مكارم الأخلاق (5) أداء الأمانة
- إن مما ينبغي أن يكون المؤمن حريصا عليه -بعد أداء الواجبات- أن يتحلى بمكارم الأخلاق، وأولها ألا يتصف بأخلاق الكفار والمنافقين. - هل لنا بمزيد بيان لهذه العبارة الأخيرة؟ - نعم، في كتاب الله آيات تصف الكافرين، وآيات تصف المنافقين، وآيات تصف اليهود، يريد الله منا أن نتجنب هذه الصفات والأخلاق والتصرفات، مثلا يقول الله -تعالى-: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} (آل عمران:156). ويقول -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا} (الأحزاب:69)، ويقول -تعالى-: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (النساء:142). وفي الحديث، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان» (متفق عليه)، وفي زيادة (مسلم): «وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم». فالمؤمن يكره هذه الفئات من البشر، ولا يريد أن يصنف ضمنها، أو أن ينتمي لها بأي شكل من الأشكال؛ لذا يحرص ألا يخون الأمانة، تنفيذا لأمر الله -تعالى- للمؤمنين بأداء الأمانات، فهو بين اتباع أمر الله -عز وجل- ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبين البعد عن صفات المنافقين، كل ذلك يدفعه إلى أداء الأمانة كما يحب ربنا ويرضى. كنت وصاحبي في جلسة هادئة بعد صلاة المغرب، وقد خلا المسجد من المصلين، جلسنا في المكتبة ننتظر صلاة العشاء. - هل تذكر حديث «رفع الأمانة؟». - لا أحفظه ولكن أستطيع أن أستخرجه في هاتفي، وبالفعل وجدت الحديث، عن حذيفة بن اليمان، قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثين، قد رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: «إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها قال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوَكْت، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى فيها أثرها مثل أثر المَجْل، كجمر دحرجته على رجلك فنَفَط، فتراه منتبرا وليس فيه شيء»، ثم أخذ حصاة فدحَرجه على رجله «فيصبًح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلا أمينا، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان» (متفق عليه). - هذا الحديث يحتاج إلى شرح: - أتفق معك، دعنا نبحث في «المكتبة الشاملة» عن شرح هذا الحديث: قوله: «جذر» وهو أصل الشيء و«الوكت» الأثر اليسير و«المجل» تنفط في اليد ونحوها من أثر عمل وغيره. قوله: «منتبرا»: مرتفعا. يعني: أن الأمانة نزلت في القلوب بالفطرة، ثم نزل القرآن شفاء من الجهل، نور على نور ولا تقبض الأمانة إلا بسوء العمل. حين يضعف الدين وتغلب الشهوات وتسيطر المادية، فإن الأمانة ترتفع من النفوس، كما يرتفع النور من القلوب، ويحل محل هذا النور الإلهي الران والغشاوة، وينكت في القلب نكتة سوداء، وستقل الأمانة، حتى لا يكاد الأمين يوجد، وحتى تسري بذكره الركبان. قال صاحب التحرير معنى الحديث: أن الأمانة تزول عن القلوب شيئا فشيئا، فإذا زال أول جزء منها زال نورها، وخلفته ظلمة كـ(الوكت)، وهو اعتراض لون مخالف للون الذي قبله؛ فإذا زال شيء آخر صار كـ(المجل)، وهو أثر محكم لا يكاد يزول إلا بعد مدة، وهذه الظلمة فوق التي قبلها، ثم شبه زوال ذلك النور بعد وقوعه في القلب وخروجه بعد استقراره فيه واعتقاب الظلمة إياه بجمر، يدحرجه على رجله حتى يؤثر فيها، ثم يزول الجمر، ويبقى التنفط، وأخذه الحصى ودحرجته إياه، أراد به زيادة البيان وإيضاح المذكور. وهذا المعنى ذكره النووي في شرح صحيح مسلم. قال الله -تعالى-: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب:72). قال صاحب التحرير الأمانة المذكورة في الحديث هي الأمانة المذكورة في الآية، وهي عين الإيمان، فإن استمكنت في القلب قام بأداء ما أمر به، واجتنب ما نهي عنه. وقال ابن التين: الأمانة كل ما يخفى ولا يعلمه إلا الله من المكلف، وعن ابن عباس: هي الفرائض التي أمروا بها ونهوا عنها، وقيل: هي الطاعة، وقيل: هي التكاليف. فالأمانة في قول جميعهم: الطاعة والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب. وما الأمانة في الأموال إلا جزئية من جزئيات الأمانة في معناها الشرعي العام. ومن علامات الساعة رفع الأمانة بين الأفراد، وإهدارهم حقوق بعضهم بعضا، وقد ورد في هذا الصنف قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قيل: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» (البخاري)، وفي حديث حذيفة يربط الأمانة بقوة الإيمان؛ فحيث نزل الإيمان في القلوب وثبت في النفوس، واستوثق بقراءة القرآن والتفقه فيه، ورسخ بالسنة والعمل بها تحققت الأمانة، وتمكنت، وأصبح الدين مانعا من الخيانة، وحائلا بين شهوات النفس والشيطان وبين حقوق الآخرين.
اعداد: د. أمير الحداد