|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#21
|
||||
|
||||
![]() صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (22) الدكتور عثمان قدري مكانسي سورة المُجادِلة(2) [ الآية 14- 19] بسم الله الرحمن الرحيم ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (16) لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) * * * المنافق: الذي يظهر غير ما يبطن كي يستفيد من المتناقضات، فهو يظهر الإسلام في قوة المسلمين لينالما ينالون من خير، ويبطن الكفر لتسلك أموره عند إخوانه من الكفار.. وتراه يغشى مجالس المسلمين ليضرب عصافير بحجر... فهو- أولاً- يجاريهم ليظنوه منهم ويأمنوا إليه و- ثانياً- يتعرف إلى ما عندهم ليوصل ما علمه إلى أعداء المسلمين ليمكروا بهم. و- ثالثاً- هو ضعيف النفس خوّار، يتستر بالكذب والدجل ليصل إلى منافع مادية إن- وجدها- عند المسلمين لا يحصل عليها بغير هذا. فالمنافقون يتولون الكفار، ويجدون الراحة النفسية معهم لأنهم منهم، أما مع المسلمين فمتكلفون، الصلاة ثقيلة عليهم، انتصار الإسلام يفري أكبادهم، ويقلق راحتهم فيتكلفون الابتسام وإظهار التدين وحب الله والرسول وكره الكافرين.. وهذا يزعجهم فيتحملونه مرغمين.. يندسون في صفوف المسلمين ليموِّهوا على أعمالهم واسوداد قلوبهم. لكن أعمالهم تفضحهم.. فلا يستطيع الإنسان أن يملك نفسه الوقت كله وأن يواري ما في نفسه الزمن الطويل.. لا بد أن تظهر حقيقة الإنسان من فلتات لسانه ونظرات عينيه، وانتفاض جسمه، والحركة غير الإرادية، والتنفس المضطرب، وموالاة الكافرين، وعلى رأسهم أعداء الله المغضوب عليهم اليهود.. إذ كيف يوالي المسلم قوماً حادُّوا الله ورسوله وشاقوهما وأظهروا عداوتهما.. فلا يوالي أحد أحداً إلَّا إذا كان مثله من طينته نفسها فكراً، وقلباً وعملاً. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (1) . وبما أن المنافق لا يستطيع التخلي عن بني عقيدته لأن قلبه الأسود معهم وعاطفته الخبيثة لا تأنس إلَّا إليهم.. فإنه يعتذر بأعذار واهية تعزز- وهو واهمٌ ظانٌّ- موقفه أو هذا ما يظن- فهو يخشى إن انقلب الوضع أن يخسر موقعه وحياته.. ويبرر علاقته الوحيدة بهم بأعذار يكشف بها- دون أن يدري- نفسه وإيمانه المتلاشي- ولا نقول إيمانه الضعيف، فهو عديم الإيمان- فلو كان يؤمن بالله حق الإيمان لعلم أن الله ينصره حين يكون قويَّ العقيدة ثابت الإيمان بها- وأنه لا يصيبه إلَّا ما قدر الله له وأن العاقبة لدين الله ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) (1). قال السدي: نزلت الآية ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم ...) (2) في عبد الله بن أُبي وعبد الله بن نَبْتَل المنافقين. كان أحدهما يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرفع حديثه إلى يهود- فبينا النبي صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجراته إذا قال: " يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان " فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق أسمر خفيف اللحية.. فقال عليه الصلاة والسلام " علام تشتمني أنت وأصحابك؟ " فحلف بالله ما فعل ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "فعلت " فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه. فنزلت هذه الآية.. ألم يقل المنافقون في سورة التوبة في رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو أذن " نقول فيه ما نشاء ثم نحلف فيصدق.. وغاب عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفهم ويعرف أنهم كاذبون- ولكنه يتركهم ليزداد إثمهم فيستحقوا النار، ولأن إبقائهم لا ضرر فيه ولو أنهم عقلوا ما كانوا مع اليهود.. مهما خدم المنافقون اليهود، وقدَّموا لهم ما يريدون ولو خرجوا من جلودهم وأعلنوا كفرهم فلم يعتبرهم اليهود منهم.. فاليهود- في معتقدهم- أنهم شعب الله المختار- وأن الناس- ومنهم المنافقون حيوانات خلقها الله على هيئة بني آدم ليخدموهم.. أفلا يعقل المنافقون وضعفاء الإيمان..؟؟!!. لذلك قال تعالى( مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ )(1) ، فالمنافقون حيث لم تخالط بشاشة الإسلام نياط قلوبهم ليسوا من المسلمين وبما أن اليهود نسيج وحدهم فهم يعتبرون المنافقين خولاً لهم وليسوا منهم.. جعل المنافقون الأيمان الكاذبة طريقاً إلى الرسول- لكنَّ الله فضحهم ولم يصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحسبون أنهم يستجِنُّون بها- ويتقون القتل.. ولكن الكذب لا ينجي وإن فعل فإلى حين، حيث يظهر المستور وتنجلي الأمور.
__________________
|
#22
|
||||
|
||||
![]() صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (23) الدكتور عثمان قدري مكانسي سورة التحريم [ الآيات الخمس الأولى 1-5 ] ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً (5( . عندما قدر الله تعالى أن يكون الإسلام خاتمة الرسالات السماوية، وأن يجعل منهاجه المنهاجَ الرباني الأمثل، حمَّل رسالةَ الإسلام أفضلَ رسله وخيرهم صلى الله عليه وسلم. فكان سيدنا محمد القدوة والمثل، فهو الإنسان الكامل المعصوم، من اقتدى به وصل إلى درجة من الكمال بقدر تمثله صفاته صلى الله عليه وسلم. ولأن هذه الرسالة خاتمة الرسالات، ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام خاتم الرسل، وأكثرهم كمالاً، أطلعنا الله على حياته صلى الله عليه وسلم في مسجده وفي السوق وفي طريقة التعامل مع الناس مؤمنِهم وكافرِهم، برِّهم وفاجرِهم.. وصوَّر لنا دقائق حياته في بيته وخارجَه، في نهاره وليله، عباداته، وعلائقه الاجتماعية، وأوضح لنا حركاته وسكناته، غضبَه ورضاه. حزنَه وفرحه عبوسَه وابتسامه.. فكانت حياتُه ضوءاً ساطعاً لكل من له عينان وقلب وعقل.. حتى إننا نلمس من أحاديثه صلى الله عليه وسلم بأنواعها كلامَه مع الصغار والكبار، وملاطفتَه إياهم، وحياتَه مع نسائه رضوان الله عليهن.. فليس في حياته صلى الله عليه وسلم سرٌّ مخبوء أو أمر غامض، إنّه صفحة بيضاء نقية، وصور واقعية تمر أمامنا كشريط مسجل نراه ببصائرنا وأفكارنا وأرواحنا. وفي هذه الآيات الخمس الأولى من هذه السورة تسجيل لتصرُّف إنساني واقعي يحدث في بيوتات المسلمين وغيرهم.. والحالات الإِنسانية تحكم الحياة البشرية ببساطتها، بمشاكلها، وحلولِها ،بفرحها وترحها، سعادتها وإيذائها.. فإلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم نلتقي به وبأزواجه الطاهرات لنرى القضية عن كثب. حدثت هذه القصَّة بعد زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش رضي الله عنها.. وقصة زواجها واضحة في القرآن الكريم، في سورة الأحزاب. وبزواجه صلى الله عليه وسلم منها رضي الله عنها أبطلت عادة جاهلية، هي عادة التبني، فقد كانت زوجاً لزيد بن ثابت حين كان يسمى قبل نزول سورة (الأحزاب) زيد بن محمد، فقال تعالى: ) مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) (1)، فكانت قصة زواجها قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، ولعل بعض نساء النبي نفسَ عليها مكانتها فكانت هذه السورة تربية لهن خاصة، ولنساء المسلمين عامة. ويجدر بنا أن نذكر باختصار أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيكون الأمرُ أوضحُ والصورة أجلى. أول أزواجه صلى الله عليه وسلم: خديجة بنت خويلد تزوجها رسول الله وهو ابن خمس وعشرين وهي فوق الأربعين.. ماتت قبل الهجرة بثلاث سنوات، ولم يتزوج الرسول صلى الله عليه وسلم امرأة غيرها في حياتها.. ماتت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمسين من عمره الطاهر. والثانية: سودة بنت زمعة، كانت كبيرة السِّنِّ ليست ذاتَ جمال ،مات عنها زوجها قبل الهجرة فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم تخدمه وتقضي حوائجه ويعفُّها. والثالثة: عائشة بنت الصديق رضي الله عنه. كانت صغيرة فلم يدخل بها قبل الهجرة، بل بعدها، ولم يتزوج بكراً غيرها، وتوفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولمّا تتجاوز الثامنة عشَرة من عمرها.. كانت أحبَّ نسائه إليه صلى الله عليه وسلم. الرابعة: حفصة بنت عمر رضي الله عنه، تزوجها بعد الهجرة، بأكثر من سنتين، وكانت ثيِّباً، عرضها أبوها على الصديق وعثمان رضي الله عنهما، فلم يستجيبا، وتزوجها النبي تطييباً لأبيها. الخامسة: زينب بنت خزيمة. قتل زوجها في إحدى المعارك، وقد تكون بدراً أو أحُداً، فتزوجها رسول الله ، وتوفيت في حياته صلى الله عليه وسلم . السادسة: أم سلمة، جُرِح زوجها في أُحدٍ ومات متأثرا بجراحه، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضمَّ إليه عيالها. السابعة: زينب بنت جحش- ذكرناها سابقاً- كانت وضيئة جميلة، وهي بنت عمته، وكانت عائشة تغار منها، وتحِسُّ أنها تساميها. الثامنة: جويريّة بنتُ الحارث، سيدِ بني المصطلق، بعد أن غزاهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقصتها معروفة، فقد قضى عنها رسولُ الله كتابتها (مالاً يدفعه الكاتب ليعتق) وتزوجها. التاسعة: أم حبيبة ، رملةُ بنتُ أبي سفيان، كانت مهاجرة مسلمة في الحبشة، فارتد زوجها إلى النصرانية وتركها، فخطبها الرسول صلى الله عليه وسلم، ومهرها النجاشيُّ عنه، وجاءت من هناك إلى المدينة. العاشرة: صفية بنت حيي بن أخطب، زعيمِ بني النَّضير، وكانت لكنانة بن أبي الحقيق، قتل في خيبر، وسبيت، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحادية عشرة: ميمونة بنتُ الحارث، خالة خالد بن الوليد وعبد الله بن عباس.. وكانت آخر من تزوج صلى الله عليه وسلم. فإذا قلنا: إن خديجة رضي الله عنها ماتت قبل الهجرة وزينبَ بنت خزيمة ماتت في المدينة في حياته صلى الله عليه وسلم عرفنا أن رسول الله توفي عن تسعِ نساء رضي الله عنهن جميعاً.. ولعلَّ الناظر في أسباب زواجه صلى الله عليه وسلم منهن يرى مِن الحكمة والأسباب الوجيهة ما يُلقم الأفاكين، -الذين رموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بكثرة أزواجه -الحَجَرَ. ويسكتهم، وكثير من العلماء الأفاضل كتبوا في ذلك فأحسنوا، جزاهم الله خيراً.. ولا ننسى أن رسول الله بالإضافة إلى ذلك كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشراً صنعه الله على عينه، وأحسن خَلْقَه وخُلقَه، ليكون القدوة للبشر فهو ليس ملاكاً، ولا يدعي ذلك، بل إن الملَك لا يكون قدوة إلَّا لأمثاله من الملائكة وكذلك سيد البشر يكون قدوة للبشر. ( قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً( (1) . ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ) (1) . ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ) (2). كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته ألَينَ الناس، وأكرم الناس، وديعاً بَسَّاماً، يعامل نساءه أفضلَ ما يعامل رجلٌ نساءه، ومع ذلك فإن النوازع البشرية جعلت نساءه يطلبن منه زيادة في النفقة بعد كثرة المال من جرّاء الفيء، والغنائم، وكانت هناك أزمة أُسَرِية في بيت النبي انتهت بالتخيير بين التسريح والرضا بحياة التقشف مع النبي الكريم فاخترن البقاء معه صلى الله عليه وسلم. وبما أن نساءه صلى الله عليه وسلم بشر فقد يخطئْنَ، ويتصرفْن بما ينبئ عن ذلك، ومعروف أن عائشة كانت تغار من ضراتها الوضيئات، فحين قالت في حق صفية إنها قصيرة، نبهها رسول الله إلى أنها قالت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته. وغارت من جويرية بنت الحارث، وتمنت أن لا يراها رسول الله فإن رآها أعجبته، وهذه حاسة عند النساء واضحة.. وهكذا كان.. رآها رسول الله وأعجبته وتزوجها. بل إن عائشة رغبت أن يظل اختيارها- حين خُيِّرَتْ نساؤه بين البقاء معه على الكفاف وبين التسريح- سراً.. ومعروفٌ ذلك، إنها تريد أن يقِلَّ عددُ نسائه ،بل تريد أن تبقى له، ويبقى لها وحدها.. إنها الطبيعة البشرية في حب التملك والاستقلال به، أما سبب نزول الآيات الأولى من سورة التحريم فملخصها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشرب عسلاً عند زينب بنت جحش، ويمكث عندها فتواطأت عائشة وحفصة على أن تقول أيتهما جاءها: أكلتَ مغافير (وهو صمغ حلو الطعم كريه الرائحة) إني أجد منك ريح مغافير، قال: "لا، ولكني كنت أشرب عسلاً عند زينب بنت جحش فلن أعود له، وقد حلفتُ، لا تخبري بذلك أحداً" فهذا هو ما حرّمه على نفسه وهو حلال له، " لم تحرِّم ما أحل الله لك ". ولم تكتم هذه التي استكمها رسول الله الخبر فأخبرت صاحبتها المتآمرة معها، فأَطْلع الله تعالى رسول رسوله الكريم على الأمر " فعاد وأخبرها ولم يستقص الأمر، تمشياً مع أدبه الجم صلى الله عليه وسلم ، فلمس الموضوع مختصراً، دهشت زوجتُه ، فقالتْ مَن أخبرك هذا ؟! قال: إنه الله سبحانه " نبأني العليم الخبير " نبأه الله تعالى بكل شيء.. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشأ أن يحرجهما بذكر ما قالتاه.. وهذا يدل على أن هذه الأمور النسائية من كيدٍ وغَيرة.. تحدث من النساء كلهنَّ، برّهِنَّ وفاجرهنَّ، ولكن على درجات. ويبدو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب ،فآلى أن لا يقرب نساءه شهراً، وسمع الناس أن رسول الله هَمَّ بتطليق نسائه، والإشاعات لها دور كبير في تضخيم الخبر. ثم نزلت هذه الآيات وقد هدأ غضبه صلى الله عليه وسلم فعاد إلى نسائه.. وهاك التفصيل: يقول الرواة إن رسول الله وطئ مارية القبطية- جاريته- في بيت حفصة، فغضبت وعَدَّتْها إهانة، فوعدها رسول الله بتحريم مارية وحلف بهذا..فسواء كان الأمر قصة مارية، أم عسل زينب فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب وكان ما كان. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن منهن. قال وكان منزلي في دار أمية بن زيد بالعوالي، فغضبت يوماً على امرأتي فإذا هي تراجعني، فأنكرت أنْ تراجعني. فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج رسول الله ليراجعْنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل! فانطلق فدخل على حفصة؟! فقال أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قال: نعم، قال وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم. قال عمر رضي الله عنه: قد خاب من فعل ذلك منكنَّ وخسر! أفتأمن إحداكنَّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله، فإذا هي قد هلكت؟! لا تراجعي رسول الله ولا تسأليه شيئاً، وسليني من مالي ما بدا لك ولا يغُرَّنَّكِ أنْ كانت جارتك- يعني عائشة- هي أوسمَ (أجمل) وأحبَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحين علم عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه قال: خابت حفصة وخسرت. فلما صلَّى الصبح دخل على ابنته فوجدها تبكي، فسألها أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري، واستأذن عمر على رسول اللهصلى الله عليه وسلم عدة مرّات قبل أن يَأْذن له، فلما دخل طفق يحدثه، ويسرّي عنه، فتبسم رسول الله، وزال عنه غضبه، وسأله إن كان طلقهن فأجاب عليه الصلاة والسلام: لا... (القصة بتصرف). ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) (1) . إنه عتاب من الله مؤثر فلا يجوز لرسول الله أن يحرِّم ما أحله الله. وهذه مارية أحلها الله له، فما كان ينبغي له صلى الله عليه وسلم أن يحرمها على نفسه إرضاء لأحد. والتعقيب، "والله غفور رحيم" يوحي بأن الحرمان يستوجب المؤاخذة، لكنَّ رحمة الله ومغفرته واسعة، وهو إيحاء لطيف، فيه حبٌّ من الله ضافٍ لرسوله الكريم. والعدول عن اليمين أولى، وتحلّة اليمين معروفة فرضها الله تعالى، والله يُعيننا على ضعفنا فهو مولانا، لا يريد لنا العنت، وهو سبحانه عليم بشرعه الذي فرضه، ما يصدر عنه شيء الَّا لحكمة يريدها- سبحانه- فلا نحرِّم إلَّا ما حرم الله، ولا نحلُّ إلَّا ما أحل الله. وبقية الآيات تصوير للحادث الذي جرى بين الزوجتين.. وما كان ينبغي أن تؤذيا نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم. بل عليهما أن تحرصا على إرضائه، وعليهما أن تتوبا إلى الله تعالى مما صنعتنا، إذ آذتا دون قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز لهما بحال من الأحوال أن تتآلبا عليه كما تفعل الزوجات بأزواجهن فهما زوجتان للإِنسان العظيم، ذي القلب الرحيم صاحب الرسالة فهل تكونان عبئاً عليه أو تكونان عنصراً مساعداً في تأديته رسالته؟ إنَّ المرأة يأتيها زوجها بعد أن كدَّ وتعب وأصابه الإعياء ليجد في كنفها الراحة والهدوء ويغسل على أعتاب بيتها إرهاقه وهمه.. فماذا يفعل إن كانت هي الأخرى عبئاً عليه؟!! وألمح الله تعالى إلى أن رسوله عزيز عليه، لا يرضى له إلَّا أن تتوب الزوجتان و إلَّا فهو مولاه وصالح المؤمنين والملائكة.. فهو إذن تهديد مبطن إن لم يكن ظاهراً.. هذه منزلة الرسول العظيمة عند الله.. ولم لا؟ فهو رسوله وحامل شرعه إلى الناس أجمعين. وأشد أمرٍ على المرأة أن تهدد بالطلاق إن نشزت، وأن يتزوج غيرها أحسنَ منها، وهذا التهديد يدل على وجوب اعتذار الزوجتين إليه صلى الله عليه وسلم، وقد فعلتا، وأن تتوبا إلى الله وقد تابتا، وأن تهابا العودة إلى إزعاجه وقد هابتا، وأن تحذرا أن يطلقهما ويتزوج أفضل منهما وقد حذرتا. ورضي رسول الله صلى الله عليه وسلم،وهو أهل للرضا.. وعادت المياه إلى مجاريها وكانت هذه القصة درساً للمسلمين..
__________________
|
#23
|
||||
|
||||
![]() صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (24) الدكتور عثمان قدري مكانسي سورة المنافقون [الآيتان 7- 8] بسم الله الرحمن الرحيم ( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ). ذكر المفسرون أنه هاتين الآيتين وما سبقهما، وما تلاهما، نزلت في كبير المنافقين عبدالله بن أبَيّ بن سلول. قال ابن إسحاق في حديثه عن غزوة بني المصطلق سنة ست : فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم - على ماء المريسيع- وردت واردة الناس (سقاة الناس الذي يملأون الماء لهم) ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه بن مسعود، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عون بن الخزرج على الماء- فاقتتلا- فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين ،فغضب عبد الله بن أبي بن سلول، وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم، غلام حدث (صغير) فقال: أوَقَد فعلوها؟! (يوغر صدور الأنصار على المهاجرين) قد نافرونا وكاثرونا ني بلادنا. والله ما أعدُّنا (ما أحسبنا) وجلابيب قريش (وهو اسم كان المنافقون يطلقونه على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين) إلَّا كما قال الأولون: سمِّنْ كلبك يأكلك !! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل (يقصد نفسَه الأعزَّ والمسلمين من المهاجرين الأذل)، (وهذه مقالة المنافق الذي لم يخالط الإيمان قلبه ولم تعرف الأخوة الإسلامية طريقها إلى نفسه). ثم أقبل على من حضره من قومه فقال لهم (محرضاً على المسلمين) هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم، لتحولوا إلى غير داركم (وهذا ما يقوله الكافر والمنافق في حق المسلمين فقلبه مليء بالحقد عليهم، وكره مقامهم معه). فسمع زيد بن أرقم- فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عند فراغ رسول الله من عدوه، فاخبره الخبر (وهذا ما يجب أن يفعله كل مسلم إذا رأى ما يسيء إلى دينه وقيادته فكل مسلم لبنة في بناء هذا المجتمع، وعين تسهر على مصلحة المسلمين، ولا يتَكتَّم على المغرضين ولو كانوا ذوي قربى، فالمؤمنون أقوى وشيجة وأقرب صلة بعضهم ببعض من المنافقين، ولو كانوا من أهلهم، ولنا في إبراهيم عليه السلام أسوة حسنة حين تبرأ من والده الكافر، وأسوةٌ حسنة في نوح عليه السلام حين تبرأ من ابنه الكافر، فالعلاقة بين المسلمين تقوم على العقيدة والدين لا على الحب والطين). وسمع ابن الخطاب ما قاله زيد بن أرقم وكان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه: مُرْ به عباد بن بشر فليقتله. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "فكيف يا عمر- إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟" وهذه نظرة سديدة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو يتحدث بنور النبوة- وكل أعماله سديدة فهو المعصوم عن الخطأ برعاية من ربه سبحانه، ولا بد أن يتكشف لبني قومه (الأنصار) نفاقه.. وإذ ذاك يسقط فلا يدفع عنه أحد ويهوي ولا يرثي له أحد.. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر فأذّن بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها وقد مشى عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلّغه ما سمعه منه، فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به، وكان ابن أبي في قومه شريفاً عظيماً، فقال من حضر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل (حدباً منهم على ابن سلول ودفعاً عنه). والمنافقون هذا دأبهم كذابون يفترون بالله عز وجل، فيحلفون بالله- والعياذ بالله من حلفان الكذب- أنهم صادقون والمعروف أنهم (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ( (1) ، فقد اعتادوا على المخالفة ثم الحلف وعلى الكذب ثم الحلف!!! يظنون أنهم بذلك ينجون!! والله تعالى عرّاهم وفضحهم، ثم انظر معي إلى قوم لا يحترمون أنفسهم فالرجل الكريم يحرص على عدم الوقوع في الخطأ وإذا أخطأ لم ينكر خطأه.. بل اعترف به واعتذر عنه وأصلحه، والرجل الكريم الشجاع إذا رأى أمراً أو قال كلاماً ثبت عليه إلى أن يظهر خلافه، أمّا أن يسرع فور انكشافه يحلف كذباً ليداري عن نفسه فهو جبان لا يستحق التقدير والاحترام.. والقوم- قومه- ينظرون إليه- إلى ابن سلول- نظر العطف والحدب لا يريدونه صغيراً في أعين الناس ولا في أعينهم ،ولكنْ ما يفعلون إن كان المنافق صغيراً في نفسه؟!!). قال ابن إسحاق: فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار لقيه أُسَيْدُ بن حضير (من سادة الأوس) فحياه بتحية النبوة، وسلم عليه، ثم قال: يا نبي الله، والله لقد رحتَ في ساعة منكرة، ما كنت تروح في مثلها (والرواح المسير قبيل المساء) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أو ما بلغك ما قال صاحبكم)؟ قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: "عبد الله بن أبي". قال: وما قال؟ قال: (زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعزُّ منها الأذل" !!! قال أسَيدٌ: فأنت يا رسول الله - والله- لتخرجنه منها إن شئت، هو- والله- الذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله، ارفق به. فوالله لقد جاءنا الله بك، و إن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه يراك استلبته ملكه!. ولئن كان ما قاله أسيد يخفف من فعلة ابن سلول مع من استلبه ملكه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم لقلنا رجل أخذ مكان رجل فهو ينفس عليه ويراه مستلباً ملكه ،ولكنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يروم ملكاً ولا سيادة، إنما الله سوَّده وجعله نبياً ليبلغ رسالته إلى الناس، فهو- عليه الصلاة والسلام لا ينفس على أحد، ولا يستلب أحداً ملكَه- إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل يرى المؤمن في رسول الله شيئاً إلَّا أن يعظمه ويبجله.. وشتان شتان ما بين نبي رسول وبين رجل يبغى ملكاً.. فلا مجال لأن يراه ابن أبي مغتصباً مكانته.. ولكنه النفاق وسواد القلب يمنع صاحبه من التصرف السديد. ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذاك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصَدْرَ يومهم ذلك حتى آذتُهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أنْ وجدوا مسَّ الأرض فوقعوا نياماً، وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبي. وهذا تصرف عظيم من قائد مُلهمٍ، فالناس يكثر فيهم القيل والقال حين يتجالسون ويرتاحون، وقد يفلت الأمر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم إن تنابز الناس وحملوا السلاح في وجوه بعضهم بعضاً، فشغلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعب المسير وسهر الليل، ومتابعة الركب، شغَلهم بحمل المتاع، وقيادة الركوب والجدّ في السرى، فلما تعبوا وشُغلوا بأنفسهم عن إثارة المشاكل ثم لامسوا الأرض ناموا عميقاً طويلاً.. فإذا مرت فترة طويلة عن ذاك الحديث الذي أثار حفيظة الناس وعاد الناس يفكرون بعقولهم لا بعواطفهم انطفأ الغضب وضاعت فرصة الشيطان في الإيقاع بين المسلمين مُهاجرهم، وأنصاريّهم وتناسى الناس ما كان). قال ابن إسحاق: ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين، في ابن أبَيّ، ومن كان على مثل أمره، فلما نزلت، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن أرقم، ثم قال: "هذا الذي أوفى الله بأُذنه" وفي رواية إذْ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي فما كان يسرُّني أن لي بها الخلد في الدنيا. (مكافأة أهداها النبي صلى الله عليه وسلم زيداً.. أمسكت يده الشريفة بأذن زيد رضي الله عنه، وعركها تحبباً، فكانت برداً وسلاماً على زيد إلى أن لقي ربه، يفخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم داعبه، وضاحكه وأثبت صدقه.. اللهم اجعلنا من الصادقين وثَبِّتْ إيماننا.. اللهم اجعلنا من المؤمنين.. سئل حذيفة بن اليمان صاحب سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافق فقال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به، وهم اليوم شر منهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم كانوا يكتمونه، وهم اليوم يظهرونه..!! هذا ما قاله صاحب رسول الله عن منافقي زمانه فماذا نقول ونحن في القرن الخامس عشر الهجري؟!! اللهم إليك نشكو ضعفنا وهواننا على الناس. أنت رب المستضعفين أنت ربنا.. إلى مَنْ تكلنا؟ إن لم يكن بك علينا غضب فلا نبالي.. وإننا على خطا رسول الله وصحابته الكرام سائرون على رغم من نافَقَ وآذى المسلمين..). قال ابن إسحاق: وبلغ عبدَ الله بن عبد الله بن أبَي الذي كان من أمر أبيه ما كان، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي( يعني أباه) فيما بلغك عنه. فإن كنت لا بدَّ فاعلاً فمرني به، فانا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج، ما كان لها من رجل أَبرّ بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل مؤمناً بكافر، فادخل النار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بل نترفق به ونحسِنُ صحبته ما بقي معنا". وهذا تصرُّفٌ من عبد الله الابن يلقي ضوءاً على نفسيته الإيمانية العميقة، فهو يعرف أن أباه منافق كافر.. وهذا يؤلمه ويؤذيه، ولكن لا حيلة له فيه فقد نصح أباه كثيراً، ولكن الأب ركب رأسه وأصرّ على كفره ونفاقه.. ومهما يكن فهو أبوه لا يتنصل من بُنوَّته فالإسلام أمرَ المسلمَ أن يحسن إلى والديه الكافرين.. ولكن هذا الأب يؤذي أحبَّ الناس إلى قلبه، وقلب كل مؤمن.. إنه يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلئن أمر رسول الله بقتله، لعبد الله أحق بقتل أبيه!! لماذا؟! وهل يرضى ابن بارٌّ بوالده أن تمس أباه شوكةٌ؟!! أفيقتله بيده؟!! ولكن الابن العاقل خشي إن أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقتله، فقتله مسلم من إخوانه المسلمين ثم لعب الشيطان- في حالة ضعف- في قلب عبد الله وعقله فثأر لأبيه.. خشي أن يقتل أخاه المسلم بابيه الكافر فيخسر الدنيا والآخرة.. وهو الحريص على آخرته. وعلم ذو القلب الرحيم صلى الله عليه وسلم ما يعتمل في قلب عبد الله المسلم من عواطف متضاربة فهدّأ من روعه وقال :بل "نترفق به ونحسن إليه ما بقي معنا ". وحين يشعر الابن أن أباه غير مقتول، وأن رسول الله رأف به رجع إلى ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم "ما بقي معنا" فليت أباه -إذن -لا يعود إلى المدينة، فليس للمنافق مكانٌ بين المؤمنين.. والمدينة مأوى الإيمان والدين، مأوى رسول الله وصحبه مهبطُ الوحي.. لا مكان للأب المنافق في هذا المكان الطاهر.. وأسرَّ في نفسه أمراً.. لن يبوح به، وسيكون مفاجأة لوالده أولاً وللمسلمين ثانياً... قال ابن إسحاق: لما قفل الناس راجعين إلى المدينة، وقف عبد الله بن أبي بن سلول على باب المدينة، واستل سيفه، فجعل الناس يمرون عليه، فلما جاء أبوه عبد الله بن سلول قال له ابنه: وراءك! فقال: مالك؟ ويلك! فقال والله لا تجوز من هاهنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه العزيز وأنت الذليل. فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكان يسير في مؤخرة الجيش ينظر المتخلفَ، والضال، والمحتاج إلى معونة- شكا الأب إليه ابنه، فقال الابن، والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال الابن: أما إذ أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجُزِ الآن.. (عبد الله الابن المسلم البارُّ بوالده يرى أن الإِسلام أولى أن يبرّ به المسلم، فلا حرمة لكافر منافق يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما ما يقول المتنطعون من أن الإسلام قطع حبال الرحم فجرّأ الابنِ على أبيه فهؤلاء، دجالون لا يعرفون من الإسلام شيئاً.. إن الله أمر المسلمين بالبرّ بآبائهم والإحسان إليهم ولو كانوا كافرين، شرط أن لا يكون هؤلاء الآباء معاول تهدم حصون الدين والعقيدة.. أمّا وهم كذلك فلا حرمة لهم فالله أولى أن نبرَّه والإسلام أولى أن نلتزمه.. وأثبت عبد الله المسلم أنه ابن بارٌّ للإسلام وهل أعظم من أبوَّة الإسلام. أبي الإسلام لا أبَ لي سواه ...إذا انتسبوا لقيس أو تميم ولن يعود ابن أبي أبداً إلى مثل هذه المقولة، فالأرض لله يورثها عباده الصالحين، ولم تكن يوماً من الأيام ملكاً لبشر، والعزيزُ فيها من يعزّ دينَ الله، والذليل فيها من يكفر بالله، ويمكر بعباد الله. قال ابن إسحاق: وجعل بعد ذلك إذا أحدث أبيُّ حدثاً كان قومُه هم الذين يعاتبونه، ويأخذونه، ويعنِّفونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين بلغه ذلك من شانهم "كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي: اقتلْه لأرْعدت (لغضبت) له آنُفٌ (أشخاص) لو أمرتها اليوم تقتله لقتلته " قال عمر: قد والله علمتُ لأمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري. (ألم أقل إنه رسول الله ولن يضيعه؟! هذا ما قاله الصديق لعمر يوم الحديبية حين ظن ابنُ الخطاب رضي الله عنهما أن المشركين نالوا فوق ما يستحقون، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لانَ لهم وهم لا يستحقون ذلك.. فأثبتتِ الأيامُ فَراسة الصدّيق، وأن الرسول المؤيد يرسم اللهُ تعالى خطواته فلا يحيد عنها ولا يتعداها فيوصله ،إلى بر الأمان وإلى واحة السعادة والهناء). لكن المنافق ذا القلب الأسود والنفس الخبيثة والمكر السيء عبد الله بن أبي بن سلول لم يلبث أن أطلق سهماً قاتلاً، كاد يصيب من الدعوة مقتلاً، ومن صاحبها مقتلاً ومن زوجته الحبيبة مقتلاً، ومن أحد أشراف أصحابه مقتلاً.. إنه حادثة الإفك التي عاش فيها المسلمون شهراً عصيباً، كان درساً كبيراً لهم.. والدعوة كلها دروس وعظة وعِبَر. حادثة الإفك التي نفاها القرآن الكريم وأثبتَ طهرَ بيتِ النبوة في سورة النور.
__________________
|
#24
|
||||
|
||||
![]() صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (25) الدكتور عثمان قدري مكانسي سورة الضُّحى قيلَ: الضحى أولُ النهار، وقيلَ وقت اشتداد الحرارة، وقيل النهار كله، فهو الوضوح، وكل شيء مع الشمس واضح، وقيل أقسم الله بالضحى الذي كلم الله فيه موسى، وحُشر فيه السحرة والناس ) وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (1) . وقيل في سجوِّ الليل، سكونُه وهدوءُه، وقيل الليل كله مغطى، وقيل الوقتُ الذي يقوم فيه المتعبدون. وقيل :الظلمة الواقعة. ويًقسم الله تعالى- وهو غنيٌّ سبحانه عن القسم- بمخلوقاته، والنهارُ والليل منها.. وتظهر لنا عظمته من خلال عظمة مخلوقاته، وكأنه سبحانه ينبهنا إليه مراراً وتكراراً بتعاقب الليل والنهار ويريد أن يكون نصبَ أعيننا ومِلء أفئدتنا، فلا ننساه أبداً، ويقسم ليكون أثر القسَم وجوابُه في عقولنا وقلوبنا ماثلاً واضحاً ولماذا أقسم الجليل سبحانه؟!! روى الترمذي عن جندب البجلي قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار، فدمِيَتْ إصبعُه فقال صلى الله عليه وسلم وهل أنت إلَّا أصبع دميت.. وفي سبيل الله ما لقيت.. وأبطأ عليه جبريل فقال المشركون وُدّع محمد فقال تبارك وتعالى: " ما ودعك ربك وما قلى". وروى الثعلبي بقية للحديث، فمكثتُ ليلتين أو ثلاثاً لا يقوم الليل. فقالت له أم جميل امرأة أبي لهب: - ووكانت الدعوة في أولها ولم تكن عداوةُ أبي لهب وزوجِه قد اشتدّتْ : ما أرى شيطانك إلَّا قد تركك.. ما رأيته قربك منذ ليلتين أو ثلاث.فنزلت الآية.. وهناك عديد من الأخبار في سبب نزول هذه السورة. فلما نزل جبريل بهذه السورة، قال النبي صلى الله عليه وسلم " ما جئتَ حتى اشتقت إليك ". قال جبريل: " وأنا كنتُ أشدَّ شوقاً إليك، ولكني عبد مأمور".لا ينزل إلا بأمر الله. "ما ودعك ربك وما قلى " ما أبغضك ربك مُذْ أحبك... ما أشد شفافية هذه الجملة، إنها لتبني الصلة بين العبد وربِّه على أقوى ما تكون العبودية، ثم الحب، الحب العميق بين خالق الأكوان وبارئها ومسيّرها.. القوة العظمى الحنون الرؤوم وبين الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. القوة المطلقة والجمالُ المطلق، والعظمة المطلقة، تضفي على المخلوق الحبَّ والعطف والتأييد، وتقوّي الصلة، فيسمو هذا الإنسان إلى مقام العبودية فيكونُ أهلاً للكرم والتقريب، سبحان الله ) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) (1) أعطاه الله تعالى ألف قصر في الجنة، وفي كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم، ورضي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل أحدٌ من أهل بيته النار، ورضي أن تكون له الشفاعة في جميع المؤمنين. عن عليٍّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يُشفّعني الله في أمتي حتى يقول الله سبحانه لي: رضيتَ يا محمد؟ فأقول: يا رب رضيت. وروى مسلم في صحيحه عن عمرو بن العاص أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم( فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (2) ، وقول عيسى (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ) (1) ، فرفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله تعالى لجبريل إذهب إلى محمد- وربك أعلم- فسله ما يبكيك؟ فأتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فسأله فاخبره. فقال الله تعالى لجبريل: إذهب إلى محمد فقل له: "إن الله يقول لك إنا سنرضيك في أمتك. ولا نسوءك. وإن الله ليدَّخِر للرسول صلى الله عليه وسلم: ما يرضيه من التوفيق في الدعوة، وإزاحة العقبات، وغلَبة منهج الإِسلام على منهج الكفر، وظهور الحق الذي يدعو إليه. ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى(8)(2) هذا رفعٌ من شان النبي صلى الله عليه وسلم، واستحضارُ جميلِ صنعِ الله، ومودتُه لرسوله الكريم، وفيضُه عليه، والإِيناسُ الإِلهي له. انظر يا محمد صلَّى الله عليك وعلى آلك وأصحابك.. هل ودعك ربك وقلاك، حتى قبل أن يبعثك؟ ألم يُحِط يُتْمك برعايته؟ ألم تُدرك حَيرتك هدايتُه؟ ألم يغمر فقرَك عطاؤه؟ لقد ولدت يتيماً فآواك إليه، وعطف القلوب عليك، وأعفاك بكسبك وكسب أهل بيتك عن أن تحس الفقر. ونشأت في جاهلية جهلاء، وعقائد مضطربة فحماك من هذا المستنقع الآسن، وهداك بالأمر الذي أوحى به إليك. لقد أحسن الله إليك فجعلك نبيه ورسوله إلى الناس أجمعين، فعليك أن يكون الله قدوتك، فتساعدَ السائلين، وتتحدثَ بنعمة الله الكبرى عليك. وأولها الهداية. ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) (1) . وهذه التوجيهات الإِلهية تعليمٌ للمسلمين، ودفع لهم إلى العمل الصالح فيكفلون الأيتام ويساعدون الفقراء، ويصرفون أموالهم في سبيل الله، فيكونون في هذا المجتمع الجاهلي نوراً ساطعاً ينير الطريق للبشرية جمعاء.
__________________
|
#25
|
||||
|
||||
![]() صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (26) الدكتور عثمان قدري مكانسي سورة الكوثر ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ {1} فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ {2} إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) أمسكت بالقلم أريد أن أخط ما حواه قلبي وفكري من إيحاءات سورة الكوثر.. لكنني أحجمت عن الكتابة حين اطلعت على ما أفاض به الشهيد سيد قطب رحمه الله وأجزل مثوبته في الآخرة، وكتبه من أهل الفردوس الأعلى فأحببت أن أنقله إلى أخي القارئ، فليس المهم أن أكتب لكنَّ الذي أريده أن يصل القارئ إلى ما عاناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل دعوته ليكون له قدوة وأسوة. يقول سيد قطب رحمه الله وأعلى مقامَه: هذه السورة خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كسورة الضحى، وسورة الشرح. يُسَرِّي عنه ربه فيها، ويعده بالخير، ويوعد أعداءه بالبتر، ويوجهه إلى طريق الشكر. ومن ثَمَّ فهي تمثل صورة من حياة الدعوة، وحياة الداعية في أول العهد بمكة. صورة من الكيد والأذى للنبي صلى الله عليه وسلم، ودعوة الله التي يبشر بها؛ وصورة من رعاية الله المباشرة لعبده وللقلة المؤمنة معه؛ ومن تثبيت الله وتطمينه وجميل وعده لنبيه ومرهوب وعيده لشانئه. كذلك تمثل حقيقة الهدى والخير والإيمان، وحقيقة الضلال والشر والكفران.. الأولى كثرةٌ وفيضٌ وامتدادٌ. والثانية قلةٌ وانحسارٌ وانبتارٌ. وإن ظن الغافلون غير هذا وذاك.. ورد أن سفهاء قريش ممن كانوا يتابعون الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته بالكيد والمكر وإظهار السخرية والاستهزاء. ليصرفوا جمهرة الناس عن الاستماع للحق الذي جاءهم به من عند الله، من أمثال العاص بن وائل، وعقبة بن أبي معيط، وأبي لهب، وأبي جهل، وغيرهم، كانوا يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه أبتر. يشيرون بهذا إلى موت الذكور من أولاده. وقال أحدهم: دعوه فإنه سيموت بلا عقب وينتهي أمره! وكان هذا اللون من الكيد اللئيم الصغير يجد له في البيئة العربية التي تتكاثر بالأبناء صدىً ووقعاً. وتجد هذه الوخزة الهابطة من يهش لها من أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم وشانئيه، ولعلها أوجعت قلبه الشريف ومسته بالغم أيضاً. ومن ثم نزلت هذه السورة تمسح على قلبه صلى الله عليه وسلم بالرّوح والندى، وتقرر حقيقة الخير الباقي الممتد الذي اختاره له ربه؛ وحقيقة الانقطاع والبتر المقدر لأعدائه. ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ )(1).. والكوثر صيغة من الكثرة.. وهو مطلق غير محدود. يشير إلى عكس المعنى الذي أطلقه هؤلاء السفهاء.. إنا أعطيناك ما هو كثير فائض غزير. غير ممنوع ولا مبتور.. فإذا أراد أحد أن يتتبع هذا الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه فهو واجده حيثما نظر أو تصور. هو واجده في النبوة. في هذا الاتصال بالحق الكبير، والوجود الكبير. الوجود الذي لا وجود غيره ولا شيء في الحقيقة سواه. وماذا فقد من وجد الله؟ وهو واجده في هذا القرآن الذي نزل عليه. وسورة واحدة منه كوثر لا نهاية لكثرته، وينبوع ثرٌّ لا نهاية لفيضه وغزارته! وهو واجده في الملأ الأعلى الذي يصلي عليه، ويصلي على من يصلي عليه في الأرض، حيث يقترن اسمه باسم الله في الأرض والسماء. وهو واجده في سنَّته الممتدة على مدار القرون، في أرجاء الأرض. وفي الملايين بعد الملايين السائرة على أثره، وملايين الملايين من الألسنة والشفاه الهاتفة باسمه، وملايين الملايين من القلوب المحبة لسيرته وذكراه إلى يوم القيامة. وهو واجده في الخير الكثير الذي فاض على البشرية في جميع أجيالها بسببه وعن طريقه. سواء من عرفوا هذا الخير فآمنوا به، ومن لم يعرفوه ولكنه فاض عليهم فيما فاض! وهو واجده في مظاهر شتى، محاولةُ إحصائها ضربٌ من تقليلها وتصغيرها! إنه الكوثر، الذي لا نهاية لفيضه، ولا إحصاء لعوارفه، ولا حد لمدلوله. ومن ثَمَّ تركه النصُّ بلا تحديد، يشمل كل ما يكثر من الخير ويزيد.. وقد وردت روايات من طرق كثيرة أن الكوثر نهر في الجنة أوتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ابن عباس أجاب بأن هذا النهر هو من بين الخير الكثير الذي أوتيه الرسول الكريم صلوات الله وسلامُه عليه. فهو كوثر من الكوثر! وهذا هو الأنسب في هذا السياق وفي هذه الملابسات. ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (1). بعد توكيد هذا العطاء الكثير الفائض الكثرة، على غير ما أرجف المرجفون وقال الكائدون، وجه القرآنُ الرسولَ صلى الله عليه وسلم إلى شكر النعمة بحقها الأول. حق الإخلاص والتجرد لله في العبادة وفي الاتجاه. في الصلاة وفي ذبح النسك خالصاً لله( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) غير ملق بالاً إلى شرك المشركين، وغير مشارك لهم في عبادتهم، أو في ذكر غير اسم الله على ذبائحهم. وفي تكرار الإشارة إلى ذكر اسم الله وحده على الذبائح، وتحريم ما أُهلَّ به لغير الله، وما لم يذكر اسم الله عليه.. ما يشي بعناية هذا الدين بتلخيص الحياة كلها من عقابيل الشرك وآثاره. لا تخليص التصور والضمير وحدهما. فهو دين الوحدة بكل معنى من معانيها، وكل ظل من ظلالها؛ كما أنه دين التوحيد الخالص المجرد الواضح. ومن ثّمَّ فهو يتتبع الشرك في كل مظاهره، وفي كل مكامنه؛ ويطارده مطاردة عنيفة دقيقة سواء استكن في الضمير، أم ظهر في العبادة، أم تسرب إلى تقاليد الحياة ،فالحياة وَحدةٌ ما ظهر منها وما بطن، والإسلام يأخذها كُلاّ لا يتجزأ، ويخلصها من شوائب الشرك جميعاً، ويتجه بها إلى الله خالصة واضحة ناصعة، كما نرى في مسألة الذبائح وفي غيرها من شعائر العبادة أو تقاليد الحياة.. ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) (1). في الآية الأولى قرّر أنه ليس أبتر بل هو صاحب الكوثر. وفي هذه الآية يردّ الكيد على كائديه، ويؤكد - سبحانه- أن الأبتر ليس هو محمد، إنما هم شانئوه وكارهوه. ولقد صدق فيهم وعيد الله. فقد انقطع ذكرهم وانطوى. بينما امتدَّ ذكر محمد وعلا. ونحن نشهد اليوم مصداق هذا القول الكريم، في صورة باهرة واسعة المدى كما لم يشهده سامعوه الأولون!. إن الإِيمان والحق والخير لا يمكن أن يكون أبتر. فهو ممتد الفروع عميق الجذور. وإنما الكفر والباطل والشر هو الأبتر مهما ترعرع وزها وتجبر.. إن مقاييس الله غير مقاييس البشر. ولكن البشر ينخدعون ويغترون فيحسبون مقاييسهم هي التي تقرر حقائق الأمور! وأمامنا هذا المثل الناطق الخالد.. فأين الذين كانوا يقولون عن محمد صلى الله عليه وسلم قولتهم اللئيمة، وينالون بها من قلوب الجماهير، ويحسبون حينئذٍ أنهم قد قضوا على محمد وقطعوا عليه الطريق؟ أين هم؟ وأين ذكراهم، وأين آثارهم إلى جوار الكوثر من كل شيء، ذلك الذي أوتيه من كانوا يقولون عنه: الأبتر؟!. إن الدعوة إلى الله والحق والخير لا يمكن أن تكون بتراء ولا أن يكون صاحبها أبتر، وكيف وهي موصولة بالله الحي الباقي الأزلي الخالد؟ إنما يبتر الكفر والباطل والشر ويبتر أهله، مهما بدا في لحظة من اللحظات أنه طويل الأجل ممتد الجذور.. وصدق الله العظيم. وكذب الكائدون الماكرون..
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 44 ( الأعضاء 0 والزوار 44) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |