باختصار .. عاشوا بسلام ورحلوا في سلام
في خِضَمِّ حياةٍ تعجُّ بالضجيج وصخب الأيام، وتتصارع القلوب فيها على حظوظ الدنيا، يمر بين الناس أشخاص كأنهم نسيمٌ رقيق من لطف السماء، لا يحدثون صخبًا، ولا يطلبون أضواء الشهرة، يمشون على الأرض هونًا، عاشوا بسلامٍ داخلي يتغلغل في أعماقهم، ورحلوا كذلك بسلام تاركين خلفهم في الأرواح ظلا وذكرى طيبة لا تمحى. لقد وصفهم رب العزة في محكم تنزيله فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}، وقال عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «كل قريب هيّن ليّن سهل»، هذا هو جوهر الإنسان المسالم: قلبه قريب من القلوب، وطبعه رقيق لين، وتعاملُه سهل طيب. وحين سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أي الناس أفضل؟» قال: «كل مخموم القلب صدوق اللسان»، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: «هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غلّ ولا حسد»، إنه ذلك القلب المرتبط بالسماء، المتصل بخالقه، الذي تطمئن نفسه بذكره: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28). وفي توجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لعباده نحو العمل الذي يدخلهم الجنة، أمر - صلى الله عليه وسلم - بفعل يُحيي القلوب ويزرع المودة، فقال: «لا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا، ولا تُؤْمِنُوا حتَّى تَحابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ علَى شيءٍ إذا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بيْنَكُمْ»؛ فالسلام -إذًا- ليس مجرد كلمة تُقال، بل هو رسالة حبّ وأمان، وبذله دليل صدق القلب ونقاء السريرة. إن السلام ليس فكرةً نظريةً تُحفظ؛ بل هو قيمة تُمارسُ في تفاصيل حياتنا اليومية، ونورٌ يهدي خطواتنا؛ فالذين يعيشون في سلام هم منبع أمان وطمأنينة لمن حولهم، يمرّون بينهم كنسمة تهبّ بهدوء، يسلم الناس من ألسنتهم وأيديهم؛ فلا يجرحون قلوبًا، ولا يثقلون ظهورًا. إنهم كالغيث النافع، يروون الأرض بطيب أخلاقهم، ويزرعون في النفوس بذور السلام؛ ويتركون وراءهم أثرًا طيبًا في نفوس الناس وصفاءً لا يتبدد. إن العيش بسلام مع النفس ومع الآخرين، هو من أعظم القيم الإنسانية والإيمانية، وهو درب السعادة في الدنيا والآخرة التي لا تعكر صفوها الهموم؛ فالمؤمن الذي يعيش في سلام يرحل وهو مطمئن، لا يحمل في صدره خوفًا ولا قلقًا؛ لأنه أعدّ العدة لذلك اليوم العظيم؛ كما قال -تعالى-: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر). هذه هي النهاية التي يحلم بها كل من عاش بسلام: نفسٌ راضيةٌ مرضية، تدخل جنات الخُلد لتنعم بالسلام الأبدي؛ السلام الذي يعجز عنه الكلام، وينطق به القلب وحده.
اعداد: وائل رمضان