|
ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() الحديث التاسع عن أبي هُرَيْرةَ عَبْدِ الرَّحمنِ بنِ صَخْرٍ رضي الله عنه قال : سمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "ما نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجتَنبوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فأتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فإنَّما أَهْلَكَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ واخْتلاُفُهُمْ على أَنْبِيَائِهِمْ" رَواهُ البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ. جعل الله لنا الأسلام دينا, وأرتضى أن يكون الدين الخاتم للبشرية الذي لا يُقبل من أحدٍ سواه (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) 85-آل عمران, وكان من سمات هذا الدين قوامه على الأوامر والنواهي ، فهو يأمر بكل فضيلة ، وينهى عن كل رذيلة . هذا الحديث عظيم و ذو أهمية بالغة وفوائد جلية وهو من قواعد الدين وأركان الأسلام ، ومن جوامع الكَلِم التي أعطيها صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام. سبب الورود: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجّوا". فقال رجل : أَكُلَّ عام يا رسول الله ؟. فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لو قلتُ نعم لوجبت، ولما استطعتم". ثم قال: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه".فأرشد صحابته إلى ترك السؤال عما لا يُحتاج إليه . ولا يُفهم من النهي عن كثرة السؤال ، ترك السؤال عما يحتاجه المرء ، فليس هذا مراد الحديث ، بل المقصود منه النهي عن السؤال عما لا يحتاجه الإنسان مما يكون على وجه الغلو أو التنطّع ، أو محاولة التضييق في أمرٍ فيه سعة . ولو تأملنا منهج الصحابة في طريقة أسئلتهم للنبي صلى الله عليه وسلم لوجدناها على قسمين: القسم الأول : كان الصحابة يسألون عما وقع لهم ، أو أشكل عليهم ، وهذه الأسئلة مأمور بها شرعا ؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أمر عباده بسؤال أهل العلم ، {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. فالصحابة رضوان الله عليهم ترجموا هذا الأمر عمليا ، فقد سألوا عن الفأرة التي سقطت في سمن ، وسألوا عن متعة الحج ، وسألوا عن حكم اللقطة ... . القسم الثاني : كانوا رضوان الله عليهم يسألون عما يتوقعون حصوله فعلا ، ومن ذلك : ما رواه الإمام مسلم عن رافع بن خديج رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا رسول الله إنا لاقوا العدو غدا وليس معنا مدى " ، فقال : ( ما أنهر الدم ، وذكر عليه اسم الله فكُل ، ليس السن والظفر ) ، ومن ذلك أيضا سؤالهم عن الصلاة أيام الدجال ، عندما يكون اليوم كالسنة ، فأجابهم : ( اقدروا له قدره ) . "نهيتكم عنه": النهي هو المنع أي منعتكم أو طلبت منكم الكَفَّ عن فعله . "فاجتنبوه": وفي رواية فدعوه أي اتركوه . جاء التعبير بلفظة ( اجتنبوا ) ، فهي لفظة تعطي معنى المباعدة ، فكأننا نكون في جانب ، والمعاصي في الجانب الآخر ؛ لذلك هي أبلغ في معنى الترك . وما أمرتكم يعني إيجابا وندبا فأتوا منه وفي رواية فافعلوا منه ما استطعتم وفي رواية فافعلوا منه ما أطقتم فالأستطاعة هي الأطاقة . أي ما قدرتم عليه وتيسر لكم فعله دون جهد و مشقة . وهذا الحديث مصداقا لقوله تعالى ( فأتقوا الله ما استطعتم ) وقوله تعالى ( لايكلف الله نفسا الا وسعها ) وقوله تعالى ( وماجعل عليكم في الدين من حرج ) ونحن نلاحظ كثير من المسلمين ، يجتهدون في فعل الطاعات ، وللأسف يتساهلون في ارتكاب المحرمات ، فمنهم من يصوم مع الناس إذا صاموا ، فإذا جنّ عليه الليل لم يتورّع عن مقارفة الذنوب ، وارتكاب المعاصي و رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اتق المحارم تكن أعبد الناس ) رواه الترمذي ، وقال الحسن البصري رحمه الله : " ما عبد العابدون بشيء أفضل من ترك ما نهاهم الله عنه " . أَهْلَكَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي سبب هلاك الأمم السابقة الذين كانوا من قبلكم . ذكر صلى الله عليه وسلم علتين لهلاكهم : 1- كثرة المسائل التي لافائدة منها ولاحاجة اليها ولاضرورة.. 2- إختلافهم على أنبيائهم . فالدين أوامر ونواهي . ومن رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمته جعل الأوامر باستطاعة المرء وكيفما يتيسر له , أما النواهي فيجب اجتنابها . وورد النهي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على معان منها: نهي التحريم : ما كان للتحريم يجب فيه الاجتناب، كما ورد في قتل النفس والربا والسرقة والزنا و........وهذه محرمة بنص الكتاب والسنة الا لضرورة شرعية . وفق قيود وشروط . ونهي الكراهة : ما كان للكراهية يستحب فيه الاجتناب , وهي الأمور التي يجوز فعلها لكن يفضل اجتنابها مثل كراهة أكل الثوم والبصل لمن يصلي جماعة في المسجد أو صلاة الجمعة تجنبا لأيذاء الملائكة والمصلين . فالذي نهى عنه -عليه الصلاة والسلام- نحن مأمورون بالانتهاء عنه، فإن كان محرما فالأمر بالانتهاء عنه أمر إيجاب، وإن كان مكروها فالأمر بالانتهاء عنه أمر استحباب. والأصل في المنهيات مانهى عنه صلى الله عليه وسلم في أمور العبادات أنه للتحريم، وإذا كان في أمور الآداب أنه للكراهية، يعني: إذا جاء النهي في أمر من العبادات فهو للتحريم؛ لأن الأصل في العبادات التوقيف، وإذا جاء النهي في أدب من الآداب، فالأصل فيه أن يكون للكراهة. قال -عليه الصلاة والسلام- هنا: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه )ولم يقيد بالاستطاعة، بل أوجب الاجتناب لأن الانتهاء من المنهيات ليس فيه تحميل فوق الطاقة؛ بل المنهيات لا حاجة للعبد بها، يعني: لا تقوم حياته بها، بل إذا استغنى عنها تقوم حياته، فليس محتاجا ولا مضطرا إليها. قال: (وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم). ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم: الأوامر كثيرة، ليست كالمنهيات، ومنها ما قد لا يستطيعه العبد. فهنا يأتي ما استطاع، وقد قال -جل وعلا-: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ). وقال أيضا-: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ). وقد استنبط أهل العلم قواعد شرعية منها قاعدة المشقة تجلب التيسير ,فديننا الحنيف جاء بالتيسير على العباد ورفع الحرج عنهم، قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}و قال صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدِّينَ يُسْرٌ .. يَسِّروا ولا تعسروا" أخرجه البخاري وكذلك قاعدة "لا واجب مع العجز". يعني: أن المرء إذا عجز عن الشيء فلا يجب عليه، كما جاء في حديث عمران: (صلِّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب). والمشقة قد تكون ملازمة للتكليف لاتنفك عنه كمشقة الصوم , الجوع والعطش مثلا هذه لاتعني ان المرء يفطر لأن في الصوم مشقة , وكذلك مشقة الحج فليس لمن ملك الأستطاعة المادية والبدنية أن يترك الحج لأن فيه مشقة , وقد تكون المشقة غير ملازمة للتكليف وقد تنفك عنه ولكنها اما ان تكون مشقة خفيفة لاتؤثر في القيام بالواجبات كان يكون مرض خفيف أو خسارة مادية بسيطة أو سفر قصير فهذه مشقة خفيفة لاتؤثر . أما اذا كانت المشقة شديدة كمن قدر على الحج ولكن تعرض له خطورة في أهله أوماله أو علم بوجود قطاع طرق لم يأمن منهم , هنا قد تخفف التكاليف والله أعلم , فاذا حصل مشقة بالفعل ينتقل المسلم الى التيسير فالمريض مثلا الذي لايستطيع أن يصلي قائما يمكنه الصلاة جالسا , وإن لم يستطع الصلاة جالسا يصلي على جنب أو بالهيئة التي يقدر عليها , والذي لايستطيع أن يتوضا أو قد يعرضه الوضوء للموت مثلا يمكنه التيمم , والمريض الذي يكون على سريره ولايستطيع أن يتوجه الى القبله لشدة مرضه يمكنه التوجه الى أي جهة فالمشقة تجلب التيسير . وقد تمر بالمسلم مواقف يصعب عليه تجنب المحظور أو قد يهلك في تجنبه فهنا نجد شرع الله الحكيم، يخفف عن العباد، ويبيح لهم في هذه الحالة فعل ما كان محظوراً في الأحوال العادية، ويرفع عنهم المؤاخذه والإثم. قال الله تعالى: {فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173].والإباحة تكون بقدر ما يندفع به الخطر، ويزول به الاضطرار، (الضرورة تُقَدَّرُ بَقْدرِها). أخذاً من قوله تعالى: {غير باغ ولا عاد} أي غير قاصد للمخالفة والمعصية،فالذي يضطر مثلا لأكل الميت ليس له أن يشبع نفسه منها بل لقيمات تقمن صلبه وتدفع الخطر عنه فقط . والله جلا وعلا لم يحرم شيئا أو ينهي عنه الا وله فساد أكيد وضرر محتم. ونلاحظ أن الشريعة قد شددت في جانب المنهيات أكثر من المأمورات ، فعلقت تنفيذ الأوامر على الاستطاعة ، بخلاف النهي ، وذلك لأن الشريعة الغرّاء تسعى دائما للحد من وقوع الشر ، والحيلولة دون انتشاره ، ولا يكون ذلك إلا بالابتعاد عما حرّم الله عزوجل ، ولذلك يقول الله تعالى في محكم تنزيله : { يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان } ( النور : 21 ) ، فحرّم الأسباب المؤدية إلى الوقوع في الحرام ،ومن باب أولى تحريم الحرام نفسه. هل منزلة النهي أعظم، أو منزلة الأمر؟ يعني: هل الانتهاء عن المنهيات أفضل، أم فعل الأوامر والإتيان بها الأفضل؟ اختلف العلماء في هذا على قولين:- القول الأول: أن الانتهاء عن المنهيات أفضل من فعل الأوامر، واستدلوا عليه بأدلة منها هذا الحديث، بأنه أمر بالانتهاء مطلقا، وقالوا: الانتهاء فيه كلفة؛ لأنها أشياء تتعلق بشهوة المرء، و (حُفَّتْ الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)فالانتهاء عن المنهيات أفضل. القول الثاني: الأمر أفضل، يعني: امتثال الأمر أفضل وأعظم منزلة، واستدلوا عليه بأدلة منها: أن آدم -عليه السلام- أُمِرَتْ الملائكة بالسجود له، فلم يسجد إبليس، يعني: لم يمتثل الأمر، فخسر الدنيا والآخرة، فصار ملعونا إلى يوم يبعثون، وثم هو في النار أبد الآبدين، وهذا لعظم الأمر. قالوا: وآدم أكل من الشجرة التي نهي عنها، فغُفِرَ له بذلك، فذاك أمر بالأمر فلم يمتثل فخسر، وهذا فعل المنهي عنه ثم أعقبته توبة. وهذا القول الثاني هو الأرجح والأظهر في أن فعل الأوامر أعظم درجة والله تعالى أعلى وأعلم . وأما المنهيات ارتكابها فإنه على رجاء الغفران. ثم بين الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه، أن من أسباب هلاك الأمم واستحقاقها عذاب الله وعقابه هو: 1- كثرة الأسئلة عما لا نفع فيه إن لم تكن مضرة،ولاضرورة ولاحاجة فيها فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال. والسؤال المطلوب من المسلم شرعا على أقسام : القسم الأول : سؤال الجاهل عما يجهله من أمور الدين وأحكام الشرع، مما يجب عليه فعله ويطالَب بأدائه، كأحكام الطهارة والصلاة إذا بلغ، وأحكام الصوم إذا أدرك رمضان وكان صحيحاً مقيماً، وأحكام الزكاة والحج إذا ملك المال أو كان لديه استطاعة، وأحكام البيع والشراء والمعاملات إذا كان يعمل بالتجارة، وأحكام الزواج وما يتعلق به لمن أراد الزواج، ونحو ذلك مما يسأل عنه المكلف عن فرائض الدين وعن أحكام المعاملة ونحو ذلك . وهذا السؤال واجب وعليه حمل قوله صلى الله عليه وسلم : ( طلب العلم فريضة على كل مسلم )وهو فرض كفاية : بمعنى أنه لا يجب على كل مسلم، بل يكفي أن يقوم به بعضهم، و قال تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } [النحل:43]، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إني أعطيت لساناً سؤولاً وقلباً عقولاً ، كذلك أخبر عن نفسه رضي الله تعالى عنه . والقسم الثاني: السؤال عن التفقه في الدين والتوسع ومعرفة أحكام الشرع وما يتعلق بها، لا للعمل وحده، بل ليكون هناك حَفَظَة لدين الله عز وجل، يقومون بالفتوى والقضاء، ويحملون لواء الدعوة إلى الله تعالى. قال سبحانه وتعالى :{ فلولا نفر َ مِنْ كُلَّ فرقةٍ منهم طائفة ، ليتفقهوا في الدين ولِينذِروا قومَهُمْ إذا رَجَعوا إليهم لعلهم يَحذَرون } [التوبة:122]. وهناك سؤال يستحب للمسلم أن يسأل عنه، وذلك مثل السؤال عن أعمال البِرِّ والقربات الزائدة عن الفرائض. القسم الثالث : أن يسأل عن شيء لم يوجبه الله عليه ، ولا على غيره ، وعما سكت عنه الشرع من الحلال والحرام،ولم يبين فيه طلباً أو نهياً. وعلى هذا حمل الحديث لكي لايقع المسلمين في حرج ومشقة، وهذا في زمن نزول الوحي. لأنه قد يكون في السؤال ترتب مشقة بسبب تكليف يحصل ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ( وسكت عن أشياء رحمة لكم فلا تسألوا عنها ) . وعن علي رضي الله عنه لما نزلت {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ً}. [آل عمران :97]. قال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فأعرض عنه ، حتى أعاد مرتين أو ثلاثاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وما يوشك أن أقول نعم ، والله لو قلت : نعم لو جبت ، ولو وجبت لما استطعتم ، فاتركوني ما تركتكم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن أمر فأجتنبوه ). فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبْدَ لكم تَسُؤُكُم } [المائدة:101]. أي لم آمركم بالعمل بها ، وهذا النهي خاص بزمانه صلى الله عليه وسلم . أما بعد أن استقرت الشريعة ،و أمن من الزيادة فيها زال النهي بزوال سببه ،وكره جماعة من السلف السؤال عن معاني الآيات المشتبهة . سئل مالك رحمه الله تعالى عن قوله تعالى :{الرحمن على العرش استوى }[طه:5] فقال : الاستواء معلوم، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة وأراك رجل سوء أخرجوه عني . كما أن هناك سؤال منهي عنه أي يحرم على المسلم سؤاله والخوض فيه وهو السؤال عما استئاثر الله به في علمه وأخفاه ولم يظهره ولم يطلع عليه عباده كالسؤال عن سر القضاء والقدر أو عن وقت قيام الساعة وعن الروح وما هيتها , وكذلك سؤال طلب المعجزات وخوارق العادات كما كان يفعل المشركون . فعلى المسلم أن يبحث عما جاء عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم يجتهد في فهم ذلك والوقوف على معانيه، فإن كان من الأمور العلمية صدق به واعتقده، وإن كان من الأمور العملية بذل وسعه في الاجتهاد في فعل ما يستطيعه من الأوامر واجتناب ما ينهى عنه، فمن فعل ذلك حصل السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة. وكثرة المسائل ليست دالة على دِين، ولا على ورع، ولا على طلب علم؛ وإنما ينبغي على طالب الحق، وصاحب الدِّين والخير أن يُقلَّ المسائل ما استطاع، وقد قال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ). فالسؤال عن أشياء لم يأتِ فيها تنزيل هذا ليس من فعل أهل الاتباع، بل يُسأل عمَّا جاء به التنزيل؛ لأن الله -جل وعلا- في هذه الآية قال: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ). "إنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم". الفرقة والأختلاف من أشد عوامل هلاك الأمة وتشتت شملها فالذين يُثيرون الخلاف في الدين ويريدون أن يجعلوا المسلمين شِيَعاً وفرقاً وأحزاباً يخرجهم الله من دائرة الإسلام، ويبرئ منهم نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم فيقول: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} وهو سبب هلاك الأمم، وإليه يشير رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : "إنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم". نلاحظ الذين يكثرون السؤال يكثر عندهم الخلاف، ولو أخذوا بما عليه العمل، وما تعلموه وعملوا به، وازدادوا علما بفقه الكتاب والسنة لحصلوا خيرا عظيما، أما كثرة الأسئلة تؤدي إلى كثرة الخلاف. أما الخلاف في الفروع وليس في الأصول، والذي مستند على دليل من الكتاب والسنة فهو خلاف ليس من شأنه أن يحدث الفرقة والشتات في صفوف الأمة. وقد ذكر المفسرون في اختلاف بني إسرائيل على أنبيائهم وكثرة مسائلهم في تفسير قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ....... الى نهاية الآيات أنه كان في بني إسرائيل رجل غني وله ابن عم فقير لا وارث له سواه فلما طال عليه موته قتله ليرثه وحمله إلى قرية أخرى فألقاه فأصبح يطلب ثأره وجاء بناس إلى موسى -عليه السلام- فسألوا موسى أن يدعوا الله ليبين بدعائه أمر القتيل فأمرهم بذبح بقرة قائلاً لهم : (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزواً..) أي أتستهزئ بنا ونحن نسألك عن أمر القتيل فتأمرنا أن نذبح بقرة فقال موسى : (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) أي من المستهزئين بالمؤمنين فلما علم الناس أن ذبح البقرة عزم من الله تعالى استوصفوه وكان تحت ذلك حكمة عظيمة وذلك أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل وله عجلة أتى بها إلى غيضة فقال:"اللهم إني استودعتك هذه العجلة لأبني حتى يكبر." ومات الرجل فصارت العجلة في الغيضة أعواماً وكانت تهرب من كل من رآها فلما كبر الابن كان باراً بوالديه وكان يقسم الليل ثلاثة أقسام يصلي ثلثاً وينام ثلثاً ويجلس عند رأس أمه ثلثاً فإذا أصبح احتطب على ظهره فيأتي السوق فيبيعه بما شاء ثم يتصدق بثلثه ويأكل بثلثه ويعطي والدته ثلثه فقالت له أمه يوماً:"إن أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا فانطلق فادع إله إبراهيم وإسماعيل ويعقوب أن يردها عليك وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل لك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها وكانت تسمى المذهبة لحسنها وصفوتها فرآها ترعى فصاح بها وقال:"أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل ويعقوب فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه فقبض على عنقها يقودها فتكلمت البقرة بإذن الله وقالت:"أيها الفتى البار بوالديه اركبني فإن ذلك أهون عليك." فقال:"إن أمي لم تأمرني بذلك وإنما قالت خذ بعنقها." فقالت البقرة:"بإله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر علي أبداً فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقشع من أصله وينطلق معك لفعل لبرك بأمك." فسارالفتى بها إلى أمه. فقالت له أمه:"إنك فقير لا مال لك ويشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فانطلق فبع هذه البقرة." فقال:"بكم أبيعها؟" قالت:"بثلاث دنانير ولا تبع بغير مشورتي." فانطلق بها إلى السوق فبعث الله ملكاً ليرى خلقه وقدرته وليختبر الفتى وكيف بره بأمه وكان الله به خبيراً فقال الملك:"بكم تبيع هذه البقرة؟" فقال:"بثلاثة دنانير وأشترط عليك رضاء أمي." فقال الملك: "لك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك." فقال:"لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلا برضا أمي."فردها إلى أمه وأخبرها بالثمن فقالت له:"ارجع فبعها بستة دنانير على رضا مني."فانطلق بها إلى السوق وأتى الملك فقال: "استأمرت أمك؟" فقال الفتى:"إنها أمرتني أن لا أنقصها على ستة دنانير على أن أستأمرها." فقال الملك:"فإني أعطيك اثني عشرة ديناراً." فأبى الفتى ورجع إلى أمه وأخبرها فقالت له: "إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليختبرك فإذا أتاك فقل له أتأمرنا ببيع هذه البقرة أم لا؟" ففعل فقال الملك:"اذهب إلى أمك وقل لها أمسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران سيشتريها منكم لقتيل يقتل من بني إسرائيل فلا تبيعوها إلا بملء مسكها دنانير فأمسكوها. وقضى الله على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها فما زالوا يستوصفونه حتى وصف لهم تلك البقرة مكافأة له على بره بأمه فاشتروها بملء مسكها ذهباً فضرب القتيل ببعض منها كما أُمِرُوا فقام القتيل بإذن الله ووأداجه تتشخب دماً وقال:" قتلني فلان." ثم سقط ومات مكانه فحُرِمَ قاتله الميراث. ومن فوائد هذه القصة: أن فيها تحذيراً لهذه الأمة من التشدد والتعنت، قال عليه الصلاة والسلام: (ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) فكثرة المسائل أي: التعنت، سبب للهلاك، ولذلك قال الله: (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة:71]، أي: مع كل هذه الأوصاف والتعنتات ما كادوا ليفعلوا. فكثرة الأسئلة التي يراد منها التعنت، وإيقاع المسئول في العنت والحرج، كل هذا منهي عنه، فينبغي للمسلم أن يحذر من التعنت والتشدد في المسائل، وكثرة الأسئلة عن أمور لم تقع بعد، أو التي فيها إشكال، وإنما الواجب على المسلم أن يسأل أسئلة واقعة، أو أسئلة تمس الحاجة إليها، ويكون قصده الفائدة فلهذا ما يُسْكَت عنه ينبغي أن يظل مسكوتا عنه، وألا يُحَرَّك، إلا فيما كان فيه نص، أو تتعلق به مصلحة عظيمة للمسلمين. الدروس المستفادة من الحديث 1- في الحديث إرشاد للمسلم إلى كيفية التعامل مع الأحكام والنصوص الشرعية ، ففي قوله صلى الله عليه وسلم ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ) أمر باجتناب كل ما نهى عنه الشرع ، سواء أكان محرما أم مكروها. 2- لا ينبغي للإنسان كثرة المسائل لأن كثرة المسائل ولا سيما في زمن الوحي ربمايوجب تحريم شيء لم يحرم أو إيجاب شيء لم يجب، وإنما يقتصر الإنسان في السؤال على مايحتاج إليه فقط. 3- هذا الحديث أنه يربي المسلم على الجدية في التعامل مع هذا الدين ، كما قال الله عزوجل : { إنه لقول فصل ، وما هو بالهزل } ( الطارق : 13-14 ) ، وهذه الجدّية تدعوه إلى أن يقبل بكليّته على تعلّم ما ينفعه من العلم ، ويجتهد في تربية نفسه وتزكيتها وتفقها في الدين . 4- سهولة هذا الدين الإسلامي حيث لم يجب على المرء إلا ما يستطيعه. 5- أن كثرة المسائل والاختلاف على الأنبياء من أسباب الهلاك كما هلك بذلك من كانقبلنا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لااله الا أنت نستغفرك ونتوب اليك |
#2
|
||||
|
||||
![]() جزاج الله خير ،،
|
#3
|
||||
|
||||
![]()
|
#4
|
|||
|
|||
![]() الاخت ام ايمن السلام عليكم بارك الله فيك اختي على هذه الدروس الرائعه من شرح احاديث المصطفى علية الصلاة والسلام جعلها الله في موازين حسناتك |
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |