|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#321
|
||||
|
||||
![]() حكم اشتراط الوفاء في غير محل السلم قال رحمه الله: [ويصح شرطه في غيره]. أي: يصح ويجوز لكلا المتعاقدين إذا تعاقدا بالسلم أن يتفقا على أن التسليم يكون في غير مكان العقد، مثلاً الآن: لو أن رجلاً اشترى من رجلٍ مزارعٍ فقال له: أسلمتك عشرة آلاف ريال لقاء مائة صندوق من التمر السكري، وكان هذا الاتفاق -مثلاً- في مكة، وكلاهما من غير مكة، فصاحب المزرعة مزرعته في القصيم، -السكري لا يوجد إلا في القصيم غالباً، ولذلك نجعل التمثيل بالسكري؛ لأنه معروف ومشهور، ولا نمثل بالعدوي والبرحي، وإن كان البرحي مشهورا ًأيضاً- فقال: السكري موجود في مزرعتي، يعني: إذا حان الحصاد فإني غالباً أهيئه في مزرعتي في القصيم، فألزمك أو أشترط عليك أن تأتي وتأخذه مني قال له: قبلت، فيلزم بالذهاب وأخذ الصفقة من مكانها الذي اتفقا عليه، أو قال له -مثلاً-: هذه عشرة آلاف ريال لقاء سيارة من نوع كذا وكذا قال: قبلت، ولكن أشترط عليك أن أعطيك السيارة في جدة قال: قبلت، حينئذٍ الاتفاق وقع في مكة سواءً في التمر أو في السيارة، لكنهما اتفقا بالتراضي من الطرفين أن يكون الوفاء في موضع غير موضع العقد فيصح ذلك، وكأن المصنف يريد أن يقرر لك أن وجوب الوفاء في مكان العقد محله ما لم يتفقا على غيره، فإن اتفقا على غيره جاز، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (المسلمون على شروطهم)، فهما قد اشترطا أن يكون ذلك في موضعٍ غير موضع العقد برضاهما واختيارهما، وعلى هذا: يلزم الطرفان بما اتفقا عليه وحصل الشرط عليه محل الوفاء إذا كان العقد قد تم في مكان لا يضبط قال رحمه الله: [وإن عقدا ببرٍ أو بحرٍ: شرطاه]. هذا من دقة العلماء، إذا كنت تقرر أن العقد إذا وقع في مكانٍ وجب الوفاء فيه، فافترض أن العقد وقع في مكان لا يمكن ضبطه، كالبر: الصحراء التي ليست فيها معالم، فلا يمكن ضبط المكان، لكن في الصحراء لو أنهما اتفقا في موضعٍ معين ومعلمٍ معين مثل القرى التي تكون في الطريق، أو اتفقا في استراحة معينة في مكانٍ معين، وجب الوفاء في مكان الاتفاق، ما لم يتفقا على غيره، هذا إذا كان ببر، ومثل البر أيضاً: البحر، فلو كان في سفينة أو مركب وقال له: هذه عشرة آلاف لقاء مائة صاع من البر أو من التمر، قال: قبلت، وكان الاتفاق في البحر، فإنه في هذه الحالة لا بد وأن يحددا مكاناً غير المكان الذي اتفقا فيه؛ لأن المكان الذي اتفقا فيه لا ينضبط، وهكذا لو كان في الجو كما في زماننا، فلو أن تاجرين كانا في طائرة، وقال أحدهما للآخر: هذه عشرة آلاف ريال لقاء -مثلاً- نوع من القماش أو من المزروعات، أو نوع من الطعام من المكيلات أو من الموزونات، وتمت صفقة السلم كاملة وهما في الجو فهذا المكان لا ينضبط، إذاً لابد في العقد أن يتفقا على موضع للوفاء، فيقول له: نحن الآن مسافران فيكون وفاؤنا في المدينة، أو وفاؤنا في مكة أو في موضع كذا، فيحددان المكان ويتفقان عليه حكم بيع المسلم فيه قبل قبضه قال رحمه الله: [ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه] إذا تمت هذه الشروط المعتبرة للسلم، فاعلم رحمك الله أنه يترتب عليها أحكام، ومن أحكام السلم أنه لا يجوز لمن عَقَد عَقْد السلم أن يبيع الشيء الذي اتفق عليه وأسلم من أجله قبل أن يقبضه، فلو أن رجلاً اشترى سيارةً سلماً بمائة ألف من الوكالة، ثم قال له رجل: هذه السيارة أرغبها هل تبيعها لي؟ فنقول: لا يجوز أن يبيعها قبل قبضها، وهكذا لو اشترى تمراً أو براً أو غير ذلك من المبيعات، لكن ما الدليل على أنه لا يصح أن يبيع؟ نقول: إن كان السلم وقع على طعام فإننا نقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الطعام قبل قبضه)، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أرى غير الطعام كالطعام)، وإن كان غير طعام، وقلت: النص خاص بالطعام، نقول: إنه قد ربح ما لم يضمن، فإذا اشتريت سيارةً من وكالة بعشرة آلاف إلى نهاية رمضان هذه السنة، وبعتها بأحد عشر ألفاً أو بعتها باثني عشر ألفاً أو بعتها بثلاثة عشر ألفاً، فمعنى ذلك أنك قد بعت شيئاً وربحت فيه قبل أن يكون في ضمانك، وهذا بيناه في مسألة: ربح ما لم يضمن، فتعلمون أن السيارة الآن لو تلفت فإنها تتلف على ضمان البائع الذي هو الوكالة، فلا يصح في الشريعة أن يتحمل غيرك مسئولية السلعة وأنت تأخذ الربح والنتاج، فانظروا إلى عدل الله عز وجل بين عباده، فلا يصح أن تتحمل الوكالة مسئولية هذه السيارة وحفظها وصيانتها والقيام عليها وتكون مسئولةً عنها، وأنت الذي تربح وتغنم، هذا شيء من الأنانية، ولذلك لا تجيز الشريعة أن تأخذ ربح شيء لم تضمنه، لكن تتحمل مسئوليته وضمانه وتأخذ ربحه ونتاجه، وعلى هذا: لا يصح أن تبيع السيارة قبل قبضها، ولا يصح أيضاً أن تبيع الطعام قبل قبضه، ولا يصح أن تبيع القماش إذا أسلمت فيه قبل قبضه، وهكذا الحديد والنحاس والرصاص وغيرها من سائر المبيعات لابد أن تقبض أولاً، ثم بعد قبضه بع وتصرف، ولأنه لا ينتقل إلى ملكيتك إلا بالقبض فاشترط القبض لصحة التصرف فيه حكم هبة المسلم فيه قبل قبضه قال: [ولا هبته]. إذا كان لا يجوز لي أن أبيع حتى لا يحصل الربح قبل الضمان، فافرض أن شخصاً قال لك: هذا المسلم فيه أريد أن أعطيه بدون عوض، كأن أهبه لأخي، فأقول لأخي: يا فلان! هذه السيارة التي اشتريتها من الوكالة هبةٌ مني لك، لم يصح؛ لأن الهبة لا تصح شرعاً إلا بعد الملكية، والملكية تتوقف على القبض، ولا يصح التصرف في شيء بهبته إلا بعد قبضه وملكه، ومن هنا: هبة الأعضاء والتبرع بالأعضاء على القول بعدم جوازها، بني هذا القول على أن الإنسان لا يملك أعضاءه؛ لأن الهبة شرطها: أن تكون مالكاً للشيء الذي تهبه، والإنسان ليس مالكاً لجسده، فهو ممكن أن يهب ماله، وممكن أن يهب سيارته، لكن يده ليست ملكاً له، وكذلك كليته وأعضاؤه، وقرنية العين ونحو ذلك لا يملكها، فقالوا: يشترط في الهبة الملكية، ومن هنا قالوا: صحيح أنه قد تعاقد، ولكنه لم يصل إلى ملكيته الحقيقية التي تبيح له التصرف فيه، فاشترط القبض لهبته، فلا يصح أن يهب السيارة ولا أن يهب الطعام ولا أن يهب القماش ولا أن يهب أي شيءٍ وقع عليه السلم إلا بعد قبضه حكم الحوالة بالمسلم فيه أو عليه قبل قبضه قال: [ولا الحوالة به ولا عليه]. أي: أن يحيل بهذا الشيء الذي وقع عليه السلم، فلا يصح أن يحيل به، ولا أن يحيل عليه، لا يصح في كلتا الحالتين، فحينما تدفع مائة ألف لقاء سيارة، فإن المائة ألف هذه لا يصح للوكالة التي اتفقت معها على أن تعطيك سيارة أن تحيلك إلى مكانٍ آخر؛ لأنه لا يصح للشخص الذي تعاقدت معه سلماً أن يحيلك إلى شخصٍ آخر، وأنت أيضاً لا يصح أن تحيل غيرك إلى ذلك الشيء الذي يقع السلم عليه؛ لأن الحوالة تكون على دين مستقر، والسلم لا يستقر ديناً إلا بعد حلول أجله وقبضه، فأنت إذا دفعت مائة ألف لقاء سيارة وجئت تحيل شخصاً له عليك مائة ألف وقلت له: خذ هذا الدين الذي لي على الوكالة، لا يصح إذ الوكالة ليست بمدينة؛ لأن الأجل لم يحل أصلاً، وهذا بيع وصفقة خارجة عن الديون، والحوالة شرطها أن تكون على ديون كما سيأتي (من أحيل على مليء فليتبع) كما قال صلى الله عليه وسلم، فالحوالة تكون في الديون المستقرة، وأنت تحيل على شيء لا يستقر ديناً، وصحيح أن الصفقة أوجبته، لكنه لم يستقر ديناً، فلا يصح للوكالة أن تحيلك على وكالة ثانية، ولا يصح لتاجر الحبوب أن يحيلك على تاجر آخر، ولا يصح لتاجر التمر أن يحيلك على تاجر آخر، كذلك أيضاً لا يصح لك أنت أيضاً أن تحيل على هذا التاجر، فكما أنه لا يصح لهذا أن يحيل على هذا، فكذلك الطرف الثاني لا يصح أن يحيل غيره عليه. قال: [ولا أخذ عوضه]. أي: العوض عن هذا المسلم فيه، مثلاً: رجل تعاقدت معه على مائة صندوق من التمر في نهاية رمضان، فلما حضر الأجل قال لك: والله ما عندي مائة صندوق من التمر السكري الذي اتفقنا عليه، فأريد أن أعطيك عوضاً عنها تمراً برحياً، لم يصح، وإنما يجب عليه أن يحضر هذا الذي اتفقتما عليه وهو السكري، فإن كان ليس عنده يذهب ويحضره من الغير، ولكن بعض العلماء يقول: إذا عجز، كأن يكون هناك جائحة اجتاحت التمور وأصبح هذا الموسم ليس فيه تمر من هذا الصنف الذي اتفقا عليه، فينفسخ العقد، ويحكم بانفساخ عقد السلم، وفي هذه الحالة يطالب برد المال، ولا يطالب بالعوض؛ لأنه غير موجود، فلو قال له: أعطيك عوضاً من نوعٍ ثانٍ، أو أعطيك بدل السيارة طعاماً لم يجز، ولابد أن يعطيه نفس الشيء الذي أسلم فيه، وهذا كله -كما ذكرنا- مبني على أن السلم رخصة خارجة عن الأصل، والخارج عن الأصل يتقيد بالصورة الواردة والتي اتفقا عليها وأوجدا العقد عليها، ولا يجوز التصرف في هذه العقود لإخراجها عن حقيقتها؛ لأنه لو قلنا بجواز ذلك خرج عن كونه سلماً إلى بيع آخر، وأصبح بيع السلم ذريعة إلى بيوع أُخر، ومن هنا: الرخص لا يتجاوز بها محالها، فما جاء على سبيل الرخصة يقيد بصورته ولا يصح إلا بعقده حكم الرهن والكفالة بالسلم قال رحمه الله: [ولا يصح الرهن والكفيل به]. الرهن للاستيثاق، فإذا أخذ منك شخص ديناً مائة ألف ريال، تقول له: أعطني رهناً، فيعطيك رهناً مثلاً: أرضه أو عمارته، فيقول: هذه العمارة رهن حتى أعطيك المائة ألف، أو هذا كفيلي يكفلني في الديون، فلا يجوز أن يجعل السلم رهناً، وكذلك أيضاً قالوا: لا يجوز أن يجعل في السلم رهناً، وهذا فيه خلاف، فبعض العلماء يقول: يجوز أخذ الرهن في السلم، وبعضهم يمنع من أخذ الرهن في السلم، مثلاً: رجل تعاقد مع غيره سلماً في تمر، فقال له: هذه عشرة آلاف لقاء مائة صندوق من التمر السكري آخذها منك في نهاية رمضان، قال: قبلت، قال: أعطني رهناً لقاء هذه المائة ألف التي سأعطيك إياها، فمعناه أنه سيأخذ الرهن لقاء الوفاء بالسلم، فقيل: لا يجوز، وهذا مذهب بعض العلماء، وقال بعض العلماء بصحة الرهن فيه وهو أقوى، وذلك لظاهر آية الدين لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، فإذا كان الشخص لا يأمن ولا يستوثق قالوا: يجوز له أن يأخذ رهناً لقاءه، إلا أنه ضُعف، والحنابلة ومن وافقهم يجيبون بأنه إذا لم يمكنه الوفاء فإنه يلزم بالمثل، وإذا لم يكن المثل فإنه يلزم برد المال الذي هو الثمن الذي أسلمه إليه، فلا داعي لأخذ الرهن به، والصحيح والأقوى ما ذكرنا؛ لظاهر الآية الكريمة؛ لأنها نزلت في السلم، وكان ابن عباس رضي الله عنه يحلف أن آية الدين في السلم، وفي آية الدين ذكر الرهن؛ ولأنه قد يعجز عن الوفاء بالسلم، أو يتعذر وجود الشيء الذي اتفقا عليه ووقع عليه عقد السلم، وتصبح المائة ألف ديناً، فيكون حينئذٍ من حقه أن يستوثق للمال الذي دفعه إليه. قال: [والكفيل به]. كذلك لو قال له: أحضر لي كفيلاً ليكفل قالوا: لا يصح، والصحيح أنه يصح كالرهن. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين الأسئلة الفرق بين عقد السلم وبيع الثمر قبل بدو صلاحها السؤال أشكل عليّ بيع السلَم مع بيع الثمرات قبل بدو صلاحها وبين بيع الرجل ما لا يملك؟ الجواب هذا إشكال جيد، فقد تقدم معكم أن من باع ثمرةً قبل بدو صلاحها، فإنه لا يصح البيع؛ لأنه لا يأمن فساد الثمر، وبناءً على ذلك يقولون كأنه باع شيئاً غير موجود؛ لأنه اشترى الثمرة، والثمرة أثناء العقد صلاحها مفقود، فكيف صححنا السلم مع أن المبيع مفقود وغير موجود؟ والجواب: أن بيع الثمرة ينصب على معين، وبيع السلم انصب على غير المعين، وهذا الذي ذكرناه: أنه يشترط في السلم أن يكون موصوفاً في الذمة، ومعنى ذلك: أنه لما باع الثمر انصب على معينٍ يفوت بفواته، ولكن في بيع السلم ينصب على غير معين، فهذا الفرق، وبناءً على ذلك إنما يرد الاعتراض أن لو اتفقا في الحكم، بحيث قلنا: يجوز هذا ويجوز هذا وهما متفقان أيضاً في الوصف، والواقع أن هذا شيء وهذا شيء، فلما كان الغرر في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها موجباً للتحريم حرمنا، ولما كان الغرر غير موجب في بيع السلم، أو كان موجوداً ولكنه يسير، وأجاز الشرع أجزناه، والفرق بينهما من هذا الوجه ظاهر، والله تعالى أعلم الفرق بين السلم وبيع الرجل ما لا يملك السؤال ما الفرق بين بيع السلم وبيع الرجل ما لا يملك؟ الجواب بيع السلم: بيع من الرجل لما لم يملك، ولكن هذا كما قال العلماء: عام وخاص، والقاعدة: لا تعارض بين عامٍ وخاص، فنقول القاعدة: عدم جواز بيع الرجل لما لا يملك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث حكيم بن حزام كما في حديث السنن: (لا تبع ما ليس عندك)، فلما نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عنده جاء حديث ابن عباس فقال: (من أسلف فليسلف في كيلٍ معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، فنقول: صح السلم؛ لأنه فردٌ من أفراد العام المنهي عنه، والقاعدة: لا تعارض بين عام وخاص، فبيع ما ليس عند الإنسان محرم إلا في السلم؛ لورود الرخصة فيه، وقال بعض العلماء: ليس بيع السلم من بيع الإنسان ما ليس عنده؛ لأنه من بيع الذمة، ولكن مذهب الجمهور على أنه من بيع الإنسان ما ليس عنده، والحق أن مذهب الجمهور أرجح والرخصة فيه واضحة، ولذلك قال: ورخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في السلم، والسلم مرخصٌ فيه من هذا الوجه حكم الكتابة والإشهاد في عقد السلم السؤال هل تجب الكتابة والإشهاد في السلم؟ الجواب السلم من الديون، والديون يفصل فيها: فإذا كان الدين موثقاً والحق ممكن توثيقه لصاحبه بكتابةٍ، وثابت لصاحب الحق حقه فلا إشكال بأنه يجوز أن يتعاقد باللفظ دون حاجة إلى إشهاد. وأما إذا كان الحق لا يمكن الوصول إليه إلا بالاستيثاق فيجب الإشهاد، وإن كان الاستيثاق بالكتابة وجبت الكتابة، ومن هنا يفصل فيه، فإذا كنت قد اشترى منك رجل سلماً سلعة وكتبت في وصيتك: إن لفلان وفلان كذا وكذا سلماً وثبت حقه؛ فحينئذٍ لا إشكال، أما إن كان عدم الكتابة سيؤدي إلى ضياع الحق فإن الكتابة واجبة، والإشهاد عليه واجب، والكتابة استيثاق إن حصل بدونها فبها ونعمت؛ كالشهادة المجردة باللفظ، وإن كان قد حصل الاستيثاق بالكتابة مع الإشهاد فهذا أكمل وأفضل على ظاهر آية البقرة، وقد رخص بعض العلماء في ترك الإشهاد لحديث اليهودي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهون عند يهودي في صاعين من شعير)، قالوا: ولم يكتب في وصيته حقه، وإنما ترك ذلك لمكان الاستيثاق، ولكنه لا يخلو من النظر لما ذكرنا، والله تعالى أعلم حكم الاتفاق مع الخياط على خياطة ثوب السؤال هل العقد الذي يتم مع خياط الثياب يعتبر من عقود السلم؟ الجواب إذا قال له: أريد ثوباً من هذا القماش، بكم؟ قال: الثوب من هذا القماش بمائةٍ أو مائة وعشرين، فإنه حينئذٍ يكون عقد بيع وإجارة، فلو قال له: أريد ثوباً من هذا القماش، فكم متراً يكفيني؟ قال: ثلاثة أمتار، قال: وتفصلها؟ قال: وأفصل، قال: إذاً أشتري منك بمائة، لم يصح؛ لأنه جمع بين الإجارة والبيع مع الجهالة، فلم يعلم قسط الإجارة من قسط البيع، كيف؟ لما قال له: كم متراً يكفيني من هذا الثوب؟ قال: ثلاثة أمتار، فحينئذٍ رغب أن يعطيه من هذا الثوب ثلاثة أمتار، ثم قال له: وتفصل؟ قال: وأفصل، قال: كم تأخذ عليه؟ -يعني: على البيع وعلى التفصيل- فقال: مائة، فجمع بين الثلاثة الأمتار المبيعة أولاً وبين إجارة الخياطة ثانياً على وجهٍ لا يدرى فيه حق الإجارة من حق البيع، وهذا هو الذي دعا بعض العلماء أن يمنع منه؛ لأنه جمعٌ بين عقدين في عقد واحد على وجهٍ موجب للجهالة والغرر، أما لو قال له: بكم المتر من هذا؟ قال: المتر بستة ريالاً، قال: إذاً أعطني ثلاثة أمتار بثمانية عشر ريالاً، وبكم تفصل؟ قال: بثلاثين، قال: إذاً هذه ثمانية وأربعون، اقطع لي ثلاثة أمتار وفصلها لي، صح ذلك وأجازه العلماء وألحقوه بعقد الاستصناع
__________________
|
#322
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب البيع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (311) صـــــ(1) إلى صــ(19) شرح زاد المستقنع - باب القرض [1] يعتبر القرض من المعاملات المالية التي يراد بها الإرفاق، وقد ثبت القرض بأدلة الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح، فيستحب لمن وسع الله عليه أن يوسع على إخوانه المسلمين بالقرض، فيوسع به على المكروب، ويفك به الغارم والمديون، ومن جانب آخر على المقرض أن يحذر من إقراض من يستعين بالقرض على حرام أو مكروه؛ لأنه حينئذٍ يكون شريكاً له في وزره مشروعية القرض بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال رحمه الله تعالى: [باب القرض]. القَرض والقِرض، والأشهر: بالفتح، لكن يصح الكسر، وأصل قرض الشيء الاقتطاع منه، ومنه قولهم: قرضه فأر، إذا اقتطع منه، وسمي القرض قرضاً: لأن الشخص يقتطع من ماله جزءاً للمديون، فيعطيه إياه ديناً، وأصل القَرض: دفع المال للغير إرفاقاً ليرده عند حلول أجله المتفق عليه، وهذا النوع يسميه العلماء: إرفاقاً، وقد اعتبروه من عقود الرفق؛ لأن الشخص يعطي ماله يحتسب الثواب عند الله عز وجل ويريد الرفق بما أخذ منه، فيكون حينئذٍ عبادة، وقد يدفع المال له من باب العاطفة، فيكون عادة، كشخصٍ -مثلاً- جاءك وقال: أريد مائة ألفٍ قرضاً إلى نهاية السنة، فإنك قد تنظر إلى ظروفه وما ألمّ به من الحوائج فتعطيه المائة ألف، لكن لما أعطيته المائة ألف أعطيتها من باب الرفق، وقد تقدم في أول كتاب البيوع أن عقود المعاوضات تنقسم إلى ثلاثة أقسام: 1 - ما يقصد منه الرفق المحض. 2 - ما يقصد منه القبض المحض. 3 - ما يقصد منه مجموع الأمرين القبض والرفق. أما ما يقصد منه القبض المحض فمثل البيع، فإذا جئت تشتري من المعرض أو جئت تشتري من التاجر إذا عرض عليك السلعة فأنت تريد أن تغبنه وهو يريد أن يغبنك؛ فإن قال لك: هذه السلعة بمائة تقول له: بل بتسعين، وإذا قال بثمانين، قلت: بل بسبعين، هو يريد أن يكون الغبن عندك وأنت تريد أن يكون الغبن عنده، فهذه يسمونها عقود الغبن في البيع وكذلك في الإجارة، إذا قال: أجرتك داري هذا بعشرة آلاف سنةً كاملة، فقلت: بل بتسعة آلاف، فهو يريد أن يغبنك في الألف، وأنت تريد أيضاً أن تغبنه في الألف، فهذا يسمى عقد الغبن، كذلك لو اكتريت أحدهم من أجل أن يوصلك إلى الحرم فقال لك: من هنا أذهب بك إلى الحرم بعشرين، تقول: لا. بل بعشرة، فالغبن إما أن يكون في حق المستأجر أو الأجير، فهذا النوع من العقود يسمونها عقود الغبن والشرع يشدد في شروط هذا النوع، ولذلك تجد شروط البيع أشد من شروط غيره؛ لأنه ما دام أن هناك غبناً فالشرع يريد أن يحتاط للبائع وللمشتري، وبعبارة أخرى: يحتاط للمتعاقدين في حقيهما، فلا يصحح بيع المجهولات ولا يصحح بيوع الغرر بأحوالها، كل هذا احتياطاً لحق البائع، وحق المشتري. النوع الثاني: عقود الرفق، ومنها: الهبة، كما لو أن شخصاً جاءك وقال لك: يا فلان! إني أحبك في الله، وأهدى لك هدية، أو قال: هذا القلم هبةٌ مني لك، أو هديةٌ مني لك؛ فإنه يعطيك القلم ولا يريد الثواب إلا من الله عز وجل، أو يريد أن يكون ثوابه المحبة والمودة، فهذا يسمى عقد الرفق المحض، لا يريد أن يغبنك ولا تريد أن تغبنه، فليس هناك غبن من الطرفين أو أحدهما، إنما يراد الرفق، فيشمل هذا الصدقات والهبات بعوض. النوع الثالث من العقود: ما جمع الغبن والرفق، ومن أمثلة ذلك: الشركات، فلو أن رجلاً قال لك: ندفع مائة ألف، أنت تدفع خمسين وأنا أدفع خمسين، ويكون ثلاثة أرباع الربح لي، وربع الربح لك، تقول له: لا. بل ثلاثة أرباع الربح لي، وربعه لك، فهناك غبن في الربح، وهناك رفق في التقوي بكلا المالين؛ فإن المتاجرة بمائة ألف ليست كالمتاجرة بالخمسين، فأنت تريد أن تقوي ماله وهو يريد أن يقوي مالك، فترى رفقاً منك به وهو أيضاً يرى رفقاً منه بك، فصار رفقاً من الطرفين، ولكنه غبن من الطرفين، فإذاً: عقد الشركة جامع بين الغبن وبين الرفق (المضاربة والقراض)، كرجلٍ قال: خذ هذه العشرة آلاف واضرب بها في الأرض، ويكون لي ثلثا الربح ولك ثلث الربح، فتجد في المضاربة رفقاً من الطرفين؛ لأن العامل يأخذ المائة الألف المجمدة والتي لا تستطيع أن تعمل بها فيرفق بك بالمتاجرة، فأنت ارتفقت من هذه الناحية، والعامل ارتفق من جهة اكتساب صنعته وتنمية خبرته، واستفاد من جهة الربح الذي سيجده من المائة ألف، فإذاً: صار عقد المضاربة عقد رفق من هذا الوجه وهو عقد غبنٍ؛ لأنك ستقول: لي ثلثا الربح، وهو سيقول: بل لي ثلثا الربح ولك ثلثه، وكل منكما يريد أن يغبن الآخر في حضه من الربح، فصار عقد المضاربة والقراض جامع بين الغبن والربح. القرض والدين من العقود التي يقصد بها الرفق المحض، فإنه يعطيه القرض على سبيل أن يرفق به، جاءك رجل وعنده كربة أو نكبة لا قدر الله، وقال لك: يا فلان! إني في ضائقة وحاجة، كرجل يريد إيجاراً لشقته أو يريد علاجاً لمريضه أو علاجاً لمرضه؛ فإن هذا كله يقصد به الرفق من دفع الشدة والحاجة عن المحتاج، ولذلك قالوا: دفع المال للغير إرفاقاً -بقصد الرفق- على أن يرده، فلما قالوا: على أن يرده خرجت الهبة والصدقة، فصار القرض من عقود الهبات، والهبة من عقود الرفق أدلة مشروعية القرض القرض مشروع بالكتاب والسنة وبإجماع الأمة، إذا أعطيت الناس أموالك قرضاً، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة:282]، وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] فجعل معاملة المخلوق للخالق مركبة على القرض، وشبهها بالقرض، فشبهها بالمعروف والمعهود فدل على السنن. كذلك دلت السنة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً على جواز القرض، أما القول: فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)، فهذا يدل على أن من أخذ القرض وفي نيته أن يرده -لا أن يتلاعب بحقوق الناس- فإن الله يعينه، قال بعض العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم: (أدى الله عنه)، يحتمل أمرين: الأمر الأول: يحتمل أن يوفقه في الدنيا فيسدده، وقل أن تجد رجلاً يأخذ أموال الناس وفي نيته أن يردها إلا ويوفق للرد. الأمر الثاني: يحتمل أن يكون في الآخرة، أي: إذا مات ولم يسدد الدين، فإن الله لما علم من حسن نيته يتكفل بإرضاء خصمه والأداء عنه فضلاً من الله عز وجل وتكرماً لحسن نيته؛ لأن نيته كانت صالحة، والله هو المطلع على الضمائر والسرائر، أما لو كانت نيته سيئة، كرجل يُكثر الذنوب ولا يستطيع أن يسدد ويأتي إلى أخيه المسلم ويخدعه بالعبارات وبالكلمات الحسنة والوعود المكذوبة، والله يطلع على ضميره وسريرته أنه كذاب، سيأتي إلى الرجل، ويقول له: أعطني مائة ألف، وفي نهاية السنة تأتيني أموال ويعده وعوداً كاذبة ويمنيه والله يعلم أنه في قرارة قلبه ليس بصادق، وأنه ليس عنده ما يستطيع أن يسدد به، وليس صادقاً فيما يقول من أنه سيعطيه، بل بعض الأحيان يعلم أنه ستأتيه الأموال ولكن يبيت في قرارة قلبه أن يأخذ الدين ولا يرده، فمثل هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)، ولذلك لا يوفق للسداد، فتتراكم عليه الديون حتى يشتكى ويطالب، فيلبس لباس الذلة في الدنيا، وما ينتظره من عذاب الآخرة أشد وأبقى، نسأل الله السلامة والعافية. فالدين جائزٌ ومشروع لظاهر هذا الحديث، وكانت أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها تكثر من الدين فيلومونها، وهي لم تكن تكثر من الدين من أجل أن تتاجر وتبيع إنما كانت تفرج به الكربات، فكانوا يقولون لها: ما هذا الذي تفعلينه؟ لماذا تتدينين؟ فقالت: لا أدع هذا الدين منذُ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه)، فهي تستدين للحاجة وتفريج الكربة. وأما دليل الإجماع: فقد أجمع العلماء على مشروعية القرض وجوازه وأنه من الأمور المستحبة والمندوبة، فيستحب لمن وسع الله عليه أن يوسع على إخوانه المسلمين بالقرض مراتب القرض من حيث الجواز والمنع والقرض يكون واجباً، ويكون حراماً، ويكون مندوباً، ويكون مكروهاً، ويكون مباحاً. أما أنه يكون واجباً: كرجلٍ تاجر عنده قدرة ومال، ويأتيه المكروب -خاصةً من الأقرباء- ويطلبه مالاً يسيراً، وهذا المديون الذي يريد الدَّين عنده كربة مثلاً فيه مرض خطير، وقد يهلك إذا بقي فيه هذا المرض، ويريد منه الدين من أجل أن ينقذ نفسه، أو يريد هذا القرض من أجل أن يشتري طعاماً، أو يشتري شراباً لابد منه لحياة نفسه، فإنه في هذه الحالة يجب على هذا الذي وسع الله عليه أن يفرج كربة أخيه المسلم، خاصةً إذا غلب على ظنه أنه إذا لم يفعل ذلك أنه سيهلك، والله عز وجل أمر المسلم أن ينقذ أخاه المسلم، ولا يجوز له أن يقتله، فإذا لم يعطه المال فكأنه قتله؛ لأنه تعاطى السبب لهلاكه ولحوق الضرر به، ومثل ذلك لو جاءك المديون يسألك العون، وعلمت أنك إذا لم تسدد دينه فإنه يتضرر، فيكون مثلاً احتاج إلى عشرة آلاف ريال؛ لأن رجلاً اشتكاه في عشرة آلاف ريال، وإذا لم يسدد العشرة آلاف سيسجن، ثم إذا سجن في هذه العشرة آلاف كحق واجب عليه فإن ذلك يعرض أسرته وأولاده للضرر، وقد تتعرض زوجته للزنا والحرام، فلابد أن يضع المسلم الأمر في حسبانه، فإذا كان المدين قريباً لك إما ابن عمٍ لك أو ابن خالٍ لك -بينك وبينه نسب- وأنت تستطيع تفريج كربته فإنه يجب عليك أن تقوم بسداد هذا الدين وتتحمل عنه، خاصةً إذا غلب على ظنك أنه سيسدد، قالوا: قد يكون واجباً عليك أن تدفع له القرض، فإن لم تدفع فإنك تأثم، وتتحمل وزر هذا المسلم، وهذا من كفر نعمة الله عز وجل؛ ولذلك لما جاء الملك للأقرع، قال له: ابن سبيلٍ منقطع، قال له: الحقوق كثيرة، سبحان الله! وهذا هو قول الناس اليوم: عندما تأتي لشخص يقول لك: الالتزامات كثيرة، رجل يكون عنده عشرات الألوف، بل مئات الألوف، بل قد يكون عنده ملايين، وتأتيه في حاجة يسيرة فيقول لك: الحقوق كثيرة، وعليَّ التزامات كثيرة، يعني: هذه الملايين وعشرات الألوف ومئات الألوف لا تفي لسداد هذا الدين الذي لا يعادل شعرةً في مقابل ما عنده، هذه النعمة التي أنعم الله عز وجل بها عليه والمحروم من حرم الخير، وهذا من كفر النعم نسأل الله السلامة والعافية، ولا يأمن من نقمة الله العاجلة والآجلة، فإن من كفر نعمة الله عز وجل فإن الله يلبسه ثوب الذلة، ويسلبه النعمة ويذيقه سوء العذاب الذي ذاقه غيره ما دام أنه يرى قريبه ويرى المحتاجين على تلك الحال ولا يعينهم، هذه كلها أمور ينبغي وضعها في الحسبان عند الحكم بالقرض. من جاء يطلب قرضاً وأنت تعلم أنه يريده لسكنه أو لطعامه ورزقه ورزق أولاده وأنت قادرٌ عليه ينبغي عليك أن تفرج كربته، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. كذلك يمكن أن يكون القرض حراماً، كما لو جاء يطلب القرض من أجل أن يفعل الحرام كأن يشتري به خمراً أو يسافر به لارتكاب الحرام، والمسئول الذي طلب منه القرض يعلم ويغلب على ظنه أن هذا المال سيصرف في هذا الحرام فلا يجوز له أن يعطيه، وإذا أعطاه كان شريكاً له في وزره وإثمه نسأل الله السلامة والعافية. ويكون القرض مندوباً، كأن يكون المقترض مسلماً وجاءك في حاجة ولا يجب عليك أن تنقذه كطالب علمٍ أو رجلٍ يريد أن يسافر إلى أهله ليعف نفسه أو نحو ذلك من المستحبات والمندوبات فأعنته على ذلك فهذا قرضٌ مندوب، وهذا هو الذي نبه عليه المصنف، وهذا عند انتفاء الموانع التي توجب حرمته وانتفاء الدوافع التي ترفعه إلى مرتبة الوجوب، مثلاً: لو جاءك مديون يستطيع أن يأخذ منك الدين ويأخذ من غيرك، وقال لك: يا فلان! أقرضني، وتعلم أنك إذا لم تقرضه سيذهب إلى غيرك فلا يتعين عليك في هذه الحال ولم يجب عليك، ولكن من الأفضل والأكمل أن تبذل له الدين، ففي هذه الحالة يكون القرض مندوباً. ويكون مكروهاً إذا كان لشيءٍ مكروه لا يصل إلى درجة الحرام، كأشياء تشغله عن ذكر الله ولا تصل إلى درجة الحرام ويقضي به وطره فيكون المعونة عليه معونة على المكروه. ويكون مباحاً، كرجلٍ جاءك يريد أن يأخذ المال من أجل أن يشتري صفقة وتجارة، فهو في الأصل ليس مضطراً حتى يصل إلى درجة الوجوب، كتفريج الكربات، إنما يريد أن يربح ويزيد ماله، فأنت استحيت منه وأعطيته، كما يقع بين التجار بعضهم مع بعض، يأتي ويأخذ منه السلعة ديناً وهو قادر أن يسدده، هذا يكون مباحاً؛ لأنه لا دوافع تجعله مندوباً أو واجباً ولا موانع تجعله محرماً أو مكروهاً فصار مباحاً، أو كرجلٍ غني ثري يأخذ منك ديناً فتستحي منه وتعطيه، فهنا لا تستطيع إن تقول: إن هذا تفريج، أي: ليس هو بمكروه، ولا تستطيع أن تقول: إن هذا محرم؛ لأنه ليس بحرام، فليس في مقام المطلوبات ولا في مقام المحرمات، فيكون مباحاً الجمع بين مشروعية القرض وذم المسألة إذا طلب إنسان القرض هل يدخل هذا في ذم المسألة؟ لقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم في المسألة ورغب في ترك سؤال الناس، وبين فضيلة ترك المسألة، وأن من ضمن أن لا يسأل الناس شيئاً ضمن له النبي صلى الله عليه وسلم الجنة، قال: (من يضمن لي أن لا يسأل الناس شيئاً أضمن له الجنة) والسبب في هذا الاستغناء بالله جل وعلا وصدق اللجأ إلى الله سبحانه وتعالى وكمال اليقين به، والمؤمن إذا صان ماء وجهه عن أن يريقه للناس كان هذا أكمل في إيمانه ومروءته، وهذا كله يقصده الشرع ويطلبه. فهل إذا استدان يدخل في المسألة المكروهة؟ الجواب إن طلب الدين لا يعتبر من المسألة المكروهة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طلب الدين، وتوفي كما في الصحيحين ودرعه مرهونة في صاعين من شعير عند يهودي، وهذا يدل على أن طلب الدين ليس من المسألة المكروهة، وما زال على ذلك عمل السلف الصالح من الصحابة والتابعين رحمهم الله، حتى إن محمد بن سيرين وهو من أجلاء أئمة التابعين رحمه الله برحمته الواسعة، أصابته الديون وعظمت عليه حتى سجن في الدين، وأصبح مرهوناً، ولما توفي أنس بن مالك رضي الله عنه أوصى أن يغسله محمد بن سيرين وكان مسجوناً في دينه، وهذا يدل على أن مسألة الدين ليست من المسألة المحرمة، ولا من المسألة المكروهة؛ لأنه يأخذ الدين ويرده، وليس بآخذ شيئاً بدون عوض أركان القرض المشروع القرض يقوم على ثلاثة أركان، وهي: العاقدان، ومحل العقد، والصيغة، فأما العاقدان: فهما المقرض والمستقرض، فالمقرض هو الذي يدفع القرض، والمستقرض هو الشخص الذي يأخذ القرض، ويشترط فيهما: الأهلية، وهذه الأهلية تستلزم العقل، فلا يصح أن يستقرض من مجنون، أو صبي غير مأذون له بالتصرف في المال، ولو أقرض لم يصح القرض وجاز لوليه أن يأخذه مباشرة. كذلك يشترط في المقرض أن يكون مالكاً للمال الذي يقرضه، فإذا كان غير مالكٍ له لم يصح أن يقرضه للغير، والمال الذي يدفعه للغير قرضاً إذا لم يكن مالكاً له فقد تصرف في ملك غيره، ومن المعلوم أن القرض يصير المال المقتَرَض ملكاً للمقتَرِض، وعلى هذا لابد أن يكون الذي بذل مالكاً. ويتفرع على هذا المسألة المشهورة: لو أن رجلاً أُعطي مالاً لكي يزكيه لا يصح أن يعطيه قرضاً؛ لأنه أُعطي المال وكالة، والإذن له بالتصرف في المال وكالة في الزكاة، وعلى هذا فلا يجوز له أن يقرضه، وكذلك أيضاً لا يجوز أن يتصرف في مال اليتيم فيقرضه للغير؛ لأن نصب الولي على اليتيم من أجل أن ينظر مصلحة المال في تنميته والقيام عليه، فإذا أعطاه قرضاً فإنه قد خاطر بالمال؛ لاحتمال أن يعجز الشخص الذي أخذ القرض عن السداد، وإنما أُذن للولي أن يتصرف في مال موليه وهو اليتيم إذا كان على وجه الإحسان والحفظ والصيانة، فإذا أعطاه قرضاً كان ذلك مخالفاً للأصل، فلم يصح ولا يجوز له. أما الصيغة فإنها تقوم على الإيجاب والقبول، فتقول: أقرضتك، أو أسلفتك، فإنه يصح أن يعبر بالقرض ويصح أن يعبر بالسلف، لما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي رافع رضي الله عنه قال: (استسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً)، فقوله: (استسلف) تدل على جواز أن يقول: أسلفتك هذه الدراهم، أو أسلفتك هذه الريالات، ومن هنا قالوا: يصح أن تتركب الصيغة بلفظ القرض وبلفظ السلف الحكمة من مشروعية القرض القرض في مشروعيته حِكم عظيمة، فهو يفرج كربات المكروبين، ويدفع ويقضي حوائج المحتاجين، حتى قال بعض العلماء: إنه من أفضل القربات وأجلها وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن المديون لا يأتيك إلا من حاجة، فإذا ضاقت عليه السبل وأراد أن يطلب منك أن تعينه بالقرض وهو موثوق لا يعرف بالتلاعب ولا بالكذب ولا بالغش ولا بالخديعة للناس، وخاصة إذا كان غريباً لا يعرف غيرك، أو بينك وبينه قرابة، فإنك إن فرجت كربته كان هذا من أبلغ ما يكون من الأثر والإحسان إلى الناس، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم مبيناً فضل الإحسان إلى الناس في القروض والتوسعة عليهم فيها: (من يسر على معسرٍ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) وعلى هذا استحب العلماء القرض، واستحبوا التيسير على المقترض، ومن التيسير على المقترض عدة أمور: أولاً: أن تيسر له إذا جاء يسأل، فلا تعنفه، ولا توبخه، ولا تهينه، ولا تشعره بشيء من الحرج، كان السلف يملكون الأموال ولكن كأنها ليست ملكاً لهم، بل ملكاً لمن سأل، حتى قال ابن عباس: (ثلاثة لهم عليَّ فضل: رجل احتاج حاجة فجاء يسألنيها) ووجه فضله قالوا: إنه اختارك من بين الناس كلهم، فكان الناس يوم كانوا يحسون أن من جاء للحاجة والفاقة وقصدني فإنه اختارني من بين الناس. وهذا أمر يعظم وقعه على الكريم الذي له نفس حية وقلب حي، فيرد هذا، حتى إنه يتحرج أن تأتي، وتقول له: يا فلان! قد نزلت بي حاجة، فيقول لك: ماذا تريد؟ ماذا تأمر؟ ولا يسمح لك أن تقص حاجتك، وتريق ماء وجهك، يحس بأخوة الإسلام وأن ما أصابك كأنه أصابه، ويحس أن الذي نزل بك كأنه نزل به، فيستشعر حينما جئت إليه وفي وجهك ولسانك ما يدل على الشدة والحاجة والفاقة كأنك هو، فهو يحس بهذه الآلام والأشجان ويتألم كما تتألم بها أنت، فلا يريدها أن تستمر، فيقول لك: أرجوك قل ما تريد، ولا يسمح لك أن تذكر سبباً للسؤال وللحاجة، فهذا من التيسير على المعسرين، وهو يدل على كمال الإيمان وشكر نعمة الله عز وجل المنعم المتفضل على العبد، فإن الله إذا أعطاك نعمة وبارك لك فيها شكرتها، وإذا شكرتها وجاءك المكروب أحسست كأنك هو. وعلى هذا قالوا: هذا من التيسير عند ابتداء القرض، ثم إذا جئت تعطيه القرض لا تشعره بالأسلوب القوي العنيف، فهذا من التعسير عليه والتضييق؛ لأنه لم يشعر بآلامه ولم يحسها فيوسع عليه، يقول له: المال مالك، وأسأل الله أن يبارك لك فيه، خذه مباركاً خذه بطيبة نفس، أسأل الله أن يفرج عنا وعنك، فيخرج المكروب والمنكوب ميسراً عليه وقد كان جاءك بهموم الدنيا وقد ضاقت عليه الدنيا بما رحبت، فيخرج من عندك مجبور القلب والخاطر، فلا يملك إلا أن يدعو لك بظهر الغيب ويذكرك بالخير، وهذه هي التي عناها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (نعم المال الصالح عند الرجل الصالح)، فإن المال الصالح الذي جاء من طريق الحلال والكسب الطيب إذا جاء للرجل الصالح فستر به العورات وفرج به الكربات، أنعم الله عليه بهذا المال، فيصبح الناس يدعون له بظهر الغيب، كذلك من التيسير على المعسر ما لو قال لك مثلاً: أعدك بالسداد في نهاية رجب، وأنت تعلم أنه قد ضيق على نفسه، فتقول له: لا يا أخي! بل إن شاء الله إلى أن ييسر الله عليك، فهذا أيضاً من التيسير على المعسر في الأجل. فعلى العموم من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله هذا القرض، وفي مشروعيته حكم عظيمة، منها: أن الله عز وجل يعظم الأجر والمثوبة لمن أعطاه الله المال، فشكره بمثل هذا. ومن حكمه العظيمة أنه يحقق الألفة والمحبة والأخوة بين الناس، فإن الناس لا زالوا بخير ما رحم بعضهم بعضاً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). فهذه من الأمور التي تستفاد من القرض أنه يجعل الناس متراحمين، وانظر إلى الرجل حينما يأتيك، ويقول لك: أصابتني ضائقة فذهبت إلى فلان وسألته عشرة آلاف فأعطانيها ويسر لي، فعل الله به وفعل، فتحس أن الناس يشعرون أن الخير لا يزال موجوداً، ولكن نسأل الله السلامة والعافية، إذا احتاج المحتاج ونزلت الكربة بالمكروب وضاقت على المسلم الأرض فأصبح يفكر، وينظر ذات اليمين وذات الشمال يبحث عمّن يعينه فلا يجد، بل يذهب ويريق ماء وجهه عند الرجل ويشكو له حاجته وكربته وفاقته، فإذا به يقول له: والله الحقوق كثيرة، والذين يتدينون كثير وقل من يقضي، وكأنه يقول له: أنت مثلهم، هذه من الأمور التي لا تحمد عقباها، وهو من كفر نعمة الله عز وجل، إما أن تعطيه، وإما أن ترده بالتي هي أحسن. وعلى هذا فالقرض فيه خير كثير، وفيه حكم عظيمة وتوسعة على الناس وتفريج لكرباتهم، وربما جاءك المكروب وهو يحتاج المال لسداد دين مسكنه، فإذا لم تسدد عنه كيف يكون حال الناس؟! يخرجون من مساكنهم إذا ضاقت عليهم الدنيا؟ كذلك أيضاً ربما جاءك وقد ابتُلي بغريم لا يحسن، ومن هنا كانوا يوصون ويقولون: إذا رجوت فلا ترج إلا الحيي الذي يستحي، حتى قيل: (لا ترج من ليس له حياء)؛ لأن الحيي إذا جئته فإنه يستحي منك وأقل شيء أنه إذا ردك ردك بالتي هي أحسن، فإذا نظرنا إلى هذه الحكم المستفادة من قضاء الديون، فإننا ندرك حكمة الشرع في تجويزه للقرض، وأنه من الخير والرحمة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فمن رحمة الله ويسر هذه الشريعة أن يسرت على الناس في هذا النوع من المعاملات. وقوله: [وهو مندوب]. بعد أن عرفنا أن القرض يقوم على عاقدين: المستقرض والمقرض، وعلى محل وهو: المال المدفوع وبدله، وعلى صيغة وهي الإيجاب والقبول، (أقرضتك) و (قبلت)، انتقل بعدها رحمه الله إلى الحكم العام، فقال: [وهو مندوب] أي: القرض وذلك بالنسبة للشخص الذي يدفع ويعطي وهو المقرض. ولكن هنا مسألة عارضة، وهي: من المعلوم أن الواجبات أعظم أجراً من المندوبات والمستحبات، فمرتبة الواجب أعلى وأعظم، فإذا نُظر إلى الدين فإنه مندوب، وإذا فرج عن أخيه ويسر وسهل عليه كان من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، مع أن التيسير ليس بواجب، فقالوا: إنه فُضِّل هذا المندوب على الأصل من المطالبة، وهو إلزام الغريم بمطالبته، وعلى الصدقة، قالوا: لأن هذا فيه معنى الوفاء وفيه زيادة، فكأنه اشتمل على الأصل الواجب والزيادة عليه، فكان أفضل من هذا الوجه الأشياء التي يجري فيها القرض وقوله: [وما يصح بيعه يصح قرضه] أي: يصح قرض كل شيء يصح بيعه، وعلى هذا تشمل الأموال: الأثمان والمثمنات، وعند العلماء خلاف في هذه المسألة، فبعض العلماء يقول: لا يصح القرض إلا إذا كان من المثليات، المكيلات والموزونات والمعدودات المنضبطة، أما لو استقرض شيئاً لا ينضبط مثله لم يصح القرض، والسبب في هذا أن القرض يلزم المديون برد المثل، فإذا أخذ شيئاً لا ينضبط فمعنى ذلك أنه يفضي إلى الغرر والاختلاف والتنازع، وعلى هذا قالوا: لابد وأن يكون منضبطاً، واختلفوا في المنضبط على وجهين: الوجه الأول: منهم من يخصه بالمكيل والموزون ولا يجيز في المعدود كالحنفية. الوجه الثاني: منهم من يجيز في الكل كالجمهور، ودرج المصنف على مذهب الجمهور -وهو الصحيح- أنه يجوز حتى في العدد، قالوا: والدليل على مشروعيته ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي رافع رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً فردها خياراً رباعياً) والبكر من الإبل معدود وليس بمكيل ولا موزون ورده خيارًا رباعيًا، وقال: (إن خير الناس أحسنهم قضاءً) فدل على جواز السلف والدين والقرض في المعدودات، وأنه لا ينحصر بالمكيلات والموزونات. وبناءً على مذهب الحنفية لا يجوز أن يقترض إلا ما كان منضبطاً بالوزن أو بالكيل، وأما ما عداه فلا يجوز، وإذا قررنا الإجماع فكلهم متفقون على أن الذي لا ينضبط لا يجوز قرضه، فمثلاً قال له: هذه الحفنة من الطعام أُعطيكها قرضاً، فإنه إذا جاء يسدد لا يستطيع أن يعطي مثل الحفنة، وهكذا لو قال له: هذا كيس لا يُعلم كم بداخله أعطيكه قرضاً، فإنه لا يُعلم كم بداخله، ولو أعطاه جواهر؛ لأن المشكلة أنه إذا أخذ هذا الكيس سيستنفده، ولا يدري كم هو، فلابد وأن يكون الذي يأخذه منضبطاً، ولو أخذ الجواهر وكانت مما لا ينضبط ولم يكن لها وصف تتميز به، فإنه لا يصح قرضها على هذا الوجه؛ لأنه يفضي إلى الاختلاف والتنازع. وقوله: [إلا بني آدم] فمثلاً: قال شخص لآخر: أقرضني هذه الأمة، وعندنا أن كل ما صح بيعه فإنه يصح قرضه، والمملوك يجوز بيعه، وبناءً على ذلك يجوز قرضه، ومن حيث الأصل أنه إذا استقرض بعيراً مثلاً، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استقرض البعير ورد مثله وأفضل منه، وعلى ذلك فإذا استقرض المملوك فإنه يرد مثله في صفاته، فالسبب في منع قرض بني آدم، قالوا: خشية إعارة الفروج، والسبب في هذا أن القرض يراد منه الانتفاع والارتفاق، فإذا أخذه المقترض فإنه يملكه، ولا يكون مالكاً له إلا بالقبض أو بالتصرف، فإذا تصرف فيه ملكه، وحينئذٍ ربما أخذه واقترضه ووطئ المرأة قبل أن يتصرف فيها أو وطئها بعد قرضها، وحينئذٍ يكون قد وطئ فيما يملك الغير، قالوا: إنه وطئ في ملك الغير، فلو صححنا أنه وطئ في شيء ملكه بالقبض قالوا: يصير كأنه أعار الفرج بالفرج؛ لأنه أخذها للوطء، ثم جاء ببدل عنها مكان الذي ارتفق به، قالوا: وبناءً على هذه العلة وهي عدم جواز إقراض بني آدم يصبح الحكم الأشبه فيه أن يختص بالتي يمكن أن يطأها. والشافعية دققوا في هذه المسألة، فقالوا: قرض بني آدم إن كان مما لا يوطأ كصغيرة لم تبلغ سن الوطء، أو ذات محرم كأن يقرضه أخته تكون مملوكة، فقال له: أقرضني أختي ديناً، فأخذها قرضاً وديناً فحينئذٍ قالوا: يصح؛ لأنه لو أعطاه بدلاً عنها فلا تتحقق المفسدة؛ لأنه إذا أخذ أخته قرضاً عتقت عليه، ثم إذا عتقت عليه جاء بالبدل عنها، وحينئذٍ قالوا: إن المفسدة المرادة من إعارة الفروج ليست موجودة، بخلاف ما إذا أعاره أمة فأخذها وملكها فوطئها ثم رد مثلها، فكأنه رد الفرج بالفرج، وعلى هذا قالوا: يفرق بين ذات المحرم وغير ذات المحرم، ويفرق بين ما يمكن وطؤه وما لا يمكن. أيضاً قالوا: يجوز أن تستقرض المرأة المملوكة، فيجوز قرض بني آدم للنساء بعضهن مع بعض؛ لأن مفسدة إعارة الفروج ليست بموجودة؛ لأن المرأة لا تطأ المرأة، ومن هنا قالوا: ينبغي تقييد المنع بما وجدت فيه العلة، وهذا هو وجه المنع من استقراضه، وإلا فلو نظرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف المعدود ورد المعدود فإن هذا يدل على جواز قرض بني آدم ورد المثل إذا لم يكن هناك مثل، أو رد العين إن كانت العين موجودة ما يملك به الإنسان القرض وقوله: [ويملك بقبضه فلا يلزم رد عينه] ويملك القرض بقبضه، هناك ثلاث مراحل وسبق وأن نبهنا عليها، وهي: العقد، وهو الإيجاب والقبول، وهناك القبض والحيازة والتسليم ونحو ذلك، وهناك التصرف سواءً بالبيع، أو بالإجارة، أو بالهبة، أو بالعتق، وهذا كله تصرف في المبيع، فأما بالنسبة للعقد، فمثلاً: قال له: أقرضني عشرة آلاف ريال إلى نهاية رمضان، قال: قبلت، فقال بعض العلماء: إذا قال له: أقرضني عشرة آلاف، أو أقرضني هذا الكتاب، أو أقرضني هذه السيارة، أو أقرضني هذه الدابة، وقال الآخر: قبلت، فإنه بمجرد الإيجاب والقبول تصير إلى ملك المستقرض، وحينئذٍ من حق المستقرض أن يعطي البدل عن القرض، وفائدة المسألة سنبينها في البدلية، قال بعض العلماء: لا يقع الملك إلا بعد القبض. فمثلاً: لو فرضنا مالاً كمائة ألف ريال من فئة الخمسمائة، إذا قال له: أقرضني مائة ألف إلى نهاية رمضان، قال له: هذه مائة ألف إلى نهاية رمضان ولم يقبضها، فعلى القول الأول: تصير إلى ملك المستقرض بمجرد الإيجاب والقبول، والقول الثاني: أنها لا تصير إلى ملك المستقرض إلا بالقبض، فإذا قبضها فحينئذٍ لو طالبه صاحب الدين؛ لأنه في بعض الأحيان يقول صاحب الدين: خذ المائة ألف إلى نهاية رمضان، ثم يقول: لا. قد رجعت عن ديني، أعطني إياه الآن، فيريد أن يفسخ، وسنبين هل يلزمه أن يبقى أم لا يلزمه، لكن نقول على ما اختاره المصنف رحمه الله وجماعة: إن من حقه أن يرجع ولو كان بعد العقد مباشرة، فلو أنها من فئات الخمسمائة ريال، فقلنا: إنها تملك بالقبض على القول الثاني الذي اختاره المصنف، فإذا قبض المستقرض القرض حينئذٍ ملكه، فجاز له إذا طالبه برده أن يرد المثل بدلاً عنه؛ لأنه قد ملك وحينئذٍ يصل إلى ملكيته إن شاء أعطى نفس الشيء وإن شاء أعطى مثله؛ لأنه صار إلى ملكيته بمجرد القبض. القول الثالث: لا يصير إلى ملكية المستقرض إلا بالتصرف، فإن تصرف في الدين فحينئذٍ ملكه ولم يلزم رد عينه، فالمسألة هنا في رد العين، لو أن هذا الشيء في بعض الأحيان يكون خمسمائة والسوق الأفضل أن تكون مفرقة فاستقرضها مفرقة، فأراد أن يعطيه بدلاً عنها جملة وبرأسها كما يقولون كان له ذلك؛ لأنه ملكها بالقبض وصح له أن يصرفه إلى المثل، هذا إذا قلنا: إنها بمجرد العقد. إذاً: يملك القرض بالعقد، ويملك بالقبض، ويملك بالتصرف، فإن اقترض منه قمحاً ولم يتصرف فيه وطالبه صاحب القمح برده قبل التصرف لزمه أن يرد عين القمح ولا يصرفه إلى مثله؛ لأنه لم يملكه إذا لم يتصرف فيه، وهكذا أيضاً لو قلنا: لو قبضه وبعد القبض طالبه لم يصح أن يطالبه بعينه، والعكس لو طالبه قبل القبض وبعد العقد لزمه أن يدفع له عين الطعام الذي أخذ، وهكذا لو أنه اقترض منه سيارة أو دابة على أن يرد مثلها، فإنه إذا اقترض منه السيارة قرضاً بعينها ورقبتها فإنه يصير مالكاً لها بمجرد العقد على القول الأول، وبالقبض إذا ركبها وقبضها وساقها على القول الثاني، وإذا تصرف فيها وبذلها على القول الثالث، فإذا تصرف فيها فباعها أو أجرها للغير صارت ملكاً له، فحينئذٍ يجوز أن يعطيه بدلها ويجوز أن يعطيه عينها، فالخيار له إذ لا يكون ملزماً بالعين، هذا بالنسبة لمسألة ما يملك بقبضه. إذاً: عندنا ثلاثة أوجه للعلماء: فالجمهور يرجحون القبض، وغيرهم يرجح التصرف، والجمهور كلهم على القبض والتصرف، وقال المالكية: إنه يملك بمجرد العقد، لكن الجمهور منقسمون على القبض وعلى التصرف، واختار المصنف رحمه الله قول من قال: إنه يملك بالقبض. وهذه المسائل بناها العلماء على أصول في الشريعة، فأنت حينما تعطي شخصاً ديناً فإن هذا الدين بأصل الشرع إذا أخذه كان من حقه أن يتصرف فيه، فمن أقرض قرضاً فإن الإجماع قائم على أن المقترض يملك القرض، بدليل أنه يذهب يأخذ منك المائة ألف فيشتري بها عمارة أو سيارة وليس من حقك أن تطالبه بهذه العمارة أو السيارة إنما تطالبه بالمائة ألف، إذاً: الإجماع والأصل الشرعي يدل على أنه يملكها. يبقى السؤال هذه المائة ألف في الأصل هي ملك لي وأعطيتها لك وحصل بيني وبينك إيجاب وقبول، فهل ملكيتك لها تكون بمجرد الإيجاب والقبول؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] ودل على أنه يلزم بمجرد العقد، أم أنه لابد من القبض وهذا أصل مفرع على المعاوضات؛ لأن الديون في البداية فيها شبه بالعارية وفي النهاية فيها شبه بالبيع؛ لأنه إذا تصرف فيها لزمه البدل، فإذا قلت: إنه ملكها ودخلت إلى ملكيته وتصرف فيها فحينئذٍ يضمن البدل، فهذا يقتضي أنها معاوضة وفيها شبه من البيوع والمعاوضات؛ لكن في الابتداء ومن حيث الأصل الدين لي والمال مالي، خاصة على قول من يقول: إنه من حقي أن أطالبك في أي وقت ولو قبل الأجل. فإذاً: لابد أن نحدد متى ينتقل المال من عندي إليك، وهذا يترتب عليه الأحكام الشرعية حتى ننصف صاحب المال وننصف المديون أيضاً، وحتى نعلم أن هذه الشريعة كاملة، وأنها فاقت جميع القوانين والتشريعات التي هي من صنع البشر والتي لا تسمن ولا تغني من جوع، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} [الأعراف:52] قواعد صحيحة وأصول متينة، فالعلماء يدرسون كل شيء يترتب عليه ذمم الناس والحقوق والمسئوليات، فيفرعون ويفصلون حتى يُعرف ما لكل ذي حقٍ من حق، فيعطى كل ذي حقٍ حقه. فالفقه ميزته أنه سبب ليعطى كل ذي حقٍ حقه، وهذه المسائل وإن كانت في البداية غريبة لكنها تنبني عليها حقوق، فقد يأخذ المقترض الطعام فيطحنه، وقد يأخذ الدقيق فيطحنه أو يتصرف فيه ثم يطالب الرجل بعين ماله، فهل من حقه أن يطالب أو ليس من حقه؟ وإذا قلت: من حقه، لماذا؟ وإذا قلت: ليس من حقه، لماذا؟ هذه كلها أمور محسومة ومفصلة في كلام العلماء رحمهم الله حتى يتيسر القضاء إن حصلت الخصومة، وتتيسر الفتوى إن حصل السؤال، ويتيسر العلم إذا حصل الطلب، فالمراد أننا ندرس هذه المسائل حتى نعرف بيان ضوابط القرض، وكذلك الأموال حتى نعلم متى تنتقل من ملكية المالك الأصلي إلى ملكية غيره يتبع
__________________
|
#323
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب البيع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (312) صـــــ(1) إلى صــ(19) حكم تسديد الدين قبل حلول الأجل وقوله: [بل يثبت بدله في ذمته حالاً ولو أجله] (بل يثبت) أي: يثبت الدين والضمير في (بدله) عائد إلى الدين، وقوله: (في ذمته) أي: ذمة المديون والذي استقرض، والذمة وصف يقوم بالأشخاص قيام الأوصاف الحسية بمحسوساتها، وهو وصف يقبل الالتزام، فقوله: [في ذمته] أي: أنه لابد وأن يكون الشخص الذي يقترض عنده ذمة قابلة بأن يلتزم بها. وقوله: [بل يثبت بدله في ذمته حالاً] هذا فيه خلاف. وقوله: [ولو أجله] ولو: إشارة إلى خلاف مذهبي. وهذه المسألة نريد أن نبحثها، فمثلاً: لو أن رجلاً أعطاك مائة ألف ديناً، فهذه المائة ألف قلت له: أخذت منك هذه المائة ألف أو آخذ منك هذه المائة ألف ديناً إلى نهاية السنة، فقال لك: قبلت خذها ديناً إلى نهاية السنة، نحن الآن في رمضان، فإذا قبضتها على القول بأن الملكية بمجرد قبضك لها يثبت في ذمتك لصاحب الدين مائة ألف حالة، أي: تدفع فوراً، لو طالبك بها في أي وقت ولو قبل نهاية السنة تدفع، ولو اتفقتما على التأجيل لماذا؟ لأنهم يقولون: القرض كالعارية بدليل أنك لا تملكه إلى الأبد، صحيح أنك لما أخذت المائة ألف تصرفت فيها لكن لا تملكها إلى الأبد، بل تلزم برد مثلها، فإذاًَ: هذا المثلي مملوك لك أم غير مملوك، وبالإجماع إذا قلنا بثبوته على المديون ليس ملكاً له، فمعنى ذلك: أنك إذا أخذت مائة ألف فهي ليست ملكاً لك، إنما ملكت الانتفاع والارتفاق بها إلى الأجل، هذا من حيث الأصل. فإن قلنا: إنها كالعارية، فلو أن شخصاً أخذ منك السيارة يريد أن يصل بها إلى الحرم المكي ويرجع، فمعنى ذلك: أنه أخذها وردها، وهو ليس مالكاً لها، فإذاً: يقول أصحاب هذا القول من الحنابلة والحنفية رحمهم الله: الدين يثبت في ذمة المديون حالاً ولو أجله صاحب الدين فأعطاه مهلة إلى أجل، ولو قال له: أشترط عليك أن يكون إلى أجل، قالوا: يفسد الشرط ويلغى ويكون وجوده وعدمه على حدٍ سواء، ويلزم لو طالبه في أي وقت أن يعطيه دينه؛ لما يلي: أولاً: أن الدين كالعارية، ومن حقه في أي وقت أن يرجع ويأخذ العارية، فلو أنك أخذت السيارة عارية إلى الحرم فمشيت بها مثلاً مائة متر فلحقك، وقال: أعطني سيارتي، قالوا: من حقه أن يستردها؛ لأنها كالعارية. ثانياً: أنه إذا قال لك: خذها إلى نهاية السنة فوعد، والوعد ليس بملزم، وإن كان المسلم مطالب أن يفي بوعده، وإلا فإنه يأثم، لكن ما فيه إلزامات مترتبة على هذا الوعد؛ لأنه إحسان وتبرع محض، فقد يعطيك الدين على أنه موسع ثم يرجع عن ذلك فيتذكر حقوقه، والله تعالى يقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] والذي بذل الدين محسن، فلو أعطاك قرضاً إلى نهاية السنة وقال: أنا أريد الأجر والثواب ثم جاءه ظرف بعد شهر أو شهرين أو يوم أو ساعة، وقال لك: أعطني الآن فعليك أن تعطيه، وقالوا: يثبت في ذمتك حالاً. أي: لو أنك تصرفت فيها وطالبك بالدفع فوراً فأصبحت بعد التصرف مباشرة معسراً يثبت في ذمتك حالاً، فليست القضية أن تدفع فوراً إذا كان فيه إمكان، لكن شاهدنا: أن الدين لا يُلزم بإبقائه إلى الأجل، هذا هو الذي درج عليه المصنف واختاره، وهو مذهب الحنفية والحنابلة والشافعية رحمهم الله. وهناك قول للمالكية واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم رحمة الله على الجميع، أنه إذا أجله فإنه يلزم بالأجل، وأنه إذا اشترط عليه أن يسدد في رمضان لم يكن من حقه أن يطالبه قبل رمضان، ويلزم بالبقاء إلى نهاية رمضان، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم) وهذا قد أخذ ديناً، فلو سلمنا أن الدين كالعارية في شبهه، فإننا نقول: يمكن أن نسلم بهذا، لكن لما اشترط عليه ألزم بشرطه، والفرق بين ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والإمام ابن القيم وبين مذهب المالكية: أن شيخ الإسلام يجعله عند الشرط إذا اشترط، والمالكية يقولون: اشترط أو ذكر الأجل فإنه يلزم بالتأخير إلى الأجل، والصحيح أنه إذا اشترط عليه أن يؤجل فليس من حقه أن يطالبه قبل الأجل. وقوله: [ويثبت في ذمته حالاً ولو أجله] أي: أنه إذا قبض المديون الدين فإنه يملكه، فيجوز له بيعه وهبته وإتلافه؛ لأنه ملكه، فلو أخذ منك دقيقاً وطحنه وعجنه وخبزه فإنه يملكه بقبضه، فعلى هذا يثبت في ذمته مثل الذي أخذ إن تصرف فيه، وإذا لم يتصرف فيه ووجد عين المبيع فمن حقه أن يطالبه بدفع العين، وقيل: يثبت مثله أو بدله، وهذا هو الذي نص عليه المصنف بقوله: [ويثبت]. وقوله: [بل يثبت بدله] البدلية: تستلزم اتحاد الجنس واتحاد النوع واتحاد الصفة واتحاد القدر، وهنا تستلزم المثلية، والمثلية تقوم على اتحاد الجنس: طعام بطعام، واتحاد النوع: بر ببر، واتحاد الصفة: إبل عرابية بعرابية أو بختية ببختية، وبختية ما لها سنامان، والعرابية ما لها سنام واحد، إذاً: يعطيه بصفتها، واتحاد العدد والقدر كأن يأخذ منه مائة ويرد مائة. فقوله: [يثبت بدله] أي: بدل الدين، ولا يلزم برد العين إن طالبه صاحب الدين، ففي بعض الأحيان يستسلف دنانير ذهب جديدة ويقضيها قديمة، والجديدة أفضل من القديمة، وقد يستسلف خمسمائة دينار كل عشرة دنانير على حدة، مثلاً: بوزنها، والجملة أثقل من الصرف؛ لأن المصروف أفضل، وفي بعض الأحيان الجملة أفضل، فلو أنه أخذها منك خمسمائة فجئت وطالبته بها كان من حقه أن يعطيك بدلاً عنها تفاريق، ولا تقل له: أعطني هذه الخمسمائة. إذاً: لما قال المصنف: [يثبت بدله] قرر المسألة عند الخلاف إذا تنازعا، فمثلاً: لو استدان رجل منك أي مال من الأموال، ثم تبين أن هذا الرجل في ماله شبهة، فجئت وقلت له: أعطني ديني، وأنت تريد عين ما أخذ منك تورعاً، فحينئذٍ على قوله: [يثبت بدله] ليس من حقك أن تطالب بالعين، وعلى القول: بأنه إذا طالبه بالعين ولو عند نهاية الأجل يثبت عينه إن كان موجود العين، فحينئذٍ يلزم بدفع عينه، ولا يجوز له أن يصرفه إلى المثل والبدل، فلو كان عندك بعير تحبة فجاءك من يطلبه منك، فأعطيته إياه فبقي عنده، ثم بعد ذلك جئت تطالبه وإذا بالبعير عنده، فقال لك: خذ بعيراً مثله، فقلت له: أُريد نفس بعيري. وعلى هذا أثبت الحق لك بالبدل، إن شاء أعطاك عينه، وإن شاء أعطاك بدله، هذه مسألة البدلية، فقد يكون من الأفضل أن يأخذ الإنسان عيناً وفي بعض الأحيان العكس. وقوله: [فإن رده المقترض: لزم قبوله] [فإن رده المقترض] إن رد المقترض القرض [لزم] أي: لزم المقرض [قبوله] أي: أخذ المال ولا يجوز له أن يمتنع والضمير في [رده] عائد إلى البدل، فإذا رد البدل لزم المقرض قبول البدل، ولا يقول: أطالب بعين ما دفعت، ولا يطالبه بعين ما دفع، وعلى هذا يقرر المصنف أنه بمجرد قبضه ينتقل الأمر إلى الذمة، وإذا انتقل إلى الذمة سقطت العين، فإذا قلت: ذمة فإنه يصبح مثلياً، وإذا قلت: عيناً فإنه يصبح منحصراً في نفس الدين. فمثلاً: إذا أقرضت هذا الكتاب فمعناه أننا إذا قلنا: إنه يثبت عين الكتاب إن وجد أو بدله إذا لم يوجد يصبح ليس من حق المقترض أن يلزمك بمثله إن وجد عينه، فينصرف المعين إلى الذمة، أما لو قلنا: إن الواجب عليك المثل، فمعناه أنه في ذمتك، ولذلك قال: [ويثبت بدله في ذمته] ولم يقل: يثبت عينه، فإن لم يثبت عينه فبدله، لا. إنما يثبت البدل والمثل، والبدلية تستلزم المثلية في الجنس والنوع والعدد والقدر والصفة قضاء الديون إن اختلفت العملة وقوله: [وإن كانت مكسرة أو فلوساً فمنع السلطان المعاملة بها: فله قيمتها وقت القرض] هذه المسألة كانت في القديم حيث كانوا يضربون الدنانير والدراهم في بيت المال ثم يتعامل الناس بها، وهذه الدنانير والدراهم يصاحبها نوع ثالث من النقود وهي الفلوس، وكثيراً ما تكون من النحاس، ويكون لها رواج، ثم تلغى هذه الفلوس التي من النحاس ويؤتى بفلوس أخرى، ويسمونها السِّكَّة بحيث تضرب من جديد، فيضرب نوع جديد غير النوع القديم، وفي زماننا يضرب ورق نقدي جديد غير الورق النقدي القديم. فحينئذٍ إذا منع السلطان التعامل بالورق القديم وأحدث ورقاً جديدة، فحينئذٍ يلزم بمثلها، أي: إذا كانت الريالات هي نفس الريالات فلا إشكال، فكما أنه ينتقل إلى المثلي في أصل الدين من نفس العملة ينقل إلى العملة نفسها إن صارت مثلية، فمثلاً إذا أخذ منك مائة ريال على أن يردها بعد شهر، فجاء بعد شهر وأعطاك المائة ريال، من نفس النقد، فكما جاز له أن يرد المثل من نفس النقد ومن نفس الريالات جاز أن يرد ريالات أيضاً عليها شكل آخر أو ضرب آخر أو بصفة أخرى مادام أنها هي نفسها. وعلى هذا لو أنه اقترض ريالات قديمة ثم أُلغيت واستبدلت بريالات جديدة فإنه يقضيه بالريالات الجديدة، فإن أُعدمت الريالات نهائياً وجاءت عملة أخرى بدلاً عنها باسم جديد فحينئذٍ يقدر قيمة القديم بالجديد إذا كانت حالة. فعندنا هنا حالتان: الدنانير القديمة تكون مثلاً بغلية، ثم يؤتى بدراهم إسلامية، فلو أنه اقترض بالدرهم البغلي ثم أُلغي حتى لا يتعامل به الناس -فسواءً توقف الناس عن التعامل به أو أُلغي من السلطان- فحينئذٍ لو أُلغي هذا الدينار فإنه ينزل الدينار الذي ضرب مكانه منزلته، إن كان بوزنه وبقدره وبحجمه، كريال الفضة القديم مع ريال الورق الموجود الآن، فإن ريال الفضة القديم حينما سحب أعطي بدله المستند، ومن هنا قالوا: إن المستند منزل منزلة رصيده فوجبت فيه الزكاة، وهذا هو وجه من يقول: إن النصاب ثلاثة وخمسون ريالاً؛ لأن ثلاثة وخمسين ريالاً من الفضة القديمة تعادل السَّكَّة الجديدة، فالفضة القديمة ألغيت لكن أُقيم المستند مقامها فنزل منزلتها، والعجز عن الرصيد يعتبر عذراً فنزلت منزلتها حكماً. وعلى هذا نوجب فيها الزكاة، مع أن الورق لا تجب فيه الزكاة، فلو قلنا: لا رصيد لها فمعناه أن الزكاة لا تجب فيها، وعلى هذا وجبت الزكاة فيها؛ لأن رصيدها من الفضة، ويقوم رصيدها بمائتي درهم الذي هو أصل الفضة، فلما كان عدل المائتين درهم ثلاثة وخمسين ريالاً من الفضة القديمة بوزنها يعادل الخمسة أواقٍ من الفضة التي هي النصاب، قالوا: نزلت الثلاثة والخمسون ورقاً منزلة ثلاثة وخمسين ريالاً من الفضة، ولو جئت تبادل ريال الورق بريال الفضة القديم فإنك تبادله مثلاً بمثل، يداً بيد، فلو جئت تبادل ريال الفضة القديمة بثلاثة ريالات جديدة فهو عين الربا، كأنك بادلت رصيده من الفضة القديمة ثلاثاً بريال وهو عين الربا، ومن هنا إذا ألغي القديم وجاء الجديد مكانه اسماً وصفة وحكماً واعتباراً وجب أن يبقى على هذا الأصل. فلو قال قائل: ألغي رصيده في التعامل العام الذي يكون بين الجماعات والجماعات، والدول والدول، هذا إلغاء رصيد، فأصبحت القيمة للمشتريات والصادرات والواردات بالريال الجديد، لكن قيمة الريال في ذاته وأصله وحقيقته مستند، ولو وضعت عندي كيلو من الذهب أمانة وأعطيتك مستنداً عليه، ثم قلت لك: ألغيت الرصيد وهذا المستند لا قيمة له لم يصح في حكم الشرع، فدل على أن إلغاء الرصيد لا يلغي قيمة الريال، وإذا كان لا يلغي قيمة الريال، فوجب أن يصرف الريال بالريال مثلاً بمثل، يداً بيد، وأنه لو صرف تسعة ريالات بعشرة ريالات فهو كصرف تسعة ريالات فضة قديمة بعشرة ريالات فضة قديمة، لأنه إذا أُلغي القديم ونزل الجديد منزلته اسماً وصفة فإنه يأخذ حكمه، سواءً بسواء، فلو قلت: إنه ورق، نقول: إن الورق لا قيمة له، ولا تجب الزكاة فيه. فإن قيل: إنه ورق له قيمة فنزل منزلة الذهب والفضة نقول: إن ورق كتب العلم له قيمة، والدفاتر لها قيمة، وغيرها من الأوراق لها قيمة؛ لأنها كلها لها قيمة شرائية، فلو كانت مسألة القيمة توجب الزكاة لوجبت في الأوراق؛ لأن العبرة بالرصيد. وبناءً على ذلك: إذا ألغي القديم ينظر في الجديد، فإن نزل منزلته من كل وجه صار آخذاً حكمه من كل وجه، فلو استدان منه مائة ريال فضة قديمة قضاها مائة من الفضة القديمة إن وجدت، فإن لم توجد قضاها بالورق، ونزل الموجود من الورق منزلتها تسديد القروض المثلية بالمثل وقوله: [ويرد المثل في المثليات] مثلما ذكرنا أن المثلية تستلزم الجنس والنوع والقدر والصفة، فمثلاً: لو استلف بعيراً بكراً أو خياراً فإنه يرد الجنس بالجنس، والنوع بالنوع، والسن بالسن الذي هو القدر، فقدره في السن بكر ببكر رباعي برباعي جذعة بجذعة وابن لبون بابن لبون، مثِلاً بمثل، ذكر بذكر، أنثى بأنثى، فإذاً: يرد المثل في المثليات، وعلى هذا يكون العدل، وكما قال الله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] (وإن تبتم) أي: في مسألة الديون، (تَظْلِمُونَ) أي: الناس، حينما أخذتم رأس المال لم تأخذوا زائداً عن حقكم، (وَلا تُظْلَمُونَ) لأنكم لم تبخسوا حقوقهم، فأخذتم رأس مالكم وحقيقة ما دفعتموه، وعلى هذا لابد من التماثل، هذا في القديم، ونفس الشيء في الجديد، فلو اقترض منه سيارته أو أدوات أو فراشاً، فإنه ينظر إلى جنسه ونوعه وصفاته ويرد مثله في الصفات وفي الجنس وفي النوع تسديد القيمة عند عدم وجود المثل وقوله: [والقيمة في غيرها] المثليات قالوا: في المكيل كيلاً، وفي الموزون وزناً، وفي المعدود عدداً، أما إذا تعذر أن يصير إلى المثل حينئذٍ صار إلى القيمة، فالدراهم والدنانير إذا أُلغيت وجيء بعملة غير العملة القديمة بأن كانت القديمة من الذهب فصارت من الفضة، فإنه ينظر إلى القيمة، عِدل الذهب من الفضة في ذلك الزمان يوم القرض، إن قالوا: يعادل خمس جنيهات، فحينئذٍ هذه الخمس جنيهات الموجودة الآن تقضى له خمس جنيهات، فينظر إلى المثلي يوم القرض؛ لأنه فيه خلاف، فبعض العلماء يقول: يعتبر يوم القرض، وبعضهم يعتبر بيوم القبض، وهذا هو الصحيح، وهو أننا إذا كنا نقول: إنه يملك بالقبض فمعناه أن ذمته شغلت بالقبض، وعلى هذا ينبغي أن يتقيد بالقبض. فلو أنه اقترض سيارة في شهر رجب وهذه السيارة قبضها منه في شعبان، وكانت قيمتها في رجب خمسة آلاف، وفي شعبان قيمتها أربعة آلاف، فحصل القبض في شعبان، ثم تصرف في السيارة حتى تلفت ولا يوجد لها مثلي، فحينئذ نصير إلى القيمة، فإن نظرنا إلى العقد يوم القرض فهو في شعبان وهو قبضها في رمضان، فإذا جئنا يوم الاتفاق والعقد في شعبان وكانت قيمتها خمسة آلاف، ويوم القبض والتصرف في رمضان كانت قيمتها أربعة آلاف اختلفت القيمة، قالوا: العبرة بيوم القبض وهذا هو الصحيح، أنه إذا استلفها منه نظر إلى يوم القبض؛ لأن الملكية تصير إليه وتتعلق بذمته عند القبض، فصار مشغول الذمة وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس، ونص الإمام أحمد رحمه الله على هذا كما ذكر ذلك الإمام ابن قدامة في المغني. وقوله: [فإن أعوز المثل: فالقيمة إذاً] مثل السيارات التي ينقطع موديلها ولا يوجد لها مثيل فينظر إلى قيمتها، ولا يصار إلى القيمة إلا إذا أعوز المثل، ومن هنا تتفرع المسألة في اختلاف القيمة الشرائية للعُمل، فإن استسلف شخص عملة بالدولارات، والدولار قيمته عشرة ريالات في عام ألف وأربعمائة، ثم أصبحت قيمته في عام ألف وأربعمائة وثمانية عشر -عند القضاء- عشرين، فحينئذٍ هل نقول: إنه يجب أن يقضيه نصف القيمة؛ لأنه قد زاد عن الأصل الذي أخذ به، أم نقول: يجب أن يعطي المثل بغض النظر عن قيمته؟ نقول: يجب أن يعطي المثل بغض النظر عن قيمته غالياً أو رخيصاً، والسبب في هذا قاعدة سبق وأن بيناها: أن الغنم بالغرم. وبناءً على ذلك: في العملة؛ إذا استدان منك مائة دولار إلى السنة القادمة فمعناه أنه قد رضي بخسارتها ورضيت أنت بخسارتها، ورضي بما يكون من ربحها وارتفاع سعرها، ورضيت بربحها وارتفاع سعرها، فلا يصح إذا نقصت قيمتها أن يأتي يطالبك؛ لأنه لو زادت قيمتها لطالبك بالمثل، ومن هنا قالوا: يتحمل المسئولية، فأي شيء استدانه وجاء ليحل ويفي رد مثله، بغض النظر عن كونه غالياً أو رخيصاً، يطالب بالمثل؛ وعلى هذا أصل شرعي، وهو أنه إذا أخذ الشيء رده، فإن قلنا: إن الشيء ملكه يرد مثله، فإن وجد المثل وجب أن ينصرف إليه. لكن لو أنه قبل خمسين سنة أخذ منه ثلاثة ريالات فضة، ويمكن أن تصل قيمتها اليوم ثلاثة ملايين. نقول: يقضيه ثلاثة ريالات الآن، لكن من باب الوفاء وحسن القضاء لا بأس أن يزيده لكن لا يجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن خيركم أحسنكم قضاءً)، وقال: (رحم الله امرء سمحاً إذا قضى سمحاً إذا اقتضى) فإذا أردت أن تقضي فتحسن وتتذكر فضله، وهذا من خلق الكرام، فإن الكريم إذا أكرمته رد الكرامة بمثلها وزيادة، وعلى هذا لا يليق وليس من المحاسن أن يرد نفس المال، وإنما يرد ويحاول أن يجبر خاطر من دينه، خاصة وأن هذا فيه رد للجميل حكم القروض التي تجر منافع وقوله: [ويحرم كل شرط جر نفعاً] الشروط في القروض تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: شروط مشروعة. والقسم الثاني: شروط ممنوعة. والقسم الثالث: شروط مختلف فيها. وهذا القرض له نوعان من الشروط: شروط شرعية وشروط جعلية، والفرق بين الشروط الشرعية والجعلية: أن الشرعية لا يصح أن يكون القرض من مجنون أو ممن لا يملك المال، وليس له حق التصرف فيه، أما الجعلية، أي: جعلها المتعاقدان أو اشترطها أحدهما ورضي بها الآخر. وهذه الشروط الجعلية من المتعاقدين تنقسم إلى ثلاثة أقسام: إما أن تكون مشروعة، وإما أن تكون ممنوعة، وإما أن تكون مختلفاً فيها. فالشروط المشروعة المتفق عليها أن يقول له: أعطني قرضاً مائة ألف، قال: أعطيك ولكن بشرط أن تحضر كفيلاً غارماً يغرم، هذا شرط اشترطه رب الدين على المدين، وكما لو قال له: أقرضني مائة ألف إلى نهاية رمضان، قال: أقرضك ولكن بشرط أن ترهن دارك أو ترهن عندي رهناً، فهذا شرط، أو يقول له: أقرضني مائة ألف، قال: بشرط أن نسجل هذا الدين وأثبته عليك بكتابة وشهود، قال: قبلت، فإذاً: هذا دين بشرط، وهذا الشرط جعلي من المكلفين، ولكنه مشروع غير ممنوع، وضابط المشروع: أن لا يخالف مقتضى القرض وأن لا يفضي إلى محرم، فمثلاً لو اقترضت من شخص فقال لي: أقرضك هذه المائة ألف بشرط أن لا تشتري بها شيئاً، ومقتضى القرض في الأصل أن أنتفع به وأرتفق، فإذا أخذت المائة ألف على هذا الشرط فماذا أفعل بها؟ فإذاً: هذا يخالف مقتضى العقد، وقالوا: يشترط الرهن ويشترط الكفيل الغارم؛ لأن هذا يحقق مقصود الشرع؛ لأن مقصود الشرع أن يفي المديون للدائن، وأن ترد الحقوق إلى أصحابها، فإذا اشترط عليه الكفيل الضمان للاستيثاق بالرهن، فإن هذا مما يوافق الشرع ولا يخالفه. النوع الثاني: الشروط المحرمة وهي الممنوعة التي تخالف مقتضى عقد القرض، فإن عقد القرض يقصد منه الارتفاق، فيقول: أقرضك على أن لا تتصرف في الدابة، بأن لا تركبها ولا تبيعها ولا تحلبها، فهذا كله يخالف مقصود عقد القرض، فهذا نوع من الشروط المحرمة. النوع الثالث: أن يكون الشرط متضمناً للربا مفضياً إليه، كأن يقول له: أشترط عليك فائدة في كل مائة (6%) أو كل شهر (5%) فهذا من شرط الربا، ولا يجوز. فالمقصود: أن كل قرض اشتمل على شرط يجر نفعاً فإنه لا يجوز وهناك شروط اختلف فيها العلماء فمثلاً: يقول له: آخذ منك هذه المائة ألف بشرط أن أسددها في نهاية السنة، فهذا اشتراط التأجيل، فبعضهم يراه جائزاً كالمالكية ومن وافقهم، وبعضهم لا يراه جائزاً كالجمهور، وهناك مثلاً بعض الشروط لا بأس بها وهي مشروعة، وفي بعض الأحيان تكون ممنوعة بنص الشرع، كأن يقول له: أقرضني مائة ألف، قال له: أقرضك مائة ألف بشرط أن تبيعني بيتك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع وسلف)، فهذا قرض خالف الشرع لورود النص فيه بعينه، قالوا: لأنه إذا اشترط عليه البيع، فالبيع غالباً فيه ربح، فكأنه يعطيه الدين بالدين مع زيادة الربح في صفقة البيع، وهذا ينبه على أن الشريعة حرمت الربا، وحرمت ذرائع الربا، ولا يشترط في الربا أن يقول له: الواحد باثنين أو الواحد بثلاثة. ومن هنا كان الفقه في مسائل المعاملات والمعاوضات مهم، فهي في بعض الأحيان تتضمن المحذور بطريقة الذريعة والوسيلة. إذاً: كل قرض اشتمل على شرط جر نفعاً فهو ربا، أما لو أنه اشترط عليه ما فيه رفق به، فهذا فيه تفصيل عند العلماء، ومن أمثلته مثلاً، لو قال له: أسلفني مائة ألف، قال له: أسلفك مائة ألف، قال له: والله أنا لا أستطيع أن أسدد المائة ألف لكن أسدد لك ثلاثة أرباعها، قال له: إذاً: أسلفتك وخذ خمسة وعشرين منها وردّ خمسة وسبعين، فإذاً: أسلفه بشرط أن يحله من ربع الدين، ويرد له ثلاثة أرباع الدين، قالوا: هذا لا بأس به ولا حرج فيه الأسئلة اعتبار المقاصد في عقود البيع السؤال هل هناك فرق في الصورة بين القرض وبين صرف الأثمان مع النسيئة دون التفاضل؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن المقاصد معتبرة في العقود، ولذلك تقوم العبرة في العقود بمقاصدها، فإذا قال له: بعني كان بيعاً، وإذا قال له: صارفني كان صرفاً، وإذا قال له: أسلمتك صار سلماً، وإذا قال: أسلفتك صار سلفاً، فلما كان العقد عقد سلف قالوا: هذا مستثنى، ومن هنا استثني أن يأخذ الدراهم ويردها بعد مدة؛ لأنه لم يقصد المصارفة وإنما قصد الدين، ومن هنا قالوا: هذا مستثنىً كاستثناء العارية من المزابنة، ورخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه فإنه يعتبر المقصد، فإن كان المقصد الدين جاز، وإن كان المقصد الصرف والبيع لم يجز، والله تعالى أعلم حكم إنقاص المشتري من الثمن المتفق عليه السؤال رجل اشترى سلعة فاتفق مع البائع على ألف ريال، لكنه لما أعطاه المال أعطاه تسعمائة وخمسين ريالاً فقط فوافق البائع، فهل يجوز هذا؟ الجواب إذا اشتريت بألف ريال ثم جئت، وقلت له: أعطيك تسعمائة وخمسين ريالاً ورضي البائع جاز، والرضا ينقسم إلى أقسام: 1 - الرضا بطيب نفس ورضا خاطر، كأن تأتي تريد أن تعطي المال، فلما وصلت إلى تسعمائة وخمسين وأردت أن تخرج الخمسين، فقال لك: لا. هذه تكفي، وهذا يقع بين الأحبة والإخوان، وتعلم من دلائل الحال وبساط المجلس ما يدل على أنه يريد ذلك. 2 - الرضا الممكن الذي يكون على حد سواء، مثل: شخص تأتي وتبيع عليه بألف، فإذا جاء أعطاك تسعمائة وخمسين، فقلت له: يا أخي! أعطني خمسين، فقال: سامحني، فنقول: يا أخي! أعطني حقي! قال: سامحني، فتطالبه، وإذا بك ترى أنك تزري بنفسك، وربما يكون بين أُناسٍ تستحيي أن تطالبه أمامهم، فتضطر أن تقول له: اذهب، فكأنك اضطررت غلى مسامحته، فتقول بلسان الحال: وما حيلة المضطر إلا ركوبها! فهذا المأخوذ بسيف الحياء لا خير فيه ولا بركة فيه، ومثل هذا ينزع الله البركة له من الصفقة؛ لأنه لم يأخذ بالسماحة، وإنما أخذ بالأذية وإحراج الناس، ومثل هذا ما يقع في فضول أموال الناس، كأن يأتي لبائع يبيع الطعام، فيقول له: بكم هذا؟ ويلتقط منه ويأكل دون أن يستأذن، وربما أنه أكل الشيء، فلا يستطيع البائع أن يقول له: يا أخي! لا تأكل. فمثل هذه الأشياء ينبغي اتقاؤها، وهي إلى التحريم أقرب إن عُلم أو غلب على الظن أن البائع لا يرضى، ولابد أن يتحرى في رضاه، وأن يعلم منه طيبة النفس ورضا الخاطر، فإذا غلب على ظنك أنه بطيبة نفسه ورضا خاطره فلا بأس، وإن كان الأفضل والأكمل العفة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ومن يستعفف يعفه الله وما أعطي عبد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر) فالقناعة بما أعطى الله عز وجل خير للعبد، فإذا جاء أحد يستفضل عليك، قلت له: لا، هذا حقك خذه كاملاً، وبارك الله لك في مالك، فهذا هو الأفضل والأكمل للمسلم، أن يعامل الناس ويؤدي حقوقهم إليهم كاملة. وأما إذا كان بسيف الحياء أو يكون البائع غريباً أو عاملاً مستضعفاً، فيأتي ويقف يصيح عليه بقوة ويرعبه ويزعجه، فإذا جاء وقت المطالبة أعطاه المال ناقصاً ثم زجر بقوة فاضطر العامل أن يسكت، فإن هذا من الظلم وأكل أموال الناس بالباطل، وهذا الرضا وجوده وعدمه على حد سواء، فينبغي أن يُتقى في مثل هذا، وأن يفصل فيه، فما كان من الرضا مستوفياً بالصفات المعتبرة حكم به وإلا فلا، والله تعالى أعلم حكم بيع الدابة نسيئة السؤال أيجوز بيع دابة بدابة ويدفع المشتري أو البائع لصاحبه زيادة من المال أو من أي شيء آخر؟ الجواب الدابة بالدابة معدود بمعدود يجوز متفاضلاً ونسيئة، والدليل على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمر عبد الله بن عمرو بن العاص أن يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة) فهذا ليس بمحذور؛ لأنه جمع بين البيع والدين، فهو بيع لأنه بعير ببعيرين -ولو كان ديناً لكان بعيراً ببعير- ودين من جهة الأجل؛ لأنه قال: (البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة) وعلى هذا يجوز لك أن تشتري السيارة بالسيارتين، والسيارة بالسيارة من نوعها مع الزيادة، والسيارة بالسيارة من نوعها مع زيادة من نوعها أو صفاتها أو بزيادة في المال، كأن يقول: أعطيك سيارتي وتعطيني سيارتك وأزيدك خمسة آلاف أو عشرة آلاف فلا بأس، وهكذا بقية المعدودات، فلو بادل ثلاجة بثلاجتين، أو غسالة بغسالتين، أو مصباحاً بمصباحين، وقس على هذا، فإن الكل جائز، والله تعالى أعلم كلمة توجيهية حول طلب العلم السؤال الدعوة إلى الله عز وجل تحتاج إلى علم شرعي مبني على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنهج سلف الأمة رحمهم الله تعالى، فهل من كلمة توجيهية تحث فيها كل داعية إلى الله عز وجل على الاهتمام بالعلم الشرعي، وفقكم الله؟ الجواب الدعوة إلى الله من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى، ويشهد لذلك قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً) ومن حمل هموم الدعوة إلى الله وحمل أمانة الدعوة وتبليغ رسالة الله إلى عباد الله فقد حمل أشرف الأشياء، وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، بل إنه الشيء الذي خلق الله من أجله خلقه وهو عبادته ولا عبادة إلا بالعلم وبالبصيرة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108]. فلابد للداعي أن يستشعر أولاً: ما هي الدعوة؟ وما هي الرسالة التي يحملها، والأمانة التي في عنقه لأهلها؟ فإذا عرف عظم هذه المسئولية؛ علم أنه يتكلم لله وفي الله، وابتغاء ما عند الله سبحانه وتعالى، وأنه يعقد الصفقة فيما بينه وبين الله بأن يكون أجره على الله لا على أحد سواه: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ:47] وقال عن أنبيائه نوح وهود وصالح وشعيب ولوط: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلَاّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109] أجرك على من بيده خزائن السماوات والأرض ويده سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة، أجرك على من يكتب لك الكلمة والجملة والحرف على من يكتب لك الخطوة والتعب والنصب والسهر، ويكتب لك كل صغيرة وكبيرة سبحانه وتعالى، يحصيها لك فيكتب لك أجرها وثوابها فتوافيه يوم توافيه بمثاقيل الحسنات إن قبل عملك، وأجرك على من لا يضيع أجر من أحسن عملاً وهو الله جل جلاله. وعلى الداعية أن يستشعر أن هذا المقام أحب المقامات إلى الله عز وجل وهو مقام الأنبياء والرسل، فإن العلماء ورثة الأنبياء، وإنما يكون الداعية العالم ولا تكون دعوة إلا بعلم، فمن أراد أن ينال فضل الدعوة على أتم وجوهه وأن يكون في أكمل صوره فليتم العلم، وليأخذ من العلم، وينتهي من العلم ويحرص على مجالس العلم، ويكون من أهل هذه الرياض التي تنشر فيها رحمة الله، ويبتغى فيها ما عند الله، ويصبر ويصابر ويجد ويجتهد ويحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى في جميع ذلك، حتى يبلغ من العلم أعلى مراتبه، فإذا بلغ ذلك قام بالدعوة على أتم وجوهها وأكملها. وأول ما ينبغي على الداعية طلب العلم، وإذا طلبت العلم تطلبه بقوة وبعزيمة وهمة صادقة لا يثنيك عنها شيء، فلا تثنيك عنها الدنيا وزينتها وغرورها وما فيها من متاع زائل وغرور حائل، إنما تجد وتجتهد وأنت تحس أنك أنت الرابح، ولا يكون طلبك للعلم بضعف، فتشعر أن الدنيا ستفوتك، وأن أهل الدنيا يتاجرون ويربحون وأنت لا تتاجر ولا تربح، لا. بل تدخل في العلم وتحس أنك أربح صفقة وأكثر ربحاً في تجارتك مع الله سبحانه وتعالى، فقد طلب أقوام العلم فكفاهم الله هم الدنيا والآخرة، واقرأ في سير العلماء، والله إن منهم من كان لا يجد إلا طعمة يومه مرقع الثياب حافي القدم، ولكنه أغنى الناس بالله جل جلاله، وأسعد الناس، وأشرحهم صدراً، وأثبتهم جناناً، وأصدقهم لساناً، وأوضحهم بياناً، أغنى الناس بالعلم الذي وضعه الله في قلبه وفي لسانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] لما صبروا في طلب العلم وتحصيله، فلا يشتكي من السهر والتعب في طلب العلم، إنما يبحث عن هذا العلم بكل همة وصدق وعزيمة. فإذا جد طالب العلم في طلبه عليه أن يعلم أن منزلته عند الله على قدر ما يحصل من العلم، فإن الله يرفع بهذا العلم درجات، وقد تجلس في المجلس الواحد وتدرس فيه مسائل قل من يضبطها ويحصلها فتكفي الأمة همها وتسد ثغرها، فيكون أجرك عند الله بمكان، فترفع درجتك على نفاسة هذا العلم، وبقدر ما يكون علمك نفيساً عظيماً محتاجاً إليه عظيم البلاء بقدر ما تكون درجتك عند الله أعلى وأسمى. كما ينبغي أن تعلم أن هذا العلم يحتاج منك إلى أمانة، فإذا جلست في مجالس العلم ضبطت وتقيدت بما سمعت، فلا تزيد من عندك شيئاً، ولا تحدث في دين الله برأيك ما لم يكن عندك حجة أو برهان، وتحرص في مجالس العلم على أن تسمع وتحفظ، ثم بعد ذلك تعمل بضوء ما علمت وتبلغ ما سمعت، وهذا أكمل ما يكون في العلم، أن يكون قلبك واعياً بكل ما يقال، وتتقيد بالكلمة لا تزيد ولا تنقص، وإن استطعت ألا تأتي بالمعنى إنما تأتي باللفظ نفسه، فإذا بلغت ذلك كملت نظارة وجهك، قال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فحفظها وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع)، فهذا أكمل ما يكون في طلب العلم فإذا أردت أن تدعو إلى الله على أكمل المراتب وأفضلها، فعليك أن تضبط العلم ضبطاً تاماً، وتحرص في مجالس العلم على أن تتقيد بما سمعت، ثم بعد ذلك إذا تعودت على هذا الضبط وضع الله لك القبول، وثق ثقة تامة أن الله مطلع على سريرتك وما في قلبك، وإن نظر الله إليك في كل مجلس ودرس تحاول أن تفهم وترجع مهموماً محزوناً تريد أن تضبط هذا العلم وتضبط كل كلمة وعبارة وجملة، أثابك على ذلك. العلم تسلو به الأرواح والأنفس، فهذا أبو عبيد القاسم بن سلام إمام من أئمة السلف وديوان من دواوين العلم والعمل، كان آية في القراءات آية في علم اللغة آية في لسان القرآن آية في الحديث والرواية بالأسانيد آية في الفقه وهو صاحب كتاب الأموال وصاحب الغريبين، هذا الإمام العظيم استوقفه رجل بعد صلاة العشاء، وكان قدم عليه من خراسان، فسأله عن مسائل في الفقه، يقول: إنه وقف معه في شدة البرد، فقام معه رحمه الله يذاكره ويسأله وهو يراوح بين قدميه فلم يشعر إلا وقد أذن الفجر، وهذا ليس من ضرب الخيال، والله إنك إذا ذقت لذة العلم فإنك تسمو عن كل شيء، إذا ذهبت في هذه المعاني المستنبطة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الكنز العظيم الذي خلف، تحس بالغبن أن سلفك الصالح سهرت عيونهم وتعبت أجسادهم من أجل أن يخرجوا لك هذا العلم، فقد كان الرجل منهم إذا لم يجد إلا صخرة لنقش العلم عليها حتى لا يفوت على من بعده. إن همم كان النصيحة لله ولأمة الإسلام رضي الله عنهم ورحمهم برحمته الواسعة، فإذا كانت هذه الهمة الصادقة بذلها السلف لنا من أجل أن نحفظ علومهم فمن الغبن والله، أن ننظر إلى كتبهم وبيننا وبينها حواجز لا نعلمها؛ لأن علمنا علم سطحي لم نتعمق ونضبط ونجد ونجتهد، فطالب العلم اليوم يقف فقط عند الحكم دون أن يبحث عن الدليل ووجه الدلالة، هل هو صحيح أو غير صحيح؟ وإذا كان ليس بصحيح فلماذا؟ تغوص في أعماق العلم، فإذا أصبحت بهذه المثابة بوأك الله من العلم أعلى المكانة، إذا تعبت اليوم وأصبحت تبحث عن كل صغيرة وكبيرة وتجد وتجتهد لا تشتكي من سهر ليل ولا ظمأ الهواجر، ولا تشتكي من غربة ولا من تعب ولا نصب وإنما تحس أنك أنت الرابح. لا إله إلا الله! لو ذهبت إلى الأسواق في رمضان وفي ذي الحجة تجد التجار يسهرون ويتعبون ويحسون بالنشاط والرجولة، والرجل تجده أمام أولاده، يقول لهم: هذا موسمي، هذا رزقي من الله عز وجل لا أفرط فيه، ويعتبر أنه وضع الشيء في موضعه وهو يبحث عن الدنيا، فكيف بمن يخوض في رحمة الله جل جلاله؟ فمنزلتك عند الله على قدر العلم الذي عندك، فابحث عن العلم المستنبط من الكتاب والسنة، فعلى المرأ رجلاً كان أو امرأة أن يطلب العلم ويجد ويجتهد، ولا يقف عند الحدود بل يحاول أن يغوص في أعماق العلم. فإذا تعبت في طلب العلم طالباً أراحك الله مطلوباً، وإذا تعبت في طلب العلم طالباً وذللت فيه أعزك الله مطلوباً، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ذللت طالباً وعززت مطلوباً)، فكان رضي الله عنه يقف في يوم عرفة يفسر القرآن، يقول بعض أصحابه: لقد شهدت من ابن عباس مشهداً في يوم عرفة لو رأته الروم لأسلمت، وقف يفسر سورة النور آية آية وكأنه يغرف من بحور، كان إذا تكلم في اللغة خاض فيها وفي لسانها وبيانها وأسرارها ونكتها وبلاغتها وفصاحتها، وإذا ذهب في علوم القرآن رأيت منه العجب وهو يستنبط، كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، وإذا ذهب إلى السنة فناهيك به علماً وورعاً وعملاً مصاحباً للعلم رضي الله عنه وأرضاه. فهذا هو الذي يبحث عنه الإنسان، وما دمت قد عرفت شرف هذا العلم فعليك أن تضحي بكل ما تجد من أجل بلوغه، فإذا نظر الله إليك أثناء الطلب وأنت تتعب وتحصل، فاعلم أنه لا أكرم ولا أوفى من الله، والله إذا تعبت اليوم فإن الله سبحانه وتعالى سيريك ثمرة تعبك، ولن تموت حتى يقر عينك بما ترى، إن كنت تعبت في الطلب وكنت تحرص على أخذ العلم كاملاً سخر الله لك طلاب علم يتعبون كما تعبت، ويحبون العلم كما أحببت، ويأخذونه من فمك طيباً مطيباً كما أخذته من علمائك طيباً مطيباً، وكما أقررت عين العالم الذي أخذت عنه وهو يراك مجداً محصلاً فلابد وأن يقر الله عينك في طلابك، وهذه سنة الله عز وجل، وانظر في حال السلف فلا تجد طالباً لزم عالماً وأخذ عنه وضحى معه إلا ونبغ بعد وفاته، وأصبح مكانه يحاكيه ويماثله، فلما توفي ابن عباس فإذا طلابه هم سعيد بن جبير وطاوس بن كيسان ومجاهد بن جبر، فإذا نظرت إلى تلامذة ابن عباس كدت لا تفرق بينه وبينهم عِلماً وعملاً، لابد وأن يقر الله عينك، وكله على قدر تعبك في طلب العلم. الآن انظر إلى الذين يأخذون الكتب ويقرءون من الكتب ولو كا
__________________
|
#324
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب البيع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (313) صـــــ(1) إلى صــ(10) شرح زاد المستقنع - باب القرض [2] مشروعية القرض معلومة، وشروطه منها ما هو مشروع، ومنها ما هو ممنوع، ومنها ما هو مختلف فيه، كما أن القروض التي توضع في البنوك منها ما هي ودائع مشروعة، ومنها ما فيه احتيال وغرر، ومنها ما هو استثمار، وكل هذا له ضوابط وحدود معروفة عند علماء المسلمين، وأما الجمعيات المعروفة فهي في حكم المشتبه الذي لا يقطع فيها بالحرمة ولا بالجواز؛ لأن من نظر إلى ظاهر شروطها يجدها ربوية، ومن نظر إلى مضمون شروطها يجدها جائزة ليس فيها زيادة أنواع الشروط التي يجعلها صاحب الدين على المدين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن الشروط التي يجعلها صاحب الدين على المدين، أو يجعلها المدين على صاحب الدين تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: مشروعة، والثاني: ممنوعة، والثالث: مختلف فيها، والأصل أنه لا يجوز أن يأخذ صاحب الدين على المدين زيادة على دينه؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] فإذا سُئلت عن قضاء الدين؟ تقول: الأصل أن يرد له دينه دون زيادة أو نقص؛ لأنه إذا زاد فقد ظلم المدين، وإذا انتقص من الدين فقد ظلم صاحب الدين، فأنصف الشرع وعدل بين الطرفين، فأوجب أن يكون الرد مثل المأخوذ دون زيادة أو نقصان، وإذا سُئلت عن دليله؟ قلت: قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]. ثم إن العلماء تكلموا على الفوائد والأمور التي تكون زائدة عن الدين، وفصلوا فيها؛ لأن الشريعة منعت وأجازت، فمنعت من الزيادة في قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] وأجازت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قضى الدين وزاد، والشرط في الدين أن يقول صاحب الدين للشخص المدين: أعطيك مائة ألف بشرط كذا وكذا، وهذا الذي يشترطه تارة يكون مالاً من جنس الذي دفع إلى المدين، كأن يقول: أعطيك مائة ألف بشرط أن تردها لي مائة وعشرة، فهذا شرط بزيادة. وتارة يقول له: أعطيك مائة ألف ولكن بشرط أن تؤجرني دكانك أو تبيعني سيارتك أو عمارتك أو أرضك أو مخططك أو طعامك إلى آخره، فصار قرضاً وبيعاً، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع. وبناءً على هذا يقول العلماء: إن الفوائد المستفادة فيها تفصيل: فإن كان صاحب الدين اشترط منفعة زائدة على المدين أياً كانت المنفعة إما بالمال والنقد أو ما يكون مقدراً له قيمة فإنه لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع وسلف) فالزيادة لا تجوز ولو كانت ضمن عقد آخر، فإنه لما نهى عن بيع وسلف، عندما يقول لك: هذه عشرة آلاف بشرط أن تبيعني سيارتك بثمانية آلاف تكون السيارة قيمتها عشرة آلاف، فتتنازل عن الألفين لقاء القرض، وعلى هذا قالوا: لا يجوز الشرط بالمنفعة. هنا مسألة: وهي وجود المنافع كأن يقول لك: أعطيك مائة ألف مثلاً من الذهب، في القديم الدنانير تحتاج إلى حمل؛ لأنها من الذهب، والذهب يوضع في الأكياس، والأكياس لابد من حفظها، وإذا أعطاه في مكة، وقال: بشرط أن تعطيني المائة ألف في نهاية رمضان في المدينة، فإن حمل الذهب من المدينة إلى مكة فيه مخاطرة ومئونة؛ لأنه يحتاج إلى حمله والاستئجار للدواب لوضعه بها ثم نقله إلى المدينة، فإذا قال: أعطيك مائة ألف في مكة بشرط أن تقضيني إياها في المدينة أو الطائف، فهمنا أنه يريد منفعة السلامة من الخطر، والنجاة من ضمان الحمل. فإن كان الحمل يكلف خمسمائة ريال مثلاً، فكأنه أعطاه مائة ألف ليردها مائة ألف وخمسمائة. إذاً: الفوائد تكون ظاهرة وتكون خفية عن طريق المنافع، ومن هنا نهي عن قرض وشرط، فالقرض الذي يكون معه شرط فيه فائدة فهو محرم، فمثلاً: الودائع المصرفية كأن يودِع في المصرف عشرة آلاف على أنها وديعة، فيأخذ عشرة آلاف وخمسمائة بعد أجل مسند، فيشترط عليه المصرف شرطين: الشرط الأول: أن لا يسحب هذه الوديعة قبل سنة؛ لأن الودائع المصرفية التي عليها فوائد لابد أن تمكث مدة معينة، وكل سنة فيها مثلاً (6%)، فمعناه أنه اشترط عليه بقاءها إلى أجل على أن لا يطالبه قبلها. وثانياً: أن يعطيه زيادة عليها، فشرط الأجل من المصرف وشرط الزيادة من العميل؛ لأن العميل هو الذي يطالب بالزيادة. وبناءً على ذلك: إذا كانت القروض تأتي بفوائد عينية كمائة بمائة وخمسة، أو مائة بمائة وعشرة فهذا واضح لا إشكال فيه، وهذا يدعونا إلى دراسة ما يسمى بالوديعة المصرفية؛ لأن الباب باب قرض، وفيه قديم وجديد، وطالب العلم قد يدخل إلى المصرف ويرى كلمة (حساب جاري) ولا يعرف ما معنى ذلك، ويرى مثلاً: الودائع بفوائد، وهو لا يدري عنها، فلابد أنه يعلم الحكم والموقف الشرعي من هذا النوع من القرض، فنحتاج إلى مسائل الفرق بين الوديعة الشرعية والوديعة المصرفية المسألة الأولى: هل الوديعة المصرفية قرض أو وديعة حقيقية؟ فإن كانت وديعة سنبحثها في باب الودائع، وإن كانت قرضاً فسنبحثها هنا؛ لأننا في باب القرض. فما هي أنواع الودائع المصرفية، وما هي أحوالها وأمثلتها، وما موقف الشريعة الإسلامية من كل مثال وحالة؟ أما بالنسبة للوديعة المصرفية فصورتها أن يأتي العميل بمبلغ معين قليلاً كان أو كثيراً ويدفعه إلى المصرف، ونحن نعبر بالمصرف؛ لأنها أفصح من عبارة (بنك) وهي أوضح في الدلالة، وإن كان في المصطلح الاقتصادي الموجود اليوم يوجد فرق بين مصطلح البنك وبين مصطلح المصرف، لكن إذا قلنا: مصرفية تشمل المصرف بمعناه أو البنك بمعناه. الوديعة المصرفية يقوم العميل فيها بوضع مبلغ معين، وهذا المبلغ المعين يكون فيه اتفاق بين المصرف وبين العميل، ففيه طرفان: موُدِع: الذي هو العميل، وموُدَع عنده: الذي هو المصرف، على أن يلتزم المصرف بحفظ هذا المبلغ ويلتزم بأدائه للعميل متى طلبه، لكن في بعض الأحوال يتفقان على مدة معينة كما ذكرنا، و السؤال هل وضع مائة ألف مثلاً في المصرف نعتبره وديعة أم قرضاً؟ إن أي مسألة عصرية إذا جئت تبحثها بحثاً فقهياً منهجياً أول ما يجب عليك أن تأخذ الألفاظ وتدرس معانيها، ثم هذه المعاني الموجودة في واقعك ومعيشتك وعُرفك وبيئتك على حسب ما يفهمها الناس أو يتعاملون بها، هل تتفق مع المصطلحات الشرعية أو تختلف؟ فإن قالوا: وديعة، فالعلماء وضعوا للوديعة تعريفاً ومصطلحاً معيناًَ، فطبق المصطلح على الحقيقة والواقع، فإن اتفق أعطيتها حكم الوديعة، وإن اختلف بحثت ما هي حقيقته ولم تغتر بالاسم الظاهر، إذاً: لو جاءوا وسموا معاملة ما بيعاً، فنقول: ما هي حقيقة البيع؟ مبادلة المال بالمال، فهل هذا مال مبادل بمال؟ إذاً: فهو بيع، لكن لو كان منفعة بمال فهو إجارة، فالناس قد يخطئون في التعبير بقصد أو غير قصد. فالوديعة في الشريعة تقوم على حفظ المال وأدائه بعينه دون تصرف فيه، فإذا جاءك بكيس ووضعه عندك وديعة، فمعناه أنه ينبغي أن تحفظ نفس الكيس وما فيه؛ لأنك أمرت بحفظ هذا الشيء بعينه دون أن تتصرف فيه، قالوا: فلو فتح الكيس انتقلت الوديعة من كونها وديعة إلى كونها قرضاً ويضمن؛ لأن الوديعة تستلزم أن تحفظ المودع بعينه وترده بعينه، فإن أخذ المال بأن أعطاك إياه خمسمائة ريال فأخذت الخمسمائة بعينها ووضعتها في الدرج وقفلت عليها: وكتبت عليها هذه وديعة فلان بن فلان، فجاءك بعد عشر سنين وأعطيته العين نفسها، فهذه وديعة، ولو أنك وضعتها فاحترق الصندوق والبيت واحترقت هذه الفلوس بهذه الطريقة التي لم تتصرف فيها لم تضمن؛ لأن يدك يد أمانة. إذاً: كل شيء له في الشرع ضوابط، فلا يسير الإنسان على تعبيرات الناس وأهواء الناس، وهذا الفقه عُصارة أذهان أكثر من عشرة قرون، والعلماء يتعبون ويسهرون ويكدحون من أجل إعطاء كل ذي حقٍ حقه، فإذاً: عندما نقول: وديعة فعندنا ضابط معين، وهو أن يستلزم منك ذلك حفظ عين الشيء وأداءه بعينه متى ما طلبه دون مماطلة أو تأخير، فلو أن الإنسان جاء بالعشرة آلاف ووضعها في المصرف فهل يلتزم المصرف بحفظ عين المال ورد العين أم بحفظه ورد مثله؟ الجواب رد المثل، ولا يوجد مصرف يأخذ منك عين المال ويرد لك عين المال، وإنما يأخذ ويعطي بدلاً عنه. ولذلك ينبغي أن نتنبه إلى أن التسمية بالوديعة ليست صحيحة من ناحية شرعية، بل حتى في القوانين الوضعية، وفي العرف الاقتصادي الموجود المعاصر يسمون الودائع المصرفية قروضاً، وإنما سميت وديعة على حسب ما يقصد من هذا، سواءً كانت تسمية ظاهرة أو غير ظاهرة، حتى يقول: إن الوديعة مشروعة، وإذا كانت الوديعة مشروعة في الأصل؛ فإنه يترتب عليها نوع من إضفاء الشرعية على هذا الشيء. وبناءً على ذلك: لا يمكن أن نحكم بكون الوديعة المصرفية وديعة بمعناها الشرعي الصحيح، حتى نفس العرف الاقتصادي يسلم بأن الودائع قروض، وإذا احترقت المصارف وصار عليها عارض ليس بيدها، فإنها تضمن المال الذي أودع فيها؛ لأنها لا تأخذ حكم الودائع. إذا ثبت أن الوديعة المصرفية دين فهي قرض، وتكون معنا في الباقي على نفس الدراسة التي درسناها، فأصبحت المعاملة في الحقيقة على أن يدفع له المال ويرد له مثله، هذا من حيث الشكل العام والمضمون العام في الودائع، وإذا ثبت هذا فمعناه أنك تبني عليه جميع الأحكام الشرعية المبنية على القروض، وهذا يستلزم أن نقسم الودائع المصرفية إلى أقسام أقسام الودائع المصرفية القسم الأول: الوديعة المستندية. القسم الثاني: الحساب الجاري. القسم الثالث: الودائع بالفوائد. القسم الرابع: شهادات الاستثمار الوديعة المستندية أما بالنسبة للوديعة المستندية فمن الممكن أن نسميها وديعة شرعية، وهذه الوديعة حقيقتها: أن يقوم العميل باستئجار صندوق معين في المصرف أو البنك، ويمكنه البنك من مفتاحه، على أن يضع فيه وثائقه ومستنداته، ويتكفل البنك بحفظ هذه الودائع والمستندات، ويمكن العميل من أخذها في أي وقتٍ شاء، على أن يدفع أجرة معينة على حسب المتفق عليه، وهذا النوع موجود الآن في بعض المصارف الكبيرة، ويسمونها مستندية؛ لأن الغالب أنها تستأجر من أجل المستندات، يكون التاجر عنده صكوك يخشى عليها السرقة أو الاحتراق أو التلف، أو عنده وثائق معينة لأعماله فيخشى أن يطلع إنسان عليها فتفسد تجارته، فيأتي ويستأجر هذا الصندوق ويحفظ فيه وثائقه ويقفله ويأخذ المفتاح، ومتى ما جاء التزم المصرف بتمكينه من أخذ ما شاء من هذا المكان. إذاً: لو سألت هذا الصندوق الذي يضع فيه العميل حوائجه، هل يأخذ عين المودع أم مثله؟ الجواب يأخذ العين، وهل أحد يتصرف في هذه العين غيره؟ لا. إذاً: هي وديعة وتأخذ حكم الوديعة الشرعية، لكن السؤال اتفاق المصرف مع العميل على أن يدفع مبلغاً معيناً شهرياً أو سنوياً هل هو جائز أم ممنوع؟ يمكننا أن نقول: إنها إجارة؛ لأنه استأجر المصرف لحفظ هذا المبلغ خلال المدة المتفق عليها، وبناءً على ذلك يسري عليه ما يسري على الإجارة الشرعية؛ لأنك قد تستأجر شخصاً من أجل أن يحفظ لك مزرعتك أو يحفظ لك دوابك. فالإجارة من أجل الحفظ مشروعة بالإجماع؛ لأن القاعدة أن الإجارة تجوز على كل منفعة مباحة، كذلك حفظ الصكوك والمستندات مباح فإذا استأجره لحفظها كان مباحاً، وبعض الناس يأخذ هذه الصناديق ويضع فيها مجوهرات وحلياً ونفائس موجودة عنده ويخشى عليها السرقة فيضعها ويقفل عليها، ويأتي ويأخذ عين المجوهر وعين الشيء الذي له، وهذا يأخذ نفس الحكم، سواء استأجرها للوثائق وللمستندات أو للجواهر أو للحلي، بل حتى لو جاء ووضع ماله في هذا الصندوق وأخذه بعينه فإنه جائز ومشروع؛ لأنها وديعة شرعية دون أن يختلط ماله بمال الغير، ودون أن يسري عليه أي شبهة أو أي محصول. إذاًَ: الوديعة المستندية جائزة ومشروعة؛ لأنها عقد إجارة على منفعة مباحة، وشروط الإجارة مستوفية، فهي إجارة على منفعة مباحة، في مدة معلومة، وبثمن معلوم، واستوفت جميع الصفات المعتبرة شرعاً الحساب الجاري والودائع بالفوائد القسم الثاني: الحساب الجاري، وحقيقته أن يقوم العميل بدفع مبلغٍ معينٍ للمصرف، ثم يلتزم المصرف تجاه هذا المبلغ المعين أن يمكن العميل من سحبه كله أو بعضه أي وقتٍ شاء، سواءً سحبه أصالة أو وكالة، والحساب الجاري في الحقيقة له ثلاث صور. الصورة الأولى: أن يدفع المبلغ، فيسحب على قدر مبلغه دون أن يزيد أو ينقص. الصورة الثانية: أن يدفع المبلغ ويعطيه المصرف زيادة إذا بقي المبلغ دون أن يطلبها هو، لكن إذا مضت فترة معينة حتى لو لم يقصد، فمثلاً: وضع مائة ألف على أساس أن يسحبها بعد شهر ثم تأخر سحبه إلى ثلاثة أشهر، وبعض المصارف تعطي فائدة على مدة بقائها ثلاثة أشهر، ولو لم يكن هناك اتفاق مسبق من باب المكافأة على وضعها هذه المدة، ففي هذه الحالة يكون المستفيد هو العميل، والاستفادة وقعت بدون شرط، إنما أعطاه المصرف من باب المكافأة على بقاء المبلغ هذه المدة، وهذا يقع في الخارج خاصة في أوروبا، فبعض البنوك تكافئ من يودع عندها مدة معينة ويكون المبلغ كبيراً فتجعل له الزيادة (6%) على بقائها ثلاثة أشهر دون أن يسحب أو ينزل رصيده عن حدٍ معين؛ لأنهم يستغلون هذه الأموال، ويحسون أن هذا الاستغلال لابد أن يرد فائدة، وهذا في نظرتهم. الصورة الثالثة من الحساب الجاري: وهو العكس وهذا يقع في الدول الفقيرة، بخلاف النوع الثاني فهو يقع في الدول الغنية التي فيها ثراء والسيولة فيها كثيرة. أما النوع الثالث فمثلاً: إذا دفع مبلغاً وبقي في المصرف أو البنك مدة وضعوا عليه ضريبة، فإذا جئت تسحب المال، ودفعت مائة ألف ومكثت سنة، فإنهم يأخذون ألفاً، فتأخذ تسعة وتسعين ألفاً. إذاً الحالة الأولى: إذا دفع المبلغ ثم سحب مثله والتزم أن يعطى قدر مبلغه دون زيادة أو نقصان، فهذا قرض ليس فيه فائدة، وليس هناك شرط فائدة ولا زيادة ولا ربا، ومن حيث الأصل العام إذا أعطى شخص شخصاً مائة ألف وجاء وسحب كل المال، أو التزم الطرف الثاني وقال له: يا فلان! خذ المائة ألف هذه قرضاً، قد أبعث لك شخصاً في أي ساعة يسحبها كلها أو بعضها فأعطه، فهذا جائز، والأصل يقتضي الجواز، لكن الإشكال من كونه ذريعة معينة على الحرام، فإنه إذا كان يعطي المال للمصرف فهذا يفصل فيه، فإن كان تعامل المصرف يكون بشيء محرم كان وضعه على هذا الوجه معونة على الحرام، فلا يجوز، وإن كان لا يتعامل بالحرام كان جائزاً؛ لأنه يدفع المبلغ ثم يأخذه دون زيادة أو نقصان. أما الحالة الثانية: إذا كان المصرف يعطيه الزيادة بدون موعد ولا عِدة، فهل يجوز ذلك؛ لأن: (خير الناس أحسنهم قضاءً)؟ الجواب إذا جئنا ننظر إلى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً ورده خياراً رباعياً) نقول: يجوز، لكن المشكلة أن هذه العوائد تركبت من ديون بالآجال عليها فوائد، فهو يعطي لأشخاصٍ ديناً، ويأخذ عوائد هذا الدين باقتراضهم منه لكي يصرفها في الفوائد، وبناءً على ذلك صار أصله من حرام، فنقول: إن هذا الوجه يقتضي التحريم. الوجه الثاني: لو قال قائل: يجوز في الحساب الجاري، لو سافر إلى بلد غني ووضع مليوناً، ثم سحب الحساب الجاري المليون وأعطي مليوناً وعشرة، نقول: لو قيل: إن هذا من باب مكافأة الدين لم يصح، أولاً: لأنه عائد من حرام والفرع تابع لأصله، وثانياً: أن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فلما جرت عادة المصرف بأنه يكافئ على الوضع فيه، فكأنه حينما أودع فيه اشترط مسبقاً على المصرف أن يكافئه، وهذا عين المحرم؛ لأن كل شرطٍ جر نفعاً فهو ربا، والإجماع منعقد كما حكاه ابن المنذر والإمام ابن قدامة وغيرهم على تحريم ذلك. إذاً: مسألة وضع المال وإعطاء الفائدة بدون شرط مسبق، يصح تحريمها من وجهين: الوجه الأول: أن عائده من حرام والفرع تابع لأصله. الوجه الثاني: أن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً ولفظاً كما يقول بعض العلماء، فكأنه حينما جرت عادة المصرف بذلك فإنه يكون عند وضعه للمال كأنه قد رضي بذلك وطلبه فينزل منزلته. وهنا السؤال لو أن شخصاً جاء ووضع المال في هذا النوع من المصارف، فدفع مائة ألف فأعطي أرباحاً (مائة وخمسة)، فهل يتركها أو يأخذها؟ الجواب: عندنا نصوص في الكتاب والسنة نرجع إليها إذا جئنا نحكم في المسائل ونركب بعضها على بعض، وقد أثبتنا أن الوديعة والحساب الجاري يعتبر قرضاً، والله تعالى يقول في القرض: {فَلَكُمْ} [البقرة:279] أي: هذا الذي تتملكونه وهو من حقكم: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] فهو إذا سحب رصيده حينئذٍ يكون قد حقق المأمور به شرعاً، لم يظلم ولم يُظلم، وهذا بالنسبة للأصل العام، أنه إذا سحب رصيده وأصل ماله فإنه لا يظلم ولا يُظلم والنص آمر بذلك وملزم به، ودال على أنه إذا أخذ الزائد عنه فقد أخذ الحرام. وقد يقول قائل: لو أخذ الزيادة واستفاد منها بإنفاقها في مشروع خير أو نحو ذلك، لكان أفضل من بقائها، خاصة وأنها إذا بقيت ربما أخذت لأمور تضر بالمسلمين، فهل يأخذها ولا يتركها؟ نقول: هذا اجتهاد في مقابل النص، والنص يقول: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] ثم لما اجتهدوا هذا الاجتهاد، وقالوا بجواز أخذ المال مع زيادة عادوا فقالوا: لكن لا تصرفها في بناء مسجد أو طبع كتاب، ولا تفعل بها أموراً فيها طعام أو شراب لمسكين، فيشتبه هو في هذا المال بعد حكمه بأخذه كيف يتصرف فيه؟ ودائماً إذا خالف الإنسان النص يقع في حيرة؛ لأنه إذا التزم بالنص ما عنده إشكال، ثم نقول: لو أنك أخذت رأس المال لم يقع الربا، فإذا قيل: له أن يأخذ الزيادة حتى لا تبقى عند الغير، عندئذٍ تحقق الربا، ولذلك احتار! إذاً: ما دام أن هذه الزيادة محرمة فلماذا نفتي بجواز أخذها؟ ثانياً: لو أننا أخذنا هذه الزيادة حتى لا يستضر المسلم بها، فإننا نقول: تركها أكثر منفعة للمسلمين؛ بل إنه أبلغ في دعوة الكافر وتنبيهه على فضل الإسلام، فأنت إذا جئت لكافر يتعامل بالربا في مصرفه وأخذت رأس المال، وقلت له: ديني يأمرني أن لا آخذ إلا رأس المال، يقول لك: كيف تترك ربحاً قدره عشرة آلاف، فهم يكادون يعبدون المال من شدة تعظيمهم له، ولا يتعاملون إلا بالدينار والدرهم، ولا يعرفون إلا المال، فإذا وجد أنك لا تأخذ المال الربوي وأحس بعزتك؛ لأن الكافر يغتاظ إذا رأى المسلم معتزاً بدينه، قوي الشكيمة في الحق، لا يريد إلا دينه وما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: هو بنفسه يشعر بفضل هذا الأمر الشرعي؛ لأنه يأخذ الدين من غيره، وغيره يطالبه بفائدة الدين فإذا وجد أنك لا تأخذ إلا رأس مالك، وقلت له: ديننا يأمرنا أن نأخذ رأس المال، فإنه يتأثر ويحس أن هذا الذي تقوله هو عين العدل، فقد يكون سبباً في التأثير عليه، وقد يكون سبباً في شعوره بفضل الإسلام، فالدعوة كما تكون باللسان تكون أيضاً بالجوارح والأركان، لأنك بتعاملك معه تعرفه حقيقة الإسلام، وأن الإسلام دين عدل، فاليوم يأتي شخص لا يأخذ الفائدة، وآخر يأتي بموقف اجتماعي يقول: الإسلام يأمر بكذا، فلا تزال تجتمع عنده محاسن الإسلام حتى تكون سبباً في هدايته، وقد حكى بعض طلاب العلم أنه وقع في ذلك يقول: ولم أرض أن آخذ هذه الزيادة، فطلبني المسئول، وسألني: لماذا لا تأخذ الزيادة؟ فقلت له: ديني يأمرني أن آخذ رأس المال فقط، قال لي: لماذا؟ فقلت له: لأني أنا أعطيتك عشرة آلاف فآخذ عشرة آلاف فقط، فلا أظلمك بأخذ الزيادة، قال الأخ: فجعل يتعجب؛ لأنه يأخذ الدين من غيره، وغيره يطالبه بفائدة الدين، فالشاهد أننا إذا اجتهدنا لهذا فإن محاسن الشريعة بأخذ رأس المال أجل وأكمل، ولا نستطيع أن نجتهد في مقابل النص؛ لأنه لا اجتهاد مع النص، فهذه الحالة الثانية: وهي أن يدفع المال ثم يعطى الزيادة عليه بدون عدة. الحالة الثالثة: أن يدفع المال فيؤخذ من المال على قدر الحفظ، فإذا قال له: ضع المال عندي لمدة شهر وآخذ منه مقابل حفظه، فهذه المسألة تتفرع على مسألتين: المسألة الأولى: رخص بعض العلماء رحمهم الله إذا أعطاه قرضاً، وقال له: خذ هذه المائة ألف قرضاً وردها لي تسعين، أو ثمانين، قالوا: يجوز؛ لأنه أبرأه وأسقط عنه ذلك، لكن المشكلة ليست هنا، المشكلة أن هذا النقص إنما أخذ بدعاية الحفظ وهي غير موجودة، فصار من أكل المال بالباطل، فالصورة الأولى: محض تبرع، وهناك فرق بين الصورة الأولى والثانية، وقد ذكرت هذا حتى لا يلتبس على بعض طلاب العلم، وقد ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني أنه إذا أعطاه القرض وأسقط عنه شيئاً منه جاز له ذلك، وقد رخص في هذا أئمة من السلف رحمة الله عليهم، وروي عن ابن عباس نحو هذا، لكن هذا غير ما نحن فيه؛ لأن الذي نحن فيه أن الآخذ يدعي استحقاقه للمال لقاء الحفظ، والحفظ غير موجود، فصار من أكل المال بالباطل، فالذي يأخذه يأخذه ظلماً، ولذلك قال الله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] ولو ساغ للمدين أن يأخذ من الدين شيئاً لما جعل الله الأخذ ظلماً، ولو ساغ للمدين أن يأخذ لقاء الاستدانة شيئاً لبين الله سبحانه وتعالى ذلك ولما جعله ظلماً، فكما أنه لا يجوز لرب المال أن يسقط عنه في الحفظ شيئاً، لا يجوز أن يسقط عنه فيما يدعيه حفظاً على هذا الوجه شيئاً. إذاً: الصحيح في هذه الحالة الثالثة أنها لما كانت على سبيل التعاقد والإلزام كانت من أكل المال بالباطل، والدليل على تحريمها قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29] ولأن النص أثبت أنه لا يجوز للمديون أن يأخذ لقاء وجود المال عنده على الدائن؛ لقوله: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] فأمر الله المديون والدائن أن يكون الوفاء برأس المال، فدل على أنه إذا اقتطع منه شيئاً فقد ظلمه ولا يجوز ذلك يتبع
__________________
|
#325
|
||||
|
||||
![]() شهادات الاستثمار هناك مسألة الوديعة بزيادة مشترطة، وهي ما يسمى بالاستثمار، فمثلاً يحدد المصرف مبلغاً ما ويقول للعميل: ادفع ما لا يقل عن ستة آلاف ولا يزيد عن عشرة آلاف قسطاً شهرياً لمدة ثلاث سنوات، فإذا مضت الثلاث السنوات أعطيناك زيادة (6%) على المبلغ كله. أولاً: لابد أن يحدد المصرف الحد الأقل للمبلغ المدفوع والحد الأقصى، أي: ما بين ألف إلى عشرة آلاف، كأن لا تزيد على عشرة آلاف ولا تنقص عن ألف، إن شاء يدفع ألفاً شهرياً قُُبل منه، وإن شاء يدفع ألفين أو ثلاثة آلاف إلى أن يصل إلى عشرة آلاف، فلو قال: سأدفع شهرياً أحد عشر ألفاً يقولون: لا، ادفع فقط ما بين ألف إلى عشرة آلاف. وهذه هي الفئة الممتازة، فعندما تكون فئة (أ) يكون فيها المبلغ أكبر والمدة محددة، فبعد أن يحدد المصرف أقل مبلغ يدفع يحدد له أكثر المبلغ، ثم تحدد المدة، يقال لك: تدفع لمدة سنتين شهرياً، فلو دفع ألفي ريال شهرياً، والسنة فيها اثنا عشر شهراً، فمعناه أنه سيدفع أربعة وعشرين ألف ريال، والأربعة والعشرون ألف ريال خلال ثلاث سنوات يكون مجموعها اثنين وسبعين ألف ريال، وهذا المبلغ يحسب منه فوائد (10%) أي: سبعة آلاف ومائتين، معناه أنه سيعطيه تسعة وسبعين ألفاً ومائتين، فكانت المعاملة على النحو الآتي: يحدد المبلغ الأقلي والأكثري على أن يكون الدفع بينهما، ويلتزم العميل بالدفع شهرياً ولا يتخلف أي شهر حتى تتم المدة، ثم يلتزم بعدم السحب من الرصيد لمدة ثلاث سنوات؛ لأن المصرف سيأخذها ويقرضها للناس، وهذه الالتزامات على العميل مكونه من: التزام في المبلغ أن لا ينقص عن كذا ولا يزيد عن كذا، والتزام في المدة: ثلاث سنوات أو سنتين أو سنة ونصف، والتزام بعدم السحب، هذه ثلاثة أشياء، وبعد أن يتم الاتفاق على هذا الوجه يلتزم البنك والمصرف بإعطائه فائدة بنسبة معينة. إذاً: هناك استثمار من فئة (أ) واستثمار من فئة (ب)، لماذا تتفاوت فئة (أ) عن فئة (ب)، فئة (أ) يكون المبلغ كبيراً ويحدد بمدة لأصحاب الأموال الكثيرة؛ لأنهم يعرفون طبقات المجتمع، ويريدون أن يستفيدوا من طبقات المجتمع، فيجعلون لمن كان راتبه أكثر مبلغاً أكثر، فيحددون مثلاً: من خمسة آلاف إلى عشرة آلاف، طبعاً: لا يستطيع أن يدخل في هذا الاستثمار لمدة ثلاث سنين بهذا المبلغ الكبير إلا إنسان مقتدر، النوع الثاني: يضعونه، فئة (ب)، وهذه الفئة تتراوح المبالغ فيها من ثلاثة آلاف ريال أو من ألفين شهرياً إلى ستة آلاف، فيكون التحديد أقل والمبلغ أقل وأيضاً الفائدة أقل، أي: هناك تجد الفائدة (10%) وهنا الفائدة (5%) مثلاً، فالتفاوت والتفاضل بين الفئة (أ) والفئة (ب) من حيث المضمون والجوهر، لكن من ناحية شرعية الحكم فيهما واحد، فلا تضرك المسميات؛ لأن هذا شيء يرجع إلى طريقة حساب الفوائد، فهي تختلف من طبقة إلى طبقة. أعطوا في الفئتين السابقتين الاستثمار للطبقة العالية والطبقة المتوسطة وبقي الطبقة الضعيفة، فتعطى استثماراً من فئة (ج)، وفئة (ج) من مائة ريال، أو مائتي ريال، أو ثلاثمائة ريال، يقولون: تدفع من خمسين ريالاً مثلاً؛ لأنهم يعرفون أنه سيشارك في هذه الفئة عدد أكبر، فيدفعون مثلاً: من خمسين ريالاً إلى ستمائة ريال لمدة ثلاثة شهور، وفي بعض الأحيان يحددون ويقولون: تدفع مائتي ريال شهرياً، فإذا دفع مائتي ريال شهرياً لمدة ثلاثة شهور هذه ستمائة ريال، والستمائة ريال يقولون: يلتزم المصرف بردها، ولكن يجمعون أسماء المشاركين كلهم، ثم توضع القرعة، ومن خرجت له القرعة أخذ الفائدة أو الجائزة الموجودة، وتقسم أرباح هذه الفئة كلها على عشرة أشخاص، يكون للأول ألف، وللثاني ألفان، وللثالث أربعة آلاف. إلخ. فنلاحظ أن عندنا فئة (أ) وفئة (ب) وفئة (ج)، هذه ثلاث دركات -نسأل الله السلامة والعافية- فئة (أ) وفئة (ب) لها دراسة مستقلة، أما فئة (ج) فسنركز عليها أكثر؛ لأن البعض أفتى بجوازها، وأدخل بعض الشبهات في الحكم بجوازها، فسندرس فئة (أ) و (ب) على حدة، ثم بعد ذلك ندرس فئة (ج). فئة (أ) و (ب) حينما يقال: تدفع ما بين خمسة آلاف إلى عشرة آلاف، وتلتزم ببقاء المبلغ ثلاث سنوات، وتلتزم أيضاً بعدم السحب منه وتعطى فائدة كذا، ما حقيقة هذا العقد؟ أولاً: هو قرض، وثانياً: اشترط فيه وجود المنفعة والزيادة، وهذا بإجماع العلماء ربا محرم؛ وهو مخالف لقوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]، فإذا أعطاه بزيادة -سواءً حدد المدة أو لم يحدد المدة مادام أنه يقول: آخذ منك هذا الدين وأرده بزيادة كذا وكذا سواء قلت الزيادة أو كثرت- فإنه الربا الذي حرم الله ولو ريالاً واحداً، فإن اشتراط هذه الزيادة قليلة كانت أو كثيرة هو عين الربا. الأمر في (أ) و (ب) واضح جداً ولا إشكال فيه، لكن الإشكال في فئة (ج)، فما هي الشبهة وكيف جوابها؟ قالوا: أولاً: في فئة (ج) المصرف أو البنك لم يلتزم أن يعطيك فائدتك إنما هو قال: تدخل في القرعة، فيحتمل أن تربح ويحتمل ألا تربح، فإذاً: حينما دخل العميل في الاستثمار لم يشترط على المصرف أن يربح ولم يشترط المصرف له أن يعطيه الزيادة، فإذاً: خلا عن قرض شرط فيه النفع, وأصبحت الزيادة بدون اشتراط، فهي جائزة، وغاية ما فيه أن المصرف تفضل بإعطاء هذه الزيادة وهذا الربح من باب المكافأة، والمكافأة على الدين جائزة، هذا بالنسبة للشبهة التي تثار في فئة (ج)، أنه لم يلتزم بإعطاء الفائدة وإنما وقع ذلك على سبيل الاحتمال، وإنما تحرم الزيادة إذا كانت على البت، كما لو أقرض الشخص شخصاً يحتمل أن فيه مكافأة ويحتمل أن لا يعطيه مكافأة، فتردد بين الزيادة وعدمها، قالوا: فيجوز. والجواب عن هذه الشبهة: أن يقال من وجوه: الوجه الأول: أن دخول العميل في هذا النوع من شهادات الاستثمار إنما قصد منه الربح والنماء، لم يدخل أحد في هذا الاستثمار لمجرد أن يحفظ ماله إنما دخل من أجل أن يربح، والمقاصد معتبرة في العقود، وعلى هذا كأنه يدين من أجل أن يربح. الوجه الثاني: أن هذا الربح لو كان مكافأة فإنه مبني على أصل محرم، والمكافأة من المحرم فرع راجع إلى أصله، وما بني على حرام فهو حرام، وبناءً على ذلك: لو سُلم جدلاً أنه مكافأة، فإننا نقول: إنه يعتبر من مال محرم، والمكافأة من المحرم محرمة؛ لأنها مأخوذة من فوائد من الإيداع ومكافأ بها العميل، وعلى هذا فلا يمكن التسليم بأنها من المكافأة؛ لأن العميل دخل وقد علم المكافأة، وحددت له، وبينت له، ووضع المال قاصدها، وشرط المكافآت أن لا يكون هناك علم أو تواطؤ أو إخبار، فلو قال له: ادفع لي عشرة آلاف يمكن أن أعطيك عليها ربحاً أو لا أعطيك لحرمت بالإجماع، قال له: إذاً: أشترط عليك أنه إذا يسر الله تعطيني وإذا لم ييسر فلا تعطيني، فهنا يقول: أشترط عليك إن ظهر اسمي أعطيتني، وإن لم يظهر اسمي فلا تعطيني، فلا يوجد فرق بين الحالتين. فإذاً: التذرع بأن خير الناس أحسنهم قضاءً، هذا ليس بوارد، إنما يكون ذلك لو خلا عن المقصد، وجاء بدون قصد ولا عدة، وهنا جاء بقصد؛ لأنه دخل وهو يريد، وجاء بعدة محتملة، أي: إن ظهر اسمك كان لك وإن لم يظهر فلا، فالتذرع بمثل هذا لا يصح ولا يستقيم. الآن عرفنا الشبهة وجوابها، وعندنا شبهة سبق وأن نبهنا عليها، وهي: أنه يتذرع في شهادات الاستثمار بأنها من باب القراض، ولو فرضنا أن وجائز، كأن يدفع رب المال إلى العامل ماله على أن يتجر به والربح بينهما على ما شرطاه، القراض يكون عندك مائة ألف وأنت طالب علم لست بمهيأ للمرابحة بهذه المائة ألف أو المتاجرة فيها، وهي موجودة عندك كرصيد مجمد، فمن رحمة الله عز وجل وتيسيره أن أباح لك أن تعطيها رجلاً عنده خبرة، يضرب بها في الأرض ويتاجر فيستفيد بخبرته، وينمي هذا المال، فإن ظهر ربح كان بينكما على ما اشترطتما إما أن يقول: الربح بيني وبينك مناصفة، أي: إذا ربح خمسة آلاف فإن لك ألفين وخمسمائة وله ألفين وخمسمائة، فيذهب ويتاجر بالمائة ألف في السيارات، أو الأقمشة، أو الأغذية، أو الأدوية أو غيرها. وبعد مضي المدة المتفق عليها تقول له: يا فلان! احسب لي المضاربة، فيذهب ويبيع الأشياء الموجودة بمائتي ألف، ثم يدفع أجرة الدكاكين وأجرة الأعباء وأجور العمال، فاستقر المبلغ على مائة وخمسين ألفاً؛ لأن الربح لا يكون إلا بعد رد الحقوق، فأنت دفعت مائة واتفقتما على أن الربح بينكما مناصفة وكان الربح خمسين ألفاً، فيأخذ خمسةً وعشرين ويرد لك مائة وخمسة وعشرين، هذه هي المضاربة الشرعية. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: من قال: إن القراض الذي هو المضاربة، ويسمى قراضاً ويسمى مضاربة، وسمي مضاربة؛ لأنه من الضرب في الأرض: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} [المزمل:20] الذي هي التجارة، وسمي قراضاً؛ لأنه اقتطع من ماله قرضاً فسمي بهذا. يقول: إن من قال: إنها ثابتة بالإجماع فقد وهم، إنما هي ثابتة بالسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضارب بمال خديجة، وجاء الإسلام والقراض موجود ومعروف، ورحلة الشتاء والصيف تدل على أنهم كانوا يسافرون في الصيف إلى الشام وفي الشتاء إلى اليمن للتجارة، ثم ترد الأرباح وتقسم على حسب ما يتفقون عليه، فأجازت الشريعة هذا النوع من العقود. يقولون: إن الفوائد والأرباح تعتبر قراضاً، وأعجب فما تنفك من عجائب! حينما يأتي من يقول: إن عقد القراض ليس فيه نص من الكتاب والسنة بشروط معينة، وإذا كان ليس فيه نص معين لا من الكتاب ولا من السنة وليس فيه إجماع على شروط معينة، فإنه يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فيصبح قراض الأمس له حالة، وقراض اليوم له حالة، هذا هو الفقه الجديد الذي -نسأل الله السلامة والعافية- زين لصاحبه حتى يحل ما حرم الله، فيضل ويضل ومن ثم يهلك ويُهلك غيره. والقراض في الأصل يقوم على أركان وهي: رب المال، والعامل الذي يضرب بالمال ويتاجر، وهو الطرف الثاني، والمحل الذي هو المتاجرة، والصيغة التي هي الإيجاب والقبول، كأن يقول له: قارضتك على أن يكون الربح بيننا. يقولون: إذا جاء العميل للمصرف ودفع مائة ألف فإنن حكم اشتراط المنافع على القرض يقول المصنف رحمه الله: [ويحرم كل شرط] أي: في الدين إذا اشترط المنفعة فلا يجوز؛ لأن اشتراط المنافع تارة يكون من المكر، كأن يقول: العشرة آلاف تردها لي عشرة آلاف وخمسمائة، وبعض الأحيان يكون اشتراط المنفعة بالمعنى سواءً كانت منفعة اعتبارية أو منفعة من غير النقد، كأن يقول له: أعطيك عشرة آلاف على أن تعمل عندي يوماً، أو توصل هذا لفلان، أو تفعل كذا وكذا، فصار قرضاً جر نفعاً، وفيه مسائل: المسألة الأولى: أجمع العلماء على أن كل قرض جر نفعاً من حيث الجملة إذا وقع على سبيل الشرط والمشارطة أنه لا يجوز، وحكى الإجماع على ذلك ابن المنذر، ونقله الإمام ابن قدامة رحم الله الجميع برحمته الواسعة، فمن حيث الأصل لا يجوز القرض الذي يجر نفعاً، ولكن إذا ثبت هذا فهو يحتاج إلى شيء من التفصيل وفي عصرنا الحاضر عندنا مسألتان نحتاج إلى ذكرهما: المسألة الأولى: قديمة وموجودة في زماننا. والمسألة الثانية: موجودة أو طرأت وكثر الكلام فيها الآن مسألة السفتجة أما المسألة الأولى: فهي السفتجة وهي تنبني على الحوالات. المسألة الثانية: فهي جمعيات المال. أما السفتجة ففي القديم كانوا يخافون الخروج بالأموال في السفر، فيأخذ الرجل مائة دينار في مكة ويعطيه ورقة لوكيل له في المدينة، أنه إذا جاءك فلان فأعطه مائة دينار، وإذا جئنا إلى صورة المسألة نجد أنه دفع مائة دينار وأخذ مائة دينار، لكن الشخص الذي هو رب المال دفع المال في مكة بشرط أن يأخذه في المدينة، فاشترط أخذه في المدينة حتى يحيله إلى وكيله، وهذا الشرط في الحقيقة قصد منه منفعة الأمن من خطر حمل المال معه، ومن هنا اختلف السلف رحمهم الله في هذا النوع، وكان موجوداً في زمان الصحابة رضوان الله عليهم، فمنهم من رخص، ومنهم من منع. فإذا دفعت لأحد مالاً على أن تأخذه في مكان آخر، فلا يخلو المال من حالتين: السفتجات، وهي فارسية معربة، ويبحثها الفقهاء تحت هذا المسمى السفتجة، والسفتجة من حيث الأصل لها صورتان: الصورة الأولى: أن يكون المال المديون يحتاج إلى مئونة حمل إلى المدينة، فمثلاًً: يأخذ المدين من صاحب المال مائة صاع في مكة ويقول له صاحب المال: بشرط أن تحيلني على وكيلك في المدينة وأستلمها منه، فإن كان نقل مائة صاع من المدينة إلى مكة يكلف ديناراً أو عشرة دنانير فصار كأنه أقرضه مائة صاع معها عشرة دنانير، فصار قرضاً جر نفعاً، وهنا نقول: لابد من دراسة؛ لأن المشكلة أن بعض العقود ترى في ظاهرها أن لا شيء فيها، لكن حينما تنظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) فتجد أنه لابد من التأمل والنظر بعمق. لذلك فلابد من دراسة المسألة حتى تفهم نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن بيع وسلف، فالسلف يعطي نفس المال، لكن لما أدخل البيع معه ربما وجدت الزيادة في البيع؛ لأنه لا يبيع أحد شيئاً إلا وفيه ربح، ففهمنا من هنا أن الشرع لا يقتصر على كون هذا أخذ رأس مالٍ ما لم يحقق في اشتراطه عليه، فلما اشترط شرطاً فيه الزيادة والمصلحة له فهمنا أنه قرض جر نفعاً واختلف فيه الصحابة رحمهم الله. أما لو كان المال المدفوع طعاماً يحتاج إلى نقل ومئونة، فجماهير العلماء سلفاً وخلفاً على تحريمه؛ لأنه استفاد النقل، وسلم مئونة النقل، والمال صحيح أنه ما نقل لكنه اشترط شرطاً على وكيله هناك ولم يقل له: أدها لي هنا، فدل على أنه قصد الهروب من مئونة الحمل، ودلالة الحال قد تدل على المقاصد في المآل. ثانياً: أن يكون المال ليس فيه مئونة، فمثلاً: يعطيه مائة دينار في مكة، ويقول له: هذه المائة دينار أحلني على وكيلك في المدينة يعطيني المائة دينار وهذه المائة دينار، ليس في حملها مئونة، فلا تحتاج إلى أكياس وإجارة، بل يضعها الإنسان في جيبه، أو في خرجه. إلخ، فلو كانت أكثر، مثلاً: عشرة آلاف دينار من الذهب -كما في القديم-، فتحتاج إلى صرر ويستأجر لحملها وكرائها، فهذا يدل على أنه يريد أن يخرج من مئونة الحمل ومئونة الخطر في الطريق؛ لأنه ربما ركب بحراً فغرق، وربما أخذت منه في الطريق، فالمقصود أنه يريد أن يتهرب من هذا كله، فيشترط أن يأخذها على وكيله حوالة، فصارت حوالة بمنفعة. فإن كانت لا مئونة فيها فقد شدد فيها بعض السلف ورخص فيها البعض الآخر، وممن رخص فيها علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن مسعود رضي الله عن الجميع، فقد كان ابن الزبير كما روى عطاء يأخذ المال من الرجل في مكة ويكتب لأخيه مصعب في البصرة أن يقضيه، وهذا على سبيل الترخص؛ لأنه نفس عين المال وما فيه مئونة، وبناءً على ذلك رخص فيها هؤلاء الصحابة، وكذلك قال بهذا القول جمع من التابعين رحمهم الله، وهو رواية عن الإمام أحمد. ومنعها بعض السلف على خلاف بينهم، فمنهم من يفهم من كلامه التحريم، ومنهم من يفهم من كلامه الكراهية، وهذا هو مذهب الشافعية والمالكية وطائفة من الحنفية رحم الله الجميع، فيقولون بالمنع، إما على سبيل التحريم، وإما على سبيل الكراهة، وروي الجواز مع الكراهة عن مالك من وجه يثبت عنه. وبناءً على ذلك يرد السؤال الآن في الحوالة في الأصل بنفس العملة وبغير العملة، كأن تريد مثلاً تحويل عشرة آلاف ريال من مكة إلى المدينة، فالعملة واحدة، وتريد تحويل عشرة آلاف ريال إلى دولارات في غير مكة خارج البلاد مثلاً. والحوالة في الأصل هل هي حوالة أم قرض؟ هذا يحتاج إلى نظر، الحوالات الموجودة الآن هي قرض، وهي آخذة حكم السفتجات؛ لأنك تأتي إلى المصرف وتعطيه عشرة آلاف، وحين يأخذ المبلغ فإنه لا يحيلك بنفس المبلغ، وإنما حقيقته أنه أخذ هذا القرض في ذمته وأحال إلى وكيله أن يعطيك إياه، وأنت لا تحيل إلا لمصلحة، فكأنك أقرضته لمصلحتك، وهذا وجه دخولها في السفتجات؛ لأنه يريد توصيلها وفي توصيلها مئونة، فإن جاء يسافر هو بنفسه فمئونة السفر مكلفة، وإذا استأجر الغير فإنه يدفع قيمة استئجار الغير، فهي داخلة في حكم السفتجة. فعلى قول من قال من الصحابة بالترخيص في السفتجات، وهذا مع اتحاد العملة فلا إشكال في الجواز، يكون في حكم السفتجة جائزة على قول علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود، والنفس تطمئن إلى هذا القول، خاصة كما قال الإمام مالك: إن الناس يحتاجون إلى ذلك، فخفف فيه لوجود المصلحة، وصار فيه نوع من الإرفاق وهو متفق مع مقصود الدين. ويبقى النظر في الحوالة مع اختلاف العملة، إذا دفعت عشرة آلاف فإنها في الأصل تكون ريالات وتريد تحويلها إلى البلد الثاني بعملته، فهنا عقدان: العقد الأول: الصرف، وهو كونك تبدل العشرة آلاف من ريالات إلى دولارات، والعقد الثاني: عقد الحوالة، فيجب أولاً: أن تصرف وتبدل العملة إلى عملة أخرى، وتقبض يداً بيد، فإذا حصل الصرف بصفته الشرعية المعتبرة، ودخلت النقود في شيك أو حوالة وأحيلت فلا إشكال في جوازها على قول من ذكرنا من السلف رحمهم الله، لكن لو أعطاه عشرة آلاف ريال، وقال: حولها إلى فلان دولارات، فحينئذٍ وقعت النسيئة والتأخير في الصرف، ولا خلاف في أن وجود التأخير يوجب التحريم، إذاً: المخرج والمباح أن يصرف أولاً وبعد القبض يحيل ما شاء من المال مسألة الدين في الجمعيات أما مسألة الدين في الجمعيات، فإن الجمعية -إذا جئت تنظر إليها- في الواقع هي قرض جر نفعاً، فلو دخلنا الجمعية بخمسة آلاف ريال، فكل شخص يدفع الخمسة آلاف على شرط أن يدينه الثاني أو يدين من يدينه، فأنت إذا دفعت الخمسة آلاف وكل شخص دفع خمسة آلاف، فمعناه أن محمداً الأول هو الذي سيأخذ مجموع المال، فكأنك دفعت الخمسة آلاف لمحمد من أجل أن يقضك ويقرض الباقين أيضاً، ودفعتها لأولئك الأربعة الباقين بنفس الشرط، فصار قرضاً جرَّ نفعاً، ولو علمت أنهم لا يعطونك لامتنعت، فإذاً: أنت لم تدفع المال إلا من أجل أن تستفيد من قوة المبلغ، والدين إنما يدفع من أجل الرفق بالمديون، وقد أجمع العلماء على أن الدين عقد رفق. ومن هنا حرم أن يستفيد المدين، فأنت إذا دفعت الخمسة آلاف مع زيد وعمرو وخالد لمحمد، كأنك تقول: يا محمد! خذ مني الخمسة آلاف الآن بشرط أن تعطي الشهر القادم خمسة آلاف لزيد، والذي بعده لعمرو، والذي بعده لبكر، فلو علمت أنه يمتنع لما دفعت ولما أعطيته، وهذا يقتضي المنع، فصار قرضاً جر نفعاً، وإن قلنا: إنه دفع خمسة آلاف وأخذ خمسة آلاف {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] يقولون: دفع ديناً وأخذ عين الدين، فإن وجدت من يجيز ويفتي بالجواز فإنه يرى أنه دفع خمسة آلاف وأخذ الخمسين ألفاً ورد لكلٍ دينه بدون زيادة، وإن وجدت من يحرم وجدته يرى شبهة زائدة على الارتفاق وهي كونه يدين بشرط، وهذا سلف وشرط، فصار قرضاً بشرط فيه منفعة، إما له حقيقة أو تبعاً، فحقيقة من جهة أنه سيستفيد الخمسين ألفاً، وتبعاً كأنه يقول: يا محمد! أقرض من أقرضني، وأعط لمن أعطاني كما أنني أعطيتك. وعلى هذا أقول: إنها من جنس المشتبه، فلا أقوى على الجزم بالتحريم؛ لأن فيها شبهة من الحلال، وفيها شبهة من الحرام، فإذا جئنا ننظر إلى وجود الشرط فهذا شبه من الحرام، وإذا جئنا لمضمون الشرط مع أنه لا يأخذ إلا رأس ماله لقلنا بالجواز، فأنا أقوال: إنه من المشتبه، وأنا ما أفتيت بحلها يوماً ولا بحرمتها، ولكن أرى أنها -أي: الجمعيات- من المشتبه الذي لا يفتى بحله ولا يفتى بحرمته، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين
__________________
|
#326
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب البيع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (314) صـــــ(1) إلى صــ(11) شرح زاد المستقنع - باب القرض [3] الغاية من القرض هي الإرفاق بالمقترض والتيسير عليه، وهو من قبيل الدين والله سبحانه وتعالى عدل بين صاحب الدين والمدين فألزم كلاً منهما بإلزامات تمنع الضرر عن الآخر، ومن ذلك أنه أوجب على المديون أن يرد الدين لصاحبه دون أن يزيد عليه إلزاماً، لكن أن يزيد تكرماً فلا بأس، كما يحرم على الدائن أن يشترط زيادة على دينه عند السداد مسائل في القرض بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويحرم كل شرط جر نفعاً] تقدم الكلام على هذه الجملة، وبينا أنه متى اشترط صاحب الدين على المدين شرطاً يتضمن منفعة له فهذا ذريعة إلى الربا، وهو: - إما أن يكون رباً محضاً، كقوله: أشترط عليك أن ترد العشرة خمسة عشر؛ فإنه شرط تمحض بالزيادة المحرمة وهي الربا. - وإما أن يشترط عليه شرطاً فيه منفعة تكون حينئذٍ الحرمة من جهة وجود الزيادة. والأصل في ذلك أن الله سبحانه وتعالى عدل بين صاحب الدين والمدين، وأن الواجب على المديون أن يرد الدين والحق لصاحبه دون أن يزيد عليه إلزاماً، لكن أن يزيد تكرماً فلا بأس، وكذلك لا يجوز له أن ينتقص من حقه. إذاً: فقوله: [ويحرم] أي: يأثم بهذا الفعل إذا اشترط الزيادة، ولا يجوز دفع هذه الزيادة، فلو ترافعا إلى القاضي فإن القاضي لا يحكم على المديون أن يدفع هذه الزيادة، فلو قال: أشترط عليك أن ترد العشرة خمسة عشر، فإن القاضي يحكم عليه بأن يرد العشرة فقط مكافأة صاحب الدين بدون شرط وقوله: [وإن بدأ به] إذا بدأ المديون بمكافأة صاحب الدين بدون شرط ولا مواطأة جاز له ذلك، والدليل على هذا حديث أبي رافع رضي الله عنه في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً، فقدمت عليه إبل من الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكرة، فقال: لا أجد إلا خياراً، قال: أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاءً) ومعنى هذا: أن المنفعة والزيادة جائزة إذا لم تكن بمواطأة أو بشرط. والمنفعة كرجل استدان منك عشرة آلاف، فجاء وأعطاك العشرة آلاف، وقال لك: إنك أحسنت إليّ، وإني قد وهبتك داري شهراً، فهذه منفعة، وهذا القرض جر نفعاً لكنه ليس على وجه محرم؛ لأنه جاء على سبيل الإكرام بعد انتهاء الدين وقضائه، وقوله: [وإن بدأ به] أي: المديون، ومعناه أنه لم يكن النفع مشترطاً من سابق، فيبدأ به المديون لكن بعد القضاء والوفاء، فابتدأ من عند نفسه دون أن يلزمه صاحب الدين أو يكون هناك شرط بينهما، وإن بدأ به على هذا الوجه فإنه جائز؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (رحم الله امرأً سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) فمن السماحة في القضاء أن يزيد ويستفضل، سواءً كانت الزيادة بالأعيان أو بالمنافع، فيرد له عيناً أفضل من عينه، أو يرد له حقه من المال ويزيده منفعة أو مالاً، هذا كله دلت السنة على جوازه، ولكن بشرطين: الشرط الأول: أن يكون بعد تمام الوفاء، فلا يكون قبل الوفاء، فإن كان قبل الوفاء ففيه كلام. الشرط الثاني: أن يكون دون شرط أو مواطأة، بل تعطى الزيادة بطيبة نفس ورضا خاطر، فهذه جائزة ولا بأس بها. وقوله: [بلا شرط] أي: من محض اختياره ومن عند نفسه، لكن فصل بعض العلماء في الشخص الذي تكون من عادته الزيادة، مثل: الكرماء وأهل السخاء والجود، فإن أمثال هؤلاء الغالب أنهم إذا استدانوا أن يكافئوا من استدانوا منه؛ لأن الله جبلهم على الكرم، والكرم نعمة من الله عز وجل، والكريم يشعر أنه لا يملك مالاً، وفي هذه الحالة تجده يعطي الضعيف والمحتاج ومن يسأل، فكيف إذا كان الذي أمامه قد أحسن إليه، فإن الكريم لا يرضى أن يعطي نفس الذي أعطيته، وغالباً ما يرد بأفضل؛ لأن الله جبله على ذلك، فالكرم من مظنته الزيادة، فيرد السؤال إذا أعطى الدين لكريم فإنه سيشعر أنه سيكافئه. إذاً: فهل هذا المعروف من الكريم ينزل منزلة الشرط؟ الجواب فيه تفصيل، إن كان الذي أعطاه الدين في نيته ورغبته وقرارة نفسه يقصد أنه إن أعطاه سيكافئه وأحب أن يعطيه حتى يكافئه فحينئذٍ تكون الشبهة، فمن العلماء من حرم ومنهم من كره، وعلى هذا تنزل القاعدة: المعروف عرفاً كالمشروط لفظاً وشرطاً، فحينما علم أنه كريم وجواد وأنه سيرد الشيء بأفضل فكأنه أعطاه على أن يزاد في عطائه. وقال بعض العلماء: بالكراهة، كما أشار إليه الإمام النووي رحمه الله في الروضة، واختاره بعض أهل العلم، ووجه الكراهة أنه تردد بين الحرام وبين الحلال، فإنه إذا أعطاه الدين على أن يرده بنفسه اقتضى ذلك الحل، وإن أعطاه الدين بشرط الزيادة اقتضى التحريم، فإن سكت وعُلم ذلك من طبيعة الشخص ورغبة من أعطى كان متردداً بين الحلال والحرام، وهذا ضابط عند بعض علماء الأصول أنهم يجعلون المكروه ما تردد بين الحرام والحلال، فيصفون بعض المعاملات وبعض الأفعال بكونها مكروهة؛ لأنها في مرتبة بين الحلال والحرام، فيها شبه من الحل يقتضي جوازها وشبه من الحرام يقتضي منعها. فإن نظرنا إلى أنه ليس هناك شرط ولا مواطأة ولا وعد قلنا: بالحلال، وإن نظرنا إلى الداخل والنية والقصد قلنا: إنه حرام، ومن هنا يقولون: يصير مكروهاً، مثل ما ذكروا في الثوب، إن كان فوق الكعبين فهو حلال بالنسبة للرجل، وإن كان أسفل من الكعبين فإنه حرام، وإن كان على الكعبين فهو مكروه، لأنه ليس بالحرام المحض؛ لأنه لم يرد نص بتحريمه، إنما ورد النص بما أسفل الكعبين، ومفهوم (أسفل) أنه يشترط في الحكم بكونه حراماً أن يكون أسفل. فالشاهد أننا عندما قلنا: يشترط أن يكون حراماً إذا اشترط، فإذا لم يشترط اقتضى هذا الحل، وإذا جرت العادة نزلت منزلة الشرط، فإذا قصد هذا المعتاد منه قالوا: يكون مكروهاً حكم رد القرض بأفضل منه وقوله: [أو أعطاه أجود] كأن يستدين منه نوعاً من الإبل فقضاه بنوع أجود منه، أو استدان منه نوعاً من الطعام فقضاه أجود منه، أو استدان منه نوعاً من الثياب والألبسة والأكسية فرد أفضل وأجود منه. إذا أخذ الجيد ورد بأجود، أو أخذ الحسن ورد بأحسن، أو أخذ الفاضل فرد بالأفضل، فإنه يجوز إذا لم يكن بشرط ولم يكن بعدة ولا بمواطأة، أما الدليل على جواز ذلك، فإن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صرحت بفضيلة القضاء بالأحسن، فقال صلى الله عليه وسلم: (أعطه -أي: سددوا دينه واقضوا دينه- فإن خير الناس أحسنهم قضاءً) وكونه أحسن: يدل على أنه يكون أفضل، إما في الجودة والرداءة وفي الصفات الموجودة في المذروع وفي المعدود. وإما أن تكون الجودة والأحسن في القدر، وذلك كأن يستلف منه خمسة ريالات فيرد ستة ريالات أو يستلف منه مائة ريال فيردها مائة وعشرة بدون شرط وبدون عدة الهدية بعد وفاء الدين وقوله: [أو هدية بعد الوفاء جاز] أي: أو أهدى إليه هدية بعد وفاء الدين جاز، كأن يستدين منك مائة ألف ريال، ثم جاءك وأعطاك المائة ألف بعد حلول الأجل وأعطاك معها ساعة أو كتاباً أو قلماً؛ لأنه يرى أن لك معروفاً عليه، وأحب أن يكافئك على المعروف؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه) قالوا: هذه الهدية لما جاءت بدون شرط وجاءت بعد تمام الوفاء ولم يكن ذلك جارٍ على عرفٍ يقتضي الاشتباه جاز بدون حرمة ولا كراهة. وقد اختلف العلماء في مسألة المكافأة على الدين والرد بأفضل، وبعض العلماء يقول: إنه يجوز أن ترد بالأفضل في الصفات ولا ترد في العدد، فمثلاً: لو أخذ مائة ريال لا يجوز أن يردها مائة وعشرة، وهذا هو مذهب الإمام مالك رحمه الله، يرى أن تكافئ في الصفات لكن لا تكافئ في العدد؛ لأن المكافئة في العدد صورة الربا، فإذا أخذ مائة ريال وردها مائة وواحداً أو مائة واثنين أو مائة وعشرة فهو ربا، فهو على صورة: أن يأخذ الواحد ويرده اثنين أو ثلاثاً، واستدل بقوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]، فهذه المسألة فيها خلاف، وإن كان بعض الحنفية يميل مع المالكية في بعض التفصيلات، لكن المشهور الخلاف بين المالكية، وعن الإمام أحمد أيضاً رواية في رد المكافأة مطلقاً لكن الصحيح ما ذكرناه. وعندنا دليلان: الدليل الأول: في سداد الديون: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] وهذا الأصل يقتضي أن سداد الدين يكون مماثلاً، إن كان عين الدين فلا إشكال، وإذا لم يكن عيناً كان مماثلاً في العدد والصفة؛ لأنه رأس المال، وإن لم يكن رأس المال حقيقة يكون حكماً، وظاهر هذه الآية الكريمة يمكن أن تجزم بأنه لا يجوز لأحد أن يدفع مكافأة على الدين؛ لأن الأصل يقتضي أنه كما أخذ العشرة أن يرد العشرة، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما استسلف البكر وهو نوع من الإبل، وجاء عند القضاء، فقال: (يا رسول الله! لا أجد إلا خياراً رباعياً، قال: أعطه إياه، فإن خير الناس أحسنهم قضاءً) فمن أهل العلم من قال: إن هذا الحديث ورد في الصفة، فإن الخيار الرباعي أفضل من البكر، فيجيز في المعدودات بأوصافها والمذروعات بأوصافها ويمنع في الربويات من الذهب والفضة والأطعمة، فلا يجوز أن تعطي الصاعين مقابل صاع، ولا يجوز أن تعطي الدرهمين مقابل درهم. لأنه يرى أن حديث أبي رافع في المعدودات والزيادة عنده جاءت في الصفة، فلا يجوز أن نتوسع ونجيز القضاء في المعدودات الربوية، في المكيل كيلاً بزيادة الكيل، وفي الموزون وزناً بزيادة الوزن، فعلى هذا القول لا يجوز لك إذا استدنت كيلو من الذهب أن ترده كيلو ونصفاً، أو ترده كيلو وربعاً مثلاً، أي بزيادة ربع عليه؛ لأنه يرى أن الأصل التحريم، والحديث جاء في المعدودات وهي الإبل وما في حكمها، فعلى هذا القول فإن الحكم يختص بالجواز بصورة هذا الحديث، والجمهور قالوا: يجوز أن يزيد سواءً كان في الذهب والفضة التي هي الأثمان أو في المطعومات، سواء المكيلات أو الموزونات، ويجوز أن يزيد في المعدودات صفة وعدداً، وعلى الوجه الأول عندهم أنك لو أخذت بعيراً فلا يجوز أن تقضي بعيرين؛ لأن الحكم عندهم يختص بالصفة، والزيادة بالصفة مع وجود الاتحاد في العدد، فلا يجيزون أن تقضي البعير بالبعيرين، ولا يجيزون أن تقضي الشاة بالشاتين وبالثلاث؛ لأنهم يرون أن الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختص بالصفة، فقال (يا رسول الله! إني لا أجد إلا خياراً رباعياً)، فمن هنا يقولون: لا يجوز أن تدفع بزيادة عدد لقاء عدد أقل، هذا بالنسبة للقول الأول الذي ذكرناه. وأما الجمهور لما أجازوا هذا قالوا: الحديث ورد فيما ذكرتموه، لكن في الحديث عبارة، وهي قوله عليه الصلاة والسلام: (أعطه، فإن خير الناس أحسنهم قضاءً) فجعل الأمر بالزيادة في الصفة والجودة مركب من قوله: (فإن خير الناس أحسنهم قضاءً)، فالتعليل يفيد العموم، فلما كان منشأ الحكم الإحسان في القضاء، وأكد هذا بقوله: (رحم الله امرأً سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) فهمنا أن مقصود الشرع المكافأة على الدين، ما دام أنه بدون وعد ولا تواطؤ ولا شرط، وبناءً على هذا نخرج ما ذكره المصنف رحمه الله. ويمكننا أن نقول: إنه يجوز أن يقضي الشيء بأحسن منه وأجود في الصفات، ويجوز أن يقضي الشيء بضعفه في العدد، فيقضي البعير بالبعيرين، والشاة بالشاتين، ويقضي أيضاً الثوب -بصفاته المنضبطة- بثوبين إذا كان قد اقترضه منه، والطاقة من القماش بالطاقتين إذا استدان مذروعاً، وقس على ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن خير الناس أحسنهم قضاءً). أما إذا كان كريماً، ومن عادته أن يكافئ على الدين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكرم الخلق، ومع ذلك استدان واستدان منه الناس وهم يعلمون كرمه وفضله عليه الصلاة والسلام وجوده وسخاءه، قال رجل: يا قوم! أسلموا فقد جئتكم من عند رجل لا يخشى الفقر، ما سُئل عن شيء إلا أعطاه، صلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين، فالمقصود: أنه ولو كان كريماً سخياً يجوز أن تتعامل معه، لكن ينبغي أن لا تجعل في نيتك أن يكافئك بالأفضل، وإنما يكون ذلك على سبيل المسامحة والارتفاق حكم الهدية لصاحب القرض قبل سداد الدين وقوله: [وإن تبرع لمقرضه قبل وفائه بشيء لم تجر عادته به لم يجز]. عرفنا أنه يجوز أن تزيد عند القضاء بأفضل؛ لحديث أبي رافع بشرط أن تكون الزيادة بعد انتهاء الأجل وبعد الوفاء، حتى قال بعض العلماء: لو جئت تسدد الدين لا تقدم الهدية، بل سدد الدين أولاً وبعد أن يقبض دينه أعطه الهدية، ولا تجعل العطاء للهدية سابقاً لوفاء الدين، إنما تعطيه بعد تمام الوفاء، فحينئذٍ يرد السؤال لو اقرضت شخصاً فجاء وأعطاك شيئاً قبل السداد فهل يجوز لك أن تأخذ من المديون شيئاً، سواءً كان من الأثمان أو الأطعمة أو الأكسية أو المنافع. كرجل استدان منك عشرة آلاف ريال، وكان الدين إلى نهاية السنة، وجاءك في رمضان، وقال: يا فلان! هذه خمسة آلاف ريال مني لك أو هذه ألف ريال، أو هذه مائة ريال، فأعطاك هدية من غير جنس الدين، كأن يكون استدان منك عشرة آلاف ريال ففوجئت به قبل تمام الأجل وقد جاءك بشيء من غير الأثمان كطعام أو كساء أو ساعة أو قلم أو كتاب، وقال: يا فلان! إني أحبك في الله وهذه هدية مني لك، لكن بينك وبينه دين ولم يسدد الدين بعد. فحينئذٍ إذا أعطاك شيئاً قبل الدين فإنك تتقيه، وعلى هذا وردت نصوص الصحابة والنقول عنهم متظافرة، وقد جاء عند ابن ماجة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قبول هذه الهدية، لكن هذا الحديث متكلم في سنده، وذكر بعض العلماء أن له شواهد من حيث المضمون العام للمتن، وأما عن الصحابة فلا إشكال، فإن أبا بردة بن أبي موسى الأشعري لما جاء إلى عبد الله بن سلام الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه، قال له: إنك بأرض أرى الربا فيها فاشياً، فإذا استدان منك رجل ديناً فأعطاك هدية أو حملاً أو فإياك أن تقبله. فمنعه من قبول الهدية قبل تمام الدين، وأُثر هذا عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، فإن ابن عباس سئل عن رجل استدان من آخر عشرين درهماً، ثم صار المديون يهدي للدائن السمك، فأهداه في المرة الأولى سمكاً، ثم مرة ثانية أهداه سمكاً، ثم المرة الثالثة أهداه سمكاً، حتى وصلت قيمة السمك ثلاثة عشر درهماً، فأخبر ابن عباس رضي الله عنهما أن الرجل استدان منه عشرين درهماً، وأهداه هدية تبلغ ثلاثة عشر درهماً فقال: خذ منه سبعة دراهم. فاحتسب جميع ما أهداه إليه، وعدّ ذلك محرماً عليه إلا أن تعطى قيمته. والسبب في هذا واضح، فكأنه قبل وفاء الدين تارة تتخذ الهدايا لإطالة الأجل، فإذا جاء السداد تنكسر عين صاحب الدين بالهدايا، ولا يستطيع أن يطالب المديون، ويؤخره ويؤجله، وكذلك أيضاً فيها ذريعة إلى الربا أن يمحض له الأجل من نفس المبلغ، ومن هنا تظافرت النقول عن الصحابة رضوان الله عليهم كـ عبد الله بن سلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وغيرهما، ومن أئمة التابعين كـ سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي رحمة الله على الجميع، كلهم منعوا قبول الهدية قبل الوفاء. وقد ضيق السلف في هذا حتى إن بعضهم كان يتورع عما هو أخف من هذا بكثير، فإن الإمام أبا حنيفة رحمه الله استدان منه رجل ديناً، ثم جاء الإمام أبو حنيفة يطالبه بالدين، فوقف على بابه في شدة الظهر في الهاجرة، وكان مع الإمام أبي حنيفة أصحابه، فكان الرجل في داخل الدار وقُرع عليه الباب، فوقف الإمام أبو حنيفة في الشمس وجاء أصحابه إلى مظلة الباب (الروزنة)، ودخلوا تحتها، وقالوا: هلم يا إمام إلى الظل، قال: لا والله، أخشى أن يكون فضل منه عليَّ، فلم يرض أن يأتي إلى ظل داره قبل وفاء دينه. والفقه في بعض الأحيان يضيق على الإنسان، لكنه يثاب على هذا، إذا تورع بمثل هذا الورع الذي كان عليه سلف الأمة، واحتاط إلى هذه الدرجة، بأن يدع ما لا بأس به خشية من الوقوع فيما فيه بأس، وهذا الورع أكمل ما يكون من الورع، شريطة أن لا يفضي ذلك إلى الوسوسة وتحريم ما أحل الله عز وجل من الطيبات. فالشاهد أنه خشي أن يكون مرتفقاً بهذا الظل، وبناءً عليه لا تقبل الهدية من الشخص الذي لك عليه دين قبل سداد الدين إلا في حالات: الحالة الأولى: أن تحتسب الهدية من الدين، فلو كان رجل عنده لك عشرة آلاف ريال، فأهداك ساعة بخمسمائة، فاقبلها على أن الذي بقي لك عليه تسعة آلاف وخمسمائة، ولو أهداك هدية بألف، فاقبلها على أن الدين تسعة آلاف، فإذا كنت تقبل الهدية على أنها من الدين فلا بأس به. الحالة الثانية: أن يكون الرجل الذي أهداك الهدية من عادته أن يهديك، أو يكرمك، كرجل استدان منك ديناً ومن عادته أنه يهدي لك هدية في كل رمضان، فاستدان منك الدين إلى نهاية السنة فجاءك بالهدية في رمضان وأعطاكها، فإنها خارجة كلية عن الدين، والأورع والأفضل أن لا تقبلها في ذلك العام، لكن التهمة هنا منتفية، ولذلك أجازوا للقاضي أن يستضيفه من كان من عادته أن يستضيفه قبل القضاء، فإذا دعاه إلى وليمة خاصة أجابه؛ لأننا نعلم أن بينهما وداً قديماً، وأنه لم يستضفه مبتلىً بهذه الأمانة وهذه الحقوق. فالمقصود أنه إذا كان من عادته أن يهديك وأهداك على عادته صحت هديته، لكن إن كان من عادته أن يهديك وزاد في هديته في ذلك العام حرمت الزيادة؛ لأنها خرجت عن المألوف والمعروف، ومن هنا لو استدان رجل منك ديناً ودعاك إلى وليمة، فإما أن يكون الطعام عاماً، كأن يكون زاوج ابنه أو ابنته فإن هذه الدعوة لا يخصك بها، وإنما أنت والناس فيها على حد سواء، ويبعد أن تكون مكافأة عن الدين؛ لأن هذا أمر عام يقصد منه إشهار النكاح ولا علاقة له بالدين، ومن هنا أجازوا للقاضي أن يجيب الولائم العامة. لكن قال بعض العلماء: يجوز أن تتخلف عنها تورعاً، إذا خشيت أن يكسر عينك بالزيادة في الإكرام في الحفلات العامة والولائم العامة، فيحابيك محاباة خاصة، ويميزك بها، فإنها في الظاهر دعوة عامة لكن فيها شيء تتورع عنه إذا علمت ذلك، وهذا أصل عام يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والأعراف والأزمنة، وعلى المؤمن أن يتقي الله، ويتورع عن مثل هذه الدعوات، وهذا هو الذي فيه طمأنينة القلب، ففي مثل هذه المسائل يصدق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس)، فإنه في بعض الأحيان يكون الشيء في ظاهره حلالاً لكن تجد أموراً وقرائن تدل على وجود الشبهة، فمثل هذا تتقي فيه وتمتنع منه، صحيح أنه يدعوك دعوة عامة، إلا أنه يميزك على من هو أفضل منك، فتفهم من هذا أن القدر المباح والمشترك زدت على حقك فيه، كما لو أهداك هدية وكان من عادته أن يهديك وزاد في الهدية، فإن الزيادة تحرم، فالمقصود أنهم لما قالوا: من عادته أن يهديك، محل ذلك أن لا يكون فيه شبهة أو ذريعة إلى الحرام، كأن يزيد عن هديته، أو يفعل معك فعلاً يميزك به في وليمة عامة أو نحوها، ولو دعاك إلى دعوة خاصة لم يجز أن تجيبه؛ لأنها أشبه بالمكافأة على الدين قبل وفائه وأدائه. وقوله: [لم يجز] أي: لم يجز لك أن تأخذ الهدية منه قبل وفائه للدين إلا أن تنوي مكافأته على الهدية، كرجل استدان منك عشرة آلاف وذلك إلى نهاية السنة، ثم جاءك بهدية (ساعة) لم يجز لك أن تقبلها، إلا أن تنوي مكافأته على الساعة، فتنوي في قلبك أنك ستقبل منه الساعة الآن على أن ترد عليه هدية مثل هديته أو أفضل من هديته، فتكون حينئذٍ قطعت الهدية بمثلها أو أفضل منها. وقوله: [إلا أن ينوي مكافأته] وهذا ما يسمى بهبة الثواب، وهي الهبة بعوض، وهذا النوع محرم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعله الإنسان من أجل أن يكافئه الغير، وهو الذي عناه الله عز وجل بقوله: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] (ولا تمنن) أي: تفعل الهدية وتعطي الهدية وما فيه منة، (تستكثر) أي: تستدعي الكثرة بطلبك لما هو أكثر، وهذا يفعله الضعفاء، فيأتون للأغنياء ويعطونهم هدية، ومن المعلوم أن الفقير إذا أهدى للغني فمعنى ذلك أن يكافئه، وعلى هذا قالوا: إنه إذا أهداه ونوى في قلبه أن يرد هديته وأن يكافئه عليها جاز له ذلك. وقوله: [أو احتسابه من دينه] كرجل يأتي ويعطيك هدية، فتقدر هذه الهدية بقيمتها، وتنوي في قرارة قلبك أنه إذا جاء يسدد الدين فإنك تسقط الهدية من قيمة الدين، فيجوز لك أن تقبلها حكم اشتراط تسليم الدين في غير مكان القبض وقوله: [وإن أقرضه أثماناً فطالبه بها ببلد آخر لزمته، وفيما لحمله مئونة قيمته] [وإن أقرضه أثماناً] كذهب وفضة، دنانير ودراهم، أو أقرضه ريالات وطالبه بها في غير البلد، كأن يستدين منك عشرة آلاف في مكة، فقلت له: أنا جالس في مكة في رمضان، ولكنني أطالبك بردها لي مثلاً في الرياض في ذي القعدة، أو في جدة أو المدينة لزمه ذلك، أي: لزم المدين أن يسدد الدين في الموضع الذي اتفقا عليه، فهذا من الشرط، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم). وقد نص العلماء رحمهم الله على أنه إذا أعطاه الأثمان في بلد وطالبه بقضائها في بلد آخر، أنه لا بأس بذلك ولزمه أن يسددها في البلد الآخر، لكنهم فرقوا بين الأثمان وغير الأثمان، كالطعام والكساء وغيرها مما يحمل وفيه مئونة؛ لأنه إذا اشترط عليه أن يوفيه في بلد غير بلده استضر المديون، وصارت منفعة زائدة للدائن على المديون، فلا يجوز ولا يلزم بهذا. أما الأثمان كالذهب والفضة، في القديم إذا قال لك: أعطيك مائة دينار في المدينة وتقضيها في مكة جاز ولزمه أن يسدد الدين في مكة؛ لأنه لم يكن في حمله مئونة، لكن في زماننا فيه مئونة، خاصة إذا كان من بلد إلى بلد تختلف العُمل فيه، فإن العُملة إذا كانت صعبة كأن يستدين مثلاً: دولارات، فيقول له وهو في مكة: هذه العشرة آلاف دولار أشترط أن تسددها لي في المشرق أو في المغرب، والدولارات في المشرق أو المغرب غالية وعزيزة الوجود، وحملها إلى هناك فيه مئونة ومشقة، فكأن الدائن صاحب الدين اشترط منفعة وصار أخذ الدين مع المنفعة الزائدة، وعليه قالوا: إنه لا يلزمه هذا الشرط، إذا كان على وجهٍ فيه ذريعة إلى الربا. كذلك الذي في حمله مئونة، كما لو استدان منه طعام بر أو استدان منه طن حديد أو طن نحاس وهو في مكة، وقال له: السداد يكون في المدينة، وهذا الدين قد لا يوجد مثلاً في المدينة، كما في القديم، إذا كانت البلدان مختلفة والأطعمة والمنافع كانت المثمونات مختلفة في الأماكن، فيلزمه ببلد غير بلده، فيتحمل مشقة الحمل إليه، قالوا: عندها يُنتقل إلى القيمة، ولا يلزمه دفع العين ولا دفع المثل إذا كان المثل لا يتيسر في ذلك البلد وكان حمله إلى ذلك البلد فيه مئونة، فأنت إذا تأملت أن حمل هذا الشيء إلى جدة يكلفه خمسمائة، فصار كأنه استدان منه مائة صاع فقضاها مائة صاع وخمسمائة، وصار يستفضل على دينه، وصار شرطاً جر منفعة، والشروط التي تجر المنافع تعتبر محرمة. لكن إذا اشترط عليه في المثمونات التي في حملها مئونة أن يسدده في بلد غير بلده وفي حمله إلى ذلك البلد مئونة، فحين نقول: ينتقل إلى القيمة، يرد يتبع
__________________
|
#327
|
||||
|
||||
![]() السؤال إذا قال له: هذا الطن من الحديد تأخذه مني في مكة وتقضيه لي في المدينة، وقلنا: إنه يلزمه أن يدفع قيمته بدلاً عن مثله، فالطن الحديد مثلاً في المدينة قيمته أكثر من قيمته في مكة، فهل العبرة بمكة أو بالمدينة؟ الجواب من حيث الأصل لا يلزم من استدان منك أن يعطيك ما في حمله مئونة في البلد الذي اشترطته، وإن ألزمته بذلك يُنتَقَل إلى القيمة؛ لأننا إذا ألزمناه بالعين صار الحمل مئونة، وإذا ألزمناه بالمثل سيتضرر بحمل المثل إلى بلد القضاء، وغالباً ما تقع هذه المسألة، إذا كان البلد الذي اشترط عليه القضاء فيه ليس فيه نفس الشيء، أما لو كان فيه نفس الشيء فلا إشكال، يأخذ هذا الشيء ثم يذهب إلى البلد ويقضيه نفس الشيء، لكن حين لا يكون في البلد نفس ذلك سواءً كان من طعام أو غيره، فقال له: اقضني في مكة وقد استدان منه في المدينة، أو اقضني في المدينة وقد استدان منه في مكة، فمعناه: أنه سيتحمل مئونة الحمل إلى مكة، فصار فضل زيادة مشترطة في الدين وهذا محرم، وفي هذه الحالة يعدل إلى القيمة، ويلزمك أن تدفع قيمة الدين. إذاً: الأمر إما أن تكون قيمة الدين في مكة هي قيمته في المدينة فلا إشكال، فلو أن الطن الحديد الذي أخذه منك قيمته في مكة عشرة آلاف ريال، وقيمته في المدينة عشرة آلاف ريال، فيلزمه أن يدفع عشرة آلاف ريال ولا إشكال، أي: لم يقع ظُلِم على المدين، ولم يطالب بأن يعطيك عين السلعة؛ لأنها غير موجودة؛ لأنه استنفدها، ولا يلزمه أن يعطيك المثل؛ لأنه لو جاء يعطيك المثل في البلد المتفق عليه فإنه حينئذٍ يستضر بالحمل وصار قرضاً جر نفعاً، ولكن يلزمه أن يدفع لك القيمة، وإذا لزمه أن يدفع لك القيمة فحينئذٍ يرد السؤال هل العبرة ببلد القرض أم العبرة ببلد الوفاء؟ إن اتفقت القيمة لا يرد هذا السؤال، بمعنى: إن كانت قيمته في مكة هي قيمته في المدينة لا إشكال، لكن إن اختلفت القيمة فحينئذٍ هل العبرة ببلد الدين الذي أعطاه فيه الدين أم العبرة ببلد الوفاء؟ الجواب: العبرة ببلد الدين. وقوله: [إن لم تكن ببلد القرض أنقص] إذا كان الدين في بلد القرض أنقص فحينئذٍ تلزمه القيمة، فقلنا: يدفعها ببلد القرض الذي هو مكة، فإن كانت أنقص في مكة بأن كانت قيمتها عشرة آلاف، وفي المدينة قيمة القرض عشرون ألفاً، فحينئذٍ يدفع بقيمة بلد القرض، وقول بعض العلماء: [إن لم تكن ببلد القرض أنقص] خطأ، والصواب: أكثر، إن لم تكن ببلد القرض أكثر، وفي هذه الحالة عكس المسألة وجعل البلاء على المقرض وأعتد ببلاء المقرض على حساب المقترض، والأول له وجهه والثاني له وجهه، وإن قيل: إن العبرة ببلد القرض لا إشكال في صحته واعتباره زائداً أو ناقصاً؛ لأن الحق ثبت في بلد القرض، وبعض العلماء يرى أن العبرة ببلد الوفاء، ويلزمه بقيمته في بلد الوفاء، سواءً كانت أكثر أو أنقص حكم اشتراط تسليم الدين في غير مكان القبض وقوله: [وإن أقرضه أثماناً فطالبه بها ببلد آخر لزمته، وفيما لحمله مئونة قيمته] [وإن أقرضه أثماناً] كذهب وفضة، دنانير ودراهم، أو أقرضه ريالات وطالبه بها في غير البلد، كأن يستدين منك عشرة آلاف في مكة، فقلت له: أنا جالس في مكة في رمضان، ولكنني أطالبك بردها لي مثلاً في الرياض في ذي القعدة، أو في جدة أو المدينة لزمه ذلك، أي: لزم المدين أن يسدد الدين في الموضع الذي اتفقا عليه، فهذا من الشرط، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم). وقد نص العلماء رحمهم الله على أنه إذا أعطاه الأثمان في بلد وطالبه بقضائها في بلد آخر، أنه لا بأس بذلك ولزمه أن يسددها في البلد الآخر، لكنهم فرقوا بين الأثمان وغير الأثمان، كالطعام والكساء وغيرها مما يحمل وفيه مئونة؛ لأنه إذا اشترط عليه أن يوفيه في بلد غير بلده استضر المديون، وصارت منفعة زائدة للدائن على المديون، فلا يجوز ولا يلزم بهذا. أما الأثمان كالذهب والفضة، في القديم إذا قال لك: أعطيك مائة دينار في المدينة وتقضيها في مكة جاز ولزمه أن يسدد الدين في مكة؛ لأنه لم يكن في حمله مئونة، لكن في زماننا فيه مئونة، خاصة إذا كان من بلد إلى بلد تختلف العُمل فيه، فإن العُملة إذا كانت صعبة كأن يستدين مثلاً: دولارات، فيقول له وهو في مكة: هذه العشرة آلاف دولار أشترط أن تسددها لي في المشرق أو في المغرب، والدولارات في المشرق أو المغرب غالية وعزيزة الوجود، وحملها إلى هناك فيه مئونة ومشقة، فكأن الدائن صاحب الدين اشترط منفعة وصار أخذ الدين مع المنفعة الزائدة، وعليه قالوا: إنه لا يلزمه هذا الشرط، إذا كان على وجهٍ فيه ذريعة إلى الربا. كذلك الذي في حمله مئونة، كما لو استدان منه طعام بر أو استدان منه طن حديد أو طن نحاس وهو في مكة، وقال له: السداد يكون في المدينة، وهذا الدين قد لا يوجد مثلاً في المدينة، كما في القديم، إذا كانت البلدان مختلفة والأطعمة والمنافع كانت المثمونات مختلفة في الأماكن، فيلزمه ببلد غير بلده، فيتحمل مشقة الحمل إليه، قالوا: عندها يُنتقل إلى القيمة، ولا يلزمه دفع العين ولا دفع المثل إذا كان المثل لا يتيسر في ذلك البلد وكان حمله إلى ذلك البلد فيه مئونة، فأنت إذا تأملت أن حمل هذا الشيء إلى جدة يكلفه خمسمائة، فصار كأنه استدان منه مائة صاع فقضاها مائة صاع وخمسمائة، وصار يستفضل على دينه، وصار شرطاً جر منفعة، والشروط التي تجر المنافع تعتبر محرمة. لكن إذا اشترط عليه في المثمونات التي في حملها مئونة أن يسدده في بلد غير بلده وفي حمله إلى ذلك البلد مئونة، فحين نقول: ينتقل إلى القيمة، يرد السؤال إذا قال له: هذا الطن من الحديد تأخذه مني في مكة وتقضيه لي في المدينة، وقلنا: إنه يلزمه أن يدفع قيمته بدلاً عن مثله، فالطن الحديد مثلاً في المدينة قيمته أكثر من قيمته في مكة، فهل العبرة بمكة أو بالمدينة؟ الجواب من حيث الأصل لا يلزم من استدان منك أن يعطيك ما في حمله مئونة في البلد الذي اشترطته، وإن ألزمته بذلك يُنتَقَل إلى القيمة؛ لأننا إذا ألزمناه بالعين صار الحمل مئونة، وإذا ألزمناه بالمثل سيتضرر بحمل المثل إلى بلد القضاء، وغالباً ما تقع هذه المسألة، إذا كان البلد الذي اشترط عليه القضاء فيه ليس فيه نفس الشيء، أما لو كان فيه نفس الشيء فلا إشكال، يأخذ هذا الشيء ثم يذهب إلى البلد ويقضيه نفس الشيء، لكن حين لا يكون في البلد نفس ذلك سواءً كان من طعام أو غيره، فقال له: اقضني في مكة وقد استدان منه في المدينة، أو اقضني في المدينة وقد استدان منه في مكة، فمعناه: أنه سيتحمل مئونة الحمل إلى مكة، فصار فضل زيادة مشترطة في الدين وهذا محرم، وفي هذه الحالة يعدل إلى القيمة، ويلزمك أن تدفع قيمة الدين. إذاً: الأمر إما أن تكون قيمة الدين في مكة هي قيمته في المدينة فلا إشكال، فلو أن الطن الحديد الذي أخذه منك قيمته في مكة عشرة آلاف ريال، وقيمته في المدينة عشرة آلاف ريال، فيلزمه أن يدفع عشرة آلاف ريال ولا إشكال، أي: لم يقع ظُلِم على المدين، ولم يطالب بأن يعطيك عين السلعة؛ لأنها غير موجودة؛ لأنه استنفدها، ولا يلزمه أن يعطيك المثل؛ لأنه لو جاء يعطيك المثل في البلد المتفق عليه فإنه حينئذٍ يستضر بالحمل وصار قرضاً جر نفعاً، ولكن يلزمه أن يدفع لك القيمة، وإذا لزمه أن يدفع لك القيمة فحينئذٍ يرد السؤال هل العبرة ببلد القرض أم العبرة ببلد الوفاء؟ إن اتفقت القيمة لا يرد هذا السؤال، بمعنى: إن كانت قيمته في مكة هي قيمته في المدينة لا إشكال، لكن إن اختلفت القيمة فحينئذٍ هل العبرة ببلد الدين الذي أعطاه فيه الدين أم العبرة ببلد الوفاء؟ الجواب: العبرة ببلد الدين. وقوله: [إن لم تكن ببلد القرض أنقص] إذا كان الدين في بلد القرض أنقص فحينئذٍ تلزمه القيمة، فقلنا: يدفعها ببلد القرض الذي هو مكة، فإن كانت أنقص في مكة بأن كانت قيمتها عشرة آلاف، وفي المدينة قيمة القرض عشرون ألفاً، فحينئذٍ يدفع بقيمة بلد القرض، وقول بعض العلماء: [إن لم تكن ببلد القرض أنقص] خطأ، والصواب: أكثر، إن لم تكن ببلد القرض أكثر، وفي هذه الحالة عكس المسألة وجعل البلاء على المقرض وأعتد ببلاء المقرض على حساب المقترض، والأول له وجهه والثاني له وجهه، وإن قيل: إن العبرة ببلد القرض لا إشكال في صحته واعتباره زائداً أو ناقصاً؛ لأن الحق ثبت في بلد القرض، وبعض العلماء يرى أن العبرة ببلد الوفاء، ويلزمه بقيمته في بلد الوفاء، سواءً كانت أكثر أو أنقص الأسئلة حكم تأخير الدين السؤال ما حكم تأخير الدين؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالواجب على المسلم إذا استدان من أخيه المسلم ديناً ألا يؤخره، وأن يبادر بالسداد عند حلول الأجل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأً سمحاً إذا قضى)، ومن السماحة أن ترُد الدين في أجله، وأن لا تزيد على هذا الأجل فتماطل وتؤخر، فتأخير الدين عن وقته للقادر الذي يستطيع السداد محرم، ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: (مطل الغني ظلم يحل لومه وعرضه) قال العلماء: في هذا دليل على أن الرجل إذا استدان منك ديناً، وحل الأجل وهو قادر على السداد وامتنع أن يسدد، فهو آثم بهذا، ويحل لك أن تغتابه وتقول: فلان ظالم، فيجوز إذا اشتكاه أن يقول: فلان ظلمني، أو يذهب إلى أبيه أو قريبه أو من له عليه قوة، ويقول: اردع فلاناً وأمره أن يفي فإنه ظالم، فقوله: إنه ظالم، فيه أذية ولكنها تجوز لمكان الظلم، وفيه سوء، والله تعالى يقول: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلَاّ مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148]. فتأخير الناس في حقوقهم والمطل في ذلك محرم، كما أجمع العلماء على ذلك، وقال بعض أهل العلم: من امتنع من سداد ديون الناس وهو قادر على السداد عند حلول آجالها محق الله البركة من ماله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) فتوعد من ظلم الناس في أموالهم وحقوقهم، ولا شك أن من الظلم أن يمتنع الإنسان من السداد. الأمر الثاني: أن تأخير الدين والمماطلة به والتلوم فيه مع القدرة على السداد يضر الإنسان، فلربما كان صاحب الدين يحتاج إلى هذا المال لعلاج أو طعام أو مصالح يريد قضاءها فيعطله عن هذه المصالح ويؤذيه فيها، وهذا لا شك أنه ضرر عظيم. الأمر الثالث: أن كل من استدان ديناً فإن نفسه تتعلق بذلك الدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن مرهونة بدينه) ولذلك لا ينفك هذا الرهن إلا بسداد الدين، ومن هنا قال العلماء: من مات حلت ديونه، فالميت إذا مات وجب أن تسدد ديونه فوراً وتحل ديونه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في أول الإسلام كان لا يصلي على ميت عليه دين لم يترك وفاءً، فقد ورد في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل عليه ديناران لم يترك وفاءً، فقال: ما دينه؟ قالوا: ديناران، قال: صلوا على صاحبكم فقال أبو قتادة: يا رسول الله! هما عليَّ، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو قتادة: فلم يزل يلقاني في سكك المدينة ويقول لي: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد، فيقول: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد حتى لقيني ذات يوم، وقال: هل أديت عنه؟ قلت: نعم، قال: الآن بردت جلدته) وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين أخبرني به جبريل آنفاً)، فهذا أمر عظيم. وقد اختلف العلماء في قوله: (نفس المؤمن مرهونة بدينة) قالوا: إنه ينحبس عن النعم حتى يسدد دينه، وهذا أمر عظيم، فالرهن أصله الحبس: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] أي: مرهونة، فعلى هذا لا يجوز أن يؤخر ويماطل، ومن السنن العجيبة أن الشخص إذا يسر الله له القضاء فماطل وأخر فإن الله لا يوفقه للقضاء إلا فيما ندر، ولذلك قل أن تجد صاحب تجارة يأخذ الأموال من الناس ولا يبادر بسدادها إلا وجدته يدخل من دين إلى دين ومن دين إلى دين حتى تستنفد تجارته ويصبح رأس ماله في التجارة أقل بكثير من الدين، فعلى الإنسان أن يتقي مثل هذه الأمور، وإذا قدر على السداد أن يبادر بسداد أموال الناس ورد حقوقهم إليهم كاملة حتى يكون ذلك من باب الوفاء وأداء الحقوق إلى أهلها، والله تعالى أعلم حكم بيع التمر وهو في رءوس النخل السؤال في بيع التمر وهو في رءوس النخل أليس في هذا جهالة في المقدار؟ الجواب في بيع الثمار يباع الثمر على رءوس النخل خرصاً، يأتي الرجل الخبير ويخرص، وكل فلاح يعلم هذا، أنه إذا جاء أحد يريد أن يشتري ثمرة بستانه، لا يأتي وحده إلا إذا كان عنده خبرة ومعرفة، أما إذا لم تكن عنده خبرة فيأتي برجل له خبرة بالثمرة وبالسوق، فينظر في النخل ويقول: هذا النخل يخرج منه مثلاً: ثلاثة آلاف صاع، وهذه الثلاثة آلاف صاع غالباً تكون قيمتها إن كان السوق طيباً مثلاً: ثلاثين ألفاً، وإن كان السوق وسطاً تكون القيمة مثلاً عشرين ألفاً، وإن كان السوق رديئاً تكون القيمة عشرة آلاف، فيعطيك سعراً تقريبياً، إذاً: إنما جاز بيع الثمر بعد بدو صلاحه على سبيل الاستثناء، ولذلك لا يرد عليه ما يرد على الأصل. ومن هنا قال العلماء رحمهم الله: بيع الثمرة على رءوس النخل مستثنىً من بيع الغرر؛ لأن الأصل أن يُعلم قدر المبيع، وأن يكون المشتري على علم بما يكون من الثمرة رطباً كانت أم تمراً، ولكن أُبيح ذلك من باب التوسعة على الناس وهو مستثنىً من الأصل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم استغلال شهر رمضان السؤال نطلب كلمة توجيهية حول استغلال ما تبقى من شهر رمضان المبارك في طاعة الله سبحانه وتعالى وغير ذلك من الأعمال الصالحات؟ الجواب نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا فيما بقي من هذا الشهر الكريم، كما نسأله تعالى ألا يختم لنا هذا الشهر إلا بعتق من النار، وفوز بالرحمة والمغفرة والعفو عمّا سلف وكان، ومما أوصي به إخواني ونفسي تقوى الله عز وجل، ومن غيب النية الصالحة في الخير أعانه الله على الخير، ومن كانت نيته على الطاعة والبر قوى الله عزيمته وسدده ووفقه وأرشده، قال تعالى: {إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً} [الأنفال:70] فالله تعالى اختار القلوب للنظر، فأول ما أوصي به أن تغيب في سريرتك لما بقي من هذا الشهر خيراً، وأن تعزم في قرارة قلبك أن تعمر هذه الأوقات والساعات واللحظات في طاعة الله ومرضات الله. أما الأمر الثاني: فالحرص على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم لعمارة ما بقي من هذا الشهر في الطاعات والتي من أحبها كثرة تلاوة القرآن، فطوبى ثم طوبى لمن وفقه الله لحب القرآن، وإذا أردت أن يبارك الله لك فيما بقي من شهرك، بل ويبارك لك فيما بقي من عمرك، فالزم كتاب الله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، طوبى ثم طوبى لمن جعل الله القرآن ربيع قلبه، ونور صدره، وجلاء حزنه، وذهاب همه وغمه، وسائقه وقائده إلى رضوانه والجنة، طوبى لعبد عكف على كتاب الله يتلوه قائماً وقاعداً، يتلوه آناء الليل، يتقرب به إلى الله ويرجو به رحمة الله، يقف عند آياته ويخشع لعظاته، ويتدبره ويتلوه حق تلاوته. فخير ما يُوصى به أن يكثر العبد من تلاوة القرآن، فإن أكثرت من تلاوة القرآن أصلح الله قلبك، فإن الله تعالى يقول: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57] وإذا شُفي ما في صدرك، وجعل الله القرآن أنيساً لك وجليساً، فعندها انشرح صدرك للخيرات، واطمأن قلبك بذكر الله والطاعات، وأصبحت مشمراً عن ساعدك في مرضات الله جل جلاله، وما فاز السلف رحمهم الله إلا بتوفيق الله أولاً وآخراً، ثم بتلاوة القرآن، وانظر إلى أفضل الناس طاعة وبراً تجده ملازماً لكتاب الله ليلاً ونهاراً. القرآن مفتاح كل خير، ومفتاح كل بر؛ لأن الإنسان صلاحه كله في قلبه: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) ولن يصلح هذا القلب إلا بكتاب الله جل جلاله وبكلام الله جل جلاله. فخير ما يوصى به من أراد أن يبارك الله له في رمضان وفيما بقي من أيامه ولياليه أن يكثر من تلاوة القرآن، وأن يحاول ألا تمر عليه ثلاث ليالٍ إلا وقد ختم كتاب الله عز وجل، مع التفكر والتدبر والتأمل، ومع الإشفاق على النفس والإزراء والإحساس بما بينه وبين كتاب الله من النقص حتى يكمله، ومن العيب حتى يستره، ومن الثلمة حتى يسدها، فإذا تلوت كتاب الله فسوف تستشعر أن الله يأمرك ويعظك، فإذا كان حال الإنسان مع القرآن في ليله ونهاره بورك له في شهره، بل بورك له في عمره، ولذلك نجد بعض الناس إذا خرج من رمضان خرج بحفظ القرآن، وكم من سعيد وفق للسعادة باغتنام رمضان في القرآن حتى أصبح القرآن أنيسه وجليسه، لا يفتر عن تلاوة كتاب الله وسماعه وتدبره، فيحس أن سعادته كلها في كتاب الله جل جلاله، كان شيخ الإسلام رحمه الله في آخر حياته يبكي ويتحسر على كل لحظة فاتت في غير كتاب الله جل جلاله. القرآن خير كثير، ولن تبحث في سيرة أحد من السلف الصالح إلا وجدتها مقرونة بالقرآن في قيام الليل أو تلاوته في النهار، قال بعض السلف: صحبت عبد الرحمن بن القاسم العتقي رحمه الله -صاحب الإمام مالك - من مكة إلى المدينة والله ما فتر عن تلاوة القرآن، كان السلف يتلون القرآن، وقد أدركت والله أقواماً وهم ذاهبون إلى السوق تسمعهم يتلون كتاب الله عز وجل، وإذا جن عليهم الليل سمعت كتاب الله من بيوتهم ومن حجراتهم، وأعرف أقواماً في ضيق وشظف من العيش ومع ذلك تجدهم أسعد الناس بكتاب الله جل جلاله، أغناهم من الفقر، وأمنهم بفضل الله من الخوف، وألبسهم لباس العافية، فتجدهم أبعد الناس عن الشهوات والشبهات والمذلات بكتاب الله جل جلاله. الوصية الجامعة لخيري الدين والدنيا والآخرة: لزوم هذا القرآن: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] فالاعتصام بكتاب الله جل جلاله والقرب من هذا القرآن والحب لهذا القرآن واستشعار أنه كلام الله الذي ما نزل أحب إلى الله ولا أكرم على الله في كلامه مثل هذا الكلام وهو القرآن، وقد أجمع السلف رحمهم الله على تفضيل القرآن على سائر الكتب السماوية المنزلة، لفضله وعلو شرفه ومكانته، وأُنزلت آيات منه من كنوز تحت العرش، وهذا فضل عظيم وخير كثير اختص الله به هذه الأمة. فالإنسان السعيد الموفق الذي يريد أن يبارك الله له حتى في حياته وعمره يلزم كتاب الله، وانظر إلى أي ملتزم وشابٍ صالح يستقيم على طاعة الله لن تجده أقوى الناس التزاماً وهداية إلا إذا وجدته ملازماً لكتاب الله يتلوه ويتفكر فيه ويتدبره ويخشع له ويحب سماعه، فلا يفتر عن تلاوة كتاب الله وسماعه وتدبره حتى ينال السعادة ويجدها في نفسه، وهذا هو حال أهل القرآن. فينبغي الإكثار من تلاوة القرآن والإحساس بفضل هذا الكتاب، والإحساس بعظيم ما أنعم الله به على هذه الأمة بهذا الكتاب الذي: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]. أما الوصية الأخرى: فالحرص على أن يكون للإنسان في هذا الشهر حسنة وصدقة بينه وبين الله خفية، من إطعام الجائع، وكسوة العاري، وتفريج كربة المكروب، قال بعض العلماء: إن الله جعل رمضان ليتذكر الغني الفقير، ويتذكر القوي الضعيف، ويتذكر الصحيح المريض، فيتفقد بعضنا بعضاً، ويحسن بعضنا إلى بعض، فتجعل لك في هذا الشهر الكريم بعض الصدقات الخفية، وتجعل صيامك حينما جاعت أمعاؤك وظمئت أحشاؤك يذكرك بالمكروب والمنكوب والجائع، ويذكرك بالأرملة واليتيم، فتكفكف دموع اليتامى، وتجبر قلوب الأرامل والثكالى، وتحتسب الثواب عند الله جل جلاله: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة) فإن المعروف لا يبلى، والخير لا يُنسى، مات أقوام وما ماتت مآثرهم، مات أقوام وهم في الناس أحياء، بالذكر الجميل والعمل الصالح الجليل. تجعل لك من هذا الشهر زاداً للإحسان، فكما أنك تصلح في نفسك بالقرآن، تصلح لغيرك بحسنة أو بصدقة، فإن لم تستطع من نفسك وأمكنك أن تشفع عند من يقبل الشفاعة منك وتزكي نعمة الجاه التي أنعم الله بها عليك فتدخل السرور على بيت مسلم في هذا الشهر المبارك فنعم ما صنعت، فإن (الساعي على الأرملة كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر) ما دمت قد ذقت حر الصيام وألم الصيام ولذة عبادة الصيام، فإن تفريج كربة المكروب وإدخال السرور على الأرملة يعادل ذلك الفضل، كالصائم الذي لا يفطر، فأنت الآن عرفت قيمة الصيام، ووجدت لذة هذه العبادة فاعلم أنه من الخير لك بمكان أن تفرج عن أرملة أو يتيم، ولو بكلمة تشفع بها عند من يمكنه ذلك. كذلك مما يدخل في هذا قضاء الديون وتفريج كربات المكروبين، فإذا علمت أن قريباً أو جاراً لك مديون وتستطيع أن تذهب إلى غني خاصة في هذا الشهر والنفوس مقبلة على الخير وباغي الخير مقبل، فتحتسب عند الله جل جلاله قضاء دين المديون، فإذا علمت أن أخاك مديون أو عنده كربة أو عنده حاجة أو عوز وضيق: (فاشفعوا تؤجروا) فالشفاعة في مثل هذا عظيمة خاصة في هذا الشهر الكريم؛ لأنك تدخل على بيت من بيوت المسلمين الفرحة والسرور بقضاء دين عليهم أو تفريج كربة أو التوسعة عليهم، وهذا مما يحتسب عند الله جل جلاله، وقد كان بعض السلف يفضل السعي على الناس وتفريج كرباتهم على الاعتكاف في العشر الأواخر، فكان يخرج من معتكفه لتفريج كربة المكروب، وتنفيس نكبة المنكوب، فهذا من أحب وأفضل ما يثقل به ميزان العبد عند الله. فكم من أرملة إذا دخلت عليها وقد ضاقت عليها الأرض بما رحبت، ليس عندها من قريب ولا صديق ولا حبيب يلتفت إلى حالها أو يفرج ما يكون بها من بلائها بإذن ربها، فإذا دخلت عليها في ظلمة ليل أو في ضياء نهار، فأدخلت السرور عليها بإعطاء مال أو إعطاء طعام ووليت ظهرك وهي تشيعك بصالح الدعوات وما تسأل الله لك من جميل المكرمات فإن الله لا يضيع تلك الدعوات؛ لأنها تخرج من القلب الصادق، الكلب -أكرمكم الله- لما مرت عليه بغي من بغايا بني إسرائيل فاستقى، ومن شدة الظمأ كان يلهث الثرى، فنزلت البغي إلى البئر واستقت له بخفها، وفي رواية: (فشكر الله لها) أي: أن الكلب لم يستطع أن يشكرها، عظم جميلها حتى عند الكلب -أكرمكم الله- (فغفر الله لها ذنوبها)، فكيف بالمسلمة وقد تكون أمة صالحة، وقد تكون أمة متعرضة للحرام يعفها الله عز وجل بشفاعة حسنة: (اشفعوا تؤجروا) وكان الناس فيهم خير كثير عندما كانوا متراحمين، وكان القوي لا يغفل عن الضعيف. وأنبه على مسألة تفريج الكربات؛ ففي غالب الأحيان تكون صدقاتنا للفقراء المعروفين، ولكن هناك من يغفل عنهم كثير من الناس ألا وهو الفقراء الأخفياء الذين لا يسألون الناس إلحافاً، ركبتهم ديون وحاجات يفضلون أن يتعرضوا للموت على أن يمدوا كفاً لأحد، قد جعلوا فقرهم إلى الله وغناهم بالله، وقد يكون معك زميل لك وترى من حاله البؤس والفقر وأنت غني ثري وسع الله عليك، وقد تأتيه على طعامه وتطعم من ذلك الطعام الضيق ولا تتحرك في نفسك معاني الرحمة، هذا أمر يشتكى منه، فينبغي أن يحس بعضنا ببعض. ومسألة الشفاعة عند الأغنياء أيضاً أجرها عظيم خاصة في هذا الشهر الكريم؛ لأن نفوسهم مهيأة للخير، ولا يزال الخير موجوداً في الناس إلى قيام الساعة، لكن إذا كان طالب العلم يدخل على أناس
__________________
|
#328
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب البيع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (315) صـــــ(1) إلى صــ(12) شرح زاد المستقنع - باب الرهن [1] باب الرهن يعتبر من الأبواب المهمة المتعلقة بأحكام الديون، وهو مشروع وجائز بالكتاب والسنة والإجماع، وله حكم عظيمة، منها: حفظ حقوق الناس، وقلة الخصومات والمنازعات، وتسهيل المداينات، وإشاعة روح التكافل والتراحم والتعاطف بين الناس وله أحكام يذكرها العلماء في بابها الرهن حقيقته ومعناه وأحكامه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الرهن]. هذا الباب يعتبر من الأبواب المهمة المتعلقة بأحكام الديون، وذلك أن المداينات إذا وقعت بين الناس، قد يحتاج فيها صاحب الدين إلى شيءٍ يستوثق به من حقه، وهذا هو الذي يقوم عليه الرهن، فبعد أن بيّن المصنف رحمه الله أحكام بيع السلم، وأتبعها بأحكام القرض، بين بعد ذلك أحكام الرهن. والرهون توضع غالباً عند أصحاب الديون، أو من يقوم مقامهم من الوكلاء والأمناء، الذين يتفق عليهم الطرفان، وهذه الرهون يُقصد منها أن يستوثق صاحب الحق من حقه، فلما فرغ رحمه الله من بيان أحكام الدين، شرع في بيان أحكام الرهن، لتعلقه بباب الدين. والرهن له معنيان: لغوي واصطلاحي، أما المعنى اللغوي: فإنه يدور حول الدوام والثبات والاستقرار، ومنه قولهم: نعمة راهنة، أي: محبوسة، وماء راهن، أي: راكد دائم ومستقر. ومن معانيه: المنع والحبس، ومنه قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، أي: مرهونة ومحبوسة بما فعلت من خيرٍ أو شر. وأما المعنى الاصطلاحي: فقد عرّفه بعض العلماء بقولهم: استيثاق الدين بالعين، ليُستوفى منها عند العجز عن السداد، أو الامتناع منه. فقولهم: (ليُستوفى منها)، أي: من العين أو من ثمنها. وقولهم: (عند العجز عن السداد، أو الامتناع منه)، هذا قيدٌ مهم، ولذلك ذكره طائفة من الفقهاء رحمهم الله. وقولهم: (استيثاق الدين بالعين)، معنى هذا: لو أن رجلاً جاءك وقال: أريد منك مائة ألف ريال ديناً، وأنت قد تخاف أن يعجز عن سداد هذا المبلغ، وقد تخشى من مماطلته، أو من عُسره مستقبلاً، وأنت محتاج إلى هذا المال، ولا تستطيع رده، ومن هنا جاز أن تستوثق من دينك بعينٍ تطالبه برهنها، فتقول له: أعطني رهناً، فإذا قلت: أعطني رهناً، فكأنك تريد شيئاً تستوثق به من حقك، فأنت مستعدٌ للدين، وعندك الرغبة أن تدينه وتعطيه المال الذي طلب؛ ولكنك تخشى من عجزه عن السداد أو امتناعه منه، وحينئذٍ تطالب بهذه العين، حتى إذا عجز أو امتنع من السداد، أمكنك أن تبيع هذه العين التي رُهنت لقاء الدين، وتصل إلى حقك، من ثمنها، إما كل حقك، أو بعض حقك على حسب الرهن الذي رضيت به كاملاً أو ناقصاً. إذا: هذا هو استيثاق الدين بالعين، فعندنا دين وهو المائة ألف ريال، وعندنا عين مرهونة، وهي العمارة -مثلاً- فاستوثق صاحب الدين بالعين وهي العمارة، والأصل بينهما أنه إذا عجز عن السداد وحضر الأجل، فإنه يحق لصاحب الدين أن يبيع العمارة، أو يكون ذلك عن طريق القضاء، فيرفع أمره إلى القاضي، أو بدون قضاء، كأن يقول المديون له: إذا لم أسددك في محرّم فبع العمارة وخذ حقك، فيقول: قبلت، فحينئذٍ استوثق من دينه بالعين، لكي يستوفي من العين في حال عجزه عن السداد. ولذلك عندما يُقال: ليُستوفى منها، هكذا بإطلاق، هذا خطأ؛ لأنه قد يسدد المديون الدين، وحينئذٍ لا نحتاج إلى بيع العمارة، إذاً القيد الذي ذكروه في التعريف: عند العجز عن السداد أو الامتناع منه، قيد مهم؛ لأنه لا يتدخل صاحب الدين في هذه العمارة فيبيعها ويتصرف فيها، إلا إذا عجز المدين أو امتنع من سداده حقه الرهن حقيقته ومعناه وأحكامه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الرهن]. هذا الباب يعتبر من الأبواب المهمة المتعلقة بأحكام الديون، وذلك أن المداينات إذا وقعت بين الناس، قد يحتاج فيها صاحب الدين إلى شيءٍ يستوثق به من حقه، وهذا هو الذي يقوم عليه الرهن، فبعد أن بيّن المصنف رحمه الله أحكام بيع السلم، وأتبعها بأحكام القرض، بين بعد ذلك أحكام الرهن. والرهون توضع غالباً عند أصحاب الديون، أو من يقوم مقامهم من الوكلاء والأمناء، الذين يتفق عليهم الطرفان، وهذه الرهون يُقصد منها أن يستوثق صاحب الحق من حقه، فلما فرغ رحمه الله من بيان أحكام الدين، شرع في بيان أحكام الرهن، لتعلقه بباب الدين. والرهن له معنيان: لغوي واصطلاحي، أما المعنى اللغوي: فإنه يدور حول الدوام والثبات والاستقرار، ومنه قولهم: نعمة راهنة، أي: محبوسة، وماء راهن، أي: راكد دائم ومستقر. ومن معانيه: المنع والحبس، ومنه قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، أي: مرهونة ومحبوسة بما فعلت من خيرٍ أو شر. وأما المعنى الاصطلاحي: فقد عرّفه بعض العلماء بقولهم: استيثاق الدين بالعين، ليُستوفى منها عند العجز عن السداد، أو الامتناع منه. فقولهم: (ليُستوفى منها)، أي: من العين أو من ثمنها. وقولهم: (عند العجز عن السداد، أو الامتناع منه)، هذا قيدٌ مهم، ولذلك ذكره طائفة من الفقهاء رحمهم الله. وقولهم: (استيثاق الدين بالعين)، معنى هذا: لو أن رجلاً جاءك وقال: أريد منك مائة ألف ريال ديناً، وأنت قد تخاف أن يعجز عن سداد هذا المبلغ، وقد تخشى من مماطلته، أو من عُسره مستقبلاً، وأنت محتاج إلى هذا المال، ولا تستطيع رده، ومن هنا جاز أن تستوثق من دينك بعينٍ تطالبه برهنها، فتقول له: أعطني رهناً، فإذا قلت: أعطني رهناً، فكأنك تريد شيئاً تستوثق به من حقك، فأنت مستعدٌ للدين، وعندك الرغبة أن تدينه وتعطيه المال الذي طلب؛ ولكنك تخشى من عجزه عن السداد أو امتناعه منه، وحينئذٍ تطالب بهذه العين، حتى إذا عجز أو امتنع من السداد، أمكنك أن تبيع هذه العين التي رُهنت لقاء الدين، وتصل إلى حقك، من ثمنها، إما كل حقك، أو بعض حقك على حسب الرهن الذي رضيت به كاملاً أو ناقصاً. إذا: هذا هو استيثاق الدين بالعين، فعندنا دين وهو المائة ألف ريال، وعندنا عين مرهونة، وهي العمارة -مثلاً- فاستوثق صاحب الدين بالعين وهي العمارة، والأصل بينهما أنه إذا عجز عن السداد وحضر الأجل، فإنه يحق لصاحب الدين أن يبيع العمارة، أو يكون ذلك عن طريق القضاء، فيرفع أمره إلى القاضي، أو بدون قضاء، كأن يقول المديون له: إذا لم أسددك في محرّم فبع العمارة وخذ حقك، فيقول: قبلت، فحينئذٍ استوثق من دينه بالعين، لكي يستوفي من العين في حال عجزه عن السداد. ولذلك عندما يُقال: ليُستوفى منها، هكذا بإطلاق، هذا خطأ؛ لأنه قد يسدد المديون الدين، وحينئذٍ لا نحتاج إلى بيع العمارة، إذاً القيد الذي ذكروه في التعريف: عند العجز عن السداد أو الامتناع منه، قيد مهم؛ لأنه لا يتدخل صاحب الدين في هذه العمارة فيبيعها ويتصرف فيها، إلا إذا عجز المدين أو امتنع من سداده حقه مشروعية الرهن الرهن مشروع وجائز، وقد دل على جوازه دليل الكتاب، ودليل السنة، وإجماع الأمة، فإن هذا النوع من المعاملات المالية شرعه الله في كتابه، فقال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، فقوله سبحانه: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، يدل دلالة واضحة على أنه إذا أراد صاحب الدين أن يستوثق بدينه بالعين وبالرهن فإن ذلك مشروع وجائز. كما دل دليل السنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك كما في الصحيح من حديث أنس: (أنه عليه الصلاة والسلام توفي ودرعه مرهونة في آصُعٍ من شعير، استدانها عليه الصلاة والسلام من يهودي)، فقد استدان من اليهودي هذا القدر من الطعام، ورهن عنده درعه، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه. وقال عليه الصلاة والسلام: (الرهن محلوبٌ ومركوبٌ بنفقته)، فبيَّن أحكامه وآثاره، فدلّت هذه السنة على مشروعية الرهن، وقد كان الناس في الجاهلية يرهنون، وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقرّهم على ذلك، فاجتمع دليل الكتاب ودليل السنة القولية والفعلية والتقريرية. أما دليل الإجماع: فإن العلماء رحمهم الله قد أجمعوا على أن الرهن مشروع، لكنهم اختلفوا في جواز الرهن في الحضر، فمنهم من يقول: هو مشروعٌ مطلقاً، سواءً كنت في سفر أو كنت في حضر، أي: أنه يجوز للمسافرين أن يرهنوا، ويجوز للمقيمين أن يرهنوا، فلو أن اثنين في داخل المدينة استدان أحدهم من الآخر مالاً، فطلب منه رهناً، شُرع ذلك. وقال بعض السلف -كما هو قول مجاهد وغيره-: إن الرهن لا يجوز إلا في السفر، وهو قول ضعيف؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استدان، ورهن في الحضَر، فدلّ على مشروعية الرهن في داخل المدن، وأنه لا يختص جوازه بالسفر على ظاهر القرآن، والجواب عن آية البقرة، وهي آية الدين: أنها جاءت بالوصف الغالب، والقاعدة في الأصول: أن النص إذا خرج مخرج الغالب، فإنه لا يعتبر مفهومه، بمعنى: أن الآية بيّنت حكم الرهن في السفر؛ لأن الغالب أن الرهن يُحتاج إليه في الأسفار، وأما بالنسبة للحضر، فغالباً ما يكون التعامل بين الأشخاص الذين يأمن بعضهم ببعض ويثق بعضهم بعضاً، وتكون التجارات بينهم حاضرة في الغالب، والنص -كما سبق- إذا خرج مخرج الغالب لم يُعتبر مفهومه. أو نقول: دل الكتاب على مشروعية الرهن في السفر، ودلّت السنة على مشروعية الرهن في الحضر، فهذا نوع من الرهن، وهذا نوع من الرهن، فلا بأس أن يرهن في الحضر، كما لا بأس أن يرهن في السفر الحكمة من مشروعية الرهن المسألة الثانية: إذا عرفنا أن الرهن مشروع وجائز بإجماع المسلمين، وبهذه الأدلة الشرعية، فقد شرع الله عز وجل الرهن للناس لحكم وفوائد عظيمة، منها: أن صاحب الدين يستوثق بدينه، وهذا يجعله في طمأنينة، ومن هنا لما وُجِد الرهن في الشريعة الإسلامية، وأمكن للمسلم أن يجد شيئاً يحفظ به ماله، أو يحفظ به حقه عند العجز عن السداد، فإن هذا يشجع الناس على الدين، ويجعل الثقة بينهم قوية، ومن هنا يكون صاحب الدين في مأمن من ضياع حقه. ومن حكم هذا النوع من المعاملات: تسهيل المداينات، وإذا سهُلَت المداينات انتفع أفراد المجتمع، وهذا فيه نوع من التكافل، ونوع من التراحم والتعاطف؛ لأن المسلم إذا وجد من يعطيه المال في ساعة الحاجة، فإنه يشكره ويحبه ويذكره بالخير، وهذا يجعل القلوب يعطف بعضها على بعض، ويحب المسلمون بعضهم بعضاً. فمن هنا استوثق صاحب الحق من حقه، وانتفع أفراد المجتمع، فانتشر بينهم الدين، وهي مصلحة دنيوية؛ حيث يقضون مصالحهم الدنيوية، ومصلحة دينية؛ لأنها تُحدث شيئاً من المحبة والألفة والأخوَّة، والشعور بالرحمة والمودة والتعاطف بين أفراد المجتمع، خاصة المعسر والضعيف إذا انتابته النوائب، ووجد من يفرج كربته بعد الله عز وجل بإعطائه المال. ومن الحكم: أن المدين إذا كان لديه رهن، فإنه يحفظ ماء وجهه، ويمكنه أن يستدين ممن شاء، فيقول له: أعطني المال وهذا رهن لقاء مالك، ولقاء دينك، وحينئذٍ يتمكن من الوصول إلى بغيته وحاجته بالدين، أي: أن الشرع يمكِّنه من حاجته، ويمكِّنه من سد عوزه وفاقته عند النوائب، وذلك عن طريق استيثاق الدين بالعين، فإنه إذا شعر أنه يخاطب الناس بما يضمن حقوقهم، أمكَنه أن يسألهم حاجته، ولا شك أن الرهن محقق لهذه الفائدة العظيمة. ومن الحكم: أن في الرهن عدلاً وقطعاً للتلاعب بالحقوق، فإن المديون إذا دفع العين، سواءً كانت سيارةً أو أرضاً أو طعاماً، وجعلها رهناً؛ فإنه ربما كان متلاعباً بحقوق الناس، ويريد أن يأكل أموال الناس، فإذا وضع الرهن انقطع السبيل عنه، ومُنِع من التلاعب بحقوق الناس، فإذا جاء من يتلاعب بحقوق الناس ليستدين؛ قيل له: ادفع الرهن، فإذا دفع الرهن؛ فإن معنى ذلك أنه لا يستطيع أن يضيع حق صاحب الحق. ومن هنا فإن شرعية الرهن تقطع وتمنع من التلاعب، ومتى ما قيل لك: إن فلاناً لا يسدد، أو إن فلاناً يتلاعب بالحقوق، أو إن فلاناً مماطل أو نحو ذلك، فإنه إذا جاء يطلبك ربما أحرجك، وربما جاءك بشخص لا تستطيع رد شفاعته، فحينئذٍ أعطاك الشرع شيئاً تضمن به حقك، فتقول له: أعطني رهناً، لا مانع عندي أن أعطيه الدين، ولكن بشرط أن يعطيني رهناً لقاء حقي، فإذا قلتَ: أريد الرهن؛ لم يعاتبك أحد، ولم يستطع أحد أن يصفك بالظلم؛ لأنك لا تطالب أكثر من حقك، وعلى هذا: فلا شك أن في الرهن الخير الكثير. ومن الحكم: أن في الرهن منعاً للأذية والإضرار؛ لأن المديون إذا عجز عن السداد مع عدم الرهن، فإن الخصومة، والأذية تقع بين الناس؛ لكن إذا وُجِد الرهن، فسيقول له: بِع الرهن وخذ حقك، فالرهن يقطع أسباب الخصومة وأسباب النزاع. وأياً ما كان فإن الله عز وجل شرع الرهن، وتمت كلمته صدقاً وعدلاً، فهو يعلم ولا نعلم، ويحكم ولا معقِّب لحكمه: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115]. والحكم من مشروعية الرهن كثيرة والأسرار لا شك أنها موجودة، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله أهمية معرفة أحكام الرهن يقول المصنف رحمه الله: (باب الرهن) أي: كأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالرهون، وأنت كطالب علم تحتاج أن تبحث هذا الباب، وكدارسٍ في الفقه تحتاج أن تلِمّ بهذه المسائل والأحكام، فإنه يأتيك الرجل ويريد أن يستدين من الناس فتنصحه بالرهن، أو يأتيك الرجل ويريد أن يدين الناس فتنصحه بالرهن، وكذلك أيضاً إذا أراد الرهن سألك: ما الذي يجوز رهنه؟ وما الذي لا يجوز رهنه؟ ثم إذا رُهن هذا الشيء، فهل من حقي أنا صاحب الدين أن أنتفع برهني، أو ليس ذلك من حقي؟ كذلك أيضاً صاحب الدين الذي له الدين على المدين، هل من حقه أن ينتفع بالشيء المرهون عنده، أو ليس ذلك من حقه؟ كذلك أيضاً يسألك لو أن هذا الرهن نما وزاد وكثُر، فهل تكون الزيادة المتصلة أو المنفصلة للدائن والمدين أو تكون لأحدهما؟ هذا كله من المسائل التي يُحتاج إلى بحثها، ومن هنا نجد العلماء رحمهم الله يقولون: باب الرهن حكم الرهن وحالات الدائن مع المدين وحكم الرهن الجواز، فليس بواجب، ولا فريضة، بمعنى إذا أراد الشخص أن يعطي الناس الدين، فإنه لا يخلو من أحوال: الحالة الأولى: أن يكون الذي يطلب الدين موثوقاً به، فحينئذٍ لا تحتاج إلى رهن، فتقول له: خذ مائة ألف، ومتى ما يسّر الله لك سدادها فسدِّد، وهذا جائز بإجماع العلماء رحمهم الله. الحالة الثانية: أن يكون الشخص الذي يأخذ منك المال لا تعرفه، أو شخص تعرفه بالمماطلة، وتخاف على المبلغ الذي طلبه منك، فحينئذٍ أنت بالخيار، إن شئت طلبت الرهن، وإن شئت لا تطلب الرهن، والأفضل إذا كنت تعلم أنه محتاج وأنه مكروب، وأن هذا المال الذي يطلبه منك ليس فيه ضرر لو تأخر في سداده، فالأفضل أن تعطيه إياه بدون رهن؛ لأن الرهن يحمِّله المشقة والعناء، وقد يكون الشيء الذي يريد رهنه غير موجود عنده، ومن هنا يُفرَّق في الرهن، فإن كان الذي يريد منك الدين رجلاً عاجزاً، ولا يستطيع أن يعطيك رهناً؛ لأنه ليس عنده شيءٌ له قيمة حتى يضعه رهناً عندك؛ فالأفضل والأكمل أن تديِّنه ولا تطالبه بالرهن، وكفى بالله عز وجل وكيلاً، فإن الله يتكفل بحفظ حقك، وما دمت تعرفه بالصلاح والخير، فإنه إن شاء الله لن يُقصِّر ولن يمتنع في إبراء ذمته. أما إن وجدته مماطلاً، ووجدته رجلاً متلاعباً بحقوق الناس، وأحرجك بالدين، أو جاءك بإنسان لا تستطيع أن ترد شفاعته، فالأفضل في مثل هذا أن توقفه عند حده فتطالبه بالرهن، حتى يكون ذلك مانعاً له من تلاعبه بحقوق الناس، وأدعى لسد الباب من أن يُضر بك في ادعائه الحاجة إلى الدين؛ لأن بعض الناس قد يدعي الحاجة إلى الدين، وهو ليس بحاجة إليه، وقد يطلب الدين وهو لا يريد السداد. فحينئذٍ يقول العلماء: حكم الرهن جائز، ولكن في بعض الأحيان الأفضل أن لا تطالب بالرهن من الفقير المعدم، ونحو ذلك ممن له فضل عليك، كخاصة القرابة: كالأعمام، والأخوال، ومن لهم حق كبير، فإن طلب الرهن من هؤلاء فيه إجحاف، وأما إذا كان من الصنف الذي ذكرنا؛ فإن الأفضل أن يطالب الإنسان بالرهن، وذلك راجع إليه على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض أركان الرهن وشروطه للرهن أركان: أولاً: هناك راهن، وهو الشخص المديون. ثانياً: هناك مُرتَهَن، وهو الشخص الذي يوضع عنده الرهن، وقد يكون صاحب الدين، أو من يقوم مقامه. ثالثاً: هناك شيءٌ مرتَهن، وهي العين التي توضع كرهينة. رابعاً: هناك صيغة. فهذه أربعة أركان: الراهن، والمرتَهَن، والشيء المرتَهَن، والصيغة التي يقوم عليها الرهن. أما الراهن فيشترط أن يكون ممن له أهلية التصرُّف في المال، فلو جاءك طفل صغير، وقال لك: أعطني عشرة ريالات، وهذا القلم رهن عندك، فالطفل ليس من أهل التصرُّف، وليس ممن يصح رهنه، فإذا كان الطفل لم يبلغ، فإنه لا يحق له التصرف في المال إلا إذا قارب البلوغ، كما سيأتي -إن شاء الله- في الكلام على الصبي المأذون له بالتجارة. إذاً: الرهن لا يصح إلا من شخصٍ هو أهل للتصرف. وبناءً على ذلك فلا بد أن يكون بالغاً عاقلاً، فلو أن مجنوناً جاء بسيارةٍ -ولو كان يملكها- أو رجلاً في حال سكره، أو حال تعاطيه لمخدِّر أو نحوه مما يزيل العقل -والعياذ بالله! - جاء ورهن عمارته في دين، أو نحو ذلك، فإن الرهن لا يصح ممن هو ليس بأهلٍ للتصرف. كذلك يشترط أن يكون له أهلية التصرُّف في الشيء الذي يريد رهنه، فلا يرهن مال غيره، كأن يقول: أعطني سيارتك لأذهب بها إلى مكان ما، فأخذ سيارتك ثم ذهب واستدان عشرة آلاف ريال، ووضع سيارتك رهناً، وحينئذٍ لو ثبت عند القاضي أن السيارة سيارتك، فإنه يُسحب هذا الرهن ويُلغى، ويطالب بالبديل على تفصيلٍ سيأتي إن شاء الله في مسألة فوات الشيء المرتهن. إذاً لا بد في الشخص الراهن أن يكون أهلاً للتصرُّف. كذلك بالنسبة للمرتَهَن، وهو الشخص الذي يوضع عنده الرهن، يشترط أيضاً أن يكون أهلاً للتصرف. أما بالنسبة للصيغة، فهي الإيجاب والقبول، وهي التي يقوم عليها عقد الرهن، كأن يقول له: أعطني مائة ألفٍ وسيارتي هذه رهنٌ عندك، فيقول: قبلت. فقول الراهن: سيارتي هذه رهن، هذا هو الإيجاب، وقول صاحب الدين: قبِلت، هذا هو القبول. والشيء المرتهن يشترط فيه أن يكون مما يجوز بيعه، فإذا كان مما يجوز بيعه، فإنه يجوز رهنه، حتى لو قال: خذ كتابي، وقلمي، وساعتي، بل حتى النظارة، كأن يأتي ويشتري من البقالة، ولا يجد شيئاً كبيراً يرهنه، فيضع مثلاً شيئاً له قيمة، كالنظارة ونحوها. إذاً: لدينا العاقدان، والصيغة التي هي الإيجاب والقبول، والشيء المرتَهَن الذي هو محلٌ للرهن. وبالنسبة للصيغة يقول بعض العلماء: يمكن أن يقع الرهن بالتعاطي بدل الإيجاب والقبول، فكما أن البيع يقع بالتعاطي، فإنه ينعقد الرهن بالتعاطي دون إيجابٍ ولا قبول. وقد قدمنا أن البيع يجوز بالتعاطي: ينعقد البيع بما يدل على الرضا وإن تعاطى الكل ومثال التعاطي في الرهن: لو جاء شخص وقال لآخر: أعطني عشرة دراهم ديناً إلى غد، وخذ هذه الساعة، فصاحب الدين أخذ الساعة ولم يقل: قبلت، أو رضيت، بل أعطاه العشرة مباشرة، فبإعطائه العشرة كأنه قال: قبلت أن أديِّنك العشرة، وقبلت الساعة رهناً إلى السداد. إذاً: يقع الرهن بالأفعال، كما يقع بالأقوال هذا بالنسبة لمجمل أركان الرهن صحة الرهن في كل ما يجوز بيعه قال رحمه الله: [يصح في كل عين يجوز بيعها]. قوله: (يصح) أي: أن الرهن يمكن أن يكون في أي شيءٍ يمكن بيعه، ويشمل هذا: العقارات، والمنقولات، والمثمونات، فلو قال له مثلاً في العقارات: أرضي رهنٌ، كأن يستدين مائة ألف ويجعل الأرض -مبنية أو غير مبنية، أو مزرعة- رهناً إلى السداد، فإنه يصح وينعقد؛ لأن الأرض يجوز بيعها، وكذلك أيضاً الطعام، فلو قال له: أعطني ألف ريال إلى نهاية هذا الشهر، وهذا الكيس من الأرز رهن عندك، فقال: قبلت، فحينئذٍ كان الرهن من جنس المطعومات، وهكذا بالنسبة للمنقولات: كالسيارات، والدواب، فلو قال له: أعطني عشرة آلاف ريال، وسيارتي هذه رهنٌ عندك، فقال: قبلت، فإن السيارة يجوز بيعها، فيجوز رهنها، وقس على هذا غيره، سواءً كان الشيء المرهون له قيمة مرتفعة أو دون ذلك، فما دام أنه يجوز بيعه فإنه يجوز رهنه. أما لو كانت العين لا يجوز بيعها؛ كالميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام، فإنه بالإجماع لا يجوز رهنها، مثاله: لو قال له: أعطني ألفاً وهذا الحيوان المحنَّط الميت رهن حتى أسددك، لم يصح؛ لأنه لا يصح بيع الميتات، فلا يصح رهنها. إذاً: الميتات، الخمر، الخنزير، والأصنام، ونحوها، كل هذه الأشياء لا يجوز بيعها، فلا يجوز رهنها. كذلك أيضاً لو قال له: أعطني عشرة آلاف وأرهن عندك بعيري الشارد، أو عبدي الآبق، فإنه لا يصح؛ لأنه لا يجوز بيع البعير الشارد ولا العبد الآبق، ولو قال له: أعطني ألفاً والسمك الذي في هذا الماء رهنٌ عندك، لم يصح؛ لأنه غير مقدورٍ على تسلُّمه، فكل هذه الأشياء التي لا يجوز بيعها لا يجوز رهنها جواز رهن المكاتب قال رحمه الله: [حتى المكاتَب]. أي: حتى المكاتَب يجوز رهنه، فإن الشخص المكاتَب الذي كاتبَه سيده، وكانت قيمته مثلاً عشرة آلاف ريال، فقال لسيده: أنا أشتري نفسي منك بعشرة آلاف ريال، أدفع لك كل شهر ألف ريال، فقال له السيد: قبلت، ثم إن هذا السيد احتاج إلى دين مقداره عشرة آلاف ريال، فقال السيد لصاحب الدين: قد رهنت عبدي فلاناً، مع أن العبد مكاتب، قالوا: يجوز ذلك؛ لأن المكاتَب عبد حتى يتخلَّص من الرق بدفع آخر أنجم الكتابة، أما إذا لم يدفعها فإنه يسري عليه حكم المملوك؛ لأنه وما ملك ملكٌ لسيده حتى يتم السداد على ما اتفقا عليه، فعقد الكتابة في أوله جائز، ولكنه يئول إلى اللزوم عند تمام السداد صور الرهن قال رحمه الله: [مع الحق وبعده بدينٍ ثابت]. قوله: (مع الحق وبعده) أي: يصح رهن كل شيءٍ يجوز بيعه مع الحق الذي هو الدين، أو بعده. والعلماء رحمهم الله يذكرون صوراً للرهن: فهناك صورة للرهن قبل الدين، وصورة للرهن مع الدين، وصورة للرهن بعد الدين، هذه ثلاث صور، والقسمة العقلية تقتضيها: فإما أن يعطيه الرهن قبل الدين، وإما أن يعطيه الرهن أثناء الدين، وإما أن يعطيه الرهن بعد أن يستدين منه. فأما الصورة الأولى -نبدأ بها لأنها هي الأصل والمشهورة-: فهي أن يكون الرهن مصاحباً للدين، كأن تقول لرجل: إني بحاجة إلى مائة ألف ديناً إلى نهاية السنة، وأعطيك سيارتي رهناً إلى أن أسددك. فإن رهنك للسيارة وقع مصاحباً لطلبك للدين، فحينئذٍ إذا أعطاك الدين أعطيته السيارة، فالرهن وقع مصاحباً للحق، وهذا بالإجماع جائز ومشروع. أما الصورة الثانية: فهي أن يكون الرهن بعد الدين، كما لو تأخر وتراخى، فقال له مثلاً: هذه مائة ألف، فقال: بعد يوم أو يومين: لقد أعطيتني مائة ألف، وهذه مفاتيح سيارتي أو عمارتي وهي رهن لسداد دينك عند العجز، وقد صح ذلك. أما الصورة الثالثة: وهي أن يكون الرهن قبل الدين، فمن أمثلتها قالوا: إذا كانت لك سيارة عند محمد، وقلت: يا محمد! خذ هذه السيارة أمانة عندك، فأخذها محمد أمانة عنده، ثم احتجت إلى مالٍ من محمد، فجئته وقلت له: ديّنِّي مائة ألف، فأعطاك المائة ألف وقال: بماذا تضمن لي حقي؟ فتقول له: السيارة التي عندك، أجعلها رهناً واستيثاقاً للدين. قال بعض العلماء: إن هذا جائز، وتنتقل اليد من يد الإيداع إلى يد الرهن، وذلك بمجرد الإيجاب والقبول، فتصبح رهناً بعد أن كانت وديعة، ولا يشترط التقابض مرة ثانية لإلغاء اليد الأولى. وسيأتي هذا في باب الضمان، وهو الانتقال من يد الأمانة إلى يد الضمان، وفيه تفصيل عند بعض العلماء رحمهم الله، لكن قالوا: إن هذا يجوز، وشدّد فيه بعض العلماء، كما درج عليه المصنف رحمه الله وقالوا: إنه لا يجوز سبق الرهن للدين، وفي بعض الصور يقوى مذهب المصنف، وخاصة في الصور التي فيها غرر أو فيها جهالة، ولكن إذا كان الأمر أقل غرراً، أو كان الغرر يسيراً، فإنه يصح أن يُقدِّم الرهن على الدين يتبع
__________________
|
#329
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب البيع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (316) صـــــ(1) إلى صــ(12) عدم صحة الرهن إلا بدين ثابت مستقر وقوله: (بدين ثابت) أي: مستقر، ومثال الدين الثابت: كأن يأتي ويأخذ منك مائة ألف، أما الدين غير الثابت، فهو كالحقوق التي تتوجه ولا تثبت إلا بعد شرط أو بعد صفة، فقبل ثبوت الشروط وهذه الصفة لا يجوز الرهن على مثل هذا الدين. مثال ذلك: لو أن شخصاً ضرب إنساناً مثلاً خطأً، أو صدم بسيارته رجلاً خطأً، فأتلف عليه أحد الأعضاء المثناة، أتلفها إتلافاً كلياً فحينئذٍ تستحق نصف الدية، كما سيأتي -إن شاء الله- في باب الديات، فإذا لزمت الجاني نصف الدية، فإن على العاقلة أن تتحمل فوق الثلث، كما هو قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والعاقلة: هم عصبة الجاني، فهؤلاء العصبة لا يثبت الدين والاستحقاق عليهم إلا بعد ثبوت الجناية، أما قبل ثبوت المطالبة على العاقلة، فإنه حينئذٍ لا يستقر الدين، ولا يثبت الحق، فلو أن شخصاً يعلم أنه إذا ثبتت هذه الجناية في المستقبل، أنه سيصير غارماً بعشرٍ من الإبل، أو خمسٍ من الإبل، فذهب إلى المجني عليه، وجعل الرهن لقاء هذا الدين، لم يصح للشخص المجني عليه أخذ الرهن لقاء حقه؛ لأن المجني عليه لم يثبُت حقه بعد، وحينئذٍ ليس من حقه أن يطالبك بالرهن إلا بعد ثبوت دينه، فإن العلماء يقولون: لا يكون الرهن إلا في دين ثابت مستقر، وعليه فإذا كان الدين غير ثابت وغير مستقر فإنه لا يصح الرهن؛ لأنه إيقاع للشيء قبل سببه، والأشياء لا تقع إلا بأسبابها، وذلك كما لو أدى الزكاة قبل الحول، وذلك فيما لو كان في غير التعجيل، فمثلاً: لو أن شخصاً قبل أن يحول الحول الأول الذي تثبُت به الزكاة قدَّم زكاته، لم يصح؛ لأن السبب لم توجد، وكذلك لو أخرج زكاة الفطر قبل غروب يوم السابع والعشرين من رمضان، فإنه لا يصح؛ لأنه لا يصح إخراجها إلا قبل العيد بيوم أو يومين، فإذا أخرجها قبل وقتها الموجب فإنه لا يصح؛ لأنه إنما يعتبر الإخراج مجزئاً إذا تم الشرط المعتبر لصحة الإخراج. فهنا بالنسبة للرهن لا نحكم بصحّته إلا بعد صحة الدين وثبوته، فإذا كان الدين لم يثبت فإن الرهن يتركب من الدين، وعليه قالوا: إنه لا بد من وجود دينٍ مستقر، وإذا لم يكن هناك دين مستقر، وأعطاه رهناً فليس برهن، وإنما هو دينٌ آخر. فلو أن شخصاً ارتَهَن قبل ثبوت الدين واستقراره؛ فإنه في هذه الحالة يصير ديناً لا رهناً، ولا يجري عليه حكم الرهن لزوم بقاء الرهن في حق الراهن دون المرتهن قال رحمه الله: [ويلزم في حق الراهن فقط] ذكرنا فيما سبق مسألة العقد اللازم، والعقد الجائز، وبيّنا العقود اللازمة من أول الحال، والعقود الجائزة في أول الحال اللازمة في آخر الحال، والعقود الجائزة في الحالين بيّنا هذا في أول الكتاب عند بياننا لأحكام الخيارات. فقوله رحمه الله: (ويلزم في حق الراهن) هذا هو العقد اللازم، وقد قلنا: هو الذي لا يملك أحد الطرفين فسخه دون رضا الآخر، وأما العقد الجائز: فإنه يملك كلٌ من الطرفين فسخه ولو لم يرض الآخر، كالشركة مثلاً، فلو جئت في أي يوم من الأيام وقلت: يا فلان! افسخ الشركة التي بيني وبينك، فهذا من حقِّك، بخلاف البيع، فإنه لو باعك رجل داراً بعشرة آلاف وافترقتما دون خيارٍ بينكما، ثم جاءك وقال: لا أريد هذا البيع، فنقول: ليس من حقه أن يفسخ ما تم الاتفاق عليه بينكما؛ لأن الله تعالى أمر بالوفاء بالعقود، فهذا عقد لازم. فإذا دفع الشخص إليك الرهن وقبضته فإنه يلزمه، وحينئذٍ ليس من حقه أن يسترد هذا الرهن. فمثلاً: لو أن رجلاً قال لك: أعطني مائة ألف دَيناً إلى نهاية السنة، فقلت له: ماذا تعطيني رهناً؟ فقال: أعطيك سيارتي هذه، فقلت له: قبلت. وتم بينكما الاتفاق على هذا، فأعطاك مفاتيح السيارة وقبض منك المائة ألف، وبعد أن خرج وافترق إذا به يأتيك في اليوم الثاني ويقول لك: قد رهنتك سيارتي الفلانية، وهذه سيارة مثلها، أو أريد سيارتي وسأعطيك بدل السيارة العمارة، سواءً كانت مثلها أو كانت أكثر أو أفضل منها، فإنه ليس من حقه أن يسحب هذه العين، أو أن يُخليها من اتفاق الرهن الذي بينكما إلا برضاً من صاحب الدين. إذاً: معنى قوله: (يلزم) أي: أنه ليس له خيار، حتى يرضى الطرف الثاني، فلو أبيت وقلت له: لا أريد رهناً إلا هذه السيارة التي جئتني بها، ولا أقبل بدلاً عنها، فهذا من حقك، وليس من حقه أن يسحب هذه السيارة أو أن يأتي بعوض عنها، وتبقى مرهونة إلى أن يتم السداد صحة رهن المشاع قال رحمه الله: [ويصح رهن المشاع]. الأشياء المملوكة كالأراضي والسيارات والأطعمة والأكيسة ونحو ذلك، لا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون ملكاً لشخص واحد، كأرضٍ يملكها زيد، أو عمارة يملكها عمرو، فحينئذٍ لا إشكال، فاليد واحدة وهي ملك لصاحبها. الحالة الثانية: أن يشترك فيها اثنان أو أكثر، فإذا اشترك فيها اثنان أو أكثر، فهذا يسمى: المشاع، وفي بعض الأحيان هذا المشاع أو المشترك، يكون سبب الشيوع والاشتراك فيه: إما أن يكون من الطرفين؛ كأن يدفعا مبلغاً ويشتريا أرضاً، فلو أنهما اشتريا أرضاً بمائة ألف، هذا دفع خمسين وهذا دفع خمسين، فالاشتراك والمشاع جاء من جهة الطرفين، فقد دفعا المبلغ واشتركا. وإما أن تكون هذه الشراكة بدون اختيارك؛ كالإرث، مثاله: شخص توفي عنه والده وترك له ولأخٍ ذكر معه داراً، ولا وارث له غيرهما، فحينئذٍ تكون الدار بينهما، وهذا المشاع وقع الاشتراك فيه بدون اختيار من الطرفين، إنما هو بحكم شرعي، فالله عز وجل جعل هذه الدار ملكاً لهما، فلو أن ابنين اشتركا في دار والدهما، حيث انتقلت ملكية الدار إليهما بعد موت أبيهما، فاحتاج أحد الابنين إلى مبلغ ما، كمائة ألف، فقال له صاحب الدين: أعطني رهناً، فقال: ليس عندي إلا إرث والدي، وهو نصف المزرعة، أو نصف العمارة، أو نصف هذه السيارة، أو نحو ذلك، فقال له: قبلت، فحينئذٍ هذا رهن المشاع، فكما يصح رهن غير المشاع، يصح رهن المشاع؛ لأن الحكمة والعلة تدور حول إمكانية رد الحق عن طريق الرهن، فهذا النصف الذي تركه الوالد للولد يمكن بيعه وسداد الحق منه، كما لو ترك له مالاً منفرداً. وكما أنك إذا ملكت الشيء لوحدك يمكن بيعه والسداد منه، فكذلك إذا كانت الأرض مشاعة بينك وبين إخوانك، فإنه يجوز الرهن؛ لأنه يمكن سداد الحقوق منها، كما يمكن سدادها من المملوكات التي لا اشتراك فيها ولا شيوع الأسئلة مشروعية كتابة الدين وعدم وجوبها السؤال هل كتابة الدين حالاتها مثل الرهن، وذلك أن من يؤمن السداد منه لا ينبغي له أن يطالبه بالكتابة، ومن خشي عدم سداده فإنه يطالبه بالكتابة، أم أن كتابة الدين مسنونة، وتُشرع مطلقاً أثابكم الله؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى شرع كتابة الديون؛ لأن هذا أمكن لأهل الحقوق، وأبعد عن الجحد والكذب، وكذلك النسيان، وقد يكون الرجل الذي تعامله أميناً ديناً صالحاً، ولكنه ينسى، وحينئذٍ قال العلماء: إنها تشرع، والأصل أنها مشروعة، ولا شك أنها سنة، فالسنة أن يكتب المديون الدين الذي عليه للناس، ويوثق هذا الدين بشاهدين عدلين ممن ترضى شهادته، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن يُرضى للشهادة. وأما بالنسبة لأحوال الناس من حيث الإنكار وعدمه، فكتابة الدين من حيث الأصل هي للاستيثاق، فإذا أمكن أن يستوثق لدَينه بكتابة المديون في وصيته ونحو ذلك فالأمر أخف، ولذلك قال بعض العلماء: تجب الوصية، ويجب أن يكتب وصيّته إذا كانت عليه ديون لم يستوثق أهله فيها. مثال ذلك: لو جئت إلى صاحب بقالة، وأخذت منه بريال، فإنه لا يجوز لك أن تبيت تلك الليلة إلا وقد كتبت أن لفلان عليك ريالاً؛ لأنك لا تأمن الأجل، وهذا الريال الذي يتساهل فيه الإنسان تتعلق نفسه به، كما ورد في الحديث: (نفس المؤمن مرهونة بدينه)، وقال أبو قتادة رضي الله عنه في قصة الدينارين، حيث أُتي عليه الصلاة والسلام برجلٍ وعليه ديناران، أي: ديناً عليه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (هل ترك وفاءً؟ قالوا: لا، قال: صلوا على صاحبكم، قال أبو قتادة رضي الله عنه: يا رسول الله! هما عليَّ، فصلَّى عليه عليه الصلاة والسلام، فلمّا مضت الأيام قال أبو قتادة: فلم يزل يلقني عليه الصلاة والسلام ويقول: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد، فيقول: هل أديت عنه؟ حتى لقيني ذات يوم فقال: هل أديت عنه؟ قلت: نعم، قال: الآن بردت جلدته). فهذا أمرٌ عظيم، حتى إن قوله: (نفس المؤمن مرهونة بدينه) اختلف فيه بعض العلماء، فبعضهم يقولون: إنه يُرهن عن النعيم، بمعنى: أنه لا يُنعم، بل يُوقف عنه النعيم حتى يُسدد عنه، لأن قوله: (مرهونة) أي: محبوسة؛ لأن الرهن أصله الحبس والمنع، فإذا عبّر بالرهن فمعناه أنها محبوسة عن شيء، ونفس المؤمن لا تُحبس إلا عن خير، ولا تُحبس إلا عن فضل؛ لأن السياق سياق تخويف وتهويل، ولذلك قالوا: إنه يُمنع عن النعيم أو عن شيءٍ من النعيم. لكن ظاهر النص أنها مرهونة، أي: محبوسة في هذا الدَّين، بل قال بعض العلماء: جرّبت الدين فوجدت فيه البلاء وحبس النفس حتى في الدنيا، فإن الرجل يكون عليه الديون وعليه حقوق الناس، فلربما تأخر في السداد فدعا المظلوم عليه، ولربما سها في السداد، أو جاءته النفس الأمارة بالسوء، فأخَّر السداد وهو قادر، فدعا عليه صاحب الدين دعوة، وهو مظلوم؛ لأن مطل الغني ظلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني ظلم)، فإذا امتنع من السداد وهو قادر، فقد ظلم، والمظلوم مستجاب الدعوة، قال: فيدعو عليه دعوة قد تكون سبباً في حرمانه من كثير من الخير. وكان بعض يقول العلماء: وجدت في نفسي وجرّبت هذا أنني ما استدنت إلا وجدت غم الدين على قلبي، حتى أؤدي حقوق الناس، ويقول: إنني في بعض الأحيان لا أجد نشاطاً لطلب العلم، ولا أجد راحة في العبادة، لما تتعلق نفسي بحقوق الناس، ولكن ما إن أنفك منها وأسدد للناس حقوقهم، إلا وجدت الانشراح، ووجدت أنني في نعمة؛ فلا أحد يطالبني، وليس لأحد علي من حق. فالبعد عن حقوق الناس ما أمكن هذا أفضل وأكمل. وهذا لا يعني أن الدين مذموم أو محرّم، بمعنى: مذمومٌ ذماً يصل إلى التحريم، لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استدان، وهو خير الأمة، واستدان أصحابه والصالحون من بعده، وقالت أم المؤمنين رضي الله عنها: (والله لا أدع الدين منذ أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)، لكن إذا كان للغير عليك حق، وتعلم أنه لا سبيل لإثبات حقه إلا بالكتابة، فعليك أن تكتب في وصيتك، وهكذا إذا تعاملت مع إخوانك وأصحابك، فعليك أن تكتب ما لهم عليك من الحقوق، أو تستعير كتاباً من أخيك، أو تستعير شيئاً من أخيك، فتكتب أن لأخيك كذا وكذا، وإلا ضاعت حقوق الناس. وانظر إلى رجل يأخذ أموال الناس دَيْناً ولا يكتب دينه، حتى إذا توفاه الله عز وجل جاء أصحاب الدين يسألون حقوقهم، فقال لهم الورثة: لا نعرف شيئاً، ما ترك مورِّثنا وصيّة نعلم بها حقوقكم، فماذا سيقول أصحاب الديون؟ سيشتكون إلى الله عز وجل، وربما دعوا على الميت، نسأل الله السلامة والعافية! وهذا لا شك أنه خطرٌ عظيم على العبد، فالواجب على المسلم أنه يحتاط لدينه ويستدرك، فإذا علم أن حقوق الناس لا سبيل لإثباتها إلا بالكتابة كتب، وإذا علم أن ورثته ربما أنكروا، أو ربما زيفوا الكتابة، أو امتنعوا من إعطاء الحقوق، كتب لكل صاحب دينٍِ كتاباً يستوثق به حقه إن جاء يطلبه يوماً من الأيام، والله تعالى أعلم توضيح صورة الرهن بعد الدين وحكمها السؤال ذكرتم -حفظكم الله- أن هناك ثلاثَ صور للرهن مع الدين، وذكرتم صورتين، وبقيت صورة: وهي الرهن بعد الدين، فما توضيح هذه الصورة أثابكم الله؟ الجواب الرهن بعد الدين كما ذكرنا: أن يتفق معه مثلاً على دين عشرة آلاف ريال، ثم من الغد يعطيه رهناً، فهو في أثناء الدين لم يأخذ منه شيئاً، وبعدها بيوم أو يومين أعطاه الرهن، فإن هذا جائز ومشروع، سواءً وقع أثناء العقد أو بعد العقد، وأما قبل العقد ففيه التفصيل الذي ذكرناه، وإن كان الأصح والأقوى في غالب الصور مشروعية ذلك وجوازه، والله تعالى أعلم حكم التصرف في الرهن عند استيفاء أجل الدين السؤال من الذي يتصرَّف في الرهن عند استيفاء أجل الدين، هل هو الدائن أم المدين؟ وإذا كان الدائن هو الذي يتصرف، فربما لا يُحسن التصرُّف في الرهن كأن يبيعه مثلاً بأبخس الأثمان، فهل هناك من قيد لهذا التصرُّف أثابكم الله؟ الجواب الأصل أنه إذا أعطاه الرهن فهناك حالتان: الحالة الأولى: أن يقول له: هذه الدار رهنٌ عندك، فإذا لم أسددك فبعها، وخذ حقك منها. فهذا إذنٌ مسبق، وحينئذٍ من حقه إذا انتهى الوقت ولم يعطه حقه أن يبيعها مباشرة، وأن يأخذ حقه. الحالة الثانية: أن لا يأذن له، أو يسكت عن الإذن، فحينئذٍ يُنتظر إلى تمام المدة، ثم يُرفع الأمر إلى القاضي، والقاضي ينظر إلى من لهم معرفة وخبرة، ومن بعد ذلك يحكم، أو يأذن لنفس الشخص إذا كان عنده خبرة ومعرفة أن يبيع، وليست الأمور هكذا مفلوتة، فمثلاً: لو أنه عرض الأمر على القاضي، فإن القاضي يسأل أهل الخبرة: بكم تُباع هذه الدار؟ فإن قالوا: بمائة ألف، فيقول له: اذهب وبعها بمائة ألف، فيذهب ويبيعها، فإذا وجد أنها لا تباع إلا بثمانين، ألزمه بالمائة؛ لأن هذا قول أهل الخبرة، ويُعطى كل ذي حق حقه، فلا يُظلم المديون، ولا يُظلم صاحب الدين، وهذا هو شرع الله عز وجل، أنه يُعطى كل ذي حق حقه، لا يُظلم الإنسان في حقه إذا كان له على الغير، وليس من حقنا أيضاً أن نظلم أصحاب الديون المعسرين في ممتلكاتهم، فتُباع عليهم بالبخس، والله تعالى أعلم جواز اشتراط الرهن أثناء عقد الدين أو بعده السؤال هل اشتراط الرهن ينبغي أن يكون أثناء بذل الدين، أي: في نفس المجلس، أم للدائن أن يضيف شرط الرهن بعد ذلك، خاصة إذا خشي عدم السداد أثابكم الله؟ الجواب إذا اتفق الطرفان على الرهن في عقد الدين، فإنه لا بأس بذلك، وهو جائزٌ ومشروعٌ بالإجماع، وهكذا إذا سأله الرهن بعد أخذ الدين، وأراد أن يستوثق، فإن له ذلك، ولا بأس به؛ لأن الناس تختلف أحوالهم، فلربما أعطيت الرجل وأنت تظنه أميناً، ثم جاءك الثقة وأخبرك أنه مماطل، وأنه جحود، أو أنه متلاعب بالحق، فأردت أن تستوثق لحقك، فمن حقك أن تستوثق وتطالبه بالرهن. واشتراط وجود الرهن في الدين، سواءً كان في البيع أو كان في القرض، هذا كله من المصالح، ويُعتبر شرطاً شرعياً، فمثلاً: إذا نظرنا إلى ما يترتب على وجود الرهن من المصالح لصاحب الدين وللمديون، فإننا نرى مشروعية ذلك؛ سواءً كان أثناء عقد الدين، أو بعد عقد الدين، فالحكم واحد، والنتيجة واحدة، ولا شك أن الإنسان ربما وثق في أناس على ظاهرهم، ثم تبين له خلاف ذلك، فيريد أن يستوثق من بعد فيشترط الرهن، فهذا من حقه. أما لو وقع اشتراط الرهن أثناء عقد الدين، فإنه يعتبر ملزماً بالدَّين، والله تعالى أعلم حكم بيع ما زاد عن حاجة المديون لقضاء دينه السؤال أشكل عليَّ كلام لأهل العلم رحمهم الله بعدم جواز مطالبة المدين بالدين عند حلول الأجل إذا عُلِم عُسره، فهل تباع داره أو دابته، أم أنها من الضروريات فيُنتظر إلى ميسرته أثابكم الله؟ الجواب الأصل الشرعي أن الله تعالى وسَّع على المعسر في عسره، فقال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، والمؤمنون رحماء بينهم، ولو أن المسلم نزّل نفسه منزلة أخيه المديون، الذي أصابته النوائب، وكثرت عليه البلايا والمستلزمات والحاجيات ونحوها، لو أنه أنزل نفسه منزلته لما رضي أن تُباع داره، ولما رضي أن يؤذى في ماله الذي لا بد له منه، إلا إذا كانت داره أكثر من حاجته، فلو أنه سكن في دارٍ قيمتها مائة ألف، والدين الذي عليه عشرة آلاف، ويمكننا بيع هذه الدار وأن يسكن في دارٍ بخمسين ألفاً، فإنها تُباع داره؛ لأنه زاد عن حقه المحتاج إليه بالمعروف بهذا القدر، فتُباع داره ويترك له ما يسكنه بالمعروف، وهذا مما يقضى فيه بالقاعدة المشهورة: (العادة محكّمة)، فإن كان الذي مثله يعيش في بيت بعشرين أو ثلاثين ألفاً، وذهب هو وسكن في بيت قيمته مائتا ألف أو مائة وخمسون ألفاً، أو حتى بستين ألفاً الذي هو الضعف، وجاء واستدان، ثم قال: أنا مُعسِر، وهو يسكن في هذا المسكن الفاره، أو عنده سيارة يحتاجها لنقل أولاده وعوائله، ولكن هذه السيارة يستطيع أن يستبدلها بما هو أرخص؛ فإنه لا يُعتبر معسراً، ولا يجوز دفع الزكاة إلى مثل هذا الذي يزيد في ماله ما يمكنه أن يُحسن التصرف به، ويسد به عجزه وعوزه، أما لو وجدت الحاجة والضرورة، وأصبح في عوز وشدة، فالحكم لا يخفى أنه يُنظر إلى الميسرة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، والله تعالى أعلم معنى قوله عليه الصلاة والسلام: فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما. السؤال قال صلى الله عليه وآله وسلم: (البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورِك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحِقت بركة بيعهما)، شمل الحديث البيِّعان في بركة البيع ومحق بركته، فإن كذب أحدهما، فهل يشملهما أثابكم الله؟ الجواب المحفوظ عند أهل العلم رحمهم الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبَّر بالمتعاقدين على أن يأتي الخير منهما، أو الشر منهما، ومفهوم ذلك أنه لا يكون هذا من جهة، بحيث لو أن أحدهما كذب فإنه -والعياذ بالله- تُمحق البركة في جانبه وحده دون الجانب الآخر، ولو أنه غش فإنه تُمحق البركة في جانبه وحده دون الجانب الآخر، ومن هنا لو باع داراً مغشوشة، ودفع له مائة ألف، وسكنها المشتري، وهو لا يعلم بهذا الغِش؛ بارك الله للمشتري إن كان رضي بهذا الشيء؛ لأنه أعطى المال دون أن يغش البائع، ولكن تُمحق البركة من مال البائع، نسأل الله السلامة والعافية! فالذي يظلم هو الذي يتعلق به محق البركة، وقوله عليه الصلاة والسلام: (فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما)، هناك من أهل العلم من يقول كلاماً غريباً في هذا الحديث، يقول: إنه إذا كذب البائع، أو كذب المشتري، فمعنى ذلك أنه سيحدث العيب في البيع، والعيب يُستحق به الرد، وحينئذٍ تعلق البلاء بالطرفين، وبناءً على ذلك يكون الحديث على ظاهره، أي: يشمل الطرفين، لكن هذا الجواب لا يخلو أيضاً من نظر؛ لأنه في بعض الأحيان يُغش الإنسان ويُدلّس عليه، فيرضى بهذا الغش ويرضى بهذا التدليس، ويبارك الله له في هذه الصفقة؛ بل إن الرجل يشتري الشيء الغالي، ويرى من غشّه وكذبه وبإمكانه أن يؤذيه ويضر به، فيترك أمره لله، فيبارك الله له في هذه الصفقة التي غُبِن فيها بأضعاف، والله عز وجل على كل شيءٍ قدير. ومن طلب العِوض من الله سبحانه وتعالى فيما ينزل به من المصائب أو يحل به من النكبات؛ فإن الله يعوِّضه، وفي الله عِوض عن كل فائت، والله يجبر الكسير، ويجعل له من الخلف ما لم يخطر له على بال، فمن مستقل ومن مستكثر، والناس في الرضا ببلاء الله على مراتب، فمن كمُل رضاه كمّل الله له الجبر، وكمّل الله له الخير والبركة. فالمقصود: أنه لا يمتنع أن تكون هناك بركة في البيع إذا كان أحدهما مظلوماً، وفوّض أمره إلى الله عز وجل، ورضي بما كان، والله سبحانه وتعالى يخلُف عليه بخير، والله تعالى أعلم حكم تأخير توزيع الميراث على الورثة السؤال ما حكم تأخير توزيع الورث على الورثة مع الاستطاعة على التعجيل، أثابكم الله؟ الجواب لا يجوز لمن يقوم على أموال الموتى وإرثهم، كالإخوان الكبار والأعمام ونحوهم -ممن يلي الأموال والتركات- لا يجوز له أن يؤخر قسمة الأموال دون وجود عذرٍ شرعي، أو رضاً من الورثة، فإذا رضي الورثة، وقالوا: رضينا بأن نبقى شركاء في هذه العمارة، أو رضينا أن نبقى شركاء في هذه المزرعة، فهم ورضاهم، ولا بأس بإبقاء المال، ولو إلى سنوات، بل حتى ولو إلى أجيال، مادام أنهم رضوا بذلك فالمال مالهم، فكما يجوز لهم أن يشتركوا بالطلب، يجوز لهم أن يشتركوا بحكم الشراكة. أما لو أن أحد الورثة طالب بحقِّه، أو عُلِم أنه محتاج، أو بقي محتاجاً مديوناً، ويبقى إخوانه يكتسبون ذلك منه مستغلين حياءه وخجله، فيمتنعون من قسمة المواريث، ورد الحق إلى صاحبه، وإعطاء كل وارثٍ ما تركه له مورِّثه، فهذا من الظلم، خاصة النساء، فإن النساء يُظلمن في هذه الحقوق كثيراً، وتغفل حقوقهن، ولربما أُكلت بالباطل، فلا يجوز مثل هذا، وعلى الأولياء والإخوان أن لا يجاملوا في هذا، ومن علم أن أخاه يريد حقّه، أو أن ظروف أخيه تحتاج إلى مساعدة، وتحتاج إلى مال، وأن من المصلحة بيع المال؛ فإنه يُباع، لكن هناك أحوال يؤخَّر فيها البيع، كأن يكون هناك ضرر على الورثة، كأن يكون السوق كاسداً، والمبلغ يسيراً، وفيه ضرر لو بِيع، ويُرجَّى بعد شهر أو شهرين -دون أن يكون هناك ضرر- أن يتحسن السوق، وأن يُباع بما هو قيمته، فحينئذٍ يجوز التأخير في حدودٍ وفي أحوالٍ معينة، فلا يجوز أن يُمنع الورثة من مال مورِّثهم، بل لقد رأيت من الناس من ترك له مورِّثه مالاً كثيراً، وهو والله يعيش كعيشة الفقير المسكين من تضييق إخوانه الكبار وأذيتهم له، ومحاولتهم احتوائهم للأموال، فإذا كان الرجل بالغاً رشيداً فهو أحق بماله، ومن منعه فقد ظلم، وظلم ذوي القربى أعظم من ظلم غيرهم، وعلى هذا ينبغي على أولياء الأموال أن يتقوا الله في إخوانهم، وأن يتقوا الله في قرابتهم، وأن يقسموا بقسمة الله عز وجل التي قسمها من فوق سبع سماوات حكم رهن الموصوف في الذمة السؤال أشكل عليَّ معرفة المقصود من قول المصنف رحمه الله: (يصح في كل عين)، هل الموصوف في الذمة لا يصح الرهن فيه أثابكم الله؟ الجواب تقدّم معنا مسألة العين، ومسألة الذمة، وبيّنا أن المعيّن يكون العقد عليه ويفوت بفواته، وأن الموصوف في الذمة يصدُق على كل شيءٍ ينطبق عليه ذلك الوصف. ومسألة قبض الرهن نص الله عز وجل عليها بقوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، ولذلك فإن الأصل في الرهن غالباً أن لا يكون إلا بالحاضر، كأن يقول: أرهنك سيارتي هذه، أو أرهنك ساعتي هذه، فهذا رهن الأعيان. وأما إذا سبق قبض الرهن على الدين، فإنه يستقيم أن يكون في الموصوف، وحينئذٍ يكون الاستقبال والاستحقاق مستقبلاً لأخذ الدين وإعطاء العين من الرهن، وعلى هذا يكون في الذمة ابتداءً، ولكنه يئول إلى العين انتهاءً عند التعاقد، وحينئذٍ لا بأس، خاصة على مذهب من قال: إنه يجوز أن يتقدم الرهن على الدين، وقد سبق أن أشرنا إلى هذه المسألة في المجلس الماضي، والله تعالى أعلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
__________________
|
#330
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب البيع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (317) صـــــ(1) إلى صــ(16) شرح زاد المستقنع - باب الرهن [2] من المسائل المتعلقة بباب الرهن: جواز رهن المكيل والموزون والمعدود بشرط أن يقبض، وما لا يشترط فيه القبض في بيعه، فلا يشترط القبض في رهنه، ومن تلك المسائل: عدم جواز رهن ما لا يجوز بيعه، فلا يرهن إلا ما يجوز بيعه، ومنها: عدم لزوم الرهن إلا بالقبض، ومنها: أنه لا يجوز للراهن ولا للمرتهن أن يتصرف في الرهن إلا بإذن صاحبه، ومنها: مسألة نماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه ومئونته جواز رهن المكيل والموزون بشرط التقابض بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويجوز رهن المبيع غير المكيل والموزون على ثمنه وغيره]. تقدم معنا بيان مشروعية الرهن، وبيان الأركان التي يقوم عليها عقد الرهن، وبيّنا جملة من المسائل والأحكام التي صدّر بها المصنف رحمه الله باب الرهن، وشرع المصنِّف رحمه الله في هذه الجملة ببيان مسألة قبض الرهن، وعدم قبضه، فأول ما يقع بين المتعاقدين أن يقول الراهن: رهنتك كذا وكذا، فيُسمِّي الشيء الذي يريد رهنه، فإذا رضي من له الدين، قال: قبلت، فيقول -مثلاً-: رهنتك سيارتي، أو رهنتك داري، أو رهنتك أرضي، أو نحو ذلك مما يُقال بياناً للمرهون، فإذا بيّن لك الشيء الذي يريد أن يرهنه عندك حتى يُسدد الدين، فإن هذا الشيء ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون مما يُكال أو يُوزن أو يُذرع أو يُعد، وإما أن يكون من غير ذلك. فإن كان مما يُكال أو يُوزن أو يُعد أو يُذرع، فإن الرهن لا يتم ولا يكون إلا بالقبض، وبناءً على ذلك فلا بد أن يعطيك المكيل ويمكِّنك من قبضه، وهكذا الموزون، والمعدود، والمذروع قياساً، فإن كان المرهون مما لا يُكال، فإنه حينئذٍ يصح رهنه قبل قبضه، والأصل في اشتراط القبض أننا نوجب على من يريد أن يرتهن، أن يقبِض الرهن عنده، فإن الأصل في ذلك قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، والأصل في هذه الأشياء التي تُجعل في الرهن، إنما جُعلت من أجل أن يبيعها، وعلى هذا فلا بد أن تُقبض إن كانت من جنس ما يُشترط له القبض، وأما إذا كانت من جنس ما لا يُشترط فيه القبض، فيصح أن يَرهَنها قبل قبضها، وعلى هذا فرّق العلماء رحمهم الله -على ضوء ما تقدم معنا-: بين ما يُشترط فيه القبض، وما لا يُشترط فيه القبض، فما اشتُرط فيه القبض في المبيعات، بحيث لا يصح بيعه منك إذا اشتريته حتى تقبضه كالطعام المكيل والموزون، فلا يصح أن ترهنه قبل القبض، والعكس بالعكس، فالشيء الذي لا يُشترط فيه القبض يصح أن ترهنه قبل قبضه جواز بيع المرهون عند العجز عن سداد الدين قوله: (على ثمنه)، فإن هذا المرهون حينما يوضع عند الشخص، إنما وُضِع من أجل أن يُسدَّد به الدين عند العجز، وتعذُّر السداد في الأجل، فلو استدان منك مائة ألف، وعجز عن سدادها، فإنه عن طريق هذا الرهن تقوم بأخذ حقك منه، وبناءً على ذلك يرهن على الثمن، ومن هنا فرّع العلماء مسائل الرهن على البيع؛ لأنه إذا عجز الشخص المدين عن سداد الدين، كان من حقك أن تأخذ حقّك من هذا الرهن؛ لأن المقصود من الرهن الوفاء وسداد الدين عند التعذُّر، أو الامتناع من السداد حكم رهن ما لا يجوز بيعه قال رحمه الله: [وما لا يجوز بيعه لا يصح رهنه]. أي: أن كل شيءٍ يجوز بيعه في الأصل؛ فإنه يجوز رهنه، وكل شيءٍ لا يجوز بيعه؛ فإنه لا يجوز رهنه. والسبب في كون العلماء يجعلون المرهون مبنياً على المبيع: أن المقصود من الرهن عند العجز أن تقوم ببيع الرهن وأخذ حقك منه، أو يقوم القاضي إذا اشتكيت إليه ببيع الرهن وسداد الدين منه، أو يقوم العدل الذي نُصِّب من الطرفين ببيع الرهن وسداد الدين منه. وبناءً على هذا لو كان الشيء الذي وضعه عندك رهناً لا يمكن بيعه؛ أو لا يجوز بيعه، فإنه لا يمكن أن تتحقق الحكمة التي من أجلها شُرع الرهن، حيث أنك إذا عجزت عن السداد لم يستطع صاحب الحق أن يصل إلى حقه؛ لأن هذا الشيء الذي وضعته عنده لا يمكن بيعه، فمعنى ذلك: أنك وضعت شيئاً وجوده وعدمه على حدٍ سواء. وعليه فلا بد أن يكون الشيء الذي تضعه رهناً قابلاً للبيع، بمعنى أنه يجوز بيعه، ويصح بيعه، فلا يجوز رهن ما يحرُم بيعه، وذلك كالأعيان المحرّمة، وهي التي وردت في حديث جابر بن عبد الله: (إنالله ورسوله حرّم بيع الميتة، والخمر والخنزير والأصنام) فلو أعطاه ميتة رهناً، كحيوان محنَّط من جنس ما لا يذكى، وقال له: إذا عجزت عن سداد دينك فبع هذا الحيوان وخذ حقك، فإن هذا الحيوان إذا كان ميتةً لا يجوز بيعه، فلا يصح أن يكون رهناً. وهكذا إذا كان من الأعيان المباحة، ولكن يحرِّم الشرع بيعها لوجود الاستحقاق، كحق الله عز وجل في الوقف، فلو كان الشيء الذي يريد رهنه وقفاً، لم يصح أن يُرهن؛ لأن الأوقاف لا يجوز بيعها من حيث الأصل. وعليه قالوا: يُشترط أن يكون المرهون من جنس ما يجوز بيعه، وما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه؛ لأنه يفوِّت المقصود من الرهن. وهكذا لو رهنه أم الولد -على القول بعدم جواز بيع أمهات الأولاد- وكذلك بالنسبة للخنزير، والأصنام، ونحوها مما لا يجوز بيعه، قال بعض العلماء: ولو رهنه مجهولاً، كما لو قال له: أرهن عندك ما في داخل هذا الكيس، والذي في داخل الكيس مجهول، فإنه لا يصح رهنه، لكن لو كان الذي بداخل الكيس معلوماً، جاز الرهن وصح، ولو قال له: أرهنك الكيس نفسه، كأن يكون الكيس من جلد وقيمته مثلاً مائة ريال، فقال له: أعطني سلفاً مائة، وأرهن عندك هذا الكيس، صحّ. إذاً: لا يصح رهن المجهولات، ولا يصح رهن محرَّمات الأعيان: كالميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام، وكل ما حرُم بيعه لا يجوز رهنه جواز رهن الثمر قبل بدو صلاحه بدون شرط القطع قال رحمه الله: [إلا الثمرة والزرع الأخضر قبل بدو صلاحهما بدون شرط القطع]. تقدّم معنا في باب بيع الأصول والثمار، وبيّنا هناك حكم بيع الثمرة قبل بدو الصلاح، وبعد بدو الصلاح، وقلنا: إن الثمرة إذا بِيعت قبل بدو الصلاح لا يخلو البيع من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون بشرط القطع، والحالة الثانية: أن يكون بشرط البقاء، والحالة الثالثة: أن يكون بيعاً مطلقاً. فلو كان عندك بستان وفيه نخل، وهذا النخل فيه ثمرة، وأردت أن تبيع الثمرة كما يسميه الناس: الصيف، أردت أن تبيع الصيف، وهذا الصيف لم يبدُ صلاحه، فإن قلتَ: خذ الثمرة بمائة ألفٍ، واشترط عليك أن تبقيها له حتى يبدو الصلاح، لم يجُز، وقلنا: إن ذلك بالإجماع. ولو قال له: بعني ثمرة بستانك هذه التي لم يبدُ صلاحها، ولكني سأقطعها، بمعنى أنني أريدها علفاً للدواب، فقلنا: يجوز في قول جماهير العلماء، خلافاً لبعض السلف، كما هو قول سفيان الثوري، وابن أبي ليلى، كما تقدَّم معنا وبيّنا أن الراجح مذهب الجمهور، وهو أنه لو باعه الثمرة قبل بدو الصلاح بشرط القطع صحّ البيع؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرّم بيع الثمرة قبل بدو الصلاح خوفاً من الآفة، لحديث أنس الذي في الصحيح: (أرأيت إن منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك؟)، فإذا كان يريد أن يقطعها مباشرة، ويأخذها وهي خضراء علفاً للدواب، انتفت العلة. فهنا لو قال: أعطني مائة ألف ديناً، فقال له: أعطني رهناً كي أعطيك هذا القرض، فقال: أرهن عندك ثمرة بستاني إلى شهر -وثمرة البستان لم يبدُ صلاحها- وإذا انتهى الشهر ولم أسددك، فاقطع الثمرة وبعها، صحّ الرهن؛ لأنه يصح بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع. فإن اتفق معه على أن يقطع الثمرة، ورضي له بذلك، فلا إشكال، لكن يبقى الإشكال أن القاعدة: أن ما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه. فلو أنه قال له: أعطني مائة ألفٍ، وهذه الثمرة التي لم يبدُ صلاحها رهنٌ عندك، على أنني إذا لم أسدِّد انتظرت إلى صلاحها فبِعت وأخذت حقّك، فحينئذٍ لم يشترط القطع، فللعلماء قولان: قال بعض العلماء: لا يصح أن يرهن الثمرة قبل بدو الصلاح بغير شرط القطع، وهذا على الأصل الذي ذكرناه، وهو أنه إذا كانت الثمرة قبل بدو الصلاح وباعها بغير شرط القطع؛ لم يصح البيع إجماعاً، وهو البيع المطلق، وإذا كان لم يصح البيع فمعنى ذلك: أن الرهن غير صحيح. وقال بعض العلماء: يجوز أن يرهن الثمرة قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع، كما درج عليه المصنِّف، وهو الوجه الثاني عند أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع، وانتصر له غير واحد، وقالوا: إنه إذا لم يسدد المال فإنه يأخذ حقه من الثمرة، فإن فسدت الثمرة، فإنه لا ضرر على الإنسان؛ لأنه ليس البيع منصباً على الثمرة نفسها، فقالوا: إذا رضي صاحب الدين، وقال: إن يسَّر الله وصلحت الثمرة، فإنه حينئذٍ يكون حقي ببيعها، كان له ذلك، وهذا القول الذي درج عليه المصنِّف واختاره غير واحد؛ لأن العلة التي من أجلها مُنِع البيع ضعيفة في هذه الصورة، ولأن البيع لم يتم أثناء الدين، وأنت تعلم أنك إذا أخذت من صاحب المال مائة ألف، فإنه لا يستحق بيع بستانك إلا إذا عجَزت، وربما كان عجزُك بعد بدو الصلاح، ولذلك لا يُنظر إلى الحال، وإنما يُنظر إلى المآل. ثم لو أن هذه الثمرة تلفت، فإن حقّه لا يلغى؛ لأنه مُطَالِب بحقِّه كدينٍ، بخلاف ما إذا دفع النقد لقاء الثمرة، فالفرق بينهما واضح، وهذا القول الذي اختاره المصنِّف واختاره جمعٌ من العلماء، أوجه وأولى بالصواب إن شاء الله تعالى اشتراط القبض في لزوم الرهن قال رحمه الله: [ولا يلزم الرهن إلا بالقبض]. العقد ينقسم إلى قسمين: عقدٌ لازم، وعقدٌ جائز. والعقد اللازم: هو الذي ليس من حق أحد المتعاقدين أو أحد الطرفين أن يفسخه إلا برضا الآخر، فإذا حصل من الطرفين الإيجاب والقبول لزِمهُما الإيجاب والقبول، والأصل فيه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، فأنت إذا بِعت بيتك، وقال المشتري: قبلت، وافترقتما؛ لزمه أن يدفع الثمن، ولزمك أن تمكِّنه من البيت. إذا ثبت هذا فإنه يرد السؤال لو أن رجلاً قال لك: أعطني مائة ألف، وخذ داري رهناً عندك، أو اجعل عمارتي رهناً عندك، أو اجعل سيارتي هذه رهناً عندك، فإننا إذا نظرنا إلى هذا العقد، فننظر: فإن قلتَ: قبلت ورضيت، وخذ هذه المائة ألف، واترك السيارة رهناً عندي، فللعلماء قولان: من العلماء فمن قال: إذا قلت له: أعطني مائة ألف، وهذه السيارة رهنٌ عندك؛ فإنه يلزمك أن تمكِّنه من السيارة فوراً، بمجرد العقد، وهذا هو مذهب طائفة من العلماء، منهم المالكية، فهم يرون أن الرهن لازم بمجرّد الصيغة، وهي الإيجاب والقبول، فلو أنك مباشرةً بعد أن قلت له: خذ السيارة، وقال: قبلت، ثم قلت: لا، خذ -مثلاً- البيت بدل السيارة، أو خذ -مثلاً- الأرض الفلانية بدل السيارة، لم يكن من حقك ذلك على هذا القول. فأصحاب هذا القول يرون أنك ملزم بالرهن بمجرد الإيجاب والقبول، وليس من حقك أن ترجع عنه مادام أنكما اتفقتما على تلك العين، فإن أردت أن تبدِّل فليس من حقك، كما إذا أردت أن تسحب السيارة فليس من حقك، وتسري عليه أحكام الرهن بمجرد الإيجاب والقبول، هذا القول الأول. القول الثاني: لا يلزم الرهن إلا بالقبض، وبناءً على ذلك فإنك إذا قلت له: أرهنك هذه السيارة، وقال: قبلت. فالإيجاب والقبول لا يكفي حتى يَقبِض السيارة، فإن قَبَضَها فإنه حينئذٍ يصير الرهن لازماً، ولو أنك قبل القبض عَدَلت عن الرهن، أو جئت ببدلٍ عنه، كان من حقك ذلك، وبناءً على هذا القول -وهو مذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة، كما اختاره المصنِّف ودرج عليه- فإن الرهن يكون بالقبض، ولذلك قال الله عز وجل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، فدل على أن صفة القبض مؤثرة في الرهن، وأن الرهن لا يكفي وحده ما لم يكن مصحوباً بالقبض، فلزومه متوقفٌ على القبض. وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله، في كون الرهن لا يلزم إلا بالقبض، فإذا قال لك: أعطني مائة ألفٍ وسيارتي رهنٌ عندك، أو هذه مائة صاع من الطعام رهنٌ عندك، أو هذا الكيس من الطعام رهنٌ عندك، فإنه من حقه أن يَعْدِل ويُبدِّل مادام أنك لم تقبض، فإن قبضت لزمه الرهن. إذاً: القبض شرط، ولا يمكن أن يتحقق اللزوم بالرهن إلا بالقبض، فهل يكون القبض منك أو من الراهن؟ قالوا: ينبغي أن تستأذن الراهن، فلو أن السيارة كانت موجودة، ولم يعطك مفتاحها، ولم يمكِّنك منها؛ فإنك لم تقبض، أما إذا أذن لك وقال: خذها، فحينئذٍ تم الرهن بقبضك لمفتاحها أو ركوبك فيها، أو نحو ذلك مما يتحقق به القبض. هذه صورة ومثال للقبض. مثال آخر: لو قال له: أعطني مائة ألف دَيْناً إلى نهاية السنة، فقال: أعطني رهناً، فقال: هذه عمارتي رهنٌ عندك، فالعمارة لا تكون رهناً لازماً إلا إذا قبض صاحب الدين العمارة، والقبض في العمائر يكون بالتخلية، فإذا خلَّى بينه وبينها وأعطاه مفاتيحها فقد قبض، فلو عَدَلَ قبل ذلك لم يقع اللُّزوم، ولا يلزم الرهن حينئذ. وبناءً على ما سبق هناك فوائد: الفائدة الأولى: أن الرهن لا يكون لازماً إلا بالقبض، ومن حق الراهن الرجوع والتبديل، ومن حقه أن يرجع ويُبدِّل مادام أنه لم يَلزمه الرهن. الفائدة الثانية: أن هذا القبض إذا كان لازماً، يتوقف عليه لزوم الرهن على ظاهر القرآن: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]؛ فإنه يُشترط أن يمكِّنَك أو يأذن لك صاحب الرهن بأخذه وقبضه. قالوا: فلو أنك أنت من عند نفسك أخذت الرهن بالقوة أو بالحيلة أو بالغفلة، دون إذنٍ منه، لم يَلزمه ذلك. إذاً: لا بد أن يكون القبض بتمكينٍ وإذنٍ من صاحب الرهن، فلو أنك من نفسك جئت وأخذت الرهن، كان وجود الأخذ وعدمه على حدٍ سواء؛ لأن الرهن عقد رفق، وعقود الرِّفق لا تلزم إلا بالقبض كالقرض ونحوه، وقد بيّنا أن هناك عقوداً يُقصد منها الغبن المحض، وعقوداً يُقصد منها الرِّفق المحض، وعقوداً يُقصد منها مجموع الأمرين. فالرهن من العقود التي يقصد بها الرِّفق؛ لأن المدين رفق بك فأعطاك الرهن لكي تستوثق من حقك، فليس من حقك أن تعتدي على ماله بأخذه دون إذنه، فهو من عنده أعطاك إياه رهناً، وإلا فالأصل أن تطالبه عند حلول الأجل بدفع المال، لكن هذا المال غير المال الذي أخذه منك. ومن المعلوم أنه إذا استدنتُ منه مائة ألف فإن الذي له عليَّ مائة ألف، وليس سيارتي ولا داري ولا مزرعتي ولا أرضي، وبناءً على ذلك يقول العلماء: ليس من حقه أن يعتدي على هذه الأملاك إلا بإذن من صاحبها، وعليه فإن لم يمكنك من القبض، كان قبضك لها بالاعتداء وجوده وعدمه على حدٍ سواء. إذاً: الفائدة الأولى: أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض لظاهر القرآن، والفائدة الثانية: أن القبض يُشترط فيه إذن المدين، أي: الذي عليه الدين كيفية قبض الرهن وهنا مسائل: المسألة الأولى: لو قال لك: اقبض، وذهبت لتقبض، وقبل أن تقبض رجع عن إذنه، فإنه لا يصح قبضك، كما لو اعتديت مباشرة؛ لأن الإذن قبل تحقق الفعل والرجوع عنه يوجب بطلانه. المسألة الثانية: إذا ثبت أن القبض معتبر فكيف يتحقق القبض؟ سبق أن بيّنا هذه المسألة، وقلنا: إن المبيعات منها ما يتحقق فيها القبض بالكيل إن كانت مكيلة، وبالوزن إن كانت موزونة، وبالعد إن كانت معدودة، وبالذرع إن كانت مذروعة، وبالمناولة إن كانت مما يُتناول، فلو قال لك: أعطني عشرة آلاف ريال ديناً، فقلت له: أعطني رهناً، فقال: أُعطيك هذه الجواهر؛ فإن هذه الجواهر التي هي رهن يكون قبضها بالمناولة، أي: تُناوَل باليد، فإذا ناوَلك إياها، ووقعت في يدك تم قبضها، ولو كانت في كيسها ووعائها فأعطاها لك تم قبضها، لكن المكيل لا يكون إلا بكيله، والمعدود بعدِّه، والمذروع بذرعه، على التفصيل الذي ذكرنا. وبناءً على ذلك يفرَّق في الأشياء بين ما كان من جنس المكيلات والموزونات، والمعدودات والمذروعات، وما يُتناول بالطريقة التي ذكرنا. والمعدودات: مثل الإبل، كأن يقول: أعطيك عشرة من الإبل رهناً، أو هذه الناقة رهنٌ عندك، فإنه حينئذٍ يُمَكَِّنك من قبضها، فإذا قبضتها أو قبضها وكيلك فحينئذٍ لزم الرهن. ولو كانت عمارة، فَقَبْضُ العمارةِ يكون بالتخلية، بأن يخلِّي بينك وبينها بإعطاء المفاتيح، فإذا أعطاك مفتاحها، أو خلَّى بينك وبينها للدخول والاستيثاق منها، كان هذا بمثابة القبض لها. وقس على هذا بقية الأمور، وهناك أشياء يكون قبضها بالعرف، فنرجِع إلى أعراف التجار في كيفية قبضها، وقد سبقت الإشارة إلى هذه المسألة في مسألة القبض في أوائل كتاب البيع استدامة قبض الرهن شرط في لزومه قال رحمه الله: [واستدامته شرط]. استدامة القبض شرط، أي: أن يبقى الرهن عندك، ويكون تحت يدك وفي حوزتك، فلو أنه أعطاك السيارة ثم جاء في يوم من الأيام وأخذ مفتاحها وقادها من بيتك أو من مزرعتك، وأخرجها من المكان الذي وضعتها فيه، فحينئذٍ يزول لزوم الرهن، فإن ردّها بعد ذلك رجعت لازمة بعد الرجوع. إذاً: استدامة القبض شرط في لزوم الرهن؛ لأن الله قال: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، وهذا الوصف لازم وباقي؛ لأن الرهن ليس بيعاً بحيث نقول: ننظر إلى ابتدائه؛ لأن بعض العقود ننظر إلى ابتدائها، وبعض العقود ننظر إلى مآلها، فالرهن ننظر إلى مآله؛ لأن الرهن لا يُراد لذاته، أنت حينما تعطي العمارة رهناً لقاء (مليون)؛ فإنك لم تقصد بيع العمارة (بالمليون)، وإنما قلتَ له: إن عجزت عن سداد (المليون) كان من حقك بيعها، ثم بعد ذلك تأخذ حقك، وعلى هذا فالعمارة في الأصل ملك للمدين، وعليه فليست في حكم المبيع من كل وجه، إنما هي بمثابة الاستيثاق، فلا بد أن تبقى تحت يد المرتهن؛ لقول الله عز وجل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، فإن خرجت عنه خرجت عن وصف الرهن؛ لأنها لم تصل إلى المآل، بحيث بِيعت أو تُصُرِّف بها، وإنما هي باقيةٌ وأمانةٌ، وإذا سُحِبت منه زال اللزوم؛ لأن وصف القبض المستصحب في الرهن قد زال خروج الرهن بالاختيار يزيل لزومه فإن رد عاد لزومه قال رحمه الله: [فإن أخرجه إلى الراهن باختياره زال لزومه، فإن رده إليه عاد لزومه إليه]. قوله: (فإن أخرجه) أي: المرتهن صاحب الدين، أي: أخرج الرهن، فمثلاً: عندك سيارة، وجئت إلى رجل وقلت له: أقرضني عشرة آلاف ريال، فقال: أعطني سيارتك رهناً، فقلت له: هذه السيارة وهذه مفاتيحها رهن عندك وأعطني العشرة آلاف، فأعطاك العشرة آلاف. ثم بعد ذلك جِئتَ في يوم من الأيام فقلت له: يا فلان! عندي ظرف، وأريد أن أسافر إلى المدينة بأهلي، فهل تأذن لي أن آخذ السيارة؟ فقلت: خذها، فإذا أخرجتها فقد أخرجتها باختيارٍ منك ورضا منك، فيزول اللزوم، وأنت مأجور ومثاب على هذا الفعل، حيث قدرت ظرفه وأعطيته. لكن لو جاءك وقال: أريد السيارة لأسافر بها أو أذهب بها، فقلت له: لا أُعطيك؛ كأن تعرف أنه مماطل، أو رجل مخادع، ولم تأمن، فقلت له: لا أعطيك، فذهب، ولما نمت جاء إلى مكانها وأخذ المفتاح الذي عنده فقاد السيارة واستخرجها، فهل نقول: قد زال اللزوم؟ هنا خرجت بغير اختيارك، وفي هذه الحالة يكون قبضه لها غير لاغٍ لصفة القبض الأصلية، ويبقى الرهن كما هو؛ لأن الإخراج من اليد كان على سبيل القهر، والختل، والخلسة، وهكذا لو هددك فأخذها بالقوة والقهر، فإنه لا يزول وصف القبض، ولا تزول الأحكام، بل تبقى؛ لأن خروجه بغير اختيارك، والشرط أن يكون الخروج بالاختيار لا بالاضطرار. فإن كان الخروج بالإكراه أو بالغصب أو بالخلسة والخديعة، فوجوده وعدمه على حدٍ سواء. فقد اشترط رحمه الله وجود الاختيار الذي ينبني عليه اعتبار الإخراج، وعدم لزوم الرهن. وقوله: (فإن ردَّه إليه عاد لزومه إليه، أي: إن رد الرهن -كالسيارة- بعد أن قضى منه حاجته؛ رجع اللزوم إليه، أي: رجع الرهن إلى حكم اللزوم يتبع
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 26 ( الأعضاء 0 والزوار 26) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |