تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ - الصفحة 48 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         موقعة فارنا حزب الشيطان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          الجهر بالدعوة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          سلسلة أفقاه لا يستغني عنها الداعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 4 - عددالزوار : 935 )           »          (بيعة العقبة الأولى) قراءة دعوية لبنود البيعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 373 )           »          أقنعة الغزو الفكري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          بغضي لأهلي أوقعني في الإباحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          سنوات سبع عجاف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          أعراض اكتئاب أم احتراق وظيفي؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          مرض الفصام وتضييع الفرائض (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          حياتي ممزقة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #471  
قديم 03-02-2023, 10:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,710
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (469)
سُورَةُ الشُّورَى
صـ 59 إلى صـ 66



[ ص: 59 ] ومثاله في الإشارة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك [ 2 \ 68 ] أي بين ذلك المذكور من فارض وبكر ، وقول عبد الله بن الزبعرى السهمي :
إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل


أي كلا ذلك المذكور من الخير والشر .

وقول من قال ، إن الضمير في قوله : ( فيه ) راجع إلى الرحم ، وقول من قال : راجع إلى البطن ، ومن قال : راجع إلى الجعل المفهوم من ( جعل ) وقول من قال : راجع إلى التدبير ، ونحو ذلك من الأقوال خلاف الصواب .

والتحقيق - إن شاء الله - هو ما ذكرنا ، والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .

وقد قدمنا الكلام عليه في سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : ثم استوى على العرش [ 7 \ 54 ] .
قوله - تعالى - : له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر .

مقاليد السموات والأرض هي مفاتيحهما ، وهو جمع لا واحد له من لفظه ، فمفردها إقليد ، وجمعها مقاليد على غير قياس ، والإقليد المفتاح . وقيل : واحدها مقليد ، وهو قول غير معروف في اللغة .

وكونه - جل وعلا - له مقاليد السماوات والأرض أي مفاتيحهما ، كناية عن كونه - جل وعلا - هو وحده المالك لخزائن السماوات والأرض ; لأن ملك مفاتيحها يستلزم ملكها .

وقد ذكر - جل وعلا - مثل هذا في سورة " الزمر " في قوله - تعالى - : الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السماوات والأرض الآية [ 39 \ 62 - 63 ] .

وما دلت عليه آية " الشورى " هذه وآية " الزمر " المذكورتان من أنه - جل وعلا - هو مالك خزائن السماوات والأرض ، جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون [ 63 \ 7 ] . وقوله - تعالى - : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم [ 15 \ 21 ] .

[ ص: 60 ] وبين في مواضع أخر أن خزائن رحمته لا يمكن أن تكون لغيره ، كقوله - تعالى - : أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب [ 38 \ 9 ] . وقوله - تعالى - أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون [ 52 \ 37 ] . وقوله - تعالى - قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا [ 17 \ 100 ] .

وقوله في هذه الآية الكريمة : يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر جاء معناه موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له الآية [ 34 \ 39 ] . وقوله - تعالى - : قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون [ 34 \ 36 ] . وقوله - تعالى - : الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا الآية [ 13 \ 26 ] . وقوله - تعالى - : والله فضل بعضكم على بعض في الرزق الآية [ 16 \ 71 ] . وقوله - تعالى - : نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا الآية [ 43 \ 32 ] . وقوله - تعالى - : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما الآية [ 4 \ 135 ] . وقوله - تعالى - : لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله الآية [ 65 \ 7 ] . وقوله - تعالى - : ومن قدر عليه رزقه [ 65 \ 7 ] أي ضيق عليه رزقه لقلته . وكذلك قوله : يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر في الآيات المذكورة .

أي يبسط الرزق لمن يشاء بسطه له ويقدر ، أي يضيق الرزق على من يشاء تضييقه عليه ، كما أوضحناه في سورة " الأنبياء " في الكلام على قوله - تعالى - : فظن أن لن نقدر عليه [ 21 \ 87 ] .

وقد بين - جل وعلا - في بعض الآيات حكمة تضييقه للرزق على من ضيقه عليه .

وذكر أن من حكم ذلك أن بسط الرزق للإنسان ، قد يحمله على البغي والطغيان ، كقوله - تعالى - : ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير [ 42 \ 27 ] . وقوله - تعالى - : كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [ 96 \ 6 ] .
قوله - تعالى - : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة " الأحزاب " في الكلام على قوله - تعالى - : [ ص: 61 ] وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح الآية [ 33 \ 7 ] .
قوله - تعالى - : ولا تتفرقوا فيه .

الضمير في قوله : ( فيه ) ، راجع إلى الدين في قوله : ( أن أقيموا الدين ) .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن الافتراق في الدين - جاء مبينا في غير هذا الموضع ، وقد بين - تعالى - أنه وصى خلقه بذلك ، فمن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا الآية [ 3 \ 103 ] . وقوله - تعالى - : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [ 6 \ 153 ] . وقد بين - تعالى - في بعض المواضع أن بعض الناس لا يجتنبون هذا النهي ، وهددهم على ذلك ، كقوله - تعالى - : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون [ 6 \ 159 ] . لأن قوله : لست منهم في شيء إلى قوله : يفعلون - فيه تهديد عظيم لهم .

وقوله - تعالى - في سورة " قد أفلح المؤمنون " : وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم في غمرتهم حتى حين [ 23 \ 52 - 54 ] .

فقوله : وإن هذه أمتكم أمة واحدة أي : إن هذه شريعتكم شريعة واحدة ، ودينكم دين واحد ، وربكم واحد فلا تتفرقوا في الدين .

وقوله - جل وعلا - : فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا دليل على أنهم لم يجتنبوا ما نهوا عنه من ذلك .

وقوله - تعالى - : فذرهم في غمرتهم حتى حين فيه تهديد لهم ووعيد عظيم على ذلك . ونظير ذلك قوله - تعالى - في سورة " الأنبياء " : إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون [ 21 \ 92 - 93 ] . فقوله - تعالى - : كل إلينا راجعون فيه أيضا تهديد لهم ووعيد على ذلك ، وقد أوضحنا تفسير هذه الآيات في آخر سورة " الأنبياء " في الكلام على قوله - تعالى - : إن هذه أمتكم أمة واحدة الآية [ 21 \ 93 ] .

[ ص: 62 ] وقد جاء في الحديث المشهور افتراق اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافتراق النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة ، وافتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة ، وأن الناجية منها واحدة ، وهي التي كانت على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .
قوله - تعالى - : كبر على المشركين ما تدعوهم إليه .

بين - جل وعلا - أنه ( كبر على المشركين ) أي شق عليهم وعظم ما يدعوهم إليه - صلى الله عليه وسلم - من عبادة الله - تعالى - وحده ، وطاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه ، ولعظم ذلك ومشقته عليهم كانوا يكرهون ما أنزل الله ، ويجتهدون في عدم سماعه لشدة كراهتهم له ، بل يكادون يبطشون بمن يتلو عليهم آيات ربهم لشدة بغضهم وكراهتهم لها .

والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة في كتاب الله ، وفيها بيان أن ذلك هو عادة الكافرين مع جميع الرسل من عهد نوح إلى عهد محمد - صلى الله عليه وسلم - .

فقد بين - تعالى - مشقة ذلك على قوم نوح وكبره عليهم في مواضع من كتابه ، كقوله - تعالى - : واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت الآية [ 10 \ 71 ] . وقوله - تعالى - عن نوح : وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا [ 71 \ 7 ] .

فقوله - تعالى - : جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم يدل دلالة واضحة على شدة بغضهم وكراهتهم لما يدعوهم إليه نوح ، فهو واضح في أنهم كبر عليهم ما يدعوهم إليه من توحيد الله والإيمان به .

وقد بين الله - تعالى - مثل ذلك في الكفار الذين كذبوا نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - في آيات من كتابه ، كقوله - تعالى - : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا [ 22 \ 72 ] . فقوله - تعالى - : تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر الآية - يدل دلالة واضحة على شدة بغضهم وكراهيتهم لسماع تلك الآيات .

وكقوله - تعالى - : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه الآية [ 41 \ 26 ] . وقوله - تعالى - في " الزخرف " : لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون [ 43 \ 78 ] . [ ص: 63 ] وقوله - تعالى - في " قد أفلح المؤمنون " : أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون [ 23 \ 70 ] . وقوله - تعالى - في " القتال " : ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم [ 47 \ 9 ] . وقوله - تعالى - : تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم [ 45 \ 6 - 8 ] . وقوله - تعالى - : وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم [ 31 \ 7 ] . وقوله - تعالى - : وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب الآية [ 41 \ 5 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .

واعلم أن هؤلاء الذين يكرهون ما أنزل الله يجب على كل مسلم أن يحذر كل الحذر من أن يطيعهم في بعض أمرهم; لأن ذلك يستلزم نتائج سيئة متناهية في السوء ، كما أوضح - تعالى - ذلك في قوله : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [ 47 \ 24 - 28 ] . فعلى كل مسلم أن يحذر ثم يحذر ثم يحذر كل الحذر من أن يقول للذين كفروا ، الذين يكرهون ما أنزل الله - : سنطيعكم في بعض الأمر ; لأن ذلك يسبب له ما ذكره الله في الآيات المذكورة ، ويكفيه زجرا وردعا عن ذلك قول ربه - تعالى - : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم إلى قوله فأحبط أعمالهم [ 47 \ 27 - 28 ] .
قوله - تعالى - : الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب .

الاجتباء في اللغة العربية معناه الاختيار والاصطفاء .

وقد دلت هذه الآية الكريمة على أنه - تعالى - يجتبي من خلقه من يشاء اجتباءه .

وقد بين في مواضع أخر بعض من شاء اجتباءه من خلقه ، فبين أن منهم المؤمنين من هذه الأمة في قوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير إلى قوله : هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 \ 77 - 78 ] .

[ ص: 64 ] وقوله - تعالى - : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا الآية [ 35 \ 32 ] .

وبين في موضع آخر أن منهم آدم ، وهو قوله - تعالى - : ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [ 20 \ 122 ] . وذكر أن منهم إبراهيم في قوله : إن إبراهيم كان أمة إلى قوله شاكرا لأنعمه اجتباه الآية [ 16 \ 120 - 121 ] . إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اجتباء بعض الخلق بالتعيين .

وقوله - تعالى - : ويهدي إليه من ينيب أي من سبق في علمه أنه ينيب إلى الله ، أي يرجع إلى ما يرضيه من الإيمان والطاعة ، ونظير هذه الآية قوله - تعالى - في سورة " الرعد " : قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب [ 13 \ 27 ] .
قوله - تعالى - : وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم .

تقدمت الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " في الكلام على قوله - تعالى - : وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم [ 2 \ 136 ] .
قوله - تعالى - : الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان .

بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي أنزل الكتاب في حال كونه متلبسا بالحق الذي هو ضد الباطل ، وقوله : الكتاب اسم جنس مراد به جميع الكتب السماوية .

وقد أوضحنا في سورة " الحج " أن المفرد الذي هو اسم الجنس يطلق مرادا به الجمع ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك مع الشواهد العربية .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : والميزان يعني أن الله - جل وعلا - هو الذي أنزل الميزان ، والمراد به العدل والإنصاف .

وقال بعض أهل العلم : الميزان في الآية هو آلة الوزن المعروفة .

ومما يؤيد ذلك أن الميزان مفعال ، والمفعال قياسي في اسم الآلة .

وعلى التفسير الأول - وهو أن الميزان العدل والإنصاف - فالميزان الذي هو آلة الوزن المعروفة داخل فيه ; لأن إقامة الوزن بالقسط من العدل والإنصاف .

[ ص: 65 ] وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الله - تعالى - هو الذي أنزل الكتاب والميزان - أوضحه في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في سورة " الحديد " : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط [ 57 \ 25 ] .

فصرح - تعالى - بأنه أنزل مع رسله الكتاب والميزان لأجل أن يقوم الناس بالقسط ، وهو العدل والإنصاف . وكقوله - تعالى - في سورة " الرحمن " : والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان [ 55 \ 7 - 9 ] .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي والله - تعالى - أعلم : أن الميزان في سورة " الشورى " وسورة " الحديد " هو العدل والإنصاف ، كما قاله غير واحد من المفسرين .

وأن الميزان في سورة " الرحمن " هو الميزان المعروف ، أعني آلة الوزن التي يوزن بها بعض المبيعات .

ومما يدل على ذلك أنه في سورة " الشورى " وسورة " الحديد " عبر بإنزال الميزان لا بوضعه ، وقال في سورة " الشورى " : الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان . وقال في " الحديد " : وأنزلنا معهم الكتاب والميزان [ 57 \ 25 ] .

وأما في سورة " الرحمن " فقد عبر بالوضع لا الإنزال ، قال : والسماء رفعها ووضع الميزان [ 55 \ 7 ] . ثم أتبع ذلك بما يدل على أن المراد به آلة الوزن المعروفة ، وذلك في قوله : وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان [ 55 \ 9 ] لأن الميزان الذي نهوا عن إخساره هو أخو المكيال ، كما قال - تعالى - : أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم [ 26 \ 181 - 183 ] . وقال - تعالى - : ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون [ 83 \ 1 - 3 ] . وقال - تعالى - عن نبيه شعيب : ولا تنقصوا المكيال والميزان الآية [ 11 \ 84 ] . وقال - تعالى - عنه أيضا : قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان الآية [ 7 \ 85 ] . وقال - تعالى - في سورة " الأنعام " : وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها [ 6 \ 152 ] . وقال - تعالى - في سورة " بني [ ص: 66 ] إسرائيل " : وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا .

فإن قيل : قد اخترتم أن المراد بالميزان في سورة " الشورى " وسورة " الحديد " - هو العدل والإنصاف ، وأن المراد بالميزان في سورة " الرحمن " هو آلة الوزن المعروفة ، وذكرتم نظائر ذلك من الآيات القرآنية ، وعلى هذا الذي اخترتم يشكل الفرق بين الكتاب والميزان ; لأن الكتب السماوية كلها عدل وإنصاف .

فالجواب من وجهين : الأول منهما : هو ما قدمنا مرارا من أن الشيء الواحد إذا عبر عنه بصفتين مختلفتين جاز عطفه على نفسه تنزيلا للتغاير بين الصفات منزلة التغاير في الذوات ، ومن أمثلة ذلك في القرآن قوله - تعالى - : سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى [ 87 \ 1 - 4 ] . فالموصوف واحد والصفات مختلفة ، وقد ساغ العطف لتغاير الصفات . ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم


وأما الوجه الثاني : فهو ما أشار إليه العلامة ابن القيم - رحمه الله - في أعلام الموقعين ، من المغايرة في الجملة بين الكتاب والميزان .

وإيضاح ذلك : أن المراد بالكتاب هو العدل والإنصاف المصرح به في الكتب السماوية .

وأما الميزان : فيصدق بالعدل والإنصاف الذي لم يصرح به في الكتب السماوية ، ولكنه معلوم مما صرح به فيها .

فالتأفيف في قوله - تعالى - : فلا تقل لهما أف [ 17 \ 23 ] . من الكتاب ; لأنه مصرح به في الكتاب ، ومنع ضرب الوالدين مثلا المدلول عليه بالنهي على التأفيف من الميزان ، أي من العدل والإنصاف الذي أنزله الله مع رسله .

وقبول شهادة العدلين في الرجعة والطلاق المنصوص في قوله - تعالى - : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 \ 2 ] من الكتاب الذي أنزله الله ; لأنه مصرح به فيه .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #472  
قديم 03-02-2023, 10:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,710
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (470)
سُورَةُ الشُّورَى
صـ 67 إلى صـ 74



[ ص: 67 ] وقبول شهادة أربعة عدول في ذلك من الميزان الذي أنزله الله مع رسله .

وتحريم أكل مال اليتيم المذكور في قوله : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا الآية [ 4 \ 10 ] - من الكتاب .

وتحريم إغراق مال اليتيم وإحراقه المعروف من ذلك - من الميزان الذي أنزله الله مع رسله .

وجلد القاذف الذكر للمحصنة الأنثى ثمانين جلدة ورد شهادته ، والحكم بفسقه المنصوص في قوله : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة إلى قوله إلا الذين تابوا الآية [ 24 \ 4 - 5 ] - من الكتاب الذي أنزله الله .

وعقوبة القاذف الذكر لذكر مثله ، والأنثى القاذفة للذكر أو لأنثى بمثل تلك العقوبة المنصوصة في القرآن - من الميزان المذكور .

وحلية المرأة التي كانت مبتوتة ، بسبب نكاح زوج ثان وطلاقه لها بعد الدخول ، المنصوص في قوله - تعالى - : فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا [ 2 \ 230 ] أي فإن طلقها الزوج الثاني بعد الدخول وذوق العسيلة - فلا جناح عليهما ، أي لا جناح على المرأة التي كانت مبتوتة ، والزوج الذي كانت حراما عليه - أن يتراجعا بعد نكاح الثاني وطلاقه لها - من الكتاب الذي أنزل الله .

وأما إن مات الزوج الثاني بعد أن دخل بها وكان موته قبل أن يطلقها ، فحليتها للأول الذي كانت حراما عليه - من الميزان الذي أنزله الله مع رسله .

وقد أشرنا إلى كلام ابن القيم المذكور ، وأكثرنا من الأمثلة لذلك في سورة " الأنبياء " في كلامنا الطويل على قوله - تعالى - : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية [ 21 \ 78 ] .
قوله - تعالى - : وما يدريك لعل الساعة قريب .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : أتى أمر الله فلا تستعجلوه الآية [ 16 \ 1 ] . وفي سورة " الأحزاب " في الكلام على قوله [ ص: 68 ] - تعالى - : وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا [ 33 \ 63 ] . وفي سورة " المؤمن " في الكلام على قوله - تعالى - : وأنذرهم يوم الآزفة الآية [ 40 \ 18 ] .
قوله - تعالى - : يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق .

ذكر - تعالى - في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل : الأولى : أن الكفار الذين لا يؤمنون بالساعة يستعجلون بها ، أي يطلبون تعجيلها عليهم ، لشدة إنكارهم لها .

والثانية : أن المؤمنين مشفقون منها ، أي خائفون منها .

والثالثة : أنهم يعلمون أنها الحق ، أي أن قيامها ووقوعها حق لا شك فيه .

وكل هذه المسائل الثلاث المذكورة في هذه الآية الكريمة جاءت موضحة في غير هذا الموضع .

أما استعجالهم لها فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الرعد " في الكلام على قوله - تعالى - : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات [ 13 \ 6 ] . وفي غير ذلك من المواضع .

وأما المسألة الثانية التي هي إشفاق المؤمنين وخوفهم من الساعة ، فقد ذكره في مواضع أخر ، كقوله - تعالى - : الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون [ 21 \ 49 ] . وقوله - تعالى - : يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار [ 24 \ 37 ] . وقوله - تعالى - : يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا [ 76 \ 7 ] .

وأما المسألة الثالثة وهي علمهم أن الساعة حق ، فقد دلت عليه الآيات المصرحة بأنها لا ريب فيها ; لأنها تتضمن نفي الريب فيها عن المؤمنين .

والريب : الشك ، كقوله - تعالى - عن الراسخين في العلم : ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه الآية [ 3 \ 9 ] . وقوله - تعالى - : الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الآية [ 4 \ 87 ] . وقوله - تعالى - : فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه الآية [ 3 \ 25 ] . وقوله - تعالى - : وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه الآية [ 42 \ 7 ] . وقوله - تعالى - : [ ص: 69 ] ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور [ 22 \ 6 - 7 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : يمارون ، مضارع مارى يماري مراء ومماراة ، إذا خاصم وجادل .

ومنه قوله - تعالى - : فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا [ 18 \ 22 ] .

وقوله : لفي ضلال بعيد ، أي بعيد عن الحق والصواب .

وقد قدمنا معاني الضلال في القرآن واللغة العربية ، مع الشواهد في سورة " الشعراء " في الكلام على قوله - تعالى - : قال فعلتها إذا وأنا من الضالين [ 26 \ 20 ] . وفي مواضع أخر من هذا الكتاب المبارك .
قوله - تعالى - : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى . قد بينا في سورة " هود " في الكلام على قوله - تعالى - : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا الآية [ 11 \ 29 ] - أن جميع الرسل - عليهم الصلوات والسلام - لا يأخذون أجرا على التبليغ ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك .

وقد ذكرنا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " وجه الجمع بين تلك الآيات وآية " الشورى " هذه ، فقلنا فيه :

اعلم أولا أن في قوله - تعالى - : إلا المودة في القربى أربعة أقوال : الأول : ما رواه الشعبي وغيره عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد وقتادة وعكرمة وأبو مالك والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم ، كما نقله عنهم ابن جرير وغيره - أن معنى الآية قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ، أي إلا أن تودوني في قرابتي التي بيني وبينكم ، فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذى الناس ، كما تمنعون كل من بينكم وبينه مثل قرابتي منكم ، وكان - صلى الله عليه وسلم - له في كل بطن من قريش رحم ، فهذا الذي سألهم ليس [ ص: 70 ] بأجر على التبليغ ; لأنه مبذول لكل أحد ; لأن كل أحد يوده أهل قرابته وينتصرون له من أذى الناس .

وقد فعل له ذلك أبو طالب ولم يكن يسأل أجرا على التبليغ ; لأنه لم يؤمن .

وإذا كان لا يسأل أجرا إلا هذا الذي ليس بأجر - تحقق أنه لا يسأل أجرا ، كقول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب


ومثل هذا يسميه البلاغيون تأكيد المدح بما يشبه الذم .

وهذا القول هو الصحيح في الآية ، واختاره ابن جرير ، وعليه فلا إشكال .

الثاني : أن معنى الآية إلا المودة في القربى ، أي لا تؤذوا قرابتي وعترتي ، واحفظوني فيهم ، ويروى هذا القول عن سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وعلي بن الحسين ، وعليه فلا إشكال أيضا .

لأن المودة بين المسلمين واجبة فيما بينهم ، وأحرى قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال - تعالى - : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [ 9 \ 71 ] . وفي الحديث " مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " وقال - صلى الله عليه وسلم - " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " . والأحاديث في مثل هذا كثيرة جدا .

وإذا كان نفس الدين يوجب هذا بين المسلمين ، تبين أنه غير عوض عن التبليغ .

وقال بعض العلماء : الاستثناء منقطع على كلا القولين ، وعليه فلا إشكال .

فمعناه على القول الأول لا أسألكم عليه أجرا لكن أذكركم قرابتي فيكم .

وعلى الثاني : لكن أذكركم الله في قرابتي ، فاحفظوني فيهم .

القول الثالث - وبه قال الحسن - : ( إلا المودة في القربى ) أي إلا أن تتوددوا إلى الله ، وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح ، وعليه فلا إشكال ; لأن التقرب إلى الله ليس أجرا على التبليغ .

[ ص: 71 ] القول الرابع : ( إلا المودة في القربى ) أي إلا أن تتوددوا إلى قراباتكم وتصلوا أرحامكم ، ذكر ابن جرير هذا القول عن عبد الله بن قاسم ، وعليه أيضا فلا إشكال .

لأن صلة الإنسان رحمه ليست أجرا على التبليغ ، فقد علمت الصحيح في تفسير الآية ، وظهر لك رفع الإشكال على جميع الأقوال .

وأما القول بأن قوله - تعالى - : إلا المودة في القربى - منسوخ بقوله - تعالى - : قل ما سألتكم من أجر فهو لكم [ 34 \ 47 ] - فهو ضعيف ، والعلم عند الله - تعالى - . انتهى منه .

وقد علمت مما ذكرنا فيه أن القول الأول هو الصحيح في معنى الآية .

مع أن كثيرا من الناس يظنون أن القول الثاني هو معنى الآية ، فيحسبون أن معنى إلا المودة في القربى إلا أن تودوني في أهل قرابتي .

وممن ظن ذلك محمد السجاد ; حيث قال لقاتله يوم الجمل : أذكرك " حم " يعني سورة " الشورى " هذه ، ومراده أنه من أهل قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيلزم حفظه فيهم ; لأن الله - تعالى - قال في " حم " هذه : إلا المودة في القربى فهو يريد المعنى المذكور ، يظنه هو المراد بالآية ، ولذا قال قاتله في ذلك :
يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقدم


وقد ذكرنا هذا البيت والأبيات التي قبله في أول سورة " هود " ، وذكرنا أن البخاري ذكر البيت المذكور في سورة " المؤمن " ، وذكرنا الخلاف في قائل الأبيات الذي قتل محمدا السجاد بن طلحة بن عبيد الله يوم الجمل ، هل هو شريح بن أبي أوفى العبسي ، كما قال البخاري ، أو الأشتر النخعي ، أو عصام بن مقشعر ، أو مدلج بن كعب السعدي ، أو كعب بن مدلج .

وممن ظن أن معنى الآية هو ما ظنه محمد السجاد المذكور - الكميت في قوله في أهل قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :


وجدنا لكم في آل حاميم آية تأولها منا تقي ومعرب


والتحقيق - إن شاء الله - أن معنى الآية هو القول الأول إلا المودة في القربى [ ص: 72 ] أي إلا أن تودوني في قرابتي فيكم وتحفظوني فيها ، فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذى الناس ، كما هو شأن أهل القرابات .
قوله - تعالى - : ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا . الاقتراف معناه الاكتساب ، أي من يعمل حسنة من الحسنات ويكتسبها - نزد له فيها حسنا ، أي نضاعفها له .

فمضاعفة الحسنات هي الزيادة في حسنها ، وهذا المعنى توضحه آيات من كتاب الله - تعالى - كقوله - تعالى - : وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ 4 \ 40 ] . وقوله - تعالى - : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [ 6 \ 160 ] . وقوله - تعالى - : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة [ 2 \ 245 ] . وقوله - تعالى - : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا [ 73 \ 20 ] . فكونه خيرا وأعظم أجرا زيادة في حسنه ، كما لا يخفى . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات .

بين - تعالى - في هذه الآية الكريمة أنه هو وحده الذي يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات ، وقد جاء ذلك موضحا في مواضع أخر ، كقوله - تعالى - : ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم [ 9 \ 104 ] . وقوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم الآية [ 66 \ 8 ] . وقوله - تعالى - : ومن يغفر الذنوب إلا الله [ 3 \ 135 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وقد قدمنا معنى التوبة وأركانها وإزالة ما في أركانها من الإشكال في سورة " النور " في الكلام على قوله - تعالى - : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون [ 24 \ 31 ] .
قوله - تعالى - : ولكن ينزل بقدر ما يشاء .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه ينزل ما يشاء تنزيله من الأرزاق وغيرها [ ص: 73 ] بقدر ، أي بمقدار معلوم عنده - جل وعلا - وهو - جل وعلا - أعلم بالحكمة والمصلحة في مقدار كل ما ينزله . وقد أوضح هذا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم [ 15 \ 21 ] . وقوله - تعالى - : وكل شيء عنده بمقدار [ 13 \ 8 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وما أنتم بمعجزين في الأرض الآية .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " النور " في الكلام على قوله - تعالى - : لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار الآية [ 24 \ 57 ] .
قوله - تعالى - : ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام .

قوله : ( ومن آياته ) أي من علاماته الدالة على قدرته واستحقاقه للعبادة وحده - الجواري وهي السفن ، واحدتها جارية ، ومنه قوله - تعالى - : إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية [ 69 \ 11 ] يعني سفينة نوح ، وسميت جارية لأنها تجري في البحر .

وقوله : ( كالأعلام ) ، أي كالجبال ، شبه السفن بالجبال لعظمها .

وعن مجاهد أن الأعلام القصور ، وعن الخليل أن كل مرتفع تسميه العرب علما ، وجمع العلم أعلام .

وهذا الذي ذكره الخليل معروف في اللغة ، ومنه قول الخنساء ترثي أخاها صخرا :
وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار


وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن جريان السفن في البحر من آياته - تعالى - الدالة على كمال قدرته - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين [ 36 \ 41 - 44 ] . وقوله - تعالى - : فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين [ 29 \ 15 ] . وقوله - تعالى - : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس إلى قوله : لآيات لقوم يعقلون [ 2 \ 164 ] . وقوله - تعالى - في سورة " النحل " : وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله الآية [ 19 \ 14 ] . وقوله في " فاطر " : [ ص: 74 ] وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله الآية [ 35 \ 12 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

وقرأ هذا الحرف نافع وأبو عمرو ( الجواري ) بياء ساكنة بعد الراء في الوصل فقط دون الوقف ، وقرأه ابن كثير بالياء المذكور في الوصل والوقف معا ، وقرأه الباقون ( الجوار ) بحذف الياء في الوصل والوقف معا .
قوله - تعالى - : والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش .

قرأ هذا الحرف حمزة والكسائي ( كبير الإثم ) ، بكسر الباء بعدها ياء ساكنة وراء على صيغة الإفراد .

وقرأه الباقون بفتح الباء بعدها ألف فهمزة مكسورة قبل الراء على صيغة الجمع .

وقوله : والذين في محل جر عطفا على قوله : وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون أي وخير وأبقى أيضا للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش .

والفواحش جمع فاحشة . والتحقيق - إن شاء الله - أن الفواحش من جملة الكبائر .

والأظهر أنها من أشنعها; لأن الفاحشة في اللغة هي الخصلة المتناهية في القبح ، وكل متشدد في شيء مبالغ فيه فهو فاحش فيه .

ومنه قول طرفة بن العبد في معلقته :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد


فقوله : الفاحش ، أي المبالغ في البخل المتناهي فيه .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من وعده - تعالى - الصادق للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش بما عنده لهم من الثواب الذي هو خير وأبقى - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، فبين - تعالى - في سورة " النساء " أن من ذلك تكفيره - تعالى - عنهم سيئاتهم ، وإدخالهم المدخل الكريم وهو الجنة ، في قوله - تعالى - : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما [ 4 \ 31 ] . وبين في سورة " النجم " أنهم باجتنابهم كبائر الإثم والفواحش - يصدق عليهم اسم المحسنين ، ووعدهم على ذلك بالحسنى .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #473  
قديم 03-02-2023, 10:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,710
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (471)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 75 إلى صـ 82



[ ص: 75 ] والأظهر أنها الجنة ، ويدل له حديث " الحسنى الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم " في تفسير قوله - تعالى - : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ 10 \ 26 ] كما قدمناه .

وآية " النجم " المذكورة هي قوله - تعالى - : ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [ 53 \ 31 ] . ثم بين المراد بالذين أحسنوا في قوله : الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة [ 53 \ 23 ] .

وأظهر الأقوال في قوله : ( إلا اللمم ) - أن المراد باللمم صغائر الذنوب ، ومن أوضح الآيات القرآنية في ذلك قوله - تعالى - : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية [ 4 \ 31 ] . فدلت على أن اجتناب الكبائر سبب لغفران الصغائر ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .

ويدل لهذا حديث ابن عباس الثابت في الصحيح قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان المنطق ، والنفس تمني وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " .

وعلى هذا القول فالاستثناء في قوله : ( إلا اللمم ) منقطع; لأن اللمم الذي هو الصغائر على هذا القول لا يدخل في الكبائر والفواحش ، وقد قدمنا تحقيق المقام في الاستثناء المنقطع في سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما [ 19 \ 62 ] .

وقالت جماعة من أهل العلم : الاستثناء متصل ، قالوا : وعليه فمعنى ( إلا اللمم ) إلا أن يلم بفاحشة مرة ، ثم يجتنبها ولا يعود لها بعد ذلك .

واستدلوا لذلك بقول الراجز :
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما


وروى هذا البيت ابن جرير والترمذي وغيرهما مرفوعا . وفي صحته مرفوعا نظر .

[ ص: 76 ] وقال بعض العلماء : المراد باللمم ما سلف منهم من الكفر والمعاصي قبل الدخول في الإسلام . ولا يخفى بعده .

وأظهر الأقوال هو ما قدمنا لدلالة آية " النساء " المذكورة عليه ، وحديث ابن عباس المتفق عليه .

واعلم أن كبائر الإثم ليست محدودة في عدد معين ، وقد جاء تعيين بعضها ، كالسبع الموبقات ، أي المهلكات لعظمها ، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أنها : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات .

وقد جاءت روايات كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعيين بعض الكبائر كعقوق الوالدين ، واستحلال حرمة بيت الله الحرام ، والرجوع إلى البادية بعد الهجرة ، وشرب الخمر ، واليمين الغموس ، والسرقة ، ومنع فضل الماء ، ومنع فضل الكلإ ، وشهادة الزور .

وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح عن ابن مسعود أن أكبر الكبائر الإشراك بالله الذي خلق الخلق ، ثم قتل الرجل ولده خشية أن يطعم معه ، ثم زناه بحليلة جاره . وفي بعضها أيضا " أن من الكبائر تسبب الرجل في سب والديه " . وفي بعضها أيضا " أن سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " . وذلك يدل على أنهما من الكبائر .

وفي بعض الروايات " أن من الكبائر الوقوع في عرض المسلم ، والسبتين بالسبة " .

وفي بعض الروايات " أن منها جمع الصلاتين من غير عذر " .

وفي بعضها " أن منها اليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله " . ويدل عليهما قوله - تعالى - : إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون [ 12 \ 87 ] . وقوله : فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون [ 7 \ 99 ] .

وفي بعضها " أن منها سوء الظن بالله " . ويدل له قوله - تعالى - : ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا [ 48 \ 6 ] .

وفي بعضها " أن منها الإضرار في الوصية " .

[ ص: 77 ] وفي بعضها " أن منها الغلول " . ويدل له قوله - تعالى - : ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة [ 3 \ 161 ] . وقدمنا معنى الغلول في سورة " الأنفال " ، وذكرنا حكم الغال .

وفي بعضها " أن من أهل الكبائر الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " . ويدل له قوله - تعالى - : أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم [ 3 \ 77 ] . ولم نذكر أسانيد هذه الروايات ونصوص متونها خوف الإطالة ، وأسانيد بعضها لا تخلو من نظر ، لكنها لا يكاد يخلو شيء منها عن بعض الشواهد الصحيحة من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .

واعلم أن أهل العلم اختلفوا في حد الكبيرة ; فقال بعضهم : هي كل ذنب استوجب حدا من حدود الله .

وقال بعضهم : هي كل ذنب جاء الوعيد عليه بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب .

واختار بعض المتأخرين حد الكبيرة بأنها هي كل ذنب دل على عدم اكتراث صاحبه بالدين .

وعن ابن عباس أن الكبائر أقرب إلى السبعين منها إلى السبع . وعنه أيضا أنها أقرب إلى سبعمائة منها إلى سبع .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق أنها لا تنحصر في سبع ، وأن ما دل عليه من الأحاديث على أنها سبع لا يقتضي انحصارها في ذلك العدد; لأنه إنما دل على نفي غير السبع بالمفهوم ، وهو مفهوم لقب ، والحق عدم اعتباره .

ولو قلنا : إنه مفهوم عدد - لكان غير معتبر أيضا; لأن زيادة الكبائر على السبع مدلول عليها بالمنطوق .

وقد جاء منها في الصحيح عدد أكثر من سبع ، والمنطوق مقدم على المفهوم ، مع أن مفهوم العدد ليس من أقوى المفاهيم .

والأظهر عندي في ضابط الكبيرة أنها كل ذنب اقترن بما يدل على أنه أعظم من مطلق المعصية ، سواء كان ذلك الوعيد عليه بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب ، أو كان وجوب الحد فيه ، أو غير ذلك مما يدل على تغليظ التحريم وتوكيده .

[ ص: 78 ] مع أن بعض أهل العلم قال : إن كل ذنب كبيرة . وقوله - تعالى - : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية [ 4 \ 31 ] . وقوله : إلا اللمم [ 53 \ 32 ] يدل على عدم المساواة ، وأن بعض المعاصي كبائر ، وبعضها صغائر ، والمعروف عند أهل العلم أنه لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : وجزاء سيئة سيئة مثلها .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في آخر سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به الآية [ 16 \ 126 ] . وفي سورة " الزمر " في الكلام على قوله - تعالى - : فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه الآية [ 39 \ 17 - 18 ] .
قوله - تعالى - : ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في الكلام على آية " النحل " وآية " الزمر " المذكورتين آنفا .
قوله - تعالى - : وترى الظالمين لما رأوا العذاب الآية .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل الآية [ 7 \ 53 ] .
قوله - تعالى - : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده الآية [ 16 \ 2 ] .
قوله - تعالى - : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا .

قوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان - يبين الله - جل وعلا - فيه منته على هذا النبي الكريم ، بأنه علمه هذا القرآن العظيم ولم يكن يعلمه قبل ذلك ، وعلمه تفاصيل دين الإسلام ولم يكن يعلمها قبل ذلك .

[ ص: 79 ] فقوله : ( ما كنت تدري ما الكتاب ) أي ما كنت تعلم ما هو هذا الكتاب الذي هو القرآن العظيم ، حتى علمتكه ، وما كنت تدري ما الإيمان الذي هو تفاصيل هذا الدين الإسلامي ، حتى علمتكه .

ومعلوم أن الحق الذي لا شك فيه الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة - أن الإيمان شامل للقول والعمل مع الاعتقاد .

وذلك ثابت في أحاديث صحيحة كثيرة ، منها حديث وفد عبد القيس المشهور ، ومنها حديث : " من قام رمضان إيمانا واحتسابا . . . " الحديث ، فسمى فيه قيام رمضان إيمانا ، وحديث " الإيمان بضع وسبعون شعبة " ، وفي بعض رواياته " بضع وستون شعبة ، أعلاها شهادة ألا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " .

والأحاديث بمثل ذلك كثيرة ، ويكفي في ذلك ما أورده البيهقي في شعب الإيمان ، فهو - صلوات الله وسلامه عليه - ما كان يعرف تفاصيل الصلوات المكتوبة وأوقاتها ، ولا صوم رمضان ، وما يجوز فيه وما لا يجوز ، ولم يكن يعرف تفاصيل الزكاة ولا ما تجب فيه ولا قدر النصاب وقدر الواجب فيه ، ولا تفاصيل الحج ونحو ذلك ، وهذا هو المراد بقوله - تعالى - : ولا الإيمان .

وما ذكره هنا من أنه لم يكن يعلم هذه الأمور حتى علمه إياها بأن أوحى إليه هذا النور العظيم الذي هو كتاب الله - جاء في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم الآية [ 4 \ 113 ] . وقوله - جل وعلا - : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين [ 12 \ 3 ] .

فقوله في آية " يوسف " هذه : وإن كنت من قبله لمن الغافلين ، كقوله هنا : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ، وقوله - تعالى - : ووجدك ضالا فهدى [ 93 \ 7 ] على أصح التفسيرات كما قدمناه في سورة " الشعراء " في الكلام على قوله - تعالى - : قال فعلتها إذا وأنا من الضالين [ 26 \ 20 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء ، الضمير في قوله : ( جعلناه ) راجع إلى القرآن العظيم المذكور في قوله : روحا من أمرنا . [ ص: 80 ] وقوله : ما كنت تدري ما الكتاب ، أي ولكن جعلنا هذا القرآن العظيم نورا نهدي به من نشاء هدايته من عبادنا .

وسمي القرآن نورا ; لأنه يضيء الحق ويزيل ظلمات الجهل والشك والشرك .

وما ذكره هنا من أن هذا القرآن نور - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا [ 4 \ 174 ] .

وقوله - تعالى - : واتبعوا النور الذي أنزل معه [ 7 \ 157 ] . وقوله - تعالى - : قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم [ 5 \ 15 - 16 ] . وقوله - تعالى - : فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا [ 64 \ 8 ] .

وما دلت عليه هذه الآيات الكريمة من كون هذا القرآن نورا - يدل على أنه هو الذي يكشف ظلمات الجهل ، ويظهر في ضوئه الحق ، ويتميز عن الباطل ، ويميز به بين الهدى والضلال والحسن والقبيح .

فيجب على كل مسلم أن يستضيء بنوره ، فيعتقد عقائده ، ويحل حلاله ، ويحرم حرامه ، ويمتثل أوامره ، ويجتنب ما نهى عنه ، ويعتبر بقصصه وأمثاله .

والسنة كلها داخلة في العمل به ، لقوله - تعالى - : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] .
قوله - تعالى - : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم .

الصراط المستقيم قد بينه - تعالى - في قوله : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ 1 \ 6 - 7 ] .

وقوله في هذه الآية الكريمة : وإنك لتهدي الآية ، قد بينا الآيات الموضحة له في سورة " فصلت " في الكلام على قوله - تعالى - : وأما ثمود فهديناهم الآية [ 41 \ 17 ] ، وبينا هناك وجه الجمع بين قوله - تعالى - : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم مع قوله : إنك لا تهدي من أحببت [ 28 \ 56 ] .

[ ص: 81 ] والصراط في لغة العرب : الطريق الواضح ، والمستقيم : الذي لا اعوجاج فيه ، ومنه قول جرير :
أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم

قوله - تعالى - : ألا إلى الله تصير الأمور .

ما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الأمور كلها تصير إلى الله ، أي ترجع إليه وحده لا إلى غيره - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله [ 11 \ 123 ] . وقوله - تعالى - : ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور كنتم خير أمة أخرجت للناس [ 3 \ 109 - 110 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 82 ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الزُّخْرُفِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - : حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا .

قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " هُودٍ " .

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - : إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ " الشُّعَرَاءِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [ 26 \ 194 - 195 ] . وَفِي سُورَةِ " الزُّمَرِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ الْآيَةَ [ 39 \ 28 ] .
قوله - تعالى - : فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين .

الضمير في قوله : ( منهم ) عائد إلى القوم المسرفين ، المخاطبين بقوله : : أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين [ 43 \ 5 ] . وفيه ما يسميه علماء البلاغة بالالتفات من الخطاب إلى الغيبة .

وقوله : أشد منهم مفعول به لـ ( أهلكنا ) ، وأصله نعت لمحذوف ، والتقدير فأهلكنا قوما أشد منهم بطشا ، على حد قوله في الخلاصة :
وما من المنعوت والنعت عقل يجوز حذفه وفي النعت يقل


وقوله : ( بطشا ) تمييز محول من الفاعل على حد قوله في الخلاصة : والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلا كأنت أعلا منزلا

والبطش : أصله الأخذ بعنف وشدة .

والمعنى : فأهلكنا قوما أشد بطشا من كفار مكة الذين كذبوا نبينا بسبب تكذيبهم رسلهم ، فليحذر الكفار الذين كذبوك أن نهلكهم بسبب ذلك كما أهلكنا الذين كانوا أشد منهم بطشا ، أي أكثر منهم عددا وعددا وجلدا .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #474  
قديم 03-02-2023, 11:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,710
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (472)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 83 إلى صـ 90


[ ص: 83 ] فعلى الأضعف الأقل أن يتعظ بإهلاك الأقوى الأكثر .

وقوله في هذه الآية الكريمة : ومضى مثل الأولين أي صفتهم التي هي إهلاكهم المستأصل بسبب تكذيبهم الرسل .

وقول من قال : مثل الأولين أي عقوبتهم وسنتهم - راجع في المعنى إلى ذلك .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد الكفار الذين كذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - بأن الله أهلك من هم أقوى منهم ، ليحذروا أن يفعل بهم مثل ما فعل بأولئك - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها الآية [ 30 \ 9 ] . وقوله - تعالى - : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض الآية [ 40 \ 82 ] . وقوله - تعالى - : ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا إلى قوله : فأهلكناهم بذنوبهم الآية [ 6 \ 6 ] . وقوله - تعالى - : وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير [ 34 \ 45 ] . وقوله - تعالى - : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا [ 35 \ 44 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ومضى مثل الأولين ما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد كفار مكة الذين كذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - بصفته ، إهلاكهم وسنته فيهم التي هي العقوبة وعذاب الاستئصال جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا [ 35 \ 42 - 43 ] . وقوله - تعالى - : فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون [ 40 \ 83 - 85 ] . وقوله - تعالى - : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين الآية [ 18 \ 55 ] . وقوله - تعالى - : [ ص: 84 ] فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين [ 43 \ 55 - 56 ] .

وقد قدمنا بعض الآيات الدالة على هذا في سورة " المائدة " في الكلام على قوله - تعالى - : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل الآية [ 5 \ 32 ] .

قوله - تعالى - : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم .

قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم .
قوله - تعالى - : الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون .

قرأ هذا الحرف عاصم وحمزة والكسائي مهدا بفتح الميم وسكون الهاء ، وقرأه باقي السبعة مهادا بكسر الميم وفتح الهاء بعدها ألف ومعناهما واحد ، وهو الفراش .

وقد ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه جعل الأرض لبني آدم مهدا أي فراشا ، وأنه جعل لهم فيها سبلا أي طرقا ليمشوا فيها ويسلكوها ، فيصلوا بها من قطر إلى قطر . وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة ، من كونه - تعالى - جعل الأرض فراشا لبني آدم ، وجعل لهم فيها الطرق لينفذوا من قطر إلى قطر - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا [ 71 \ 19 - 20 ] . وكقوله - تعالى - : وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون [ 21 \ 31 ] .

وذكر كون الأرض فراشا لبني آدم في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : والأرض فرشناها فنعم الماهدون [ 51 \ 48 ] . وقوله - تعالى - : الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ 2 \ 22 ] . وقوله - تعالى - : الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء الآية [ 40 \ 64 ] .

وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : [ ص: 85 ] وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون [ 16 \ 15 ] .
قوله - تعالى - : والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون .

ما تضمنته هذه الآية الكريمة من دلالة إحياء الأرض بعد موتها على خروج الناس من قبورهم أحياء بعد الموت ، في قوله - تعالى - : كذلك تخرجون - جاء موضحا في آيات كثيرة قد قدمناها في سورة " البقرة " في الكلام على قوله - تعالى - : وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ 2 \ 22 ] مع بقية براهين البعث في القرآن . وأوضحنا ذلك أيضا في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون [ 16 \ 10 ] . وفي غير ذلك من المواضع ، وأحلنا على ذلك مرارا كثيرة في هذا الكتاب المبارك .

وقد قدمنا في سورة " الفرقان " معنى الإنشاء والنشور وما في ذلك من اللغات مع الشواهد العربية .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : بقدر .

قال بعض العلماء : أي بقدر سابق وقضاء .

وقال بعض العلماء : أي بمقدار يكون به إصلاح البشر ، فلم يكثر الماء جدا فيكون طوفانا فيهلكهم ، ولم يجعله قليلا دون قدر الكفاية ، بل نزله بقدر الكفاية من غير مضرة ، كما قال - تعالى - : وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون [ 23 \ 18 ] .

وقال - تعالى - : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم إلى قوله : وما أنتم له بخازنين [ 15 \ 21 - 22 ] .
قوله - تعالى - : والذي خلق الأزواج كلها .

الأزواج الأصناف ، والزوج تطلقه العرب على الصنف .

وقد بين - تعالى - أن الأزواج المذكورة هنا تشمل أصناف النبات وبني آدم وما لا يعلمه إلا الله .

قال - تعالى - : سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون [ 36 \ 36 ] .

[ ص: 86 ] وقال - تعالى - : وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى [ 20 \ 53 ] .

وقال - تعالى - : فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج [ 22 \ 5 ] . أي من كل صنف حسن من أصناف النبات .

وقال - تعالى - : وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم [ 31 \ 10 ] .

ومن إطلاق الأزواج على الأصناف في القرآن قوله - تعالى - : وآخر من شكله أزواج [ 38 \ 58 ] . وقوله - تعالى - : ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم [ 20 \ 131 ] .

وقد قدمنا طرفا من ذلك في سورة " الصافات " في الكلام على قوله - تعالى - : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم الآية [ 37 \ 22 ] .
قوله - تعالى - : وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه .

قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة " المؤمن " في الكلام على قوله - تعالى - : الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها الآية [ 40 \ 79 ] . وضمير المفرد المذكر الغائب في قوله : لتستووا على ظهوره ، وقوله : إذا استويتم عليه - راجع إلى لفظ ( ما ) في قوله : وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون .
قوله - تعالى - : وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين .

يعني - جل وعلا - أنه جعل لبني آدم ما يركبونه من الفلك التي هي السفن ، ومن الأنعام ليستووا ، أي يرتفعوا معتدلين على ظهوره ، ثم يذكروا في قلوبهم نعمة ربهم عليهم بتلك المركوبات ، ثم يقولوا - بألسنتهم مع تفهم معنى ما يقولون - : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين .

وقوله : " سبحان " قد قدمنا في أول سورة " بني إسرائيل " معناه بإيضاح ، وأنه يدل على تنزيه الله - جل وعلا - أكمل التنزيه وأتمه ، عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله ، والإشارة في قوله : هذا راجعة إلى لفظ ما من قوله : ما تركبون وجمع الظهور نظرا إلى معنى ما ; لأن معناها عام شامل لكل ما تشمله صلتها ، ولفظها مفرد ، فالجمع في الآية باعتبار معناها ، والإفراد باعتبار لفظها .

[ ص: 87 ] وقوله : الذي سخر لنا هذا أي الذي ذلل لنا هذا الذي هو ما نركبه من الأنعام والسفن ; لأن الأنعام لو لم يذللها الله لهم لما قدروا عليها ، ولا يخفى أن الجمل أقوى من الرجل ، وكذلك البحر لو لم يذلله لهم ويسخر لهم إجراء السفن فيه لما قدروا على شيء من ذلك .

وقوله - تعالى - : وما كنا له مقرنين أي مطيقين . والعرب تقول : أقرن الرجل للأمر وأقرنه إذا كان مطيقا له كفؤا للقيام به ، من قولهم : أقرنت الدابة للدابة ، بمعنى أنك إذا قرنتهما في حبل قدرت على مقاومتها ، ولم تكن أضعف منها فتجرها; لأن الضعيف إذا لز في القرن ، أي الحبل ، مع القوي - جره ولم يقدر على مقاومته ، كما قال جرير :
وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس

وهذا المعنى معروف في كلام العرب ، ومنه قول عمرو بن معديكرب وقد أنشده قطرب لهذا المعنى :
لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنينا

وقول ابن هرمة :
وأقرنت ما حملتني ولقلما يطاق احتمال الصدياد عدو الهجر


وقول الآخر :
ركبتم صعبتي أشرا وحيفا ولستم للصعاب بمقرنينا

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن ما ذكر من السفن والأنعام لو لم يذلله الله لهم لما أقرنوا له ولما أطاقوه - جاء مبينا في آيات أخر; قال - تعالى - في ركوب الفلك : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون [ 36 \ 41 - 42 ] . وقال - تعالى - : وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا الآية [ 16 \ 14 ] . وقال - تعالى - : الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله الآية [ 45 \ 12 ] . وقال - تعالى - : وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار [ ص: 88 ] الآية [ 14 \ 32 ] . وقال - تعالى - : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس الآية [ 2 \ 164 ] . وقال - تعالى - : ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وقال - تعالى - في تسخير الأنعام : وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون [ 36 \ 72 ] . وقال - تعالى - : فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين [ 22 \ 36 - 37 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وجعلوا له من عباده جزءا .

قال بعض العلماء : جزءا أي عدلا ونظيرا ، يعني الأصنام وغيرها من المعبودات من دون الله .

وقال بعض العلماء : جزءا أي ولدا .

وقال بعض العلماء : جزءا يعني البنات .

وذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية أن الجزء النصيب ، واستشهد على ذلك بآية " الأنعام " ، أعني قوله - تعالى - : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا الآية [ 6 \ 136 ] .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر أن قول ابن كثير هذا - رحمه الله - غير صواب في الآية ; لأن المجعول لله في آية " الأنعام " هو النصيب مما ذرأ من الحرث والأنعام ، والمجعول له في آية " الزخرف " هذه جزء من عباده لا مما ذرأ من الحرث والأنعام .

وبين الأمرين فرق واضح كما ترى .

وأن قول قتادة ومن وافقه : إن المراد بالجزء العدل والنظير الذي هو الشريك - غير صواب أيضا; لأن إطلاق الجزء على النظير ليس بمعروف في كلام العرب .

أما كون المراد بالجزاء في الآية الولد ، وكون المراد بالولد خصوص الإناث - فهذا هو التحقيق في الآية .

[ ص: 89 ] وإطلاق الجزء على الولد يوجه بأمرين : أحدهما : ما ذكره بعض علماء العربية من أن العرب تطلق الجزء مرادا به البنات ، ويقولون : أجزأت المرأة إذا ولدت البنات ، وامرأة مجزئة ، أي تلد البنات ، قالوا ومنه قول الشاعر :
إن أجزأت حرة يوما فلا عجب قد تجزيء الحرة المذكار أحيانا

وقول الآخر :
زوجتها من بنات الأوس مجزئة للعوسج اللدن في أبياتها زجل

وأنكر الزمخشري هذه اللغة قائلا : إنها كذب وافتراء على العرب .

قال في الكشاف في الكلام على هذه الآية الكريمة : ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث ، وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث ، وما هو إلا كذب على العرب ، ووضع مستحدث منحول ، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه ( أجزأت المرأة ) ثم صنعوا بيتا وبيتا :
إن أجزأت حرة يوما فلا عجب زوجتها من بنات الأوس مجزئـة


ا هـ . منه بلفظه .

وقال ابن منظور في اللسان : وفي التنزيل العزيز : وجعلوا له من عباده جزءا . قال أبو إسحاق : يعني به الذين جعلوا الملائكة بنات الله ، تعالى وتقدس عما افتروا ، قال : وقد أنشدت بيتا يدل على أن معنى جزءا معنى الإناث ; قال - ولا أدري البيت هو قديم أو مصنوع - :
إن أجزأت حرة يوما فلا عجب
البيت .

والمعنى في قوله : وجعلوا له من عباده جزءا ، أي جعلوا نصيب الله من الولد [ ص: 90 ] الإناث ، قال ولم أجده في شعر قديم ولا رواه عن العرب الثقات ، وأجزأت المرأة ولدت الإناث ، وأنشد أبو حنيفة :
زوجتها من بنات الأوس مجزئة
البيت .

انتهى الغرض من كلام صاحب اللسان .

وظاهر كلامه هذا الذي نقله عن الزجاج أن قولهم : أجزأت المرأة إذا ولدت الإناث - معروف ; ولذا ذكره وذكر البيت الذي أنشده له أبو حنيفة كالمسلم له .

والوجه الثاني : وهو التحقيق - إن شاء الله - أن المراد بالجزء في الآية الولد ، وأنه أطلق عليه اسم الجزء ; لأن الفرع كأنه جزء من أصله ، والولد كأنه بضعة من الوالد ، كما لا يخفى .

وأما كون المراد بالولد المعبر عنه بالجزء في الآية - خصوص الإناث ، فقرينة السياق دالة عليه دلالة واضحة ; لأن جعل الجزء المذكور لله من عباده هو بعينه الذي أنكره الله إنكارا شديدا ، وقرع مرتكبه تقريعا شديدا في قوله - تعالى - بعده : أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا إلى قوله : وهو في الخصام غير مبين [ 43 \ 16 - 18 ] .

وقرأ هذا الحرف شعبة عن عاصم جزءا بضم الزاي ، وباقي السبعة بإسكانها ، وحمزة عند الوقف يسقط الهمزة بنقل حركتها إلى الزاي مع حذف التنوين للوقف .
قوله - تعالى - : أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين .

( أم ) هنا بمعنى استفهام الإنكار ; فالكفار لما قالوا : الملائكة بنات الله - أنكر الله عليهم أشد الإنكار ، موبخا لهم أشد التوبيخ ; حيث افتروا عليه الولد ، ثم جعلوا له أنقص الولدين وأحقرهما ، وهو الأنثى ، كما قال هنا : أم اتخذ مما يخلق بنات ، وهي النصيب الأدنى من الأولاد ، ( وأصفاكم ) أنتم ، أي خصكم وآثركم ( بالبنين ) الذين هم النصيب الأعلى من الأولاد .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #475  
قديم 03-02-2023, 11:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,710
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (473)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 91 إلى صـ 98


وإنكار هذا عليهم وتوبيخهم عليه - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله هنا : [ ص: 91 ] وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا [ 43 \ 17 ] . يعني الأنثى ، كما أوضحه بقوله : وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم [ 16 \ 58 ] يعني فكيف تجعلون لله الإناث وأنتم لو بشر الواحد منكم بأن امرأته ولدت أنثى لظل وجهه مسودا ، يعني من الكآبة ، وهو كظيم ، أي ممتلئ حزنا وغما ، وكقوله - تعالى - هنا : أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين [ 43 \ 18 ] ففيه إنكار شديد وتقريع عظيم لهم بأنهم مع افترائهم عليه - جل وعلا - الولد جعلوا له أنقص الولدين ، الذي لنقصه الخلقي ينشأ في الحلية - من الحلي ، والحلل وأنواع الزينة - من صغره إلى كبره; ليجبر بتلك الزينة نقصه الخلقي الطبيعي ، وهو في الخصام غير مبين ; لأن الأنثى غالبا لا تقدر على القيام بحجتها ولا الدفاع عن نفسها .

وقد أوضحنا هذا المعنى بشواهده العربية غاية الإيضاح في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] . وكقوله - تعالى - : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون [ 16 \ 57 ] . وقوله - تعالى - : ويجعلون لله ما يكرهون [ 16 \ 62 ] . وقوله - تعالى - : أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] . وقوله - تعالى - : ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى [ 53 \ 21 - 22 ] . وقوله - تعالى - : فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أاصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون أفلا تذكرون أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين [ 37 \ 149 - 157 ] .

وقد قدمنا كثيرا من الآيات الموضحة لهذا المعنى في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون [ 16 \ 57 ] . ووجه التعبير عن الأنثى بما ضرب مثلا لله في قوله : وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا الآية [ 43 \ 17 ] - ظاهر ; لأن البنات المزعومة يلزم ادعاؤها أن تكون من جنس من نسبت إليه ; لأن الوالد والولد من جنس واحد ، وكلاهما يشبه الآخر في صفاته .
قوله - تعالى - : وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون .

[ ص: 92 ] قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وابن عامر عند الرحمن بسكون النون وفتح الدال ، ظرف ، كقوله - تعالى - : إن الذين عند ربك لا يستكبرون [ 7 \ 206 ] . وقرأه أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي الذين هم عباد الرحمن بكسر العين وباء موحدة بعدها ألف وضم الدال ، جمع عبد ، كقوله : وعباد الرحمن الآية [ 25 \ 63 ] .

وقوله : أشهدوا خلقهم . قرأه عامة السبعة غير نافع ( أشهدوا ) بهمزة واحدة مع فتح الشين ، وقرأه نافع ( أأشهدوا ) . بهمزتين الأولى مفتوحة محققة ، والثانية مضمومة مسهلة بين بين ، وقالوا : يجعل بين الهمزتين ألف الإدخال على إحدى الروايتين .

وقد ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أربع مسائل : الأولى : أن الكفار افتروا على الملائكة أنهم إناث ، زاعمين أنهم بنات الله .

الثانية : أنه وبخهم على ذلك توبيخا شديدا وأنكر عليهم ذلك في قوله : أشهدوا خلقهم يعني هل حضروا خلق الله لهم فعاينوهم إناثا .

الثالثة : أن شهادتهم الكاذبة بذلك ستكتب عليهم .

الرابعة : أنهم يسألون عنها يوم القيامة .

وهذه المسائل الأربع التي تضمنتها هذه الآية الكريمة ، جاءت موضحة في غير هذا الموضع .

أما الأولى منها . وهي كونهم اعتقدوا الملائكة إناثا ، فقد ذكرها - تعالى - في مواضع من كتابه كقوله - تعالى - : أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] . وكقوله - تعالى - : إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى الآية [ 53 \ 27 ] . وقوله - تعالى - : فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا الآية [ 37 \ 149 - 150 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وأما المسألة الثانية ، وهي سؤاله - تعالى - لهم على وجه الإنكار والتوبيخ والتقريع : [ ص: 93 ] هل شهدوا خلق الملائكة وحضروه حتى علموا أنهم خلقوا إناثا ؟ فقد ذكرها في قوله - تعالى - : أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون [ 37 \ 150 ] . وبين - تعالى - أنه لم يشهد الكفار خلق شيء في قوله : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم الآية [ 18 \ 51 ] .

وأما المسألة الثالثة التي هي كون شهادتهم بذلك الكفر ستكتب عليهم - فقد ذكرها - تعالى - في مواضع من كتابه ، كقوله - تعالى - : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 10 - 12 ] . وقوله - تعالى - : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [ 45 \ 29 ] . وقوله - تعالى - : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [ 43 \ 80 ] . وقوله - تعالى - : إن رسلنا يكتبون ما تمكرون [ 10 \ 21 ] . وقوله - تعالى - : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك الآية [ 17 \ 13 ، 14 ] . وقوله - تعالى - : سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا [ 19 \ 79 ] .

وأما المسألة الرابعة : وهي كونهم يسألون عن ذلك الافتراء والكفر ، فقد ذكرها - تعالى - في آيات من كتابه ، كقوله - تعالى - : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون [ 29 \ 13 ] . وقوله - تعالى - : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ 15 \ 92 - 93 ] . وقوله - تعالى - : وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون [ 43 \ 44 ] . وقوله - تعالى - : ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون [ 16 \ 56 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون .

في هذه الآية الكريمة إشكال معروف ، ووجهه أن قول الكفار الذي ذكره الله عنهم هنا ، أعني قوله - تعالى - : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم [ 43 \ 20 ] - هو بالنظر إلى ظاهره كلام صحيح ; لأن الله لو شاء أن لا يعبدوهم ما عبدوهم ، كما قال - تعالى - : ولو شاء الله ما أشركوا [ 6 \ 107 ] . وقال - تعالى - : ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين [ 6 \ 35 ] . وقال - تعالى - : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها الآية [ ص: 94 ] [ 32 \ 13 ] . وقال - تعالى - : فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] . وقال - تعالى - : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [ 10 \ 99 ] .

وهذا الإشكال المذكور في آية " الزخرف " هو بعينه واقع في آية " الأنعام " ، وآية " النحل " .

أما آية " الأنعام " فهي قوله : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء الآية [ 6 \ 148 ] .

وأما آية " النحل " فهي قوله : وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا الآية [ 16 \ 35 ] .

فإذا عرفت أن ظاهر آية " الزخرف " وآية " الأنعام " وآية " النحل " - أن ما قاله الكفار حق ، وأن الله لو شاء ما عبدوا من دونه من شيء ولا أشركوا به شيئا ، كما ذكرنا في الآيات الموضحة قريبا - فاعلم أن وجه الإشكال ، أن الله صرح بكذبهم في هذه الدعوى التي ظاهرها حق ، قال في آية " الزخرف " : ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون [ 43 \ 20 ] . أي يكذبون ، وقال في آية " الأنعام " : كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون [ 6 \ 148 ] . وقال في آية " النحل " : كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين [ 16 \ 35 ] .

ومعلوم أن الذي فعله الذين من قبلهم هو الكفر بالله ، والكذب على الله في جعل الشركاء له ، وأنه حرم ما لم يحرمه .

والجواب عن هذا أن مراد الكفار بقولهم : لو شاء الرحمن ما عبدناهم ، وقولهم : لو شاء الله ما أشركنا [ 6 \ 148 ] - مرادهم به أن الله لما كان قادرا على منعهم من الشرك ، وهدايتهم إلى الإيمان ، ولم يمنعهم من الشرك - دل ذلك على أنه راض منهم بالشرك في زعمهم .

[ ص: 95 ] قالوا : لأنه لو لم يكن راضيا به لصرفنا عنه ، فتكذيب الله لهم في الآيات المذكورة منصب على دعواهم أنه راض به ، والله - جل وعلا - يكذب هذه الدعوى في الآيات المذكورة ، وفي قوله : ولا يرضى لعباده الكفر [ 39 \ 7 ] .

فالكفار زعموا أن الإرادة الكونية القدرية تستلزم الرضى ، وهو زعم باطل ، وهو الذي كذبهم الله فيه في الآيات المذكورة .

وقد أشار - تعالى - إلى هذه الآيات المذكورة ، حيث قال في آية " الزخرف " : أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون [ 43 \ 21 ] . أي آتيناهم كتابا يدل على أنا راضون منهم بذلك الكفر ، ثم أضرب عن هذا إضراب إبطال مبينا أن مستندهم في تلك الدعوى الكاذبة هو تقليد آبائهم التقليد الأعمى ، وذلك في قوله : بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة [ 43 \ 22 ] . أي شريعة وملة ، وهي الكفر وعبادة الأوثان وإنا على آثارهم مهتدون [ 43 \ 22 ] .

فقوله عنهم : ( مهتدون ) وهو مصب التكذيب ; لأن الله إنما يرضى بالاهتداء لا بالضلال .

فالاهتداء المزعوم أساسه تقليد الآباء الأعمى ، وسيأتي إيضاح رده عليهم قريبا - إن شاء الله - .

وقال - تعالى - في آية " النحل " بعد ذكره دعواهم المذكورة : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة [ 16 \ 36 ] .

فأوضح في هذه الآية الكريمة أنه لم يكن راضيا بكفرهم ، وأنه بعث في كل أمة رسولا ، وأمرهم على لسانه أن يعبدوا الله وحده ، ويجتنبوا الطاغوت ، أي يتباعدوا عن عبادة كل معبود سواه .

وأن الله هدى بعضهم إلى عبادته وحده ، وأن بعضهم حقت عليه الضلالة ، أي ثبت عليه الكفر والشقاء .

وقال - تعالى - في آية " الأنعام " : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] .

[ ص: 96 ] فملكه - تعالى - وحده للتوفيق والهداية ، هو الحجة البالغة على خلقه ، يعني فمن هديناه وتفضلنا عليه بالتوفيق ، فهو فضل منا ورحمة .

ومن لم نفعل له ذلك فهو عدل منا وحكمة ; لأنه لم يكن له ذلك دينا علينا ، ولا واجبا مستحقا يستحقه علينا ، بل إن أعطينا ذلك ففضل ، وإن لم نعطه فعدل .

وحاصل هذا أن الله - تبارك وتعالى - قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق الخلق ، وعلم أن قوما صائرون إلى الشقاء وقوما صائرون إلى السعادة ، فريق في الجنة وفريق في السعير .

وأقام الحجة على الجميع ببعث الرسل وتأييدهم بالمعجزات التي لا تترك في الحق لبسا ، فقامت عليهم حجة الله في أرضه بذلك .

ثم إنه - تعالى - وفق من شاء توفيقه ، ولم يوفق من سبق لهم في علمه الشقاء الأزلي ، وخلق لكل واحد منهم قدرة وإرادة يقدر بها على تحصيل الخير والشر ، وصرف قدرتهم وإراداتهم بقدرته وإرادته إلى ما سبق لهم في علمه من أعمال الخير المستوجبة للسعادة ، وأعمال الشر المستوجبة للشقاء .

فأتوا كل ما أتوا وفعلوا كل ما فعلوا ، طائعين مختارين ، غير مجبورين ولا مقهورين وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ 76 ] . قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] .

وادعاء أن العبد مجبور لا إرادة له ضروري السقوط عند عامة العقلاء .

ومن أعظم الضروريات الدالة عليه أن كل عاقل يعلم أن بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية ، كحركة المرتعش - فرقا ضروريا ، لا ينكره عاقل .

وأنك لو ضربت من يدعي أن الخلق مجبورون ، وفقأت عينه مثلا ، وقتلت ولده واعتذرت له بالجبر ، فقلت له : أنا مجبور ولا إرادة لي في هذا السوء الذي فعلته بك ، بل هو فعل الله ، وأنا لا دخل فيه ، فإنه لا يقبل منك هذه الدعوى بلا شك .

بل يبالغ في إرادة الانتقام منك قائلا : إن هذا بإرادتك ومشيئتك .

[ ص: 97 ] ومن أعظم الأدلة القطعية الدالة على بطلان مذهب القدرية ، وأن العبد لا يستقل بأفعاله دون قدرة الله ومشيئته - أنه لا يمكن أحدا أن ينكر علم الله بكل شيء قبل وقوعه ، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا ينكرها إلا مكابر .

وسبق علم الله بما يقع من العبد قبل وقوعه برهان قاطع على بطلان تلك الدعوى .

وإيضاح ذلك أنك لو قلت للقدري : إذا كان علم الله في سابق أزله تعلق بأنك تقع منك السرقة أو الزنا في محل كذا في وقت كذا ، وأردت أنت بإرادتك المستقلة في زعمك دون إرادة الله ألا تفعل تلك السرقة أو الزنا الذي سبق بعلم الله وقوعه ، فهل يمكنك أن تستقل بذلك ؟ وتصير علم الله جهلا ، بحيث لا يقع ما سبق في علمه وقوعه في وقته المحدد له ؟

والجواب بلا شك : هو أن ذلك لا يمكن بحال كما قال - تعالى - : وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ 76 ] . وقال الله - تعالى - : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] .

ولا إشكال ألبتة في أن الله يخلق للعبد قدرة وإرادة يقدر بها على الفعل والترك ، ثم يصرف الله بقدرته وإرادته قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به علمه ، فيأتيه العبد طائعا مختارا غير مقهور ولا مجبور ، وغير مستقل به دون قدرة الله وإرادته ، كما قال - تعالى - : وما تشاءون إلا أن يشاء الله .

والمناظرة التي ذكرها بعضهم بين أبي إسحاق الإسفراييني وعبد الجبار المعتزلي توضح هذا .

وهي أن عبد الجبار قال : سبحان من تنزه عن الفحشاء ، يعني أن السرقة والزنا ليسا بمشيئة الله ; لأنه في زعمه أنزه من أن تكون هذه الرذائل بمشيئته .

فقال أبو إسحاق : كلمة حق أريد بها باطل .

ثم قال : سبحان من لم يقع في ملكه إلا ما يشاء .

فقال عبد الجبار : أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه .

فقال أبو إسحاق : أتراك تفعله جبرا عليه ، آنت الرب وهو العبد ؟

[ ص: 98 ] فقال عبد الجبار : أرأيت إن دعاني إلى الهدى ، وقضى علي بالرديء ، دعاني وسد الباب دوني ؟ أتراه أحسن أم أساء ؟

فقال أبو إسحاق : أرى أن هذا الذي منعك إن كان حقا واجبا لك عليه - فقد ظلمك ، وقد أساء ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وإن كان ملكه المحض فإن أعطاك ففضل ، وإن منعك فعدل . فبهت عبد الجبار ، وقال الحاضرون : والله ما لهذا جواب .

ومضمون جواب أبي إسحاق هذا الذي أفحم به عبد الجبار ، هو معنى قوله - تعالى - : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] .

وذكر بعضهم أن عمرو بن عبيد جاءه أعرابي فشكا إليه أن دابته سرقت ، وطلب منه أن يدعو الله ليردها إليه .

فقال عمرو ما معناه : اللهم إنها سرقت ولم ترد سرقتها; لأنك أنزه وأجل من أن تدبر هذا الخنا .

فقال الأعرابي : ناشدتك الله يا هذا ، إلا ما كففت عني من دعائك هذا الخبيث ، إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد ، ولا ثقة لي برب يقع في ملكه ما لا يشاؤه . فألقمه حجرا .

وقد ذكرنا هذه المسألة في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في الكلام عن آية " الأنعام " المذكورة في هذا البحث ، وفي سورة " الشمس " في الكلام عن قوله - تعالى - : فألهمها فجورها وتقواها .
قوله - تعالى - : أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون .

( أم ) هنا تتضمن معنى استفهام الإنكار ، يعني - جل وعلا - أن هذا الذي يزعم الكفار من أنهم على حق في عبادتهم الأوثان ، وجعلهم الملائكة بنات الله - لا دليل لهم عليه ; ولذا أنكر أن يكون آتاهم كتابا يحل فيه ذلك وأن يكونوا مستمسكين في ذلك بكتاب من الله ، فأنكر عليهم هذا هنا إنكارا دالا على النفي للتمسك بالكتاب المذكور ، مع التوبيخ والتقريع .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #476  
قديم 03-02-2023, 11:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,710
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (474)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 99 إلى صـ 106



وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من أن كفرهم المذكور لم يكن عن هدى من الله ، ولا كتاب أنزله الله بذلك - جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله - تعالى - في سورة " فاطر " : [ ص: 99 ] قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه الآية [ 35 \ 40 ] .

وقوله - تعالى - في " الأحقاف " : قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين [ 46 \ 4 ] .

وقوله - تعالى - في " الروم " : أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون [ 30 \ 35 ] .

وقوله - تعالى - في " الصافات " : أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين [ 37 \ 156 - 157 ] .

وقوله - تعالى - في " النمل " : أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [ 27 \ 64 ] .

وقوله - تعالى - في " الحج " و " لقمان " : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير [ 22 \ 8 ] و [ 31 \ 20 ] .

وقوله - تعالى - في " الأنعام " : قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون [ 6 \ 148 ] .
قوله - تعالى - : وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم .

وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " قد أفلح المؤمنون " في الكلام على قوله - تعالى - : ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه الآية [ 23 \ 44 ] .

وفي سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها [ 6 \ 123 ] . وقوله - تعالى - : قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم [ 43 \ 24 ] .

[ ص: 100 ] قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وشعبة عن عاصم : ( قل أولو جئتكم ) بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر .

وقرأه ابن عامر وحفص عن عاصم ( قال أولو جئتكم ) بفتح القاف واللام بينهما ألف بصيغة الفعل الماضي .

فعلى قراءة الجمهور فالمعنى : قل لهم يا نبي الله : أتقتدون بآبائكم في الكفر والضلال ، ولو جئتكم بأهدى ، أي بدين أهدى مما وجدتم عليه آباءكم ، وصيغة التفضيل هنا لمطلق الوصف ; لأن آباءهم لا شيء عندهم من الهداية أصلا .

وعلى قراءة ابن عامر وحفص فالمعنى : قال هو : أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وقد أوضحنا هذا المعنى بشواهده العربية مرارا في هذا الكتاب المبارك .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تسفيه رأي الكفار وبيان شدة ضلالهم في تقليدهم آباءهم هذا التقليد الأعمى - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - في " البقرة " : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون [ 2 \ 170 ] . وكقوله - تعالى - في " المائدة " : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون [ 5 \ 104 ] .

وأوضح - تعالى - في آية " لقمان " أن ما وجدوا عليه آباءهم من الكفر والضلال طريق من طرق الشيطان يدعوهم بسلوكها إلى عذاب السعير ، وذلك في قوله - تعالى - : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير [ 31 \ 21 ] . كقوله - تعالى - : إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون [ 37 \ 69 - 70 ] . وقوله - تعالى - : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين [ 21 \ 51 - 54 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .
قوله - تعالى - : وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين .

[ ص: 101 ] ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - قال لأبيه وقومه : إنه براء ، أي بريء ، من جميع معبوداتهم التي يعبدونها من دون الله ، أي يعني أنه بريء من عبادة كل معبود ، إلا المعبود الذي خلقه وأوجده ، فهو وحده معبوده .

وقد أوضح - تعالى - هذا المعنى الذي ذكره عن إبراهيم في مواضع أخر من كتابه ، كقوله - تعالى - : قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين الآية [ 26 \ 57 - 78 ] . وكقوله - تعالى - : فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين [ 6 \ 78 - 79 ] .

وزاد - جل وعلا - في سورة " الممتحنة " براءته أيضا من العابدين ، وعداوته لهم ، وبغضه لهم في الله ، وذلك في قوله - تعالى - : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده [ 60 \ 4 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فإنه سيهدين ذكر نحوه في قوله : الذي خلقني فهو يهدين [ 26 \ 78 ] . وقوله - تعالى - : وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين [ 37 \ 99 ] . وقوله - تعالى - : فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين [ 6 \ 77 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني أي خلقني - يدل على أنه لا يستحق العبادة إلا الخالق وحده - جل وعلا - .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة - دلت عليه آيات أخر من كتاب الله ، كقوله - تعالى - : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم الآية [ 2 \ 21 ] . وقوله - تعالى - : واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين [ 26 \ 184 ] . وقوله - تعالى - : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار [ 13 \ 16 ] . وقوله - تعالى - : أفمن يخلق كمن لا يخلق الآية [ 16 \ 17 ] . وقوله - تعالى - : [ ص: 102 ] أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون [ 7 \ 191 ] . وقوله - تعالى - : الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون الآية [ 25 \ 2 - 3 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون .

الضمير المنصوب في ( جعلها ) على التحقيق راجع إلى كلمة الإيمان المشتملة على معنى لا إله إلا الله ، المذكورة في قوله : إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني [ 43 \ 26 - 27 ] . لأن لا إله إلا الله نفي وإثبات ، فمعنى النفي منها هو البراءة من جميع المعبودات غير الله في جميع أنواع العبادات .

وهذا المعنى جاء موضحا في قوله : إنني براء مما تعبدون .

ومعنى الإثبات منها هو إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله .

وهذا المعنى جاء موضحا في قوله : إلا الذي فطرني فإنه سيهدين .

وضمير الفاعل المستتر في قوله : وجعلها .

قال بعضهم : هو راجع إلى إبراهيم وهو ظاهر السياق .

وقال بعضهم : هو راجع إلى الله - تعالى - .

فعلى القول الأول فالمعنى صير إبراهيم تلك الكلمة ( باقية في عقبه ) أي ولده وولد ولده .

وإنما جعلها إبراهيم باقية فيهم ، لأنه تسبب لذلك بأمرين : أحدهما : وصيته لأولاده بذلك ، وصاروا يتوارثون الوصية بذلك عنه ، فيوصي به السلف منهم الخلف ، كما أشار - تعالى - إلى ذلك بقوله : ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين الآية [ 2 \ 130 - 132 ] [ ص: 103 ]

والأمر الثاني هو سؤاله ربه - تعالى - لذريته الإيمان والصلاح ، كقوله - تعالى - وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي [ 2 \ 124 ] . أي واجعل من ذريتي أيضا أئمة ، وقوله - تعالى - عنه : رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي [ 14 \ 40 ] . وقوله عنه : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [ 14 \ 35 ] . وقوله عنه هو وإسماعيل : ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك إلى قوله : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم [ 2 \ 129 ] .

وقد أجاب الله دعاءه في بعث الرسول المذكور ببعثه محمدا - صلى الله عليه وسلم - .

ولذا جاء في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أنا دعوة إبراهيم " .

وقد جعل الله الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته ، كما قال - تعالى - في سورة " العنكبوت " : ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب [ 29 \ 27 ] . وقال عنه وعن نوح في سورة " الحديد " : ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب الآية [ 57 \ 26 ] .

وعلى القول الثاني أن الضمير عائد إلى الله - تعالى - فلا إشكال .

وقد بين - تعالى - في آية " الزخرف " هذه أن الله لم يجب دعوة إبراهيم في جميع ذريته ، ولم يجعل الكلمة باقية في جميع عقبه ; لأن كفار مكة الذين كذبوا بنبينا - صلى الله عليه وسلم - من عقبه بإجماع العلماء ، وقد كذبوه - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : إنه ساحر . وكثير منهم مات على ذلك . وذلك في قوله - تعالى - : بل متعت هؤلاء يعني كفار مكة وآباءهم ، حتى جاءهم الحق ورسول مبين ، هو محمد - صلى الله عليه وسلم - ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون .

وما دلت عليه آية " الزخرف " هذه من أن بعض عقب إبراهيم لم يجعل الله الكلمة المذكورة باقية فيهم - دلت عليه آيات أخر من كتاب الله ، كقوله - تعالى - في " البقرة " : [ ص: 104 ] قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين [ 2 \ 124 ] . أي الظالمين من ذرية إبراهيم .

وقوله - تعالى - في " الصافات " : وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين [ 37 \ 113 ] .

فالمحسن منهم هو الذي الكلمة باقية فيه ، والظالم لنفسه المبين منهم ليس كذلك .

وقوله - تعالى - في " النساء " : فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا .

وقد بين - تعالى - في " الحديد " أن غير المهتدين منهم كثيرون ، وذلك في قوله : ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون [ 57 \ 26 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : لعلهم يرجعون أي جعل الكلمة باقية فيهم; لعل الزائغين الضالين منهم يرجعون إلى الحق بإرشاد المؤمنين المهتدين منهم ; لأن الحق ما دام قائما في جملتهم فرجوع الزائغين عنه إليه مرجو مأمول ، كما دل عليه قوله : لعلهم يرجعون .

والرجاء المذكور بالنسبة إلى بني آدم ; لأنهم لا يعرفون من يصير إلى الهدى ، ومن يصير إلى الضلال .

وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ، وفي الكلام تقديم وتأخير .

والمعنى ( فإنه سيهدين ) ، ( لعلهم يرجعون ) ، ( وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون ) ، أي قال لهم ، يتوبون عن عبادة غير الله . ا هـ منه .

وإيضاح كلامه أن المعنى أن إبراهيم قال لأبيه وقومه : ( إنني براء مما تعبدون ) لأجل أن يرجعوا عن الكفر إلى الحق .

والضمير في قوله : ( لعلهم يرجعون ) على هذا راجع إلى أبيه وقومه .

[ ص: 105 ] وعلى ما ذكرناه أولا فالضمير راجع إلى من ضل من عقبه ; لأن الضالين منهم داخلون في لفظ العقب .

فرجوع ضميرهم إلى العقب لا إشكال فيه ، وهذا القول هو ظاهر السياق ، والعلم عند الله - تعالى - .
مسألة

ظاهر هذه الآيات الكريمة التي ذكرنا يدل على اتحاد معنى العقب والذرية والبنين ; لأنه قال في بعضها عن إبراهيم : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [ 14 \ 35 ] .

وقال عنه في بعضها : رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي [ 14 \ 40 ] . وفي بعضها : ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة الآية [ 14 \ 37 ] . وفي بعضها قال : ومن ذريتي ، وفي بعضها : وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب [ 29 \ 27 ] . وفي بعضها : وجعلها كلمة باقية في عقبه .

فالظاهر المتبادر من الآيات أن المراد بالبنين والذرية والعقب شيء واحد ; لأن جميعها في شيء واحد . وبذلك تعلم أن ظاهر القرآن يدل على أن من وقف وقفا أو تصدق صدقة على بنيه أو ذريته أو عقبه - أن حكم ذلك واحد .

وقد دل بعض الآيات القرآنية على أن أولاد البنات يدخلون في اسم الذرية واسم البنين .

وإذا دل القرآن على دخول ولد البنت في اسم الذرية والبنين ، والفرض أن العقب بمعناهما - دل ذلك على دخول أولاد البنات في العقب أيضا ، فمن الآيات الدالة على دخول ولد البنت في اسم الذرية قوله - تعالى - : ومن ذريته داود وسليمان إلى قوله : وعيسى وإلياس [ 6 \ 84 - 85 ] . وهذا نص قرآني صريح في دخول ولد البنت في اسم الذرية ; لأن عيسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - ولد بنت ، إذ لا أب له .

ومن الآيات الدالة على دخول ولد البنت في اسم البنين قوله - تعالى - : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم [ 4 \ 23 ] . وقوله - تعالى - : وبنات الأخ وبنات الأخت [ 4 \ 23 ] . لأن لفظ البنات في الألفاظ الثلاثة - شامل لبنات البنات وبنات بناتهن ، وهذا لا نزاع فيه بين [ ص: 106 ] المسلمين ، وهو نص قرآني صحيح في استواء بنات بنيهن وبنات بناتهن .

فتحصل أن دخول أولاد البنات في الوقف على الذرية والبنين والعقب ، هو ظاهر القرآن ، ولا ينبغي العدول عنه .

وكلام فقهاء الأمصار من الأئمة الأربعة وغيرهم في الألفاظ المذكورة معروف ، ومن أراد الاطلاع عليه فلينظر كتب فروع المذاهب ، ولم نبسط على ذلك الكلام هنا ; لأننا نريد أن نذكر هنا ما يدل ظاهر القرآن على ترجيحه من ذلك فقط .

أما لفظ الولد فإن القرآن يدل على أن أولاد البنات لا يدخلون فيه .

وذلك في قوله - تعالى - : يوصيكم الله في أولادكم الآية [ 4 \ 11 ] . فإن قوله : ( في أولادكم ) لا يدخل فيه أولاد البنات ، وذلك لا نزاع فيه بين المسلمين ، وهو نص صريح قرآني على عدم دخول أولاد البنات في اسم الولد .

وإن كان جماهير العلماء على أن العقب والولد سواء .

ولا شك أن اتباع القرآن هو المتعين على كل مسلم .

أما لفظ النسل فظاهر القرآن شموله لأولاد البنات ; لأن قوله - تعالى - : ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين [ 32 \ 6 - 8 ] - ظاهر في أن لفظة النسل في الآية شاملة لأولاد البنات ، كما لا يخفى .

والألفاظ التي يتكلم عليها العلماء في هذا المبحث هي أحد عشر لفظا ذكرنا خمسة منها وهي : الذرية والبنون والعقب والولد والنسل . وذكرنا أن أربعة منها يدل ظاهر القرآن على أنها يدخل فيها أولاد البنات ، وواحد بخلاف ذلك وهو الولد .

وأما الستة الباقية منها فهي : الآل والأهل ، ومعناهما واحد .

والقرابة والعشيرة والقوم والموالي ، وكلام العلماء فيها مضطرب .

ولم يحضرني الآن تحديد يتميز به ما يدخل في كل واحد منها وما يخرج عنه ، إلا على سبيل التقريب ، إلا لفظين منها وهما القرابة والعشيرة .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #477  
قديم 03-02-2023, 11:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,710
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (475)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 107 إلى صـ 114




أما القرابة فقد ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - " أنه أعطى من خمس خيبر بني هاشم وبني [ ص: 107 ] المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل " ، مبينا أن ذلك هو معنى قوله - تعالى - : فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى [ 8 \ 41 ] . كما تقدم إيضاحه في سورة " الأنفال " في الكلام على آية الخمس هذه .

وأما العشيرة فقد ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس أنه لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين [ 26 \ 214 ] - صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصفا ، فجعل ينادي : " يا بني فهر ، يا بني عدي " لبطون قريش حتى اجتمعوا ، الحديث . وفيه تحديد العشيرة الأقربين بجميع بني فهر بن مالك ، وهو الجد العاشر له - صلى الله عليه وسلم - .

وفي رواية أبي هريرة في الصحيح أنه لما نزلت الآية المذكورة قال : " يا معشر قريش " أو كلمة نحوها ، الحديث ، وقريش هم أولاد فهر بن مالك . وقيل : أولاد النضر بن كنانة . والأول هو الأظهر لحديث ابن عباس المذكور ، وعليه الأكثر .
تنبيه

[ فإن قيل ] : ذكرتم أن ظاهر القرآن يدل على دخول أولاد البنات في لفظ البنين ، والشاعر يقول في خلاف ذلك :
بنونا بنوا أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد

وكثير من أهل الفقه يذكرون البيت المذكور على سبيل التسليم له ، قالوا : ومما يوضح صدقه أنهم ينسبون إلى رجال آخرين ، ربما كانوا أعداء لأهل أمهاتهم ، وكثيرا ما يتبع الولد أباه وعصبته في عداوة أخواله وبغضهم ، كما هو معلوم .

[ فالجواب ] أن الواحد بالشخص له جهتان ، فمعنى لفظ الابن له جهة خاصة هي معنى كونه خلق من ماء هذا الرجل على وجه يلحق فيه نسبه به ، وهذا المعنى منفي عن والد أمه ، فلا يقال له : ابن - بهذا الاعتبار وثابت لأبيه الذي خلق من مائه ، وله جهة أخرى هي كونه خارجا في الجملة من هذا الشخص ، سواء كان بالمباشرة ، أو بواسطة ابنه أو بنته وإن سفل ، فالبنوة بهذا المعنى ثابتة لولد البنت ، وهذا المعنى هو الذي عناه - صلى الله عليه وسلم - في قوله في الحسن بن علي - رضي الله عنهما - : " وإن ابني هذا سيد " الحديث ، وهو المراد في الآيات القرآنية ، كقوله - تعالى - : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم ] ( فالجواب ) أن الواحد بالشخص له جهتان ، فمعنى لفظ الابن له جهة خاصة هي معنى كونه خلق من ماء هذا الرجل على وجه يلحق فيه نسبه به ، وهذا المعنى منفي عن والد أمه ، فلا يقال له : ابن - بهذا الاعتبار وثابت لأبيه الذي خلق من مائه ، وله جهة أخرى هي كونه خارجا في الجملة من هذا الشخص ، سواء كان بالمباشرة ، أو بواسطة ابنه أو بنته وإن سفل ، فالبنوة بهذا المعنى ثابتة لولد البنت ، وهذا المعنى هو الذي عناه - صلى الله عليه وسلم - في قوله في الحسن بن علي - رضي الله عنهما - : " وإن ابني هذا سيد " الحديث ، وهو المراد في الآيات القرآنية ، كقوله - تعالى - : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم [ 4 \ 23 ] . وقوله - تعالى - : وبنات الأخ وبنات الأخت [ 4 \ 23 ] . وكقوله - تعالى - : [ ص: 108 ] لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن الآية [ 33 \ 55 ] .

فلفظ البنات والأبناء في جميع الآيات المذكورة شامل لجميع أولاد البنين والبنات وإن سفلوا ، وإنما شملهم من الجهة المذكورة بالاعتبار المذكور ، وهو إطلاق لفظ الابن على كل من خرج من الشخص في الجملة ، ولو بواسطة بناته .

وأما البيت المذكور فالمراد به الجهة الأولى والاعتبار الأول .

فإن بني البنات ليسوا أبناء لآباء أمهاتهم من تلك الجهة ، ولا بذلك الاعتبار ; لأنهم لم يخلقوا من مائهم ، وإنما خلقوا من ماء رجال آخرين ، ربما كانوا أباعد ، وربما كانوا أعداء .

فصح بهذا الاعتبار نفي البنوة عن ابن البنت .

وصح بالاعتبار الأول إثبات البنوة له ، ولا تناقض مع انفكاك الجهة .

وإذا عرفت معنى الجهتين المذكورتين وأنه بالنظر إلى إحداهما تثبت البنوة لابن البنت ، وبالنظر إلى الأخرى تنتفي عنه .

فاعلم أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن ابني هذا سيد " ، وقوله - تعالى - : وبنات الأخ وبنات الأخت [ 4 \ 23 ] . ونحوها من الآيات ينزل على إحدى الجهتين .

وقوله - تعالى - : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم [ 33 \ 40 ] - يتنزل على الجهة الأخرى . وتلك الجهة هي التي يعني الشاعر بقوله : وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد

ويزيد ذلك إيضاحا أن قبائل العرب قد تكون بينهم حروب ومقاتلات ، فيكون ذلك القتال بين أعمام الرجل وأخواله ، فيكون مع عصبته دائما على أخواله ، كما في البيت المذكور .

وقد يكون الرجل منهم في أخواله فيعاملونه معاملة دون معاملتهم لأبنائهم .

كما أوضح ذلك غسان بن وعلة في شعره حيث يقول :
إذا كنت في سعد وأمك منهم شطيرا فلا يغررك خالك من سعد
[ ص: 109 ] فإن ابن أخت القوم مصغي إناؤه إذا لم يزاحم خاله بأب جلد

فقوله : مصغي إناؤه من الإصغاء وهو الإمالة ; لأن الإناء إذا أميل ولم يترك معتدلا لم يتسع إلا للقليل ، فهو كناية عن نقص نصيبه فيهم وقلته .

وعلى الجهتين المذكورتين يتنزل اختلاف الصحابة في ميراث الجد والإخوة .

فمن رأى منهم أنه أب يحجب الإخوة ، فقد راعى في الجد إحدى الجهتين .

ومن رأى منهم أنه ليس بأب وأنه لا يحجب الإخوة ، فقد لاحظ الجهة الأخرى .

ولم نطل الكلام هنا في جميع الألفاظ المذكورة التي هي أحد عشر لفظا خوف الإطالة ، ولأننا لم نجد نصوصا من الوحي تحدد شيئا منها تحديدا دقيقا .

ومعلوم أن لفظ القوم منها قد دل القرآن على أنه يختص بالذكور دون الإناث .

وأن الإناث قد يدخلن فيه بحكم التبع إذا اقترن بما يدل على ذلك .

لأن الله - تعالى - قال : لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء الآية [ 49 \ 11 ] . فعطفه النساء على القوم يدل على عدم دخولهن في لفظ القوم .

ونظيره من كلام العرب قول زهير :
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء

وأما دخول النساء في القوم بحكم التبع عند الاقتران بما يدل على ذلك - فقد بينه قوله - تعالى - في ملكةسبإ : وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين [ 27 \ 43 ] .

وأما الموالي فقد دل القرآن واللغة على أن المولى يطلق على كل من له سبب يوالي ويوالى به .

ولذا أطلق على الله أنه مولى المؤمنين ; لأنهم يوالونه بالطاعة ويواليهم بالجزاء .

ونفى ولاية الطاعة عن الكافرين في قوله - تعالى - : ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم [ 47 \ 11 ] .

[ ص: 110 ] وأثبت له عليهم ولاية الملك والقهر في قوله - تعالى - : وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 10 ] . كما أثبت لهم ولاية النار في قوله : مأواكم النار هي مولاكم الآية [ 57 \ 15 ] .

وأطلق - تعالى - اسم الموالي على العصبة في قوله - تعالى - : ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون [ 4 \ 33 ] .

وأطلق اسم المولى على الأقارب ونحوهم في قوله - تعالى - : يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا [ 44 \ 41 ] .

ويكثر في كلام العرب إطلاق الموالي على العصبة وابن العم ، ومنه قول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب : مهلا بني عمنا مهلا موالينا لا تظهرن لنا ما كان مدفونا

وقول طرفة بن العبد :
وأعلم علما ليس بالظن أنه إذا ذل مولى المرء فهو ذليل

والحاصل أن من قال : هذا وقف ، أو صدقة على قومي ، أو موالي - أنه إن كان هناك عرف خاص ، وجب اتباعه في ذلك ، وإن لم يكن هناك عرف فلا نعلم نصا من كتاب ولا سنة يحدد ذلك تحديدا دقيقا .

وكلام أهل العلم فيه معروف في محاله .

والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون .

( وقالوا ) أي قال كفار مكة : ( لولا ) أي هلا ( نزل هذا القرآن على رجل من القريتين ) أي من إحدى القريتين ، وهما مكة والطائف ( عظيم ) يعنون بعظمه كثرة ماله وعظم جاهه ، وعلو منزلته في قومه ، وعظيم مكة الذي يريدون هو الوليد بن [ ص: 111 ] المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب ، وفي مرة بن كعب يجتمع نسبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .

وقيل : هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف .

وعظيم الطائف هو عروة بن مسعود ، وقيل : حبيب بن عمرو بن عمير ، وقيل : هو كنانة بن عبد ياليل ، وقيل غير ذلك .

وإيضاح الآية أن الكفار أنكروا أولا أن يبعث الله رسولا من البشر ، كما أوضحناه مرارا .

ثم لما سمعوا الأدلة على أن الله لم يبعث إلى البشر رسولا إلا من البشر تنازلوا عن اقتراحهم إرسال رسل من الملائكة إلى اقتراح آخر ، وهو اقتراح تنزيل هذا القرآن على أحد الرجلين المذكورين .

وهذا الاقتراح يدل على شدة جهلهم ، وسخافة عقولهم ; حيث يجعلون كثرة المال والجاه في الدنيا موجبا لاستحقاق النبوة وتنزيل الوحي .

ولذا زعموا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ليس أهلا لإنزال هذا القرآن عليه ، لقلة ماله ، وأن أحد الرجلين المذكورين أحق أن ينزل عليه القرآن منه - صلى الله عليه وسلم - .

وقد بين - تعالى - في هذه الآية الكريمة شدة جهلهم ، وسخافة عقولهم ، بقوله : أهم يقسمون رحمة ربك . والظاهر المتبادر أن المراد برحمة ربك النبوة وإنزال الوحي .

وإطلاق الرحمة على ذلك متعدد في القرآن ، كقوله - تعالى - في " الدخان " : إنا كنا مرسلين رحمة من ربك الآية [ 44 \ 5 - 6 ] . وقوله في آخر " القصص " : وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك الآية [ 28 \ 86 ] . وقوله في آخر " الأنبياء " : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 \ 107 ] .

وقد قدمنا الآيات الدالة على إطلاق الرحمة والعلم على النبوة في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا الآية [ 18 \ 65 ] .

[ ص: 112 ] وقدمنا معاني إطلاق الرحمة في القرآن في سورة " فاطر " في الكلام على قوله - تعالى - : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها الآية [ 35 \ 2 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية : نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات يعني أنه - تعالى - لم يفوض إليهم أمر معايشهم وحظوظهم في الدنيا ، بل تولى هو - جل وعلا - قسمة ذلك بينهم ، فجعل هذا غنيا وهذا فقيرا ، وهذا رفيعا وهذا وضيعا ، وهذا خادما وهذا مخدوما ، ونحو ذلك ، فإذا لم يفوض إليهم حظوظهم في الدنيا ، ولم يحكمهم فيها ، بل كان - تعالى - هو المتصرف فيها بما شاء كيف شاء ، فكيف يفوض إليهم أمر إنزال الوحي حتى يتحكموا فيمن ينزل إليه الوحي ؟

فهذا مما لا يعقل ولا يظنه إلا غبي جاهل كالكفار المذكورين .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ليتخذ بعضهم بعضا سخريا [ 43 \ 32 ] التحقيق - إن شاء الله - أنه من التسخير .

ومعنى تسخير بعضهم لبعض - خدمة بعضهم البعض ، وعمل بعضهم لبعض ; لأن نظام العالم في الدنيا يتوقف قيامه على ذلك ، فمن حكمته - جل وعلا - أن يجعل هذا فقيرا مع كونه قويا قادرا على العمل ، ويجعل هذا ضعيفا لا يقدر على العمل بنفسه ، ولكنه - تعالى - يهيئ له دراهم يؤجر بها ذلك الفقير القوي ، فينتفع القوي بدراهم الضعيف ، والضعيف بعمل القوي ; فتنتظم المعيشة لكل منهما ، وهكذا .

وهذه المسائل التي ذكرها الله - جل وعلا - في هذه السورة الكريمة - جاءت كلها موضحة في آيات أخر من كتاب الله .

أما زعمهم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أنقص شرفا وقدرا من أن ينزل عليه الوحي ، فقد ذكره الله عنهم في " ص " في قوله - تعالى - : أؤنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري الآية [ 38 \ 8 ] .

فقول كفار مكة : أؤنزل عليه الذكر من بيننا معناه إنكارهم أن يخصه الله بإنزال الوحي من بينهم ، لزعمهم أن فيهم من هو أحق بالوحي منه ، لكثرة ماله وجاهه وشرفه فيهم .

[ ص: 113 ] وقد قال قوم صالح مثل ذلك لصالح ، كما قال - تعالى - عنهم : أؤلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر [ 54 \ 25 ] .

فقلوب الكفار متشابهة ، فكانت أعمالهم متشابهة .

كما قال - تعالى - : كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم [ 2 \ 118 ] . وقال - تعالى - : أتواصوا به بل هم قوم طاغون [ 51 \ 53 ] .

وأما اقتراحهم إنزال الوحي على غيره منهم ، وأنهم لا يرضون خصوصيته بذلك دونهم - فقد ذكره - تعالى - في سورة " الأنعام " في قوله - تعالى - : وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله [ 6 \ 124 ] . وقوله - تعالى - في " المدثر " : بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة [ 74 \ 52 ] . أي تنزل عليه صحف بالوحي من السماء ، كما قاله مجاهد وغير واحد ، وهو ظاهر القرآن .

وفي الآية قول آخر معروف .

وأما إنكاره - تعالى - اقتراح إنزال الوحي على غير محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي دلت عليه همزة الإنكار المتضمنة مع الإنكار لتجهيلهم وتسفيه عقولهم في قوله : أهم يقسمون رحمة ربك - فقد أشار - تعالى - إليه مع الوعيد الشديد في " الأنعام " ; لأنه - تعالى - لما قال : وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله [ 6 \ 124 ] أتبع ذلك بقوله ردا عليهم وإنكارا لمقالتهم : الله أعلم حيث يجعل رسالته [ 6 \ 124 ] .

ثم أوعدهم على ذلك بقوله : سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون [ 6 \ 124 ] .

وأما كونه - تعالى - هو الذي تولى قسمة معيشتهم بينهم - فقد جاء في مواضع أخر ، كقوله - تعالى - : والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء [ 16 \ 71 ] . وقوله - تعالى - : انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا [ 17 \ 21 ] . وقوله - تعالى - : الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر [ 39 \ 52 ] . وقوله - تعالى - : ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير [ ص: 114 ] [ 42 \ 27 ] . وقوله - تعالى - : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما [ 4 \ 135 ] .

وقد أوضح - تعالى - حكمة هذا التفاضل والتفاوت في الأرزاق والحظوظ ، والقوة والضعف ، ونحو ذلك - بقوله هنا : ليتخذ بعضهم بعضا سخريا كما تقدم .

وقوله - تعالى - هنا : ورحمة ربك خير مما يجمعون ، يعني أن النبوة والاهتداء بهدى الأنبياء ، وما يناله المهتدون يوم القيامة خير مما يجمعه الناس في الدنيا من حطامها .

وقد أشار الله - تعالى - إلى هذا المعنى في غير هذا الموضع ، كقوله في سورة " يونس " : قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [ 10 \ 85 ] . وقوله - تعالى - في " آل عمران " : ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون [ 3 \ 157 ] .
مسألة

دلت هذه الآيات الكريمة المذكورة هنا ، كقوله - تعالى - : نحن قسمنا بينهم معيشتهم الآية ، وقوله : والله فضل بعضكم على بعض في الرزق الآية [ 16 \ 71 ] ونحو ذلك من الآيات - على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية ، لا يستطيع أحد من أهل الأرض البتة تبديلها ولا تحويلها ، بوجه من الوجوه فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا [ 35 \ 43 ] .

وبذلك تحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله ولجميع النبوات والرسائل السماوية - إلى ابتزاز ثروات الناس ، ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم ، بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم - أمر باطل لا يمكن بحال من الأحوال .

مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون ، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس ، ليتمتعوا بها ويتصرفوا فيها كيف شاءوا ، تحت ستار كثير من أنواع الكذب والغرور والخداع ، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #478  
قديم 03-02-2023, 11:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,710
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (476)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 115 إلى صـ 122



[ ص: 115 ] فالطغمة القليلة الحاكمة ومن ينضم إليها - هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد ، وغيرهم من عامة الشعب محرومون من كل خير ، مظلومون في كل شيء ، حتى ما كسبوه بأيديهم ، يعلفون ببطاقة كما تعلف البغال والحمير .

وقد علم الله - جل وعلا - في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير وهذا غني ، وقد نهى - جل وعلا - عن اتباع الهوى بتلك الدعوى ، وأوعد من لم ينته عن ذلك ، بقوله - تعالى - : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا [ 4 \ 135 ] .

وقوله : فإن الله كان بما تعملون خبيرا فيه وعيد شديد لمن فعل ذلك .
قوله - تعالى - : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين .

قوله : ( لبيوتهم ) في الموضعين ، قرأه ورش وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم - بضم الباء على الأصل .

وقرأه قالون عن نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وشعبة عن عاصم : لبيوتهم بكسر الباء لمجانسة الكسرة للياء .

وقوله : ( سقفا ) قرأه نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم - سقفا بضمتين على الجمع .

وقرأه ابن كثير وأبو عمرو : سقفا بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد المراد به الجمع .

وقوله : وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة قرأه نافع وابن كثير وابن عامر في رواية ابن ذكوان ، وإحدى الروايتين عن هشام وأبي عمرو والكسائي : لما متاع الحياة الدنيا بتخفيف الميم من ( لما ) .

وقرأه عاصم وحمزة وهشام عن ابن عامر ، وفي إحدى الروايتين : لما متاع الحياة الدنيا بتشديد الميم من ( لما ) .

[ ص: 116 ] ومعنى الآية الكريمة أن الله لما بين حقارة الدنيا وعظم شأن الآخرة في قوله : ورحمة ربك خير مما يجمعون [ 43 \ 32 ] - أتبع ذلك ببيان شدة حقارتها ، وأنه جعلها مشتركة بين المؤمنين والكافرين ، وجعل ما في الآخرة من النعيم خاصا بالمؤمنين دون الكافرين ، وبين حكمته في اشتراك المؤمن مع الكافر في نعيم الدنيا بقوله : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة أي لولا كراهتنا لكون جميع الناس أمة واحدة متفقة على الكفر ، لأعطينا زخارف الدنيا كلها للكفار .

ولكننا لعلمنا بشدة ميل القلوب إلى زهرة الحياة الدنيا وحبها لها ، لو أعطينا ذلك كله للكفار لحملت الرغبة في الدنيا جميع الناس على أن يكونوا كفارا ، فجعلنا في كل من الكافرين والمؤمنين غنيا وفقيرا ، وأشركنا بينهم في الحياة الدنيا .

ثم بين - جل وعلا - اختصاص نعيم الآخرة بالمؤمنين في قوله : وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين ، أي خالصة لهم دون غيرهم .

وهذا المعنى جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في " الأعراف " : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة [ 7 \ 32 ] .

فقوله : قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا أي مشتركة بينهم في الحياة الدنيا ، خالصة يوم القيامة ، أي خاصة بهم دون الكفار يوم القيامة ; إذ لا نصيب للكفار البتة في طيبات الآخرة .

فقوله في آية " الأعراف " هذه : قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا - صريح في اشتراك المؤمنين مع الكفار في متاع الحياة الدنيا .

وذلك الاشتراك المذكور دل عليه حرف الامتناع للوجود الذي هو ( لولا ) في قوله هنا : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة .

وخصوص طيبات الآخرة بالمؤمنين المنصوص عليه في آية " الأعراف " بقوله : خالصة يوم القيامة [ 7 \ 32 ] - هو الذي أوضحه - تعالى - في آية " الزخرف " هذه بقوله : والآخرة عند ربك للمتقين [ 43 \ 35 ] .

[ ص: 117 ] وجميع المؤمنين يدخلون في الجملة في لفظ المتقين ; لأن كل مؤمن اتقى الشرك بالله .

وما دلت عليه هذه الآيات من أنه - تعالى - يعطي الكفار من متاع الحياة الدنيا - دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله ، كقوله - تعالى - : قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار [ 2 \ 126 ] . وقوله : نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ [ 31 \ 24 ] . وقوله - تعالى - : ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون [ 10 \ 23 ] . وقوله : قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون [ 10 \ 69 - 70 ] . والآيات بمثل هذا كثيرة .

وقد بين - تعالى - في آيات من كتابه أن إنعامه على الكافرين ليس لكرامتهم عليه ، ولكنه للاستدراج ، كقوله - تعالى - : فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ 68 \ 44 - 45 ] . وقوله - تعالى - : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [ 6 \ 44 - 45 ] . وقوله - تعالى - : ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ 7 \ 95 ] . وقوله - تعالى - : قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا [ 19 \ 75 ] على أظهر التفسيرين . وقوله - تعالى - : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] . وقوله - تعالى - : فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير [ 22 \ 44 ] .

ودعوى الكفار أن الله ما أعطاهم المال ونعيم الدنيا إلا لكرامتهم عليه واستحقاقهم لذلك ، وأنه إن كان البعث حقا أعطاهم خيرا منه في الآخرة - قد ردها الله عليهم في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 \ 55 - 56 ] . وقوله - تعالى - : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا [ 34 \ 37 ] . وقوله - تعالى - : قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون [ 7 \ 48 ] . وقوله - تعالى - : ما أغنى عنه ماله وما كسب [ 111 \ 2 ] . [ ص: 118 ] وقوله - تعالى - : وما يغني عنه ماله إذا تردى [ 92 \ 11 ] . وقوله - تعالى - : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم [ 6 \ 94 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وقد قدمنا طرفا من هذا في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] .

ولنرجع إلى تفسير ألفاظ الآية الكريمة ، فقوله : جعلنا أي صيرنا ، وقوله : لبيوتهم بدل اشتمال مع إعادة العامل من قوله : لمن يكفر وعلى قراءة سقفا بضمتين ، فهو جمع سقف ، وسقف البيت معروف .

وعلى قراءة سقفا بفتح السين وسكون القاف : فهو مفرد أريد به الجمع .

وقد قدمنا في أول سورة " الحج " في الكلام على قوله - تعالى - : ثم نخرجكم طفلا [ 22 \ 5 ] - أن المفرد إذا كان اسم جنس . يجوز إطلاقه مرادا به الجمع ، وأكثرنا من أمثلة ذلك في القرآن ومن الشواهد العربية على ذلك .

وقوله : ومعارج الظاهر أنه جمع معرج ، بلا ألف بعد الراء .

والمعرج والمعراج بمعنى واحد ، وهو الآلة التي يعرج بها أي يصعد بها إلى العلو .

وقوله : ( يظهرون ) ، أي يصعدون ويرتفعون حتى يصيروا على ظهور البيوت . ومن ذلك المعنى قوله - تعالى - : فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا [ 18 \ 97 ] .

والسرر جمع سرير ، والاتكاء معروف .

والأبواب جمع باب وهو معروف ، والزخرف الذهب .

قال الزمخشري : إن المعارج التي هي المصاعد والأبواب والسرر - كل ذلك من فضة ، كأنه يرى اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في ذلك ، وعلى هذا المعنى فقوله : زخرفا - مفعول عامله محذوف ، والتقدير : وجعلنا لهم مع ذلك زخرفا .

[ ص: 119 ] وقال بعض العلماء : إن جميع ذلك بعضه من فضة ، وبعضه من زخرف ، أي ذهب .

وقد ذكر القرطبي أن إعراب قوله : وزخرفا - على هذا القول أنه منصوب بنزع الخافض ، وأن المعنى من فضة ، ومن زخرف ، فحذف حرف الجر فانتصب زخرفا .

وأكثر علماء النحو على أن النصب بنزع الخافض ليس مطردا ولا قياسيا ، وما سمع منه يحفظ ولا يقاس عليه .

وعليه درج ابن مالك في الخلاصة في قوله :

وإن حذف فالنصب للمنجر نقلا . . . إلخ .

وعلي بن سليمان وهو الأخفش الصغير يرى اطراده في كل شيء أمن فيه اللبس ، كما أشار في الكافية بقوله :


وابن سليمان اطراده رأى إن لم يخف لبس كمن زيد نأى


وقوله - تعالى - : وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا [ 43 \ 35 ] على قراءة الجمهور بتخفيف الميم من ( لما ) ، فـ ( إن ) هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بين ( إن ) المخففة من الثقيلة ، و ( إن ) النافية المشار إليها بقوله في الخلاصة :
وخففت إن فقل العمل وتلزم اللام إذا ما تهمل


و ( ما ) مزيدة للتوكيد ، وأما على قراءة عاصم وحمزة وابن عامر في إحدى الروايتين عن هشام ( لما ) بتشديد الميم فـ ( إن ) نافية ، و ( لما ) حرف إثبات بمعنى إلا .

والمعنى : وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا .

وذكره بعضهم أن تشديد ميم ( لما ) على بعض القراءات في هذه الآية وآية " الطارق " إن كل نفس لما عليها حافظ [ 86 \ 4 ] - لغة بني هذيل بن مدركة . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين .

[ ص: 120 ] قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " فصلت " في الكلام على قوله - تعالى - : وقيضنا لهم قرناء الآية [ 41 \ 25 ] .
قوله - تعالى - : ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون .

قد قدمنا الكلام عليه في " الصافات " في الكلام على قوله - تعالى - : فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون [ 37 \ 33 ] .
قوله - تعالى - : أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين .

قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة " النمل " في الكلام على قوله - تعالى - : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين [ 27 \ 80 ] .
قوله - تعالى - : فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم .

أمر الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة أن يتمسك بهدي هذا القرآن العظيم ، وبين له أنه على صراط مستقيم ، أي طريق واضح لا اعوجاج فيه ، وهو دين الإسلام الذي تضمنه هذا القرآن العظيم الذي أوحي إليه .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة - قد جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله .

أما أمره بالتمسك بالقرآن العظيم - فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته [ 18 \ 27 ] .

وأما إخباره له - صلى الله عليه وسلم - على صراط مستقيم فمن الآيات التي أوضح ذلك فيها قوله - تعالى - : ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون [ 45 \ 18 ] . وقوله - تعالى - : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض [ 42 \ 52 - 53 ] . وقوله - تعالى - : وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون [ 23 \ 73 - 74 ] . وقوله - تعالى - : فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم [ 22 \ 67 ] . وقوله - تعالى - : فتوكل على الله إنك على الحق المبين [ 27 \ 79 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

[ ص: 121 ] وآية " الزخرف " هذه تدل على أن التمسك بهذا القرآن على هدى من الله ، وهذا معلوم بالضرورة .
قوله - تعالى - : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون .

ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن جميع الرسل جاءوا بإخلاص التوحيد لله ، الذي تضمنته كلمة لا إله إلا الله - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 16 \ 36 ] .

وقوله - تعالى - : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ 21 \ 25 ] . وذلك التوحيد هو أول ما يأمر به كل نبي أمته .

قال - تعالى - : ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 11 \ 50 ] . وقال - تعالى - : وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 11 \ 61 ] . وقال - تعالى - : وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 11 \ 61 ] . وقال - تعالى - : وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله الآية [ 7 \ 85 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه الآية .

قد قدمنا الكلام على قصة موسى وفرعون في سورة " الأعراف " وسورة " طه " .
قوله - تعالى - : وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون .

لم يبين هنا نوع العذاب الذي أخذهم به ، ولكنه أوضحه في " الأعراف " في قوله - تعالى - : وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات [ 7 \ 132 - 133 ] . وقوله - تعالى - : ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات الآية [ 7 \ 130 ] .
قوله - تعالى - : وقالوا ياأيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون .

[ ص: 122 ] ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة - أوضحه في " الأعراف " بقوله : ولما وقع عليهم الرجز قالوا ياموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون .

والرجز المذكور في " الأعراف " هو بعينه العذاب المذكور في آية " الزخرف " هذه .
قوله - تعالى - : ولا يكاد يبين .

قد تقدم الكلام عليه في " طه " في الكلام على قوله - تعالى - عن موسى : واحلل عقدة من لساني الآية [ 20 \ 27 ] .
قوله - تعالى - : فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا الآية [ 25 \ 7 ] .
قوله - تعالى - : فلما آسفونا انتقمنا منهم .

( آسفونا ) معناه أغضبونا وأسخطونا ، وكون المراد بالأسف الغضب - يدل عليه إطلاق الأسف على أشد الغضب في قوله - تعالى - : ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا [ 7 \ 150 ] على أصح التفسيرين .
قوله - تعالى - : فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين .

قد قدمنا الكلام عليه في هذه السورة الكريمة في الكلام على قوله - تعالى - : فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين .
قوله - تعالى - : ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون .

قرأ هذا الحرف نافع وابن عامر والكسائي ( يصدون ) بضم الصاد .

وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة ( يصدون ) بكسر الصاد .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #479  
قديم 03-02-2023, 11:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,710
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (477)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 123 إلى صـ 130


[ ص: 123 ] فعلى قراءة الكسر فمعنى ( يصدون ) يضجون ويصيحون ، وقيل : يضحكون ، وقيل : معنى القراءتين واحد ، كيعرشون ويعرشون ، ويعكفون ويعكفون .

وعلى قراءة الضم فهو من الصدود ، والفاعل المحذوف في قوله : ( ضرب ) قال جمهور المفسرين هو عبد الله بن الزبعرى السهمي قبل إسلامه .

أي ولما ضرب ابن الزبعرى المذكور عيسى ابن مريم فاجأك قومك بالضجيج والصياح والضحك ، فرحا منهم وزعما منهم أن ابن الزبعرى خصمك ، أو فاجأك صدودهم عن الإيمان بسبب ذلك المثل .

والظاهر أن لفظة ( من ) هنا سببية ، ومعلوم أن أهل العربية يذكرون أن من معاني ( من ) السببية ، ومنه قوله - تعالى - : مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا [ 71 \ 25 ] . أي بسبب خطيئاتهم أغرقوا .

ومن ذلك قول الحالفين في أيمان القسامة : أقسم بالله لمن ضربه مات .

وإيضاح معنى ضرب ابن الزبعرى عيسى مثلا - أن الله لما أنزل قوله - تعالى - : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون [ 21 \ 98 ] قال ابن الزبعرى : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن كل معبود من دون الله في النار ، وإننا وأصنامنا جميعا في النار ، وهذا عيسى ابن مريم قد عبده النصارى من دون الله ، فإن كان ابن مريم مع النصارى الذين عبدوه في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه .

وقالوا مثل ذلك في عزير والملائكة ; لأن عزيرا عبده اليهود ، والملائكة عبدهم بعض العرب .

فاتضح أن ضربه عيسى مثلا ، يعني أنه على ما يزعم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قاله ، من أن كل معبود وعابده في النار ، يقتضي أن يكون عيسى مثلا لأصنامهم ، في كون الجميع في النار ، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يثني على عيسى الثناء الجميل ، ويبين للناس أنه عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه .

فزعم ابن الزبعرى أن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اقتضى مساواة الأصنام مع عيسى في دخول [ ص: 124 ] النار مع أنه - صلى الله عليه وسلم - يعترف بأن عيسى رسول الله ، وأنه ليس في النار ، دل ذلك على بطلان كلامه عنده .

وعند ذلك أنزل الله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر الآية [ 21 \ 101 - 103 ] . وأنزل الله أيضا قوله - تعالى - : ولما ضرب ابن مريم مثلا الآية .

وعلى هذا القول فمعنى قوله - تعالى - : ما ضربوه لك إلا جدلا ، أي ما ضربوا عيسى مثلا إلا من أجل الجدل والخصومة بالباطل .

وقيل : إن ( جدلا ) حال ، وإتيان المصدر المنكر حالا كثير ، وقد أوضحنا توجيهه مرارا .

والمراد بالجدل هنا الخصومة بالباطل لقصد الغلبة بغير حق .

قال جماعة من العلماء : والدليل على أنهم قصدوا الجدل بشيء يعلمون في أنفسهم أنه باطل ، أن الآية التي تذرعوا بها إلى الجدل لا تدل البتة على ما زعموه ، وهم أهل اللسان ، ولا تخفى عليهم معاني الكلمات .

والآية المذكورة إنما عبر الله فيها بلفظة " ما " التي هي في الموضع العربي لغير العقلاء ; لأنه قال : إنكم وما تعبدون [ 21 \ 98 ] ولم يقل : ومن تعبدون ، وذلك صريح في أن المراد الأصنام ، وأنه لا يتناول عيسى ولا عزيرا ولا الملائكة ، كما أوضح - تعالى - أنه لم يرد ذلك بقوله - تعالى - بعده : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية [ 21 \ 101 ] .

وإذا كانوا يعلمون من لغتهم أن الآية الكريمة لم تتناول عيسى بمقتضى لسانهم العربي ، الذي نزل به القرآن - تحققنا أنهم ما ضربوا عيسى مثلا إلا لأجل الجدل والخصومة بالباطل .

ووجه التعبير في صيغة الجمع في قوله : ما ضربوه لك إلا جدلا مع أن ضارب المثل واحد وهو ابن الزبعرى - يرجع إلى أمرين : أحدهما : أن من أساليب اللغة العربية إسناد فعل الرجل الواحد من القبيلة إلى جميع [ ص: 125 ] القبيلة ، ومن أصرح الشواهد العربية في ذلك قوله :
فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد


فإنه نسب الضرب إلى جميع بني عبس مع تصريحه بأن السيف في يد رجل واحد منهم ، وهو ورقاء بن زهير ، والشاعر يشير بذلك إلى قتل خالد بن جعفر الكلابي لزهير بن جذيمة العبسي ، وأن ورقاء بن زهير ضرب بسيف بني عبس رأس خالد بن جعفر الكلابي ، الذي قتل أباه ونبا عنه ، أي لم يؤثر في رأسه ، فإن معنى : نبا السيف - ارتفع عن الضريبة ولم يقطع .

والشاعر يهجو بني عبس بذلك .

والحروب التي نشأت عن هذه القصة وقتل الحارث بن ظالم المري لخالد المذكور ، كل ذلك معروف في محله .

والأمر الثاني : أن جميع كفار قريش صوبوا ضرب ابن الزبعرى عيسى مثلا ، وفرحوا بذلك ، ووافقوه عليه ، فصاروا كالمتمالئين عليه .

وبهذين الأمرين المذكورين جمع المفسرون بين صيغة الجمع في قوله : فعقروا الناقة [ 7 \ 77 ] وقوله : فكذبوه فعقروها [ 91 \ 14 ] وبين صيغة الإفراد في قوله : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر [ 54 \ 29 ] .

وقال بعض العلماء : الفاعل المحذوف في قوله : ( ولما ضرب ابن مريم مثلا ) هو عامة قريش .

والذين قالوا : إن كفار قريش لما سمعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر عيسى ، وسمعوا قول الله - تعالى - : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] - قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ما تريد بذكر عيسى إلا أن نعبدك كما عبد النصارى عيسى .

وعلى هذا فالمعنى أنهم ضربوا عيسى مثلا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في عبادة الناس لكل منهما ، زاعمين أنه يريد أن يعبد كما عبد عيسى .

وعلى هذا القول فمعنى قوله : ما ضربوه لك إلا جدلا ، أي ما ضربوا لك هذا [ ص: 126 ] المثل إلا لأجل الخصومة بالباطل ، مع أنهم يعلمون أنك لا ترضى أن تعبد بوجه من الوجوه .

وقوله - تعالى - : قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله الآية [ 3 \ 64 ] .

وإن كان من القرآن المدني النازل بعد الهجرة فمعناه يكرره عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرا قبل الهجرة ، كما هو معلوم .

وكذلك قوله : ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون [ 3 \ 80 ] .

ولا شك أن كفار قريش متيقنون في جميع المدة التي أقامها - صلى الله عليه وسلم - في مكة قبل الهجرة بعد الرسالة ، وهي ثلاث عشرة سنة - أنه لا يدعو إلا إلى عبادة الله وحده لا شريك له .

فادعاؤهم أنه يريد أن يعبدوه افتراء منهم ، وهم يعلمون أنهم مفترون في ذلك .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : أآلهتنا خير أم هو ؟

التحقيق أن الضمير في قوله : هو راجع إلى عيسى ، لا إلى محمد - عليهما الصلاة والسلام - .

قال بعض العلماء : ومرادهم بالاستفهام تفضيل معبوداتهم على عيسى .

قيل : لأنهم يتخذون الملائكة آلهة ، والملائكة أفضل عندهم من عيسى .

وعلى هذا فمرادهم أن عيسى عبد من دون الله ، ولم يكن ذلك سببا لكونه في النار ، ومعبوداتنا خير من عيسى ، فكيف تزعم أنهم في النار ؟

وقال بعض العلماء : أرادوا تفضيل عيسى على آلهتهم .

والمعنى على هذا أنهم يقولون : عيسى خير من آلهتنا ، أي في زعمك ، وأنت تزعم أنه في النار بمقتضى عموم ما تتلوه من قوله : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم [ 21 \ 98 ] .

وعيسى عبده النصارى من دون الله ، فدلالة قولك على أن عيسى في النار ، مع [ ص: 127 ] اعترافك بخلاف ذلك يدل على أن ما تقوله من أنا وآلهتنا في النار - ليس بحق أيضا .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : بل هم قوم خصمون أي لد ، مبالغون في الخصومة بالباطل ، كما قال - تعالى - : وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] أي شديدي الخصومة .

وقوله - تعالى - : وهو ألد الخصام [ 2 \ 204 ] لأن الفعل بفتح فكسر كخصم - من صيغ المبالغة ، كما هو معلوم في محله .

وقد علمت مما ذكرنا أن قوله - تعالى - هنا : ولما ضرب ابن مريم مثلا الآية - إنما بينته الآيات التي ذكرنا ببيان سببه .

ومعلوم أن الآية قد يتضح معناها ببيان سببها .

فعلى القول الأول ، أنهم ضربوا عيسى مثلا لأصنامهم في دخول النار ، فإن ذلك المثل يفهم من أن سبب نزول الآية نزول قوله - تعالى - قبلها : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ; لأنها لما نزلت قالوا : إن عيسى عبد من دون الله كآلهتهم ، فهم بالنسبة لما دلت عليه - سواء .

وقد علمت بطلان هذا مما ذكرناه آنفا .

وعلى القول الثاني أنهم ضربوا عيسى مثلا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - في أن عيسى قد عبد ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يعبد كما عبد عيسى ، فكون سبب ذلك سماعهم لقوله - تعالى - : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] . وسماعهم للآيات المكية النازلة في شأن عيسى - يوضح المراد بالمثل .

وأما الآيات التي بينت قوله : ما ضربوه لك إلا جدلا فبيانها له واضح على كلا القولين . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : إن هو إلا عبد أنعمنا عليه .

والتحقيق أن الضمير في قوله : ( هو ) عائد إلى عيسى أيضا ، لا إلى محمد - عليهما الصلاة والسلام - .

وقوله هنا : عبد أنعمنا عليه لم يبين هنا شيئا من الأنعام الذي أنعم به على عبده [ ص: 128 ] عيسى ، ولكنه بين ذلك في " المائدة " في قوله - تعالى - : إذ قال الله ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات [ 5 \ 110 ] . وفي " آل عمران " في قوله - تعالى - : إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين إلى قوله : ومن الصالحين [ 3 \ 45 - 46 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها .

التحقيق أن الضمير في قوله : ( وإنه ) راجع إلى عيسى لا إلى القرآن ، ولا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .

ومعنى قوله : لعلم للساعة على القول الحق الصحيح الذي يشهد له القرآن العظيم والسنة المتواترة - هو أن نزول عيسى في آخر الزمان حيا علم للساعة ، أي علامة لقرب مجيئها ; لأنه من أشراطها الدالة على قربها .

وإطلاق علم الساعة على نفس عيسى - جار على أمرين ، كلاهما أسلوب عربي معروف .

أحدهما : أن نزول عيسى المذكور لما كان علامة لقربها ، كانت تلك العلامة سببا لعلم قربها ، فأطلق في الآية المسبب وأريد السبب .

وإطلاق المسبب وإرادة السبب - أسلوب عربي معروف في القرآن وفي كلام العرب .

ومن أمثلته في القرآن قوله - تعالى - : وينزل لكم من السماء رزقا [ 40 \ 13 ] . فالرزق مسبب عن المطر ، والمطر سببه ، فأطلق المسبب الذي هو الرزق وأريد سببه الذي هو المطر ، للملابسة القوية التي بين السبب والمسبب .

ومعلوم أن البلاغيين ومن وافقهم يزعمون أن مثل ذلك من نوع ما يسمونه المجاز المرسل ، وأن الملابسة بين السبب والمسبب من علاقات المجاز المرسل عندهم .

[ ص: 129 ] والثاني من الأمرين : أن غاية ما في ذلك أن الكلام على حذف مضاف ، والتقدير : وإنه لذو علم للساعة ، أي وإنه لصاحب إعلام الناس بقرب مجيئها ، لكونه علامة لذلك ، وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه - كثير في القرآن وفي كلام العرب ، وإليه أشار في الخلاصة بقوله : وما يلي المضاف يأت خلفا عنه في الإعراب إذا ما حذفا

وهذا الأخير أحد الوجهين اللذين وجه بهما علماء العربية النعت بالمصدر ، كقولك : زيد كرم وعمرو عدل ، أي ذو كرم وذو عدل ، كما قال - تعالى - : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 \ 2 ] . وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله : ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا

أما دلالة القرآن الكريم على هذا القول الصحيح ففي قوله - تعالى - في سورة " النساء " : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته [ 4 \ 159 ] أي ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى ، وذلك صريح في أن عيسى حي وقت نزول آية " النساء " هذه ، وأنه لا يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب .

ومعلوم أنهم لا يؤمنون به إلا بعد نزوله إلى الأرض .

فإن قيل قد ذهبت جماعة من المفسرين ، من الصحابة فمن بعدهم إلى أن الضمير في قوله : ( قبل موته ) راجع إلى الكتابي ، أي إلا ليؤمنن به الكتابي قبل موت الكتابي .

فالجواب أن يكون الضمير راجعا إلى عيسى ، يجب المصير إليه ، دون القول الآخر ; لأنه أرجح منه من أربعة أوجه : الأول : أنه هو ظاهر القرآن المتبادر منه ، وعليه تنسجم الضمائر بعضها مع بعض .

والقول الآخر بخلاف ذلك .

وإيضاح هذا أن الله - تعالى - قال : وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ، ثم قال - تعالى - : وما قتلوه ، أي عيسى ، وما صلبوه أي عيسى ، ولكن شبه لهم أي عيسى ، وإن الذين اختلفوا فيه أي عيسى ، لفي شك منه أي عيسى ، ما لهم به من علم أي عيسى ، وما قتلوه يقينا أي عيسى ، بل رفعه الله [ ص: 130 ] أي عيسى ، وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به [ 4 \ 159 ] أي عيسى ، قبل موته أي عيسى ، ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا [ 4 \ 157 - 159 ] أي يكون هو - أي عيسى - عليهم شهيدا .

فهذا السياق القرآني الذي ترى - ظاهر ظهورا لا ينبغي العدول عنه ، في أن الضمير في قوله : ( قبل موته ) راجع إلى عيسى .

الوجه الثاني : من مرجحات هذا القول أنه على هذا القول الصحيح ، فمفسر الضمير ملفوظ مصرح به في قوله - تعالى - : وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله [ 4 \ 157 ] .

وأما على القول الآخر فمفسر الضمير ليس مذكورا في الآية أصلا ، بل هو مقدر ، تقديره : ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به قبل موته ، أي موت أحد أهل الكتاب المقدر .

ومما لا شك فيه أن ما لا يحتاج إلى تقدير أرجح وأولى مما يحتاج إلى تقدير .

الوجه الثالث من مرجحات هذا القول الصحيح أنه تشهد له السنة النبوية المتواترة ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تواترت عنه الأحاديث بأن عيسى حي الآن ، وأنه سينزل في آخر الزمان حكما مقسطا . ولا ينكر تواتر السنة بذلك إلا مكابر .

قال ابن كثير في تفسيره بعد أن ذكر هذا القول الصحيح ونسبه إلى جماعة من المفسرين - ما نصه : وهذا القول هو الحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع - إن شاء الله تعالى - ا هـ .

وقوله : بالدليل القاطع - يعني السنة المتواترة ; لأنها قطعية ، وهو صادق في ذلك .

وقال ابن كثير في تفسير آية " الزخرف " هذه ما نصه :

وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بنزول عيسى - عليه السلام - قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مقسطا " . ا هـ منه .

وهو صادق في تواتر الأحاديث بذلك .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #480  
قديم 03-02-2023, 11:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,710
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (478)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 131 إلى صـ 138



[ ص: 131 ] وأما القول بأن الضمير في قوله : قبل موته راجع إلى الكتاب - فهو خلاف ظاهر القرآن ، ولم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة .

الوجه الرابع : هو أن القول الأول الصحيح واضح لا إشكال فيه ، ولا يحتاج إلى تأويل ولا تخصيص ، بخلاف القول الآخر ، فهو مشكل لا يكاد يصدق إلا مع تخصيص ، والتأويلات التي يروونها فيه عن ابن عباس وغيره ظاهرة البعد والسقوط ; لأنه على القول بأن الضمير في قوله : قبل موته راجع إلى عيسى ، فلا إشكال ولا خفاء ، ولا حاجة إلى تأويل ، ولا إلى تخصيص .

وأما على القول بأنه راجع إلى الكتابي فإنه مشكل جدا بالنسبة لكل من فاجأه الموت من أهل الكتاب ، كالذي يسقط من عال إلى أسفل ، والذي يقطع رأسه بالسيف وهو غافل ، والذي يموت في نومه ونحو ذلك ، فلا يصدق هذا العموم المذكور في الآية على هذا النوع من أهل الكتاب ، إلا إذا ادعى إخراجهم منه بمخصص .

ولا سبيل إلى تخصيص عمومات القرآن إلا بدليل يجب الرجوع إليه من المخصصات المتصلة أو المنفصلة .

وما يذكر عن ابن عباس من أنه سئل عن الذي يقطع رأسه من أهل الكتاب ، فقال : إن رأسه يتكلم بالإيمان بعيسى ، وإن الذي يهوي من عال إلى أسفل يؤمن به وهو يهوي - لا يخفى بعده وسقوطه ، وأنه لا دليل البتة عليه كما ترى .

وبهذا كله تعلم أن الضمير في قوله : قبل موته راجع إلى عيسى ، وأن تلك الآية من سورة " النساء " تبين قوله - تعالى - هنا : وإنه لعلم للساعة كما ذكرنا .

فإن قيل : إن كثيرا ممن لا تحقيق عندهم يزعمون أن عيسى قد توفي ، ويعتقدون مثل ما يعتقده ضلال اليهود والنصارى ، ويستدلون على ذلك بقوله - تعالى - : إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي [ 3 \ 55 ] . وقوله : فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم [ 5 \ 117 ] .

فالجواب أنه لا دلالة في إحدى الآيتين البتة على أن عيسى قد توفي فعلا .

[ ص: 132 ] أما قوله - تعالى - : إني متوفيك فإن دلالته المزعومة على ذلك منفية من أربعة أوجه : الأول : أن قوله : متوفيك حقيقة لغوية في أخذ الشيء كاملا غير ناقص ، والعرب تقول : توفى فلان دينه يتوفاه فهو متوف له إذا قبضه وحازه إليه كاملا من غير نقص .

فمعنى : إني متوفيك في الوضع اللغوي ، أي حائزك إلي كاملا بروحك وجسمك .

ولكن الحقيقة العرفية خصصت التوفي المذكور بقبض الروح دون الجسم ، ونحو هذا مما دار بين الحقيقة اللغوية العرفية فيه لعلماء الأصول ثلاثة مذاهب : الأول : هو تقديم الحقيقة العرفية ، وتخصيص عموم الحقيقة اللغوية بها .

وهذا هو المقرر في أصول الشافعي وأحمد ، وهو المقرر في أصول مالك ، إلا أنهم في الفروع ربما لم يعتمدوه في بعض المسائل .

وإلى تقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية أشار في مراقي السعود بقوله :
واللفظ محمول على الشرعي إن لم يكن فمطلق العرفي
فاللغوي على الجلي ولم يجب بحث عن المجاز في الذي انتخب

المذهب الثاني : هو تقديم الحقيقة اللغوية على العرفية بناء على أن العرفية - وإن ترجحت بعرف الاستعمال - فإن اللغوية مترجحة بأصل الوضع .

وهذا القول مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - .

المذهب الثالث : أنه لا تقدم العرفية على اللغوية ، ولا اللغوية على العرفية ، بل يحكم باستوائهما ومعادلة الاحتمالين فيهما ، فيحكم على اللفظ بأنه مجمل ، لاحتمال هذه واحتمال تلك .

وهذا اختيار ابن السبكي ومن وافقه ، وإلى هذين المذهبين الأخيرين أشار في مراقي السعود بقوله :
ومذهب النعمان عكس ما مضى والقول بالإجمال فيه مرتضى


[ ص: 133 ] وإذا علمت هذا ، فاعلم أنه على المذهب الأول الذي هو تقديم الحقيقة اللغوية على العرفية ، فإن قوله - تعالى - : إني متوفيك لا يدل إلا على أنه قبضه إليه بروحه وجسمه ، ولا يدل على الموت أصلا ، كما أن توفي الغريم لدينه لا يدل على موت دينه .

وأما على المذهب الثاني : وهو تقديم الحقيقة العرفية على اللغوية ، فإن لفظ التوفي حينئذ يدل في الجملة على الموت .

ولكن سترى إن - شاء الله - أنه وإن دل على ذلك في الجملة ، لا يدل على أن عيسى قد توفي فعلا .

وقد ذكرنا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة " آل عمران " - وجه عدم دلالة الآية على موت عيسى فعلا ، أعني قوله - تعالى - : إني متوفيك فقلنا ما نصه : والجواب عن هذا ، من ثلاثة أوجه : الأول : أن قوله - تعالى - : متوفيك لا يدل على تعيين الوقت ، ولا يدل على كونه قد مضى ، وهو متوفيه قطعا يوما ما ، ولكن لا على أن ذلك اليوم قد مضى .

وأما عطفه ( ورافعك إلي ) على قوله : ( متوفيك ) فلا دليل فيه لإطباق جمهور أهل اللسان العربي على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع ، وإنما تقتضي مطلق التشريك .

وقد ادعى السيرافي والسهيلي إجماع النحاة على ذلك ، وعزاه الأكثر للمحققين ، وهو الحق خلافا ، لما قاله قطرب والفراء وثعلب وأبو عمرو الزاهد وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه .

وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء وقال : لم أجده في كتابه .

وقال ولي الدين : أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي .

حكاه عنه صاحب الضياء اللامع .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " أبدأ بما بدأ الله به " يعني الصفا - لا دليل فيه على اقتضائها الترتيب .

[ ص: 134 ] وبيان ذلك هو ما قاله الفهري كما ذكره عنه صاحب الضياء اللامع .

وهو أنها كما أنها لا تقتضي الترتيب ولا المعية ، فكذلك لا تقتضي المنع منهما .

فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالأول ، كقوله : إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية [ 2 \ 158 ] بدليل الحديث المتقدم .

وقد يكون المعطوف بها مرتبا ، كقول حسان : هجوت محمدا وأجبت عنه

على رواية الواو .

وقد يراد بها المعية ، كقوله : فأنجيناه وأصحاب السفينة [ 29 \ 15 ] . وقوله : وجمع الشمس والقمر [ 75 \ 9 ] . ولكن لا تحمل على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل .

الوجه الثاني : أن معنى متوفيك أي منيمك ، ( ورافعك إلي ) أي في تلك النومة .

وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله - تعالى - : وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار [ 6 \ 60 ] ، وقوله : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها [ 39 \ 42 ] ، وعزى ابن كثير هذا القول للأكثرين ، واستدل بالآيتين المذكورتين .

الوجه الثالث : أن متوفيك ، اسم فاعل ؛ توفاه إذا قبضه وحازه إليه ، ومنه قولهم : توفى فلان دينه إذا قبضه إليه ، فيكون معنى متوفيك على هذا : قابضك منهم إلي حيا ، وهذا القول هو اختيار ابن جرير .

وأما الجمع بأنه توفاه ساعات أو أياما ثم أحياه - فلا معول عليه; إذ لا دليل عليه . ا هـ . من دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب .

وقد قدمنا في هذا البحث أن دلالة قوله - تعالى - : متوفيك على موت عيسى فعلا - منفية من أربعة أوجه ، وقد ذكرنا منها ثلاثة من غير تنظيم : [ ص: 135 ] أولها : أن متوفيك حقيقة لغوية في أخذه بروحه وجسمه .

الثاني : أن متوفيك وصف محتمل للحال والاستقبال والماضي ، ولا دليل في الآية على أن ذلك التوفي قد وقع ومضى ، بل السنة المتواترة والقرآن دالان على خلاف ذلك ، كما أوضحنا في هذا المبحث .

الثالث : أنه توفي نوم ، وقد ذكرنا الآيات الدالة على أن النوم يطلق عليه الوفاة ، فكل من النوم والموت يصدق عليه اسم التوفي ، وهما مشتركان في الاستعمال العرفي .

فهذه الأوجه الثلاثة ذكرناها كلها في الكلام الذي نقلنا من كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " .

وذكرنا الأول منها بانفراده ; لنبين مذاهب الأصوليين فيه .

أما قوله - تعالى - : فلما توفيتني الآية [ 5 \ 117 ] ، فدلالته على أن عيسى مات منفية من وجهين : الأول منهما : أن عيسى يقول ذلك يوم القيامة ، ولا شك أنه يموت قبل يوم القيامة ، فإخباره يوم القيامة بموته لا يدل على أنه الآن قد مات كما لا يخفى .

والثاني منهما : أن ظاهر الآية أنه توفي رفع وقبض للروح والجسد ، لا توفي موت .

وإيضاح ذلك أن مقابلته لذلك التوفي بالديمومة فيهم في قوله : وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني الآية [ 5 \ 117 ] - تدل على ذلك ; لأنه لو كان توفي موت ، لقال ما دمت حيا ، فلما توفيتني ; لأن الذي يقابل بالموت هو الحياة كما في قوله : ‎وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا [ 19 \ 31 ] .

أما التوفي المقابل بالديمومة فيهم فالظاهر أنه توفي انتقال عنهم إلى موضع آخر .

وغاية ما في ذلك هو حمل اللفظ على حقيقته اللغوية مع قرينة صارفة عن قصد العرفية ، وهذا لا إشكال فيه .

وأما الوجه الرابع من الأوجه المذكورة سابقا : أن الذين زعموا أن عيسى قد مات ، قالوا : إنه لا سبب لذلك الموت إلا أن اليهود قتلوه وصلبوه ، فإذا تحقق نفي هذا السبب [ ص: 136 ] وقطعهم أنه لم يمت بسبب غيره - تحققنا أنه لم يمت أصلا ، وذلك السبب الذي زعموه ، منفي يقينا بلا شك ; لأن الله - جل وعلا - قال : وما قتلوه وما صلبوه [ 4 \ 157 ] . وقال - تعالى - : وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه [ 4 \ 157 - 158 ] .

وضمير رفعه ظاهر في رفع الجسم والروح معا كما لا يخفى .

وقد بين الله - جل وعلا - مستند اليهود في اعتقادهم أنهم قتلوه ، بأن الله ألقى شبهه على إنسان آخر فصار من يراه يعتقد اعتقادا جازما أنه عيسى .

فرآه اليهود لما أجمعوا على قتل عيسى فاعتقدوا لأجل ذلك الشبه الذي ألقي عليه اعتقادا جازما أنه عيسى ; فقتلوه .

فهم يعتقدون صدقهم في أنهم قتلوه وصلبوه ، ولكن العليم اللطيف الخبير أوحى إلى نبيه في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، أنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه .

فمحمد - صلى الله عليه وسلم - والذين اتبعوه عندهم علم من الله بأمر عيسى لم يكن عند اليهود ولا النصارى ، كما أوضحه - تعالى - بقوله : وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه [ 4 \ 157 - 158 ] .

والحاصل أن القرآن العظيم على التفسير الصحيح والسنة المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلاهما دال على أن عيسى حي ، وأنه سينزل في آخر الزمان ، وأن نزوله من علامات الساعة ، وأن معتمد الذين زعموا أنهم قتلوه ومن تبعهم هو إلقاء شبهه على غيره ، واعتقادهم الكاذب أن ذلك المقتول الذي شبه بعيسى هو عيسى .

وقد عرفت دلالة الوحي على بطلان ذلك ، وأن قوله : متوفيك لا يدل على موته فعلا .

وقد رأيت توجيه ذلك من أربعة أوجه ، وأنه على المقرر في الأصول في المذاهب الثلاثة التي ذكرنا عنهم ، ولا إشكال في أنه لم يمت فعلا .

أما على القول بتقديم الحقيقة اللغوية فالأمر واضح ; لأن الآية على ذلك لا تدل على الموت .

[ ص: 137 ] وأما على القول بالإجمال ، فالمقرر في الأصول أن المحمل لا يحمل على واحد من معنييه ، ولا معانيه ، بل يطلب بيان المراد منه بدليل منفصل .

وقد دل الكتاب هنا والسنة المتواترة على أنه لم يمت وأنه حي .

وأما على القول بتقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية ، فإنه يجاب عنه من أوجه : الأول : أن التوفي محمول على النوم ، وحمله عليه يدخل في اسم الحقيقة العرفية .

والثاني : أنا وإن سلمنا أنه توفي موت ، فالصيغة لا تدل على أنه قد وقع فعلا .

الثالث : أن القول المذكور بتقديم العرفية محله فيما إذا لم يوجد دليل صارف عن إرادة العرفية اللغوية ، فإن دل على ذلك دليل وجب تقديم اللغوية قولا واحدا .

وقد قدمنا مرارا دلالة الكتاب والسنة المتواترة على إرادة اللغوية هنا ، دون العرفية .

واعلم بأن القول بتقديم اللغوية على العرفية محله فيما إذا لم تتناس اللغوية بالكلية ، فإن أميتت الحقيقة اللغوية بالكلية ، وجب المصير إلى العرفية إجماعا ، وإليه أشار في مراقي السعود بقوله :
أجمع إن حقيقة تمات على التقدم له الإثبات


فمن حلف ليأكلن من هذه النخلة ، فمقتضى الحقيقة اللغوية أنه لا يبر يمينه حتى يأكل من نفس النخلة ، لا من ثمرتها .

ومقتضى الحقيقة العرفية أنه يأكل من ثمرتها لا من نفس جذعها .

والمصير إلى العرفية هنا واجب إجماعا ; لأن اللغوية في مثل هذا أميتت بالكلية ، فلا يقصد عاقل البتة الأكل من جذع النخلة .

أما الحقيقة اللغوية في قوله - تعالى - : إني متوفيك فإنها ليست من الحقيقة المماتة كما لا يخفى .

ومن المعلوم في الأصول أن العرفية تسمى حقيقة عرفية ومجازا لغويا ، وأن اللغوية تسمى عندهم حقيقة لغوية ، ومجازا عرفيا .

[ ص: 138 ] وقد قدمنا مرارا أنا أوضحنا أن القرآن الكريم لا مجاز فيه على التحقيق في رسالتنا المسماة " منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز " .

فاتضح مما ذكرنا كله أن آية " الزخرف " هذه تبينها آية " النساء " المذكورة ، وأن عيسى لم يمت ، وأنه ينزل في آخر الزمان ، وإنما قلنا : إن قوله - تعالى - هنا : وإنه لعلم للساعة أي علامة ودليل على قرب مجيئها ; لأن وقت مجيئها بالفعل لا يعلمه إلا الله .

وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك مرارا .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فلا تمترن بها أي لا تشكن في قيام الساعة ; فإنه لا شك فيه .

وقد قدمنا الآيات الموضحة له مرارا كقوله - تعالى - : وأن الساعة آتية لا ريب فيها [ 22 \ 7 ] . وقوله : وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير [ 42 \ 7 ] . وقوله : ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه [ 6 \ 12 ] . وقوله : فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه [ 3 \ 25 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين .

وقد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة مرارا كقوله : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا الآية [ 35 \ 6 ] . وقوله : أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو الآية [ 18 \ 50 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم .

قوله هنا : ظلموا أي كفروا ، بدليل قوله في مريم في القصة بعينها : فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم [ 19 \ 37 ] .

وقوله : من مشهد يوم عظيم يوضحه قوله هنا : من عذاب يوم أليم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 313.25 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 307.40 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.86%)]