سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘ - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4964 - عددالزوار : 2069485 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4540 - عددالزوار : 1339241 )           »          شرح صحيح مسلم الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 269 - عددالزوار : 54280 )           »          طريقة عمل صينية بطاطس مهروسة بالكفتة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 54 )           »          7 علامات تدل على أنك تنمو داخليًا.. تتحمل المسؤولية ولا تهرب من المواجهات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 64 )           »          4 خطوات لحفظ الحبوب والبقوليات بطريقة صحيحة وحمايتها من التلف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 51 )           »          طريقة عمل طاسة سجق بالجبنة.. لذيذة ومش بتاخد وقت (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 49 )           »          وصفات طبيعية لتطويل الشعر بخطوات بسيطة.. مش هتاخد وقت كتير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 48 )           »          طريقة عمل رقائق الجبنة بخطوات بسيطة.. مقرمشة وطعمها لذيذ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          5 عادات يومية تتسبب فى ظهور البثور وخطوط التجاعيد.. أبرزها الهاتف المحمول (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10-12-2024, 11:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,180
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘

سلسلة أمراض على طريق الدعوة (11) العجب بالنفس



شريف عبدالعزيز



طبيعة العمل الدعوي أنه عمل علني، فيه احتكاك بالجماهير، وهذا الاحتكاك والمعاشرة تولد كثيرا من الآفات والأمراض، ففي النشاط الدعوي تظهر الكفاءات والمواهب والقدرات العالية، وعندها يتعرض الدعاة إلى المديح والثناء والإطراء من الآخرين، ويبدأ الداء الفتاك في التسلل إلى القلوب والنفوس، داء العجب، حيث تبدأ النفس في البحث عن ذاتها، والإحساس بقدراتها، وتترقب آراء العاملين والمستمعين باهتمام، فإذا وجدت ما تبحث عنه من مديح وثناء، زادت في غيها، ولجّت في دائها، وإذا لم تجده، تمردت وثارت، وربما حزنت وانهارت، والدعاة إذا لم ينتبهوا لهذا الداء الخطير، محقت بركة أعمالهم، وفنيت في الباطل أعمارهم، لذلك كان من المتعين بيان هذا المرض الفتاك، وأسبابه وعوارضه وآثاره الخطيرة على الدعوة والداعية.

العجب في اللغة له عدة معان منها: السرور والاستحسان، يقال: أعجبه الأمر، إذا سر به، ومنه قوله تعالى: ( وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ. .. ) [ البقرة: 221]، وقوله: ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا. .. ) [ الحديد: 20 ]، ومن معانيه أيضا: الزهو والإعظام والاستكبار، يقال: أعجبه الأمر أي زها به، وعظم عنده وكبر لديه، ورجل معجب: أي مزهو بنفسه ومعظم لها ومكبر لما يكون منه مهما كان حسنا أو قبيحا، قال تعالى (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) [ التوبة: 25 ].

أما في اصطلاح العمل الدعوي فالعجب هو: الإحساس الزائد بالنفس، والفرح بذاتها وبكل ما يصدر منها من أعمال وأقوال، والشعور التمييز والتفوق على الغير، قال ابن المبارك: " العجب أن ترى أن عندك شيئا ليس عند غيرك "، والعجب يقود إلى الغرور، كما قال بشر الحافي: " أن تستكثر عملك، وتستقل عمل غيرك "، والتمادي فيه يقود إلى التكبر والعياذ بالله، قال القرطبي: " إعجاب المرء بنفسه هو ملاحظته لها بعين الكمال، مع نسيان نعمة الله، فإن احتقر غيره مع ذلك فهو الكبر المذموم ".

والعجب من الأمراض المهلكة والآفات الممحقة للعمل والعمر، لذلك كانت كلمة الشرع فيه شديدة وحاسمة، فهو مذموم أشد الذم، ومسالكه ودروبه كلها مذمومة، حتى أن خير الخلق وسيد الأنبياء والمرسلين، الذي قضي عمره كله في خدمة الدين والجهاد في سبيله، فلم يبل أحد مثلا بلائه، ولا جاهد وصابر مثل جهاده وصبره، ومع ذلك كله، أمره ربه سبحانه وتعالى في بداية طريق الدعوة بقوله: ( وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ) [ المدثر: 6]، فهل يبق لأحد إدعاء ببذل أو عطاء أو منة بعد قول ربنا لرسولنا صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل قد نهى عن تزكية النفس، والاعتقاد بأفضليتها وخيريتها، فقال سبحانه: ( فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) [ النجم: 32]، كما نهى عن المن بالصدقة، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ) [ البقرة: 264]؛ لأن المن بالصدقة من مداخل العجب بالنفس

والعجب بالنفس أحد المهلكات المذكورة في الحديث الشهير " شح مطاع، هوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه "، كما ورد في جزاء العجب بالنفس والتخايل بها قوله صلى الله عليه وسلم " بينما رجل يتبختر، يمشي في برديه، قد أعجبته نفسه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة " ، قال ابن مسعود رضي الله عنه: " الهلاك في شيئين: العجب والقنوط "، وقيل لعائشة رضي الله عنها: متى يكون الرجل مسيئا ؟، قالت: إذا ظن أنه محسن " وهذا هو عين الصواب والفقه والعقل منها رضي الله عنها، فمتى رضي الإنسان عن حاله، أعجب بنفسه، وشعر أنه قد أدى ما عليه، وأنه يستحق لزما الثناء والمديح.

ومظاهر العجب بالنفس كثيرة، بعضها يخفى لا يعلمه إلا الله، وبعضه يظهر لخواص الناس من المحتكين والقريبين من الداعية، وبعضه يظهر للناس جميعا، يراه ويعرفه كل أحد، من هذه المظاهر :

انتظار الكرامة والمثوبة بالمن على الله، ومطالبته سبحانه بما آتى الصالحين والأولياء المصطفين، انتظار إجابة الدعوة.

ومنها الإكثار من مدح النفس والثناء عليها، وذكر مآثرها، والاستعراض بالقدرات والإمكانات لحاجة ولغير حاجة.

ومنها أيضا وهو مما يخفى على كثيرين؛ ذم النفس في العلن، وهو مدح خفي لها، كأن يخوض في عرض إخوانه من الدعاة وغيرهم، ثم ينهي خوضه وغيبته لهم بقوله: " وما أبرئ نفسي، أو أنا أشر منهم "، قال الحسن البصري: " ذم الرجل نفسه في العلانية، مدح لها في السر، فمن أظهر عيب نفسه فقد زكاها، وقد ورد النهي عن ذم النفس في الشرع في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يقولن أحدكم خبثت نفسي، ولكن ليقل لقست نفسي " واللقس هو الكسل والخمول، ومعناه يختلف عن الخبث والسوء.

ومنها النفور من النقد ومجافاة النصيحة والناصحين، فترى المعجب ينتفخ صدره عندما يطرق المدح مسامعه، وفي الوقت إذا وجه له أحد نصحا أو نقدا، ينقلب على الفور إلى النقيض، فيضيق صدره، ويغضب ويتوتر، ويبادر بالسوء من القول والفعل.

ومنها البحث عن الوجاهة والمناصب والمراكز الهامة والقيادية، فالمعجب يري لنفسه مواهب وقدرات، لابد أن تستغل وتوظف في المكان اللائق بها، والرغبة في التصدر للأعمال التي فيها مسئولية وظهور، والشعور بالأحقية والأفضلية في ذلك، قال سفيان الثوري رحمه الله: " فإن لم تكن معجبا بنفسك فإياك أن تحب محمدة الناس، ومحمدتهم أن تحب أن يكرموك بعملك، ويروا لك به شرفا ومنزلة في صدورهم ".

ومنها الاستبداد بالرأي والتمسك به، وازدراء آراء الآخرين، وتسفيهها على اعتبار أنها خرجت من غير مؤهلين، ومنها كثرة النقد للآخرين، خاصة الدعاة ورفقاء الدرب، وإظهار عيوبهم، وإذاعتها وإظهار الضجر منها، والمبالغة في تضخيم هذه الأخطاء، وإظهارها بمظهر المتسبب في تعويق أو فشل العمل.

ومنها رفض فكرة العمل الجماعي والمؤسسي، إذا كان دوره في هذا العمل بعيدا عن الرئاسة والقيادة والتوجيه، فالمعجب بنفسه يتولد عنده شعور دائم بالأولوية المطلقة والأحقية الدائمة في التصدر والرئاسة، وقد يدفعه هذا الشعور المرضي لرفض المسئوليات الصغيرة، أو بعض الأعمال الإدارية التي قد يراها أقل من مكانته ومنزلته.

أما عن أهم الأسباب المؤدية للوقوع في الداء الوبيل فهي:

أولا: الجهل

رأس كل خطيئة، وأس كل بلية يقع فيها ابن آدم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) [ الانفطار: 6]، قال عمر رضي الله عنه: غره جهله، فجهل المعجب بقدر نفسه، وبقدر ربه عز وجل وأسمائه وصفاته، جهله بضعف عمله وقلة علمه، جهله بحقيقة نفسه، وهل كانت بدايته سوى نطفة مذرة، ثم كانت نهايته جيفة قذرة، وهو بين هذا وذاك يحمل البول والعذرة، فأنّى لمخلوق هذا حاله أن يعجب بنفسه، أو يدّل بعمله.

ثانيا: التنشئة الخاطئة

وهي من الأسباب الثابتة وراء كل آفة تصيب المسلم في قلبه ونفسه وسلوكياته وأخلاقه، فقد ينشأ الداعية في كنف والدين معجبين بنفسيهما، أو يحبان المدح والإطراء، أو يكثران من تزكية النفس، وحب المحمدة، فتتشرب هذه المعاني والأخلاق الرديئة في قلب المسلم من صغره، فينشأ كما عوده أبوه، أو يتربى في كنف داعية معجب بنفسه، والإنسان بطبعه شديد المحاكاة، سريع التأثر بمن يحبه، لاسيما لو كان معلمه ومربيه قوي الشخصية، عندها تكون المحاكاة أشد، والتأثير أكبر.

ثالثا: المبالغة في الإطراء والمديح

قد يكون عدم الالتزام بالآداب الشرعية في الإطراء والثناء، من أسباب تسرب العجب إلى قلب من وقع عليه هذا الإطراء والمديح، فالشيطان يقعد لابن آدم بكل سبيل، وينتهز أي فرصة للنيل منه، ويبحث ليل نهار عن أي مدخل يدخل عليه به، لذلك جاء الشرع محذرا وناهيا عن المدح في الوجه، لأن المادح قد يفتح على أخيه بهذا المدح باب شر عظيم من حيث لا يدري، فقد مدح رجل رجلا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: " ويحك، قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك " مرارا، وقال: " إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة، فليقل: أحسب فلانا، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدا "، وجاء عن مجاهد عن أبي معمر أنه قال ك قام رجل يثني على أمير من الأمراء، فجعل المقداد بن الأسود رضي الله عنه يحثي في وجهه في وجهه التراب، وقال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثي في وجوه المداحين التراب "، ومن هذه الأحاديث استنبط أهل العلم بأن للمدح آداب ثلاثة: الأول: ألا يكون في المدح إفراط ومجاوزة للحد، الثاني: أن يكون بالحق لا بالباطل، الثالث: ألا يكون مع من يخشى عليه الفتنة من إعجاب وغيره، وإذا توافرت هذه الآداب جاز المدح، بل من الممكن أن يصير مستحبا إن كان من ورائه مصلحة من تشجيع وتنشيط على الدعوة والخيرات.

رابعا: الاشتغال بالنعم ونسيان منعمها

لأبي حامد الغزالي رحمه الله تعريفا فريدا للعجب، يكشف عن دقيق فقهه وبصيرته بآفات النفوس وعيوبها، إذ عرفه بأنه: استعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى النعم "، فالبعض قد يغره ما فيه من نعم ومواهب، وتعمي بصيرته أضواء هذه النعم، فينسي صاحبها الحقيقي، ومن أنعم بها ابتداء عليه، ويتحدث بلسان قارون الذي قال الله عنه: ( قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي )[ القصص: 78]، لذلك كان الله عز وجل دائم التذكير لعباده بمصدر النعمة فقال سبحانه (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) [ النحل: 53]، قال: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) [ لقمان: 20]، قال: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ) [ فاطر: 3]

خامسا: التصدر قبل الأوان

العرب كانت تقول في حكمها السائرة " من تصدر قبل أوانه، فقد تصدر لهوانه " فالتصدر قبل أخذ العدة العلمية والنفسية والإيمانية ،وقبل أن يأخذ قدره اللازم من الإعداد التربوي، يعرض المرء لكثير من الأزمات والآفات، ذلك لأن منصب الصدارة والرئاسة يعرض صاحبه لكثير من المغريات القلبية والمعنوية، حيث يعتقد المتصدر أنه ما نال هذا المنصب إلا لمواهبه وقدراته الفذة، وقد يزداد الأمر حدة خاصة إذا كان من يعمل تحت يديه يبالغ في طاعته واحترامه، فهذا يفتح عليه بابا لا يغلق من العجب بالنفس والإدلاء بالعمل، لذلك نهى الإسلام عن القيام للغير والتعظيم المبالغ فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: " من أحب أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار "، وكان يكره أن يقوم له الصحابة رضي الله عنه عند قدومه ويقول لهم: " لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا ".

العجب داء خطير إذا ما تسرب بوادره إلى قلب الداعية، فإنه يتحول إلى داء خبيث سرطاني يأكل القلب والنفس والعمل والحسنات أكلا، لذلك كان العجب أحد المهلكات التي تهلك دنيا العبد ودينه، ولو لم يكن في العجب ضرر سوى وقوع الداعية في داء الكبر الرهيب، لكفى به ضرر وخطر، فآثار الكبر مهلكة، ولا ينجو يوم القيامة من كان في قلبه ذرة من هذا الداء الوبيل. كما أن العجب يؤدي لحرمان الداعية من التوفيق والمدد الإلهي ونور الهداية، إذا يكله الله عز وجل إلى نفسه، لأن المعجب يري إلا نفسه، ولا يعرف إلا قدراته وإمكاناته فقط، ومن كان هذا حاله، فإن الخذلان أمامه لا محالة. والمعجب بعمله قد يحبط عمله من حيث لا يدري، فالله خاطب خير خلقه وصفوة رسله بقوله سبحانه: (وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ) [ المدثر: 6]. كما أن المعجب يكون عرضة للانهيار وقت الشدائد والنوازل، لأن إعجابه بنفسه يدفعه لنسيان تزكية نفسه، وتقوية إيمانه، ناهيك عن فقدان المعية والتأييد الإلهي، لأنه ما عرف ربه وقت الرخاء. والناس بطبيعتهم ينفرون من المعجب بنفسه، ويكرهونه لاستعلائه عليهم وازدرائه لهم.

ولن ينجو الداعية من الوقوع في الداء الوبيل إلا بالاعتماد على الله عز وجل، والافتقار إليه وحده، والانكسار بين يديه عز وجل، والانطراح على عتباته، وعدم رؤية النفس مطلقا، والشعور الدائم بالحاجة إليه سبحانه، الحاجة إلى معيته ونصره وتأييده وهداه، ولن يتأتى ذلك إلا بالعلم الشرعي الذي يهذب النفس، ويصلح القلوب ويواجه الآفات وحبائل الشيطان، العلم بأسماء الله وصفاته وأفعاله وقدرته سبحانه وتعالى، وتذكر نعم الله على العبد، والنظر في حال من فقد هذه النعم، أو حرمها ابتداء أو عقوبة، وتذكر عبادة الشكر الراقية التي راهن على هجرها الشيطان، كما قال الله عز وجل: (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) [ الأعراف: 17 ]، أيضا يجب على الداعية أن يعرف حقيقة الدنيا والآخرة حق المعرفة، ودوره في هذه الدنيا، وموقعها من الآخرة، قال الشافعي رحمه الله: " إذا خفت على عملك العجب، فاذكر رضا من تطلب، وفي أي نعيم ترغب، ومن أي عقاب ترهب، فمن فكر في ذلك، صغر عنده عمله "، فلن ينجو الداعية من العجب إلا بالعلم والإخلاص وداوم المراقبة والمعرفة الحقة.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 10-08-2025, 12:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,180
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘

أمراض على طريق الدعوة (12) تنافس الدنيا


شريف عبدالعزيز

من الأمراض العضال التي تعترض طريق كثيرا من الدعاة في سيرهم إلى الله - عز وجل -؛ مرض التنافس على الدنيا وزينتها ومتاعها وشهواتها، فإن سلطان وسحر زينة الحياة الدنيا وشهواتها قد أخذ بألباب وعقول كثير من أبناء الأمة حتى عبدوها، وأصبحوا يرون في تعاليم الإسلام وأحكامه ما يفسد عليهم متعتهم بها، فصاروا يحاربون تعاليم الإسلام والداعين إليه، ويقفون في وجه كل دعوة جادة إلى الإسلام تريد إعادة الأمر إلى نصابه، وتقوم ببيان خطر الاغترار بالدنيا.

والشباب الملتزم بعامة والدعاة إلى الله - عز وجل - بخاصة،جزءٌ من أفراد المجتمع الإسلامي يصيب بعضهم ما يوجد في مجتمعاتهم من أمراض وأدواء،ومن ذلك وجود ظاهرة التنافس الدنيوي، وانشغالهم بذلك عن تربية أنفسهم والقيام بواجبـهـم تـجاه دينهم وأمتهم؛ بل إن الأمر لدى أولئك تجاوز حد التشاغل إلى مرحلة التساقط عن الطريق وترك الطاعة ومبارزة الله - عز وجل - بالمعاصي.هذا المرض قد أولاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عناية خاصة لعلمه الشريف بأنه سيكون المرض الأشد فتكا والأنكى أثرا في عمل كثير من الدعاة إلى الله - عز وجل -، وقد خلّف هذا المرض وراءه آثارا خطيرة وعواقب مهلكة، لذلك كان الحذر منه من أولويات ومهمات العاملين المخلصين والدعاة المتجردين.

أولا: تعريف التنافس الدنيوي

التنافس في اللغة يأتي على عدة معان:

منها محبة الشيء والرغبة في الحصول عليه، يقال نافست في الشيء منافسة، ونُفاسة بالضم أي صار مرغوبا فيه ومحبوبا ،وأصله من الشيء النفيس. ومن المعاني أيضا الضن بالشيء والبخل به، يقال نفست عليه بالشيء بكسر النون أي ضننت به وما أحب أن يناله أحد غيري. ومنها التسابق والتباري في الشيء دون إلحاق الضرر بالآخرين ومنها قوله عز وجل ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) [ المطففين 26]. ومنها رؤية الغير غير أهلا للشيء يكون معه ومن ثم ينافسه عليه. وهذه المعاني كلها متقاربة لا تعارض فيها، وعلى هذا يكون تنافس الدنيا في اللغة بمعنى التسابق والتباري مع الغير على أمور الدنيا وأحوالها، وذلك رغبة ومحبة وضنا بهذه الدنيا.

أما تنافس الدنيا في الاصطلاح فهو واضح ومعروف ويكون بمعنى لا يختلف كثيرا عن المعنى اللغوي وهو التباري رغبة في حظوظ الدنيا ومتاعها والاستئثار بها دون الآخرين.

والأدلة من الكتاب والسنة على ذم هذا المرض الخبيث كثيرة ومتواترة وتضع تصورا شاملا وحدا فاصلا بين التمتع بما أباحه الله - عز وجل - من زينة الدنيا ومتاعها، وبين التنافس على أمرها، أما من الكتاب فمثل قوله عز وجل (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) [الحديد 20]، وقوله عز وجل (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ? وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) [ طه 131 ]

أما من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فهي كثيرة وتحمل تحذيرات قوية وواضحة وصريحة لا لبس فيها عن خطورة هذا المرض، فعن الزهري عن عروة بن الزبير أخبره أن المسور بن مخرمة أخبره، أن عمرو بن عوف وَهُوَ حَلِيفُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ, وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ فَقَدِمَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَوَافَوْا صَلاةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ، فَتَعَرَّضُ لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَآهُمْ، ثُمَّ قَالَ: " أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ ؟ " قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُ " أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم ؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أو غير ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون أو نحو ذلك، ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض " أخرجه مسلم وابن ماجة

ومنها قوله: " إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه من المال، والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه " وفي نفس معناه قوله صلى الله عليه وسلم: " انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله "

ومنها عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ, أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاتَهُ عَلَى الْمَوْتَى, ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمِنْبَرِ فقال: " إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ, وَإِنِّي وَاللَّهِ لأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الآنَ وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ, وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا ".

وللتنافس على أمور الدنيا مظاهر وعلامات وآيات يعرفها أولوا الألباب والأبصار من أبرزها:

1ـ التوسع في المباحات من المآكل والمشارب والمتع والزينات، والتجمل والإكثار من التأنق في الهيئات.

2 ـ الانشغال الدائم والحديث المستمر عن الدنيا وزخارفها ومتعها وأحدث فنونها وملذاتها، وسبل التحصل عليها واقتناصها والبحث عن أحدث الموضات والابتكارات، والمخاصمة المستمرة عليها مع أهلها وعبيدها.

3 ـ كثرة استخدام وسائل الترويح عن النفس من مزاح وألعاب ونزهة وزيارات كثيرة تخرج بالترويح عن الأمر الذي شرع له، وتصبح في حياة كثير من الناس كأنها هي الأصل والجد هو الفرع.

4 ـ ضياع الأوقات وانتشار البطالة في حياة بعض من الدعاة والمصلحين، حيث تكثر ساعات نومهم ويتتابع فناء أعمارهم دون أن يقضوا شيئاً منها في أمر ينفعهم في دينهم أو دنياهم.

5 ـ التعلق بالتوافه، وضعف التفكير، وغياب القدرة على النقد البناء، وانتشار التقليد، والتسرع في الحكم على الأشياء بناءً على ظواهرها، وإمكانية التلاعب بالشخص واستدراجه إلى ما يراد من قبل الآخرين بيسر وسهولة وبدون عناء أو مشقة.

6 ـ إهمال الورع وضياعه في غالب الأحوال وترك التحري في ما يدخل الجوف ويكسو البدن، وازدراء نعمة الله علي عبده، والتسخط من تقلب الأمور وعند نزول البلاء.

7 ـ الأخذ بالرخص والبحث عن أقوال العلم وانتقاء ما يناسب منها حاله من التلذذ بالدنيا والتنافس عليها، لكي يرفع عنه حرج السائلين ولوم اللائمين، ويبرر لنفسه انغماسه في هذه المباحات والتنافس على طلبها.

وللتنافس على الدنيا أسباب تقود إليه، وبواعث تؤدي للوقوع فيه، من أهمها:

1 ـ طول الأمل ونسيان الموت:
الانشغال بمتاع الدنيا والتنافس على تحصيل شهواتها ناتج عن طول الأمل ونسيان الإنسان كونه في رحلة إلى الدار الآخرة تكتمل بنزول ملك الموت لقبض الروح، ونظراً لخطورة تلك الغفلة عن ذلك المصير وما تنتجه من ضعف الخوف من الله - تعالى -، وبالتالي عدم المحاسبة للنفس والمراقبة لعملها، فإن الله - عز وجل - حذرنا في آيات عديدة من هذا العرض فقال سبحانه ( ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا ويَتَمَتَّعُوا ويُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) [الحجر:3]، وقال صلى الله عليه وسلم موصياً ابن عمر: " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" ،ذلك لأن الغريب لا تعلق له ببلد الغربة، ولا تشاغل لديه بملذاتها وملهياتها، بل قلبه معلق بوطنه الذي يرجع إليه، والمسافر لا هم له في الاستكثار من متاع الدنيا أثناء قطعه لمنازل السفر، وإنمـا يكتفي بتحصيل زاد السفر فقط. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا، وخط خطا في الوسط خارجا منه، وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال: " هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به ـ أو قد أحاط به ـ وهذا الذي هو خارج: أمله، وهذا الخطط الصغار: الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا " أخرجه البخاري والترمذي وابن ماجه والدارمي، وقال ابن حجر معلقا عليه في الفتح: " ويتولد من طول الأمل: الكسل عن الطاعة، والتسويف بالتوبة، والرغبة في الدنيا، والنسيان للآخرة، والقسوة في القلب "

2 ـ الغفلة عن حقيقة الدنيا:

وهو السبب الأهم الذي يقود إلى الوقوع في مرض التنافس الدنيوي، فالدنيا دار مم لا دار مقر، جعلها الله - عز وجل - معبرا للآخرة ومتزودا للرحلة الآخرة، وفي نفس الوقت جعلها الله - عز وجل - دار ابتلاء وسجن وعقوبة، شحنها بالزخارف والزينات وحفها بالمحبوبات والملذات، فكان من اشتغل بهذه الزخارف والزينات ونسي الغاية من خلقه من الغافلين والخاسرين، ومن انتبه وأخذ منها بقدر، سلم من شرها ونجا من حبائلها، والآيات عن حقيقة الدنيا وزينتها كثيرة جدا منها، (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ( [ آل عمران 14 ]، ومنها قوله (إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ) [ يونس 7 ]، وقوله (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة هود آية: 15-16 ] والآيات كثيرة في هذا الباب وهي تكشف حقيقة الدنيا، ومن غفل عن هذه الحقيقة فسوف يركن إلي الدنيا ويؤثرها على الآخرة ويحرص على تحصيل ملذاتها ومتعها، ومن ثم ينتقل الحرص إلى التنافس.

3 ـ ضعف الإيمان بالقضاء والقدر:

فالأرزاق والآجال والأحوال والأعراض وكل ما يعرض لابن آدم في دنياه من خير وشر كان بعلم الله وتقديره، وقد تضعف عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر في قلوب البعض فينسى أن حظوظ الدنيا تجري وفق هذه المقادير، وأن كل إنسان قد فُرغ من كتابة أجله ورزقه وحظه من الدنيا قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، فقد قسّم الله المعايش والأرزاق والآجال، فبسط للبعض وضيق على البعض الآخر، فلا حيلة فيما كتب الله - عز وجل - في لوحه المحفوظ، ومهما تبارى الناس وتسابقوا وتنافسوا فلن يخرجوا عما كتبه وقدره الله لهم، ولا يظن البعض من هذا السياق أنها دعوة لترك الأسباب والتنافس في الخيرات، ولكنه دعوة لتجديد الإيمان بالقضاء والقدر والرضا بما قسمه الله، وفهم حقيقة الدنيا وحظ كل امرئ منها. وزيادة المال ووجود النعم ووفرتها تكون أحياناً من أكبر دواعي الإقبال والتنافس على الدنيا، وذلك لأن المال يعمي ويصم، ويدعو إلى الركون والمتعة والراحة ويدفع صاحبه إلى البذخ والإنفاق في غير حاجة، وقد أوضح الله - تعالى - في كتابه هذه الحقيقة في آيات، منها قوله (كَلاَّ إنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ) [العلق:6-7]،ويزداد تأثير كثرة المال ووفرة النعم على الإنسان وجره إلى الترف وغاية الرفاهية حين يكون مولوداً في النعم، لم تمر به حالات بؤس، ولم يعرف شدة البلاء ومعاناة الفقر، بل جاءه المال وتوفرت لديه النعم بسهولة ويسر من دون ما كسب أو بذل جهد، عندها تكون الدنيا أكبر همه وغاية سعيه.

4 ـ التناقض في حياة الإنسان:
الانغماس في مباهج الحياة وزينتها عادة ما يكون ناتجا عن تغليب الإنسان لمتطلبات،وإغفاله لمتطلبات مهمة أخرى من عقل وروح، وعدم قيامه بالأخذ بالهدي النبوي الرشيد الداعي إلى الموازنة بين تلك الجوانب المختلفة، روى البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الله بن عمرو حين علم بمغالاته في العبادة: " ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل، فقلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً"، وروى البخاري أيضاً أن نفراً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- سألوا عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ".

5 ـ ضعف التربية وخلل البدايات:

من أبرز أسباب التنافس على الدنيا والاشتغال بشهواتها ضـعــف التربية وضعف التوجيه الجاد والمناسب للشباب من قبل بعض المربين في كيفية التعامل مــع فتنة الحياة الدنيا وزخرفها وما نتج عن ذلك من عدم تربية النشء على الجَلَدَ والخشونة بذريعة الخوف من انفراط اجتماع الطلاب حول المربي والخشية من انصرافهم عنه بالكلية، فتجد المربي يكثر من الرحلات الخلوية والخروج إلى المتنزهات بحجة تفريغ الطاقات والترويح عن عنت المذاكرات، وهذا ينتج على المدى الطويل وسطا حريصا على التنافس على الدنيا، وبيئة قابلة لزيادة التنافس والتسابق على متاع الدنيا، وهذه البيئة وحدها كفيلة بإنتاج جيل كامل من الشباب دعاة وغيرهم من المتنافسين على زخارف الدنيا.

6 ـ الغفلة عن الموت:

كل الناس يؤمنون بأن الموت هو غاية كل حي، ولكن قليل منهم من يؤمن بذلك إيمانا حقيقيا ينطبع على جوارحه وسلوكياته ومعاملاته، فالإيمان الحقيقي يجعل الإنسان يضع الدنيا في يديه لا في قلبه، ولا يبالي أقبلت عليه أم أدبرت عنه، أما الإيمان النظري بالموت يجعل الإنسان من حيث لا يدري ينسى هذا الحقيقة، ويركن إلى الدنيا ويقيم لها وزنا، ويعمل لها حسابا ويبذل قصارى جهده في تحصيلها ولو بالتنافس والتباري عليها، لذلك أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر الموت ودوام الاستعداد للقاء الله - عز وجل - حتى لا تغيب هذه الحقيقة عن قلوب وعقول الصالحين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أكثروا ذكر هاذم اللذات " أخرجه الترمذي وقال حسن غريب، وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم مصلاه يوما فوجد أناسا يكتشرون ـ تظهر أسنانهم من الضحك ـ فقال: " أما لو أنكم لو أكثرتم ذكر هاذم اللذات لشغلكم عما أرى " أخرجه النسائي في سننه باب كتاب الجنائز.

الدعاة عندما تلبسوا بهذه الآفة الخطيرة ونسوا مهمتهم الأصلية، ونسوا أن الأطباء الذين يصفون العلاج لمن يقع في أمثال هذه الأدواء أصابهم كثير من الأذى والآثار الجانبية الضارة والمهلكة سواء في الدنيا أو الآخرة، ومن أبرزها: القلق والتوتر والاضطراب النفسي بسبب سيطرة الدنيا على قلبه وعقله وتفكيره، بعد أن ابتلي بجمعها والخوف من ضياعها، ومنها أيضا إهدار الحقوق الدعوية والأخوية، فالتنافس على الدنيا يقود إلى الصراع والتباري المذموم، وإساءة الظنون وتتبع العورات والتفتيش على الزلات، كما أنها تهدر معظم وقت الداعية بحيث يقع في التقصير والخلل في أداء الواجبات والاستحقاقات الدعوية لكثرة مشغولياته الدنيوية، ومع ازدحام الرغبات الدنيوية على الواجبات الدعوية يبدأ الداعية في التضحية بالدعوي إيثارا للدنيوي، بل يصل الأمر بالبعض للانصراف على أعمال الآخرة من العبادات والطاعات، ذلك لأن الدنيا قد صارت أكبر همه ومبلغ علمه وغاية سعيه.

لن يتخلص الداعية من هذه الآفة الخطيرة الضارة المضرة إلا بالاعتماد على الله وحده، واليقين التام بأن حظوظ الدنيا تجري بالمقادير، ومهما فعل الإنسان من أجل تحصيل حظ أو نصيب منها، فإنه لن يصل فوق ما قسم الله - عز وجل - له، وإن البصيرة التامة بحقيقة الدنيا وأنها ليست الهدف أو الغاية من أكبر معينات الداعية في الخروج من شرك هذا المرض الخطير، كما يجب على الداعية الذي يعيش في بيئة تنافسية ووسط حريص على الدنيا أن يقوم بتغيير هذا الوسط والخروج إلى البيئة الصالح أهلها الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، فإن ذلك ينزع من قلبه هذا الداء الخطير.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 10-08-2025, 01:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,180
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘

سلسلة أمراض على طريق الدعوة (13) الفتـور


شريف عبدالعزيز

من الأمراض المنتشرة على طريق الدعوة إلى الله - عز وجل - والتي نَدُرَ من سلم منها؛ آفة الفتور والانقطاع، فكثيرا ما نرى من الدعاة نشاطا وإقبالا قويا على البذل والعطاء الدعوي، ثم نفاجأ بعد فترة بانقطاع وتوقف عن العمل، حيث تخبو الحماسة ويخفت صوت التضحية، ويفتر الداعية عن العمل، ويضربه الكسل والقعود عن العمل، ولا يقبل على العمل بنفس القوة والنشاط المعتاد، فتصبح الدعوة بالنسبة إليه عملا روتينيا ثانويا يؤديه ببرود وفتور، وللأسف الشديد لا يكاد يسلم داعية من هذا الداء، لذلك وجب الحديث عنه والاستفاضة في بحثه.

الفتور لغة واصطلاحا:

الفتور في اللغة على معنيين: الأول: الانقطاع بعد الاستمرار، أو السكون بعد الحركة. الثاني: الكسل أو التراخي، أو التباطؤ بعد النشاط والجد، قال ابن منظور في لسان العرب: " وفتر الشيء، والحرُّ، وفلان يفتر فتورا، وفُتَارا: أي سكن بعد حدة، ولان بعد شدة "

أما في الاصطلاح: فالفتور داء يصيب بعض الدعاة إلى الله - عز وجل - يتراوح بين الكسل والتراخي والتباطؤ، وقد يصل بهم إلى الانقطاع والسكون التام بعد النشاط الدءوب. قال تعالى: (ولَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ) [ الأنبياء 19 ـ 20 ]، أي أن الملائكة في عبادة دائمة ينزهون الله عما لا يليق به سبحانه، ويواصلون الليل والنهار بالعبادة والذكر لا يضعفون ولا يسأمون ولا ينقطعون عن ذلك.

للفتور مظاهر كثيرة تبدأ بكثرة الاعتذارات عن التكاليف الدعوية، والتماس الأعذار من أجل الفكاك منها، وكثرة تأجيل المهام والأمور الدعوية، ومنها عدم الإتقان في أداء هذه الوظيفة الدعوية، والتكاسل والتباطؤ في التنفيذ، فما يمكن إنجازه في يوم ينجز في أسبوع أو أكثر، ومنها كثرة الاختلافات مع الأقران بسبب ضعف الأداء الدعوي والتقصير في التكاليف مما يؤدي لنشوب خلافات مع رفقاء الطريق، ومنها الانغماس في الأمور الدنيوية، حيث يعطي الدنيا الوقت الذي كان يعطيه للدعوة، وغير ذلك كثير من العوارض التي نستطيع أن نردها لتسرب هذا المرض الضار إلى نفوس وقلوب بعض الدعاة.

أسباب الفتور عند الدعاة:

أولا: الغلو والتشدد:

فالفتور قد يتسرب إلى النفس بسبب فقدان التوازن في حياة الداعية، فالداعية من جملة البشر مركب من جسد وروح ولكل منهما حاجاته ورغباته وحقوقه، والغلو والتشدد من أكثر الأمور التي تدفع إلى الفتور والتوقف، فعندما يشدد الداعية على نفسه في الدعوة والعبادة ويأخذ نفسه بالعزائم كلها، ويحرم بدنه حقه من الراحة والطيبات فإن ذلك حتما ولابد سيقوده إلى الضعف أو السأم والملل من ثم الفتور والانقطاع، لذلك جاء الإسلام بأشد عبارات النهي عن الغلو والتشدد والتنطع، فقال صلى الله عليه وسلم: " إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم بالغلو في الدين " وقال أيضا: " هلك المتنطعون " قالها ثلاثا، وقال: " لا تشدَّدوا على أنفسكم، فُيشَدَّدَ عليكم، فإن قوما شدَّدوا على أنفسهم فشدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع، والدَّيارات " وقال: " إن الدَّين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه "، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها، وعندها امرأة، فقال: " من هذه ؟ " فقالت: هذه فلانة تذكر من صلاتها، قال: " مه عليكم بما تطيقون فو الله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحب الدين ما داوم عليه صاحبه عليه "، وقال صلى الله عليه وسلم: " اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل ّ"، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -قال: كانت مولاة للنبي صلى الله عليه وسلم تصوم النهار، وتقوم الليل، فقيل له: إنها تصوم النهار وتقوم الليل فقال صلى الله عليه وسلم: " إن لكل عمل شِرّة والشِرّة إلى فَترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل ".

وللأبدان حقوق أكد عليها الحبيب المصطفى صلوات ربي وتسليماته عليه لذلك قال لأبي الدرداء رضي الله عنه: " إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه " وفي رواية عند البخاري: " فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا .."

ثانيا: الإسراف والترف:

فكما قلنا في النقطة السابقة الوسطية والقوامة في الأمور كلها عناوين الثبات والاستمرارية والنجاح، فكما أن مجاوزة الحد في الطاعات والعبادات مذموم يقود إلى التنطع والغلو ومن ثم إلى الملل والفتور، فكذلك إن الإسراف والترف ومجاوزة الحد في التنعم والمباح من شأنه إلى يؤدي إلى البطنة والسمنة وسيطرة الشهوات وهذا يؤدي حتما إلى الكسل والتثاقل ثم الانقطاع، قال تعالى: (يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) [الأعراف 31 ]، وقال صلى الله عليه وسلم: " ما ملئ ابن آدم وعاء شرا من بطنه ".

والصحابة رضوان الله عليهم كانوا مدركين لهذه الحقيقة لذلك نجد عباراتهم مليئة بالتحذير من هذه الآفة، فها هي أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - وعن أبيها تقول: " أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد نبيها الشّبع، فإن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم، فضعفت قلوبهم، وجمحت شهواتهم " وها هو أمير المؤمنين سيف الحق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: " إياكم والبطنة في الطعام والشراب، فإنها مفسدة للجسد، موروثة للسقم، مكسلة عن الصلاة، وعليكم بالقصد فيهما، فإنه أصلح للجسد، وأبعد من السرف، وإن الله ليبغض الحبر السمين، وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه "، وقال أبو سليمان الداراني من أئمة السلف: " من شبع دخل عليه ست آفات: فَقَدَ حلاوة المناجاة، وتَعذر حفظ الحكمة، وحرمان الشفقة على الخلق، وثقل العبادة، وزيادة الشهوات، وأن سائر المؤمنين يدورون حول المساجد، والشّباع حول المزابل ".

ثالثا: الميل للوحدة والتفرد:

العمل الدعوي عمل جماعي بشري يقوم على مخالطة الناس ومكابدة أحوالهم ومعايشة أوضاعهم، كما أن طريق الدعوة طويل وشاق كثير العقبات يحتاج إلى تساند وتساعد من رفقاء الدرب وإخوان الطريق، فإذا سار الداعية مع الجماعة وجد نفسه دوما متجدد النشاط، ثابت الجنان، قوي العزم، أما إذا آثر الوحدة واختار التفرد والعزلة في هذا الطريق، وفارق رفقاء الدرب، فإنه سرعان ما يستوحش ويفقد طاقته ولا يجد من يشحن بطاريات نشاطه، فيتراخى ويتباطأ، وربما انتهى به الأمر للانقطاع، وقد حفلت نصوص الشرع بالدعوة إلى التمسك بالجماعة والتحذير من مفارقتها، والشذوذ عنها، قال تعالى: ( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَلتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَلْعُدْوَانِ وَتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) [ المائدة 2 ] وقال (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) [ الأنفال 46 ]

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة " وقال: " من فارق الجماعة شبرا، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " وقال: " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم "

رابعا: التفريط في واجبات اليوم والليلة:

فالله - عز وجل - قد افترض على المسلمين فروضا تؤدى بالليل والنهار، وأمر بالمحافظة عليها، ودور الدعاة أن يذكروا الناس بهذه الفروض ويحثونهم على التمسك بها والمواظبة عليها، فالله - عز وجل - قد افترض على المسلمين فروضا تؤدى بالليل والنهار، وأمر بالمحافظة عليها، ودور الدعاة أن يذكروا الناس بهذه الفروض ويحثونهم على التمسك بها والمواظبة عليها، فإذا فرّط الدعاة أنفسهم في المحافظة على هذه الواجبات والفرائض فإن عقوبتهم تكون أشد وأسرع وملامة الله - عز وجل - لهم أكبر كما قال سبحانه (أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُون ) [ البقرة 43 ]، فلو صادفت داعية يوما قد أصابه داء الفتور والانقطاع فانظر أول ما تنظر إلى طاعاته وسجل عباداته، فإنك حتما ولابد ستجد تكاسلا عن الجماعة ونوما عن صلاة الفجر وهجرا لكتاب الله - عز وجل - وتخلفا عن مواطن الخير وهكذا، فالعبادات والطاعات وعلى رأسها الفرائض والواجبات هي رأس مال الداعية ومصدر قوته وعموده الفقري في مواجهة نوائب الدهر وصروف الزمان وأعباء الطريق ، بدونها يفقد الداعية خطوط الإمداد والتمويل والزاد للطريق الطويل.

خامسا: رفقة الضعفاء:

فصحبة ذوي الإرادات الضعيفة والهمم الدانية ممن يرون أن أقصى طموحاتهم لا يجاوز تحت أقدامهم، ويقتصرون دائما على الدون من العمل والقليل من البذل والنذر من العطاء، صحبة هؤلاء كصحبة الأجرب؛ معدية ممرضة تورث السقم وتنقل من النشاط إلى العدم، وكما قالت العرب قديما " الصاحب ساحب " أي يسحب إلى نفس خصاله وأخلاقه وأفعاله، لذلك جاء التنبيه النبوي على ضرورة انتقاء الصحبة الصالحة والرفقة الخيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: " المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم إلى من يخالل "، وقال أيضا: " إنما مثل الجليس الصالح، والجليس السوء، كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وأما أن تبتاع منه، وأما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وأما أن تجد منه ريحا منتنة "

سادسا: العشوائية والعفوية:

من أهم أسباب نجاح أي عمل بعد الاعتماد والتوكل على الله؛ حسن التنظيم والترتيب والتخطيط، والناظر لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يجدها كلها خير مثال على هذا الأمر، فلم يكن صلى الله عليه وسلم يخطو خطوة واحدة إلا وهو يعلم أين يضعها ؟ ولماذا يضعها ؟ وما يرجو بعدها، ولعل حادثة الهجرة إلى المدينة خير شاهد على هذا الكلام، وربى صلى الله عليه وسلم أصحابه وعماله على النظام والترتيب وحسن التخطيط، فها هو صلى الله عليه وسلم يرسل عامله معاذ بن جبل - رضي الله عنه - إلى اليمن معلما ومرشدا، فيضع له منهجية وخطة العمل وترتيبه ودقته، فقال له: " إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد إلى فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك، فإيّاك وكرائم أموالهم ،.. "

والداعية إذا لم ينطلق من هذه الأصول الدعوية من الترتيب والتنظيم والتخطيط، واعتمد على العشوائية والعفوية والارتجالية في عمله، بحيث يقدم الثانوي على الأساسي والمستحب على الواجب، عندها يطول عليه الطريق، وتضطرب عنده الرؤية، ويضاعف من الجهود والتضحيات ليصل إلى أهدافه، ولكن في المقابل تضعف عنده النتائج، وعندها يصيبه الحزن والفتور وربما التوقف والانقطاع. وقد يكون من صور العفوية والعشوائية في العمل الاقتصار في الدعوة على جانب واحد من العمل ملغيا غيره من الأعمال من حسابه، مثل أن يجعل همه التركيز على الشعائر التعبدية، أو التركيز على العمل الخيري مثل كفالة الأيتام والأرامل، أو التركيز على العمل الاجتماعي، ولاشك أن كلها أعمال عظيمة رائعة ولكن الاقتصار على واحدة منها دون غيرها حتما ولابد أن ينتهي بالداعية إلى الفتور.

الفتور من أضر الأمراض التي تصيب الدعاة إلى الله عز وجل، فالفتور يأتي على رصيد الداعية من الطاعات والحسنات، والأدهى من ذلك أن يأتيه ملك الموت وهو على فتوره وكسله، فيلقى الله مفرّطا مقصَّرا، لذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال "، وكان من مبشراته صلى الله عليه وسلم للدعاة والصالحين والعاملين أنه قال: " إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله " فقيل: كيف يستعمله يا رسول الله ؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت " أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح، كما أن الفتور قد يؤدي لإهدار جهود عظيمة وطاقات كبيرة وأعمال هامة كانت على وشك الاكتمال، وسنة الله - عز وجل - الماضية في الخلق: أنه سبحانه لا يعطي النصر والتمكين للكسالى والغافلين والراقدين، كما قال سبحانه ( إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلوا الصَّالِحَاتِ إنَّا لا نُضِيعُ أَجرَ مَن أَحسَنَ عَمَلاً ) [ الكهف 30] وقال ( والَّذِينَ جَاهَدُوا ِفينَا لَنَهدِيَّنهم سُبُلَنَا وإنَّ الله لَمَعَ المحُسِنِينَ ) [ العنكبوت 69].

لذلك فإن روشتة علاج هذا الداء الوبيل بالحرص والمواظبة على الطاعات وأعمال اليوم والليلة من أذكار وأوراد وصلوات وتهجد وسائر محفزات ومقويات القلوب الضعيفة الخائرة، والعمل في إطار مؤسسي جماعي يستوعب الطاقات ويوظف الملكات فيد الله - عز وجل - مع الجماعة، وفي أكنافها تتنزل الرحمات، وخارج أسوارها تتنزل العذابات، كما ينبغي للداعية أن يقي نفسه من داء الفتور بتناول مضادات المرض من التوسط والاعتدال والقصد في الأمور كلها، والتحرر من ربقة الغلو والتشدد والانحلال والتسيب، كما يجب على الدعاة معرفة أن حسن التخطيط والتنظيم والمنهجية السليمة للعمل هي أحد أسرار النجاح، وأخيرا فإن نعم الزاد لمواجهة أي داء هو التوكل على الله - عز وجل - واستمداده ودعائه وطلب العافية والرشاد منه، فهو نعم المولى ونعم النصير.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 100.96 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 98.29 كيلو بايت... تم توفير 2.67 كيلو بايت...بمعدل (2.64%)]