«عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله - الصفحة 49 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 5039 - عددالزوار : 2193556 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4622 - عددالزوار : 1474358 )           »          تطبيق خرائط جوجل وسيلة لـ"اللصوص" لتنفيذ جرائمهم.. اعرف التفاصيل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          هل يتجسس هاتفك عليك؟.. اختبار بسيط هيقولك الحقيقة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          جوجل تطلق نسخه تجريبية من Google Drive لمستخدمى ويندوز 11 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          الذكاء الاصطناعي واستخدام البيانات الضخمة.. مستقبل التعليم في عصر التكنولوجيا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          كل ماتريد معرفته عن تطبيق Android Switch لمستخدمي iOS (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          تطبيق Google Maps لنظام iOS يحصل على تغيير جديد في التصميم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          ليه بطارية الموبايل بتضعف بعد فترة من الاستخدام؟ دليلك الكامل لحمايتها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          خدمة "شتوية" على موبايلك الآيفون تحميك من تقلبات الطقس السيئ.. جربها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #481  
قديم 08-09-2025, 12:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,685
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




فوائد وأحكام من قوله تعالى:

﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران: 92 - 95].

1- إباحة كل الأطعمة لبني إسرائيل من الحيوان وغيره، قبل نزول التوراة، إلا ما حرَّمه إسرائيل على نفسه؛ لقوله تعالى: ﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ﴾.

2- إن لله تعالى يُحل ما يشاء ويحرِّم ما يشاء؛ لقوله تعالى: ﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ الآية.

3- توسيع الله تعالى على بني إسرائيل قبل بَغْيهم، بإحلال كل الطعام لهم، وكانوا على شريعة إبراهيم عليه السلام، فلم يكن محرمًا عليهم سوى ما حرَّمه إسرائيل على نفسه.

4- أن ما حرَّمه إسرائيل على نفسه حرَّمه بنوه وأحفاده من بعده حتى نزول التوراة.

5- إثبات نزول التوراة من عند الله، وإثبات علوِّه - عز وجل - على خلقه بذاته وصفاته؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ﴾.

6- تبكيت اليهود والإشارة إلى أنهم سبب ما جاء من تحريم كثيرٍ من الأشياء عليهم في التوراة، وذلك بسبب بغْيهم كما ذكر الله تعالى.

7- إفحام اليهود وإقامة الحجة عليهم من كتابهم التوراة على جواز النسخ عقلًا وحصوله شرعًا؛ حيث نسَخت التوراة بعضَ الأحكام قبلها؛ من إحلال كل الطعام لبني إسرائيل إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه، فحرَّمت عليهم أشياء كثيرة بسبب بغيهم؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ [الأنعام: 146].

قال ابن القيم[1]: ومعلوم أن بني إسرائيل كانوا على شريعة أبيهم إسرائيل وملته، وأن الذي كان لهم حلالًا إنما هو بإحلال الله تعالى لهم على لسان إسرائيل والأنبياء بعده إلى حين نزول التوراة، ثم جاءت التوراة بتحريم كثير من المآكل عليهم التي كانت حلًا لبني إسرائيل، وهذا مُحض النسخ».

وقال ابن كثير[2]: «شرع في الرد على اليهود - قبَّحهم الله - وبيان أن النسخ الذي أنكروا وقوعه وجوازه قد وقَع، فإن الله - عز وجل - قد نص في كتابه التوراة أن نوحًا عليه السلام لما خرج من السفينة أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها، ثم بعد هذا حرَّم إسرائيل على نفسه لحمان الإبل وألبانها، فاتَّبعه بنوه في ذلك، وجاءت التوراة بتحريم ذلك، وأشياء أُخر، زيادة على ذلك، وكان الله - عز وجل - قد أذن لآدم في تزويج بناته من بنيه، وقد حرَّم ذلك بعد ذلك، وكان التسري على الزوجة مباحًا في شريعة إبراهيم، وقد فعله إبراهيم في هاجر لما تسرى بها على سارة، وقد حرِّم مثل هذا في التوراة عليهم، وكذلك كان الجمع بين الأختين شائعًا، وقد فعله يعقوب عليه السلام جمع بين الأختين، ثم حرِّم ذلك عليهم في التوراة.

وهذا كله منصوص عليه في التوراة عندهم، فهذا هو النسخ بعينه، فكذلك ما شرعه الله للمسيح عليه السلام في إحلاله بعض ما حرِّم في التوراة، فما بالهم لم يتبعوه؟ بل كذَّبوه وخالفوه، وكذلك ما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم من الدين القويم وملة إبراهيم، فما لهم لا يؤمنون؟».

8- الرد على اليهود في إنكارهم نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، بناءً على إنكارهم النسخ، بدعوى أنه لا يمكن أن يأتي نبي بخلاف ما جاء به الذي قبله.
9- أن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم؛ لأن ملة إبراهيم لم يُحرَّم فيها شيءٌ من الأطعمة، بينما حرَّم على اليهود أشياء كثيرة في التوراة.

10- بلوغ الذين يفترون على الله الكذب ويردون الحق، وينكرونه غاية الظلم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾، فأكد الظلم وحصره فيهم لبلوغهم من الظلم غايته.

11- جرأة المكذبين من أهل الكتاب وغيرهم على افتراء الكذب على الله تعالى، ومن اجترأ على الكذب على الله، فجرأتُه على الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى سائر الناس، من باب أَولى.

12- أن الحجة لا تقوم على العباد إلا بعد البيان والعلم؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾.

13- وجوب تصديق الله، وإظهار القول بذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ﴾، فأقواله - عز وجل - وأخباره صدقٌ، وأحكامه عدل وحقٌّ، وفي هذا أيضًا تعريضٌ بكذب أهل الكتاب.

14- وجوب اتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وإخلاص التوحيد لله تعالى، والبراءة من الشرك؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾؛ أي: اتبعوا ملة إبراهيم في إخلاص التوحيد والبراءة من الشرك وأهله، وعلى هذا الأصل اتفقت جميع الشرائع؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [النحل: 36]، أما من حيث فروع الشرائع، فقد جعل الله لكل نبي شرعة ومنهاجًا؛ كما قال تعالى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48].

15- فضيلة إبراهيم عليه السلام؛ لأن الله - عز وجل - أمرنا باتباعه وأثنى عليه، وجعله إمامًا وقدوة في إخلاص التوحيد لله تعالى والبراءة من الشرك وأهله؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 120 - 123].

16- فضل التوحيد، وأنه سبب النجاة، وخطر الشرك؛ لأنه سبب الهلاك، مما يوجب على العبد صيانةُ جناب التوحيد، والحذر من الشرك.

[1] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 501).

[2] في «تفسيره» (2/ 62-63).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #482  
قديم 16-09-2025, 11:24 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,685
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله تعالى:

﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [آل عمران: 98 - 101].

قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ﴾.

قوله: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ﴾ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في الموضعين، وصدر بـ﴿ قُل ﴾ للعناية والاهتمام والتوكيد، و«يا» في الموضعين حرف نداء، وصدر خطاب أهل الكتاب بالنداء لهم للتنبيه على عظم الأمر، وخطورته.

وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى، سُمُّوا بذلك؛ لأن الله - عز وجل - أنزل عليهم الكتاب، فأنزل على اليهود «التوراة»، وأنزل على النصارى «الإنجيل».

﴿ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾: الاستفهام للإنكار والتوبيخ والتقريع.

واللام: حرف جر و«ما» استفهامية، وحذفت ألفها لدخول حرف الجر عليها، أي: لماذا تكفرون بآيات الله، وتجحدونها، وتكذبون بها.

وآيات الله تنقسم إلى قسمين: آيات كونية، وآيات شرعية، فالآيات الكونية سميت آيات لدلالتها على وجود خالقها وعظمته ووحدانيته، وكماله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته واستحقاقه العبادة دون من سواه، كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [فصلت: 37].

والآيات الشرعية سُميت آيات، لدلالتها على صدق من جاء بها، وأنها من عند الله، بكونها صالحة لكل زمان ولكل مكان ولكل أمة، لا اختلاف فيها؛ كما قال عز وجل: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].

والمراد بقوله تعالى: ﴿ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ الآيات الكونية والشرعية.

والكفر بالآيات الكونية بإنكار خالقها كما يَزعُم أهلُ الإلحاد، أو اعتقاد شريك مع الله عز وجل أو مُعين في خلقها، كما يزعم أهل الشرك؛ قال تعالى في الرد عليهم: ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ﴾ [سبأ: 22].

والكفر بالآيات الشرعية يكون بتكذيبها وجحودها، أو بمخالفتها وعدم اتباعها؛ إما استكبارًا وإباءً، وإما إعراضًا عنها، وإما شكًّا فيها، وإما نفاقًا بإظهار الاتباع مع التكذيب بها باطنًا.

﴿ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ: الواو: حالية، فالجملة داخلة ضمن التوبيخ في قوله: ﴿ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ؛ أي: لِمَ تكفرون بآيات الله، والحال أنكم تعلمون أنه شهيد على عملكم، ويحتمل أن تكون الواو استئنافية، فتكون الجملة مستأنفة للتهديد والوعيد.

قوله: ﴿ وَاللَّهُ شَهِيدٌ ﴾؛ أي: شاهد مطلع رقيب حفيظ، و«شهيد» على وزن «فعيل» صفة مشبهة، أو صيغة مبالغة، يدل على عظم شهادته عز وجل.

﴿ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ﴾ «ما» مصدرية، أي: على عملكم، أو موصولة، أي: على الذي تعملونه، وهي تفيد العموم، أي: والله شهيد ومطلع على أعمالكم، وفي هذا من الوعيد ما فيه لأهل الكتاب؛ لأنه - عز وجل - إذا كان شهيدًا على أعمالهم، مطلعًا عليها، من كفرهم وتكذيبهم بآيات الله ومخالفتهم لها، فسيُحصيها عليهم ويحاسبهم ويجازيهم عليها.

قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾.

أمر الله - عز وجل - النبي صلى الله عليه وسلم في الآية السابقة بتوبيخ أهل الكتاب على كفرهم بآيات الله، بأنفسهم، ثم أمره بتوبيخهم على ما هو أشدُّ من ذلك، وهو عدوانهم بصد غيرهم عن سبيل الله.

قوله: ﴿ لِمَ تَصُدُّونَ: ﴾ لم تَصرِفون الناس ﴿ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾؛ أي: عن دين الله وشرعه الذي شرعه، وصراطه المستقيم الموصل إليه، وإلى مرضاته؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153]، وقال تعالى: ﴿ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 53].

﴿ مَنْ آمَنَ ﴾: «من»: اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول لـ«تصدون»؛ أي: تصرفون عن دين الله الذي آمن به، وهم في الحقيقة يصدون من آمن فيُخرجونه من الإيمان، ويصدون من لم يؤمن فيمنعونه من الدخول في الإيمان.

ولهذا قال: «تصدون»، ولم يقل «تخرجون» ونحوه؛ لأن الصد يكون لمن آمن ولمَن لم يؤمِن، وإنما ذُكِرَ صدُّهم مَن آمَن؛ لأنه أشدُّ وأعظم، وهو أيضًا سبب لصد من لم يؤمن؛ لأن من رأى الناس يخرجون من الدين زَهِدَ في الدخول فيه.

﴿ تَبْغُونَهَا عِوَجًا ﴾ الجملة حالية، أي: حال كونكم تبغونها عوجًا، و«عوجًا» مفعول به ثانٍ لـ«تبغونها»، أو حال؛ يقال في المعاني: «عِوَج» بكسر العين، اسم مصدر؛ كما قال تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا ﴾ [الكهف: 1، 2]، ويقال في الأعيان: «عَوَج» بفتح العين، مصدر، فيقال: «حائط عَوَج»، و«سور عَوَج»، و«العِوج» و«العَوج» بالكسر والفتح: الميل، ضد الاستقامة، قال الشاعر:
تَمُرُّون الديارَ ولم تَعوجوا
كلامكمُ عليّ إذًا حرام[1]




أي: ولم تميلوا.

والضمير في «تبغونها» يعود إلى ﴿ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، أي: تطلبون السبيل وتريدونها ﴿ عِوَجًا ﴾؛ أي: مائلة عن الحق مُعوجة، غير مستقيمة، بسلوك ما أنتم عليه من الكفر والضلال، والتهاون والتفريط فيما أمَر الله به، أو الغُلو والإفراط فيه، وارتكاب ما نهى الله عنه، مخالفة لهدي الله القويم، وصراطه المستقيم؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 161]، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ [التوبة: 36].

﴿ وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ: الواو للحال، أي: والحال أنكم شهداء، تشهدون على أنكم تصدون عن سبيل الله، وتبغونها عوجًا؛ لعلمكم بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه يدعو إلى سبيل الله ودينه الحق، وأنتم شهداء على ذلك، بشهادة كتب الله - عز وجل - المنزلة على أنبيائكم.

فهم شهداء على أنهم يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا؛ لأنهم يعرفون الحق ويخالفونه استكبارًا وعنادًا، وهم شهداء على صدقه صلى الله عليه وسلم بشهادة كُتبهم المنزَّلة عليهم، لكنهم جحَدوا هذه الشهادة وأنكروها، وكانوا أول كافر به؛ كما قال تعالى مخاطبًا لهم: ﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾ [البقرة: 41].

﴿ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ الواو: حالية، و«ما» نافية، و«ما» في قوله ﴿ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ موصولة، أو مصدرية؛ أي: وما الله بغافل عن عملكم، أو عن الذي تعملونه، وهي تفيد العموم، أي: وما الله بغافلٍ عن جميع الذي تعملونه من الصد عن دين الله، وابتغاء العوج، وغير ذلك، وفي هذا تهديدٌ ووعيدٌ لهم بأنه - عز وجل - سيحصي عليهم أعمالهم، ويُحاسبهم ويجازيهم عليها.

وقوله تعالى: ﴿ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ من الصفات السلبية التي تدل على كمال ضدها؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 58]، فقوله: ﴿ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾ لإثبات كمال حياته - عز وجل - وهكذا قوله تعالى هنا: ﴿ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ يتضمن مع نفي أن يكون - عز وجل - غافلًا عما يعملون يتضمن إثبات كمال رقابته على أعمالهم، وعلى كل شيء؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ﴾ [الأحزاب: 52].

قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴾.

بعدما وبَّخ عز وجل أهل الكتاب، وتوعَّدهم وهدَّدهم على كفرهم بآيات الله وصدهم عن سبيله مَن آمَن، وابتغائهم الطريق العوج، حذر المؤمنين من طاعتهم.

قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ «يا» حرف نداء، و«أي» منادى مبني على الضم في محل نصب «ها» للتنبيه، و«الذين» صفة لـ«أي» أو بدل منها، وصدر خطاب المؤمنين بالنداء للتنبيه والعناية والاهتمام، وناداهم بوصف الإيمان؛ تكريمًا وتشريفًا لهم، وحثًّا على الاتصاف بهذا الوصف، وأن امتثال ما بعده من توجيهات من مقتضيات الإيمان، وعدم امتثال ذلك يعد نقصًا في الإيمان.

وقد فرق عز وجل بين خطاب المؤمنين، وخطاب أهل الكتاب، فخاطب المؤمنين بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ بغير واسطة تشريفًا وتفضيلًا لهم، بينما خاطب أهل الكتاب بواسطة، فقال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ﴾.

﴿ إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾؛ أي: إن تطيعوا طائفة من أهل الكتاب، والمراد من لم يؤمن منهم، وهم أكثرهم، أي: إن تطيعوا طائفة من اليهود والنصارى فيما يأمرونكم به وينهونكم عنه.

وقوله: ﴿ فَرِيقًا ﴾ يدل على أن أهل الكتاب ليس كلهم على هذا الوصف؛ لأن منهم من آمن، فآمن من النصارى النجاشي، وآمن من اليهود عبدالله بن سلام رضي الله عنهما.

﴿ يَرُدُّوكُمْ ﴾ يرجعوكم ﴿ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴾؛ لأنهم يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، ويودون رد المؤمنين كفارًا، ويعملون على ذلك؛ قال تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ [البقرة: 109]، وقال تعالى: ﴿ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [آل عمران: 69].

وفي قوله: ﴿ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ: إشارة إلى أنهم يبذلون ما في وسعهم لإخراج المؤمنين عن دينهم، كما أنهم يسعون في صد من لم يؤمن عن الإيمان، وأنهم لا يقنعهم حتى يردوا المؤمنين عن دينهم، إلى ما هم عليه من الكفر؛ لأنهم حرفوا وبدلوا، وأشركوا مع الله «عزيرًا» و«المسيح».

لكنهم يتدرجون في الوصول إلى ذلك بالسعي أولًا، لإفساد عقائد وأخلاق المسلمين، بما يثيرون من الشبه، وما ينشرون من الرذائل؛ لتزهيد المسلمين في دينهم، وإخراجهم منه، فإذا صار الواحد منهم بلا دين سهل عليهم اقتناصه لدينهم.

وقد مكثتْ إحدى حملاتهم التنصيرية في مصر سنتين لم يعتنق النصرانية مسلم واحد، فشكا قائد الحملة إلى أحد بطارقتهم، فقال له: أنا لا أريدك أن تخرج المسلمين من الإسلام وتدخلهم في النصرانية، هذا أمر صعب، أنا أريدك أن تخرجهم من الإسلام، فإذا خرجوا منه سهل علينا اقتناصهم للنصرانية، وصدق الله العظيم: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120].

قوله تعالى: ﴿ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾.

قوله: ﴿ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ ﴾ الواو: عاطفة، و«كيف» للاستفهام، ومعناه الاستبعاد، أي: يُستبعد أن تكفروا، وحاشاكم أن تكفروا، وفيه معنى: التحذير أيضًا.

﴿ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ﴾ الواو للحال، أي: والحال أنكم ﴿ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ ﴾؛ أي: تقرأ عليكم آيات الله، القرآن الكريم.

﴿ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ﴾ يعيش بين أظهركم، يدعوكم ويعلمكم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الحديد: 8].

قال عبدالله بن رواحة رضي الله عنه:
وفينا رسول الله يتلو كتابه
إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا
به موقنات أن ما قال واقع[2]


فهذان وازعان لهم من الكفر: آيات الله، ورسوله.

ويحتمل كون الاستفهام في الآية بمعنى التعجب، أي: كيف يمكن أن تكفروا وأنتم تقرأ عليكم آيات الله القرآن الكريم، ورسول الله بين أظهركم وهو تعجب من حالهم، وتوبيخ لهم لو حصل منهم ذلك، وحاشاهم من ذلك.

والآية على الاحتمالين فيها تيئيس لأهل الكتاب من رجوع المسلمين عن دينهم مهما حاول أهل الكتاب، كما في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومًا لأصحابه: «أي المؤمنين أعجب إليكم إيمانًا؟ قالوا: الملائكة، قال: وكيف لا يؤمنون، وهم عند ربهم؟! وذكروا الأنبياء، قال: وكيف لا يؤمنون، والوحي ينزل عليهم؟ قالوا: فنحن، قال: وكيف لا تؤمنون، وأنا بين أظهركم؟ قالوا: فأي الناس أعجب إيمانًا؟ قال: قوم يجيئون من بعدكم، يجدون صحفًا يؤمنون بما فيها»[3].

وفي رواية أنه قال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، من أعجب الخلق إيمانًا؟ قالوا: الملائكة، قال: وكيف لا يؤمن الملائكة وهم يعاينون الأمر؟ قالوا: فالنبيون يا رسول الله، قال: وكيف لا يؤمن النبيون والوحي ينزل عليهم من السماء؟ قالوا: فأصحابك يا رسول الله، قال: وكيف لا يؤمن أصحابي وهم يرون ما يرون؟ ولكن أعجب الناس إيمانًا قوم يجيئون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني، ويصدقوني ولم يروني، أولئك إخواني»[4].

وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من كنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار»[5].

قال ابن عباس: «ولن يجد أحد طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصومه، حتى يكون كذلك، وقد كانت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئًا»[6].

﴿ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ ﴾ أي: يعبده، ويتمسك بحبله، ويستعن به، ويتوكل عليه، كما في قول المؤمنين: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، وقوله تعالى: ﴿ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾ [هود: 123]، وقوله تعالى: ﴿ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الحج: 78].

﴿ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾؛ أي: فلا يُخشى عليه من الضلال، وهذه الجملة جواب الشرط في قوله: ﴿ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ ﴾، والفاء: رابطة لجواب الشرط لاقترانه بـ«قد».

و«هُدي» بالبناء للمفعول؛ أي: كُتبت له الهداية أزلًا في اللوح المحفوظ، ووفق لها عملًا باعتصامه بالله، دُلَّ على الحق، ووفِّق إليه وفيه، وذلك لأن الهداية تنقسم إلى قسمين: هداية دلالة وإرشاد، وهذه عامة، فالله هاد بهذا المعنى، أي: دال ومرشد؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [فصلت: 17]؛ أي: دللناهم وأرشدناهم، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 3].

والرسل والدعاة إلى الله هداة بهداية الله - عز وجل - كما قال تعالى مخاطبًا نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52]، وقال إبراهيم - عليه السلام - لأبيه: ﴿ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ﴾ [مريم: 43]، وقال موسى - عليه السلام - مخاطبًا فرعون: ﴿ وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴾ [النازعات: 19]، وقال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24]، وقال تعالى: ﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ [الرعد: 7]، وقال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 38].

والقسم الثاني: هداية التوفيق، وهذه خاصة بالله - عز وجل - كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [القصص: 56]، وقال تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 272].

ولعل الحكمة في مجيء الفعل «هُدي» مبنيًا للمفعول محذوفًا فاعله؛ ليشمل نوعي الهداية وطرقها.

﴿ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ قرأ ابن كثير في رواية قنبل في جميع القرآن بالسين: «سراط»؛ معرفًا ومنكرًا، وقرأ حمزة بإشمام الصاد زايًا، وقرأ الباقون بالصاد الخالصة: ﴿ صراط ﴾، ونُكِّر الصراط في قوله: ﴿ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ تعظيمًا له وتفخيمًا، و«الصراط» الطريق الواضح الواسع المسلوك.

﴿ مُسْتَقِيمٍ ﴾ معتدل مستوٍ، غير معوج، يوصل إلى الغاية بأقرب وقت، وأقصر مسافة، لا انحراف فيه يمينًا أو شمالًا يزيد في مسافته، ويعرض للضياع، ولا نزول فيه ولا ارتفاع، يزيد في مسافته، ويشق على سالكيه بالنزول والارتفاع، قال جرير[7] يمدح هشام بن عبدالملك:
أمير المؤمنين على صراط
إذا اعوجَّ المواردُ مُستقيم




والمستقيم في الأصل: أقرب خط يصل بين نقطتين.

والمعنى: ومن يعتصم بالله عبادة له، وتمسكًا بكتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واستعانة بالله - عز وجل - وتوكلًا عليه، فقد هُدي ووفق إلى طريق واضح معتدل لا اعوجاج فيه، وهو صراط الله، الموصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة؛ قال عز وجل: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153]، وقال تعالى: ﴿ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [الحجر: 41]، وقال تعالى: ﴿ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 53]، وهو الذي يهدي ويدعو إليه رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ﴾ [الشورى: 52]؛ قال ابن كثير[8]: «فالاعتصام بالله، والتوكل عليه، هو العمدة في الهداية، والعدة في مباعدة الغواية، والوسيلة إلى الرشاد، وطريق السداد، وحصول المراد».

ولكن المصيبة كل المصيبة عدم تحقيق الاعتصام بالله لدى كثير من المسلمين، وما أصاب الأمة ما أصابها من الضعف على مستوى الأفراد والجماعات والدول، وما ابتلي كثير من المسلمين بما ابتلي به إلا بسبب عدم تحقيق الاعتصام بالله وبكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

فبسبب ذلك وقع كثير من المسلمين في كثير من البلاد الإسلامية في الشرك ودعاء غير الله والاستغاثة به، وبسبب ذلك حصل التفريط في كثير من الواجبات؛ وأعظمها الصلاة عمود الإسلام، والزكاة، وصلاة الجماعة، وغير ذلك من حقوق الله، وحقوق الخلق.

وبسبب ذلك تساهَل كثيرٌ من المسلمين في الوقوع في المحرمات؛ كالربا والمعاملات المحرمة والمشتبهة، والزنا، والعقوق، وقطيعة الرحم والغيبة والنميمة، والحسد والعداوة والبغضاء والظلم والكذب وشهادة الزور، وغير ذلك.

وبسبب ذلك وُئدت وَحدة المسلمين تحت شعارات ما أنزل الله بها من سلطان، فرَّقت المسلمين، وجعلتهم شيعًا وأحزابًا وجماعات، يكيد بعضها لبعض على حساب الإسلام.

وبسبب ذلك انحرف فئامٌ من أبناء المسلمين، ووقعوا في حبائل أعداء الإسلام، وخرجوا على الأمة وعلمائها وولاتها بالتكفير والتفجير.

ولن يَصلُح آخرُ هذه الآمة إلا بما صلَح به أولُها، فمن اعتصم بالله حقًّا، فعظَّم الله - عز وجل - وحقق توحيده، وأدى حقوقه التي من أعظمها بعد التوحيد إقامة الصلاة إقامة تامة كما شرع الله - عز وجل - مع جماعة المسلمين، وأدى حقوق الخلق؛ من الوالدين والأولاد والأزواج والأقارب، وغيرهم، وحقوق الأمة التي يتولاها، وتدبر كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو مهدي محفوظ بحفظ الله عز وجل؛ ولهذا قال - عز وجل - مخاطبًا المؤمنين: ﴿ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ﴾، أي: إن هذا يكاد يستحيل.

وهكذا كل من تمسك بكتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو محفوظ بحفظ الله، ولهذا قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾، وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: «احفَظ الله يَحفَظك»[9].

[1] البيت لجرير؛ انظر: «ديوانه» (ص 268).

[2] أخرجه البخاري في الجمعة (1155)- عن عبدالله بن رواحة رضي الله عنه.

[3] الحديث في «جزء ابن عرفة» (ص52 رقم 19)، و«دلائل النبوة» للبيهقي (6/ 538)؛ من حديث عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (2/ 71) وقال: «وقد ذكرت سند هذا الحديث والكلام عليه في أول شرح البخاري، ولله الحمد».
وروي معناه من حديث عمر بن الخطاب وابن عباس وأنس رضي الله عنهم؛ انظر: «مسند أبي يعلى» (1/ 147 رقم 160)، «مجمع الزوائد» (10/ 65 رقم 16689)، «المعجم الكبير» للطبراني (12/ 87 رقم 12560)، «شرح مشكل الآثار» (6/ 269 رقم 2472).

[4] أخرجه الطبراني في «الكبير» (12/ 87 رقم12560).

[5] سبق تخريجه.

[6] ذكره شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في كتاب التوحيد ونسبه لابن جرير؛ انظر: «تيسير العزيز الحميد» ص (479).

[7] انظر: «ديوانه» ص (218).

[8] في «تفسيره» (2/ 71).

[9] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2516)، وأحمد (1/ 293، 303، 307)، من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح».





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #483  
قديم 13-10-2025, 07:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,685
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



فوائــد وأحكــام من قوله تعالى:

﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ... ﴾


من قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [آل عمران: 98 - 101].

1- أمْر الله - عز وجل - لنبيه صلى الله عليه وسلم بتوبيخ أهل الكتاب على كفرهم بآيات الله؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾.

2- وجوب الإيمان بآيات الله - عز وجل - الكونية والشرعية؛ لأن الله - عز وجل - أمره صلى الله عليه وسلم بتوبيخ من أنكروها.

3- إثبات شهادة الله - عز وجل - واطلاعه التام، على ما يعمله أهل الكتاب وغيرهم من الكفر بآيات الله وتكذيبها ومخالفتها، وغير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ﴾.

4- تهديد من يكفر بآيات الله ويكذِّبها ويخالفها من أهل الكتاب وغيرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ﴾، فهو - عز وجل - شهيد على أعمالهم يحصيها عليهم وسيُحاسبهم ويُجازيهم عليها.

5- توبيخ أهل الكتاب على صدهم عن سبيل الله ودينه مَن آمَن به، ومن أراد الإيمان؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ ﴾.

6- أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو دين الله وصراطه الذي يجب اتباعه، لهذا سماه - عز وجل - سبيله؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 52، 53].

7- إرادة أهل الكتاب سلوكَ الناس الطريقَ العِوَج، وهو ما هم عليه من الباطل والمخالفة للحق والعدول عن سبيل الله؛ لقوله تعالى: ﴿ تَبْغُونَهَا عِوَجًا ﴾.

وهكذا يريد كل دعاة الباطل؛ كما قال تعالى: ﴿ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 27].

8- أن كل من سعى في صد الناس عن دين الله، وأراد الطريق العِوَج من دعاة التغريب وغيرهم، ففيه شبه من اليهود والنصارى؛ لأن هذا مسلكهم.

9- أن إخراج من دخل في دين الله وحمْله على الارتداد، أعظمُ وأشدُّ مِن منْع مَن أراد الدخول فيه، كما أنه سببٌ للمنع من الدخول فيه، لهذا خصَّه - عز وجل - بالذكر، فقال: ﴿ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ ﴾.

10- شهادة أهل الكتاب على أنفسهم أنهم يَصُدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجًا، وأنه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى سبيل الله ودينه الحق؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ ﴾، وإنما منَعهم من اتباعه صلى الله عليه وسلم الاستكبار والحسدُ.

11- كان الواجب على أهل الكتاب عدمَ الصد عن سبيل الله، وعدم ابتغاء العوج؛ لأنهم يعلمون أنهم على الباطل، وأنه صلى الله عليه وسلم على الطريق الحق.

12- إثبات كمال رقابة الله عز وجل على أعمال أهل الكتاب وغيرهم، وأنه ليس بغافلٍ عما يعملون، وفي هذا وعيدٌ وتهديد لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾.

13- تصدير الخطاب للمؤمنين بالنداء للتنبيه والعناية والاهتمام، ونداؤهم بوصف الإيمان؛ تشريفًا وتكريمًا لهم، وحثًّا على الاتصاف بهذا الوصف، وأن امتثال ما بعده وهو عدم طاعة أهل الكتاب من مقتضيات الإيمان، وعدم ذلك نقص في الإيمان؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾.

14- تحذير المؤمنين من طاعة دعاة الكفر، من أهل الكتاب، وغيرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴾.

فلا يجوز الاغترار بما يبدونه من الصداقة والمودة، فهم أعداء مهما أظهروا من ذلك؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [الممتحنة: 1].

15- حرص الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على رد المسلمين عن دينهم إلى ما هم عليه من الكفر، وأنهم لا يقنعون منهم بدون ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120]، وقال تعالى: ﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾ [النساء: 89]، وقال تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 109].

ولأجل ذلك تجدهم يسعون بشتى الوسائل لإفساد عقائد وأخلاق المسلمين، ويَدسون السم في الدسم، فيدعون إلى إخراج المرأة من بيتها وسفورها باسم تحرير المرأة والدفاع عن حقوقها، ويدعون إلى مصادرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باسم الحرية وعدم التدخل في شؤون الآخرين، ويزيِّنون للناس الربا والقمار والمكاسب الخبيثة بدعوى حرية الكسب وتنمية المال ونحو ذلك.

ويدعون إلى تعطيل الحدود في الإسلام، ويَصِمُونها بالوحشية كقتل القاتل، ورجم الزاني أو جلده، وقطع يد السارق، وجلد القاذف وشارب الخمر بدعوى الدفاع عن حقوق الإنسان، وكأنهم أرحم بالإنسان من خالقه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.

يرحمون المجرمين، ولا يرحمون المجتمع بأسْره من شرور المجرمين، وصدق الله العظيم: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50].

16- أن السبب في تسلُّط الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على المؤمنين، هو إيمانهم بالله وشرعه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [البروج: 8]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ﴾ [البقرة: 217].

17- أن من أهل الكتاب من آمَن فلا يسعى في رد المسلمين إلى الكفر؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ الآية، ومفهوم هذا أن فريقًا منهم ليسوا كذلك.

18- استبعاد كفر المؤمنين، وآيات الله تُتلى عليهم، ورسوله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ﴾، والتعجيب والتحذير من أن يحصل شيء من ذلك، والتوبيخ لمن فعله؛ لأن الحجة عليه أقوم، وذنبه أعظم - وحاشاهم رضي الله عنهم من ذلك - وإنما سيقت الآيات لتيئيس كفار أهل الكتاب من ارتداد المؤمنين؛ ولهذا لم تقع الردة إلا بعد موته صلى الله عليه وسلم من بعض الأعراب، وممن لم يتمكن الإيمان من قلوبهم.

19- أن القرآن الكريم هو آيات الله الدالة على كماله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وعلى صدق مَن جاء به مِن عند الله - عز وجل - المعجز بأقصر سورة منه؛ لقوله تعالى: ﴿ آيَاتُ اللَّهِ ﴾.

20- أن من بلغه القرآن قامت عليه الحجة، سواء تلاه عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، أو غيره؛ لقوله تعالى: ﴿ تُتْلَى ﴾؛ أي: يتلوها الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره، ممن يبلغ عنه.

21- إثبات رسالته صلى الله عليه وسلم، وتشريفه وتكريمه بإضافته إليه - عز وجل - في قوله تعالى: ﴿ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ﴾.

22- أن في كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم العصمةَ بإذن الله لمن تمسك بهما من الكفر والضلال.

23- أن من اعتصم بالله - عز وجل - عبادة له وتمسكًا بحبْله، واستعانة به وتوكلًا عليه، فقد كُتبت له الهداية إلى الصراط المستقيم أزلًا في اللوح المحفوظ، وعملًا في هذه الحياة، أُرشد إلى الحق، ووفِّق إليه، وفيه؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.

24- الحث على الاعتصام بالله؛ عبادة له وتوكلًا عليه؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.

25- في تنكير «صراط» في قوله: ﴿ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ تعظيم له؛ لأنه صراط الله المؤدي إلى الله - عز وجل - ومرضاته، وإلى السعادة في الدنيا والآخرة؛ ولهذا وصفه بأنه ﴿ مُسْتَقِيمٍ ﴾؛ أي: معتدل لا عوج فيه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #484  
قديم 13-10-2025, 07:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,685
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

تفسير قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ... ﴾


قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 102 - 105].


قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾.

قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ سبق الكلام على هذا.

﴿ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾؛ أي: اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بفعل أوامره واجتناب نواهيه.

والتقوى: مأخوذة من الوقاية، وهي أن تجعل بينك وبين الشيء الضار، أو المخوف وقاية، فتتقي البرد بلبس الملابس الثقيلة، وتتقي الشوك بلبس النعلين، وهكذا.

وأصلها: «وَقْوى» قلبت الواو تاء؛ لعلة تصريفية.

وتقوى الله - عز وجل - هي وصيته للأولين والآخرين، كما قال عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء: 131].

قال الشاعر:
لعمرُك ما يدري الفتى كيف يتَّقي
إذا هو لم يجعل له الله واقيا




﴿ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾؛ أي: حق تقواه، بقدر استطاعتكم وجهدكم، كما قال تعالى في سورة التغابن: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16].

قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: «﴿ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر»[1].

ولا غضاضة في أمر المؤمنين بتقوى الله - عز وجل - فقد أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ﴾ [الأحزاب: 1]، وهو صلى الله عليه وسلم أتقى الناس لربه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له»[2].

ولما قال أحدهم للخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «اتق الله»، أنكر عليه بعض الحاضرين، وقال: كيف تقول لأمير المؤمنين «اتَّق الله»؟ فقال عمر رضي الله عنه: «دَعه، فليَقُلْها، فلا خير فيكم إذا لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم»[3].

﴿ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ الواو: عاطفة، و«لا» ناهية، و«تموتن» فعل مضارع مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون، والنون المذكورة للتوكيد.

﴿ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾: استثناء من أعم الأحوال؛ أي: ولا تموتن على حال من الأحوال إلا على حال كونكم مسلمين.

والمراد بالإسلام ما يشمل الإيمان؛ أي: إلا وأنتم مسلمون ظاهرًا وباطنًا؛ لأن الإسلام والإيمان إذا أفرد أحدهما دخل معه الآخر؛ أي: ولا تموتن إلا على الإسلام.

والنهي عن الموت إلا على الإسلام يستلزم النهي عن مفارقة الإسلام طوال الحياة، أي: بادروا إلى الإسلام، والزموه، واثبُتوا عليه إلى الموت؛ لأن العبرة بالخاتمة؛ قال تعالى: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99].

والمرء ما يدري متى يفجؤه الموت، وقد قيل:
كل امرئٍ مُصَبَّح في أهله
والموت أدنى من شراك نعله[4]




وعن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه»[5].

وعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيَسبِق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها»[6].

لكن من عاش مستمسكًا بالإسلام فهو حري أن يحفظه الله حتى يتوفاه على ذلك - بكرمه - عز وجل - وفضله.

ويؤيد هذا ما جاء في حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة - فيما يبدو للناس - وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة»[7].

وعن جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بثلاث يقول: «لا يموتن أحدُكم إلا وهو يحسن بالله الظن»[8].

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي»[9].

وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كان رجل من الأنصار مريضًا، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فوافقه في السوق فسلم عليه، فقال له: «كيف أنت يا فلان»؟ قال: بخير يا رسول الله، أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف» [10].

والله - عز وجل - لا يضيع أجر من أحسن عملًا، فالغالب أن من عاش على شيء مات عليه، وبعث عليه، ولهذا فإن من سأل الله الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه[11].

قوله تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾.

رُوي أن هذه الآية نزلت في الأوس والخزرج[12]، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

قوله: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ﴾ الواو: عاطفة، والاعتصام: التمسك بما يعصم، ويحمي من المخوف والمحذور، و«حبل الله»: دينه وشرعه؛ كما قال تعالى: ﴿ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا ﴾ [الشورى: 13].

وسمِّي دين الله وشرعه حبلًا له - عز وجل - لأنه الموصل إليه وإلى رضوانه وجنته، وهو الذي وضعه.

﴿ جَمِيعًا﴾: حال، أي: كلكم أيها المؤمنون.

قال ابن القيم[13]: «ومدار السعادة الدنيوية والأخروية على الاعتصام بالله، والاعتصام بحبله، ولا نجاة إلا لمن تمسَّك بهاتين العصمتين، فأما الاعتصام بحبله، فإنه يعصم من الضلالة، والاعتصام به يعصم من الهلكة، فإن السائر إلى الله كالسائر على طريق نحو مقصده، فهو محتاج إلى هداية الطريق والسلامة فيها، فلا يصل إلى مقصده إلا بعد حصول هذين الأمرين له، فالدليل كفيل بعصمته من الضلالة، وأن يهديه إلى الطريق، والعدة والقوة والسلاح التي بها تحصل له السلامة من قطاع الطريق وآفاتها، فالاعتصام بحبل الله يوجب له الهداية واتباع الدليل، والاعتصام بالله يوجب له القوة والعدة والسلاح والمادة التي يسلم بها في طريقه».

﴿ وَلَا تَتَفَرَّقُوا ﴾ أمرهم بالاجتماع، ثم أكد ذلك بنهيهم عن التفرق، أي: ولا تفرقوا شيعًا وأحزابًا، جماعات وأفرادًا؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا، فيرضى لكم أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا، ولا تفرَّقوا، ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»[14].

وفي حديث أبي مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم»[15].

وما أصاب المسلمين ما أصابهم من الضعف والتخلف، وتسلط الأعداء، والجهل والفقر والمرض، إلا بسبب التفرق شيعًا وأحزابًا وجماعات، كما قال الشاعر:
وتشعبوا شعبًا فكل جزيرة
فيها أمير المؤمنين ومنبر[16]



بل إن ما وقع فيه المسلمون اليوم من التفرق جماعات وحزبيات وتصنيف للطوائف أشد وأعظم؛ حيث يكيد بعض هذه الجماعات لبعض باسم الإسلام على حساب الإسلام؛ نسأل الله الهداية والتوفيق، وجمع كلمة المسلمين على الحق.

﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾؛ أي: واذكروا بألسنتكم ﴿ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ بالثناء عليه، والتحدث بها، واذكروها بقلوبكم، واشكروها بجوارحكم؛ لأن ذكر نعمه - عز وجل - سبب لشكرها؛ كما قال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152].

و«نعمة» مفرد مضاف إلى معرفة يفيد العموم.

و«نعمة الله»: كل ما أنعم الله به على خلقه من النعم الدينية والدنيوية، والعطاء والرزق، وجلب النعم، ودفع النقم؛ أي: تذكروا كل نعم الله عليكم التي أهمها وأعظمها نعمة الإيمان، ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ونزول القرآن.

﴿ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ﴾، هذا بيان وتفسير لنعمة الله عليهم.

﴿ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً ﴾، «إذ» ظرف بمعنى «حين» أي: حين كنتم أعداء بينكم الحروب والغارات والفتن والثارات، فالأوس والخزرج كانت بينهم حروب دامت أكثر من مائة وعشرين سنة، منها يوم بعاث، وكذا الحال بالنسبة لقبائل العرب الأخرى: قريش، وهوازن وغيرها.

﴿ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ﴾؛ أي: جمع بين قلوبكم على الحق والهدى.

ولم يقل: «فألَّف بينكم»؛ لأن الشأن والمدار على اجتماع القلوب، حتى ولو تباعدت الأبدان والأوطان، ولا فائدة في اجتماع الأبدان مع تنافر القلوب وتفرُّقها؛ كما قال تعالى عن اليهود: ﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [الحشر: 14].

بل إن اجتماع الأبدان مع تنافر القلوب يمثل خطرًا عظيمًا، ولهذا كان المنافقون أخطر أعداء الإسلام على المسلمين؛ لأنهم بين أظهرهم، والتأليف بين القلوب ليس بالأمر السهل، وكما قيل:
إن القلوب إذا تنافَر وُدُّها
مثل الزجاجة كسرها لا يجبر[17]




لكن الذي خلق القلوب - سبحانه وتعالى - يؤلِّف بينها بقدرته وعزته وحكمته؛ ولهذا قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 63].

وقال عز وجل للمؤمنين: ﴿ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الممتحنة: 7]، وقال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالًا، فهداكم الله بي، وكنتم متفرِّقين، فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، كلما قال شيئًا قالوا: الله ورسوله أَمَنُّ»[18].

﴿ ﴾ أي: صرتم.

﴿ ﴾ الباء للسببية، أي: بسبب إنعامه عليكم بالهداية للإسلام.

﴿ ﴾ أي: إخوة متآلفين متحابين، تربط بينكم أقوى رابطة هي رابطة أخوة الإيمان، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10].

تلك الرابطة التي تتضاءل أمامها جميع روابط النسب، والعرق والوطن، والجماعات والحزبيات والقوميات، وغير ذلك.

تلك الرابطة التي آخت بين أبي بكر القرشي، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي رضي الله عنهم.

وقد أحسن القائل:
أبي الإسلام لا أب لي سواه
إذا افتخروا بقيس أو تميم[19]



وقال الآخر:
لعمرُك ما الإنسان إلا ابن دينه
فلا تترك التقوى اعتمادًا على النسب
فقد رفَع الإسلام سلمان فارس
وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب[20]




وقد ضرب الصحابة - رضوان الله عليهم - في هذه الأخوة الإيمانية فيما بينهم أروع الأمثلة، حتى إن الأنصار لما قدم إليهم المهاجرون، قاسموهم أموالهم وديارهم، وآثروهم على أنفسهم، وعلى قراباتهم للأخوة التي آخاها الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم.

﴿ وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ ﴾؛ أي: وكنتم قبل الإسلام ﴿ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ ﴾؛ أي: على طرف ﴿ حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ ﴾، وشفا الشيء طرفه الذي من كان عليه، فهو عرضة للسقوط والهلاك؛ كما قال تعالى في أصحاب مسجد الضرار: ﴿ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ ﴾ [التوبة: 109].

ومعنى قوله: ﴿ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ ﴾؛ أي: على طرف حفرة من نار جهنم بسبب ما أنتم عليه من الكفر والشرك؛ أي: ليس بينكم وبين السقوط في النار والوقوع فيها إلا أن تموتوا؛ كما قال تعالى: ﴿ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ ﴾ [التوبة: 109].

﴿ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ﴾؛ أي: فخلصكم منها، وأبعدكم عنها، بهدايتكم للإيمان.

﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ﴾: الكاف: اسم بمعنى «مثل» نعت لمصدر محذوف؛ أي: بيانًا مثل ذلك البيان في هذه الآيات، يبين الله لكم آياته، الشرعية والكونية.

﴿ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾: «لعل» للتعليل، أي: لأجل أن تهتدوا، إلى ما ينفعكم في دينكم ودنياكم وأخراكم، هداية دلالة وعلم، وهداية توفيق وعمل.

قوله تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾.

أمر الله عز وجل المؤمنين في الآيتين السابقتين بتقواه، والاعتصام بحبله، ونهاهم عن التفرق، ثم أمرهم بأن يكون منهم أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وهو من تقوى الله - عز وجل - لأهميته، فعطْفه على الأمر بتقوى الله أشبه بعطف الخاص على العام.

قوله: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ﴾: الواو: عاطفة، أو استئنافية، واللام: للأمر، ولهذا جزم الفعل بعدها، والأصل في الأمر: الوجوب.

﴿ منكم ﴾ الخطاب: للمؤمنين، و«من»: تبعيضية؛ أي: وليكن بعضكم يدعون إلى الخير؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ ﴾ [التوبة: 122]، ويؤيد هذا قوله ﴿ أُمةٌ ﴾.

ويحتمل أن تكون «من» لبيان الجنس، أي: ولتكونوا أمة يدعون إلى الخير كما قال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 110].

﴿ أُمةٌ ﴾ طائفة وجماعة.

﴿ يَدعُون ﴾ كل من يصلح توجيه الدعوة إليه؛ كقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [يونس: 25].

﴿ إِلَى الْخَيْرِ﴾: الخير اسم يجمع خصال الإسلام، كما في حديث حذيفة - رضي الله عنه - أنه قال: «يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟»[21].

فالدعاء إلى الخير هو الدعاء إلى الإسلام وجميع شرائعه العظام - من فعل المأمورات، وترك المحظورات - التي كلها خيرٌ في الدين والدنيا والآخرة، كالدعوة إلى الصلاة والزكاة والصوم والحج وبر الوالدين وصلة الأرحام، وغير ذلك من الواجبات، والدعوة إلى ترك المحرمات كالربا والزنا والسرقة، وغير ذلك، وكل ذلك خير وضده شر؛ قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8].

﴿ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنْكَرِ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ﴾ من عطف الخاص على العام؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم وأعظم الخير، وهو سبب لفعل الخير، وقدم الدعوة إلى الخير؛ لأنها ينبغي أن تكون قبل الأمر والنهي، لأنها توجيه وتعليم، ثم يعقبها الأمر والنهي، وقرن بين الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنهما من أعظم وأهم واجبات الدين.

وقوله: ﴿ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾؛ أي: ويأمرون الناس بفعل المعروف، و«المعروف» كل ما أمر به الشرع وأقرَّه، كالأمر بالإيمان بأركان الإيمان الستة، وأداء أركان الإسلام الخمسة وغير ذلك.

﴿ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنْكَرِ ﴾؛ أي: وينهون الناس عن المنكر، وهو كل ما نهى عنه الشرع وأنكره من المعاصي وأنواع الشرور والفساد؛ كالشرك والربا وقتل النفس بغير حق، والزنا والسرقة وغير ذلك من فعل المحرمات، أو ترك الواجبات.

﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ الإشارة للذين يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأشار إليهم بإشارة البعيد؛ تنويهًا بهم ورفعةً لشأنهم.

وأكد الفلاح وقصره فيهم، بكون الجملة اسمية، معرفة الطرفين، وبضمير الفصل «هم» أي: أولئك هم المفلحون حقًّا، دون غيرهم.

قال ابن القيم[22]: «فخصَّ هؤلاء بالفلاح، دون من عداهم، والداعون إلى الخير، هم الداعون إلى كتاب الله وسنة رسوله، لا الداعون إلى رأي فلان وفلان».

والفلاح: الفوز والظفر بالمطلوب، والنجاة والسلامة من المرهوب، الفوز بالسعادة في الدنيا، بالإيمان والحياة الطيبة، والسعادة في الآخرة بالجنة والنجاة من النار.

فالمفلحون: الفائزون بالسعادة في الدنيا والآخرة؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].

قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾.

قوله: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ الآية.

في هذا تأكيد لما سبق من الأمر بتقوى الله - عز وجل - والاعتصام بحبله، والنهي عن التفرق، كما أن فيه إشارة إلى أن من أعظم أسباب التفرق ترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قوله: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا ﴾؛ أي: ولا تصيروا أيها المؤمنون ﴿ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾؛ أي: مثل الذين تفرقوا من أهل الكتاب، وغيرهم، وصاروا أحزابًا وشيعًا.

﴿ وَاخْتَلَفُوا﴾ في قلوبهم تجاه ما جاءهم من الحق على ألسن رسل الله، وفي كتبه، وتركوا الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ كما قال تعالى: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78، 79].

وقدَّم التفرق على الاختلاف، مع أن الاختلاف هو سبب التفرق، والله أعلم؛ لأن التفرق هو محصلة الاختلاف، ونتيجته الظاهرة السيئة، والمعنى: ولا تصيروا أيها المؤمنون كأهل الكتاب الذين تفرَّقوا واختلفوا، فتتفرقون وتختلفون مثلهم، بل اعتصموا بحبل الله جميعًا، وادعوا إلى الخير، ومروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر.

قوله: ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾؛ أي: من بعد ما جاءتهم من عند الله - عز وجل - الآيات البيِّنات في كتب الله - عز وجل - وعلى ألسنة وأيدي رُسله من الآيات الشرعية والآيات الكونية، مما لا عذر لهم معه في التفرق والاختلاف، وترك الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ [البينة: 4]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ [الشورى: 14].

وعن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة، وهي: الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء، كما يتجارى الكَلَب[23] بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله، والله يا معشر العرب، لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم، لَغيْرُكم من الناس أحرى ألا يقوم به»[24].

وفي حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعُنَّ سَنن من كان قبلكم؛ شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه»، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن»[25].

وإذا كان صلى الله عليه وسلم في هذا لا ينطق عن الهوى، فيجب على كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية أن يَحذَر من هذا التفرق، وأن يلزم جماعة المسلمين؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذَلهم، حتى يأتي أمر الله، وهم كذلك»[26].

﴿ وَأُولَئِكَ﴾؛ أي: وأولئك الذين تفرَّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات من أهل الكتاب وغيرهم.

﴿ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ العذاب: العقاب، و«عظيم» على وزن «فعيل» صفة مشبهة، أو صيغة مبالغة، يدل على شدة عظمة هذا العذاب، ولا أحدَ يقدر عظمة هذا العذاب، إلا من وصفه بأنه عظيم، وهو العظيم سبحانه وتعالى.

وأشار إليهم بإشارة البعيد تحقيرًا لهم لانحطاط مرتبتهم، وأكَّد عذابهم بكون الجملة اسمية معرفة الطرفين.

[1] أخرجه عبدالرزاق في «تفسيره» (1/ 129)، وابن أبي شيبة (13/ 297، 298)، والطبري في «جامع البيان» (5/ 637)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (7/ 742)، والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (2/ 128- الأثر 299)، والطبراني (8501)، والحاكم (2/ 294). وهو صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه. وروي مرفوعًا؛ انظر: «تفسير ابن كثير» (2/ 71).

[2] أخرجه البخاري في النكاح (5063)، من حديث أنس رضي الله عنه.

[3] انظر: «الفقه الإسلامي وأدلته» (8/ 332).

[4] البيت لحكيم النهشلي؛ انظر: «البيان والتبيين» (3 / 126).

[5] أخرجه مسلم في الإمارة (1844)، والنسائي في البيعة (4191)، وابن ماجه في الفتن (3956)، وأحمد (2/ 192).

[6] أخرجه البخاري في الأنبياء، خلق آدم صلوات الله وسلامه عليه وذريته (3332)، ومسلم في القدر، كيفية خلق الآدمي في بطن أمه (2643)، وأبو داود في السنة (4708)، والترمذي في القدر (2137)، وابن ماجه في المقدمة (76).

[7] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2898)، ومسلم في الإيمان (112).

[8] أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2877)، وأبو داود في الجنائز (3113)، وابن ماجه في الزهد (4167).

[9] أخرجه البخاري في التوحيد (7405)، ومسلم في الذكر (2675)، والترمذي في الزهد (2388)، وابن ماجه في الأدب (3822).

[10] أخرجه الترمذي في الجنائز (983)، وابن ماجه في الزهد (4261)- وقال الترمذي: «حسن غريب» ورواه البزار- فيما ذكر ابن كثير في «تفسيره» (2/ 73) قال: «وقد رواه بعضهم مرسلًا».

[11] أخرجه مسلم في «الإمارة» (1909)، وأبو داود في «الصلاة» (1520)، والنسائي في «الجهاد» (3162)، والترمذي في «فضائل الجهاد» (1653)، وابن ماجه في «الجهاد» (2797)؛ من حديث سهل ابن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه.

[12] انظر: «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 498)، «تفسير ابن كثير» (2/ 74).

[13] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 506-507).

[14] أخرجه مسلم في الأقضية (1715).

[15] أخرجه مسلم في الصلاة، تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الصف الأول فالأول (432)، والنسائي في الإمامة (807)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (976).

[16] البيت لمساور بن هند بن زهير؛ انظر: «شرح ديوان الحماسة» للتبريزي (1/ 176)، «شرح ديوان الحماسة» للأصفهاني (ص332)، «شرح حماسة أبي تمام» (2/ 253).

[17] البيت لصالح بن عبد القدوس، أو لعلي رضي الله عنه. انظر: «اللطائف والطرائف» (ص196).

[18] أخرجه البخاري في المغازي، غزوة الطائف (4330)، ومسلم في الزكاة، إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام (1061)، من حديث عبدالله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه.

[19] البيت لنهار بن توسعة؛ انظر: «الكامل في اللغة» (3/ 133).

[20] البيتان ينسبان لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ انظر: «محاضرات الأدباء» (1/ 414).

[21] أخرجه البخاري في المناقب (3606)، ومسلم في الإمارة (847)، وأبو داود في الفتن والملاحم (4244).

[22] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 508).

[23] الكَلَب: داء يصيب الكلاب، فمن عضه قتله.

[24] أخرجه أبوداود في السنة (4597)، وأحمد (4/ 102).

[25] أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة (7320)، ومسلم في العلم (2669).

[26] أخرجه مسلم في الإمارة (1920)، وأبو داود في الفتن والملاحم (4252)، والترمذي في الفتن (2229)، وابن ماجه في المقدمة (10)، من حديث ثوبان رضي الله عنه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 5 ( الأعضاء 0 والزوار 5)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 162.87 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 159.78 كيلو بايت... تم توفير 3.09 كيلو بايت...بمعدل (1.90%)]