|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (10) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل إثبات صفة الوجه لله عز وجل وقوله: ﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 27]: في هذه الآية إثبات صفة الوجه لله تعالى، والوجه مِن صفات الله الذاتية، فلله وجهٌ يليق بجلاله وعظمته، لا يُشبه وجوه المخلوقين. والوجه يُعبَّر به عن صفة الوجه، ويعبر به أحيانًا عن الصفة، وعن الذات، فيدلُّ على وجهه، ويدلُّ على ذاته فقال تعالى: ﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾، فوصف هذا الوجه بأنه ذو جلال وذو إكرام، وجاء في قراءة: ﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾، فبهذِه القراءة فإن الجلال والإكرام وصْفٌ لله تعالى. وقوله: ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾ [القصص: 88]. وجه الله لا يَهلِك، وإنما يَبقى، والوجه قد ثبت لله حتى في الأدلة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم - أن الله يكشف الحجاب يوم القيامة، حتى يرى المؤمنون وجهه - في أدلة أخرى كثيرة[1]، من صفات ذاته الملازمة لذاته أزلاً وأبدًا. وجاء الوجه في القرآن بمعنى الجهة؛ ﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 115]؛ أي: الوجهة التي أمركم الله عز وجل باستقبالها، وتَحتمل أن الوجه وجه الله الذي يستقبله المصلي، فالآية محتملٌ فيها الوجهان. • إثبات صفة اليد لله عز وجل: وقوله: ﴿ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ [ص: 75]: من صفات الله الذاتية أن الله له يدان كريمتان، لا تَغيضهما نفقة، لائقتان بجلاله وعظمته، لا تشبهان أيدي المخلوقين؛ كما قال تعالى عائبًا على إبليس: ﴿ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ [ص: 75]، بيدي على جهة التثنية، وقال عائبًا على اليهود: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 64]. فأثبَت أن له يدَين ثنتين لائقتين به سبحانه وتعالى، وجاء في صحيح مسلم: ((إن الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه))، وفي سنن ابن ماجه: ((يمين الله ملأى لا يَغيضها شيء، سحَّاء الليل والنهار، وبيده الأخرى الميزان، يرفع القسط ويخفض))]))، وتُسمى الأخرى شمالاً؛ كما جاء ذلك في إحدى الروايات في الصحيح، وتُسمى الأولى يمينًا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ﴾ [الزمر: 67]، وتُسمى الثانية الأخرى شمالاً، لكنها يَمين؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((وكلتا يدَيِ الرحمن يَمين))[2]، ومعنى هذا أن كلتيهما مُستويتان في الفضل والشرف والمزيَّة، فلا فضْل ليد على أخرى، ولا مزية لليمنى على اليسرى؛ لأنَّه عند المَخلوقين اليد اليمنى أكرم من اليد اليسرى، أما الخالق تعالى فيداه كلتاهما مستويتان في الفضل والشرف، وجاء في الحديث عند أحمد وغيره أن النبي قال: ((إنَّ الله خلق آدم بيده، وكتب الألواح لموسى بيده، وأنشأ جنات عدن للمؤمنين بيده؛ كرامةً لهم))، ولهذا خص الله آدم بأن خلقه الله بيديه، وهذا فيه شرَف لهذه الأشياء التي باشرها الله بيديه؛ في آدم، وفي الجنة، وفي صحُف موسى: ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الأعراف: 145]. والمُنحرفون المعطِّلة أوَّلوا هذه اليد تحريفًا، فأنكروا أن يكون لله تعالى يدان، وعطَّلوهما بأنواع التعطيلات: 1- فقالوا مرة: إنَّ معناهما القوة. 2- وقالوا مرةً ثانية: إنَّ معناهما القدرة. 3- وقالوا ثالثةً: إنَّ معناهما النعمة. فهذه أنواع مِن التحريفات، يُسمونها هم وأضرابهم تأويلات، ويا للَّهِ كيف صار إبليسُ أعرَفَ بالله مِن هؤلاء المعطِّلة؟! لما قال الله عائبًا على إبليس: ﴿ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ [ص: 75]، لو كان المراد باليدَين القوة والقدرة والنعمة، لقال إبليس: وأنا يا رب خلقتني بقوتك وقدرتك فأي مزيَّة لآدم عليَّ؟ فصار إبليس بهذا أعرف بالله من هؤلاء المعطلة، وهذا وجه في فساد مذهبهم. والوجه الثاني أنه لو كان المراد باليدَين القوة، أو القدرة، أو النعمة، أو غير ذلك لما كان هناك حاجة إلى أن تُثَنَّيا ﴿ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾؛ لأنَّ القدرة شيء واحد، فما الحاجة إلى أن تُثنَّى، وما الحاجة إلى أن يقول: ﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 64]؟ لأنَّ القدرة والنعمة والقوة لا حاجة فيها إلى أن تُثنَّى، فدلَّ ذلك على فساد مذهبهم الفساد العظيم، وهذه آثار جناية التحريف - الذي يسمونه تأويلاً - على الأدلة الشرعية، وعلى صفات الله تعالى العلية. • إثبات صفة العينين لله عز وجل: وَقَوْلِهِ: ﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ [الطور: 48]: في هذه الأدلة إثبات العينين صفةً لله تعالى، وهذه من صفاته الذاتية أن الله له عينان كريمتان عظيمتان لائقتان بجلاله وعظمته، لا تشبهان أعين المخلوقين بحال من الأحوال، وإنما هما لائقتان به على ما يليق بذاته وجلاله وكماله عظمةً وإجلالاً، وبعينه يُبصر، وقد أحاط بصره بكل خلقه. وقد جاءت الأدلة من السنَّة على إثبات أنهما عينان اثنتان، وهذا ما أجمع عليه السلف، كما حكى الإجماعَ عليه الدارمي عثمان بن سعيد، وحكاه أيضًا ابن خزيمة، وحكاه شيخ الإسلام، وحكاه أيضًا أبو الحسن الأشعري في رسائله إلى أهل الثغر، ومستند هذا الإجماع ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال ذات غداة، فخفض فيه ورفع، وقال فيه: ((ألا إنه أعور العين، وإن ربكم ليس بأعور))[3]، فأخذ مِن ذلك أن الله يكون له عينان؛ لأن العور يكون من عينين؛ إذ لو كانت واحدة وعميَت لا يُسمى أعور، وإنما يُسمى أعمى، ولما جاء في صحيح ابن خزيمة وغيره أن الله تعالى له عينان اثنتان، وبهذا أجمع أهل السنَّة، وأما ما جاء في الأدلة: ﴿ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ [الطور: 48]، فإضافة الأعين إلى (نا) المعظم نفسه ليس المراد منها الجمع، وإنما المراد منها التعظيم والتفخيم، وفي قوله تعالى: ﴿ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ﴾ [القمر: 13، 14]: الدسُر هي المسامير، والمراد بذلك أنها تجري تحت أعيننا؛ أي: بعين الله عز وجل المقتضي لذلك حفظه، واطلاعه، وأنها لا تَغيب عنه، كما قال تعالى في موسى وهارون عليهما السلام لما بعثهما إلى فرعون: ﴿ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [طه: 46]. وقوله: ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39]. هذا في موسى، ففيه إثبات المحبة، وأن الله يراه بعينه سبحانه وتعالى فلا يخفى عليه، وهذا مما يقتضي - وليس معناه التأويل، وإنما مع إثبات العين لله التي يرى بها - اطَّلاعه عليه، وحفظه، وتأييده له، فلا يمسه من الله سوء، والله حافظه لأنه يُصنع على عينه سبحانه، وينشأ ويتعلم على عين الله وحفظه، ففيها إثبات صفة العينين لله على ما يليق بجلاله وعظمته. • إثبات السمع لله عز وجل: وقوله: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1]. في هذه الآيات إثبات صفة السمع والبصر، فالله يسمع، وسمعه إدراكه المسموعات وإن دقَّت، وإن خفيَتْ، وإن لم تسمَعْ فإنَّ الله يسمعها، كيف وهو جل جلاله يسمع خلجات القلوب وخطراتها، وحديث النفس الذي لا يسمعه إلا الإنسان بنفسه؟! فالله تعالى يسمع ذلك ويعلمه ويُحيطُ به، وفي أول سورة المجادلة قال تعالى: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ﴾، و"قد" إذا دخلَت على الفعل الماضي دلَّت على التحقيق (تحقيق وقوع هذا الأمر)، ﴿ وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾. بدأَها بإثبات السمع، وختَمَ الآية بإثبات السمع والبصر، وهذه المرأة التي جادَلَها رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها، خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها لما ظاهر منها زوجها، تقول عائشة رضي الله عنها: "سُبحان الذي وسع سمعه الأصوات! والله إني لفي طرف الحُجرة، وإنه ليخفى عليَّ بعضُ حديثها"[4]؛ أي: بعض شكايتها، وحجرته صلى الله عليه وسلم قيل: إنها ستة أذرع في ستة أذرع؛ أي: إنها ثلاثة أمتار ونيف في ثلاثة أمتار ونيِّف، وتقول عائشة: "والله إني لفي طرف الحجرة، وإنه ليخفى عليَّ بعض حديثها ما أسمعه، والله يقول: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1]". وقد كرَّر السمع مرة ثانية فثالثة، وهو سُبحانه على عرشه، فوق سبع سماوات ولم يَخف عليه حكاية هذه المرأة جريمة الظِّهار مِن زوجها عليها، وعائشة قريبة منها ويخفى عليها بعض حديثها، تقول: "سُبحان من وسع سمعه الأصوات" إحاطة بها، وأنها لا تَخفى عليه، بل أعظم من هذا المؤمنون والحُجاج حول البيت، في جمٍّ غفير في الحج، وفي صعيد عرفة بأنواع اللغات، ومُختلِف الحاجات والرغبات، مع ضجيج الأصوات، لا يخفى على الله عز وجل أصواتهم، ولا أعيانهم، ولا حاجاتهم؛ لأن سمعه لا كالأسماع، وصفاته لا كصفات الخَلق، بل هو تعالى على وجه من الكمال والجلال مما لا يحيط معه به خلقه، فسبحانه لا إله إلا هو. • أثر الإيمان بصفة السمع: والعلماء وأهل السنَّة أثَّرت هذه الصفات في أخلاقهم، وفي عقائدهم، وفي أعمالهم، ولهذا تحرَّجوا عن الكلام البذيء لئلا يَسمعه الله منهم، وتحرَّجوا عن أن يُقارفوا الذنوب والمعاصي لئلا يطَّلع ربهم بها عليهم، وهذا مِن آثار الإيمان بهذه الصفات، نعم فإنه ليس مجرَّد الإثبات لهذه الصفات حتى نواجه المُنحرِفين، والمبتدعة، ونرد عليهم فهذا أصل، ولكن الأصل الأعظم مِن ذلك أن ينعكس آثار الإيمان بهذه الصفات على عقائدنا إجلالاً، ومخافة، وتعظيمًا لربنا جل جلاله ويَنعكس على أقوالنا وأفعالنا، فلا نُسمِع ربَّنا من أقوالنا، ولا نُريه من أفعالنا ما يكرهه ويُسخطه منا، وهذا هو اللائق الواجب على جميع المؤمنين، وأما الرد على المُنحرفين فهذا فرضٌ على أهل العلم المتعلمين. المُنحرفون أوَّلوا هذه الصفات؛ المعطلة من الجهمية والمعتزلة أوَّلوها، أما الأشاعرة فقد أثبَتوا السمع والبصر مع الصفات السبع التي يُسمونها بصفات المعاني، أو الصفات العقلية وهي: السمع، والبصر، والإرادة، والحياة، والكلام، والقدرة، والعلم؛ فهذه الصفات أثبتها هؤلاء، وعاب الله تعالى - في آية آل عمران - على اليهود لما قال: ﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [آل عمران: 181، 182]. ﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ ﴾ فحقَّق الله أنه سَمعها، وإنما سمعها بسمعه الذي أحاط بكل شيء، وأدرك كلَّ مسموع، كما قال في المجادلة: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ﴾. وقوله: ﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾ [الزخرف: 80]. أي: بلى، نَسمع سِرَّهم ونجواهم، فالله يسمع النجوى، ويسمع ما هو أخفُّ من النجوى وهو السر، والمراد بالنجوى حديث الإنسان - إلى صديقه، أو إلى من هو مُقارب له - حديثًا يُخفيه عن غيره، والسرُّ هو حديثه مع نفسه، فالله يسمع هذا، ويسمع ذاك، لا يخفى عليه هذا من هذا، بل قال العلماء: إن سمع الله لما يُجهَر به من القول كسَمعِه لما يُناجَى من القول، فهو سبحانه يسمع الأصوات بأنواع اللغات، ومع ضجيج الأصوات، بمختلف اللهجات، وبتنوع الحاجات، فتأمل هؤلاء الداعين في يوم عرفة، من أصناف المسلمين، ولغاتهم، وأحوالهم! وهذا السمع ليس خاصًّا بالله، فالله تعالى يُقدِر بعض ملائكته فيَسمَعون السرَّ والنجوى، ولهذا قال: ﴿ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾ [الزخرف: 80]؛ أي: إنهم يكتبون ما يتكلمون به، حتى حديث القلب وعزمه، وهمَّه، يعلمه الملائكة الكرام الحفظة؛ لعموم قوله تعالى عن الملائكة: ﴿ كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 11، 12]، والفعل فعلان: فعل القلب، وفعل الجوارح، وفعل القلب تعلمه الملائكة وتكتبه، فإن كان خيرًا كتب له حسنة، وإن كان غير ذلك لم يكتب حتى يعمله، وإن تركه من خشية الله أثيب عليه، وكتبت له حسنة وإن تركه من خشية المخلوق كتب عليه سيئة، وهذا في حق الملائكة، وهم خلقٌ من خلق الله، فشأن الله أعظم وأجلُّ؛ أنه يسمع سرَّهم ويسمع نجواهم. وَقَوْلِهِ: ﴿ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الشعراء: 218 - 220]. فهذا فيه إثبات أن الله يرى، وهذه المقامات نُلاحظ أنها مع خُلَّص المؤمنين مِن أنبياء الله ورسله، كما أنه مع جميع الخَلق لقوله: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾ [العلق: 14]، وآية الشعراء فيها دليل على أحد مقامات الإحسان. والإحسان له مقامان: 1- أن تعبد الله كأنك تراه. 2- فإن لم تكن تراه - لم تصل إلى هذه الرتبة وهذا المقام الكامل من الإحسان - فاعبده لأنَّه يراك. قال تعالى: ﴿ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ﴾، والصلاة هي أربع حركات فقط: قيام، وقعود، وسجود، وركوع، ولا حركة غير هذه، ولهذا فإن صلاة الجنازة اختلفت عن الصلوات الأخرى؛ فهي قيامٌ فقط لا قعود فيها ولا ركوع ولا سجود، إلا لمن عجز عن القيام؛ حمايةً لحمى التوحيد، وسدًّا لذرائعه؛ لئلا يُظنَّ أن السجود والركوع لهذا الميت الممدد أمامهم، ولهذا شُرِعَت صلاة الجنازة في المقابر، ولم تُشرع الصلاة التي فيها ركوع وسجود في المقابر، حتى لو كانت صلاة فائتة، وقد نُهِينا عن ذلك، وقد لعن النبي من فعل ذلك، إلا صلاة الجنازة، فقد أذنَ أن تُؤدى في المقبرة؛ لأنه فعلها صلى الله عليه وسلم لما ماتت المرأة السوداء التي كانت تَقمُّ المسجد، ففقدها رسول الله، فأُخْبِرَ أنها ماتت فقال: ((هَلاَّ آذَنْتُمُونِي؟))، ثُمَّ قَالَ: ((دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا))، فَذَهَبَ إِلَيْهِ فَكَّبَرَ عَلَيهِ أَرْبَعًا؛ صلاة الجنازة بعدما دفنت[5]. • إثبات الرؤية لله عز وجل: وَقَوْلِهِ: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 105]. فيها إثبات أن الله يرى، والعجب من هؤلاء المحرِّفة المعطِّلة أنهم أولوا رؤية الله عز وجل ولم يُؤوِّلوا رؤية الرسول، ولا رؤية المؤمنين، فتطاوَلوا على صفات الله بالتحريف الذي يَعتقدونه تأويلاً، ولم يتطاولوا على صفات المخلوقين بالتحريف، فإلى الله المشتكى. [1] رواه البخاري (7437)، ومسلم (182)، من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما. [2] رواه مسلم (1827)، من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما. [3] رواه البخاري (3057)، ومسلم (169)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. [4] رواه البخاري معلقًا، الفتح، (13 / 372)، وقد وصله أحمد في المسند (6 / 46)، وابن ماجه (2063)، بلفظ: "تبارك". وصححهما الألباني في سنن ابن ماجه (2063). [5] رواه البخاري ( 1337 )، ومسلم ( 956 )، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (15) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل إثبات صفة المعية لله عز وجل وَقَوْلِهِ: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الحديد: 4]: هذه الأدلَّة دلَّت على إثبات صفةٍ مِن صفات الله وهي صفة المعيَّة؛ معية الله لخلقِه، وصفة المعية تَنقسِم إلى نوعين: 1- الأوَّل: مَعيَّة عامَّة، وهي معيَّة الله لجميع خَلقِه معيَّةً عامة، وهي مِن صفات الله الذاتيَّة، وليس مَعناها أنَّ الله مَعهم؛ بمعنى أنه مُمازجٌ لهم مخالطٌ لهم حالٌّ فيهم؛ كما هي الظنون الفاسدة التي يَقول بها أهل الفساد وأهلُ الانحراف والبدع، ولكنها صفةٌ ذاتية؛ بمعنى أنها متعلِّقة بذات الله، ليست متعلِّقةً بالمشيئة، وهذه المعية العامَّة هي التي جاءت في قول الله تعالى: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ [الحديد: 4]، معيَّة لا تَقتضي المخالطةَ ولا الممازجة، وإنما تقتضي أنه سبحانه وتعالى مطَّلِع عليهم لا يَخفى عليه شيءٌ من أمرهم مُصاحبٌ لهم؛ ولهذا يقول العلماء: إن المعية العامة معيَّة بعلم الله (معية عِلمية)؛ لأن الله تعالى يبدَأ هذه الآياتِ ويَختُمها بالعلم؛ ﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الحديد: 4]. وَقَوْلِهِ: ﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [المجادلة: 7]: وهذه تَقتضي إحاطتَه واطِّلاعه على خلقه، وأنه لا يَخْفى عليه منهم خافية. 2- النوع الثاني: معيَّة خاصة، وقد جاءت في القرآن والأدلة على نوعين: أ- معية لأشخاص. ب- ومعية لأعمال وأوصافٍ قامت بعبادِ الله المؤمنين. وجاءت معيَّة الأشخاص في قولِه تعالى عن نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار وهو الصِّديق في الآية التالية: وَقَوْلِهِ: ﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40]. وهذه معية خاصة، ولما بعث موسى وهارون إلى فرعون، فقال: وَقَوْلِهِ: ﴿ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [طه: 46]. هذه معيَّة خاصَّة، والمعية الخاصة لأشخاص، إذا جاء في القرآن فهي أعلى قَدْرًا وخصوصيَّةً وشرفًا مِن المعية التي تَأتي لغير مُخَصَّصِين، وإنما لأوصافٍ عامة كمَعيَّة الله للصابرين وللمحسنين وللمتقين: وَقَوْلِهِ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128]، وَقَوْلِهِ: ﴿ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46]، وَقَوْلِهِ: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]: وكلا هاتين المعيَّتَين: المعية لأشخاص اختصهم الله بذلك، أو المعية لأوصاف الصابرين والمحسنين والمتقين - معية خاصة، وهي من صفات الله الفعلية، التي تكون لمن شاء الله من خلقه؛ كرامة لهم، وجزاء لهم على إيمانهم، وتوحيدهم، وصدقهم؛ ولهذا فإن الفرق بين المعيتين أن المعية العامة من صفات الله الذاتية، والمعية الخاصة من صفات الله الفعلية، وتقتضي المعيةُ الخاصة الحفظَ والتأييد، وهذا معنًى أخَصُّ مِن معنى المعية العامة المقتضية للاطلاع، وأنه لا يخفى عليه من خلقه خافية. والمعية الخاصة والعامة جاءت اللغة بإقرارِهما من غير أن تكون بممازجة، أو مخالطة؛ تقول: سِرتُ والقمَر معنا؛ فليس المعنى أن القمر نزل ومَشى معنا، وإنما المعنى أن القمر مُصاحبنا، وهو ظاهرٌ فوقنا، نوره يَبلُغنا، فإذا كان هذا في مخلوق - وهو القمر - مع مخلوق لم تَقتضِ المعيةُ الممازجةَ والمخالطةَ والحلول، فكيف بمعية الخالق مع خَلقه؟! المعنى أشملُ وآكَدُ وأعمُّ أنها لا تقتضي اتحادًا، ولا حلولاً، ولا ممازجةً.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (11) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل إثبات المكر، والكيد، والاستهزاء، والسُّخرية، والمُخادَعة على ما يليق بالله: وقوله: ﴿ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ﴾ [الرعد: 13]، وقوله: ﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 54]، وقوله: ﴿ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 50]، وقوله: ﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا ﴾ [الطارق: 15، 16]: في هذه الآيات إثبات أنَّ الله يَمكُر بالماكرين، والمَكْر والمِحال بمعنًى واحدٍ متقارب، فالله تعالى شديد المكر، وشديد المِحال، وهذه الصفات فيمَن يستحقُّها، فمَن مكَر مَكرَ الله به، وكذلك مَن كاد كادَ اللهُ به. في هذه الأدلة إثبات المكر، والكيد، والاستهزاء، والسخرية، والمُخادَعة، والنِّسيان، والملل؛ كما جاء في الصحيحين: ((خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا))[1]، هذه الصفات جاءت فيمَن يستحقُّها فهي صفات، لا تقع على كل أحد، وإنما لمن يستحقها، فمَن مكَر مكَرَ الله به، ومن كادَ كاد الله به، ومَن استَهزأ اسْتهزأ الله به، ومَن سخِرَ سخرَ الله منه، ومن خَادع المؤمنين خادَعه الله - جل جلاله. كذلك النسيان: ﴿ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ [التوبة: 67]، مَن ملَّ وسئم من العبادة فإن الله يقابله بالملل، ومَللُه ومخادعتُه ومكرُه وكيده واستهزاؤه سبحانه وتعالى - ليس كاستهزاء ومكر ومخادَعة ونسيان وملل المخلوق، نسيان المخلوق من جهل ومن ضعف، وأما نسيان الله تعالى فليس من جهل؛ لأنه أحاط بكل شيء علمًا، ولذلك فإن هذه الصفة تأتي إلى أصحابها على جِهة المقابلة لهم لما يَستحقُّون مِن جنْس عملهم. • إثبات العفو لله عز وجل: وَقَوْلِهِ: ﴿ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ﴾ [النساء: 149]. هذه الآية فيها أن الله يعفو، ولهذا فمِن أسمائه العفو، ومن صفاته أنه ذو عَفْو، فيَعفو الله عن عباده، فلا يؤاخذهم بسيئاتهم، بل يتجاوز عنها، ويعفوها ما لم تكن شركًا بالله؛ لأنه وعَد وتوعَّد، توعَّد بأن المشرك به لا يعفو الله عنه؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]، فالله يعفو؛ أي: إنه يتجاوز، ويتسامح ويَغفر، ولهذا جاء في الطبراني وغيره: ((إنَّ الله ينشر يوم القيامة ثلاثة دواوين؛ فديوانٌ لا يَغفره الله وهو الشِّرك به، وديوان لا يعبأ الله به وهو كل ذنبٍ ما سوى الشرك به مما يتعلَّق بحقه سبحانه وتعالى، وديوانٌ لا يَترك الله منه شيئًا وهو حقوق العباد بعضهم مع بعض))[2]، فلا يترك الله منه شيئًا حتى يستوفيَه، ويُعطي للمظلوم حقَّه من الظالم، إلا أن يعفو. ومِن صفاته العفو، ومِن صفاته أنه قدير، ومن صفاته الرحمة والمغفرة؛ لأنَّ مِن أسمائه العفو، ولهذا في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح تقول: يا رسول اللهِ، ماذا أقول إِن أنا وافَقْتُ ليلة القدر؟ فقال: ((قُولِي: اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العفو فاعف عني))[3]. وهو العفوُّ فعَفْوُه وسعَ الورى ♦♦♦ لولاه غار الأرض بالسكانِ • إثبات المَغفِرة لله عز وجل: وَقَوْلِهِ: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22]. ومِن صفاته: المَغفرة؛ لأنَّ مِن أسماء الله الغفور، ومن صفاته سبحانه الرحمة؛ لأنَّ من أسمائه الرحيم، ومن صفاته القدرة؛ لأن من أسمائه القدير، الذي يقدر على كل شيء، ولا يُعجِزه شيء، ولهذا في باب الدعاء يُناسب أن يدعو الله فيتوسَّل إليه بما يناسب الدعاء من صفاته، فإن كان المقام مقام دعاء وعفو توسل إلى الله بأسمائه: العفو، والرحيم، والقدير، والحكيم، والستِّير، وإن كان المقام مقام إنزال عذاب ومَكْر وسخط على المُعتدين الظالمين، فيتوسَّل إلى الله بأسمائه المناسبة لذلك؛ كالقوي، والجبار، والمتكبِّر، والعزيز، والذي لا يخفى عليه شيء، والمكر فيمَن يستحقه. ومعنى المغفرة: الستر، وغفران الذنوب: وهو الغَفُور فلو أتى بقُرابها ![]() مِن غَيرِ شِركٍ بل مِن العِصيانِ ![]() لأتاه بالغُفرانِ ملء قُرابِها ![]() سبحانه هو واسِعُ الغُفرانِ ![]() • إثبات العزة لله عز وجل: وقوله: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8]. مِن صفات الله تعالى أنَّ له العزة، والاسم المناسب لهذه الصفة هو العزيز؛ أي: إنه ذو العزة، وهي القهر، والمنَعة، والقوة. وهو العزيز فلن يُرامَ جنابُه ![]() أنى يُرام جنابُ ذي السُّلطان ![]() وهو العزيز بقوَّةٍ هي وصفُه ![]() فالعزُّ حينئذ ثلاثُ مَعانِ ![]() وهيَ التي كمُلَتْ له سُبحانه ![]() مِن كلِّ وجْه عادمِ النُّقصانِ ![]() وَقَوْلِهِ - عَنْ إِبْلِيسَ -: ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ص: 82]. فقد حلف بعزَّة الله؛ لأنه يعلم أن لله عزَّة، وقوة ومنَعة، فأقسم لله بها فقال: ﴿ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ص: 82]. يقول قائل: هذا القول قول إبليس؟! فنقول: نعم قول إبليس، حكاه الله مقرِّرًا له غير مُنكِر عليه، أما ما فيه الإنكار عليه أنكره سبحانه وتعالى عليه كإبائه عن السجود، وإبائه عن السجود إكرامًا لأبينا آدم على إبليس وعلى غيره من خَلقِ الله؛ بأنه سبحانه خلقه بيديه. هذه مِن صفات الله أنَّ له العزة، ومن معانيها: القهر، والمنَعة، والقُوَّة التي لا تُغلب، ومِن أسمائه: العزيز. لا يؤخذ من الصفات أسماء: وقد مرَّ علينا أنَّ كل اسم يؤخذ منه صفة، لكن لا يؤخذ من الصفة اسم في الاطِّراد الأغلب، وإنما أحيانًا إذا دلَّ عليها الاسم يؤخذ منها الاسم، ولهذا لا يؤخذ من أسماء الله أنه ساخِر، وماكر، ومُستهزئ، ومخادع، وناسٍ، مع أنها جاءت فيها صفات. فلا يؤخذ من أسماء الله أنه زارع، وأنه مُنشئ؛ ﴿ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ ﴾ [الواقعة: 72]، لا يؤخذ من هذا الفعل صفة، وهذا من القواعد المقرَّرة في هذا الباب - باب الأسماء والصفات - أنَّ الأسماء تؤخذ من الاسم، وأنه يؤخذ من الأسماء صفات، ولا عكس، فلا يؤخذ من الصفات أسماء. الاسم هل هو المسمى، أو غيره؟ وَقَوْلِهِ: ﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 78]. الله له اسم ومِن المَسائل المُبتدعة عند المتكلمين: هل الاسم هو المُسمى أو غير المسمى؟ لَمَّا خاض فيها المبتدعة، فصَّل فيها العلماء: 1- فأحيانًا يأتي الاسم ويُراد به المُسمَّى. 2- وأحيانًا يأتي الاسم ويُراد به ذات الاسم ولا يُراد به المسمَّى؛ ﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 78]، فيُراد بالاسم المسمَّى هنا؛ كقوله تعالى: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ [الأعلى: 1]، فالاسم هو المسمى. أما ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [الأعراف: 180]، فالاسم غير المُسمى بحسب سياق كلٍّ مِن الآيات. فوصَف نفسه بأنه ذو جلال وذو إكرام: ﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 78]، ولهذا - لعِظَم هذين الوصفَين - جاء الحث مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالإكثار مِن هذَين الوصفَين بالدعاء والإلحاح على الله بهما في قوله: ((ألظُّوا بِياذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ))[4]؛ أي: أكثروا مِن الدُّعاء بهذَين الوصفين، وتقرَّبوا إلى الله بهما، واسألوا بهما، وأكثروا من ذلك. النفي المُجمَل: وَقَوْلِهِ: ﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65]: في هذه الآيات إثبات أنَّ الله له اسم، لكنْ ليس له نَظير في اسمِه، ولا يُساميه أحدٌ مِن المَخلوقين، ولا يَبلغ اسم المخلوق اسم الخالق مهما عَظُم المَخلوق؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65]. كما أنه لا أحدَ يُكافئه؛ فقال: ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 4]؛ أي: إنه لا أحد يكافئه أو يُشابهه أو يُماثله أو يُساميه أو يُناظِره. وَقَوْلِهِ: ﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 22]: الأنداد المثلاء المُماثلين له، فالله لا يُماثله أحد، مع أنَّ الآية جاءت في سياق التعبُّد والنهي عن الشرك؛ لأنَّ هذا الذي أشرك معه غيره - ولو كان في عبادة واحدة - كأنه جعَل هذا الغير ندًّا لله في هذه العبادة، ومثالها مَن دعا غير الله، فقال: يا حسين، مددًا، يا سِيدِي عبدالقادر هب لي ولدًا، يا بدويُّ فرِّج همِّي، يا زينب، يا نفيسة... ونحو ذلك؛ ففي هذه الدعوة لَمَّا دعا غير الله كأنه جعل هذا الغير - مهما كانت رُتبته - مماثلاً لله في هذا الأمر بالدعاء، وإن كان هذا الداعي يَعلم أن هذا المدعوَّ مهما بلغ فلن يبلغ مقام العبودية، ويعلم أنه عبد، لكن لما صرف له حق الله الذي لا يجوز إلا له صار هذا متخِذًا غير الله ممن قصده، ورغب إليه متخِذًا له ندًّا، ولو كانت مرة واحدة، أو في عبادة واحدة؛ لأن الند هو المثيل وإن كان ليس مماثلاً لله من كل وجه. وبالتتبع في المشركين لا تجد أحدًا اعتقد في غير الله أنه مساوٍ لله مِن كل وجه، ولو تأمَّلنا في أهل الشرك، وفي أهل الكفر على اختلاف مِلَلهم، ودركات كُفرِهم ونياتهم، لم نجد أنَّ أحدًا منهم مماثل لله من كل وجه أبدًا، حتى الثنوية من المجوس الذين اعتقدوا خالِقَيْنِ اثنين: النور، والظلمة، لم يعتقدوا أنَّ النور والظُّلمة مُتساويان في كل وجه. وَقَوْلِهِ: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 165]: أندادًا: عبادًا شفعاء شركاء، وفي هذا أن الندَّ والمثيل والسَّمِيَّ بمعنى مُتقارب، وما سبق من قوله: ﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65]، ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 4]، ﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا ﴾ [البقرة: 22] مثال على النفي المُجمَل عن أنَّ شيئًا يُساوي الله أو يُماثله، وأما النفْي المفصَّل فقد قال: وَقَوْلِهِ: ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 111]. وهذا مِن النفْي المَمدوح، وهو أحد نوعَي النفْي، فالله لا ولد له لكَمال فرديته، ولم يكن له شريك في الملك لكمال وحدانيته في ربوبيته، ولم يكن له وليٌّ من الذلِّ، فالوليُّ هو المُعين، والذلُّ هو الافتِقار والحاجة، والْمَلِك أو السلطان في الدنيا يَحتاج إلى أعوان، وزراء، ومستشارين، وعساكر... ونحوهم؛ لأنه محتاجٌ ومفتقر إليهم، ولا يتأتى ملكه وسلطانه إلا بهم، والله تعالى ليس له هؤلاء الوزراء ولا الوسطاء من الذلِّ، فلم يكن له وليٌّ مِن الذلِّ، ولهذا ختمها بقوله: ﴿ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 111]؛ أي: عَظِّمْهُ، ونَزِّهْهُ عن كل نقص تعظيمًا وتنزيهًا. فلله أولياء، وقد اتخذ الله أولياء، لكن من غير حاجة منه إليهم، المؤمنون والموحِّدون أولياء الله، وليست ولاية الله لهم من حاجته إليهم؛ بل مِن غناه واستغنائه عنهم، ومع ذلك يتفضل، ويتكرَّم، ويتحنَّن سبحانه وتعالى فيتَّخذهم أولياء له؛ تفضُّلاً منه عليهم، لا حاجة وافتقارًا منه إليهم، بل هم المُفتقرون المحتاجون إليه، ولهذا ما أبلغه من وصفٍ إذا وصف الله عبدًا بأنه وليه، وأنه له عبدٌ! وهذا كرامة لهذا المؤمن. شروط ولاية الله عز وجل: ولهذا فالولاية يطلبها أهل الإيمان ليتعالوا ويتساموا في درجاتها ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [يونس: 62]، وهم: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [يونس: 63، 64]. وولاية الله على مراتب بحسب هذين الشرطين والوصفين: بحسب الإيمان، وبحسب التقوى، فلا وليَّ لله إلا المؤمن التقي، فكل مؤمن تقي فهو لله عز وجل وليٌّ، ولهذا جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، في الحديث القدسي: ((مَنْ عادى لِي وَليًّا))[5]؛ أي: هذا الذي اتخذه الله وليًّا مِن تفضُّله عليه، لا مِن حاجته وافتقاره إليه؛ لأنه سُبحانه ليس له ولي من الذلِّ - وهي الحاجة والافتقار - كما أن المخلوقين - وإن عظموا في رئاستهم، وملكهم وسلطانهم - يتَّخِذون الأعوان والأولياء؛ من ذلهم وافتقارهم إليهم، وحاجتهم إليهم. [1] رواه البخاري ( 1970 )، ومسلم ( 782 )، من حديث عائشة رضي الله عنها. [2] رواه أحمد ( 6/ 240 )، والحاكم في المستدرك ( 4/ 575، 576 )، عن عائشة رضي الله عنها، وصححه الحاكم. [3] رواه أحمد ( 6/ 258 )، والترمذي ( 3531 )، وصححه الألباني. [4] رواه الترمذي ( 3524، 3525 )، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وصححه الألباني. [5] رواه البخاري ( 6902 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (12) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل وَقَوْلِهِ: ﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [الجمعة: 1]. هاتان الآيتان فيهما تمجيد الله، وتنزيهه عن كل نقْص، وتسبيحه، والتسبيح هو التنزيه ﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾. لو تأمَّلْنا في هذه السور - من أواسط المفصل - نجد أنها مفتتحة بقوله: ﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [الجمعة: 1]، ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الحديد: 1]، هذا التنويع في الأسلوب؛ لأنَّ المسبِّح لله كل ما سوى الله من عاقل ومِن غير عاقل، من مخلوق مكلَّف وغير مكلَّف؛ لأنَّ (ما) تعني الجميع بمعنى الذي، أما (مَن) فتُستخدم في العربية لمن يعقل، لذا تُطلق على المكلَّف مِن الإنس والجن، فهم يسبحون الله؛ أي: إنهم ينزهونه عن النقائص والعيوب. ﴿ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ﴾ [التغابن: 1]: أثبت أن له ملكًا، وأنه له الحمد بأنه المستحقُّ الحمدَ المطلق الكامل من كل وجه، حتى إنَّ حمدَ المخلوق مِن حمْدِه سبحانه وتعالى، وشكر المخلوق من شكره تعالى؛ ففي السنن وفي المسند بإسنادٍ صحيح يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لا يَشكُرُ اللهَ مَن لا يَشكُر النَّاس))[1]؛ لأن شكر الناس مِن شكر الله، وهذا الكمال اللهُ أولى به، فَما صرَفتَه للناس إذا كانوا يستحقونه فالله أولى به. قاعدة المثل الأعلى: وهذا فيه إلماعةٌ لقاعدة من قواعد الصفات، وهي قاعدة المثَل الأعلى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ﴾ [النحل: 60]، وهذه القاعدة تسمَّى قاعدةَ المثل الأعلى، وتُسمى بقاعدة القياس الأولى؛ ولهذا فإن القياس غير مستخدم في باب الصفات وفي العقيدة إلا قياسًا واحدًا وهو قياس الأولى؛ قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ﴾ [النحل: 60]. قياس المثل الأولى هو: كل كمالٍ ثبَت للمخلوق لا نقصَ فيه بوجهٍ من الوجوه فالله أولى به، وكل نقصٍ تنزَّه عنه المخلوقُ فالله أولى بالتنزُّه عنه. ومن الأمثلة على ذلك لكل كمال ثبت للمخلوق: فالعِلم كمالٌ وهو مما يُمتدَح به المخلوق بعكس الجهل، فكل كمال يُمتدح فيه المخلوق بشرطِ ألاَّ يكون فيه نقصٌ بوجه من الوجوه فالله أولى به؛ ولهذا فالله أولى بهذا الكمال (العِلم). والمخلوق يُحمد على صنائعه وهذا كمال، فالله أولى بهذا الكمال من المخلوق؛ لأن لله الحمدَ المطلق، ولهذا قال تعالى - عائبًا مَن أخلَّ بهذا الأمر من عباده - في الحديث القدسي: ((إنِّي والجنَّ والإنسَ في شأنٍ عَظيم؛ أخلُقُ ويُعبَدُ غَيري، وأرزُقُ ويُشكَرُ غيري))[2]، وهذا الظلم في حق الخالق وفي حق المخلوق بوضعِ الشيء في غير موضعه. وفائدة هذا القيد أنَّ كل كمال لا نقصَ فيه بوجهٍ من الوجوه؛ لأن مِن الكمالات ما هي متضمِّنة نقصًا كالنوم، فالنوم كمالٌ والمخلوق الذي ينام أكملُ من المخلوق الذي لا ينام؛ لأن الذي لا ينام مريضٌ بل يَذهب إلى المعالج، فالنوم كمالٌ متضمن افتقارًاٌ ونقصًا، وهو حاجته إلى هذا النوم، فلما تضمَّن هذا النقصَ بوجهٍ من الوجوه كان الله متنزِّهًا عنه، والأكمل من الخلق ذلك المخلوق الذي له ولَد مِن ذلك العَقيم؛ لأنَّ حاجته إلى الولد حاجةُ افتقار، ونقصٌ يكمله هذا الولد، فلما كان هذا الكمالُ مشتمِلاً على نقص كان الله منزَّهًا عنه، والمخلوق المتزوج أكملُ من المخلوق الأَيِّم، فمَن لم يتزوج فإنَّ فيه نقصًا وعيبًا، فكان هذا الكمال متضمنًا على نقص وهو افتقارُ كلٍّ من الزوجين إلى الآخر في قضاء الوطَر في الحاجة، في أنس الحياة، في النسل... إلى غير ذلك، فلما كان هذا الافتقار في هذا الأمر كان الله متنزهًا عن هذا الكمال المشتمل على نقص. والجزء الثالث من القاعدة أن كل نقص تنزَّه عنه المخلوقُ فالله أولى بالتنزه عنه: الكُمَّل من المخلوقين يتنزهون عن الظلم فالله أولى بالتنزُّه عن الظلم، الكُمَّل من المخلوقين يتنزهون عن الغفلة فالله أولى بالتنزه عن الغفلة؛ لأن الله لا يَغيب عنه شيء، الكُمَّل من المخلوقين يتنزهون عن التعب والإعياء فالله أولى من ذلك، فكل نقص تنزَّه عنه المخلوق فالخالق أولى بالتنزُّهِ عنه. ﴿ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التغابن: 1]: قدرته على كل شيء فالله قادر عليها. وَقَوْلِهِ: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1]: أي: تعاظَم وتمجَّد بأنواع المجد وأنواع التقديس وأنواع التنزيه. ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [الفرقان: 2]: فأثبتَ له مُلكًا، ونفَى عنه ولدًا؛ فقال: ﴿ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [الفرقان: 2]؛ لكمال هذه الصفات التي اتصف بها سبحانه وتعالى. وَقَوْلِهِ: ﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [المؤمنون: 91، 92]. في هذه الآيات أنواعٌ من التمجيدات والتنزيهات له إجمالاً وتفصيلاً؛ فقوله: ﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ ﴾ هذا تنزيهٌ تفصيلي، وأن الله ليس له ولد لكمال أحَديَّته، وكمال غِناه، وعدم افتقاره وحاجتِه للخلق وحاجته للولد؛ ﴿ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ ﴾؛ لكمال وحدانيته في عبادته ليس له شريك ﴿ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ ﴾ [المؤمنون: 91]، لو أنَّ الله معه إلهٌ لذهب كلُّ إله بما خلق، وهذا ما بَنى عليه المتكلمون دليلاً، وسمَّوه (دليل التَّمانُع)، فقالوا: لو أن للكون خالِقَين فأراد أحدُهما إمضاءَ شيء وأراد الآخر تسكينَه، فالقسمة العقلية إما أن يتحقَّق مُرادُهما وهذا مُمتنِع؛ لأنه جمَع بين نقيضَيْن فلا يُمكِن أن يكون الشيء متحركًا وساكنًا في آنٍ واحد، أو لا يتحقَّق مُرادهما جميعًا وهذا خِلوٌ مِن النقيضين، فلا يمكن أن يكون الشيء لا متحركًا ولا ساكنًا أو يتحقق مرادُ أحدهما فمَن تحقق مراده فهو الغالب؛ إما يتحرك، أو يَسكن. وأبلغ مِن هذا الدليل هذه الآية: ﴿ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾، واللهُ لم يَعلُ عليه شيء، فدلَّ على أنه الواحد الأحد، الإله الواحد المالك الواحد، الذي ليس له شريكٌ؛ لا في مُلكه، ولا في ربوبيته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في عبادته؛ ولهذا قال: ﴿ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [المؤمنون: 91]. مِن الشِّرك في الربوبية: وممَّن أشرَك مع الله في الربوبية، أو مما يُمثل به على الشرك في الربوبية: المجوسية؛ فقد اعتقدوا أن النور يَخلق الخير، وأن الظلمة تَخلق الشر، وممن أشرك مع الله في الربوبية الدَّهْرِيَّة؛ فقد قالوا: ﴿ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ﴾ [الجاثية: 24]. والدَّهرية هم الملاحدة الآن، الذين يَزعمون أن الحياة تُحييهم، والطبيعة تُميتهم. ومن الأمثلة أيضًا مَن اعتقد أن أحدًا يَنفع أو يَضر، أو يَعلم الغيب فقد شارك الله في الربوبيَّة، مَن اعتقد أن النجوم تؤثِّر في الطِّباع، في الأخلاق، في حوادث الناس فاعتقد مؤثِّرًا مع الله في الربوبية. وشركٌ في العبادة يُفضي إلى الشِّرك في الربوبية، وهذا استنتاجٌ مهم نَعلمه في مسيرة الشرك؛ ذلك أن الشرك إذا وقع في العبادة أفضى إلى الشرك في الربوبية؛ لأنه الآن يَقصِده معه الله، يتدرَّج مِن ذلك إلى أن يعتقد فيه أنه ينفع ويضرُّ مع الله. وَقَوْلِهِ: ﴿ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 74]. أنواع الأقيسة في حقه عز وجل: أي: لا تَجعل لله مثلاً كما تَضربه للمخلوق في مَثل يَستوي فيه أضرابه. وهذا هو القياس التَّمثيلي، أو القياس الشُّمولي المبنيُّ على مقدِّمتين يخرج منهما نتيجة، فالله لا يُضرب له المثل؛ لأنه سبحانه وتعالى له المثَل الأعلى، ولأنه ليس كمِثله شيء وهو السميع البصير؛ ولهذا قال: ﴿ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 74]، ومؤدَّى ذلك أن مَن كان عِلمه قاصرًا لا يصحُّ أن يَضرب المثل وعِلمه قاصر، والله أعلم بنَفسه، وبأسمائه، وصفاته، وأعلم بخلقه مِن خلقه بأنفسهم، بل وبأسمائه وصفاته؛ ولهذا كان أصل أهل السنة ألاَّ نَصِف الله ولا نُسمِّيَه إلا بما سمى أو وصَف به نفسه، ولا نصفُه ولا نسميه إلا بما وصفه به وسمَّاه به أعرَفُ الخلق بالله وهو رسولُه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال: ﴿ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 74]. فاكتفِ مِن العلم بما آتاك الله إيَّاه، ولا تتطاول وتتدخَّل في شيء لم تُعَلَّم إياه وإنما كُتِم عنك هذا العلم؛ فعندئذٍ تزلُّ قدمك، ويسوء فهمك. [1] رواه أبو داود (4811)، وغيره، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني. [2] رواه أحمد في المسند (4/ 276)، والطبراني في المعجم الكبير، مسند الشاميين " (2/ 83)، والحاكم في تاريخ نيسابور، والبيهقي في شعب الإيمان (4/ 134)، وأعلوه بالانقطاع كما في السلسلة؛ للألباني (3371)، لكن معناه صحيح كما دلت عليه الأدلة.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (13) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل وَقَوْلِهِ: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 33]. وعلاقة هذه الآيات بالعقيدة الواسطية أنَّ وصفَ الله، أو تسميتَه بما لم يَصِف به نفسَه، أو يُسمِّ به نفسه، أو يُسمِّه به رسولُه، أو يَصِفْه به رسولُه صلى الله عليه وسلم - أن هذا خوضٌ في الله بغير عِلم، ومن ذلك أن يَضرب لله المثَل وهو لا يَعلم، وهذا ما فعَله المنحرِفون في هذا الباب، وهُم طائفتان؛ أهل التشبيه والتمثيل لَما مثَّلوا الله بالمخلوقين، وهذا مما لا عِلم لهم به، وإنما هذا مِن وصفِ الله بالنقائص، والقولِ على الله بلا علم، والطائفة الأخرى أهل التعطيل بطوائفهم. شجرة التعطيل: التعطيل شجرة؛ جُذورها الجهمية، وساقُها المعتزلة، وفُروعها المتأثِّرون بهم على اختلاف أصنافهم، وإن شئتم فخُذوا مثالاً آخر - لأن ضرب الأمثال يُقرِّب المعانيَ للقلوب وللعقول وللمَدارك -: التعطيل له أُم، ولها بنتٌ كُبرى تُعينها على الشَّر، ولها بِنتان صُغرَيان تُقلدان أختَهما وأمَّهما في الشر. أمُّ التعطيل هي الجهمية، وبنتها الكُبرى التي تَؤزُّها على الشر أزًّا وتُعينها على الشر - وهي خَليفتها في هذا الشر - المعتزلة، وبنتاها الصُّغرَيان جنس المتكلمين من الماتريدية والأشاعرة، هذا يُمكن أن نُسمِّيَه شجرة التعطيل. وهؤلاء المعطِّلة - على اختلاف أصنافهم - جامِعُهم أنهم قالوا على الله بغير علم، فدخَلوا بعقولهم الفاسدة، وبمناطقهم الكاسِدة على الله في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وما يجب عليه وما يَمتنع عليه وما يجوز له، فدخلوا في قوله تعالى: ﴿ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 33]؛ ولهذا عدَّ العلماء علم الكلام نوعًا وضربًا مِن القول على الله بلا علم، ومن ضربِ الأمثال لله تعالى، نعوذ بالله من حال الرَّدى، وطرائق أصحاب الرَّدى. إثبات الاستواء لله عز وجل: وَقَوْلِهِ: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، جَاءَ ذِكْرُ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعٍ: في هذه الجملة من الآيات التي ساقها الماتن رحمه الله إثباتُ صِفَتين من صفاته سبحانه وتعالى: صفة الاستواء على العرش، وصفة علوِّه. وصفة الاستواء من صفات الله الفعليَّة؛ لأنها مرتبطةٌ بمشيئته؛ فهو سبحانه وتعالى استوى على عرشه بعدما خلق السموات والأرض في ستة أيام. والاستواء صفةٌ فِعليَّة لله عز وجل، ويدلُّ على عُلوِّ الله، والفرق بين صفتي الاستواء والعلوِّ أن علوَّ الله ذاتي، فالله قبل خلق السموات والأرض، وقبل استوائه على عرشه... هو في عُلوٍّ على خلقه فهو عالٍ عليهم، فهو صفة ذاتية، ولَما خلق السموات والأرض في ستة أيام استوى على العرش، فالاستواء صفة فعلية. وقد جاء ذِكرُ الاستواء في القرآن في سبعة مواضع؛ يُرتِّب الاستواء على خلقه السمواتِ والأرضَ في سُوَر: في سُورَةِ الأَعْرَافِ قَوْلُهُ: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [الأعراف: 54]. وَقَالَ فِي سُورَةِ يُونس عليه السلام: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 3]. وَقَالَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: ﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [الرعد: 2]. وَقَالَ فِي سُورَةِ طَه: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]. وَقَالَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ ﴾ [الفرقان: 59]. وَقَالَ فِي سُورَةِ: ألم السجدة. ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [السجدة: 4]. وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [الحديد: 4]. في هذه المواضع الستَّة يرتِّب استواءه على العرش بعدَ خلقه السمواتِ والأرضَ في ستة أيام، وفي الموضع السابع في سورة طه ذكَر فيه الاستواءَ مطلقًا، فقال: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]. الاستواء معلومُ المعنى مجهولُ الكَيف، وهذا باتِّفاق السلف؛ فإن معنى الاستواء في اللغة يَدور على أربعةِ معانٍ: الارتفاع، والعلوُّ، والصعود، والاستقرار. أربعةُ معانٍ تَدور عليها معاني الاستواء في لغة العرب؛ يقول ابن القيم في النونيَّة - ذاكرًا معاني الاستواء عند السلف عند العلماء وعند أهل الشأن -: ولَهُم عِباراتٌ عَلَيْها أربَعٌ ![]() قد حُصِّلَتْ للفارِسِ الطَّعَّانِ ![]() وهِيَ اسْتَقَرَّ وَقَدْ عَلا وَكَذَلِكَ ارْ ![]() تَفَعَ الَّذِي مَا فِيه مِنْ نُكْرَانِ ![]() وكذاكَ قد صعدَ الَّذي هُوَ رابِعٌ ![]() وأَبُو عُبَيْدَةَ صاحِبُ الشَّيْباني ![]() يَختارُ هذا القولَ في تَفْسِيرِه ![]() أَدْرى مِنَ الجَهْمِيِّ بالقُرْآنِ ![]() فهذه المعاني الأربعة هي معاني الاستواء في لغة العرب، التي نزل بها، ونطق بها كلام ربنا سبحانه وتعالى؛ فهي عُلوٌّ وارتفاعٌ واستقرارٌ وصعود؛ ولهذا جاء في صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ فِي سَفَرٍ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى دَابَّتِهِ قَالَ: ((سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ)). "استوى على دابته" بمعنى أنَّه عَلا عليها وارتفَع عليها، وصَعد عليها، واستقرَّ عليها، وهذا يدل على معنى الاستواء في اللغة؛ أنه على هذه المعاني، ولهذا رُوِي عن أم سلمة رضي الله عنها بإسنادٍ فيه ضَعف، ورُوِي عن ربيعة الرَّأي ربيعة بن فرُّوخ. ورُوِي بالأسانيد المستفيضة عن الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، لما دخَل عليه ذلك الرجل؛ لأنه نشَأ في زمن الإمام مالك قالةُ التشبيه والتعطيل، وصار لها سوقٌ رائجة - فقال: "يا أبا عبدالله، ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]؛ كيف استوى؟" قال: "الاستواء معلوم، والكيف مَجهول، والإيمانُ به واجب، والسؤال عنه بدعة". ورُوِي عنه أنه أطرَق رأسَه حتى علَتْه الرُّحَضاء - أي: تصبَّب عَرقًا - وغُشِي عليه حتى أفاق، فقال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول"؛ معلومٌ في معناه تَعلمه العرب، والكيف مجهولٌ في كيفية الاستواء؛ فهي مجهولة لا أعلمُها، والإيمان به واجب؛ لأنه جاء في القرآن مِن وصفِ الله نفسَه، وكذا وصَفه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، والسؤال عن الكيفية بدعة، ثم قال: "ما أراك إلا مُبتدِعًا"! فأمَر به فأُخْرِج[1]، وهذا يبين عن مواقف السلف الكثيرة من أهل البدع في هجرانهم، وفي تأديبهم، وفي تعزيرهم. أنواع ذكر الاستواء في القرآن: والاستواء في القرآن متعدِّيًا ب (على)؛ كما جاء: ﴿ عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [طه: 5]؛ أي: علو الله وارتفاعه واستقراره وصعوده على العرش. ويأتي الاستواء متعديًا ب (إلى)؛ نحو: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ﴾ [فصلت: 11]، فإذا عُدِّي الاستواء بإلى فإن معنى الاستواء هاهنا القصد. وخَلقه سبحانه وتعالى السمواتِ والأرضَ في ستة أيام جاءت مفصَّلة في سورتي الدُّخان والزخرف، بأنه خلَق السموات في يومين، والأرضَ في يومين، وسائرَ الخلق في يومين، ولو شاء الله أن يخلقها جميعًا بأمرٍ واحد بـ"كُن" لما أعجَزه ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [النحل: 40]. وهذا الاستواء جاء في هذه الأدلة مبينًا عن هذا المعنى، فلا يَليق أن يُظنَّ بالله أو يُظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم أرادوا بالاستواء غيرَ معناه الظاهر، وأرادوا به معنًى خفيًّا، وهذا هو أعظمُ ظنِّ السَّوء، بل هذا يشتمل على أن القرآن والسُّنة ليس فيهما هدًى إذا كان فيهما شيءٌ على غير ظاهره اللائقِ بالله؛ لأن هذا يُفيد أنَّ الوحيين فيهما التِباس وخَفاء وألغاز، وهذا يتَنافى تمامًا مع ما وصف الله كلامَه القرآن، ووصف الله سُنَّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم التي هي خير البيان. المنحرِفون في صفة الاستواء: 1- الأولى: بدعة الممثِّلة؛ جعلوا استواء الله على عرشه كاستواء الْمَلِك على سَريره، فشبَّهوا استواء الخالق باستواء المخلوق، والعرشُ هو ذلك المخلوق العظيم، الذي هو أعظمُ المخلوقات، المحيط بالمخلوقات كلِّها، ولذلك خصَّه الله بالعلو، والصعود، والاستقرار، والارتفاع عليه، وأصل العرش في اللغة هو السرير، فسرير الملك يُسمى عَرشًا كما سمَّى الله عرش بلقيس عرشًا: ﴿ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا ﴾ [النمل: 41]. وعروشُ الدنيا مختلفة متفاوتة، وعرش الرحمن أعظمُ منها كلِّها، لا ندرك بعقولنا كيفيته أبدًا، وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه: ((وَمَثَلُ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالْكُرْسِي إِلَى الْعَرْشِ كَحَلَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ فِي فَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ))[2]؛ لأن العرش لا يُبْلَغُ كُنهُه، ولا كيفيته، ولا حقيقته في مَدارك العقول، ومبالغ الأفهام، مهما استطالت وتوسَّعَت، فإذا كان هذا في المخلوق (وهو العرش) فالخالق من باب أولى. 2- الثاني: المُعطِّلة، وقد نفَوا الاستواءَ وأنكَروه، وعَطَّلوه عن الله تعالى، وكان لهم في تعطيله مَناحٍ: فمنهم مَن نَفاه بالكلية وهم الجهميَّة، ومنهم مُعتزلة، ومنهم مَن نفاه وأوَّله، وهم في تأويله على أحوال؛ فالإمام أبو الحسن الأشعري وأصحابه ما حَرَّفوه بتحريف المتأخرين، وإنما قالوا: "إن الاستواء فِعلٌ يَفعله الله بالعرش يُسمى استواء"، وهذا التأويل أخَفُّ من تأويل المتأخرين من أتباعه، الذين حرَّفوا الاستواء كما حرَّفَت اليهودُ أمر الله: ﴿ وَقُولُوا حِطَّةٌ ﴾ [البقرة: 58]؛ لأن المتأخرين قالوا: الاستواء هو الاستيلاء على العرش. فمعنى قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]؛ أي: استولى على العرش. واستشهدوا على هذا بقول شاعر أنه قال: قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ♦♦♦ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ أَوْ دَمٍ مِهْرَاقِ وهذا لا يعارض ما صحَّ في اللغة والشرع، ودرَج عليه السلف؛ من أنَّ الاستواء هو العلوُّ والارتفاع، والظهور والصعود. ثم أيضًا كيف تُترك لغةُ العرب المنتشرة الواسعة الذائعة في معاني الاستواء بأنه العلو، والارتفاع، والصعود، والاستقرار - إلى هذا المعنى النادِّ عن هذه اللغة، بِبَيتٍ حَمَّالٍ عدَّةَ أوجُه؛ منها العلو والظهور، وبه يكون للبيت معنى صحيح، فيكون قوله: قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ بمعنى أنه قد عَلا عليه عُلوًّا بتغَلُّب لَمَّا أن نازعَهم ونازعوه، فغلبهم ولم يغلبوه، وهؤلاء المتأخرون الذين قالوا: إن الاستواء بمعنى الاستيلاء. وسمَّوه تأويلاً، هو تحريفٌ للكلام عن معناه، وعن ظاهره اللائق، وما هذه اللام في زيادتها بالاستيلاء بأقبحَ مِن نون اليهود لَمَّا أمرهم الله أن يقولوا: "حِطَّة"، فزادوا نونًا وقالوا: "حنطة"، وهذه مِن آثار جنايات التأويل على صفات الله وأسمائه، بل وأخباره ووعيده. هذه الصفة معقد افتراق واختلاف بين أهل الإثبات؛ أهلِ السُّنة والجماعة، وبين مُخالفيهم من المنحرفين في هذا الباب (باب الأسماء والصفات) من الممثِّلة والمعطِّلة. [1] تقدَّم تخريجه (22). [2] رواه البيهقي في الأسماء والصفات (404 - 405)، وابن أبي شيبة في كتاب العرش (1/ 114).
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (14) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل النوع الثاني من الأدلة أدلة بإثبات علوِّ الله على عرشه وعلى خلقه، والعلوُّ من صفات الله الذاتية، وقد مرَّ علينا أن العلو ينقسم إلى ثلاثة أنواع: 1- النوع الأول: علوُّ القدر والمنزلة. 2- والثاني: علوُّ القهر والغَلَبة، وكِلاهما - بالاتفاق - لله تعالى، لم يُنازِع فيهِما إلا الشُّذاذ. 3- والنوع الثالث: علوُّ ذات؛ بأنَّ الله بذاته على خَلقِه، فلا يَعلو ذاتَه شيءٌ مِن خلقه، وهذا الذي وقَع فيه انحرافُ الحلولية من الجهميَّة والمعطِّلة من المعتزلة والمتكلمين وأذنابهم. أنواع أدلة العلو: والأدلة التي جاءت في إثبات علوِّ الله - وهي صفة ذاتية مُلازِمة لذاته أزَلاً وأبدًا - أدلةٌ كثيرة، يقول ابن القيم في كتابٍ صنَّفه - لهذه المسألة فقط تأصيلاً لها وتفريعًا وردًّا على المنحرفين فيها - وهو كتاب (اجتماع الجيوش الإسلاميَّة على غزو المعطِّلة والجهميَّة)، ذكَر فيه وفي غيره أنَّ الأدلة في القرآن على علوِّ الله الذاتيِّ فاقَت على الأَلْفِ دَلِيلٍ، وأن الأدلة في السُّنة فاقت - لمَن عدَّدها - على ستَّة آلاف دليلٍ في إثبات الله علو الله تعالى. والأدلة في إثبات العلو خمسة أنواع: من الكتاب العزيز - وهي أنواعٌ كما سيأتي التنويه علَيها - ومن السُّنة الصحيحة، ومن الفطرة السَّليمة، ومن الإجماع، ومن العَقل. أما أدلَّة الوحي فجاءَت بأنواعٍ كثيرة، عدَّدها ابنُ القيِّم في (النونية) إلى واحدٍ وعشرين نوعًا، ولَخَّصها شارحُ الطحاوية في سبعةَ عشَر، أو ثمانيةَ عشَر نوعًا، والنونيَّة لابن القيم هي خُلاصة مَضامينِ أربعةِ كتبٍ مبسوطةٍ له، وهي: (الصواعق المرسلة، واجتماع الجيوش الإسلامية، وشرح الأسماء الحسنى، وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح). وأنواع الأدلَّة قسَّمَها إلى واحدٍ وعشرين نوعًا؛ مِن ذلك أن الله اختصَّ بعضَ خَلقِه برَفعِهم إليه، ومثاله هذه الآية: وَقَوْلِهِ: ﴿ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ [آل عمران: 55]: فعيسى عليه السلام توفَّاه الله توفِّيًا خاصًّا، اختلَف العلماءُ في مَعناه، لكن مجموع أقوالهم أنه تَوفٍّ خاصٌّ، وليس هو الموتةَ التي كتبَها الله على بَني آدَم، وإنما هو توَفٍّ خاص، كما أنَّ النوم بالليل يُسمى توفِّيًا خاصًّا؛ ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ﴾ [الزمر: 42]، فتوفَّاه توفيًا خاصًّا، فرفَعه إليه؛ أي: إلى العلو، وهذا دلالةٌ على علوِّ الله، ومثاله في الصحيح: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: أَنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي)) ، وفي رواية: ((غَلَبَتْ غَضَبِي))، وقال الله في عيسى: ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ [النساء: 157]، ثم قال: وَقَوْلِهِ: ﴿ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ﴾ [النساء: 158]: فالرفع يدلُّ على أن الله في العلو، ومن ذلك أيضًا أدلةُ إثبات أنَّ مِن الأعمال ما تُرفع إليه، كما في هذه الآية: وَقَوْلِهِ: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ [فاطر: 10]: ففيه إثباتُ علوِّه سبحانه بصُعود الكَلِم الطيِّب إليه، وكذا رفع العمل الصالح إليه، ولو كان في السُّفْل، أو في كل مكان لَمَا كان للرَّفع والصعودِ إليه معنًى، وقد يَقول قائل: يرفعه بمعنى يُعْلي قدرَه، ويثيب فاعله؛ لكن الشاهد في قوله: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ﴾ [فاطر: 10]، فذَكَر أن الكلم الطيِّب في صعودٍ إلى الله؛ لأنه في العلو. نُفاة العلوِّ أشباهُ فرعون: ومِن أدلَّة أهل السُّنة ما قَصَّه الله علينا مِن مُحاوَرة فرعونَ وهامان، وهذه مما يُردُّ بها على الفِرعَونيِّين نُفاةِ العلو؛ لأن الموسَويِّين، والمحمَّدييِّن يُثبِتون العلو؛ وذلك أن فرعون قال كما في الآية: وَقَوْلِهِ: ﴿ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ﴾ [غافر: 36، 37]. فموسى عليه السَّلام أخبرَ فرعونَ أن الله في العلو، فطلبَ فرعونُ من وزيره هامانَ أن يَبنيَ له صروحًا (أماكنَ مرتفعة عالية)؛ يَطْلُع عليها؛ لعلَّه أن يبلغ الأسباب - أسبابَ العُلوِّ - ليَطَّلع فيَرى إلهَ موسى! ﴿ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ﴾ [غافر: 37]، موسى أخبر فرعونَ أن ربَّه في العلو، كما أخبَرَنا نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم أنَّ الله في العلو، فالإخبار بأن الله في العلوِّ طريقةُ الأنبياء التي أخبَرَت بها أُممَها، ونفيُ علوِّ الله طريقةُ أعداء الرُّسل؛ مِن فرعون ومَن تشبَّه بقولِ فرعون. أنواع (في) في أدلة العلو: ومن أدلة إثبات العلو أن الله أخبر أنه في العلو؛ كما في قوله تعالى: وَقَوْلِهِ: ﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ﴾ [الملك: 16، 17]: يُراد بالسماء هنا مَعنيان، وهذان المعنيان متنوِّعان في فَهْمِ الآية وتفسيرِها غيرُ متضادَّيْن. 1- فإما أن يُراد بالسماء العلوُّ وهذا كثير، فالسماء تُسمى السَّماء والمراد بها العلو، فتكون (في) الظرفيَّةُ على بابِها؛ ﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ﴾ [الملك: 16]؛ أي: في العلو. 2- وقد يراد بالسماء السماءُ المبنية، فيكون معنى ﴿ فِي السَّمَاءِ ﴾: على السماء، فتكون (في) ليسَت على بابها في الظرفيَّة، ولكن بمعنى (على)، وكثيرًا ما تأتي (في) الجارَّةُ بمعنى (على) الجارَّةِ؛ قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ [الروم: 9]؛ أي: عليها. ومِن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ﴾ [طه: 71]؛ أي: على جذوع النخل. وكِلا المعنيَينِ حق، وبينَهما تنوُّع، وهذا مِن تفاسير السَّلف المتنوِّعة في الآية الواحدة، فهذه أدلَّةٌ جاءت على إثبات علوِّ الله تعالى على خلقه. أشهرُ أدلَّة السُّنة في إثبات علوِّ الله عز وجل: وفي السُّنة أدلَّة كثيرة، ومِن أشهَرِها حديثُ مُعاويةَ بن الحكَم السُّلميِّ رضي الله عنه، الْمُخَرَّجُ في صحيح مسلم: أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمَهُ، فَعَدَا الذِّئْبُ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَأَكَلَهَا، فَلَمَّا جَاءَتْ إِلَيْهِ - وَقَدِ انْتَقَصَ غَنَمُهَا - سَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَتْهُ، فَصَكَّها صَكَّةً عَلَى وَجْهِهَا - وهي جارية صغيرة - ثُمَّ نَدِمَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَكَلَّمَ فِي صَلاتِهِ... وكان في قصة كلامه في صلاته بعدما عطس أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كَهَره، ولا نهَره، ولا عنَّفه، وإنما قال له: ((إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ؛ إِنَّمَا هِيَ لِلتَّسْبِيحِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ)). ثم أخبَره بهذا الخبر، فقال: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَهَا، فَقَالَ: ((ائْتِنِي بِهَا))، فَلَمَّا جَاءَ بِهَا قَالَ لَهَا صلى الله عليه وسلم: ((أَيْنَ اللهُ؟)) - وهذا سؤالُ اختبار على إيمانها لأنَّه سيُعتِقها - قَالَتْ: اللهُ فِي السَّمَاءِ. وَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ لَهَا: ((مَنْ أَنَا؟)) قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: ((أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ))[1]. وشَهِد بإيمانها بما دلَّت عليه الفِطرةُ مِن أنَّ الله في السَّماء، وأنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديثُ أشَدُّ ما يَكون على أهل التعطيل، ونُفاةِ عُلوِّ الله، ولهذا يَهرُبون منه، وتشمئزُّ وجوههم وقلوبهم مِن ذِكْره وقراءته وتَرْداده - وافطِنوا ذلك إذا ابتُلِيتم بهم - ولهذا حرَصوا على تأويلِه، وصَرْفِ معناه، واختلاقِ الأساليب الكثيرة، والتأويلات الفاسدة، والآراء الشاذَّة والغريبةِ في تحريفه عن مَعناه، حتَّى أتَوا بما يُضحِك أهلَ العلم. دلالة خطبة عرَفةَ على العلوِّ: ومن أدلة إثبات العلو من السُّنة ما جاء في المشهَد العظيمِ في يوم عرَفة، لما خطَب النبيُّ صلى الله عليه وسلم الناسَ خُطبتَه العظيمة العَصْماء، التي هي حقًّا أعظمُ مَواثيقِ حقوق الإنسان؛ قال في آخرِها: ((أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ غَدًا عَنِّي مَسْؤُولُونَ، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟)) قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ، وَأَدَّيْتَ، وَنَصَحْتَ. فَرَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبَّابَتَهُ - تُسمى بالسبابة، وتُسمى بالموحِّدة؛ لأنه إذا تَشهَّد رفعَها في خُطَبه - إِلَى السَّمَاءِ قَائِلاً: ((اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ، اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ، اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ)) يُكَرِّرُهَا صلى الله عليه وسلم ثَلاثًا، ثُمَّ يَنكُتُها إلى النَّاسِ))[2]. ولو لم يكن الله في العلوِّ لَمَا أشار رسولُ الله إلى العلو، لكنَّه عَلمَ وأيقن، وخاطبَ الناسَ كلَّهم أن الله في العلو، ولهذا استَشْهَده على الناس، فإذا أراد الناسَ قال: ((اللهمَّ فاشهد)) فنَكَتها إليهم أنه بلَّغ ونصَح وأدَّى صلى الله عليه وسلم، لو كان الرسول يُريد مِن هذا الفعل خِلافَ الظاهر، وخلافَ المعنى المتبادِر، لكانَ اللائق أن يُبيِّنه للناس، ويُخبرَهم إياه في هذا المشهد العظيم - الذي أقلُّ ما قيل في حُضوره: تِسعون ألفًا - أمَا وإنه لم يَفعل ذلك كان فِعله غايةً في البيان والإيضاح أنَّ الله عز وجل على عَرشِه، وهذا ما تدلُّ عليه الفِطَرُ السليمة، السالمةُ من الشُّكوك، ومِن مَذاهب الانحرافِ والبِدَع، والتمثيلِ والتعطيل؛ فإنها مُسْلِمَةٌ مُقِرَّةٌ بأنَّ الله في علوِّه، أمَّا من مُسِخَت فطرته فإنَّه يَعتقد أن الله في السُّفل، حتى قيل: إنَّ بِشْرًا المريسيَّ المعتزلي يَقول: سبحان ربِّي الأسفل![3] قبَّحَه الله وأخزاه. ومِن أدلة إثبات العلوِّ أيضًا: اتِّفاق العُقَلاء مِن أتباع الأنبياء على أنَّ الله في العلو، ولا عِبرةَ بالمخالف إذا شذَّ عنهم، وهذا ما اتَّفَق عليه سلَفُ هذه الأمة مِن غيرِ ما نَكيرٍ، ولا خلاف. النوع الخامس دليل العقل؛ وذلك أنَّ أشرف الجهات العلو، وهي الجهة اللائقة بالله تعالى، فالجهات ستٌّ: أمامٌ وخلف، ويمينٌ ويسار، وفوقٌ وتحت. أشرَفُها العلوُّ وهو اللائق به سبحانه وتعالى، ولا يَحوي اللهَ مخلوقٌ، بل الله هو الذي فوقَ المخلوقات. ومن أدلَّة الفطرة: قصةٌ مشهورة، جاءت عن أبي عَليٍّ الهمَذانيِّ أنه كان في مجلسِ إمام الحرَمَين أبي الْمَعالي الجُوينيِّ - وهو مِن أساطينِ الأشاعرة وعُلَمائهم، ومُنَظِّرِيهم، وهو الذي جرَّ الأشاعرةَ بمَذهبِهم إلى طريقة المعتزلةِ والتأويل بما عليه عامَّة المتأخِّرين، وهو الذي مَزَج أصولَ الفقه بعلم الكلام في كتابه المشهور: "البرهان في أصول الفقه" - في درسه أخذ يَجلِب الأدلَّةَ على نفيِ عُلوِّ الله، وتأويل استوائه على عَرشه، وقد أُوتِي قدرةً عَقليَّة في الكلام والمناظَرة، ويَلْوي أعناق الأدلة، وبضاعتُه في الحديث بِضاعة مُزْجاة، فكان إذا أشكَل عليه كتَب به إلى زَميله الإمام أبي بكر محمَّدِ بن الحسين البيهقيِّ يَسأله عنه. وهو في هذا الخِضَمِّ - تأويل وصَرْف الأدلة عن معناها إلى مذهبه الرَّديء - قال له تلميذُه الهمَذاني: "دَعْنا - يا أستاذ - من هذه الأدلة، لكن أخبِرْنا عن هذه الضرورة التي يَجِدها أحَدُنا في قلبه إذا دعا ربَّه بتَوجُّهه في دُعائه إلى العلو، فكيف نُجيب عنها؟!". ما مِن داعٍ يدعو ربَّه إلا وتتَّجِه فِطرتُه ونيته إلى العلو؛ إلى السماء. فوضَع يدَه على رأسه وقال: "حيَّرَني الهمَذاني، حيَّرَنِي الهمذاني!"[4] ؛ أي: إنه أتاني بما لا أستطيع دفْعَه، وهذه جناية التأويل على شريعة الله وأدلَّته، والله المستعان. المنحرفون في علوِّ الله عز وجل: والمنحرفون في العلوِّ على ثلاثة مذاهب: 1- المذهب الأول: الممثِّلة؛ قالوا: إن الله حالٌّ في خلقِه؛ ولهذا ظهر عندهم مذهَبُ الحلول، ومذهب الاتِّحاد الذي أفضى إلى مَذهبِ وَحْدة الوجود. 2- المذهب الثاني: مُتقدِّمو الجهمية وهم أصحاب مذهب الحلوليَّة؛ قالوا: إن الله مع خلقه، حالٌّ بهم. وعلى هذا متأخِّرو الأشاعرة والماتريدية، الذين يَعتقدون أن الله في كل مكان؛ ولهذا لو لم يكن مِن لَوازم هذا المذهب الخبيث إلا أن يَكون الله في الأماكنِ القذرة والنجسة؛ كالحمامات، وأدوار السِّباع النجسة؛ كالكلاب، والذئاب، والخنازير - لكفى بهذا القول فسادًا وقبحًا. 3- المذهب الثالث: مذهب النُّظَّار؛ مذهب المعتزلة، ومنهم الزيديَّة، والإمامية، ومتكلِّمو فلاسفة الأشاعرة والماتوريدية، الذين قالوا: إن الله لا داخِلَ العالم، ولا خارجَه، ولا فوقَ ولا تحت، ولا مُماسَّ ولا مُحايِد! وهذا حقيقته المعدوم، فهرَبوا مِن قبيح مذهبهم، وشَناعة أصولهم الفاسدة؛ من تشبيه الله بالموجودات، فشبَّهوه بما هو أقبحُ منها؛ بالمعدومات، والله جلَّ جلالُه عَلا خلقه جميعًا قبلَ خلقِ السَّموات وبعدَ خلقِ السموات، وحديث أبي رَزينٍ العُقَيليِّ لَمَّا جاء أهلُ اليمن، فقالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ كَانَ اللهُ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ؟ قَالَ: ((كَانَ فِي عَمَاءٍ؛ مَا فَوْقَهُ عَمَاءٌ، وَمَا تَحْتَهُ عَمَاءٌ))؛ أي: كان في العُلوِّ المطلق؛ بأنه لا يَحويه مخلوق، وليس فوقَه مخلوق. [1] رواه مسلم (537)، من حديث معاوية بن الحكم السُّلَمي رضي الله عنه. [2] رواه مسلمٌ (1218)، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما. [3] انظر: شرح العقيدة الطحاوية. لابن أبي المعز (2/ 448). [4] انظر: شرح العقيدة الطحاوية. لابن أبي المعز (2/ 445).
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (16) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل إثبات صفة الكلام لله عز وجل .. وَقَوْلِهِ: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122]، وَقَوْلِهِ: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]، وَقَوْلِهِ: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ﴾ [المائدة: 116]، وَقَوْلِهِ: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾ [الأنعام: 115]، وَقَوْلِهِ: ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164] وَقَوْلِهِ: ﴿ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 253]، وَقَوْلِهِ: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ﴾ [الأعراف: 143]. هذه الأدلَّة ساقها شيخ الإسلام لإثبات صفة الكلام، وأن الله يتكلَّم، وأن له كلامًا هو صفةٌ مِن صفاته، وأن هذا الكلام ليس خاصًّا بالقرآن؛ لأن الله كلَّمَ آدَم وناداه، ونادى حواء، وكلم موسى، وناداه، وناجاه، وكلم عيسى، وأن الله كلامه يُسمى كلامًا، وحديثًا، وقولاً، ونداءً، ومناجاة، وهذه أنواعٌ من الكلام؛ ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾ [الأنعام: 115]، ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122]، ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]، ﴿ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 95]؛ فكيف يَصدُق وهو لا يتكلَّم؟! ففي هذا إثباتُ الكلام لله تعالى صفةً من صفاته، والمؤلِّف هنا اختصَر، وإلاَّ فإن هناك أدلةً دلَّت على الكلام، ومن ذلك أن الله عابَ على أصنام المشركين أنها لا تتكلَّم، وعاب ذلك على عِجْل السامريِّ أنه لا يَرجِع لهم قولاً، إذا كانت هذه لا تتكلَّم ويُدَّعى فيها الإلهية دلَّ على عجزها وعلى نَقصِها؛ ﴿ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا ﴾ [طه: 89]، وأنهم لا تكلمهم: ﴿ فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 63]، دلَّ على أنها لما كانت لا تَنطِق دلَّ ذلك على عجزها، وأنها لا تستحق أن تكون ربًّا، فدل على أن مِن معاني الربوبيَّة الكلام. كلام الله قديم النوع، متجدد الآحاد: وكلام الله تعالى مَذهَب أهل السُّنة فيه أن الله يتكلَّم بما شاء، بأيِّ شيءٍ يَشاؤه من أمر ونهي، ولا يتكلم إلا بالحسَن، فلا يكون في كلام الله قُبح، ولا يكون في كلام الله ما يُستحى مِن ذِكْرِه، ويتكلم كيف يشاء، لا نَعلم كيفيَّة كلامه، ويتكلم سبحانه وتعالى إذا شاء؛ ولهذا فصفة الكلام صفة ذاتية من حيث النوع، متعلقة بذات الله أزلاً وأبدًا، وهي صفة فعلية من حيث الأفرادُ - أي: من حيث أنواعُ الكلام - تكلم بالتوراة بعدما تكلَّم في صحُف إبراهيم، وتكلم بالإنجيل بعد كلامه بالتوراة، وتكلم بالقرآن بعد كلامه بالإنجيل، ويتكلم يوم القيامة غيرَ كلامه في الدنيا. أنواع كلام الله عز وجل: كلام الله أنواع؛ فهو قول، وهو حديث، وهو نداء (بصوت عالٍ)، وهو نِجاء (بصوت منخفض)، وكلاهما ثبت لموسى عليه السلام: وَقَوْلِهِ: ﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ﴾ [مريم: 52]، وَقَوْلِهِ: ﴿ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشعراء: 10]. وَقَوْلِهِ: ﴿ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ﴾ [الأعراف: 22]: وهذا في حقِّ آدم وحواء، ويُنادي أهل النار: وَقَوْلِهِ: ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 65]. فهذا أنواع من النداء. كلام الله بحرف وصوت: ومِن ذلك أخَذ العلماءُ أنَّ كلامَ الله بحرفٍ وصوت، بحرف لأن الكلام لا يكون كلامًا مفهومًا حتى يَشتمل على حروف تتكوَّن منها الكلمات، وقد دل على ذلك قوله تعالى: ﴿ الم ﴾ [البقرة: 1]، ﴿ المص ﴾ [الأعراف: 1]، ﴿ المر ﴾ [الرعد: 1]؛ فإن هذه الحروف التي جاءت في أوائل السور مَعناها تحدٍّ وإعجازٌ لهؤلاء الفصحاءِ البلغاء أنَّ هذا الكلام الذي تُحُدُّوا به من جنس حروفهم التي يتكلمون بها، وفي الصحيح من حديثِ ابن مسعود رضي الله عنه: قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ حَسَنَةً؛ لا أَقُولُ: ﴿ الم ﴾ حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ))[1]، والذي قال هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أعرف الناس بالله، وهو بصوت؛ لأنه جاء في الصحيح: ((أَنَّ اللهَ يَتَكَلَّمَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِكَلامٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ))[2]، وفي آية سبأ: ﴿ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [سبأ: 23]؛ فالملائكة تَسمع كلامَ الله، وتَضرِب بأجنحتها خُضْعانًا لقوله، وتخشع لأنها سَمعَت كلام الله تعالى، فكلامُ الله بحرف، وكلامُ الله مسموع؛ كما دلَّت على ذلك الأدلة، ولو لم يكن لَمَا فُرِّق بين النِّداء وبين النِّجاء؛ فالنداء بصوت مرتفع، والنِّجاء لا يسمعه إلا الْمُناجَى وحده، وهذا في أدلة إثبات كلام الله. وكلام الله يدل على كماله؛ لأن الذي لا يتكلَّم عاجز، إما مِن عدم القابليَّة للكلام؛ كالجدار، والجمادات - وإن كانت الجمادات صحَّ عنها أنها تتكلم بتسبيح الله، بكلامٍ لا نَفقهُه ولا نفهمُه - أو الكلام ممن هو عاجز عن الكلام خرَسًا، والله له الكمال، ويتنزه سبحانه وتعالى عن النقص. المنحرفون في صفة الكلام: الذين انحرفوا في كلام الله: الجهمية، والمعتزلة، والفلاسفة، والباطنية، ولكن الجهمية والمعتزلة أعظم مَن انحرف في كلام الله، وجرُّوا على الإسلام والمسلمين أعظمَ بَليَّة، وما محنة الإمام أحمد ومحنة أهل السُّنة في زمنه عن أخباركم ببعيدة، ووقف أهل السنة لها هذا الموقف. آثار نفي الكلام عن الله عز وجل، ونفي صفة الكلام عنه: يَنتُج من الزَّعم بأن الله لا يتكلم، أو أن كلامه مخلوق كسائر خلقه - لَوازمُ خطيرة؛ منها: أولاً: تكذيب الأدلة؛ لأن الله يقول: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ﴾ [آل عمران: 55]؛ كأنهم يقول: ما قال الله: يا عيسى! وأن موسى ما خاطبه ربُّه، وإنما خاطبَته الشجرة، وليس معقولاً أن تَقول الشجرة: ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ﴾ [طه: 14]؛ هذا شرك، وحاشا ربنا عن ذلك، والله يقول: وَقَوْلِهِ: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 6]: ما قال: خلق الله. فأضاف الكلام لله. وقال: وَقَوْلِهِ: ﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 75]، وَقَوْلِهِ: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ﴾ [الفتح: 15]، وَقَوْلِهِ: ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾ [الكهف: 27]: وقال: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54]، ففرَّق بين الخلق وهي المخلوقات، وبين الأمر الذي هو كلامه، ومخلوقاتُه تكون بكلامه. اللازم الثاني: وصفُ الله بضدِّ الكلام وهو العَجْز والخرس؛ تعالى الله عن قولهم علوًّا عظيمًا. اللازم الثالث: إبطال الشرائع وإبطال الوحي؛ فالقرآن عندَهم ليس كلامَ الله، وهو خلقٌ كسائر خَلقِه لم يَبْدُ القرآن مِن الله، ولا يَرجع إليه، وفي الأحاديث أنَّ القرآن كلامٌ من الله بدا؛ أي: ظهَر؛ بدا من البدُوِّ، وهو الظُّهور، وبدأ ابتدأ الله الكلامَ به، وكلاهما معنَيان صَحيحان، دلَّت عليهما الأدلة، وإليه يَعود (في آخر الزمان)، وذلك إذا استغنى الناسُ عن كلام الله بغيره. اللازم الرابع: أنه يَلزم مِن نفيِ الكلام صفةً من صفاته إبطالُ الشرائع كلها، فلا أمر ولا نهي. اللازم الخامس: التحلُّل من هذه الشرائع، وهذا المعنى الذي فطن له العلماء، ووقَفوا له هذا الموقف العظيم، حتى بذَلوا في ذلك دماءهم، وذممَهم، وأعراضهم، وثبتهم الله، حتى إن الإمام أحمد قال لمناظريه في حضرة الواثق: "القرآن مِن عِلم الله، فمَن زعَم الله أن عِلم الله مخلوقٌ فقد كفَر؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ [آل عمران: 61]، فسَمَّى الله القرآن علمًا". ومِن المذاهب الأخرى مِن مذاهب المبتدعة مذهبُ الأشاعرة، الذين قالوا: إنَّ القرآن الذي معنا عبارةٌ أو حكايةٌ عن كلام الله، إنَّ كلام الله هو المعنى الذي قام في نفسِه، أما الذي سَمِعه جبريلُ وأسمَعَه محمدًا فليس هو عين كلام الله، وإنما عبارةٌ وحكايةٌ عن كلام الله! ولهذا فقولهم هذا يَؤُول إلى قول الجهميَّة المعتزلة، بأن الذي معَنا مخلوق، وليس كلامَ الله حقيقة، وهو ما صرَّحَت الماتوريدية، فكانوا بهذا المذهب الفاسد مِن إخوانهم الأشعرية. وقولهم بالكلام النَّفْساني، أو الكلام المعنوي فهذا القول مِن أمكَرِ الأقوال؛ لأنه استِخْفاء، كقول الواقفة: لا أقول: كلام الله مخلوق، ولا غير مخلوق. فهذا أشدُّ ممَّن صرح بمذهبه، وشيخ الإسلام له ردٌّ عليهم في كتاب كبير، وهو كتابه (التسعينية)، وكذا له ردٌّ على ما قال بالنفساني: تِسْعون وَجْهًا بَيَّنَتْ بُطْلانَهُ ♦♦♦ أَعْني كَلامَ الْحَقِّ ذا الوَحْدَانِي ونَجد في بعض الأسانيد أسانيد القَّراء الإجازات أنَّها لما كانت مَدارها على كثيرٍ من هؤلاء الأشاعرة مُنتهاها هكذا: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام، عن اللوح المحفوظ، أو عن اللَّطيفة، أو عن الهواء؛ وذلك لِيَنفوا أن يَكون جبريلُ سَمع الكلامَ مِن الله؛ لأنَّ مِن مُعتقَدِهم ومذهبِهم المبتدَعِ أنَّ جبريلَ ما سَمع الكلام النفسيَّ - وأنَّى له ذلك أن يَسمع كلامًا هو معنًى نفسيٌّ في ذات الله؟! - فيكون الذي معَنا عبارةً وحكايةً عن كلام الله، فيكون لازمُ مذهبِهم أن هذا الذي معَنا كلامٌ مخلوق، ليس هو عينَ كلام الخالق، الذي ليس بِمَخلوق. ولا بد أن تنتبَّه إلى الفرق بين القراءة والمقروء، واللفظ والملفوظ، والتلاوة والتالي، والحافظ والمحفوظ. فإن المحفوظ المتلوَّ المقروء الملفوظَ هو عينُ كلام الله، أما الحافظ والقارئ والتالي والسامع فهو أنا وأنت وغيرنا من المخلوقين، والإمام أحمد رحمه الله شدَّد على مَن قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ أن هذا في مقام الإلباس والتلبيس، أما إذا قال: إنَّ فِعلي وحركةَ لساني وخَطَّ يدي وحفظي هذا مِن فعلي، وأنا مخلوق وفِعلي مخلوق فهذا لا إشكال فيه، أما المقروء المحفوظ الملفوظ عين كلام الله، فهذا ليس بمخلوق، وهذا عينُ ما قاله الإمام أحمد، ومضى عليه أئمة السُّنة بعده؛ كالإمام البخاري، وغيره. أدلة إثبات صفة الكلام تثبت صفة العلو: وَقَوْلِهِ: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ﴾ [الأنعام: 92]، وَقَوْلِهِ: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [الحشر: 21]، وَقَوْلِهِ: ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ﴾ [النحل: 101 - 103]. هذه الأدلَّة فيها إثباتُ أن القرآن الذي هو كلامُ الله أنه منزَّل من عند الله، وفي هذا إثباتُ صِفَتَين: إثبات صفة علوِّ الله؛ لأن القرآن نزَل من عنده، والتنزُّل يكون مِن أعلى إلى أسفل، وفيها إثباتُ أن الله متكلِّم؛ ولهذا مَن نفى هاتين الصفتين: العلو والكلام فما قدَر الله حقَّ قدره؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى ﴾ [الأنعام: 91]؛ لأنه إذا نَفى عُلوَّ الله، ونفى أن يَكون الله متكلمًا فقد وصَف اللهَ بالنَّقائص، ولم يَقدُر الله حقَّ قدره، وهذا يُفضي إلى وصفِ الله بأقبح أوصاف التَّعطيل، وهو العبَث، كما يُفضي إلى أن الله في السُّفل، وأن الله لا يتكلَّم، فالقرآن مُنزلٌ من عند الله، سَمعه جبريل من الله، وأسمعَه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ففي هذا إثباتُ أن القرآن منزل. نزول القرآن: وقد نُزِّل القرآن حسب الحوادث منجَّمًا حسب المناسبات، في ثلاث وعشرين سنة، والكتب التي قبلَنا أُنْزِلت جملة واحدة؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 136]، والفَرق بينهما أنه لما جاء ذِكْر القرآن قال: نزَّل؛ بالفعل المضعَّف، الذي دلَّ على أن النزول مُتكرِّر بحسَب الحوادث، ومنجَّمًا بحسب المناسبات، والكتاب الذي أُنزل مِن قبل، فجنس الكُتب التي قبلنا - وهي كثيرةٌ - لا نَعلم منها إلا أربعة: صحُف إبراهيم على إبراهيم، والزَّبور على داود، والإنجيل على عيسى، والتوراة على موسى، ولله كتبٌ غيرها لا نَعلَمها، نزلَت جملة واحدة. شبهة والرد عليها: الجهمية قالوا: إن القرآن مضافٌ إلى الله في هذه الآيات إضافةَ خَلق؛ كقوله: ﴿ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 6]، وقولِه: ﴿ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ﴾ [الشمس: 13]، وقوله: ﴿ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ ﴾ [البقرة: 125]، وهذا مِن جَهلِهم، وعُجمتِهم في عدَم فَهمِهم كلامَ الله عز وجل؛ لأنَّ المضافَ إلى الله في الأدلَّة نوعان: 1- النوع الأول: أعيان؛ كالناقة والبيت والكعبة والمساجد بيوت الله، فهذه أعيانٌ تُضاف إلى الله، وهي مخلوقة، لكن إضافتها إلى الله إضافةُ تَشريفٍ وتكريم. 2- النوع الثاني: معاني؛ أي: إنها لا تَكون أعيانًا مستقلَّة موجودة بذاتها، وإنما هي معنًى كعِلْم الله، وسمع الله، وبصَر الله، وحياة الله، وكلام الله، فهذه مَعانٍ أُضِيفَت إلى الله، وكل معنًى أُضِيف إلى الله فإنه صفةٌ من صفاته تعالى. [1] رواه الترمذي (2910)، والحاكم (1/ 555)، وصححه، وصححه الألباني. [2] متفق عليه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (17) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل إثبات رؤية الله بالأبصار يوم القيامة وَقَوْلِهِ: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23]: فيها إثباتُ صفةِ رؤية الله عز وجل عيانًا بالأبصار يوم القيامة، وهي صفة التجلِّي لله عز وجل، وقد دلَّ عليها القرآنُ في آيات كثيرة، وقد جمَعها الشيخ هاهنا في أربع آيات، وفي القرآن جاءت خمسُ آيات على إثبات رؤية الله: 1-وأصرحُ ما جاء في القرآن على أن الله يُرى في الآخِرَة آية القيامة: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22]؛ مِن النَّضْرة، وهي الكمال والبهاء والحُسْن؛ لأنها ﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 23]. ووجهُ أنَّ هذه الآيةَ أصرَحُ ما دلَّ في القرآن على النظر إلى وجه الله - ثلاثةُ أدلة: أوَّلاً: أضاف النظر إلى الوجوه التي هي مُشتمِلة على العينين. ثانيًا: عدَّى النظر بـ (إلى)، والنظر إذا تعدى بإلى فإنَّ معناه الْمَعايَنة بالبصَر، وإذا تعدَّى النظر بنفسِه فإن معناه الانتظار: ﴿ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ﴾ [الحديد: 13]، وإذا تعدى النظر بحرف (في) فمعناه التفكُّر. ثالثًا: أنه أخلى الآيةَ عن قرينةٍ صارفة لهذا الظاهر عن مَعناه المتبادر، فقال: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22]؛ أي: إنها كاملة في حسنها، وبهائها، وجمالها؛ لأنها إلى ربها ناظرة. 2- وَقَوْلِهِ: ﴿ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ﴾ [المطففين: 35]. 3- ومن الأدلة على إثبات رؤية الله قوله تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾ [المطففين: 15]، والإمام الشافعي - ويُروى أيضًا عن مالك - جاءَته رقعةٌ (ورقةٌ) مِن صعيد مصر، يَسألونه عن هذه الآية، فقال: "لَمَّا حُجِبَ أعداؤه بالسُّخْطِ - أي: بسبب سخط الله عليهم - دل على أن أولياءه يرَونه بالرضا"، قال عن أهل سِجِّين الكفار: ﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾ [المطففين: 15]؛ حُجِبُ هؤلاء عن الله سُخطًا عليهم، فدل على أن أولياءه يرَونه بالرِّضا. 4-ولهذا لَما ذكر الأبرارَ أهلَ عليين قال: ﴿ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ﴾ [المطففين: 23، 24]، وأعظم نعيم يرتدُّ على وجوههم إنما يكون بنظَرِهم إلى وجه الله تعالى؛ لا حرَمَنا الله هذه النعمة وهذه المنزلة. 5- وَقَوْلِهِ: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، وَقَوْلِهِ: ﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾ [ق: 35]. وهذا مما جاء في إثبات رؤية الله تعالى؛ فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم - كما روى مَسلم في الصحيح من حديث صُهيب رضي الله عنه - فسَّر الزيادة بأنها النظرُ إلى وجه الله تعالى[1]، ويفسرها آية: ﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾ [ق: 35]، والمزيدُ هو رؤية وجه الله إذا كشف الحجاب عن وجهه، وهذا يكون في يوم الجمعة لعامَّة أهل الجنة، ويكون لِخُلَّص أهل الجنة في اليوم مرَّتَين؛ يَرونه صُبحًا وعَشيًّا. أما الأحاديث في إثبات الرؤية فقد بلَغَت مبلغ التواتر، رَواها عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثرُ من ثلاثين صحابيًّا، كلها باللفظ الصريح الدالِّ على رؤية الله، ودل على ذلك إجماعُ أتباع الأنبياء والمرسلين على أن الله يُرى، ودلَّ على ذلك العقل الصحيح؛ فإن ربًّا آمَنَّا به في الدنيا ولم نرَه - لِعَجْزِنا نحن، لا لخفائه سبحانه وتعالى - لا بد أن يكون هناك دارٌ أخرى يَرى المؤمنون ربَّهم، وجاء في الجنة أنَّ فيها ما لا عينٌ رأت، ومما لم ترَه العيون في الدنيا؛ تعالى ربُّنا. المنحرفون في صفة الرؤية لله عز وجل: والذين خالَفوا في الرؤية هم الجهميَّة، والمعتزلة، والإمامية، والخوارج؛ فقد أنكروا رؤية الله، والخوارج هم الإباضيَّة؛ لأنهم هم الذين تَقمَّصوا، وتحمَّلوا مذاهبَ الاعتزال، أما الأوائل الصفوية، والأزارقة، والنجدات - فانحرافهم في مسألة تكفير المؤمن وفي مرتكِب الذنب. والأشاعرة أثبَتوا أن الله يُرى، لكن قالوا: يُرى لا في جِهة. فتناقَضوا؛ لأن مِن مذهبهم إنكارَ العلوِّ، فأشغَب عليهم، وضَحِكَ عليهم الجهميةُ المعتزلة، فقالوا: كيف يُرى لا في جهة؟! هذا هو المتناقِض، فلا أنتم الذين وافَقتُمونا في نفي الرؤية كما نفَيتُم العلوَّ مِثلَنا، ولا أنتم الذين وافَقتم أهلَ السُّنة في إثبات العلو كما أثبتُّم الرؤية! فصاروا مُذبذَبين بين ذلك؛ لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، وهذا هو أثر التناقض الذي يُجرُّ إليه مَن خالف وحادَ عَن جادَّة الوحيين؛ عن جادة الأنبياء، وجادة الطريق المستقيم. مقامات رؤية الله عز وجل: والأدلة في إثبات رؤية الله كثيرة، ولكن مما نُلخِّصه في الرؤية أن الرؤية لها ستَّةُ مقامات: 1- المقام الأول: رؤية الله في الدنيا. وهذه لن تكون لأحد؛ بأن يُرى الله في الدنيا عيانًا أبدًا، والدليل فيها قولُه تعالى لموسى: ﴿ لَنْ تَرَانِي ﴾ [الأعراف: 143]، وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((وَتَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ))[2]. 2- المقام الثاني: رؤية الله للكفار. والكفار لا يرون الله أبدًا؛ لا في الدنيا، ولا في الآخرة. 3- المقام الثالث: رؤية الله للمنافقين. والمنافقون سيَرَون الله عز وجل يوم يَكشِف سبحانه عن ساقه، كما في قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴾ [القلم: 42، 43]، وكما جاء في حديث أبي سعيدٍ الخدري، لكنهم يتَحسَّرون ويتأذَّون ويتعذَّبون بهذه الرؤية، فلا يتنعمون بها كما هو لأهل الإيمان، وهذه رؤية الله في العَرَصات يراه المؤمنون والمنافقون؛ فهي للمؤمنين نعيم، وللمنافقين عذاب؛ لِمَا جاء في الحديث: ((يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: لِتَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَنْ كَانَتْ تَعْبُدُ[3]، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّجَرَ الشَّجَرَ، وَالْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَالشَّمْسَ الشَّمْسَ، فَيَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ بِصُورَةٍ غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَهُ بِهَا...)). فالله تعرَّف إلينا بأسمائه وصفاته، فصُورته بما تعرَّف به إلينا، وهذا كما أن الدجَّال يأتي الناسَ في الدنيا بصورةٍ عوراء، ويقول: أنا ربُّكم! فيُكذِّبه الموحِّدون المؤمنون، فيأتيهم الله بصورة غير الصورة التي يَعرفونه بها، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت لستَ ربَّنا؛ يُنكِرونها؛ لأن أثر إيمانهم بأسماء الله وصفاته التي تعرَّفَ الله بها إليهم، وعَرَّفَه بها رسوله صلى الله عليه وسلم إليهم: ((ثُمَّ يَأْتِيهُمْ بِصُورَتِهِ التَّيِ يَعْرِفُونَهُ بِهَا فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ، فَيَخِرُّ الْمُؤْمِنِينَ للهِ سُجَّدًا، فَيَذْهَبُ الْمُنَافِقُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يَسْجُدُوا، فَتَكُونُ ظُهُورُهُمْ كَخَشَبَةٍ لا تَسْتَطِيعُ هَوِيًّا)). 4- المقام الرابع: رؤية الله في الجنان؛ وهي لأهل الإيمان خاصة، وهم في قُربِهم من الله كقُربهم من الخطيب يوم الجمعة، وعامة أهل الجنة يرَون الله في يوم المزيد، يوم الجمعة، وخُلَّصُهم يرون الله في اليوم مرتين. 5- المقام الخامس: رؤية الله في المنام؛ والصَّحيحُ أن الله يُرى في المنام، يراه الإنسان في منامه في الدنيا، لكن هذه الرؤية في المنام من باب ضرب المثل، بحسَب اعتقاد هذا الرائي؛ فإن كان مِن أهل التشبيه رأى الله بصورة التشبيه، وإن كان من أهل التعطيل رأى الله بصورة التعطيل، وإن كان مِن أهل الإيمان والإثبات رأى الله بما يُناسب إيمانَه واعتقاده؛ ولهذا فقد تواتر عن بعض أئمة السُّنة أنهم رأَوُا الله في المنام، يرَون الله على هيئة نورٍ يُكلِّمهم ويُخاطبهم، وممن رأى اللهَ الإمامُ أحمد قال: "رأيتُ ربِّي في المنام، فقلت: يا رب! ما أفضلُ ما تَقرَّب العبادُ به إليك؟ فقال: كلامي يا أحمدُ. فقلت: يا ربِّ! بفهمٍ، أو بغير فهم؟ قال: بفهم وبغير فَهم". ورؤية الله في هذه المقامات تكون تثبيتًا من الرُّؤى الصالحة: أ- لا يجوز أن يُعتقد أن الله في ذاته، وفي صفاته، وفي أسمائه كما رآه الرائي في منامه. ب- لأن المنام ضربُ مثل، ينعكس بانعكاس اعتقاده، وما قام في قلبه. ج- أن رؤية كل إنسانٍ هي بحسب عقيدته في الله، وأسمائه وصفاته. 6- المقام السادس: رؤية النبيِّ ربَّه في ليلة المعراج، وهل رأى ربه، أم لم يره؟ الصحيح أنه لم يرَ ربَّه بعينَيْ رأسه، وإنما رأى النبي ربه بقلبِه؛ كما دل عليه حديثُ معاذٍ عند أهل السنن؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((رَأَيْتُ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ فِيمَا يَخْتَلِفُ الْمَلأُ الأَعْلَى؟ فَقُلْتُ: لا أَعْلَمُ. فَوَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ عَلَى ظَهْرِي، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ فِي صَدْرِي، فَقُلْتُ: فِي الْكَفَّارَاتِ وَالدَّرَجَاتِ))[4]؛ فهذه رؤيا قلبية وليست رؤية بصرية. ولما سأل أبو ذر رضي الله عنه - والحديث في الصحيح - قال: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: ((نُورٌ، أَنَّى أَرَاهُ؟!)). وفي رواية قال: ((رَأَيْتُ نُورًا))[5]، وهو نور الحجاب، ولما سأل مسروق عائشة رضي الله عنها فقال: يَا أُمَّاهُ، أَرَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؟ قَالَتْ: لَقَدْ قَفَّ شَعْرِي مِمَّا قُلْتَ - أي: إنه أصابتني القُشَعْريرةُ - مَنْ أَخْبَرَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ))[6]، وهذه المسألة من المسائل التفصيلية المتعلقة بالعقيدة، والتي وقع فيها خلاف سائغٌ بين العلماء؛ بِناءً على فقههم، وما بلغَهم من الأدلة؛ ومثلها أيضًا مسألة الفرق بين النبيِّ والرسول، والمقام المحمود، ولا يجوز أن تُتَّخَذ ذريعة للشِّقاق والنزاع بين أهل السنة والجماعة، كما لا يجوز أن تُتَّخذ شبهة لدعوى خلاف أهل السنة في مسائل العقيدة؛ لما سبق التنويه عليه. سبب عدم رؤية الله عز وجل: والسبب في أننا لا نطيق أن نرى الله في الدنيا بأبصارنا هو عَجزُنا وضَعفُنا، لا خَفاءُ ربِّنا جلَّ جلالُه؛ بدليل أن الله تجلَّى للجبل الأصَمِّ الصُّلبِ الأشَمِّ، الذي لا ثوابَ له ولا عِقاب، فلما تجلى الله له ما أطاق الجبلُ هذا التجلِّيَ، فاندكَّ وتهدهد، وغدا ترابًا، ولهذا غُشِي على موسى، ولو كان غير موسى لطار قلبه من جسده، فدل على أنَّ الناس والمؤمنين خاصة، وخُلَّص المؤمنين من أنبياء الله ورسله لم يرَوُا الله في الدنيا؛ لعجزنا وضعفنا، لا لخفاء ربِّنا علينا، ولهذا يوم القيامة يُكَمِّلُ الله ضعفنا وقُوانا فنُطيق النظر إليه، بل ويتلذَّذ المؤمنون بالنظر إلى وجه سبحانه وتعالى، وفي الحديث: ((تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ)). وهذا في صحيح مسلم من حديث أبي موسى رضي الله عنه. تشبيه رؤية المؤمنين لله برؤية الشمس والقمر في الدنيا: جاء في حديث أبي سعيد، وجرير بن عبد الله البجلي، وأبي هريرة - وكلها في الصحيحين - تشبيه رؤيتنا لله برؤية الشمس والقمر[7]، فهذا تشبيه للرؤية بالرؤية، لا للمرئي بالمرئي، أي: لفعلنا لرؤيتنا ربنا برؤية الشمس ليس دونها سحاب، والقمر ليس دونه حجاب. ووجه تشبيه رؤيتنا لله برؤية الشمس والقمر عدة أوجُه: 1- الأول: أن الشمس والقمر يُرَيان من العلو، وربُّنا سبحانه وتعالى سيُرى وهو في عُلوِّه. 2- الثاني: أن الشمس والقمر كلٌّ منهما واحد، والرَّاؤون له كثيرون، لا يُضامون؛ فلا يُصيبهم ضَيم، ولا يُضارون؛ فلا يصيبهم ضرر في رؤيتهما، والله واحد، وسيَراه كلُّ أهل الجنة، من غير أن يُصيبهم ضيمٌ ولا ضرر، ولله المثل الأعلى؛ فلو أنه جاء موكبُ مَلِك، أو عالم، أو شريف فإن الذين يرَونه بوضوح الذين أمامه، وأما الذين في الخلف فإنهم يتَناطعون برِقابهم حتى لعلَّهم يرَون، أو لا يرون ويُصيبهم ضيم، أما الله تعالى فإنه سيُرى رؤيةً واضحة: ((سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ لا تُضَامُّونَ))[8]؛ أي: ليس يصيبكم ضيم، أو مضامة، أو مزاحمة في الرؤية. 3- الوجه الثالث: الشمس والقمر يُريان بوضوح لا خَفاء فيه، بشمسٍ ليس دونها حجاب، وببدرٍ ليس دونه سحاب، وربُّنا كذلك سيُرى بوضوح. 4- الوجه الرابع: أنَّ رؤيتنا للشمس والقمر رؤيةُ مُقابَلة، بلا إحاطةٍ ولا إدراك، وكذلك رؤية المؤمنين لله تعالى بلا إحاطةٍ ولا إدراك، وفرقٌ بين الرؤية والإدراك؛ فإن الإدراك هو الإحاطة بالمرئيِّ من جميع الجها،. أما الرؤية فلا، وقد قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 61، 62]، وقوله: ﴿ كَلَّا ﴾ ليست نفيًا للرؤية، بل هي نفي للإدراك، أما الرؤية فقد أثبَت الله تعالى أنَّ كل جمعٍ رأى الآخَر، فرأى فرعونُ وملؤه موسى وقومَه، ورأى موسى وقومُه فرعونَ وملأَه، فلما تراءى الجمعان: (جمع موسى مع جمع فرعون) قال أصحاب موسى: إنا لمدرَكون؛ أي: الآن يُحيطون بنا، الآن يُدرِكوننا. قال: كلا. والنفي للإدراكِ لا للرؤية، فدل على أن الإدراكَ قدرٌ زائد على الرؤية. وَهَذَا الْبَابُ فِي كِتَابِ اللهِ كَثِيرٌ، مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ تَبَيَّنَ لَهُ طَرِيقُ الْحَقِّ: هذا الباب (باب الأسماء والصفات) في القرآن كثير، لكن يَحتاج إلى مَن يتدبَّر القرآن، ويتأمل فيه، ويستبصر، ويقرؤه قراءةَ المعتَنِي المتأمِّل المتفكر، بشرط أن يكون طالبًا للحق - لا للشُّبَه ولا لِمَا يُخالِفُ مذهبه - والهدى، عندئذٍ يتبيَّن له طريق الحق، وهذا فيه أصلٌ عظيم: أنَّ مَن قرأ النصَّ أو الدليل؛ يطلب منه الهدى، يُوفَّق للهدى، أما من طلب الدليل ليوافق مذهبه، أو ليوافق أصلَه فهو هنا ما طلب الدليل، وإنما طلب ما يَنصُر قوله، وهذا التعصب، وهذا لا يُوَفَّق للهدى، وإن وُفِّق للحقِّ أحيانًا لكنه بهذا المنهج لا يُوفق للهدى. والمؤلف بهذا يَعتذر عن أنه لم يُحط بجميع الأدلة الدالة على الصفات، وإنما أتى بهذا على جهة التمثيل، وأحال بالبقية إلى كتاب الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول - في حديث هو الأصل في الحوالة، ولم يأتِ في الحوالة في الصحيحين -: ((وَمَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ))[9]، قد أحال على مَليءٍ على كلام الله تعالى، فلا بد أن نَقبَل هذه الحوالة. [1] رواه مسلم (181)، عن صهيب رضي الله عنه. [2] رواه البخاري (4581)، ومسلم (183)، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه. [3] رواه البخاري (4581)، ومسلم (183)، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه. [4] رواه أحمد والترمذي (3235)، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، وصححه الألباني. [5] رواه مسلم (178). [6] رواه البخاري (4855)، ومسلم (177)، وغيرهما. [7] رواه البخاري (7437، 7439، 554، 573)، ومسلم (182، 183، 633). [8] رواه البخاري (7437، 7439، 554، 573)، ومسلم (182، 183، 633). [9] رواه أحمد في المسند (2/ 463)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (18) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل الأصل الثاني: السُّنة "فَصْلٌ / فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَتُبَيِّنَهُ، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ، وَتُعَبِّرُ عَنْهُ، وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِهِ رَبَّهُ عز وجل مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقُبُولِ وَجَبَ الإِيمَانُ بِهَا كَذَلِكَ". لَما ذكر المؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعضَ الشواهد والدلائل من الأصل الأول - وهو القرآن - على ما وصَف الله به نفسَه، وسمَّى به نفسَه، يَذكر لنا رحمه الله في هذا الفصل بعضَ الشواهد والأدلة من السنة الصحيحة؛ وذلك أن مصادرَ تلقِّي العقيدةِ الأصليةَ ثلاثة: 1- الكتاب. 2- والسنة الصحيحة. 3- والإجماع. وسيَأتي قولُ الشيخ: والأصل الثالث الإجماع. والإجماع الذي يَنضبط: ما كان عليه الصحابة والتَّابعون وتابِعوهم؛ إذ بَعدَهم كَثُر الخلاف وانتشرَت الأمة. وهذه المصادر الثلاثةُ هي المصادر الأصلية في تلقي العقيدة، وثَمة مصادرُ لكنها غير أصلية، بل مُسانِدة؛ كالفِطرة؛ فإن الفطرة أصلٌ في التوحيد، وكدلالة العقل فإنها مُؤَيَّدَةٌ في الكتاب والسنة؛ على أن العقل والفطرة لا يَستقلاَّن بمعرفة تفاصيل أمور العقيدة، قد يُعرِّفانها إجمالاً، أما بالتفاصيل وما جاءت به الأخبارُ فإن العقول والفِطَر لا تستقلُّ بذلك. مكانة العقل في العقيدة: وأهل السنة في مسألة العقل بين طرفين: 1- الطَّرَف الأول: طرف أهل التعطيل من الفلاسفة، والجهمية، والمعتزلة، والمتكلِّمين الذين غَلوا في هذا العقل، فأنزَلوه أعلى مِن منزلته التي يجب أن يكون عليها. 2- والطرَف الثاني: الصوفية، والمشبِّهة الذين عطَّلوا عقولهم، وألغَوها. أما هذه الشريعة فجاءت للعقل بدوره، وفي مجاله اللائق به. فَصْلٌ: ومعنى الفَصل أنه سيَنتقل من موضوع إلى موضوع آخَر فصَلَه بهذا الفاصل، وهذا من تطوُّر التأليف؛ فإن المؤلفين الأوائل ما كانوا يُعنَون بالأبواب ولا بالفصول؛ يُسمِّي بالله ثم يَنثُر ما عنده، فلما تطور التأليف احْتِيجَ إلى الكتب والأبواب والفصول، سواء في المطوَّلات، أو المتوسطات، أو المختصَرات، عند المعاصِرين يرتِّبونه: الفصل الأول فيه كذا، والفصل الثاني فيه كذا... وهكذا، فجاء فيه نوعُ ترتيبٍ يتناسب مع اهتمام الناس، ومع عَنْصَرَتِهم التي تُسمَّى: (العنصرة المدرسية). حسب ما يدرسونها. فَصْلٌ: فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: في بعض النسخ: فَصْلٌ: ثُمَّ سُنة رسول الله. فعطَف السُّنة، ورتَّبها على الكتاب، وهذا أولى؛ لأنه ذكَر في أصل أهل السنة أنَّهم لا يَصِفون الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفَه به رسوله صلى الله عليه وسلَّم مِن غير تحريف ولا تكييف، ومن غير تمثيل ولا تعطيل. معنى السنة وإطلاقاتها: السُّنة في اللغة: الطريقة. سُنَّة مَن قبلكم، أي: طريقتُهم. والسُّنة لها عند أهل العلم إطلاقات: 1- فالفقهاء يُطلقون السُّنة ويريدون بها المستحَب، وهو ما أُثِيب فاعله ولم يُعاقب تاركه. 2- والأصوليُّون يطلقون السنَّة يريدون بها المصدر الثانيَ من مصادر التشريع[1]. 3- والسنة عند علماء العقيدة تُطلق في مقابل البدعة، فالسنَّة والبدعة قَسيمان، أحدهما قَسيمُ الآخر. 4- والسنة عند المحدِّثين: ما أضيفَ إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم مِن قول، أو فعل، أو تقرير، أو وصف خَلْقِي، أو خُلُقِي. والمراد بالسنة العقيدةُ والشريعة جميعًا؛ ولهذا إذا نظرت في كتب السنن التي ألَّفَها أهلُ السُّنة نجد أنهم يُدخِلون مع العَقيدة أركانَ الإسلام: الشهادتين، الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والجهاد. والكتب المسمَّاة (شرح السُّنة) يُدخلون أولها العقيدة، ثم يُتبعونها بأركان الإسلام. مكانة السنة في الإسلام: والسُّنة هي المصدر الثَّاني الذي تُستَقى منه العقيدة، وتُستقى منه هذه الجملة فيما يتعلَّق بأسماء الله وصفاته، فأبان بعدَ هذا عن مِقدار السنة، ومنزلتها، وأهميتها، وتأكُّدِها؛ جمَعَها في أربع كلمات - هي أجمعُ ما رأيتُ مِن كلام أهل العلم وأخصَرُه في بيان أهمية هذه السنَّة - فقال: فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ: ولو تأمَّلنا هذه الكلمات: "فالسنة تفسر القرآن" بمعنى أن ما جاء مجمَلاً في القرآن فسَّرَته السنة، وهذا كثير؛ إن كان في العقائد، أو في العبادات: ومن الأمثلة في العقائد أن أصول الإيمان ستة، لكنها جاءت في القرآن مجملة خمسةً في آيتَيِ البقرة والنساء؛ ففي سورة البقرة قال: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾ [البقرة: 177]، وفي آية النساء قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 136]، فجاءَت الأصول في القرآن خمسة، والسنَّةُ فسَّرَتها - كما في حديث جبريل عليه السلامُ - قال: ((الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ))[2]. ومن الأمثلة في الشريعة قوله تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]، وصُوَر البيع المحرَّمة، وصور الرِّبى المحرمة لم يأتِ في القرآن تفصيلُها، بل السُّنة فسرتها. بيان السنَّة للقرآن: وَتُبَيِّنَهُ: التَّبيين يشمل تخصيص العامِّ، أو إطلاقَ المقيَّد، أو تقييدَ المطلَقِ أو البيان، ونَسْخ المنسوخ... فجاءت الأحكامُ في القرآن مجمَلة، وبيَّنَتها السنة على التفصيل، إلا أبوابًا يَسيرة من أبواب العلم جاءت في القرآن مفسَّرة، وجاءت فيها السنة زيادةَ بيان. ومن ذلك: المواريث، والفرائض؛ فإنها جُمِعَت أصولُها في القرآن في آيات سورة النساء في أوَّلها، وفي آخرها، والسُّنة جاءت بزيادةِ بيان، لكن البيان اسْتُقِلَّ به في القرآن. كذلك أحكام الطلاق فقد جاء في القرآن مفصلاً، وفي هذا من الْحِكَم عنايةُ القرآن بالمرأة في أحكامها؛ لأنَّ الطلاق يتعلَّق بها كما يتعلَّق بالرجل، ولو لاحَظْنا آياتِ الطلاق فيها حفظٌ لحقوق المرأة، وحقوق الميت؛ لأن الميت يُغفَل عنه؛ فالمواريث - وهي نصف العلم - لتعلُّقِها بالنصف الآخر وهم الأموات، جاء القرآن ببيانها وتفصيلِها. وَتَدُلُّ عَلَيْهِ: السُّنة دالَّة على القرآن؛ لأنه لا غِنى للقرآن عن السنة، ولا للسنة عن القرآن، والعلماء ذكَروا في الأصول أن السنة تُخصِّص عامَّ القرآن وتنسخه، فالسنة قد تنسخ أحكامًا في القرآن، كما أن القرآن قد ينسخ أحكامًا في السنة وهو نادر، وأشهر أمثلته عند العلماء نسخُ آية الممتحنة لما جاء في صلح الحديبية، من ردِّ الرجال فقط دون ردِّ النساء المسلِمات المهاجرات، وإنما يرد عليهم المهر الذي دفعوه لهن: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [الممتحنة: 10]؛ وذلك لأنهما من مشكاة واحدة، فكلاهما من الله، واختَلفا بأن القرآن لفظُه ومَعناه من الله، والسنة لفظها من الرسول صلى الله عليه وسلم ومعناها من الله، والسنة تَدلُّنا على وجوب الرجوع إلى القرآن: ((تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَدًا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي))[3]. وَتُعَبِّرُ عَنْهُ: أي: إن ما جاء في القرآن مأمورًا به، أو منهيًّا عنه فإن السنة تعبر عنه، وتؤكد هذا الأمر، وتفصِّله، وتبينه. ومراد الشيخ من هذا أن السنة والكتاب شأنُهما واحد، لكن لاِحْظ كيف قُيِّدَت السنة بالسنة الصحيحة، وهذا القيد مُعتبَر؛ لا سيما في أمور العقيدة؛ لأن العقائد - وهي ما ينعقد عليه القلب - لا ينبني على الأخبار الواهية والضِّعاف؛ ولهذا فإن أخبار بني إسرائيل لا يَنبَني عليها اعتبارٌ في العقيدة حتى يدلَّ عليها أصلٌ صحيح. وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِهِ رَبَّهُ عز وجل: الله وصَف وسمَّى نفسه - وقد مرَّ ذلك - والوصفُ يُطلَق على الاسم والوصف جميعًا، والرسول وصَف وسمَّى اللهَ، فسمَّاه في قوله لعائشةَ لَمَّا سألَته ما تقول إن وافقَتْ ليلة القدر؟ فقال: ((قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي))[4]، فأخبَر أن الله عَفوٌّ، ووصف الله لما قال: ((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ))[5]، وكما سيأتي في الأحاديث الآتية، وهي ستَّة عشر حديثًا ساقها لنا رحمه الله على جهة الانتخاب، وإلا فإنه سيُحيلُنا كما أحالنا في أدلة القرآن. مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ: يُشترط في هذه السنة أن تكون صحيحة، وهذا يُخرِج السُّنة الضعيفةَ، أو الواهيةَ، أو المكذوبةَ الموضوعةَ على جَنابه صلى الله عليه وسلم، مع عِظَمِ شأن الكذب على جنابه: ((إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))[6]، ومن اللطائف أن هذا الحديث بلَغ عند أهل العلم مبلغَ التواتر، بل قالوا: إنه أكثرُ الأحاديث المتواترةِ وُرودًا. الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ: وهذه الأحاديث الصِّحاح شأنها أنه تلقَّاها أهلُ المعرفة - وهم أهل الشأن أهلُ الصناعة الحديثيَّة في الرواية والدِّراية - بالرِّضا والقَبول، أي: إنهم قَبِلوا ورَضوا أن يَنسبوها إلى مقام النبي صلى الله عليه وسلم، ويَعُدُّوها من ألفاظه، وأقواله، وأفعاله، وتقريراته. وَجَبَ الإِيمَانُ بِهَا كَذَلِكَ: كما جاءت عن رسول الله لا نُحرِّفها، ولا نُكَيِّفُها، ولا نعطِّلها، ولا نمثِّلها؛ كما مضى في الأصل الأول أصل القرآن، والإيمان بها هو الواجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حدَّث بهذه الأحاديث لم يخصَّ بها أقوامًا دون غيرهم، ولم يأمرنا، ولم يحثَّنا، ولم يوجب أن نَحملها على غير ظاهرها، ولم يقل: إنَّ لها تأويلاً ومعنًى يخالف معناها المتبادر. وإنما ألقى هذه الأحاديث، والأخبار الصحيحة، فسمعها منه وحملها عنه العالِمُ وغير العالِم، الجاهلُ والمتعلِّمُ، والحضري والبدوي، والإنس والجن، بل المؤمن والكافر؛ كما في حديث أبي مسعود: لَمَّا جَاءَ الْحَبْرُ مِنَ الأَحْبَارِ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللهَ يَضَعُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأَرَاضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ. فَضَحِكَ النَّبِيُّ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ﴾ [الزمر: 67]؛ أخرجه في الصحيحين[7]؛ فهذا الحديث ألقاه حتَّى على الكافر؛ ما قال: لا، نَسكت عنه حتى نُعَلِّم به المؤمنين بعضهم مع بعض. وهذا - وهو الإقرارُ بها والإيمان بها كما جاءت كذلك - يَنسِف أصولَ أهل التعطيل كلَّها، الذين حرَّفوا وأوَّلوا، وكَيَّفوا، وأهل التشبيه والتمثيل كلها الذين مثلوا وعطلوا. إثبات صفة النزول لله عز وجل: والشيخ رحمه الله ساق لنا أحاديث، واشترط أن تكون أحاديثَ مقبولة محلاًّ للاحتجاج؛ لأنه قال: تلقَّاها أهلُ الحديث بالقَبول؛ أي: إنها أحاديثُ مُحْتَجٌّ بها، وهو ما أراد الاستِطْراد والاستيعاب، وإنما قال: مِثْلُ: أتى بها على جهة التمثيل. ومن هذه الأحاديث الحديث المخرَّج في الصحيحين، المروي عن أبي هريرة، وعن أنس، وعن جابر، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم وها هو يسوق الحديث: قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟))[8]: هذا الحديث اشتمل على عدة صفات: 1- أولها: علوُّ الله تعالى؛ لأن النزول من العلو، ولو كان الله في كل مكان - كما تقوله الجهمية والأشاعرة - لَمَا كان لهذه الصِّفة مَعنًى، ولذَهب معناها بالكلية، ولهذا فإنَّ هذا الحديث من أعظم القواصم على قلوبهم. 2- الصفة الثانية: إثبات النزول لله تعالى؛ فكما أن علوَّ الله علوٌّ يَليق به، لا نَعرف كيفيته، فكذلك نزوله نزولٌ يَليق بعظَمتِه وجلاله، لا نعرف كيفيَّته، ولهذا إذا كنَّا لا نعرف كيفية النزول فلا يجوز أن نتطرَّق إلى التحكُّم في هذه الصفة بأهوائنا، ومَدارِك عقولنا القاصرة الضيِّقة، التي يتَلاعب بها الشيطان، ونزوله سبحانه وتعالى إلى سماء الدنيا يليق بجلاله. وقد جاء النزول في غير الثلث الأخير من الليل: نزوله ودُنوُّه عشيَّةَ عرَفة؛ يُباهي بأهل عرفة ملائكتَه، ونزوله يوم القيامة للقضاء بين العباد، فهذا نزولٌ يليق بجلاله سبحانه. وهو في الثلث الأخير مِن الليل؛ أي: في آخر الليل؛ إشارة لشرف هذا الوقت فيحرص عليه المؤمن. مزية العبادة في جوف الليل: العبادة في جوف الليل أفضل؛ لمعنيين: معنًى نصِّي، ومعنى عقلي؛ المعنى النصي ما جاء في الحديث: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْقِيَامِ؟ فَقَالَ: ((أَفْضَلُ الْقِيَامِ قِيَامُ نَبِيِّ اللهِ دَاودَ؛ كَانَ يَنَامُ شَطْرَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ))[9] قيامه في ثُلث الليل يشمل الثلثَين الثانيَ والثالث، نصف الثلث الثاني مع النصف الأول من الثلث الثالث، فهذا وقتُ قيامه، وهو أفضلُ القيام، وهو مشتمل على وقت التَّنَزُّل الإلهي؛ قالوا: ولأن هذا الوقت وقت غفلة، والعبادة في الغفلات أفضل منها في غيرها، ولهذا حُثِثْنا على عبادة الله، والاشتغال بها وقت الفتن؛ لأن الفتنة غفلة، وجاء في فضلها ما رواه مسلمٌ في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ الْعِبَادَةَ زَمَن الْفِتْنَةِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ))[10]. 3- الصفة الثالثة: أن الله يقول - والقول نوعٌ من الكلام -: ((مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟))؛ إذًا فقد وعَد الداعيَ بالاستجابة، بشرط أن تجتمع الشروط وتنتفيَ الموانع، فلا يَدْعوَ بقلبٍ غافل، ولا يدعو بإثم، ولا بقطيعة رحم، ولا يدعو ومطعَمُه حرامٌ، ومكسَبُه حرام، وغُذِّي بالحرام. ((مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ)): وعَد الله بالعطاء على كل سؤال، وعلى أي سؤال، ما لم يكن محرمًا، ووعد بالمغفرة لمن يستغفره، وهذا في حقوق العبد مع ربه، وكذلك حقوق العبد مع العباد، لكن يتوقف كَمالُ الاستغفار وكمال المغفرة على الاستباحة من هذا العبد الذي قد ظلمتَه. أسئلة مبتدَعة على مسألة النزول الإلهي: وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((حَتَّى يَطْلُعَ الصُّبْحُ))؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الحديث صحيح، وأهل البدع أحدثوا أسئلة، فقالوا: هل يَخلو منه العرش إذا نزَل أو لا يخلو؟ وهذا سؤالٌ بِدْعي مُحدَث، كما أنهم أحدَثوا سؤالاً آخر - وهو شَهير الآن - وهو أن ثلث الليل يتَفاوت بتفاوُت البلدان شَرقِها وغربها؛ فما عندنا ليل عند غيرنا نهار، وما عندنا ثلث الليل عند غيرنا أول الليل، فكيف ينزل؟ وهذا السؤال أيضًا سؤالٌ مبتدَع. وكِلا السؤالين وما جاء في معناها ناشئٌ من تكييف العقول بنزوله سبحانه وتعالى؛ كيَّفَت العقولُ نزولَه سبحانه وتعالى فأحدثَت هذه الأسئلة، ولو أنَّها آمنَت بها كما جاءت؛ على المعنى اللائق بالله، المتبادرِ مِن هذا الكلام، غيرِ المشتمِل على نقصٍ - لَمَا كان حاجةٌ إلى مِثل هذا التطاول، ولا التكلُّف، ولا التنطع، وقد أهلك النبي المتنطِّعين؛ فقد روى مسلم في الصحيح: ((هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ))[11] قالها ثلاثًا. مواقف المنحرفين من أدلة الصفات: المتكلِّمون والمعطِّلة مَذهبُهم مِن هذه النصوص وأمثالها مذهبان: الأول: يردُّونها؛ لأنها أخبارُ آحادٍ لا تَنبني عليها العقائد. وهذا أحَدُ طواغيتهم في ردِّ نُصوص النبي صلى الله عليه وسلم وأدلته الصحيحة، وقد نسَف ابنُ القيم هذا الأصلَ - بأن الأحاديث تُفيد الظنَّ ولا تفيد اليقينَ - في (الصواعق المرسلة)، في أكثر من مئتين وسبعين وجهًا ودليلاً. الثاني: يحرِّفونهذا النزولَ عن معناه بما يُسمونه تأويلاً. وهو في الحقيقة التأويل الفاسد، فيَقولون مثلاً: إنه يَنزِل ملَك. ويقولون: إنه تَنزل رحمةُ الله، أو أمرُ الله. وسبحان الله! ما أقبحَ هذا القولَ بمِثل قُبحِهم في مذهبِهم الفاسد في كلام الله أن الذي يتكلَّم مع الله مخلوق؟! إذًا الشجرة هي التي قالت: ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ﴾ [طه: 14]، وهنا الْمَلَكُ يقول: ((مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟))! وهذا لا يليق أن يقوله الْمَلَكُ، وكفى بطلانًا بهذا القول أن يُنسب هذا القول إلى الْمَلَك. أما قولُهم: ينزل أمرُ الله، أو تنزل رحمته. فهذا باطل من جهتين: أنه تحريفٌ للكلم عن معناه؛ عن ظاهرِه وعن موضعه، وأن أمرَ اللهِ وملائكتَه ورحمَتَه تَنزل في كل وقت. فليس هنا مَعنًى مِن أن تُخصَّص في الثلث الأخير من الليل، لكن هذه جنايةُ التأويل الفاسد على أدلة الشرع الحنيف. [1] لأن مصادر التشريع المتفق عليها أربعة: الكتاب العزيز، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس. وذِكْرُ المصدر الثاني هذا عددًا لا ترتيبًا؛ أي: لا يُرتب السنة على القرآن، بل كلها في مرتبة واحدة من حيث التشريع، لكن من حيث العدد المصادر أربعة، على أنه يُختلف في السنة عند الأصوليين السنة عموماً حتى الضعيف يُستأنس بها في الأحكام فقد يُستدل على بعض الأحكام، كما هو في أصول الإمام أحمد أن الحديث الضعيف أحب إليه من آراء الرجال؛ لأن الحديث الضعيف فيه نسبة يسيرة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله، لكن في العقيدة لا؛ لا بد أن تكون الصحيحة صحيحة. [2] رواه مسلم (1، 8)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. [3] رواه مسلم (61). [4] تقدم تخريجه. [5] رواه مسلم (153)، من حديث أبي هريرة. [6] رواه البخاري (1291)، ومسلم (177)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. [7] رواه البخاري (4811)، ومسلم (2786)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. [8] رواه البخاري (7494)، ومسلم (758) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [9] رواه البخاري (2/ 63)، ومسلم (3/ 165) عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما. [10] رواه مسلم في كتاب الفتن (2631)، عن أبي هريرة رضي الله عنه. [11] رواه مسلم (2670)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (19) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل وَقَوْلِهِ: ((لَلَّهُ أَشَدُ فَرَحًا بَتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِرَاحِلَتِهِ))... الْحَدِيثَ؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ[1]. وهذا حديث قوي، جاء في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم، من رواية عدة من الصحابة، فيقول: ((لَلَّهُ أَشَدُ فَرَحًا بَتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ فِي فَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ، فَطَلَبَهَا، فَلَمْ يَجِدْهَا، فَأَيْقَنَ عَلَى الْمَوْتِ، فَأَسْنَدَ ظَهْرَهُ إِلَى جِذْعِ شَجَرَةٍ، فَغَفَتْ عَيْنَاهُ، فَانْتَبَهَ وَإِذَا خِطَامُهَا يَتَدَلَّى بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ - أي: إن عليها أسباب نجاتِه، وبذَهابها يكون سبب هلاكه - فَأَخَذَهَا مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ! أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ. أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ))[2]. وفرح الله بتوبة عبده أشدُّ مِن هذا براحِلَتِه والحالةُ هذه، وهذه فيها إثباتُ أن الله يفرح، وصفة الفرح صفةٌ لائقة بالله تعالى، دلَّت عليها الأدلة الصحيحة، ولكن لا بُد أن يُعرف أنَّ فرحة العبد من حاجةٍ إلى ما يَفرح به؛ فالإنسان يَفرح بحبيبه، وبالقادم، وبمن يُعزُّه؛ لحاجته إليه، فيفرح بولده إذا جاء، وبأهله إذا قدم عليهم من حاجته إليهم، أما فرح الله بتوبة العبد مِن غير حاجة الله إلى عبده، وبها يَزول معنى التشبيه والتمثيل الذي قد يتَبادر إلى بعض القلوب المريضة، أو الفاسدة. ففرَحُ الله يليق بجلاله لا كفرَحِ المخلوق، ففرَحُ المخلوق من حاجته إلى المفروح به، وليس فرح الله مِن حاجة كما في الحديث القدسي: ((يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا))[3]؛ ففيها إثبات أن الله يفرح، وفرحه يليق بجلاله وعظمته، لا نعلم كيفيته. إثبات الصفات الكاملة لله بنفي ضدها: وضد الفرح الحزن، وضد الضَّحِك البكاء، ونَنفي عن الله الضدَّ إذا كان هذا الضدُّ يُنافي الكمال؛ فإنَّ الضدَّين إذا وُجِدَ أحدهما انتفَى الآخَر، والمؤوِّلة (أهل التعطيل مِن الجهمية، والمعتزلة، والمتكلمين) نفَوْا عن الله الضَّحك، ولهم فيها مسلكان: 1- الأول: إما أن يُفسِّرونها بصفة أخرى؛ بأنَّ الفرح إرادةُ الثواب أو إرادةُ الإكرام، ففَسَّروها بالإرادة. 2- والثاني: يؤوِّلونها إلى فِعلٍ مِن أفعال الله، وخَلْقٍ مِن خلقه بأنَّ فرَح الله هو إثابتُه لعبده؛ أي: إنه سبحانه وتعالى يُثيبه، وهذا تفسيرٌ للصِّفة بلازمٍ مِن لوازمها، نعَم؛ فإن مِن آثار فرَحِ الله أنه يُكرِم عبدَه ولكن ليس معنى الفرح هو إكرام وإثابة العبد، وإنما هذا من آثار ولَوازم هذه الصفة. إثبات الضحك لله عز وجل: وَقَوْلِهِ: ((يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، كِلاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. هذا الحديث له قصَّة؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ساقه قال: ((يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، كِلاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ))، فَقَالَ الصَّحَابَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الْمَقْتُولُ فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟! قَالَ: يُقْتَلُ الْمَقْتُولُ مُؤْمِنًا، فَيَكُونُ شَهِيدًا، وَيَقْتُلُهُ الْكَافِرُ، ثمَّ يَمُنُّ اللهُ عَلَى الْكَافِرِ بالإِيمَانِ وَالإِسْلامِ، ثُمَّ يَمُوتُ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ))[4]. وضحكه تعالى لأنَّه عَلِم مآلَ هذا وهذا، وهذا الذي خَفِي على العباد، فالله يَضحك ضحكًا يَليق بجلاله، كما أنَّه يَرضى ويَغضب كما يَليق بعَظمتِه. وفي حديثٍ عند أحمدَ وغيره بإسنادٍ جيد، من حديث وَكيعِ بنِ عُدُسٍ، عن أبي رَزينٍ العُقيليِّ أن النبيَّ قال: ((يَضْحَكُ اللهُ إِلَى قُنُوطِ عِبَادِهِ، وَقُرْبِ غِيَرِهِ))[5] والقنوط: هو شدة اليأس؛ ولهذا جاء في الحديث: ((ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ، وَقُرْبِ غِيَرِهِ؛ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ أَزِلِينَ قَنِطِينَ)). وجاء في لفظ عند أحمد: ((وَقُرْبِ غيثِهِ)). فقال أبو رَزينٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَ يَضْحَكُ رَبُّنَا؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((نَعَمْ)). ما قال: لا. فهل لهذا تأويل؟! وهل له معنى آخر – هو: أنه يُثيبهم - في مَقامٍ يجب فيه البيان؟! وتأخير البيان عن وقت الحاجة كما يَقول الأصوليُّون - وهذا مِن دواخل علم الكلام عليهم -: "إنَّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقِّ النبي صلى الله عليه وسلم". وهذه العبارة غيرُ لائقةٍ مع رسول الله، وإن كان معناها ومُؤدَّاها صحيحًا، لكن ليس فيها أدب، والعبارة المؤدَّبة اللائقة بهذا المقام أن نقول: إنَّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يُتصوَّر في حقِّ النبي صلى الله عليه وسلم. وهنا أشد ما يكون الحاجة إلى البيَان؛ لأن السائل سأله فقال: أوَيضحَك ربُّنا؟ سؤالَ مُستفهِمٍ، وقد يكون فيه تعجُّب، وقد يكون فيه نوعُ إنكار، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((نَعَمْ))، فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: إِذًا لَنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا. فَهِم الصفة على ما يَليق بالله تعالى، ولم يُمَثِّل، فإذا كان الله يَضحك إذًا فالخير عنده سبحانه وتعالى وبوجهه؛ لأن وجهَ الذي يَضحَك غيرُ وجهِ الذي لا يضحك. ففيه إثبات أن الله تعالى يضحك ضحكًا يليق بجلاله، ولا تؤول الضحك كما تؤول الفرح؛ بأنه إرادة الثواب، أو بأنها الإثابة والإكرام، وفيها إثبات العلم لله تعالى، وهذا بدلالة التضمُّن؛ لأن ضحكه ناشئٌ عما سبَق به عِلمُه. إثبات صفة العجب لله تعالى: وَقَوْلِهِ: ((عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ)): القُنوط هو شدَّة اليأس، وعندنا أمران: اليأس، والقنوط. وأشدُّهما اليأس والقنوط مِن رحمة الله، واليأس من فرَج الله، كِلاهما من كبائر الذنوب؛ في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ))[6]. قوله: ((عجب ربنا)) هذا فيه إثبات صفة العجب، والعجب فيها من معاني الضحك، فبَينها وبَيْن الضحك عمومٌ وخصوص. ((وقُرب غِيَرِه)): أي: تغييرِ حال عباده مِن حالٍ إلى أحسنَ منها. وجاء في لفظ: ((وَقُرْبِ غَيْثِهِ))؛ لأنَّ الغيث رحمةُ الله التي يزول معها أسبابُ قُنوطهم من رحمة الله. ((وقُرب غيره))؛ أي: قُرْبُ تغيير حالهم الذي بلغوا معهم شدة اليأس. بلغ معهم في قلوبهم القنوط، واستبعاد الرحمة والفرج أنَّ تغيير حالهم أنه قريب. ((يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزِلين قَنِطين، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ، يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ)): ينظر إليكم أَزِلين؛ أي: واقعين في الشدة. قَنِطين: حالكم حال القانط، أو بعضكم، فيظل يضحك، فجاء إثبات صفة الضحك؛ يعلم أن فرجكم قريب - وفيه إثبات صفة العلم - وهم مع ذلك عندهم هذه العجَلة. حَدِيثٌ حَسَنٌ. حكَم عليه شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه حديث حسن، وهو حديثٌ رَواه عُبادةُ بن الصَّامت، ورواه أبو داود، وبعضُ أهل السنن، والإمامُ أحمد، وبالمناسبة فإن شيخَ الإسلام محدِّث كبير، وحافظ، وناقدٌ للمتون والأسانيد، لا يُشق له غبار. إثبات صفة القدم لله عز وجل: وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟)): هذا الحديث جاء من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟)). إلى أن يُستنفَد الإنس والجنُّ والحجارة، ومن يستحق دخولَ النار، وهي لم تَشبَع مع كثرة من يَدخلها ومَن يَلِجُها؛ إما خلودًا، أو دخولاً على حسب ذنبه، وهي تقول: هل من زيد؟ ((حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا رِجْلَهُ)). وفي رواية: ((عَلَيْهَا قَدَمَهُ)): وفي رواية في الصحيحين: ((حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ)). ((فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَتَقُولُ: قَطْ، قَطْ))؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وفي رواية: ((قَدْنِي قَدْنِي))؛ أي: يكفيني، يكفينِي. وفي هذا الحديث إثبات الرِّجل، وهي القدَم - وكلاهما بمعنًى - لله تعالى، فالقدم معناها الرجل؛ لأن الروايات يُفسر بعضها بعضًا، ومن منهج السلف الصالح في تَلقِّي العقيدة والاستدلال عليها أن النصوص والأدلة يُبين بعضها بعضًا، ويفسِّر بعضها بعضًا؛ ففيها إثبات هذه الصفة الذاتية من صفات الله، وأنها صفة لائقة بالله، كما ثبت أن لله تعالى ساقًا في حديث أبي سعيد - في الصحيحين - وفيه: ((فَيَكْشِفُ الرَّحْمَنُ عَنْ سَاقِهِ وَيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا، إِلاَّ الْمُنَافِقُونَ))، وقولِه تعالى: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴾ [القلم: 42، 43]؛ بدلالتها على الصفة محل احتمال، وهو أحد القولين للسَّلف، فجاء تفسيرُها عن ابن عباس أنه يوم القيامة؛ لشدته وكربته؛ كما يُقال: كشَفَت الحربُ عن ساقها؛ أي: عن شدتها. وهذا من تفسير التنَوُّع، وجاء فيها أن الله يَكشِف ساقَه الحقيقيَّة اللائقةَ بجلاله سبحانه وكمالِه، التي لا تُشبه سِيقانَ المخلوقين، ولا صفاتِ المخلوقين، كما أنَّ له قَدمًا لا تُشبه أقدامَ وأرجُلَ المخلوقين، وإنما هي ساقٌ عظيمة بعظمة الله، وقدمٌ لائقة بعِظَمِ الله. ولهذا فجهنَّم التي لا تَشبع يكون مِن آثار ذلك أنه ينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قطني قطني. ولهذا يُفسر حديثُ أبي سعيدٍ ما في القرآن، والسياقُ يَدل عليه: ﴿ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴾ [القلم: 43]؛ لأنهم قَبلَ ذلك ما كانوا يَسجُدون حالَ السلامة، أما الآن فلا يُمكِنهم السجود؛ لأنهم لم يَسجُدوا من قبل، أو سجَدوا ظاهرًا لا باطنًا؛ خوفًا مِن الناس، ورياءً لهم، لا طَلبًا لثواب الله، ففيها إثباتُ هذه الصفة الذاتية من صفات الله. تنبيه: ومهما تخيَّل صفاتِه سبحانه، أو ذاتَه المقدسةَ المتخيلون، أو توهَّم المتوهمون، أو شبَّهه الممثِّلون، أو عطَّل المعطلون - فالله عز وجل في ذاته، وصفاته، أفعاله فوق ذلك، فلِمَ؟ لأنَّه ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، ولأنهم ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67]. المنحرِفون في صفة القدَم: أمَّا المعطِّلة - من الفلاسفة، والجهمية، والباطنية، والمعتزلة - فيُنكِرون هذه الصفات أشدَّ النكير. أما الأشاعرة فقالوا: يضَع فيها رِجلَه، الرِّجْلُ هو الطائفة من الخلق ومن الناس، كما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي أيوب رضي الله عنه: ((كَأَنَّهَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ))؛ أي: طائفة من جراد. وهذا تحريف: لأن جهنم لم تشبع من الناس، ولا من الخلق، ولا من الحجارة؛ هذا أولاً. والثاني لأن الحديث فُسِّر: جاءت الرِّجل، وفسرته بأنه القدَم. والثالث أنه جاءت الروايات أنه يضَع قدَمه فيها، وفي رواية: عليها. تدل على أن هذه صفة، إذًا دل بما لا مجال فيه للردِّ ولا للهوى أن المراد بها الصفةُ اللائقة به تعالى. ثبوت القدمين لله عز وجل: قد يَسأل سائلٌ فيقول: هل يَصحُّ أن نُثبِت لله قدمَين؟ وقد راجعتُ هذه المسألة فوجدتُ فيها أثرَين صحيحَين عن صحابيَّين؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إِنَّ الْكُرْسِيَّ مَوْضِعُ قَدَمَيِ الرَّحْمَنِ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ))[7] وهذا أثرٌ صحيح؛ أخرجه ابن خزيمة في التوحيد، وأخرجه البيهقيُّ في الأسماء والصفات، ورواه جملةٌ ممن ألَّفوا في السُّنة، والعلماء صحَّحوه إلى أبي موسى، وأبو موسى ممَّن لم يُعرَف بالأخذ عن بني إسرائيل، وليس هذا مِن قَبيل الرأي، فيكون معناه مما له حُكمُ الرَّفع، ويتعزز هذا ويتأيد بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا عليه أنه قال: الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ قَدَمَيِ الرَّبِّ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَلا يَقْدُرُ قَدْرَ الْعَرْشِ إِلاَّ هُوَ. فإن هذا مع هذا يُضَاف لإثبات أنَّ لله قدمَين مع الأصل الذي جاء في الصحيحين: ((أَنَّ اللهَ عز وجل يَضَعُ رِجْلَهُ أَوْ قَدَمَهُ عَلَى جَهَنَّمَ أَوْ فِي جَهَنَّمَ، فَتَقُولُ: قَطٍ قَطٍ، أَوْ قَدْنِي قَدْنِي))[8]. قد يقول قائل: هل لله قدَمان؟ نقول: لم تأت النصوص إلا بما سمعنا، ومذهبنا أن نقول: سمعنا وأطعنا، وآمَنَّا واعتقدنا. ولا نتدخل في هذا مُتهوِّكين بآرائنا. أما اليَدان فقد ثبَت أنهما ثنتان، أما القدم فنقف على ما سَمِعنا، وعلى ما آمنَّا؛ ولهذا - يا أيها السُّني - إذا عطَّل عليك المعطِّل على أيِّ مذاهب التعطيل كان، وأورد عليك مِثلَ ذلك فلا تُجِبه إلا بما تعلم من الأدلة، وما لا تعلم فقل: الله أعلم. وقولك: الله أعلم. لا يجعل لأحدٍ عليك مَدخلاً؛ لأننا لا نَعرِف مِن صفات الله إلا ما عَرَّفَنا به، وعَرَّفَنا به رسولُه صلى الله عليه وسلم. [1] رواه البخاري (11/ 102). [2] رواه مسلم من حديث أنس رضي الله عنه. [3] رواه مسلم (2577)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه. [4] رواه البخاري (2826)، ومسلم (1890)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [5] رواه أحمد (4/ 11)، وابن ماجه (281)، والبيهقي في الأسماء والصفات (987)، وحسَّنه الألباني في السلسلة الصحيحة. [6] المعجم للطبراني، ومصنف عبدالرزاق. [7] رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب السنة (586)، وابن خزيمة في كتاب التوحيد (248)، والحاكم في المستدرك (2/ 282). [8] تقدم تخريجه.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |