جميع ما يتعلق بذلك ، من ناسخ ومنسوخ وعام وخاص ، ومطلق ومقيد ، ومجمل ومبين وأحوال الرجال ، من رواة الحديث ، والتمييز بين الصحيح والضعيف ; لأن الجميع ضبط وأتقن ودون ، فالجميع سهل التناول اليوم . فكل آية من كتاب الله قد علم ما جاء فيها من النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم من الصحابة والتابعين وكبار المفسرين . وجميع الأحاديث الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - حفظت ودونت ، وعلمت أحوال متونها وأسانيدها ، وما يتطرق إليها من العلل والضعف . فجميع الشروط التي اشترطوها في الاجتهاد يسهل تحصيلها جدا على كل من رزقه الله فهما وعلما . والناسخ والمنسوخ ، والخاص والعام ، والمطلق والمقيد ، ونحو ذلك تسهل معرفته اليوم على كل ناظر في الكتاب والسنة ممن رزقه الله فهما ووفقه لتعلم كتاب الله وسنة رسوله . واعلم أيها المسلم المنصف ، أن من أشنع الباطل وأعظم القول بغير الحق ، على الله وكتابه وعلى النبي وسنته المطهرة ، ما قاله الشيخ أحمد الصاوي في حاشيته على الجلالين في سورة الكهف وآل عمران واغتر بقوله في ذلك خلق لا يحصى من المتسمين باسم طلبة العلم ; لكونهم لا يميزون بين حق وباطل . [ ص: 265 ] فقد قال الصاوي أحمد المذكور في الكلام على قوله تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا [ 18 \ 23 ] بعد أن ذكر الأقوال في انفصال الاستثناء عن المستثنى منه بزمان - ما نصه : وعامة المذاهب الأربعة على خلاف ذلك كله ، فإن شرط حل الأيمان بالمشيئة أن تتصل ، وأن يقصد بها حل اليمين ، ولا يضر الفصل بتنفس أو سعال أو عطاس ، ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة ، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية ، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل ، وربما أداه ذلك للكفر ; لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر . انتهى منه بلفظه . فانظر يا أخي - رحمك الله - ما أشنع هذا الكلام وما أبطله ، وما أجرأ قائله على الله وكتابه ، وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه سبحانك هذا بهتان عظيم . أما قوله بأنه لا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة ، ولو كانت أقوالهم مخالفة للكتاب والسنة ، وأقوال الصحابة ، فهو قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، وإجماع الأئمة الأربعة أنفسهم ، كما سنرى إيضاحه إن شاء الله بما لا مزيد عليه في المسائل الآتية بعد هذه المسألة ، فالذي ينصره هو الضال المضل . وأما قوله : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، فهذا أيضا من أشنع [ ص: 266 ] الباطل وأعظمه ، وقائله من أعظم الناس انتهاكا لحرمة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - سبحانك هذا بهتان عظيم . والتحقيق الذي لا شك فيه ، وهو الذي كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعامة علماء المسلمين أنه لا يجوز العدول عن ظاهر كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حال من الأحوال بوجه من الوجوه ، حتى يقوم دليل صحيح شرعي صارف عن الظاهر إلى المحتمل المرجوح . والقول بأن العمل بظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر لا يصدر البتة عن عالم بكتاب الله وسنة رسوله ، وإنما يصدر عمن لا علم له بالكتاب والسنة أصلا ; لأنه لجهله بهما يعتقد ظاهرهما كفرا ، والواقع في نفس الأمر أن ظاهرهما بعيد مما ظنه أشد من بعد الشمس من اللمس . ومما يوضح لك ذلك : أن آية الكهف هذه التي ظن الصاوي أن ظاهرها حل الأيمان بالتعليق بالمشيئة المتأخر زمنها عن اليمين ، وأن ذلك مخالف للمذاهب الأربعة : وبنى على ذلك أن العمل بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، كله باطل لا أساس له . وظاهر الآية بعيد مما ظن ، بل الظن الذي ظنه والزعم الذي زعمه لا تشير الآية إليه أصلا ، ولا تدل عليه لا بدلالة المطابقة ، ولا التضمن ولا الالتزام ، فضلا على أن تكون ظاهرة فيه . وسبب نزولها يزيد ذلك إيضاحا ; لأن سبب نزول الآية أن الكفار سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الروح ، وأصحاب الكهف ، وذي القرنين ، فقال لهم : سأخبركم غدا ، ولم يقل إن شاء الله ، فعاتبه ربه بعدم تفويض الأمر إليه ، وعدم تعليقه بمشيئته - جل وعلا - فتأخر عنه الوحي . ثم علمه الله في الآية الأدب معه ، في قوله : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [ 18 \ 23 - 24 ] . ثم قال لنبيه : واذكر ربك إذا نسيت [ 18 \ 24 ] ، يعني إن قلت سأفعل كذا غدا ، ثم نسيت أن تقول : إن شاء الله ، ثم تذكرت بعد ذلك ، فاذكر ربك ، أي قل : إن شاء الله ، أي لتتدارك بذلك الأدب مع الله الذي فاتك عند وقته ، بسبب النسيان ، وتخرج من عهدة النهي في قوله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله . ![]()
__________________
|
#497
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السابع الحلقة (495) سُورَةُ مُحَمَّدٍ صـ 267 إلى صـ 274 [ ص: 267 ] والتعليق بهذه المشيئة المتأخرة لأجل المعنى المذكور الذي هو ظاهر الآية الصحيح لا يخالف مذهبا من المذاهب الأربعة ولا غيرهم ، وهو التحقيق في مراد ابن عباس بما ينقل عنه من جواز تأخير الاستثناء كما أوضحه كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله . وقد قدمنا إيضاحه في الكلام على آية الكهف هذه . فيا أتباع الصاوي المقلدين له تقليدا أعمى على جهالة عمياء ، أين دل ظاهر آية الكهف هذه على اليمين بالله ، أو بالطلاق ، أو بالعتق ، أو بغير ذلك من الأيمان ؟ هل النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف لما قال للكفار : سأخبركم غدا ؟ وهل قال الله : ولا تقولن لشيء إني حالف سأفعل ذلك غدا ؟ ومن أين جئتم باليمين ، حتى قلتم : إن ظاهر القرآن هو حل الأيمان بالمشيئة المتأخرة عنها ، وبنيتم على ذلك أن ظاهر الآية مخالف لمذاهب الأئمة الأربعة ، وأن العمل بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ؟ ومما يزيد ما ذكرنا إيضاحا ما قاله الصاوي أيضا في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله [ 3 \ 7 ] ، فإنه قال على كلام الجلال ما نصه : زيغ أي ميل عن الحق للباطل ، قوله : بوقوعهم في الشبهات واللبس ، أي كنصارى نجران ، ومن حذا حذوهم ممن أخذ بظاهر القرآن ، فإن العلماء ذكروا أن من أصول الكفر الأخذ بظواهر الكتاب والسنة ا هـ . فانظر - رحمك الله - ما أشنع هذا الكلام ، وما أبطله ، وما أجرأ قائله على انتهاك حرمات الله وكتابه ونبيه وسنته - صلى الله عليه وسلم - وما أدله على أن صاحبه لا يدري ما يتكلم به . فإنه جعل ما قاله نصارى نجران هو ظاهر كتاب الله ، ولذا جعل مثلهم من حذا حذوهم ، فأخذ بظاهر القرآن . وذكر أن العلماء قالوا : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، مع أنه لا يدري وجه ادعاء نصارى نجران على ظاهر القرآن أنه كفر ، مع أنه مسلم أن ادعاءهم على ظاهر القرآن أنه كفرهم ومن حذا حذوهم ادعاء صحيح ، إلا أن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر . [ ص: 268 ] وقد قال قبل هذا : قيل سبب نزولها أن وفد نجران قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم : ألست تقول : إن عيسى روح الله وكلمته ؟ فقال : نعم ، فقالوا : حسبنا ، أي كفانا ذلك في كونه ابن الله . فنزلت الآية . فاتضح أن الصاوي يعتقد أن ادعاء نصارى نجران أن ظاهر قوله تعالى : وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه [ 4 \ 171 ] ، هو أن عيسى ابن الله ادعاء صحيح ، وبنى على ذلك أن العلماء قالوا : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر . وهذا كله من أشنع الباطل وأعظمه ، فالآية لا يفهم من ظاهرها البتة ، بوجه من الوجوه ، ولا بدلالة من الدلالات ، أن عيسى ابن الله ، وادعاء نصارى نجران ذلك كذب بحت . فقول الصاوي كنصارى نجران ، ومن حذا حذوهم ممن أخذ بظواهر القرآن صريح في أنه يعتقد أن ما ادعاه وفد نجران من كون عيسى ابن الله هو ظاهر القرآن اعتقاد باطل باطل باطل ، حاشا القرآن العظيم من أن يكون هذا الكفر البواح ظاهره ، بل هو لا يدل عليه البتة فضلا عن أن يكون ظاهره ، وقوله : وروح منه كقوله تعالى : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ 45 \ 13 ] ، أي كل ذلك من عيسى ومن تسخير السماوات والأرض مبدؤه ومنشؤه - جل وعلا . فلفظة " من " في الآيتين لابتداء الغاية ، وذلك هو ظاهر القرآن وهو الحق خلافا لما زعمه الصاوي وحكاه عن نصارى نجران . وقد اتضح بما ذكرنا أن الذين يقولون : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر لا يعلمون ما هي الظواهر ، وأنهم يعتقدون شيئا ظاهر النص ، والواقع أن النص لا يدل عليه بحال من الأحوال فضلا عن أن يكون ظاهره . فبنوا باطلا على باطل ، ولا شك أن الباطل لا يبنى عليه إلا الباطل . ولو تصوروا معاني ظواهر الكتاب والسنة على حقيقتها لمنعهم ذلك من أن يقولوا ما قالوا . فتصور الصاوي أن ظاهر آية الكهف المتقدمة هو حل الأيمان ، بالتعليق بالمشيئة [ ص: 269 ] المتأخر زمنها عن اليمين ، وبناؤه على ذلك مخالفة ظاهر الآية لمذاهب الأئمة الأربعة ، وأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، مع أن الآية لا تشير أصلا إلى ما اعتقد أنه ظاهرها . وكذلك اعتقاده أن ظاهر آية آل عمران المذكورة هو ما زعمه نصارى نجران ، من أن عيسى ابن الله فإنه كله باطل وليس شيء مما زعم - ظاهر القرآن مطلقا ، كما لا يخفى على عاقل . وقول الصاوي في كلامه المذكور في سورة آل عمران : إن العلماء قالوا : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، قول باطل لا يشك في بطلانه من عنده أدنى معرفة . ومن هم العلماء الذين قالوا : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ؟ سموهم لنا ، وبينوا لنا من هم ؟ والحق الذي لا شك فيه أن هذا القول لا يقوله عالم ، ولا متعلم ; لأن ظواهر الكتاب والسنة هي نور الله الذي أنزله على رسوله ليستضاء به في أرضه وتقام به حدوده ، وتنفذ به أوامره ، وينصف به بين عباده في أرضه . والنصوص القطعية التي لا احتمال فيها قليلة جدا لا يكاد يوجد منها إلا أمثلة قليلة جدا كقوله تعالى :فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة [ 2 \ 196 ] . والغالب الذي هو الأكثر هو كون نصوص الكتاب والسنة ظواهر . وقد أجمع جميع المسلمين على أن العمل بالظاهر واجب حتى يرد دليل شرعي صارف عنه إلى المحتمل المرجوح ، وعلى هذا كل من تكلم في الأصول . فتنفير الناس وإبعادها عن كتاب الله ، وسنة رسوله ، بدعوى أن الأخذ بظواهرهما من [ ص: 270 ] أصول الكفر هو من أشنع الباطل وأعظمه كما ترى . وأصول الكفر يجب على كل مسلم أن يحذر منها كل الحذر ، ويتباعد منها كل التباعد ويتجنب أسبابها كل الاجتناب فيلزم على هذا القول المنكر الشنيع وجوب التباعد من الأخذ بظواهر الوحي . وهذا كما ترى ، وبما ذكرنا يتبين أن من أعظم أسباب الضلال ادعاء أن ظواهر الكتاب والسنة دالة على معان قبيحة ، ليست بلائقة . والواقع في نفس الأمر بعدها وبراءتها من ذلك . وسبب تلك الدعوى الشنيعة على ظواهر كتاب الله ، وسنة رسوله ، هو عدم معرفة مدعيها . ولأجل هذه البلية العظمى ، والطامة الكبرى ، زعم كثير من النظار الذين عندهم فهم ، أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها غير لائقة بالله ، لأن ظواهرها المتبادرة منها هو تشبيه صفات الله بصفات خلقه ، وعقد ذلك المقرئ في إضاءته في قوله : والنص إن أوهم غير اللائق بالله كالتشبيه بالخلائق فاصرفه عن ظاهره إجماعا واقطع عن الممتنع الأطماعا وهذه الدعوى الباطلة من أعظم الافتراء على آيات الله تعالى ، وأحاديث رسوله - صلى الله عليه وسلم . والواقع في نفس الأمر أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها المتبادرة منها ، لكل مسلم راجع عقله ، هي مخالفة صفات الله لصفات خلقه . ولا بد أن نتساءل هنا ، فنقول : أليس الظاهر المتبادر مخالفة الخالق للمخلوق في الذات والصفات والأفعال ؟ والجواب الذي لا جواب غيره : بلى . وهل تشابهت صفات الله مع صفات خلقه حتى يقال إن اللفظ الدال على صفته [ ص: 271 ] تعالى ظاهره المتبادر منه تشبيهه بصفة الخلق ؟ والجواب الذي لا جواب غيره : لا . فبأي وجه يتصور عاقل أن لفظا أنزله الله في كتابه مثلا دالا على صفة من صفات الله أثنى بها تعالى على نفسه يكون ظاهره المتبادر منه مشابهته لصفة الخلق ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم . فالخالق والمخلوق متخالفان كل التخالف وصفاتهما متخالفة كل التخالف . فبأي وجه يعقل دخول صفة المخلوق في اللفظ الدال على صفة الخالق ؟ أو دخول صفة الخالق في اللفظ الدال على صفة المخلوق مع كمال المنافاة بين الخالق والمخلوق ؟ فكل لفظ دل على صفة الخالق ظاهره المتبادر منه أن يكون لائقا بالخالق منزها عن مشابهة صفات المخلوق . وكذلك اللفظ الدال على صفة المخلوق لا يعقل أن تدخل فيه صفة الخالق . فالظاهر المتبادر من لفظ اليد بالنسبة للمخلوق ، هو كونها جارحة هي عظم ولحم ودم ، وهذا هو الذي يتبادر إلى الذهن في نحو قوله تعالى : فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] . والظاهر المتبادر من اليد بالنسبة للخالق في نحو قوله تعالى : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، أنها صفة كمال وجلال ، لائقة بالله - جل وعلا - ثابتة له على الوجه اللائق بكماله وجلاله . وقد بين - جل وعلا - عظم هذه الصفة وما هي عليه من الكمال والجلال ، وبين أنها من صفات التأثير كالقدرة ، قال تعالى في تعظيم شأنها : وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون [ 39 \ 67 ] . [ ص: 272 ] وبين أنها صفة تأثير كالقدرة في قوله تعالى : قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ، فتصريحه تعالى بأنه خلق نبيه آدم بهذه الصفة العظيمة التي هي صفات كماله وجلاله يدل على أنها من صفات التأثير كما ترى . ولا يصح هنا تأويل اليد بالقدرة البتة ، لإجماع أهل الحق والباطل ، كلهم على أنه لا يجوز تثنية القدرة . ولا يخطر في ذهن المسلم المراجع عقله دخول الجارحة التي هي عظم ولحم ودم في معنى هذا اللفظ الدال على هذه الصفة العظيمة من صفات خالق السماوات والأرض . فاعلم أيها المدعي أن ظاهر لفظ اليد في الآية المذكورة وأمثالها لا يليق بالله ; لأن ظاهرها التشبيه بجارحة الإنسان ، وأنها يجب صرفها عن هذا الظاهر الخبيث ، ولم تكتف بهذا حتى ادعيت الإجماع على صرفها عن ظاهرها - أن قولك هذا كله افتراء عظيم على الله تعالى ، وعلى كتابه العظيم ، وأنك بسببه كنت أعظم المشبهين والمجسمين ، وقد جرك شؤم هذا التشبيه إلى ورطة التعطيل ، فنفيت الوصف الذي أثبته الله في كتابه لنفسه بدعوى أنه لا يليق به ، وأولته بمعنى آخر من تلقاء نفسك بلا مستند من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا قول أحد من السلف . وماذا عليك لو صدقت الله ، وآمنت بما مدح به نفسه على الوجه اللائق بكماله وجلاله من غير كيف ، ولا تشبيه ، ولا تعطيل ؟ وبأي موجب سوغت لذهنك أن يخطر فيه صفة المخلوق عند ذكر صفة الخالق ؟ هل تلتبس صفة الخالق بصفة المخلوق عن أحد حتى يفهم صفة المخلوق من اللفظ الدال على صفة الخالق ؟ فاخش الله يا إنسان ، واحذر من التقول على الله بلا علم ، وآمن بما جاء في كتاب الله مع تنزيه الله عن مشابهة خلقه . واعلم أن الله الذي أحاط علمه بكل شيء لا يخفى عليه الفرق بين الوصف اللائق به والوصف غير اللائق به ، حتى يأتي إنسان فيتحكم في ذلك فيقول : هذا الذي وصفت به [ ص: 273 ] نفسك غير لائق بك ، وأنا أنفيه عنك بلا مستند منك ، ولا من رسولك ، وآتيك بدله بالوصف اللائق بك . فاليد مثلا التي وصفت بها نفسك لا تليق بك لدلالتها على التشبيه بالجارحة ، وأنا أنفيها عنك نفيا باتا ، وأبدلها لك بوصف لائق بك ، وهو النعمة أو القدرة مثلا أو الجود . سبحانك هذا بهتان عظيم . فاتقوا الله ياأولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور . ومن الغريب أن بعض الجاحدين لصفات الله المئولين لها بمعان لم ترد عن الله ، ولا عن رسوله يؤمنون فيها ببعض الكتاب دون بعض . فيقرون بأن الصفات السبع التي تشتق منها أوصاف ثابتة لله مع التنزيه ، ونعني بها القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام ; لأنها يشتق منها قادر حي عليم إلخ ، وكذلك في بعض الصفات الجامعة كالعظمة والكبرياء والملك والجلال مثلا ; لأنها يشتق منها العظيم المتكبر والجليل والملك ، وهكذا يجحدون كل صفة ثبتت في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لم يشتق منها غيرها كصفة اليد والوجه ونحو ذلك ، ولا شك أن هذا التفريق بين صفات الله التي أثبتها لنفسه ، أو أثبتها له رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا وجه له البتة بوجه من الوجوه . ولم يرد عن الله ، ولا عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - الإذن في الإيمان ببعض صفاته وجحد بعضها وتأويله ; لأنها لا يشتق منها . وهل يتصور عاقل أن يكون عدم الاشتقاق مسوغا لجحد ما وصف الله به نفسه ؟ ولا شك عند كل مسلم راجع عقله ، أن عدم الاشتقاق لا يرد به كلام الله فيما أثنى به على نفسه ، ولا كلام رسوله فيما وصف به ربه . والسبب الموجب للإيمان إيجابا حتما كليا هو كونه من عند الله ، وهذا السبب هو الذي علم الراسخون في العلم أنه الموجب للإيمان بكل ما جاء عن الله ، سواء استأثر الله [ ص: 274 ] بعلمه كالمتشابه ، أو كان مما يعلمه الراسخون في العلم ، كما قال الله عنهم : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [ 3 \ 7 ] . فلا شك أن قوله تعالى : لما خلقت بيدي من عند ربنا ، وقوله تعالى : والله على كل شيء قدير [ 2 \ 284 ] من عند ربنا أيضا فيجب علينا الإيمان بالجميع ; لأنه كله من عند ربنا . أما الذي يفرق بينه ، وهو عالم بأن كله من عند ربه ، بأن هذا يشتق منه ، وهذا لا يشتق منه فقد آمن ببعض الكتاب دون بعض . والمقصود أن كل ما جاء من عند الله يجب الإيمان به ، سواء كان من المتشابه ، أو من غير المتشابه ، وسواء كان يشتق منه أو لا . ومعلوم أن مالكا - رحمه الله - سئل كيف استوى ؟ فقال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب . وما يزعمه بعضهم من أن القدرة والإرادة مثلا ونحوهما ليست كاليد ، والوجه ، بدعوى أن القدرة والإرادة مثلا ظهرت آثارهما في العالم العلوي والسفلي ، بخلاف غيرهما كصفة اليد ونحوها فهو من أعظم الباطل . ومما يوضح ذلك أن الذي يقوله هو وأبوه وجده من آثار صفة اليد التي خلق الله بها نبيه آدم . ونحن نرجو أن يغفر الله تعالى للذين ماتوا على هذا الاعتقاد ; لأنهم لا يقصدون تشبيه الله بخلقه ، وإنما يحاولون تنزيهه عن مشابهة خلقه . فقصدهم حسن ، ولكن طريقهم إلى ذلك القصد سيئة . ![]()
__________________
|
#498
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السابع الحلقة (496) سُورَةُ مُحَمَّدٍ صـ 275 إلى صـ 282 وإنما نشأ لهم ذلك السوء بسبب أنهم ظنوا لفظ الصفة التي مدح الله بها نفسه يدل ظاهره على مشابهة صفة الخلق فنفوا الصفة التي ظنوا أنها لا تليق قصدا منهم لتنزيه الله ، وأولوها بمعنى آخر يقتضي التنزيه في ظنهم فهم كما قال الشافعي رحمه الله : رام نفعا فضر من غير قصد ومن البر ما يكون عقوقا ونحن نرجو أن يغفر الله لهم خطأهم ، وأن يكونوا داخلين في قوله تعالى : [ ص: 275 ] وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما [ 33 \ 5 ] . وخطؤهم المذكور لا شك فيه ، ولو وفقهم الله لتطهير قلوبهم من التشبيه أولا ، وجزموا بأن ظاهر صفة الخالق هو التنزيه عن مشابهة صفة المخلوق ، لسلموا مما وقعوا فيه . ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عالم كل العلم ، بأن الظاهر المتبادر ، مما مدح الله به نفسه في آيات الصفات هو التنزيه التام عن صفات الخلق ، ولو كان يخطر في ذهنه أن ظاهره لا يليق ; لأنه تشبيه بصفات الخلق ، لبادر كل المبادرة إلى بيان ذلك ; لأنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه ، ولا سيما في العقائد ، ولا سيما فيما ظاهره الكفر والتشبيه . فسكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيان هذا يدل على أن ما زعمه المئولون لا أساس له كما ترى . فإن قيل : إن هذا القرآن العظيم نزل بلسان عربي مبين ، والعرب لا تعرف في لغتها كيفية لليد مثلا ، إلا كيفية المعاني المعروفة عندها كالجارحة ، وغيرها من معاني اليد المعروفة في اللغة ، فبينوا لنا كيفية لليد ملائمة لما ذكرتم . فالجواب من وجهين : الوجه الأول : أن العرب لا تدرك كيفيات صفات الله من لغتها ، لشدة منافاة صفة الله لصفة الخلق . والعرب لا تعرف عقولهم كيفيات إلا لصفات الخلق ، فلا تعرف العرب كيفية للسمع والبصر ، إلا هذه المشاهدة في حاسة الأذن والعين ، أما سمع لا يقوم بأذن ، وبصر لا يقوم بحدقة ، فهذا لا يعرفون له كيفية البتة . فلا فرق بين السمع والبصر ، وبين اليد والاستواء ، فالذي تعرف كيفيته العرب من لغتها من جميع ذلك هو المشاهد في المخلوقات . [ ص: 276 ] وأما الذي اتصف الله به من ذلك ، فلا تعرف له العرب كيفية ، ولا حدا لمخالفة صفاته لصفات الخلق ، إلا أنهم يعرفون من لغتهم أصل المعنى ، كما قال الإمام مالك رحمه الله : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة . كما يعرفون من لغتهم أن بين الخالق والمخلوق ، والرازق والمرزوق ، والمحيي والمحيا ، والمميت والممات - فوارق عظيمة لا حد لها تستلزم المخالفة التامة ، بين صفات الخالق والمخلوق . الوجه الثاني : أن نقول لمن قال : بينوا لنا كيفية لليد ملائمة لما ذكرتم ، من كونها صفة كمال وجلال ، منزهة عن مشابهة جارحة المخلوق . هل عرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة باليد ، فلا بد أن يقول : لا . فإن قال ذلك . قلنا : معرفة كيفية الصفات تتوقف على معرفة كيفية الذات . فالذات والصفات من باب واحد . فكما أن ذاته - جل وعلا - تخالف جميع الذوات ، فإن صفاته تخالف جميع الصفات . ومعلوم أن الصفات تختلف وتتباين باختلاف موصوفاتها . ألا ترى مثلا أن لفظة رأس كلمة واحدة ؟ إن أضفتها إلى الإنسان ، فقلت : رأس الإنسان ، وإلى الوادي ، فقلت : رأس الوادي ، وإلى المال ، فقلت : رأس المال ، وإلى الجبل ، فقلت : رأس الجبل . فإن كلمة الرأس اختلفت معانيها ، وتباينت تباينا شديدا بحسب اختلاف إضافتها ، مع أنها في مخلوقات حقيرة . [ ص: 277 ] فما بالك بما أضيف من الصفات إلى الله ، وما أضيف منها إلى خلقه ، فإنه يتباين كتباين الخالق والمخلوق ، كما لا يخفى . فاتضح بما ذكر أن الشرط في قول المقرئ في إضاءته : والنص إن أوهم غير اللائق شرط مفقود قطعا ; لأن نصوص الوحي الواردة في صفات الله لا تدل ظواهرها البتة إلا على تنزيه الله ، ومخالفته لخلقه في الذات والصفات والأفعال . فكل المسلمين الذين يراجعون عقولهم ، لا يشك أحد منهم في أن الظاهر المتبادر السابق إلى ذهن المسلم هو مخالفة الله لخلقه ، كما نص عليه بقوله : ليس كمثله شيء [ 42 \ 11 ] ، وقوله : ولم يكن له كفوا أحد [ 112 \ 4 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، وبذلك تعلم أن الإجماع الذي بناه على ذلك في قوله : فاصرفه عن ظاهره إجماعا إجماع مفقود أصلا ، ولا وجود له البتة ; لأنه مبني على شرط مفقود لا وجود له البتة . فالإجماع المعدوم المزعوم لم يرد في كتاب الله ، ولا في سنة رسوله ، ولم يقله أحد من أصحاب رسول الله ، ولا من تابعيهم ، ولم يقله أحد من الأئمة الأربعة ، ولا من فقهاء الأمصار المعروفين . وإنما لم يقولوا بذلك ; لأنهم يعلمون أن ظواهر نصوص الوحي لا تدل إلا على تنزيه الله عن مشابهة خلقه ، وهذا الظاهر الذي هو تنزيه الله لا داعي لصرفها عنه كما ترى . ولأجل هذا كله قلنا في مقدمة هذا الكتاب المبارك : إن الله تبارك وتعالى موصوف [ ص: 278 ] بتلك الصفات حقيقة لا مجازا ; لأنا نعتقد اعتقادا جازما لا يتطرق إليه شك أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها ، لا تدل البتة إلا على التنزيه عن مشابهة الخلق واتصافه تعالى بالكمال والجلال . وإثبات التنزيه والكمال والجلال لله حقيقة لا مجازا - لا ينكره مسلم . ومما يدعو إلى التصريح بلفظ الحقيقة ، ونفي المجاز ، كثرة الجاهلين الزاعمين أن تلك الصفات لا حقائق لها ، وأنها كلها مجازات . وجعلوا ذلك طريقا إلى نفيها ; لأن المجاز يجوز نفيه ، والحقيقة لا يجوز نفيها . فقالوا مثلا : اليد مجاز يراد به القدرة والنعمة أو الجود ، فنفوا صفة اليد ، لأنها مجاز . وقالوا : على العرش استوى مجاز فنفوا الاستواء ; لأنه مجاز . وقالوا : معنى " استوى " استولى ، وشبهوا استيلاءه باستيلاء بشر بن مروان على العراق . ولو تدبروا كتاب الله لمنعهم ذلك من تبديل الاستواء بالاستيلاء ، وتبديل اليد بالقدرة أو النعمة ; لأن الله - جل وعلا - يقول في محكم كتابه في سورة البقرة : فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون [ 2 \ 59 ] ، ويقول في الأعراف فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون [ 7 \ 162 ] ، فالقول الذي قاله الله لهم هو قوله " حطة " وهي فعلة من الحط بمعنى الوضع خبر مبتدأ محذوف ، أي دعاؤنا ومسألتنا لك حطة لذنوبنا ، أي حط ووضع لها عنا فهي بمعنى طلب المغفرة ، وفي بعض روايات الحديث في شأنهم أنهم بدلوا هذا القول بأن زادوا نونا فقالوا : حنطة ، وهي القمح . وأهل التأويل قيل لهم : على العرش استوى ، فزادوا لاما ، فقالوا : استولى . [ ص: 279 ] وهذه اللام التي زادوها أشبه شيء بالنون التي زادها اليهود في قوله تعالى : وقولوا حطة . ويقول الله - جل وعلا - في منع تبديل القرآن بغيره : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . ولا شك أن من بدل استوى باستولى مثلا لم يتبع ما أوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم . فعليه أن يجتنب التبديل ويخاف العذاب العظيم ، الذي خافه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو عصى الله فبدل قرآنا بغيره المذكور في قوله : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . واليهود لم ينكروا أن اللفظ الذي قاله الله لهم : هو لفظ حطة ولكنهم حرفوه بالزيادة المذكورة . وأهل هذه المقالة لم ينكروا أن كلمة القرآن هي استوى ، ولكن حرفوها وقالوا في معناها : استولى وإنما أبدلوها بها ; لأنها أصلح في زعمهم من لفظ كلمة القرآن ، لأن كلمة القرآن توهم غير اللائق ، وكلمة استولى في زعمهم هي المنزهة اللائقة بالله مع أنه لا يعقل تشبيه أشنع من تشبيه استيلاء الله على عرشه المزعوم ، باستيلاء بشر على العراق . وهل كان أحد يغالب الله على عرشه حتى غلبه على العرش واستولى عليه ؟ وهل يوجد شيء إلا والله مستول عليه ، فالله مستول على كل شيء . وهل يجوز أن يقال إنه تعالى استوى على كل شيء غير العرش ؟ فافهم . [ ص: 280 ] وعلى كل حال ، فإن المئول زعم أن الاستواء يوهم غير اللائق بالله لاستلزامه مشابهة استواء الخلق ، وجاء بدله بالاستيلاء ، لأنه هو اللائق به في زعمه ، ولم ينتبه . لأن تشبيه استيلاء الله على عرشه باستيلاء بشر بن مروان على العراق هو أفظع أنواع التشبيه ، وليس بلائق قطعا ، إلا أنه يقول : إن الاستيلاء المزعوم منزه عن مشابهة استيلاء الخلق ، مع أنه ضرب له المثل باستيلاء بشر على العراق والله يقول : فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون [ 16 \ 74 ] . ونحن نقول : أيها المئول هذا التأويل ، نحن نسألك إذا علمت أنه لا بد من تنزيه أحد اللفظين أعني لفظ استوى الذي أنزل الله به الملك على النبي - صلى الله عليه وسلم - قرآنا يتلى ، كل حرف منه عشر حسنات ، ومن أنكر أنه من كتاب الله كفر . ولفظة استولى التي جاء بها قوم من تلقاء أنفسهم من غير استناد إلى نص من كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من السلف . فأي الكلمتين أحق بالتنزيه في رأيك . الأحق بالتنزيه كلمة القرآن المنزلة من الله على رسوله ، أم كلمتكم التي جئتم بها من تلقاء أنفسكم ، من غير مستند أصلا ؟ ونحن لا يخفى علينا الجواب الصحيح ، عن هذا السؤال إن كنت لا تعرفه . واعلم أن ما ذكرنا من أن ما وصف الله به نفسه من الصفات ، فهو موصوف به حقيقة لا مجازا ، على الوجه اللائق بكماله وجلاله . وأنه لا فرق البتة بين صفة يشتق منها وصف ، كالسمع والبصر والحياة . وبين صفة لا يشتق منها كالوجه واليد . وأن تأويل الصفات كتأويل الاستواء بالاستيلاء ، لا يجوز ولا يصح . هو معتقد أبي الحسن الأشعري رحمه الله . وهو معتقد عامة السلف ، وهو الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه . فمن ادعى على أبي الحسن الأشعري أنه يئول صفة من الصفات ، كالوجه واليد والاستواء ، ونحو ذلك فقد افترى عليه افتراء عظيما . [ ص: 281 ] بل الأشعري رحمه الله مصرح في كتبه العظيمة التي صنفها بعد رجوعه عن الاعتزال ، ( كالموجز ) ، ( ومقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ) ، ( والإبانة عن أصول الديانة ) أن معتقده الذي يدين الله به هو ما كان عليه السلف الصالح من الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه ، أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإثبات ذلك كله من غير كيف ولا تشبيه ولا تعطيل . وأن ذلك لا يصح تأويله ، ولا القول بالمجاز فيه . وأن تأويل الاستواء بالاستيلاء هو مذهب المعتزلة ومن ضاهاهم . وهو أعلم الناس بأقوال المعتزلة ، لأنه كان أعظم إمام في مذهبهم ، قبل أن يهديه الله إلى الحق ، وسنذكر لك هنا بعض نصوص أبي الحسن الأشعري رحمه الله لتعلم صحة ما ذكرنا عنه . قال رحمه الله ( في كتاب الإبانة عن أصول الديانة ) الذي قال غير واحد أنه آخر كتاب صنفه ، ما نصه : فإن قال لنا قائل : قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة ، والمرجئة ، فعرفونا قولكم الذي به تقولون ، وديانتكم التي بها تدينون ، قيل له : قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها ، التمسك بكتاب ربنا عز وجل وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث . ونحن بذلك معتصمون ، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ، ولمن خالف قوله مجانبون . لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان به الحق ورفع به الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين ، وزيغ الزائغين وشك الشاكين . فرحمة الله عليه من إمام مقدم وخليل معظم مفخم ، وعلى جميع أئمة المسلمين . وجملة قولنا : أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله ، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرد من ذلك شيئا . وأن الله عز وجل إله واحد لا إله إلا هو فرد صمد ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن [ ص: 282 ] محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، والساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور . وأن الله استوى على عرشه كما قال : الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، وأن له وجها كما قال : ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [ 55 \ 27 ] ، وأن له يدين بلا كيف كما قال : خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، وكما قال : بل يداه مبسوطتان [ 5 \ 64 ] ، وأن له عينان بلا كيف كما قال : تجري بأعيننا [ 54 \ 14 ] . انتهى محل الغرض منه بلفظه . وبه تعلم أن من يفتري على الأشعري - أنه من المئولين المدعين أن ظاهر آيات الصفات وأحاديثها لا يليق بالله - كاذب عليه كذبا شنيعا . وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتاب الإبانة أيضا في إثبات الاستواء لله تعالى ما نصه : إن قال قائل : ما تقولون في الاستواء ؟ قيل له : نقول : إن الله عز وجل مستو على عرشه كما قال : الرحمن على العرش استوى . وقد قال الله عز وجل : إليه يصعد الكلم الطيب [ 35 \ 10 ] ، وقد قال : بل رفعه الله إليه [ 4 \ 158 ] ، وقال عز وجل : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه [ 32 \ 5 ] ، وقال حكاية عن فرعون : ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا [ 40 \ 36 ] . فكذب فرعون نبي الله موسى عليه السلام في قوله : ( إن الله عز وجل فوق السماوات ) . وقال عز وجل : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض . فالسماوات فوقها العرش ، فلما كان العرش فوق السماوات قال : أأمنتم من في السماء لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات ، وكل ما علا فهو سماء ، فالعرش أعلى السماوات . هذا لفظ أبي الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب الإبانة المذكور . وقد أطال رحمه الله في الكلام بذكر الأدلة القرآنية في إثبات صفة الاستواء ، وصفة العلو لله - جل وعلا . ![]()
__________________
|
#499
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السابع الحلقة (497) سُورَةُ مُحَمَّدٍ صـ 283 إلى صـ 290 ومن جملة كلامه المشار إليه ما نصه : [ ص: 283 ] وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية : إن قول الله عز وجل : الرحمن على العرش استوى أنه استولى وملك وقهر ، وأن الله عز وجل في كل مكان . وجحدوا أن يكون الله عز وجل على عرشه كما قال أهل الحق ، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة . ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض ، فالله سبحانه قادر عليها وعلى الحشوش ، وعلى كل ما في العالم . فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء وهو عز وجل مستول على الأشياء كلها لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأفراد ، لأنه قادر على الأشياء مستول عليها . وإذا كان قادرا على الأشياء كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول : إن الله عز وجل مستو على الحشوش والأخلية ، لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها . ووجب أن يكون معناه استواء يختص العرش دون الأشياء كلها . وزعمت المعتزلة والحرورية والجهمية أن الله عز وجل في كل مكان فلزمهم أنه في بطن مريم وفي الحشوش والأخلية . وهذا خلاف الدين - تعالى الله عن قولهم . ا هـ . هذا لفظ أبي الحسن الأشعري رحمه الله في آخر مصنفاته ، وهو كتاب الإبانة عن أصول الديانة . وتراه صرح رحمه الله بأن تأويل الاستواء بالاستيلاء هو قول المعتزلة والجهمية والحرورية لا قول أحد من أهل السنة وأقام البراهين الواضحة على بطلان ذلك . فليعلم مئولو الاستواء بالاستيلاء أن سلفه في ذلك المعتزلة والجهمية والحرورية ، لا أبو الحسن الأشعري رحمه الله ولا أحد من السلف . وقد أوضحنا في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم الآية [ 6 \ 3 ] أن قول الجهمية ومن تبعهم : إن الله في كل مكان - قول باطل . [ ص: 284 ] لأن جميع الأمكنة الموجودة أحقر وأقل وأصغر ، من أن يسع شيء منها خالق السماوات والأرض ، الذي هو أعظم وأكبر من كل شيء ، وهو محيط بكل شيء ، ولا يحيط به شيء . فانظر إيضاح ذلك في الأنعام . واعلم أن ما يزعمه كثير من الجهلة ، من أن ما في القرآن العظيم من صفة الاستواء والعلو والفوقية يستلزم الجهة ، وأن ذلك محال على الله ، وأنه يجب نفي الاستواء والعلو والفوقية ، وتأويلها بما لا دليل عليه من المعاني كله باطل . وسببه سوء الظن بالله وبكتابه ، وعلى كل حال فمدعي لزوم الجهة لظواهر نصوص القرآن العظيم . واستلزام ذلك للنقص الموجب للتأويل يقال له : ما مرادك بالجهة ؟ إن كنت تريد بالجهة مكانا موجودا انحصر فيه الله ، فهذا ليس بظاهر القرآن ، ولم يقله أحد من المسلمين . وإن كنت تريد بالجهة العدم المحض . فالعدم عبارة عن لا شيء . فميز أولا بين الشيء الموجود ، وبين لا شيء . وقد قال أيضا أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب الإبانة أيضا ما نصه : فإن سئلنا : أتقولون : إن لله يدين ؟ قيل : نقول ذلك ، وقد دل عليه قوله عز وجل : يد الله فوق أيديهم [ 48 \ 10 ] ، وقوله عز وجل : لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] . وأطال رحمه الله الكلام في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على إثبات صفة اليدين لله . ومن جملة ما قال ما نصه : ويقال لهم : لم أنكرتم أن يكون الله عز وجل عنى بقوله : يدي يدين ليستا نعمتين . فإن قالوا : لأن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة . [ ص: 285 ] قيل لهم : ولم قضيتم أن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة ؟ فإن رجوعنا إلى شاهدنا ، وإلى ما نجده فيما بيننا من الخلق ؟ فقالوا : اليد إذا لم تكن نعمة في الشاهد لم تكن إلا جارحة . قيل لهم : إن عملتم على الشاهد وقضيتم به على الله عز وجل فكذلك لم نجد حيا من الخلق إلا جسما لحما ودما ، فاقضوا بذلك على الله عز وجل . وإلا فأنتم لقولكم متأولون ولاعتلالكم ناقضون . وإن أثبتم حيا لا كالأحياء منا . فلم أنكرتم أن تكون اليدان اللتان أخبر الله عز وجل عنهما ، يدين ليستا نعمتين ، ولا جارحتين ، ولا كالأيدي ؟ وكذلك يقال لهم : لم تجدوا مدبرا حكيما إلا إنسانا ، ثم أثبتم أن للدنيا مدبرا حكيما ، ليس كالإنسان ، وخالفتم الشاهد ونقضتم اعتلالكم . فلا تمنعوا من إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ، من أجل أن ذلك خلاف الشاهد انتهى محل الغرض منه بلفظه . وبه تعلم أن الأشعري رحمه الله يعتقد أن الصفات التي أنكرها المئولون كصفة اليد ، من جملة صفات المعاني كالحياة ونحوها ، وأنه لا فرق البتة بين صفة اليد وصفة الحياة فما اتصف الله به من جميع ذلك فهو منزه عن مشابهة ما اتصف به الخلق منه . واللازم لمن شبه في بعض الصفات ونزه في بعضها أن يشبه في جميعها أو ينزه في جميعها ، كما قاله الأشعري . أما ادعاء ظهور التشبيه في بعضها دون بعض ، فلا وجه له بحال من الأحوال ، لأن الموصوف بها واحد ، وهو منزه عن مشابهة صفات خلقه . ومن جملة كلام أبي الحسن الأشعري رحمه الله المشار إليها آنفا في إثبات الصفات ما نصه : [ ص: 286 ] فإن قال قائل : لم أنكرتم أن يكون قوله : مما عملت أيدينا [ 36 \ 71 ] ، وقوله : لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] على المجاز ؟ . قيل له : حكم كلام الله عز وجل أن يكون على ظاهره وحقيقته ، ولا يخرج الشيء عن ظاهره إلى المجاز إلا لحجة . ألا ترون أنه إذا كان ظاهر الكلام العموم ، فإذا ورد بلفظ العموم والمراد به الخصوص ، فليس هو على حقيقة الظاهر ؟ وليس يجوز أن يعدل بما ظاهره العموم عن العموم بغير حجة ؟ كذلك قول الله عز وجل : لما خلقت بيدي على ظاهره وحقيقته من إثبات اليدين ، ولا يجوز أن يعدل به عن ظاهر اليدين إلى ما ادعاه خصومنا إلا بحجة . ولو جاز ذلك لمدع أن يدعي أن ما ظاهره العموم ، فهو على الخصوص ، وما ظاهره الخصوص فهو على العموم بغير حجة . وإذا لم يجز هذا لمدعيه بغير برهان لم يجز لكم ما ادعيتموه أنه مجاز بغير حجة . بل واجب أن يكون قوله : لما خلقت بيدي إثبات يدين لله تعالى في الحقيقة غير نعمتين إذا كانت النعمتان لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول قائلهم : فعلت بيدي وهو يعني النعمتين . انتهى محل الغرض منه بلفظه . وفيه تصريح أبي الحسن الأشعري رحمه الله ، بأن صفات الله كصفة اليد ثابتة له حقيقة لا مجازا ، وأن المدعين أنها مجاز هم خصومه وهو خصمهم كما ترى . وإنما قال رحمه الله : إنه تعالى متصف بها حقيقة لا مجازا ، لأنه لا يشك في أن ظاهر صفة الله هو مخالفة صفة الخلق ، وتنزيهها عن مشابهتها كما هو شأن السلف الصالح كلهم . فإثبات الحقيقة ونفي المجاز في صفات الله هو اعتقاد كل مسلم طاهر القلب من أقذار التشبيه ، لأنه لا يسبق إلى ذهنه من اللفظ الدال على الصفة كصفة اليد والوجه إلا أنها صفة كمال منزهة عن مشابهة صفات الخلق . [ ص: 287 ] فلا يخطر في ذهنه التشبيه الذي هو سبب نفي الصفة وتأويلها بمعنى لا أصل له . تنبيه مهم فإن قيل : دل الكتاب والسنة وإجماع السلف على أن الله وصف نفسه بصفة اليدين كقوله تعالى : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، وقوله تعالى : بل يداه مبسوطتان [ 5 \ 64 ] ، وقوله تعالى : وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه الآية [ 39 \ 67 ] . والأحاديث الدالة على مثل ما دلت عليه الآيات المذكورة كثيرة ، كما هو معلوم ، وأجمع المسلمون على أنه - جل وعلا - لا يجوز أن يوصف بصفة الأيدي مع أنه تعالى قال : أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون [ 36 \ 71 ] ، فلم أجمع المسلمون على تقديم آية لما خلقت بيدي على آية مما عملت أيدينا ؟ فالجواب : أنه لا خلاف بين أهل اللسان العربي ، ولا بين المسلمين أن صيغ الجموع تأتي لمعنيين أحدهما إرادة التعظيم فقط ، فلا يدخل في صيغة الجمع تعدد أصلا ، لأن صيغة الجمع المراد بها التعظيم - إنما يراد بها واحد . والثاني أن يراد بصيغة الجمع معنى الجمع المعروف ، وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن القرآن العظيم يكثر فيه جدا إطلاق الله - جل وعلا - على نفسه صيغة الجمع ، يريد بذلك تعظيم نفسه ، ولا يريد بذلك تعددا ولا أن معه غيره ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، كقوله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون . فصيغة الجمع في قوله : إنا وفي قوله : نحن وفي قوله : نزلنا وقوله : لحافظون لا يراد بها أن معه منزلا للذكر ، وحافظا له غيره تعالى . بل هو وحده المنزل له والحافظ له ، وكذلك قوله تعالى : أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون [ 56 \ 58 - 59 ] ، وقوله : أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون [ 56 \ 69 ] ، وقوله : أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون [ 56 \ 72 ] ، ونحو هذا كثير في القرآن جدا ، وبه تعلم أن صيغة الجمع في قوله : إنا . وفي قوله : خلقنا وفي قوله : عملت أيدينا إنما يراد بها التعظيم ، ولا يراد بها التعدد أصلا . [ ص: 288 ] وإذا كان يراد بها التعظيم ، لا التعدد ؛ علم بذلك أنها لا تصح بها معارضة قوله : لما خلقت بيدي ، لأنها دلت على صفة اليدين . والجمع في قوله : أيدينا لمجرد التعظيم . وما كان كذلك لا يدل على التعدد فيطلب الدليل من غيره ، فإن دل على أن المراد بالتعظيم واحد حكم بذلك ، كالآيات المتقدمة . وإن دل على معنى آخر حكم به . فقوله مثلا : وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] ، قام فيه البرهان القطعي أنه حافظ واحد ، وكذلك قوله : أم نحن الخالقون [ 56 \ 59 ] ، أم نحن المنزلون [ 56 \ 69 ] ، أم نحن المنشئون [ 56 \ 72 ] ، فإنه قد قام في كل ذلك البرهان القطعي على أنه خالق واحد ، ومنزل واحد ، ومنشئ واحد . وأما قوله : مما عملت أيدينا [ 36 \ 71 ] ، فقد دل البرهان القطعي على أن الله موصوف بصفة اليدين كما صرح به في قوله : لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، كما تقدم إيضاحه قريبا . وقد علمت أن صيغة الجمع في قوله : لحافظون [ 15 \ 9 ] ، وقوله : أم نحن الخالقون [ 56 \ 59 ] ، وقوله : أم نحن المنزلون [ 56 \ 69 ] ، وقوله : أم نحن المنشئون [ 56 \ 72 ] ، وقوله : خلقنا لهم مما عملت أيدينا [ 36 \ 71 ] ، لا يراد بشيء منه معنى الجمع ، وإنما يراد به التعظيم فقط . وقد أجاب أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب الإبانة بما يقرب من هذا في المعنى . واعلم أن لفظ اليدين قد يستعمل في اللغة العربية استعمالا خاصا ، بلفظ خاص لا تقصد به في ذلك النعمة ولا الجارحة ولا القدرة ، وإنما يراد به معنى أمام . واللفظ المختص بهذا المعنى هو لفظة اليدين التي أضيفت إليها لفظة " بين " خاصة ، أعني لفظة " بين يديه " ، فإن المراد بهذه اللفظة أمامه . وهو استعمال عربي معروف مشهور في لغة العرب لا يقصد فيه معنى الجارحة ولا النعمة ولا القدرة ، ولا أي صفة كائنة ما كانت . [ ص: 289 ] وإنما يراد به أمام فقط كقوله تعالى : وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه [ 34 \ 31 ] ، أي ولا بالذي كان أمامه سابقا عليه من الكتب . وكقوله : ومصدقا لما بين يديه من التوراة [ 5 \ 46 ] ، أي مصدقا لما كان أمامه متقدما عليه من التوراة . وكقوله : فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم [ 41 \ 25 ] ، فالمراد بلفظ " ما بين أيديهم " ما أمامهم . وكقوله تعالى : وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته [ 7 \ 57 ] ، أي يرسل الرياح مبشرات أمام رحمته التي هي المطر ، إلى غير ذلك من الآيات . ومما يوضح لك ذلك أنه لا يمكن تأويل اليدين في ذلك بنعمتين ولا قدرتين ولا جارحتين . ولا غير ذلك من الصفات ، فهذا أسلوب خاص دال على معنى خاص . بلفظ خاص مشهور في كلام العرب فلا صلة له باللفظ الدال على الجارحة ، بالنسبة إلى الإنسان ولا باللفظ الدال على صفة الكمال والجلال الثابتة لله تعالى . فافهم . وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتابه " مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين " الذي ذكر فيه أقوال جميع أهل الأهواء والبدع والمئولين والنافين لصفات الله أو بعضها ما نصه : جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وما جاء من عند الله ، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يردون من ذلك شيئا . وأن الله سبحانه إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأن الله سبحانه على عرشه ، كما قال : الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، وأن له يدين بلا كيف كما قال : خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، وكما قال : بل يداه مبسوطتان [ 5 \ 64 ] . إلى أن قال في كلامه هذا بعد أن سرد مذهب أهل السنة والجماعة - ما نصه : فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه ، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول ، وإليه [ ص: 290 ] نذهب ، وما توفيقنا إلا بالله ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وبه نستعين ، وعليه نتوكل ، وإليه المصير ، هذا لفظ أبي الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب المقالات المذكور . وبه تعلم أنه يؤمن بكل ما جاء عن الله في كتابه وما ثبت عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يرد من ذلك شيئا ولا ينفيه بل يؤمن به ويثبته لله ، بلا كيف ولا تشبيه ، كما هو مذهب أهل السنة . وقال أبو الحسن الأشعري أيضا في كتاب المقالات المذكور ما نصه : وقال أهل السنة وأصحاب الحديث : ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وإنه على العرش كما قال عز وجل : الرحمن على العرش استوى ولا نقدم بين يدي الله في القول ، بل نقول : استوى بلا كيف . ثم أطال الكلام رحمه الله في إثبات الصفات كما قدمنا عنه ، ثم قال ما نصه : وقالت المعتزلة : إن الله استوى على عرشه بمعنى استولى . انتهى محل الغرض منه بلفظه . فتراه صرح في كتاب المقالات المذكور ، بأن تأويل الاستواء بالاستيلاء ، هو قول المعتزلة لا قوله هو ، ولا قول أحد من أهل السنة . وزاد في كتاب الإبانة مع المعتزلة الجهمية والحرورية كما قدمنا . وبكل ما ذكرنا تعلم أن الأشعري رجع عن الاعتزال إلى مذهب السلف في آيات الصفات وأحاديثها . وقد قدمنا إيضاح الحق في آيات الصفات بالأدلة القرآنية بكثرة في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : ثم استوى على العرش [ 7 \ 54 ] . واعلم أن أئمة القائلين بالتأويل رجعوا قبل موتهم عنه ، لأنه مذهب غير مأمون العاقبة ; لأن مبناه على ادعاء أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها ، لا تليق بالله لظهورها وتبادرها في مشابهة صفات الخلق . ثم نفي تلك الصفات الواردة في الآيات والأحاديث ، لأجل تلك الدعوى الكاذبة المشئومة ، ثم تأويلها بأشياء أخر ، دون مستند من كتاب أو سنة ، أو قول صحابي أو أحد من السلف . وكل مذهب هذه حاله ، فإنه جدير بالعاقل المفكر أن يرجع عنه إلى مذهب السلف . ![]()
__________________
|
#500
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السابع الحلقة (498) سُورَةُ مُحَمَّدٍ صـ 291 إلى صـ 298 [ ص: 291 ] وقد أشار تعالى في سورة الفرقان أن وصف الله بالاستواء صادر عن خبير بالله ، وبصفاته عالم بما يليق به ، وبما لا يليق وذلك في قوله تعالى : الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا [ 25 \ 59 ] . فتأمل قوله : فاسأل به خبيرا ، بعد قوله : ثم استوى على العرش الرحمن ، تعلم أن من وصف الرحمن بالاستواء على العرش خبير بالرحمن وبصفاته لا يخفى عليه اللائق من الصفات وغير اللائق . فالذي نبأنا بأنه استوى على عرشه هو العليم الخبير الذي هو الرحمن . وقد قال تعالى : ولا ينبئك مثل خبير [ 35 \ 14 ] . وبذلك تعلم أن من يدعي أن الاستواء يستلزم التشبيه ، وأنه غير لائق - غير خبير ، نعم والله هو غير خبير . وسنذكر هنا إن شاء الله أن أئمة المتكلمين المشهورين رجعوا كلهم عن تأويل الصفات . أما كبيرهم الذي هو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى أبي الحسن الأشعري ، وهو القاضي محمد بن الطيب المعروف بأبي بكر الباقلاني ، فإنه كان يؤمن بالصفات على مذهب السلف ويمنع تأويلها منعا باتا ، ويقول فيها بمثل ما قدمنا عن الأشعري ، وسنذكر لك هنا بعض كلامه . قال الباقلاني المذكور في كتاب التمهيد ما نصه : باب في أن لله وجها ويدين ، فإن قال قائل : فما الحجة في أن لله عز وجل وجها ويدين ؟ قيل له : قوله : ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [ 55 \ 27 ] . وقوله : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، فأثبت لنفسه وجها ويدين . فإن قالوا : فما أنكرتم أن يكون المعنى في قوله : خلقت بيدي أنه خلقه بقدرته أو بنعمته ، لأن اليد في اللغة قد تكون بمعنى النعمة ، وبمعنى القدرة ، كما يقال : لي عند فلان يد بيضاء . يراد به نعمة . [ ص: 292 ] وكما يقال : هذا الشيء في يد فلان وتحت يد فلان ، يراد به أنه تحت قدرته وفي ملكه . ويقال : رجل أيد إذا كان قادرا . وكما قال تعالى : خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما [ 36 \ 71 ] ، يريد عملنا بقدرتنا . وقال الشاعر : إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين فكذلك قوله : خلقت بيدي يعني بقدرتي أو نعمتي . يقال لهم هذا باطل ; لأن قوله : بيدي يقتضي إثبات يدين هما صفة له . فلو كان المراد بهما القدرة لوجب أن يكون له قدرتان . وأنتم لا تزعمون أن للباري سبحانه قدرة واحدة ، فكيف يجوز أن تثبتوا له قدرتين ؟ وقد أجمع المسلمون من مثبتي الصفات والنافين لها على أنه لا يجوز أن يكون له تعالى قدرتان فبطل ما قلتم . وكذلك لا يجوز أن يكون الله تعالى خلق آدم بنعمتين ; لأن نعم الله تعالى على آدم وعلى غيره لا تحصى . ولأن القائل لا يجوز أن يقول : رفعت الشيء بيدي أو وضعته بيدي أو توليته بيدي وهو يعني نعمته . وكذلك لا يجوز أن يقال : لي عند فلان يدان يعني نعمتين . وإنما يقال لي عنده يدان بيضاوان ، لأن القول : يد - لا يستعمل إلا في اليد التي هي صفة الذات . ويدل على فساد تأويلهم أيضا أنه لو كان الأمر على ما قالوه لم يغفل عن ذلك إبليس ، وعن أن يقول : وأي فضل لآدم علي يقتضي أن أسجد له ، وأنا أيضا بيدك خلقتني التي هي قدرتك وبنعمتك خلقتني ؟ وفي العلم بأن الله تعالى فضل آدم عليه بخلقه بيديه - دليل على فساد ما قالوه . [ ص: 293 ] فإن قال قائل : فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة ؟ إذ كنتم لم تعقلوا يد صفة ووجه صفة لا جارحة . يقال له : لا يجب ذلك كما لا يجب إذا لم نعقل حيا عالما قادرا إلا جسما أن نقضي نحن وأنتم على الله تعالى بذلك . وكما لا يجب متى كان قائما بذاته أن يكون جوهرا أو جسما ، لأنا وإياكم لم نجد قائما بنفسه في شاهدنا إلا كذلك . انتهى محل الغرض منه بلفظه . وهو صريح في أنه يرى أن صفة الوجه ، وصفة اليد ، وصفة العلم ، والحياة والقدرة كلها من صفات المعاني ، ولا وجه للفرق بينها ، وجميع صفات الله مخالفة لجميع صفات خلقه . وقال الباقلاني أيضا في كتاب التمهيد ما نصه : فإن قالوا : فهل تقولون : إنه في كل مكان ؟ قيل : معاذ الله ، بل هو مستو على العرش كما أخبر في كتابه ، فقال : الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، وقال تعالى : إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [ 35 \ 10 ] ، وقال : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض . ولو كان في كل مكان ، لكان في جوف الإنسان وفمه وفي الحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها ، تعالى عن ذلك ، ولوجب أن يزيد بزيادة الأماكن إذ خلق منها ما لم يكن خلقه ، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان . ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى وراء ظهورنا وعن أيماننا وشمائلنا . وهذا ما قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله ، إلى أن قال رحمه الله : ولا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه عليه كما قال الشاعر : قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق لأن الاستيلاء هو القدرة والقهر ، والله تعالى لم يزل قادرا قاهرا عزيزا مقتدرا . وقوله : ثم استوى على العرش [ 25 \ 59 ] ، يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن فيبطل ما قالوه . [ ص: 294 ] فإن قال قائل : ففصلوا لي صفات ذاته من صفات أفعاله ، لأعرف ذلك . قيل له : صفات ذاته هي التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها . وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه والعينان واليدان . انتهى محل الغرض منه بلفظه . وقد نقلناه من نسخة هي أجود نسخة موجودة لكتاب التمهيد للباقلاني المذكور . وترى تصريحه فيها بأن صفة الوجه واليد من صفات المعاني كالحياة والعلم والقدرة والإرادة ، كما هو قول أبي الحسن الأشعري الذي قدمنا إيضاحه . واعلم أن إمام الحرمين ، أبا المعالي الجويني ، كان في زمانه من أعظم أئمة القائلين بالتأويل ، وقد قرر التأويل وانتصر له في كتابه الإرشاد . ولكنه رجع عن ذلك في رسالته العقيدة النظامية فإنه قال فيها : اختلف مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة ، وامتنع على أهل الحق فحواها وإجراؤها على موجب ما تبرزه أفهام أرباب اللسان منها . فرأى بعضهم تأويلها ، والتزام هذا المنهج في آي الكتاب ، وفيما صح من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم . وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها ، وتفويض معانيها إلى الرب سبحانه . والذي نرتضيه رأيا وندين لله به عقدا - اتباع سلف الأمة ، فالأولى الاتباع وترك الابتداع ، والدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة ، وهو مستند معظم الشريعة . وقد درج صحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام والمشتغلون بأعباء الشريعة . وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها . [ ص: 295 ] فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة . فإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك قاطعا بأنه الوجه المتبع بحق . فعلى ذي الدين أن يعتقد تنزه الرب تعالى عن صفات المحدثات ، ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب . ومما استحسن من إمام دار الهجرة مالك بن أنس أنه سئل عن قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، فقال : الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة . فلتجر آية الاستواء والمجيء وقوله : لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، ويبقى وجه ربك [ 55 \ 27 ] ، وقوله : تجري بأعيننا [ 54 \ 14 ] ، وما صح عن الرسول عليه السلام كخبر النزول وغيره على ما ذكرنا ، فهذا بيان ما يجب لله تعالى . انتهى كلامه بلفظه من الرسالة النظامية المذكورة مع أن رجوع الجويني فيها إلى أن الحق هو مذهب السلف أمر معلوم . وكذلك أبو حامد الغزالي ، كان في زمانه من أعظم القائلين بالتأويل ، ثم رجع عن ذلك ، وبين أن الحق الذي لا شك فيه هو مذهب السلف . وقال في كتابه : إلجام العوام عن علم الكلام : اعلم أن الحق الصريح الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر - هو مذهب السلف ، أعني الصحابة والتابعين ، ثم قال : إن البرهان الكلي على أن الحق في مذهب السلف وحده ينكشف بتسليم أربعة أصول مسلمة عند كل عاقل . ثم بين أن الأول من تلك الأصول المذكورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أعرف الخلق بصلاح أحوال العباد في دينهم ودنياهم . الأصل الثاني : أنه بلغ كل ما أوحي إليه من صلاح العباد في معادهم ومعاشهم ، ولم يكتم منه شيئا . [ ص: 296 ] الأصل الثالث : أن أعرف الناس بمعاني كلام الله وأحراهم بالوقوف على أسراره هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين لازموه وحضروا التنزيل وعرفوا التأويل . والأصل الرابع : أن الصحابة رضي الله عنهم في طول عصرهم إلى آخر أعمارهم ما دعوا الخلق إلى التأويل ، ولو كان التأويل من الدين أو علم الدين لأقبلوا عليه ليلا ونهارا ودعوا إليه أولادهم وأهلهم . ثم قال الغزالي : وبهذه الأصول الأربعة المسلمة عند كل مسلم نعلم بالقطع أن الحق ما قالوه والصواب ما رأوه . انتهى باختصار . ولا شك أن استدلال الغزالي هذا لأن مذهب السلف هو الحق - استدلال لا شك في صحته ، ووضوح وجه الدليل فيه ، وأن التأويل لو كان سائغا أو لازما لبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، ولقال به أصحابه وتابعوهم كما لا يخفى . وذكر غير واحد عن الغزالي أنه رجع في آخر حياته إلى تلاوة كتاب الله وحفظ الأحاديث الصحيحة والاعتراف بأن الحق هو ما في كتاب الله وسنة رسوله . وذكر بعضهم أنه مات وعلى صدره صحيح البخاري رحمه الله . واعلم أيضا أن الفخر الرازي الذي كان في زمانه أعظم أئمة التأويل - رجع عن ذلك المذهب إلى مذهب السلف معترفا بأن طريق الحق هي اتباع القرآن في صفات الله . وقد قال في ذلك في كتابه : أقسام اللذات : لقد اختبرت الطرق الكلامية ، والمناهج الفلسفية ، فلم أجدها تروي غليلا ، ولا تشفي عليلا ، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ، أقرأ في الإثبات : الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، إليه يصعد الكلم الطيب [ 35 \ 10 ] ، وفي النفي : ليس كمثله شيء [ 42 \ 11 ] ، هل تعلم له سميا [ 19 \ 65 ] ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي . ا هـ . وقد بين هذا المعنى في أبياته المشهورة التي يقول فيها : نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال [ ص: 297 ] إلى آخر الأبيات . وكذلك غالب أكابر الذين كانوا يخوضون في الفلسفة والكلام ، فإنه ينتهي بهم أمرهم إلى الحيرة وعدم الثقة بما كانوا يقررون . وقد ذكر عن الحفيد ابن رشد وهو من أعلم الناس بالفلسفة أنه قال : ومن الذي قال في الإلهيات شيئا يعتد به ؟ وذكروا عن الشهرستاني أنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم ، وقد قال في ذلك : لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم وأمثال هذا كثيرة . فيا أيها المعاصرون المتعصبون لدعوى أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها خبيث لا يليق بالله لاستلزامه التشبيه بصفات الخلق ، وأنها يجب نفيها وتأويلها بمعان ما أنزل الله بها من سلطان ، ولم يقلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أصحابه ولا من التابعين . فمن هو سلفكم في هذه الدعوى الباطلة المخالفة لإجماع السلف ؟ إن كنتم تزعمون أن الأشعري يقول مثل قولكم ، وأنه سلفكم في ذلك فهو بريء منكم ومن دعواكم . وهو مصرح في كتبه التي صنفها بعد الرجوع عن الاعتزال أن القائلين بالتأويل هم المعتزلة ، وهم خصومه وهو خصمهم ، كما أوضحنا كلامه في الإباحة والمقالات . وقد بينا أن أساطين القول بالتأويل قد اعترفوا بأن التأويل لا مستند له ، وأن الحق هو اتباع مذهب السلف كما أوضحنا ذلك عن أبي بكر الباقلاني ، وأبي المعالي الجويني ، وأبي حامد الغزالي ، وأبي عبد الله الفخر الرازي ، وغيرهم ممن ذكرنا . فنوصيكم وأنفسنا بتقوى الله ، وألا تجادلوا في آيات الله بغير سلطان أتاكم ، والله - جل وعلا - يقول في كتابه : إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير [ 40 \ 56 ] . [ ص: 298 ] ويقول تعالى : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير [ 31 \ 20 - 21 ] . المسألة الثانية في الكلام على الاجتهاد . اعلم أولا أنا قدمنا بطلان قول الظاهرية بمنع الاجتهاد مطلقا ، وأن من الاجتهاد ما هو صحيح موافق للشرع الكريم ، وبسطنا أدلة ذلك بإيضاح في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية [ 21 \ 78 ] . وبينا طرفا منه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم [ 17 \ 36 ] ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا . وغرضنا في هذه المسألة هو أن نبين أن تدبر القرآن وانتفاع متدبره بالعمل بما علم منه الذي دل عليه قوله تعالى في هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها التي هي قوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها لا يتوقف على تحصيل الاجتهاد المطلق بشروطه المعروفة عند متأخري الأصوليين . اعلم أولا : أن المتأخرين من أهل الأصول الذين يقولون بمنع العمل بالكتاب والسنة مطلقا إلا للمجتهدين ، يقولون : إن شروط الاجتهاد هي كون المجتهد بالغا ، عاقلا شديد الفهم . طبعا عارفا بالدليل العقلي ، الذي هو استصحاب العدم الأصلي ، حتى يرد نقل صارف عنه . عارفا باللغة العربية ، وبالنحو من صرف وبلاغة مع معرفة الحقائق الشرعية والعرفية . وبعضهم يزيد المحتاج إليه من فن المنطق كشرائط الحدود ، والرسوم ، وشرائط البرهان . عارفا بالأصول ، عارفا بأدلة الأحكام من الكتاب والسنة . ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |