تأملات في سورة يوسف عليه السلام - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         فضل حلق الذكر والاجتماع عليه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          بلمسة أمل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          متى تزداد الطيبة في القلوب؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          من درر العلامة ابن القيم عن الإخلاص (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 5013 - عددالزوار : 2141848 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4594 - عددالزوار : 1421684 )           »          إزدواجية الملتزم بين أخلاق الإسلام وغواية الشيطان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          غـزوة مؤتـة: بداية الفتح الإسلامي وإنهيار دولة الرومان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 54 )           »          إصدارات لتصحيح المسار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 8 - عددالزوار : 922 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 15-09-2025, 12:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,947
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام

تأملات في سورة يوسف عليه السلام (11):


د. توفيق العبيد



حينما ننسى التوكل على الله تأت المحن
(قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ) (قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ) [سورة يوسف 13: 14]

بات يوسف على مرمى حجر من بداية المحن، وتلاحق الاختبارات، وكيف لا يتسارع قربه من تلك المأساة، وإخوته هم من يقودون الحرب عليه.

ولكن هذه المرة سبب السرعة في اقتراب المحن فوات التوكل على الله، الذي هو خير حافظا، خطأ تداركه يعقوب عليه السلام في حادثة أخذ يوسف لأخيه كما سيمر معنا.

بالمقابل لا شك أن حرب الإخوة أشد ضراوة وفتكا، ولذلك يعمد الشيطان أن يحرض الأخ على أخيه، ويعتمد أعوانه على جعل الأخ يحارب أخاه تحت ذرائع شتى.

وحينما يحاربك العدو فنصرك عليه يعتمد على مدى استعدادك للمواجهة، وأنت مطئن أن أخاك يحمي ظهرك، ولكن إن كان الطعن في الظهر من أخ يربطك به نسب، أو من صديق جريمتك أنك ذات يوم وثقت به، فحينها باطن الأرض خير من ظاهرها، وستعلم ألم طعن من وثقت بهم.

هاهو يعقوب يحاول إيقاظ ما بقي من رحمة في قلوبهم، ويصرح لهم بحزن سيصيبه على فراق يوسف.

حقا هو الحزن، ذاك الشعور الذي يغزو النفس بين حين وآخر، بقدر ما تهب عواصف المكدرات، والعجيب في الحزن أنه لا تترجمه الكلمات، ولكنها وحدها الدموع وتلوي القلب وتعصر الأمعاء تشير لذلك.

واعلم أنه حينما يعبر الإنسان عن الحزن ويقول: ( يحزنني)، أن الذي أمامه لا يملك مشاعر تحسن قراءة حزنه، وأنى لنفوس ملأها الحسد، والكبر وأعمى بصيرتها الأنا أن تفهم أو تقرأ؟!

ويا لعجيب الحسد كيف يفعل بصاحبه، إنه يجعله خارج منظومة البشر، لقد طار بهم الحسد إلى مرحلة الإصرار على التخلص من يوسف بأي ثمن، لذلك لم تكن أحزان يعقوب لتشفع له عند بنيه الذين ظلموا أنفسهم وأخاهم وأباهم.

لقد هاجت أحقادهم وعميت بصائرهم أكثر لما أدركوا مدى تعلق يعقوب بيوسف الأخ والخصم معا.

ترى مالذي دفع يعقوب عليه السلام أن يوضح لبنيه هذا الإحساس، حتى كأنه يدافع عن نفسه؟!

حقا هو يدافع عن نفسه لأنهم اتهموه بما أحوجه لهذا الدفاع، وقالو له: مالك لا تأمنا على يوسف ..

كل ذلك ليكسروا أي حاجز يمنعهم من الظفر بيوسف، ولا يمكن لأبيهم أن يظهر لهم أنه لا يأمنهم عليه، فليس ثمة حجة عنده عليهم.

لذلك حذاري أن يقع أحدنا في شرك أصحاب المؤمرات، ونسمح لهم أن يضعونا بمكان المدافع الذي يريدونه أن نكون فيه، ليبعدوا أضواء اللوم عن ساحتهم، فلا يكشف زيف خبث نفوسهم أحد تحت ضغط اتهاماتهم.

وكان الأولى أن لا ينحرج المرء من اتهاماتهم، لأننا إن تركناهم يعبثوا بمشاعرنا وعقولنا، فلن ننج من مصير كمصير يوسف عليه السلام.

ويا لبيان القرآن الذي يدهشني كلما تأملته، وأنصت لما وراء سطوره بعجب وتعظيم.
ها هو قوله تعالى: ( وأخاف أن يأكله الذئب .. )، حيث توضح ان المرء ربما أعان خصمه عليه حينما يمنحهم الحجة التي ستقلب الأمور عليه.

لقد لقنهم الحجة التي تصدعت رؤوسهم وهم يبحثون عنها، إنها الحجة المطلوبة.

ومرة أخرى يقطعون العهود والمواثيق على أنفسهم بحفظ الأمانة ، ولكن الحقد والحسد، ما جعلهم يبصرون سوء عقابة ما ينوون فعله.

وبعد ذلك الجهد من المكر والخداع، يترك يعقوب يوسف مع إخوته، ليكتب القدر بداية الفراق المر، والمحن التي ستتوالى على الحبيبن يوسف ويعقوب.

انطلق يوسف يسير نحو المجهول، وأسدل ستار على زمان الأنس بالأب الرحيم، والحنان الذي طالما صانه وشمله.

تفاصيل تلك المحن في منشور قادم بإذن الله.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 15-09-2025, 12:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,947
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام

تأملات في سورة يوسف عليه السلام (12):


د. توفيق العبيد



وسط ظلمات المحن يشع نور الفرج

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ? وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَ?ذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [سورة يوسف : 15]

بعد إلحاح واحتيال، وتفنن في أساليب استمالة قلب الأب، استسلم لأبنائه وسمح لهم بأخذ يوسف.

ومع سماح يعقوب لبنيه باصطحاب يوسف، وتسليمه لهم تحت ضغط مطالبهم، تبدأ رحلة معاناة يوسف وتهب رياح المحن.

كان يعقوب عليه السلام يعلم يقينا أن إخوة يوسف سيكيدون له، وهو الذي حذرهرحينما قص يوسف عليه الرؤياقَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى? إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ? إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ)[سورة يوسف 5]

ولكن من المقدور لا ينجو الحذر.
وربما لم يكن يتوقع أن يصل الأمر للقتل أو أن يلقى في غيابت الجب، لذلك لم يحتط لنفسه مما حذر منه ولده.

لقد استقر أمرهم أن يجعلوا يوسف في غيابت الجب، ويسلموا طفولته البريئة وضعفه لليأس والهلاك المحتم.

ولكن مهما مكر الماكرون، فهناك من يسمع ويرى، ويعلم السر وأخفى.

فمن وسط ظلمات المحن شع نور الفرج، ولا أمله،
ومهما ظن الماكرون أنهم قادرون على سلبك حياة قدرت لك، أو مجدا كتب لك، أو رزقا ساقه الله إليك، فإن الواقع سيكذب ظنهم، ويشعرهم مع الوقت بعظيم عجزهم، فما كان لأي قدرة مهما عظمت أن تتحدى قدرة الله تعالى وحكمته ولو كثر عددهم واتحد رأيهم.

واعلم أنه حين يسلمك من يريدون أن لا يروك حيا للهلاك المحتم، تدرك حينها أثر كلمات الوحي التي تأتي لتؤنس نفسك المتعبة من صنيع من خالفوا الفطرة وأسلموا أنفسهم للهوى.

وحينما أقرأ قوله تعالى (أوحينا إليه ): يتولد في نفسي شعور بروعة وحنو نداء الوحي، الذي أتى كماء بارد على ظمأ، وأُنس في وسط ظلمات الوحشة.

والأجمل من ذلك كله أنه قال: ( أوحينا) فالذي تولى الأمر كله هو الله وحده، وأتى ب (نا) الدالة على العظمة في إشارة إلى أن عِظم مكرهم سيكون له بالمرصاد عظيم، عظمته فوق مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال.

( لتنبأنهم بأمرهم هذا ):
صعب ما فعلوه بك، وجريمة بشعة أن يسلموا طفولتك الغضة للمحن والمتاعب، في وقت تحتاج فيه للحنان والرأفة، ولكن هو الله وحده الذي سيداوي جراحك ويمنحك فرصة تذكيرهم بصنيع لا يقود تذكرهم به إلا للحسرة والندامة.

حقا هو الله وحده الذي سينصرك عليهم، ويرفعك فوقهم.

أما قوله: ( وهم لا يشعرون):
أي وهم لا يشعرون أن الذي أمامهم يوسف.

وتعلمنا هذه الآية الكريمة كيف تلوثت الفطرة حينما سُلِّم القلب للهوى والشيطان.

تعلمنا كيف تنتصر إرادة الله رغم مكر الماكرين واجتماع المتآمرين.

وكيف أن الله قد يسلم حبيبه لمحنةٍ وعذابٍ يطاله من قبل البشر، ولكنه سيمنحه بالمقابل لذة أنسه بنصره وتطمينه له بالنجاة من مكرهم مهما عظمت.
وتبين موقفهم حين الندم .

يوسف الآن في غيابت الجب…

ولكن بأي عذر سيعود الإخوة إلى أبيهم الذي وثق بهم، واستأمنهم على أخيهم، حين يعودون إليه من غير يوسف؟.

ما هي دلالات تلك الأعذار وما الذي يسطره القدر في طياتها، كل ذلك وأكثر نعرفه في منشور قادم بإذن الله.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 15-09-2025, 06:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,947
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام

تأملات في سورة يوسف عليه السلام (13):


د. توفيق العبيد



الدموع الكاذبة لا تخفي الحقيقة

(وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ) (قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ? وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) [سورة يوسف 16: 17]

انهارت معاني الإنسانية، وباتت في جب عميق، يحتوي ضحية ضعيفة، زجها بذلك العمق إخوة الدم والنسب، إخوة ابتعدوا عن الفطرة، ولوثوها بالحسد.

عاد إخوة يوسف بعد تنفيذ جرمهم، وتركوا يوسف ليبدأ مشوار العذاب ..

كانت عودتهم في الليل، لأنه يخفي ملامح الوجه ويكشف حقيقة الدموع المصطنعة.

جاؤوا إلى أبيهم يبكون متلثمين بحزن كاذب مصطنع يخفون خلفه الحقيقة التي آلمت الحجر والشجر وما كانت لتؤلمهم أو تهز من كيانهم .

يالعجيب المكر الذي مكروه!!!
هاهم ثانية يستعطفون أباهم، بالنداء ذاته الذي سبق وأن أجابهم لطلبهم يوسف لما نادوه به: (يا أبانا)..

نعم إنها كلمة السر التي تفتح باب الرحمة للابن من قلب أبيه.
وتهيج مشاعر الأبوة الممزوجة بالحنان والرفق ...
تلك المشاعر التي لا يدرك حرارتها ابن عق والديه…
ولا يحسن فهم لغتها من تطاول على أبيه…

أتذكرون معي ما الحيلة التي بموجبها أخذوا يوسف من أحضان أبيه؟!

إنها قولهم: (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [سورة يوسف : 12

فما بالهم يقولون الآن:
( إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا )؟
فهل أخذتموه ليلعب أم لتجعلوه حارسا على متاعكم؟

ولكن يكاد المريب يقول خذوني… فالكاذب مهما كان حاذقا في ديباجة الكذب فإنه لا بد من زلة للسان تكشف كذبه ..

وقد سبق الوعد منهم لأبيهم: ( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) حيث أكَّدوا الحفظ بثلاث طُرق:
ب: "إنَّ" ، وتقديم شبه الجملة "له" لإفادة زيادة الحرص، واقتران خبر "إن" بلام التوكيد.

أضف لذلك أنّ كلمةَ الحفظ ذاتها دالةٌ على الصيانة والحراسة والرعاية.

وقد أخلفوا وعدهم من عدة جوانب وأقروا بذلك:
الوعد أن يلعب يوسف معهم، وخالفوا ذلك أن جعلوه حارسا لمتاعهم .
إذاً هو لم يشترك معهم في اللعب، وهذا أول تصريح منهم بمخالفة الوعد ..

ثم يأت السؤال: أي استباقٍ هذا الذي شغَلهم عن حراسة أخيهم حتى أكله الذئب، وقد أعطوا العهود والمواثيق لأبيهم بحفظه؟!

إن من يعطي مثل تلك التأكيدات حري به أن لا تغفل عنه عينه لحظة واحدة؛ لأنه تحمل أمانة تثقل كاهله بهذه التأكيدات.

ولكن؛ لأنهم كانوا كاذبين، جعلوا يختلقون الحكايات وبادروا أباهم قبل أن يسألهم ليغيّبوا عنه الحقيقة بطريقتين:
بإدخال الباءِ على خبر "ما" التي تفيد التوكيد ? وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ ?، وبادِّعاءالصِّدق
? وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ?.

يا لروعة ودقة بيان القرآن لحكاية ما قالوه لأبيهم.
ففي قولهم (ولو كنا صادقين) لفتتات كشفت كذبهم :

هم لم يقولوا مثلاً: "وإن كنا صادقين"، لأن "إنْ" حرف شرط جازم، يجعَلُ التعلُّق مقرونا بالمستقبل، كالقول مثلاً: إن اعترفت بحقيقة الأمر عفوتُ عنك؛ فالإخبار والعفو سيكونانِ في المستقبل.

ولو قال الإخوة: وإن كنا صادقين، لكان ذلك مشيرًا إلى أن صدقَهم سيظهرُ فيما بعد، وبما أنهم كانوا كاذبين، فإن الاستعمالَ الدقيق ارتهن بـ: "لو"؛ فهو يتعلقُ بالماضي، ويُوقِف الادعاءَ في زمن الكلام ولا يجرُّه لزمن المستقبل كما تفعل "إن" .

ويمكن أيضًا أن يلحظ أنَّ "إنْ" جازمة و"لو" غير جازمة، ولأنهم كانوا كاذبين، وبذات الوقت عاجزين عن الجزم بالصدق الذي يدعونه، عدَلوا عن (إن) إلى استعمال ما لا جزم فيه، وهو "لو".

و الأعجب من ذلك: (أكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين)، وهل سبق له أن كذّبكم حتى تسكتوه بهذا القول؟
لتمنعوه حتى من مجرد التفكير في تكذيبكم؟

ألم تكذبوا من قبل بقولكم: أرسله معنا غدا يرتع ويلعب ؟
ومع هذا صدقكم .. فلم اليوم تدّعون عدم تصديقه حيث قلتم: ( ولو كنتم صادقين)؟!

ولكن الجرم لا يمنح المجرم استقرارا فكريا، مهما كان يملك من العبقرية التي تسعفه في التخلص من أصعب المواقف؛ لذلك تجده مرتابا وهو يحاول إنكار جرمه.
ذلك أن الجرم يصغّره أمام نفسه، ويهزّه من الداخل بعنف، فمهما بدا متماسكا فإن عوامل الانهيار ستبدو عليه رغما عنه.

هل يكفي الكلام لإقناع والدهم بحجتهم؟
وما هو موقف الأب المسكين وكيف تقبّل الأمر؟

تابعونا لتعرفوا البقية ..


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 15-09-2025, 06:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,947
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام

تأملات في سورة يوسف عليه السلام (14):


د. توفيق العبيد



البرهان الكاذب

(وَجَاءُوا عَلَى? قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ? قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ? فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ? وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى? مَا تَصِفُونَ)[سورة يوسف 18]
هل تخيلتم يوما أن يكذِّب البرهان صاحبه؟!
وهل يكون برهانا أصلا إن لم يكن صادقا مقنعا؟!

تجد الإجابة في هذا المشهد من قصة يوسف عليه السلام.
ففي خضم محاولات يائسة لجعل الباطل حقا، وإلباسه ثوب الحقيقة يجد الإخوة - الذين جاؤوا أباهم عشاء يخفون ملامح الوجه التي ستفضحهم لو قابلوه نهارا، ويبكون بكاء يظنون أنه كاف لإخفاء حقيقة مكر وكيد فعلوه، فساق أخاهم لمصير مجهول، إنهم أمام صدمة كادت تكشف سوء صنيعهم وسريرتهم.

فالبكاء لم ينفع ولم يقنع الأب .. فليس كل من يبكي حزينا ..
وليس كل دمع يدل على ألم فراق الحبيب، فهناك من يطعنونك ويبكون عليك بكاء المتألم لفراق حبيبه.

أولم يقولوا في الأمثال: " قتل القتيل ومشى في جنازته "!

وعلى الرغم من ذلك فلا بد من البرهان المادي ليدعم موقفهم ..

ولكن برهانهم فضحهم !

فيا لروعة تصوير البيان القرآني، كيف يحكي لنا حقيقة ما أحوجنا لإدراكها، مفادها:

سيبقى الباطل باطلا .. وسيبقى وجهه مسودا .. مهما حاول تجميل ذاته بما يظنه حججا كفيلة لقلب الموازين.

ولذلك كان البيان القرآني بقوله تعالى: "بدم كذب ".

شتان بين دم سال من هجوم وحش ضارٍ هذا طبعه في الخلقة ..
وبين دم سال بسبب قتل إنسان تلبسته وحشية تفوق وحشية من خُلق وحشا يعيش في البراري.

فذاك إن فتك وقتل فهو طبعه، وخِلقته ..

وأما الإنسان الذي أوحي إليه بشرع يهديه ويهذب طبعه، ومع ذلك تجاهله وسلم نفسه للهوى والغرائز، فذاك أشد فتكا من الوحش ذاته.

ولكن من ترك ميدان التهذيب بعلوم الوحي فماذا أنت فاعل له ؟!

فشل برهانهم ..
وأجابهم أبوهم بما يؤكد تلك الحقيقة الربانية .. الباطل لا يكون حقا أبدا .. والبراهين جنود الله تعالى لا تناصر غير الحق، فإن أرغمها دعاة الباطل لتقف معهم فضحتهم.

انظروا لأصحاب العمائم كيف فضحتهم براهينهم الكاذبة حينما تجنوا على النصوص ليلووا أعناقها، ويجعلوها تشهد على إفكهم، فأبت النصوص الوقوف معهم .

هذا ما لخصه ربنا حكاية عن يعقوب عليه السلام

بل سولت لكم أنفسكم أمرا ..

ويختم البيان الرباني ذلك السجال بين ثلة ارتكبت جريمة بحق الأخوة والإنسانية، وبين أب أجبره أبناؤه أن يتجرع مرارة فقد الولد الحبيب، في زمن كبر سنه، وضعف جسده، فزادوه تعبا، بدل السعي لتخفيف معاناته.

في غيابة الجب تسكن الطفولة البريئة المظلومة، وتستغيث ضمائر ماتت، بل لم تشفع لدى قلوبها براءة تلك الطفولة ..

الإجرام لا تشفع عنده براءة طفولة، ولا ضعف امرأة، ولا كبر شيخ…

ومن شاء التعرف على الإجرام على أصوله فدونكم الشام وبراميل الموت الأسدي كيف تفتك بالأبرياء، ولكن الله غالب على أمره.

يوسف في الجب وفصل جديد يؤذن ببداية طريق طويل من المعاناة…

تابعوا معنا مراحل حياة يوسف في سلسلة تأملات خطها قلم


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 15-09-2025, 06:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,947
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام

تأملات في سورة يوسف عليه السلام (15):


د. توفيق العبيد



من عمق المحن تولد المنح

(وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى? دَلْوَهُ ? قَالَ يَا بُشْرَى? هَ?ذَا غُلَامٌ ? وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ? وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) [سورة يوسف 19 - 20]

حينما تغيب معاني الإنسانية في قلوب البشر فلا عجب حينها من صنيع إخوة كبار بأخيهم الطفل الصغير، حيث أسلموه لظلمات الجب ووحشته رغبة في التخلص منه.

عجباً لهم كيف شعروا أن الطفولة البريئة تنافس دنياهم التي يتنازعون عليها.

ولكن أين الله من ذلك ؟
سؤال يتوارد على الذهن حينما يشتد سيف الظلم على المظلوم.

الإجابة كانت في وعد الله ليوسف وهو في ظلمات الجب، وما ألطفه من وعد .. وما أعظمه من أنيس .. ((… وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَ?ذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)
ففرج الله مبهر ومبهج حينما يقع.

بدأت مراحل تنفيذ وعد الله ليوسف ..
إن الله حينما يريد أمرا فكيد العالمين مجتمعا لا يرد إرادته ..
ولذلك بعد إحكام الجريمة من وجهة نظر المجرم كانت بداية الفرج.

قافلة تمر من مكان يضم طفلاً موعوداً بالمجد وهو لا يدري…

يسيِّرُ الله تلك القافلة لتشرب في مكان لا جدوى من البحث فيه عن بئر غير بئر يوسف ..

نزل الساقي ..
ماذا وجد ؟!

وجد جمالاً يتلألأ ..
وجد طفولة تبكي نزيف الإنسانية…
وجد ضعفاً لا يدري أن قوة السماء تسانده..

صرخ الساقي :
يا بشرى…
لاعجب من صيحات الساقي .. فماذا نتوقع أن يكون موقف من يعثر على كنز ثمين؟! ..
وأي كنز عثر عليه ساقي القوم ؟!

لقد عثر على النبوة في مهدها .. والخير في طفولته.

هذا غلام ..
وهل يدري أي غلام يحمل؟!

ذلك يبين لنا أن في راحلتنا أناسا يهيئهم الله لما لا يعلم أحد من العالمين…
فكم من شخص زهد فيه أهله قبل غيرهم فإذا به ذات يوم قائداً لأمة.

ولكن ماذا تصنع للجهل حينما لا يفكر صاحبه بأن قيمة الشيء لا تقدر بغير المال؟

لقد أسرُّوه بضاعة، وحزموا أمر بيعه ..

يا عجباً للإنسان كيف يبيع أخاه الإنسان لأخيه الإنسان!

صرختك يا عمر ستبقى تدوي في العالمين وتزعج آذان الطغاة : "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً".

وشروه بثمن بخس دراهم معدودة ..

تلك الدنيا مهما عظمت في عين أهلها تبقى لاشيء بمنظور خالقها، ولو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء.

وكانوا فيه من الزاهدين :
ليتهم يعلمون أي نسمة
مباركة حملوا ..
بل ليتهم يدركون أي عذاب عانت منه الطفولة حينما تشيطنت قلوب الإخوة.

لا عجب فالدم النازف في شامنا الحبيبة يحكي أساطير عن فظائع إجرام مجرم هز عرشه أطفالٌ فجروا ثورة.

ولكن السؤال الذي نتشوق لمعرفة الإجابة عليه:
من الذي اشترى تلك الغرسة المبشرة من محياها بخير عظيم؟
وكيف يبدأ طريق المجد ؟

تابعوا معنا


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #16  
قديم 15-09-2025, 06:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,947
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام

تأملات في سورة يوسف عليه السلام (16):


د. توفيق العبيد



لعله خير!!

(وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى? أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ? وَكَذَ?لِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ? وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَ?كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). [سورة يوسف 21]

في خضم معركة السعي نحو السعادة التي خططنا لنيلها بما استغرق منا الزمن والجهد، نتفاجأ بأن لا يحصل ذاك الذي سعينا لتحقيقه بغية نيل السعادة التي نلهث وراءها، ولا يقع حينها إلا الذي قدره الله لنا، ونصاب بضيق يكاد يطبق على صدورنا .. بل ربما نبكي لشعورنا بالفشل…

ولكن سرعان ما يسعفنا إيماننا بأن قدر الله وخياره هو الخير الحقيقي وإن غاب عنا إدراكه: "(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ? مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ? سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى? عَمَّا يُشْرِكُونَ) [سورة القصص 68]…

ونردد بقلب مطمئن: " لعله خير".

في هذا المشهد من قصة يوسف عليه السلام نبصر، بل ونعيش ثمرات معنى هذا البلسم الشافي من كل أوجاع المحن .. بلسم اسمه : " لعله خير "…
والذي عبر بيان القرآن عنه بقوله تعالى "عَسَى? أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا".

وفي أعجوبة البيان، وإعجاز القرآن، يتم التجاوز عن أحداث ليست من الأهمية بمكان أن تذكر تفاصيلها في نص القرآن، فسياق النص توقف عند حدود (يا بشرى هذا غلام)، ولم يصف لنا حال فرح يوسف حينما أنجاه الله؛ لأن ذكر ما ينتظره من مجد - بشر به وهو في الجب- أهم من ذكر فرحه بنجاة من محنة بسيطة مقارنة مع ما سيمر به من محن ..

المهم أنه خرج من غيابة جب دفن مع خروجه منه بقايا إنسانية ماتت في قلوب إخوة شيطنهم الحسد والبغضاء ..

كما لم يخبرنا عن تفاصيل ما دار حول بيع يوسف عليه السلام، فهناك ما هو أهم من ذلك…

نعم هناك خبر مصير القافلة وذكر الذي اشتراه بعد أن أسرّه القوم بضاعةً تباع وهم فيه من الزاهدين، فكثيرا ما يبيع الجاهل جوهرة ورثها عن أبيه بثمن بخس لكونه لا يعلم قيمتها.، فمن وجد شيئا بهون هان عليه ذلك الشيء.

فقط يذكر لنا من الذي اشتراه؟!
إنه عزيز مصر.

إن المكانة التي تناسب هذا الغلام الموعود بالمجد، في أن يذكر الذي جعل الله قدر مجد يوسف من قصره ..

حقا هو عزيز مصر !

فليس من أحد يليق بمقام كفالة يوسف إلا عزيزا كريما سيدا في قومه.

لم يكن عزيز مصر قد ذهب ليشتري يوسف ولا غيره، ولم يكن بحسبانه ذلك، ولكن قدر الله ساقه لما لم يكن يخطط، وقدر له خيرا مما قصد، فها هو يكفل الجمال في كماله، ويتوسم الخير في بهاء طلعته، وهل بغير الوجوه الصِّباح يتوسم الخير؟!

حقا لعله خير ..

لعله خير يا عزيز مصر .. فقد اشتريت عزيزا عند الله وعزيزا عند ابيه، وعزيزا في الدنيا بأسرها ..

وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام عن يوسف:
"إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم خليل الرحمن عز وجل".
رواه أحمد.

ويا لعجيب وبديع نظم القرآن !
إنك لا تجد فيه عوجا ولا أمتا، ولا تناقضا ولا اختلافا، فالذي قال في غير هذا الموضع أن التمكين كائن بالقوة والعلم، هو ذاته الذي يؤكد هنا أنه مكن ليوسف بالقوة والعلم :
(قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ? وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ? وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة 247]

وابنة الرجل الصالح من قوم مدين قالت: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ? إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)
[سورة القصص 26]

وهنا يقول: "وَكَذَ?لِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيث".

فلله در العلم وأهله، وحقا ما قيل:
العلم يبني بيوتا لا عناد لها والجهل يهدم بيت العز والكرم

وتختم الآية بروعة البيان، وجميل مناسبته للمضون، بقوله:
(وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَ?كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ):

حقا لا عجب أن يحقق ليوسف أسباب التمكين، فهو سبحانه فعال لما يريد، ولا يغلبه على مراده أحد، ولا يمكن لأي قوة في الكون أن تغلب أمره إذا أرده أن ينفذ.

ويمكن فهم الآية بمعنى آحر وهو أن الله غالب على أمر يوسف، حيث أن تحقيق رؤياه يسير بتنظيم وعناية ربانية، محاطة بغلبة ومعونة إلهية.

والسؤال الذي يطرح ذاته هنا:
كيف يقول تعالى: " وكذلك مكنا ليوسف ..." مع أن يوسف في هذه الآية لايزال ضعيفا، عبدا عند العزيز تم شراؤه من قريب ؟!

الجواب كائن في بلاغة البيان القرآني، فكل ما هو متيقن الحصول في المستقبل يعبر عنه بصيغة الماضي، تأكيدا أن قدر الله في تحققه حاصل لامحالة، كما لو أنه حصل ومضى زمنا على حصوله.

وهذا مثل قوله تعالى:
( أتى أمر الله فلا تستعجلوه) فأمر الله لم يأت بعد، ولكن لكونه متيقن الإتيان عبر عنه. بقوله (أتى).

ومثله ( إذا زلزلت ..) ..

وهكذا كل أمر متيقن حصوله في المستقبل يأت بيانه في القرآن بلفظ الماضي.

انتهت الآية في بيان ما سيكون بقدر الله من تمكين يوسف في الأرض، ولكن المشوار لايزال طويلا، ولا يعلم يوسف عليه السلام ما ينتطره.

وفي الحقيقة بدأ مشوار الحلم ..
وبدأت تظهر ملامح طريق المجد..
فمن بيت العزيز ستكون البداية ..

لكن محنة ستمر بيوسف عليه السلام .. واختبارا آخر.

فليس بلوغ المجد بالأمر الهين:
لا تحسب المجد تمرا أنت آكله
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

وهذه المحنة تحتاج لاستعداد من نوع خاص ..

في محنة الجب: آنسه وعد وبشرى الوحي له بالفرج فاطمئن قلبه.

ولكن هنا محنة تتعلق بصراع بين أقوى طاقتين في الوجود:
طاقة غريزة الجنس لدى الشباب وعنفوانه .. وطاقة العبودية وحقيقتها في قلب إنسان من سلالة سيد الموحدين وخليل رب العالمين إبراهيم عليه أفضل ابصلاة وأتم التسليم.

وها هو النص القرآني ثانية يتجاوز سني يوسف ونموه، ولحظات اشتداد عوده سنة بعد سنة، وما حصل من تطور في عظمة جماله .. لينقلنا إلى زمن يوسف وهو في ريعان الشباب ..

ومالذي أوتيه ليتمكن من مواجهة ما سيأتيه ..

تابعوا معنا…


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #17  
قديم 19-09-2025, 05:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,947
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام

تأملات في سورة يوسف عليه السلام (17):


د. توفيق العبيد



التشريف والتكليف غنم وغرم



(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ? وَكَذَ?لِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [سورة يوسف 22]

ولت مراتع الصبا، ومازالت أيام الرق تمضي بثقلها على نفس ولد صاحبها حرا، وألفت الفيافي والقفار.

لا شيء أثقل على نفس الحر من حياة رق وعبودية يلزم بها حينما تغيب الإنسانية، وتَحجب الشيطنة نورها، ويقودُ النفوسَ الحسدُ والحقد المفضي للجريمة.

لكنها المحن التي سنها الله تعالى، لتصنع السائرين في الطريق إلى المجد والاصطفاء، وقد أخبر نبينا عنها ففي الحديث:

عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ:
"الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ" رواه ابن ماجة.

وإن سألت لم سنَّ الله المحن طريقا لمن يريد لهم المجد؟
ذلك أن التشريف الحصال من التكليف غنم وغرم، فلا يمكن حصول الغنم بلا غرم، والمجد غنم، والمحن غرم.

بدأ يظهر جمال الشباب على يوسف عليه السلام كزهر تفتح بأجمل الألوان وأطيب العطور.

ولاح نور مجد شع بريقه من خلف حجب محنة قلما يسلم أحد من الوقوع فيها ممن يتعرضون لمثلها.

وهل غير المحن سبيل لإدارك حقيقة الرجال، وكشف القدارت الكامنة في أشخاص ما كان يؤبه لهم؟!.

فكم اكتشف رؤساء شركات كبرى أن فراش الشركة يحمل شهادة جامعية لو توظف بموجبها لأفاد الشركة بخبرات تزيد أرباحها وتسهم في تقدم نجاحها، ولولا موقف صعب كان الفراش فارسه، لما عرفوا خبرته، ولما أدركوا أن قلة ذات اليد ألجأته للعمل فيما لم يخلق له.

وكم من زعيم أُنقذ من هلاك محتم لولا شجاعة جندي لا نجوم على كتفه ..

والأمثلة. كثيرة، فطالما ولد من رحم المحن منح، لو أنفقنا ما في الأرض ما كنا لنحصل عليها.

اليوم يتحدث الجمال ويقول كلمته .. ويسهم في محنة تتولد منها بإذن الله منحة يعود نفعها على الناس.

لنعلم أن جمال الدنيا كان بكفة وجمال يوسف عليه السلام بكفة أخرى…

لا تسألني عن جماله، فثمَّ موضع في قصته يكون الحديث فيه عن الجمال، وجمال يوسف عليه السلام خاصة، وستعرف حينها لم أخَّر القرآن الحديث عن جماله ..

وفوق الجمال الذي لاحت مفاتنه، رجولة مزدانة برجاحة عقل وصفاء السريرة، وتوقد الذهن الذي يصل لدرجة القدرة على قيادة أمة، ولو كلفها لكان أمينا عليها.

بل وكل تلك الملكات والجمال يكاد يذهب بالعقول، فكيف إن كان ذلك كله أمام عيني من تربى في بيتها ترقب رقي جماله صباح مساء، وهو عبد عند زوجها في بيتها لا حول له ولا قدرة، يمكن نيل المبتغى منه بسهولة لو قُصد ذلك، وفقا للعرف العام في الشأن العبد؟!

وبأبلغ بيان وأجمل الكلام، يصف القرآن كيف كان زمن بلوغ يوسف عليه السلام حيث قال: ( ولما بلغ أشده ).

لم يكن زمن ركض وراء شهوة فانية، أو لذة عابرة..
لم يكن مر بشذوذ المراهقة وانحرافاتها عن سبيل الفطرة…

وليت الآباء قبل الأبناء يعون أنه لا وجود لشيء اسمه سن مراهقة يعذر فيه البالغ على حماقاته، وتركه لما ينبغي أن رباه أبواه عليه من دين وخلق، فتلك السن بداية كتابة القلم على العبد، فإما بلوغ المرء أشده واعيا، قائدا، يحمل ملكات وطاقات بناء أمة، وإما بلوغ ضعيف لا يحسن صاحبه السيطرة على نفسه فضلا أن يكون قائدا لأمة.

ولو خضت في أعماق مطلع الآية والحديث عن اشتداد عوده عليه السلام، لما وسعت كلماتي صفحات، إذ بين كل حرف منها حكاية عفة وطهارة، فتلك معالم النبوة وإرهاصاتها تلوح من خلف ذلك كله.

بل تلك المرحلة من حياة الإنسان عامة، طالما سجل التاريخ لها أسماء عظماء منهم:
أسامة بن زيد قاد جيشا فيه أبو بكر وعمر، كان ابن 17 سنة.
ومحمد الفاتح، فتح القسطنطينية وهو ابن 22 سنة ..

ثم قال سبحانه وتعالى: " وآتيناه حكما وعلما" :
إن اشتداد عود يوسف رافقه حكم وعلم… ولكن عن أي حكم تتحدث الآية ويوسف حينها لا يزال عبدا في بيت العزيز؟!

وصدق من قال:
وكيفَ نُحرِّرُ الأوطانَ يوماً إذا الإنسانُ عبدُ مُستَرق

الجواب كامن في فصاحة وجمال ورعة التعبير القرآني المعجز:
حيث يعبر بالماضي عما هو متيقن حصوله في المستقبل، ولذلك قال آتيناه ).

ومثله لما قال تعالى: (أَتَى? أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ? )

فقيام الساعة محتم الوقوع، لذا قال: ( أتى أمر الله) مع أنه لم يأت بعد، بدليل قوله: (فلا تستعجلوه)، فما مضى لا يستعجل، وهذا ما يوضح أن مراده ب(أتى) هو توكيد الإتيان لا أكثر.

وكذلك حديثه عما سيحصل حين تتزلزل الدنيا إيذانا ببدء عالم الآخرة، كان التعبير عنها بالماضي أيضا إذا زلزلت الأرض).
وهكذا جمال وروعة بلاغة القرآن، حيث الحديث هنا عن العلم والحكم حديث عما لم يأت بعد لكنه آت لا محالة.

وكذلك نجزي المحسنين:
السؤال الذي يتبارد للذهن حينما يسمع (وكذلك نجزي) والمعنى ومثل هذا الجزاء كائن للمحسنين:

ما هو الإحسان الذي بدا من يوسف عليه السلام، ليكون الحكم والعلم جزاء له؟

الجواب كامن في طيات بلاغة نص القرآن، حيث يشير إلى أن نيله الحكم والعلم كائن لإحسان يظهر من يوسف عليه السلام يجعله أهلا لهذا المقام، فالآية تتناول حديثا استباقيا لحدث لما يحصل بعد.

لا عجب أن الحكم كائن بعد إحسان سيظهر منه، حيث سنجد شهادة السجينين في يوسف لاحقا :
(… ُ ? نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ? إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [سورة يوسف 36]

فبشهادة من سُجن معه أنه من المحسنين، وبهذا نعلم أن القرآن مترابط نصه، متماسك بقوة، يوضح بعضه بعضا.

فحينما يخبر أنه منحه الحكم والعلم لإحسانه، تعلم لماذا أجرى الله الشهادة بإحسان يوسف على لسان من سجن معه.

انتهت المقدمات وبدأ ليل المحن يرخي سدوله، فامرأة العزيز لم تعد تحتمل صبرا ..

فماذا جرى في بيت العزيز؟

أي محنة تلك التي مهدت ليحكم يوسف الأرض؟

كيف واجه يوسف المحن وإلى أين تسير بنا الأحداث؟

تابعوا معنا تأملات في سورة يوسف…


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 7 ( الأعضاء 0 والزوار 7)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 127.36 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 122.89 كيلو بايت... تم توفير 4.47 كيلو بايت...بمعدل (3.51%)]