تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان - الصفحة 3 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الوصايا النبوية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 34 - عددالزوار : 12825 )           »          مختصر تاريخ تطور مدينة القاهرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          العقيدة اليهودية والسيطرة على العالم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          حاجتنا إلى النضج الدعوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          نصائح وضوابط إصلاحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 57 - عددالزوار : 26758 )           »          وهو يتولى الصالحين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          إعانة الفقيه بتيسير مسائل ابن قاسم وشروحه وحواشيه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 44 - عددالزوار : 14267 )           »          عطاءات المتقين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          علاج العشق من كلام ابن الجوزي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          العلمانية المختبئة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 27-03-2025, 01:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان







ضوابط المجالس القرآنية:
من كتاب ( مجالس القرآن ) للدكتور فريد الأنصاري
(27)





الضابط الأول: لابد من تجريد القصد لله!
واعلم أن القرآن الكريم لا يفتح بصائره إلا للمقبلين عليه بإخلاص!
الضابط الثاني: تَحَيُّنُ أوقاتِ الانشراح النفسي للقرآن، والإقبال الوجداني على الذِّكْر، ومَظَانِّ اليقظة الإيمانية.وقد أشار القرآن الكريم إلى نماذج من أحسن أوقات الذكر، وهي أوقات الغُدُوِّ والآصَال. فالغَدُوُّ أو الغَدَاةُ: هي ساعات أول النهار، من الفجر إلى أوائل وقت الضحى. وأما الآصال فمفرده: أصيل، وهو وقت ما بين العصر إلى الغروب.فهو سويعات آخر النهار، حيث يبرد حر الشمس، وتهدأ أشعتها، وتلين أضواؤها، وتطول الظلال وتمتد.
و عدم طول وقت المجلس الواحد بما يخرجه عن حده.
فإذا لم يكن سبيل إلى عقد مجلس القرآن بأحد هذين الوقتين؛ فليكن بعد المغرب، أي بين العشاءين، وهو وقت داخل أيضا في مسمى (العَشِيِّ)؛ لأن العَشِيَّ في الأصل من العَشْوَةِ وهي: بداية الظلمة، عند إقبال الليل وإدبار النهارالضابط الثالث: وهو مراعاة أدب المجلس، وذلك بالاعتدال في هيأة الجلوس بما يحفظ للعلم وقارَه، وللقرآن جلالَهالضابط الرابع: عدم عقد أكثر من لقاء واحد، أو لقاءين اثنين على الأكثر في الأسبوع الواحد،
من لقاءات مجالس القرآن؛ بناء على منهج التَّخَوُّلِ في الموعظة، أي جعل تزود القلب من الإيمان على فترات منتظمة وغير متتابعة،؛ حتى لا يَكَلَّ ولا يَمَلَّ.
- الضابط الخامس: احترام قواعد تدارس القرآن العظيم:
مما سبق بيانه مفصلا من الترتيل بمنهج التلقي، والتعلم والتعليم بمنهج التدارس، والتزكية بمنهج التدبر. وبهذا نفتح باب الضوابط الخاصة لإدارة المجلس وهي:

- الضابط السادس: مبادرة أحد الجلساء من أهل العلم أو أهل الحِلْم؛ لتسيير المجلس. فلا بد لمجلس الخير من شخص ينظم سيره، ويرتب أولوياته؛ تجنبا للفوضى والارتجال، أو الانزلاق إلى غير أهداف مجالس القرآن العظيم! وقد يكون هذا المسيِّر من أهل العلم، أو من أهل الصلاح والورع عموما. وقد صَحَّ عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: (المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة!).

الضابط السابع: أن يعمد إلى إشراك الجميع في عملية التدارس والتدبر.
فحضوره في الغالب إنما هو منهجي إداري. فلا ينبغي له أن يتفرد بالكلام إلا إذا آلت الأسئلة إليه وكان من أهل العلم. إذْ يجب التفريق والتمييز بين مجلس الوعظ، أو الدرس، أو المحاضرة، أو نحو ذلك؛ وبين مجلس التدارس. فالتدارس مشاركة كما تدل عليه صيغة (التفاعل) من عبارته.
ومن القواعد التربوية المساعدة على إشراك الجميع: الْحِرْصُ على عدم استفحال عدد الجلساء؛ حتى لا يكون جمهوراً غفيراً! إذْ هنالك وجب أن يُولَدَ مجلسٌ قرآني جديد! فرع عن الأول؛ لأن الجمهور الكثير إنما تؤطره المحاضرةُ، أو الخطبةُ، أو الدَّرْسُ؛ لا (التَّدارُسُ)!
الضابط الثامن: تجنيب الجلساء الدخولَ في الجَدَلِ العقيم!
فما أهلكَ كثيرا من الناس إلا الجدلُ! وفي الأثر عن بعض السلف الصالح: (إذا أراد الله بقوم سوءا سلَّط عليهم الجدل، ومنعهم العمل!)
الضابط العاشر: تحديد أهداف المجلس من التدارس، والتذكير بذلك من حين لآخر.
وهو تحصيل التزكية للقلب بكتاب الله تعالى، والتخلق بأخلاق القرآن العظيم، من خلال مسالك التَّدَبُّر والتفكر
وهي الحذَرُ من استغراق الوقت كله في التفسير، وتتبع أقوال المفسرين من دقائق اللغات والبلاغة والإعراب، وتفاصيل الخلافات الكلامية، وتفاريع الأحكام الفقهية

فلا ينبغي أن ننسى أن غاية (مجالس القرآن) إنما هو التربية والتزكية، أي تحصيل (الربَّانِيَّة) لا تحصيل (العالِمِيَّة). ويكفيك من العلم لتحصيل الربانية ما يعرفك بالله رب العالمين!
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟!(القمر:17) فمن أراد القرآنَ للذِّكْرِ والذكرى والتربية والتزكية؛ فإنما سبيله اليُسْرُ والبساطة،
الضابط الحادي عشر: ومن هنا فالاقتراح الأوفق للمقصود إنما هو أن يُعْتَمَدَ تفسيرٌ مختَصَرٌ من ذلك كله،
مما تلقته الأمة بالقبول وأجمع على صحته السَّلَفُ والخَلَفُ. وليس كتفسير الإمام أبي جعفر الطبري(ت:310هـ) رحمه الله أوفى بالمقصود.
ويُعْتَمَدُ مختصَرُه فقط دون الأصل؛ لما امتاز به المختصر الذي جمع خلاصة ما ذهب إليه الإمام الطبري، مما أجمع عليه أهل التأويل للآية، أو ما عليه جمهورهم، أو ما رجحه هو رحمه الله من القول والبيان عند الاختلاف(). فإن لم يكن فيلتجأ إلى غيره من المختصرات الجيدة، كمختصر تفسير ابن كثير.الضابط الثاني عشر: وهكذا فلْيُقْرَأ القرآنُ أولا!
مما هو مقصود بالتدارس لذلك المجلس. ويمكن أن تُتَداولَ التلاوةُ بين جميع الحضور أو بين أغلبهم، كما يمكن أن يُكْتَفَى بتلاوة أحدهم فقط، حسب ظروف المجتمعين.
كما أن تكرار الآيات نفسها التي هي مقرر المدارسة لتلك الحصة أعْوَنُ للقلب على التفقه. والتلاوة – بضوابطها المذكورة من قبل- عبادة رفيعة جدا؛ إذْ تهيء القلب للتلقي عن الله! فلا ينبغي الاستهانة بها وتجاوزها في مجالس القرآن!

الضابط الثالث عشر: فإذا تمت حصة التلاوة والاستماع والإنصات إلى كتاب الله، كما يليق بكلام الله؛ فليشرع في قراءة خلاصة التفسير قراءةً مسموعة هادئة مفصَّلَةً؛
الضابط الرابع عشر: تَنَاوُلُ قَدْرٍ قليل من الآيات يُشَكِّلُ معنى يحسن السكوت عليه، والوقوف عنده.

سواء كان آية واحدة، أو ثلاث آيات، أو خَمْساً، أو سبعا. بشرط ألا يتعدى المقدار المدروس من ذلك كله نِصْفَ ثُمُن الحزب، بالتحزيب المتداول للقرآن الكريم، المطبوع في المصاحف بعلاماته المعروفة(). فَيُقْرَأُ ما ورد فيها من التفسير.
الضابط الخامس عشر: يُتَحَقَّقُ من الفهم العام للمعاني التي وردت بها،

وأن أهل المجلس على إدراك حسن للمقصود. ويمكن أن تثار الأسئلة حول ما أشكل منها؛ للوصول إلى بيانٍ أشمل وأوضح.

- الضابط السادس عشر: فإذا اتضح المعنى؛ وجب - بعد ذلك مباشرة - الدخول في محاولة التعرف على الهُدَى المنهاجي للآية أو الآيات،

وهو عَيْنُ الحِكَم المطلوب تعلُّمُها، مما ورد في آيات وظائف النبوة: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَوَالْحِكْمَةَ). وذلك بمحاولة استنباط الحقائق الإيمانية التي تتضمنها، والأحوال الخُلُقِيَّة التي تُرْشِدُ إليها، ومحاولة عدها باللسان، وإحصائها بالوجدان، وتداول ذلك بين سائر الْجُلَسَاءِ؛ حتى ترسخ بالقلب وتتضح صورتها بما يساعد على تَدَبُّرِها.
- الضابط السابع عشر: وبمعرفة ما تيسر من الحِكَم والمقاصد نفتح باب التدبر للآيات،

والتفكر في خلق الأنفس والأرض والسماوات. وذلك لغاية التخلق بأخلاق القرآن الكريم، والاتصاف السلوكي بِحِكَمِه العظيمة! والتفكر والتدبر – إذا خلص كلاهما لله- يورثان التخلق بأخلاق القرآن بصورة تلقائية،

وبلا كلفة، كما بيناه من قبل بشواهده. ثم إن التدبر والتفكر أيضا – بما ينطويان عليه من إبصار للآيات()- يساعدان على معرفة السبل الكفيلة بتذليل النفس وترويضها؛ لقبول هذا الخُلُقِ الرباني أو ذاك، والتحلي بتلك الخصلة النبوية أو تلك.

- الضابط الثامن عشر: فإذا تمت مدارسة السورة بأكملها، بهذا المنهج المُجَزِّئِ للوحدات أو الفقرات من كل سورة،

في مجلس واحد، إن كانت من السور القصيرة جدا، أو عبر عدة مجالس إن كانت من السور المتوسطة أو من الطوال؛ فلا بد - بعد ذلك - من محاولة قطف الثمرات التالية من ثمار المدارسة، وهي:
أ- التعرف على القضايا الأساسية التي تعالجها السورة على الإجمال، وهي حقائقها الإيمانية الكبرى، التي تدور بفلك المحور الرئيس في السورة. ثم من خلال معرفة تلك القضايا والحقائق يمكن:
ب- التعرف على المحور الرئيس للسورة على الإجمال. فلكل سورة من سور القرآن العظيم شخصيتها المستقلة، التي بها تتميز عن غيرها في نظمها السالكِ لها بِعَقْدِ الكتاب الحكيم؛ لأن هذا وذاك هو مما يساعد - بإذن الله - على التَّمْسِيكِ بالكتاب؛ لأنه يُمَكِّنُكَ - في كل وقت وحين، بالليل أو بالنهار - من المراجعة والتقويم لِخُلُقِكَ وسلوكك، ولمستواك التربوي عموما، في ضوء ما تَحَصَّلَ لديك من الحِكَم والحقائق الإيمانية، من هذه السورة أو تلك. فضبط المحور الرئيس للسورة، مع ما يدور حوله من قضاياها الأساسية؛ يساعد على طول التدبر للآيات، والتذكر لحقائقها الإيمانية باستمرار؛ حتى بعد انفضاض المجلس، حيث تنطبع المعاني الربانية بالقلب الصافي المتجردِ لله تجردَ افتقارٍ وإخلاص. فإذا اكتمل لديك تدارس القرآن العظيم بهذا المنهج وتكرر؛ صارت خريطته الكلية مرسومة على قلبك بإذن الله؛ لِمَا تلقيت من حقائقه الإيمانية عن الله جل ثناؤه، في مجالس الملائكة! مع جلسائك من (أهل القرآن: أهل الله وخاصته)؛ فلا تتصرف في سلوكك وخلقك بعدها إن شاء الله إلا بخير! وهذا من أهم مقاصد التدارس لكتاب الله تعالى.



- الضابط التاسع عشر، وهو:
- الضابط الجامع:والضابط الكلي، الجامع لضمان سير مجالس القرآن ونجاحها هو: الحفاظ على ميثاق القرآن العظيم، والالتزام به بقوة!
إذ بذلك يعرف الجليس الصادق من غيره. وإنما برهانُ صِدْقِ الجليس، وحقيقةُ انتسابه إلى أهل الله من (جلساء الملائكة)،

ومصداقية ذلك كله متوقفة على مدى التزامه بميثاق القرآن العظيم. وهو عَهْدَان: عَهْدُ فِعْلٍ وعَهْدُ تَرْكٍ. فأما عهد الفعل فهو يتلخص في ثلاثة التزامات:
- الالتزام الأول: الحفاظ على أوقات الصلوات المفروضة بالمسجد، من الفجر إلى العشاء؛ إلا لضرورة شرعية. مع تأكيد النفس وتوطينها على صلاة الفجر وصلاة العشاء، والاجتهاد في ذلك كله لإدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام، على قدر الإمكان.() فالصلاة هي خير أعمال المسلم على الإطلاق كما تواتر معناه بطرق شتى! وهي العبادة الوحيدة الحاكمة على ما سواها من الأعمال والعبادات بإطلاق! إذا استقامت للمؤمن حقيقتُها وانكشف له سِرُّها؛ استقام له كل شيء من دينه ودنياه! كما فصلناه بأدلته بمحله، فتأمل!() ويكفيك من ذلك قولهe: (استقيموا ولن تحصوا! واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة! ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن!).
- الالتزام الثاني: الحفاظ على تلاوة جزء من القرآن الكريم لكل يوم، على الدوام، في الحَضَرِ والسَّفَر سواء! حتى يكون ختم القرآن لكل فرد من أفراد المجلس عند نهاية كل شهر. وبهذا يضمن العبد السالك إلى الله زادا إيمانيا يوميا، ومنهجا لتذكر حقائق الإيمان التي استفادها من مجالس التدارس القرآني. فالتلاوة المستمرة تذكيرٌ وأيُّ تذكير! لمن ذاق حقيقتَها وشاهد فضيلتَها.
- والالتزام الثالث: الاجتهاد لضم جليس جديد، أو جلساء جُدُد؛ إلى مجالس القرآن، متى سنحت الفرصة، أو إنشاء مجلس جديد على التمام. وتلك نعمة إيمانية – إن أكرمك الله بها - ولا كأي نعمة!

فالحرص على نشر الخير والدعوة إليه؛ سِمَةٌ أساسيةٌ للمؤمن الصادق، مهما لقي في سبيل ذلك ما لقي من الحرج والعنت.
والآية التي هي الشِّعَارُ الجامِعُ لذلك كله من كتاب الله جل ثناؤه، هي ما سبقت الإشارة إليه من قوله تعالى وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)(الأعراف:170).
تَمْسِيكٌ بالكتاب أولا: وهو الأخذ بحقائقه الإيمانية بقوة،
وإقامة للصلاة ثانيا: وهو إحسان أدائها والسير إلى الله عبر مواقيتها،
ثم انطلاق إلى الإصلاح والدعوة إلى الخير. (إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ).
- القرآن لا يفتح أبواب أسراره إلا لمن أقبل عليه بشروطه. وإنما شروطه أمران: إخلاص القصد لله تعالى، ثم أخذ الكتاب بقوة!
فأما بيان الشرط الأول: فبإخلاص القصد عند بدء السير إلى منازل القرآن، وبتحقيق الصدق في طلب مجالسه؛ يفتح الله لك أبواب الخير، ويمهد لك الطريق إلى الجنة،
وأما بيان الشرط الثاني: فإن القرآن لا يستقيم سَيْرُ العَبْدِ بين مَسَالِكِهِ إلا إذا أخذه بقوة! ذلك منهج الأنبياء والصِّدِّيقِين.
فـ (الأخذ بقوة) هو: الأخذ بعزم وبحزم، والصبر على حمل الأمانة وثقل الرسالة! والصبر على طول الطريق! والثبات على الحق! فالشيطان لك بالمرصاد، يثبطك، ويبطئك عن المضي في طريق الله؛ فالصَّبْرَ الصَّبْرَ على دوام ذكر الله في صحبة الصالحين، ومَعِيَّةِ الربانيين، بمنهج القرآن، وبرنامج القرآن.

==========================
*منقول من موقع مثانى القرآن




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 30-03-2025, 12:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان



تأويلات الحداثيين لقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}

عرض ونقد

الكاتب : محمد حامد حسن عطية
(30)



وَعَدَ الله -عزّ وجلّ- بحفظ كتابه العزيز في جملة من الآيات، من أشهرها: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، وقد قدّم عددٌ من الحداثيين تأويلات خاصّة لهذه الآية تتعارض مع هذه الحقيقة المتفق عليها، وتعمل هذه المقالة على بيان هذه التأويلات ومناقشتها ونقدها.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فمِنَ المستقرّ في قلوب المسلمين وعقولهم أنَّ القرآن الكريم محفوظٌ من الزيادة والنقصان، والتحريف والتبديل؛ وذلك لأنّ الله
-وهو الحفيظ- قد وَعَد بحِفْظِه، ولن يُخلِف اللهُ وعدَه، وقد تحقّق مِن وَعْدِ الله بذلك ما تقرّ به عيون الموحِّدِين من حِفْظ القرآن في الصدور، وحفظه في السطور؛ وذلك لأنّ «ما حفظَ اللهُ تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيعَ منه شيء»[1].
وفي القرآن الكريم جملة من الآيات التي تدلّ على وَعْدِ الله بحِفْظِ كتابه العزيز، ومن أشهرها قوله تعالى في سورة الحِجر: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9].

ومع أنّ حِفْظَ الله القرآنَ الكريم «حقيقة يعلمها أولو العِلْم من خصوم الإسلام، كما يؤكّدها تاريخ القرآن الكريم»[2]، فقد وجدنا أنَّ الحداثيين شكّكوا في هذه الحقيقة المتّفق عليها، ومن ثم حاولوا تقديم تأويلات خاصّة لآية سورة الحِجْر تتوافق مع رُؤاهم وتكرّس لعدم دلالة الآية على حِفْظ القرآن الكريم، وبِغَضّ النظر عن طبيعة أهدافهم من وراء ذلك إلا أنَّ هذه الدعوى حينما كانت تصدر من مستشرقين عُرِفوا بالعداء والحقد على الإسلام قيل: إنّ الشيء من معدنه لا يُستغرب، لكن الغريب حقًّا صدور مثل هذا الزَّعْم ممن يقول أكثرهم إنهم مجتهدون مسلمون أصحاب مشروعات تجديدية في تفسير القرآن الكريم.

وفي ضوء ذلك جاءت هذه المقالة لتبرز ما ادّعاه هؤلاء الحداثيون من تأويلات بل تحريفات في معنى هذه الآية الكريمة، لتستقيم لهم دعواهم فيما يتعلّق بحِفْظ القرآن الكريم، وهيهات فهي باطلة من أساسها، منحرفة في منهجها وأهدافها ومنطلقاتها، مُضِلَّةٌ في نتائجها، فتعمل على بيان تأويلاتهم للآية واتجاهاتهم فيها، وتناقش هذه الاتجاهات وتبيّن الموقف منها، وذلك بعد تمهيد نبيّن فيه فَهْم المفسِّرين لآية سورة الحجر، ونشير فيه لبعض الآيات الأخرى الدالة على حفظ القرآن الكريم.

تمهيد:

أولًا: اتّفق المفسِّرون على أنّ المرادَ بالذِّكْر في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} القرآنُ الكريم، وممن نَقل الاتفاق على ذلك أبو الحسن الواحدي، وأبو الفرج ابن الجوزي[3].
ويشهد له ما ذَكره اللهُ قبلها في قوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}[الحجر: 6]، وذلك أنّ القرآن الكريم هو الذي نزَّله اللهُ على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكان سبب رميهم إياه
بالجنون حين نَسَبه صدقًا وحقًّا إلى الله ربّ العالمين.
وعلى ذلك فقولُه تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} رَدٌّ على هؤلاء المشركين الذين سَخِروا من النبيّ بقولهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ}، بهذا الأسلوب المؤكّد الذي فيه كبت لهؤلاء المشركين، وردع لهم، وإعلان بما يملأ صدورهم حسدًا وحسرة؛ فقد أبَوا إلا أن يجهلوا الجهة التي يقول النبيّ إنه تلقّى الذِّكْر منها، فقالوا: {نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} ولم يقولوا -ولو على سبيل الاستهزاء- نَزّل اللهُ عليه الذِّكْر، فجاءهم قول
الحقّ -جلّ وعلا-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} بهذا التوكيد القاطع الدالّ عَلى كمالِ الكبرياءِ والجلالة وعلى فخامة شأنِ التنزيل، وجاء قوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} بالجملة الاسمية للدلالة على دوام الحِفْظ له واستمراره، وأفادت الآية الكريمة أنّ الله -سبحانه- هو الذي يتولّى حِفْظه من كلّ عبث، وصيانته من كلّ سوء. وهذا هو الدليل القاطع على أنه منزّل من عند الله، فليحاولوا أن يبدّلوا من صورته، أو يدسّوا عليه ما ليس منه؛ فإنهم لو فعلوا لكان لهم من ذلك حُجّة على أنه ليس من عند الله! وقد حفظ اللهُ القرآنَ الكريم، هذا الحفظ الربانيّ، الذي أبعدَ كلَّ ريبة أو شكّ في هذا الكتاب، فلم تمسسه يدٌ بسوء، على كثرة الأيدي التي حاولت التحريف والتعديل، فردّها الله، وأبطل كيدها وتدبيرها[4].
وأُطلق على القرآن «الذِّكْر» لأوجه؛ منها:
أ- ما فيه من الموجبات للتذَكُّر والاعتبار.

ب- ولأنه أيضًا يُذكر فيه أخبار الأوّلِين.
ج- ولأنه شرف لمن تمسّكَ به، ينال به صاحبه ذِكرًا جميلًا، وثناءً حسنًا كما قال -جلّ ذِكره-: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}[الزخرف: 44].

ثانيًا: ذهب أكثرُ المفسِّرين إلى أنّ الضمير في قوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} يعود على القرآن الكريم، ونَسَبَ هذا القولَ للأكثرين ابنُ عطية، وابنُ الجوزي، وأبو حيان الأندلسي[5].

وذهب فريق من العلماء إلى أن الضمير يعود على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أي: يحفظه من أذاكم، ويحوطه من مَكْرِكُم، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة: 67]، وفي ضمن هذه الآية التبشير بحياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى يُظهِر الله به الدِّين.
وقول الأكثرين -وهو أنّ الضمير عائد إلى القرآن الكريم- أَوْلَى وأرجح وأشهر وأظهر؛ لأنّ المقام يقتضيه، وظاهر السياق يدلّ عليه، ولأنه المصرّح به في الآية الكريمة بكلمة: {الذِّكْرَ}، ومن المعلوم أنّ عود
الضمير على مذكور أَوْلَى من عوده على غير مذكور[6].
قال الشهاب الخفاجي: «وكون الضمير للنبي -صلى الله عليه وسلم- خلاف الظاهر»[7]. ووجدير بالذكر أنّ مَنْ قال: إنّ الضمير عائد على الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يَنْفِ أحدٌ منهم حِفْظَ الله القرآنَ الكريم؛ لتضافر الأدلة على ذلك، وأيضًا فإنّ حِفظ الله رسوله -صلى الله عليه وسلم-يقتضي حِفْظ القرآن الذي نزل عليه، وجعله حجّته، وآية نبوّته الكبرى، ومعجزته العظمى.

ثالثًا: هذه الآية الكريمة هي إحدى الآيات الدالّة على وعدِ الله بحفظ القرآن الكريم، وثَمَّ غيرها في تقرير هذا المعنى، ومن ذلك: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت: 41- 42]، والذِّكْر هنا القرآن أيضًا في قول الجميع، قاله الماوردي[8]، ومن معاني الآية الكريمة أنه ليس للبطلان إليه سبيل؛ لأنه منزل من ربّ العالمين، وأنه محفوظ من أن يُنقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يُزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه[9].

ومنه أيضًا قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}[البروج: 21- 22]، ووجه الدلالة في ذلك أن قوله: {مَحْفُوظ}، فيه قراءتان متواترتان؛ إحداهما وهي قراءة الأكثرين: {مَحْفُوظٍ} بالجر على أنه صفة {لَوْحٍ}، وحِفْظ اللوح الذي فيه القرآن كناية عن حِفْظ القرآن، والقراءة الأخرى وهي متواترة أيضًا -قراءة نافع- برفع {مَحْفُوظٌ} على أنه صفة للقرآن[10]، أي: هو قرآنٌ مجيدٌ محفوظٌ، وهذا صريح في الدلالة على حِفظ الله القرآنَ المجيد، ولله الحمد والمنة.

وبعد هذا البيان نشرع في ذِكْر تأويلات الحداثيين لقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، مع بيان سبب تهافتها:
ذهب الحداثيون في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} عِدّة مذاهب، وحاصل ما ذهبوا إليه -بحسب ما وقفتُ عليه- ينحصر في أربعة اتجاهات، وفيما يأتي نبيّن كلّ اتجاه منها، ثم نتبعه بمناقشة تبرز عِلّته وتبيّن إشكاله:

الاتجاه الأول: ذهب بعض الحداثيين إلى حمل الآية على معنى الأمر بالحفظ لا الوعد بالحفظ، فالآية -في زعمهم- أمرٌ لنا بحفظ الذِّكْر لا أنّ اللهَ قد تكفّل بحفظه.
وممن زعم ذلك د. نصر أبو زيد حين قال: «وقول الله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9]، لا يعني التدخُّل الإلهي المباشر في عملية الحِفْظ والتدوين والتسجيل، بل هو تدخُّل بالإنسان المؤمن بالبشارة، والحضّ والحثّ والترغيب على أهمية هذا الحِفْظ، وفهم الحِفْظ على أنه تدخّل مباشر من الزاوية الإلهية فهم يدلّ على وعي يضاد الإسلام ذاته من حيث إنه في جوهره الدِّين الذي أنهى العلاقة المباشرة بين
السماء والأرض إلا عن طريق التوجُّهات والإرشادات المضمّنة في القرآن الكريم، وفي سُنّة الوحي الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم»[11].
وهذا التأويل للآية الكريمة تأويل باطل، وبيان ذلك على النحو الآتي:

1- أنه مناقض تمام المناقضة لقوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}؛ إِذْ إنّ هذه الجملة صريحة في أنّ الله وعَد -ووعده حَقّ- بحِفْظ القرآن بنفسه وذلك في قوله: {وَإنَّا}، فكيف يقال مع ذلك إنه لا يعني التدخل الإلهي المباشر، مع أنّ التعبير بالتدخّل غير لائق بجلاله -جلَّ وعزَّ- فالقرآن كلامه، لا كلام غيره، ومن حقّه أن يتكفّل بحفظه وحمايته.
2- من المتقرّر لدى أهل اللغة أيضًا أنّ قوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} جملة خبرية، ودعوى أنّ الآية تدخل بالإنسان المؤمن بالبشارة، والحضّ والحثّ والترغيب على أهمية هذا الحِفْظ يجعلها جملة إنشائية على معنى الأمر والطَّلَب، وهذا خلاف الظاهر، ولا يعدل عن الظاهر إلا بحُجّة وبرهان، وهذا من دلائل فساد هذا التأويل أيضًا.

3- دعوى أنّ الإسلام أنهى العلاقة المباشرة بين السماء والأرض إلا عن طريق التوجُّهات والإرشادات المضمّنة في القرآن الكريم، وفي سُنّة الوحي الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ دعوى عارية عن الحقّ والرشد، بل القرآن وحيه وإن هبط إلى الأرض، واللهُ وعَد بحفظه على كلّ حال، ولم يقيّده بزمان، أو مكان، ونزول القرآن لا يعني قطع صِلَته بمن أنزله وقاله ابتداء، فمنه بدأ وإليه يعود.
وقوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} «أي: في حال إنزاله وبعد إنزاله، ففي حال إنزاله حافظون له من استراق كلّ شيطان رجيم، وبعد إنزاله أودعه الله في قلب رسوله، واستودعه فيها ثم في قلوب أمّته، وحفظ اللهُ ألفاظَه من
التغيير فيها والزيادة والنقص، ومعانيه من التبديل، فلا يحرِّف محرِّف معنى من معانيه إلا وقيّض اللهُ له من يبيّن الحقّ المبين، وهذا من أعظم آيات الله ونعمه على عباده المؤمنين...»[12].
4- لا ينبغي إغفال أنّ القرآن الكريم يختلف عن الكتب المنزلة السابقة، حيث إنّ الله أَوْكَلَ حِفْظ الكتب السابقة إلى الناس، وليس الأمر كذلك في القرآن الكريم.
وقد أحسن إسماعيل بن إسحاق القاضي (ت282هـ) حين سُئل لِمَ جاز التبديل على أهل التوراة، ولم يجز على أهل القرآن؟ فقال: قال الله تعالى، في أهل التوراة: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ}[المائدة: 44]، فَوَكَلَ
الحفظ إليهم، وقال في القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، فلم يجز التبديل عليهم[13].
الاتجاه الثاني في تأويل الآية الكريمة: ذهب بعض الحداثيّين إلى أنّ المراد بالحفظ الموعود به حفظ المعنى والمضمون، لا حِفْظ النصوص والألفاظ.
يقول عبد المجيد الشرفي: «الذِّكْر الذي وعَد اللهُ بحفظه هو المحتوى، وليس الظرف، هو مضمون الدعوة بما انطوتْ عليه من تبشير وإنذار ومن توجيه وإرشاد، وليس الألفاظ والتعابير التي صِيغت فيها تلك الدعوة، والتي
دوّنت في ظرف معيّن، وتنسب إلى أقوام بأعيانهم، ولها نحوها وصرفها وقواعدها، ولا تختلف في هذا المستوى عن أيّ لغة أخرى، والرسول نفسه لم يَنْهَ أصحابه عن تلاوة الآيات التي حفظوها بطرق مختلفة، واعتبرها كلّها جائزة، في حين كان بعض الصحابة متمسكًا بالطريقة التي سمع النبي يتلو بها متشدّدًا في وحدة التلاوة، ويرى في تعدّدها تحريفًا لكلام الله»[14].
ويقول د. حسن حنفي: «يُغالي البعضُ وأكثرهم من اللاهوتيين المحافِظِين ويدَّعون أنّ اللهَ قد حفظ كتابه من التغيير والتبديل وأن العناية الإلهية هي الحافظة للنصوص، ومن ثم فلا داعي هناك لتطبيق قواعد المنهج
التاريخي على النصوص الدينية، وإقامة نقد تاريخي للكتب المقدسة:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، وهي نظرية لاهوتية صرفة، تهرب من النقد، وتلجأ للسُّلْطة الإلهية... وقد يكون معنى الآية هو حفظ المعنى، وحفظ تطبيق المعنى في الواقع، لا حفظ النصّ الحرفي المدون، فذلك ما يعتريه التغيير والتحريف والتبديل، وهو ما يتهم به القرآن أهل الكتاب، ويؤيّده النقد التاريخي للكتب المقدّسة»[15].
وهذا التأويل للآية للكريمة -وهو قَصْر الحفظ على حفظ المعنى والمضمون- تحريف لمعنى الآية الكريمة بُني على مقدمات باطلة فلا غرو أن يكون مثلها.

وبيان ذلك على النحو الآتي:

1- الآية الكريمة أفادتْ أنّ الله وعَد بحِفْظِ الذِّكْر، والذِّكْر يشمل اللفظ والمعنى، ولا يقتصر على المعنى أو المضمون، فقصره على المعنى وتخصيصه بها دعوى لا دليل عليها.
2- مادة الذِّكْر نفسها تدلّ على أنّ القرآن الموعود بحفظه ألفاظ ومعانٍ، بل الأصل في الذِّكْر أن يكون بلفظ.

وقد جاء في القرآن ما يدلّ على أن هذا الذِّكْر المراد به القرآن متلوّ ومسموع وهذا إنما يكون للألفاظ الحاملة للمعاني كما لا يخفى.
قال تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ}[آل عمران: 58]، وقال تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}[القلم: 51- 52].

3- هذا التأويل المزعوم مبنيّ على مقدّمة باطلة وهي أنّ الذِّكْر -وهو القرآن- وحي بالمعنى دون اللفظ، وقد صرّح عبد المجيد الشرفي بذلك في موضع آخر ورأى أنه أقرب المواقف من المعقولية الحديثة[16].
ولا شك أنّ هذه مقدّمة باطلة؛ فالقرآن وحي من الله باللفظ والمعنى، ومن دلائل ذلك أنّ الرسول محمدًا -صلى الله عليه وسلم- كان حريصًا على ترديد ما يلقيه عليه جبريل -عليه السلام- من القرآن خشية أن يتفلّت منه شيء، فأنزل الله قوله:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة: 16- 19]، فقوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ}، أي: بالقرآن، {لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ}، أي: في قلبك، {وَقُرْآنَهُ}، أي: وأن تقرأه بعد ذلك بلسانك، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}، أي: فإذا قرأه عليه الملَك المبلِّغ عنّا فاتبع قراءته، والقرآن اسم للّفظ والمعنى جميعًا، وفي ذلك دليل على أنّ ألفاظ القرآن بمعانيها جُمعت في قلبه بطريق الوحي إليه، والذي يُقرأ هو الألفاظ.
والعجيب أن أصحاب هذا القول الشاذّ تمسكوا بظاهر قوله تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء: 193- 195]، وقالوا: إنّ الذي نزل على قلب الرسول
هو المعاني لا الألفاظ، مع أن الآيات نفسها تبطل كلامهم وذلك أن الله قال فيها: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}، واللسان العربي لفظ ومعنى كما لا يخفى، وهو متعلّق بقوله: {نَزَلَ} على الوجه الصحيح، و(القلب) كما ينزل عليه المعنى، ينزل عليه اللفظ، وإنما آثر الحق تبارك وتعالى هذا التعبير للدلالة على أن القرآن كما وعته الأذنان، وعاه القلب اليقظان»[17].
4- حفظُ اللهِ القرآنَ الكريم من التغيير والتبديل والتحريف ليس من ادعاءات المُغالين بل هذا ما عليه إجماع المسلمين استنادًا إلى صريح القرآن الكريم.

وقد ذكر ابنُ حزم في مراتب الإجماع بَابًا عنون له: (من الإجماع في الاعتقادات يكفر مَنْ خَالفه بإجماع)، وممَّا ذكر فيه: «وأنَّ كلّ ما في القرآن حقّ، وأنّ من زادَ فيه حرفًا من غير القراءات المروية المحفوظة المنقولة نَقْل الكافة، أَو نقص منه حرفًا أو بدّل منه حرفًا مكان حرف، وقد قامَت عليه الحُجَّة أنه من الْقُرْآن، فتمادى مُتعمِّدًا لكلّ ذلك عالمًا بأنه بِخِلاف ما فعل؛ فإنه كافِر»[18].
5- لا يصحّ ما ادّعاه هؤلاء من أنَّ القرآن ألفاظٌ تنسب إلى أقوامٍ بأعيانهم، ولها نحوها وصرفها وقواعدها، ولا تختلف في هذا المستوى عن أيّ لغة أخرى؛ وذلك لأنّ القراءات القرآنية حين تنسب إلى القرّاء فيُقال
مثلًا: قراءة نافع، أو عاصم، أو حمزة، فإضافة القراءة إليهم إضافة شُهْرَة واختيار لا نِسبة اختراع.
قال ابن الجزري: «إضافة الحروف والقراءات إلى أئمة القراءة ورواتهم المراد بها أن ذلك القارئ وذلك الإمام اختار القراءة بذلك الوجه من اللغة حسبما قرأ به، فآثره على غيره، وداوم عليه ولزمه حتى اشتهر وعُرِف به، وقُصِد فيه، وأُخِذ عنه؛ فلذلك أُضيف إليه دون غيره من القرّاء، وهذه الإضافة إضافة اختيار ودوام ولزوم لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد»[19].

وهذه القراءات المتواترة متلقّاة بالوحي، وسُنّة متّبَعة لا تحريف فيها ولا تبديل.

قال أبو عمرو الداني: «وأئمة القُرّاء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشَى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل والرواية إذا ثبت عنهم لم يردّها قياس عربية ولا فشوّ لغة؛ لأنّ القراءة سُنّة متبَعة يلزم قبولها والمصير إليها»[20].

والاختلاف بين القراءات اختلاف تنوّع لا تضاد، وله فوائده الجليلة كالتسهيل والتخفيف على الأُمّة، وما في ذلك من نهاية البلاغة، وكمال الإعجاز، وجمال الإيجاز؛ إِذْ كلّ قراءة بمنزلة الآية، إِذْ كان تنوّع اللفظ بكلمة تقوم مقام آيات.
6- دعوى أنّ الرسول نفسه لم يَنْهَ أصحابه عن تلاوة الآيات التي حفظوها بطرق مختلفة مقيّد بما سمعوه منه -صلى الله عليه وسلم-؛ ولذا لمَّا أقر قراءتهم وجَّه ذلك بقوله: «هكذا أُنْزِلَت»، وكان الصحابي نفسه يقول
عن قراءته: «أقرَأَنِيها رسول الله» صلى الله عليه وسلم[21].
7- لا يصح قياس القرآن الكريم على الكتب المقدّسة الأخرى فيما يتعلق بحفظ ألفاظها من التحريف والتبديل؛ لما سبق من أن الله وَكَلَ حِفظ الكتب السابقة إلى الناس، وتكفّل بحفظ القرآن الكريم.
وسبب اختصاص القرآن الكريم بهذا «أنّ الكتب السماوية السابقة مرادة لغاية محدودة، ولوقت محدود، وذلك إلى أن يأتي القرآن الكريم، الذي هو مَجمع هذه الكتب، والمهيمن عليها. وهو بهذا التقدير الرسالة
السماوية إلى الإنسانية كلّها في جميع أوطانها وأزمانها»[22]، و«ترك حِفظ الكتاب الخاتم للبشر، الذين يجوز عليهم الإهمال والتحريف والنسيان، معناه طروء وحدوث التحريف والضياع لهذا الكتاب، حيث لا وحي سيأتي، ولا رسول سيبعث، ولا كتاب سينزل... الأمر الذي لو حدث -افتراضًا- سيضلّ الناس، ولا رعاية لهم، ولا حُجّة عليهم...»[23].
8- دعوى أنّ القول بحفظ الله القرآنَ هروبٌ من النقد، ولجوءٌ للسلطة الإلهية =جرأة عظيمة على الله وكلامه حَمَلهم عليها عدم مراعاتهم لخصائص القرآن الكريم، ومنها قدسية النصّ القرآني، وأنه كلام الله الحقّ المنزّه
عن كلّ نقص وعيب، ولي بحث مفرد بعنوان: «نظرات في موقف الحداثيين العرب من خصائص القرآن الكريم»، بيّنتُ فيه مواضع الخلل عندهم في هذا الباب.
الاتجاه الثالث في تأويل الآية الكريمة: ذهب بعض الحداثيين إلى أن الذِّكْر الموعود بحفظه هو القرآن المتلوّ أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- دون المكتوب في المصاحف بعد ذلك:
ذكر محمد أركون أن القرآن: «عبارة عن مجموعة من العبارات الشفهية في البداية، ولكنها دوّنت كتابةً ضمن ظروف تاريخية لم توضح حتى الآن أو لم يُكشف عنها النقاب، ثم رفعت هذه المدوّنة إلى مستوى الكتاب
المقدّس بواسطة العمل الجبار والمتواصل لأجيال من الفاعلين التاريخيين»[24].
وقال عبد المجيد الشرفي: «فلفظ القرآن لا يصح أن يطلق حقيقة إلا على الرسالة الشفوية التي بلّغها الرسول إلى الجماعة التي عاصرته»[25].
وهذا الادّعاء باطل؛ وذلك أن المكتوب في المصاحف اليوم لا يختلف عن القرآن الذي تلاه النبي -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه كما تلقّاه من جبريل -عليه السلام-، وقد تكفّل اللهُ بحفظ القرآن في الصدور
والسطور، ولعلّه لهذه الحكمة سُمّي بالقرآن، وبالكتاب فـ«روعي في تسميته قرآنًا كونه متلوًّا بالألسُن، كما روعي في تسميته كتابًا كونه مدونًا بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه»[26].
وجاء في القرآن الكريم تسمية القرآن بالكتاب ومجيء أحدهما في موضع الآخر أو حالًا منه، قال تعالى:{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[فصلت: 3]، وحاصل الأمر أنه لا فرق بينهما من حيث الحقيقة، وإنما كلّ منهما أفاد معنًى وصفيًّا فيه، ونظيرهما في ذلك {الذِّكْر}؛ ولذا جاء في القرآن ما يدلّ على أن الذِّكْر هو الكتاب العزيز وأن الذِّكْر محفوظ حال كونه كتابًا قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا
جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت: 41- 42]، «والذِّكْر: القرآن بإجماع»، وقوله: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ}، جملة حالية على الأرجح، وهي من حيث المعنى داخلة في صفة الذِّكْر المُكَذَّب به، فلم يتم ذِكْر المخبر عنه إلا بعد استيفاء وصفه،

وهذا كما تقول: تخالف زيدًا وهو العالم الودود الذي من شأنه ومن أمره، فهذه كلّها أوصاف[27].
هذا، وقد قضى اللهُ بأن يكون القرآن مكتوبًا، وهذا شامل لكتابته في اللوح المحفوظ وكتابته بعد ذلك، واتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- كُتّابًا للوحي، ولم تتأخّر كتابة القرآن عن زمان النبيّ -صلى الله عليه وسلم-،
والذي صنعه أبو بكر الصديق هو جَمْع القرآن في مصحف واحد، ثم نُسِخَ إلى عدّة نُسَخٍ في عهد عثمان رضي الله عنه، ولهذين الجَمْعَيْن أسباب معروفة، وقد كان التعويل في ذلك على المكتوب بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، والمحفوظ في صدور الصحابة.
ولو تصوّرنا أنّ المصاحف لم تُكتب أصلًا، أو اختفت بعد كتابتها، فإنّ القرآن محفوظ بالصدور منقول بالتواتر، لم يُزَد فيه ولم يُنْقَص منه، فكيف وقد تحقّق فيه الأمر؛ الحفظ في الصدور والحفظ في السطور.

وتقدّم أنّ نافعًا المدني قرأ قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}[البروج: 21- 22]، برفع: {مَحْفُوظٌ}، وهذا يعني أنّ القرآن محفوظ مع أنه في لوح، فكتابته لا تُغَيِّر شيئًا من الوعد بحفظه.
قال الواحدي: «فإن قيل: لِمَ اشتغلَت الصحابة بجمع القرآن في الصحف، وقد وعَد اللهُ حفظه، وما حَفِظَه الله فلا خوف عليه؟
الجواب أن يقال: جَمْعُهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله إياه، ولمّا أراد حِفظه قيَّضهم لذلك، وقال ابن الأنباري: إنهم أرادوا تسهيل القرآن على الناس وتقريب مطلبه بالذي فعلوه، لكي يَسْهُلَ تناولُه على من أراد
حفظه وقراءته إذا رآه مجموعًا في صحيفة، ولو لم يفعلوا ما كان يضيع؛ إِذْ ضمِن اللهُ حِفْظَه»[28].
والإجماع منعقد على أنّ القرآن المكتوب في المصاحف هو القرآن الذي تكفّل الله بحفظه.
قال ابن عبد البر: «وأجمع العلماء أنّ ما في مصحف عثمان بن عفان -وهو الذي بأيدي المسلمين اليوم في أقطار الأرض حيث كانوا- هو القرآن المحفوظ الذي لا يجوز لأحد أن يتجاوزه ولا تحلّ الصلاة لمسلم إلا بما
فيه»[29].
وقال ابن حزم في كتابه (مراتب الإجماع) تحت عنوان: (باب من الإجماع في الاعتقادات يكفر مَن خالفه بإجماع): «وأنّ القرآن المتلوّ الذي في المصاحف بأيدي الناس في شرق الأرض وغربها من أول {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إلى آخر {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، هو كلام الله -عزّ وجلّ- ووحيه أنزله على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- مختارًا له من بين الناس»[30].

الاتجاه الرابع: ذهب أحد الحداثيّين وهو المهندس محمد شحرور إلى التغاير والاختلاف بين القرآن والذِّكْر؛ استنادًا إلى قوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}[ص: 1]، وذلك حين قال: «وإذا نظرنا أيضًا إلى الربط بين القرآن والذِّكْر في سورة (ص) لوجدناهما مربوطين بأداة (ذِي) وهذه الأداة تستعمل للدلالة على صفة الشيء لا على الشيء نفسه...»، إلى أن قال: «إنّ القرآن مجموعة القوانين الموضوعية الناظمة للوجود ولظواهر الطبيعة والأحداث الإنسانية، وأساسه غير لغوي ثم جعل لغويًّا؛ لقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}[الزخرف: 3]... والذِّكْر هو تحوُّل القرآن إلى صيغة لغوية إنسانية منطوقة بلسان عربي...»، إلى أن قال:
«الذِّكْر ليس القرآن نفسه، وإنما هو أحد خواصه وهو صيغته اللسانية حصرًا»[31].
واستند أيضًا إلى الفرق بين الذِّكْر والقرآن بقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}[يس: 69].
وهذا الكلام فاسد في ذاته باطل من أساسه، وهو مبنيّ على مغالطات كثيرة ومفاهيم مخترعة زعمها صاحبها في كثير من كلمات القرآن الكريم، لا يتّسع المقام لمناقشته أو بيان فساد منهجه الذي سار عليه فيها، وقد
كفانا مؤنة ذلك عددٌ من الباحثين[32].

والذي نحتاج إلى بيانه هنا أنّ تفريقه بين القرآن والذِّكْر بما ادّعاه لا يصح؛ وذلك أننا ذكَرْنا آنفًا أنه رُوعي في تسمية القرآن كونه متلوًّا بالألْسُن، كما رُوعي في تسميته كتابًا كونه مدوّنًا بالأقلام، وهنا نقول: ورُوعي في تسميته بالذِّكْر كونه مذكِّرًا للناس، وشرفًا لمَن تمسّك به ونحو ذلك مما تقدّم ذِكْرُه في سبب تسمية القرآن بالذِّكْر، فإذا جاء اقتران القرآن بالذِّكْر وصفًا أو عطفًا مما يفيد تغايرًا، فإنه تغاير في الأوصاف لا في الذات والحقيقة، وهذا ما أغفله د. شحرور في عامة ما ذكره من فروق بين القرآن والكتاب والفرقان والذِّكْر وغيرها، فأتى بفروق لم يُسبق إليها، ولا يشهد لها لغة ولا عقل، ونقول له -دفعًا لرؤيته الفاسدة في قضية التغاير-: إنّ الله -جلَّ ذِكْره- قال عن نفسه: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}[الحديد: 3]، فهل هذا العطف يقتضي تغايرًا بالذات فيكون الآخِر غير الأول، ويكون الحديث في الآية عن أربع ذوات؟!
فإن قال: نعم فتلك مصيبة لا نحتاج معها إلى مزيد، وإن قال: إنّ المغايرة باعتبار ما في كلّ اسم من صفة تختصّ به وكلّها أسماء لله وأوصاف، فهذا عين ما نقوله في القرآن والذِّكْر والكتاب، ولله الحمد.

ودعوى أنّ القرآن أساسه غير لغوي ثم جعل لغويًّا لقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}[الزخرف: 3]، ينقضها أنّ الأمر لو كان كما زعم في التفريق بين القرآن والذِّكْر لقيل: (إنّا جعلنا ذِكْرًا عربيًّا) وليس {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} على اعتبار أن الذِّكْر هو الصيغة اللغوية.
وإنما المعنى أنه على هذه الصفة قرآن عربي، وأنزله اللهُ كذلك؛ تيسيرًا منه سبحانه، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}[يوسف: 2].

ولا يخفى أن ما ادّعاه من أن الذِّكْر صيغة لغوية إنسانية باطل؛ فالقرآن أو الذِّكْر كلام الله لا تصرُّف لبشرٍ فيه، وليس للرسولَيْن (جبريل ومحمد عليهما السلام) منه إلا شرف التبليغ.
وأخيرًا، فقد كَثُر في القرآن الكريم ما يدلّ على أنّ القرآن يُقرأ ويُتْلَى ويُقَصّ، وهذا كلّه يهدم دعواه، ولو كان الأمر كما زعم من التفريق بين القرآن والذِّكْر لجاء التعبير في هذه الآيات بالذِّكْر لا بالقرآن.
خاتمة:

يتبيّن مما سبق أنَّ للحداثيّين تأويلات متهافتة في معنى قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9]، يمكن تقسيمها إلى أربعة اتجاهات:
الأول: حمل الآية على معنى الأمر بالحِفْظ لا الوعد بالحِفْظ. والثاني: المراد بالحِفْظ الموعود به حِفْظ المعنى والمضمون، لا حِفْظ النصوص والألفاظ. والثالث: الذِّكْر الموعود بحِفْظِه هو القرآن المتلوّ أيام النبيّ -صلى الله عليه وسلم-دون المكتوب في المصاحف بعد ذلك. والرابع: دعوى التغاير والاختلاف بين القرآن والذِّكْر.

وتبيّن أنها تأويلات مبنيّة على مقدّمات باطلة؛ كقياس القرآن الكريم على الكتب المنزلة الأخرى في طروء التحريف والتبديل عليها، وعدم مراعاة خصائص القرآن الكريم؛ فلا غرو أنْ جاءت هذه التأويلات منحرفة، بمنأى عن سياق الآية الكريمة ودلالات ألفاظها، وإجماع المسلمين على حِفْظ الله للقرآن الكريم، بحيث يمكن القول بأنها باطنية جديدة تُفضي للهدم والتبديد لا البناء والتجديد، والله أعلم.

[1] الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (1/ 98)، دار الآفاق الجديدة- بيروت.

[2] التفسير القرآني للقرآن (7/ 218) لعبد الكريم الخطيب، دار الفكر العربي- القاهرة.
[3] التفسير البسيط للواحدي (12/ 547)، الناشر عمادة البحث العلمي، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة: الأولى، 1430هـ. وزاد المسير لابن الجوزي (2/ 525)، دار الكتاب العربي- بيروت، الطبعة: الأولى، 1422هـ.

[4] ينظر: إرشاد العقل السليم لأبي السعود (5/ 69)، والتفسير القرآني للقرآن (7/ 218).

[5] المحرر الوجيز لابن عطية الأندلسي (3/ 352)، دار الكتب العلمية- بيروت، الطبعة: الأولى، 1422هـ، وزاد المسير (2/ 525)، والبحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (6/ 468)، دار الفكر- بيروت، الطبعة: 1420هـ.

[6] ينظر: تفسير القرآن للسمعاني (3/ 131)، دار الوطن، الرياض- السعودية، ومفاتيح الغيب للرازي (19/ 123)، دار إحياء التراث العربي- بيروت، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 527)، دار طيبة.
[7] حاشية الشهاب الخفاجي على تفسير البيضاوي (5/ 283)، دار صادر- بيروت.
[8] النكت والعيون للماوردي (5/ 185)، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان.

[9] ينظر: مفاتيح الغيب (27/ 567)، وتفسير ابن كثير (7/ 183).
[10] ينظر: النشر في القراءات العشر لابن الجزري (2/ 399)، والبحر المحيط (10/ 447)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (30/ 254)، الدار التونسية للنشر- تونس.
[11] النصّ، السلطة، الحقيقة، د. نصر حامد أبو زيد، ص69- 70، المركز الثقافي العربي، الطبعة: الأولى.

[12] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص429، مؤسسة الرسالة.
[13] ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض بن موسى اليحصبي، مطبعة فضالة، المحمدية، المغرب.
[14] الإسلام بين الرسالة والتاريخ لعبد المجيد الشرفي، ص50، دار الطليعة- بيروت، الطبعة: الثانية، 2008م.

[15] رسالة في اللاهوت والسياسة، باروخ سبينوزا- ترجمة: حسن حنفي، ومراجعة: فؤاد زكريا، هامش ص27، في المقدمة، الناشر: مؤسسة هنداوي.
[16] ينظر: الإسلام بين الرسالة والتاريخ، ص37.
[17] المدخل لدراسة القرآن، د. محمد حسين الذهبي (1/ 67-68)، مكتبة السنّة- القاهرة، الطبعة: الثانية.

[18] مراتب الإجماع لابن حزم الأندلسي، ص174، دار الكتب العلمية- بيروت.
[19] النشر في القراءات العشر لابن الجزري (1/ 52).
[20] جامع البيان في القراءات السبع لأبي عمرو الداني، جامعة الشارقة- الإمارات، الطبعة: الأولى.

[21] من ذلك ما وقع لعمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم -رضي الله عنهما-، والقصة أخرجها الشيخان في مواضع، منها: صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب مَن لم يَرَ بأسًا أن يقول: سورة البقرة، وسورة كذا وكذا، (6/ 194)، ح5040.
[22]التفسير القرآني للقرآن (7/ 219).

[23] حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص301، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1424هـ-2003م.
[24] الفكر الأصولي واستحالة التأصيل لـ محمد أركون، ص41، ترجمة وتعليق: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت- لبنان، الطبعة: الأولى، 1999م.
[25] الإسلام بين الرسالة والتاريخ، ص49.

[26] النبأ العظيم، د/ محمد عبد الله دراز، ص41، دار القلم.
[27] ينظر: المحرر الوجيز (5/ 19).
[28] التفسير البسيط (12/ 547).
[29] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر (4/ 278).

[30] مراتب الإجماع، ص173.
[31] الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، محمد شحرور، ص62- 63، الأهالي للطباعة والنشر.

[32] من هذه البحوث على سبيل المثال: بيضة الديك؛ نقد لغوي لكتاب (الكتاب والقرآن) ليوسف الصيداوي.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 12-03-2025, 10:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان



أثر القرآن في الحياة العربية (2-2)
الكاتب : مصطفى السباعي
(12)



كان للقرآن أثرٌ عظيمٌ في الحياة العربية، وفي هذه المقالة يستعرض الكاتب بعض أوجه التغيير التي أحدثها القرآن في حياة العرب ومجتمعهم، وكيف تعامل القرآن مع ما كان عندهم من فضائل ورذائل؟ لتُتمِّمَ ما تناوله من آثار في مقالته السابقة.
أثر القرآن في الحياة العربية[1]
لقد كان أثر القرآن عظيمًا في تطوير المجتمع العربي من مجتمع قبلي، كلّ قبيلة فيه لها كيانها الخاصّ ورئاستها الخاصة وشعورها الخاصّ، إلى مجتمع مدني يشعر جميع أفراده بشعور الرعوية في دولة واحدة ذات نظامٍ واحدٍ، يتساوى فيه أبناؤه في الواجبات والمسئوليات، دون تفريق بين شريفٍ ووضيعٍ أو بين قبيلةٍ ممتازة وقبيلةٍ دنيئة.
لقد كانت القبائل العربية قبل الإسلام تتفاوت في الشرف والمنزلة الاجتماعية، فأشرفها قريش، وأخسّها باهلة، وفي خسة باهلة تضرب الأمثال حتى قال قائلهم:

ولو قيل للكلب يا باهلي عوى الكلب من لؤم هذا النسب!
وقيل لأحدهم في فجر الإسلام: أيسرّك أن أباك باهلي وأنك في الجنة؟ فأجاب: لا أحب اللؤم بشيء! وقيل لآخر: أيسرّك أنك في الجنة وأنت من باهلة؟ فأجاب: بشرط أن لا يعلم أهل الجنة!

وأسَّس القرآنُ الدولةَ عند العرب على مبدأين ثابتين:

  1. الشورى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}.
  1. العدالة المطلقة {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}، {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله وَلَوْ عَلَى أَنْفِسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}.
وجعل رئاسة الدولة بالمبايعة، لا وراثة ولا إكراهًا. وجعل العلاقة بين الشعب والرعية مقيدة بالقانون الذي شرعه الله لعباده، فلا يجوزه[2] رئيس ولا قوي ولا غني ولا زعيم، بل الكلّ أمام الحقّ سواء؛ (النَّاسُ سَوَاسِيَة كَأَسْنَانِ المشطِ)، وفي ذلك يقول الخليفة الصديق -رضي الله عنه-: (القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق).
وكان توحيد العرب داخل جزيرتهم وإزالة الحروب والغزوات التي كانت قائمة بين قبائلهم؛ مقدمة لخروجهم من جزيرتهم برسالة تحريرية ليس لشعوب العالم يومئذٍ عهدٌ بها، وجعل منهم أمة تحمل لواء الريادة الفكرية
والتهذيبية والحضارية لأمم الحضارة المعاصرة لهم، فغدوا قادة بعد أن كانوا تابعين، وأساتذة بعد أن كانوا مقلدين، ومعلِّمين بعد أن كانوا أميّين.
لقد عرفت جزيرة العرب قبل الإسلام موجات من هجرة أبنائها إلى خارج حدودها انتجاعًا للرزق والعيش، ولم تكن فيها موجة تحمل رسالة وفكرة وهدفًا تحريريًّا لمن ينتقلون إليهم، ولكن الموجة العربية بعد الإسلام
كانت من طرازٍ فريدٍ أدهش العالم يومئذٍ، ولا يزال يدهش كُتّاب العالم اليوم، موجة أقامت حضارة، وأنشأت دولًا، وأزالت دولًا، ونشرت علمًا، وأسست معاهد وجامعات، وأدخلت نور العلم والثقافة إلى أوروبا في

القرون الوسطى؛ فبددت ظلامهم، وفتحت عقولهم، وجعلتهم تلاميذ يدرسون كتبهم في معاهدهم وجامعاتهم أكثر من ستة قرون.
وكان خروج العرب في هذه الموجة مقرونًا بالاستعلاء الخلقي والفكري على من حاربوهم من الفرس والروم؛ مما كان له عظيم الأثر في انتصاراتهم وفتوحاتهم.
وكان من أثر هذه الموجة أيضًا أن امتدت رقعة العالم العربي، فلم يعد العرب هم سكان الجزيرة العربية وحدها، بل ضمت لجزيرتهم إلى الأبد حدود العالم العربي اليوم من بلاد الشام إلى مصر والعراق وأفريقيا وغيرها،
وانتشرت لغتهم كلغة علم وحضارة إلى جميع بلاد العالم المتمدن يومئذٍ، ودخلت كثير من كلماتها وتراكيبها إلى لغاتهم.
هذا بعض آثار القرآن على الحياة العربية واللغة العربية، ولولا القرآن لما بقيت اللغة العربية واحدة يتكلم بها جميع أبناء البلاد العربية، وهذا هو سرّ خلود اللغة العربية، لا كما يذيع الشعوبيون من أعداء الإسلام من أن
القرآن جمَّد اللغة العربية وحال دون تطورها!

نماذج رائعة من أثر القرآن:
ونكتفي أن نورد هنا بعض النماذج الرائعة التي أوجدها القرآن في العرب، وقد كانت قبله بعكس ما خلدت فيه في التاريخ:
فهذا عمر بن الخطاب كان في الجاهلية فتى لاهيًا كفتيان قريش، فإذا هو بعد الإسلام محرِّرُ العالم من أكبر دولتين باغيتين، ويصبح مديرًا لممالكهما بأحسن وأفضل مما كانت تدار به في عهودهما.

وهذا خالد بن الوليد لم يكن في الجاهلية إلا فتى شجاعًا يحسن الحرب في غزو قبيلته على قبيلة عربية أخرى، فإذا هو بعد الإسلام قائد جيوش الموجة العربية الجديدة، يتغلب على قوّاد الدولتين الكبيرتين ويلحق بها أكبر الهزائم؛ مما جعله في التاريخ حقًّا مع الخالدين.

ونتابع هذه النماذج العجيبة المذهلة إلى أن نصل إلى امرأة كانت في صدر شبابها في الجاهلية قد فقدت أخويها، فجزعت وأنشدت القصائد الطوال في رثائها وبكائهما، ومما يحفظه كلُّ تلميذ في مدارسنا اليوم قولها في رثاء أخيها صخر:


يذكّرني طلوع الشمس صخرًا وأذكره لكلّ غروب شمس

ولولا كثرةُ الباكين حولي على إِخوانهم لقتلتُ نفسي
فلا واللهِ لا أنساك حتى أفارقُ مهجتي ويشقّ رَمْسِي
فقد ودعتُ يوم فراقِ صخر أبي حسان لذاتي وأُنْسِي

فيا لهفي عليه ولهف أمي أيصبح في الضريح وفيه يمسي؟

هذا مع أنّ صخرًا وأخاه لم يقتلا في سبيل مبدأ، ولا في سبيل أمة، ولا في الدفاع عن حقّ أو رسالة، وإنما قُتِلَا على عادة الجاهليين في قتل بعضهم لبعض.
فانظر إليها كيف انقلبت من امرأة جزعة هلوعة تلبس الخيش وتزهد في الحياة، وهذا كان شأنها في الجاهلية بعد مصرع أخويها، انظر إليها كيف انقلبت في الإسلام، وهي عجوز نيّفت على الثمانين تعطي أروع الأمثلة

لبسالة المرأة العربية المسلمة وفدائها وتضحياتها.
لقد ذهبت مع الجيش في فتوح العراق ومعها أولادها الأربعة، فلما كانت ليلة القادسية فقالت لهم: يا بني؛ أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله إلا هو إنكم بنو امرأة واحدة، ما خنتُ أباكم، ولا فضحتُ خالكم، ولا هجنتُ حسبكم، ولا غيرتُ نسبكم، وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أنّ الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله تعالى: {يَا أَيّهَا الذِينَ آمَنُوا
اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت على سياقها (وحللت نارًا على أرواقها)، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها (عند احتدام خميسها)؛ تظفروا بالغنم والكرامة في الخلد والمقامة.
فلما بلغها قتلهم قالت: (الحمد الله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته). قالت هذا وهي في سنّ الثمانين وليس لها غير أولادها الذين فقدتهم، ومستحيل أن يبلغ حزن المرأة على

أخويها كحزنها على أولادها الأربعة، ولكن القرآن خلق منها امرأة أخرى تسجل في تاريخ المرأة العربية أمثلة يندر أن تسجل امرأة أخرى مثلها في أيّ أمة من أمم العالم.
***

[1] مجلة حضارة الإسلام، م:8، 1383هـ -1964م، العدد العاشر، ص: 1062-1065.
[2]في الأصل: "يجوز من"، وهي مشكلة، وقد أثبتنا ما رأيناه أقرب للمعنى بحسب السياق.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 13-03-2025, 10:27 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان



فوائد وهدايات من محاضرة ( الوصايا العشر المحكمات )*
الشيخ خالد السبت (13)



مقدمة
1- نزلت سورة الأنعام جملة واحدة في مكة .
2- موضوعات السور المكية : تقرير قضية التوحيد والإيمان بالله تعالى ، وانفراد الله بالتشريع، وتقرير الإيمان باليوم الآخر ، وهي القضايا التي يشغب حولها المشركون .

3- جاءت هذه الوصايا العشر في ثنايا هذه السورة ، حينما رد الله عليهم ، وبيّن جهالات هؤلاء في التحريم والتحليل .
4- هذه الوصايا العشر جاءت في ثلاث آيات
5- قيل لها المحكمات ؛ باعتبار أنها أصول يرجع لها غيرها، وهي ام تُنسخ ، ولا يتطرق لها النسخ ، لأن النسخ لا يتطرق للأصول الكبار

6- ذكر أهل العلم أن هذه الوصايا العشر المحكمات هي في شرائع جميع الأنبياء ، ومما اتفق عليه الرسل في شرائعهم
7- جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه " من سره أن يقرأ وصية محمد (رسول الله ﷺ ) التي عليها خاتمه ، فليقرأ هذه الآيات ( قل تعالوا أتلُ ما حرّم عليكم ربكم ) إلى قوله ( لعلكم تتقون )"
الآية الأولى :

﴿قُل تَعالَوا أَتلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيكُم أَلّا تُشرِكوا بِهِ شَيئًا وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا وَلا تَقتُلوا أَولادَكُم مِن إِملاقٍ نَحنُ نَرزُقُكُم وَإِيّاهُم وَلا تَقرَبُوا الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَنَ وَلا تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إِلّا بِالحَقِّ ذلِكُم وَصّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَعقِلونَ﴾ [الأنعام: ١٥١]

8- اشتملت أول آية على خمس وصايا

9- {قل تعالوا } :السورة مكية ، فالخطاب لجميع الناس، ويدخل فيهم المشركون
10- {قل تعالوا }
هذا الأمر موجه للنبي ﷺ باعتبار أنه المبلغ عن ربه ، وهذا دليل على أن الرسول ﷺ عبد لله ، يمتثل أمره ، وينقاد له كل الانقياد ، وليس مشرعا من عند نفسه ، بل يوحى إليه

11- في قوله {تعالوا } عدة معان ٍ:
فهو يدعى به من كان بعيدا ، فلما كان هؤلاء في حال من البعد لأنهم على الإشراك ، كأنهم في ناحية بعيدة عن الهدى
12- يؤخذ منها أن الهداية إنما تأتي لمن أقبل عليها ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) ، أي كان له قلب وقاد ، وألقى السمع ، فهو يقصد الاستماع مع حضور القلب،
أما الذين يعرضون وينأون بأنفسهم فقد أصم الله أسماعهم ، وأعمى أبصارهم ، وجعل على قلوبهم أكنة وأقفالا ، فلا يصل إليها من الهدى شيء
13- أيضا تدل على الارتفاع والعلو ، فمن يأتي للهدى يصعد ويرتفع ، فإذا كان الإنسان متبعا لهوى نفسه والشيطان ، فإنه ينسفل ، لذلك قال الله تعالى ( قد أفلح من زكاها ) فالزكاء فيه معنى النماء ، ( وقد خاب من دساها ) فالدّسّ والتدسية يدل على هبوط وانخفاض وضعة ، وهكذا تفعل الذنوب والآثام والجرائم والشرك تدسّ صاحبها ، فمن أراد أن يرتقي ويعلو ويسمو ، فإن عليه أن يقبل على هذا
الهدى الكامل .
14- {أتلُ } التلاوة هنا بمعنى القراءة ، لأن القارئ يتبع الألفاظ ، وهي في مواضع أخرى تكون بمعنى التلاوة والاتباع { واتلُ ما أوحي إليك من كتاب ربك }
15- لاحظ في هذه الآية ( أتل ما حرم ربكم عليكم ) وفي دعاء إبراهيم عليه السلام ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ) فذكر التلاوة أولا ، لأنها أول درجة ومرحلة وممارسة ، التلاوة التي
يحصل بها البلاغ .

16- الوصية تقال لما يكون من الأمر والنهي المؤكد .
17- (أتل ما حرم ربكم ) ينبغي على الإنسان أن يقبل على كتاب الله فيتلوه ، ويكون له ورد في يومه وليلته لا يفرط فيه

18- ينبغي على الدعاة أن يتلوا على الناس كتاب الله تعالى ويبينوا لهم ما حرم عليهم وما شرع
19- تأمل التعبير بقوله ( ربكم ) ذكر اسم الرب في غاية المناسبة ، لأن من معانيه الذي يتصرف بخلقه ، فيأمر وينهى ويشرع ، ويحلل ويحرم . وهم يقرون بالربوبية ، فكان إلزاما لهم بما وراء ذلك من الانقياد لكونه هو المشرع وحده
،المعبود وحده دون سواه
20- التعبير بقوله ( حرم ربكم عليكم ) قال بعض أهل العلم : لما قُصد به الذين يعبثون بالتحريم والتحليل ، ويشركون به غيره ، جاء في هذا السياق ( حرم ربكم ) ، وفي سورة الإسراء كان المقصود أهل الإيمان فجاء التعبير بقوله ( وقضى ربك ) أي حكم ووصى .

هذه الوصايا العشر في سورة الأنعام كلها من قبيل المنهيات ، إلا الوصية الثانية ( وبالوالدين إحسانا ) والأخيرة ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه )
الوصية الاولى :

21- تأمل بداية الوصايا ( ألا تشركوا به شيئا ) : بدأ بقضية التوحيد لأنها أصل الأصول ، وعليها مدار الفلاح ، وكل ما يذكر بعدها فهو متفرع عنها

22- جاء الحديث عن التوحيد بالنهي عن الشرك ، وهذا يستلزم الأمر بضده وهو توحيد الله تعالى ، بينما جاء الأمر بالتوحيد في وصايا سورة الإسراء صريحا ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه )
23- {ألا تشركوا به شيئا } شيئا : نكرة في سياق النهي ، تدل على العموم ، أي لا تشركوا به شركا قليلا أو كثيرا ، ويدخل فيه كل أنواع الشرك : الأكبر والأصغر والخفي ، وشرك الربوبية والألوهية والأسماء والصفات

24- إذا كان التوحيد من أهم المهمات وأول المطالب وأول دعوة الرسل ، فينبغي أن يكون هو الأول فيما يوجه للناس ، وما يُدعون إليه

الوصية الثانية :
25- {وبالوالدين إحسانا }

لم يقل لا تعقوا الوالدين ، كما في الوصايا ، فجاء بصيغة الأمر لا النهي ، وهذا له دلالة والله أعلم لأنه وضع في موضع الأمر للمبالغة ، وللدلالة على أن ترك الإساءة في شأنهما لا يكفي ، بل لابد من كف الأذى بأنواعه وإن قلّ، مع البر والحفظ وامتثال الأمر
{إحسانا } عبر بالمصدر وأطلقه ، فلم يقل إحسانا بالقول أو الفعل أو المال ، ليشمل كل أنواع الإحسان . فيدل على كمال الإحسان وأنه إحسان عظيم .

26- الأمر بالإحسان للوالدين يستلزم ترك الإساءة لهما ، فصار ذلك بدلالة اللزوم

جاء الأمر بالإحسان للوالدين بعد التوحيد ، وهذا يتكرر في القرآن ، فالله هو الذي أوجدنا من عدم ، والوالدان هما سبب الوجود في هذه الحياة ، وهذا الحق متقرر ثابت وإن كان الأبوان غاية التقصير
27- {وبالوالدين إحسانا } عداه بحرف الباء ، وقد يعدّى بإلى ، والتعدية بالباء أبلغ ، وكأن ذلك الإحسان قد تغلغل في نفسه ، وكان أعمق وألصق ، فلم يكتف أن يوصل الإحسان إليهما
.
الوصية الثالثة :
{ولا تقتلوا أولادكم من إملاق }
28- لما ذكر ﷻ حق الله ثم حق الوالدين ، ذكر حق الأقرب إلى الإنسان وهم أولاده

29- هذا النهي يفيد التحريم ، وجاء بعده فعل مضارع ، فهذا التركيب يفيد العموم ، أي لا يحل قتلهم بحال من الأحوال
30- الأولاد لفظ يشمل الذكور والإناث ، والمعروف أن العرب كانوا يقتلون الإناث
31- ذكر علة القتل { من إملاق } ، وهو الفقر ، يقال :أملق أي افتقر ، كأنه لم يبقَ معه إلا الملقات وهي الصخور والحجارة الملساء التي ليس فيها شيء

32- الله تعالى ذكر العلة وهي الفقر ، والمعروف أن العرب كانوا يقتلون بناتهم خشية العار ، فهل هناك منافاة ؟
الجواب لا ، لأنهم كانوا يقتلون بناتهم خشية أن تفتقر فتضطر بسبب الفقر أن تبيع عرضها ، وتواقع الفاحشة، وهي غيرة جاهلية مذمومة

33- لما كان سبب القتل { من إملاق } أي فقر واقع ، قدم الله ﷻ رزق الآباء { نحن نرزقكم وإياهم } وفي سورة الإسراء لما كان الفقر متوقعا { خشية إملاق } إذا كثر الأولاد ، قدم رزق الأولاد { نحن
نرزقهم وإياكم }
وقد أخذ منه بعض أهل العلم أن الأبناء يكونون سببا للرزق
34- لما كان الخطاب في الآية للجميع ، ويدخل فيه الكفار ، دل ذلك على أن رزق الله لا يخلو منه أحد ، فالكفار تنالهم أرزاق الله عز وجل {وما بكم من نعمة فمن الله }

35- ذكر قتل الأولاد على وجه الخصوص لانه من أشنع الذنوب
36- في {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } ، بمفهوم المخالفة : هل يقال إذا كان قتلهم من غير إملاق فإن ذلك سائغ ؟ الجواب : لا

فهذا من المواضع التي لا يعتبر فيها مفهوم المخالفة ، فإن الآيات إذا نزلت على وفاق واقع معين ، فإن مفهوم المخالفة لا يكون حجة
مثل ذلك { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا } فلا يجوز إكراههن إن كن يردن البغاء
الوصية الرابعة

{ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن }

37- الفواحش جمع فاحشة وهي الذنب العظيم ، وما اشتد قبحه من الذنوب والمعاصي
38- قيل الفواحش : الزنا

ما ظهر منها : الإعلان به ، وما بطن : الإسرار
وقيل
ما ظهر : الخمر ونكاح المحرمات ، وما بطن : الزنا
وقيل

ما ظهر : الخمر وما بطن : الزنا
وقيل عام في الفواحش المعلنة وما كان سرا
وقيل : ما ظهر من أفعال الجوارح ، وما بطن : من أفعال القلوب

وقيل : ما ظهر : البغاء ، وما بطن : اتخاذ الخلان
39- {ولا تقربوا } النهي للتحريم ، وهذا التركيب مع لا الناهية يفيد العموم ، والعموم يتوجه لأربعة أمور : عموم الأفراد، وعموم الأحوال ، وعموم الأمكنة ، وعموم الأزمنة
40- {ولا تقربوا } لم يقل : لا تأتوا أو تمارسوا ، فالنهي عن القربان يدل على المباعدة ، فهو نهي عن كل ذريعة توصل إليه
فما لا يتم الحرام إلا به فهو حرام وتركه واجب
41- قوله { ما ظهر منها } قد يحترز الإنسان من مقارفة الفواحش الظاهرة ، إما خوفا من الناس أو حياء منهم ، أو من أجل سمعة الأسرة والعائلة، أو خوفا على منصب ، ونحو ذلك ، لكنه يفعله سرا ، فهنا تربية إيمانية عميقة

42- {وما بطن } فيه دعوة لتطهير الباطن من كل الآفات ، كالرياء والسمعة ، وحب الظهور والشهرة ، والتوكل على غير الله ، وسوء الظن بالله
كل الأشياء المذكورة في الآية هي من الموبقات
الوصية الخامسة :

{ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق }
43- هذا أيضا نهي يدل على التحريم ، والتركيب يدل على العموم ، فلا يحل قتل نفس أي نفس ، على أي حال ، في أي زمان ، وأي مكان ، إلا ما استثناه الله ﷻ
قتل النفس داخل في عموم الفواحش ، فهو من الذنوب العظام ، وإنما خص لشناعته وشدته

44- {إلا بالحق } فلا يحل دم امرئ مسلم إلا بثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة

45- ملاحظة : المنهيات التي تميل لها النفس وتدخل فيها الأهواء والشهوات ، يأتي النهي عنها بتعبير { ولا تقربوا }
أما غيرها فالنهي فيه مباشرة { ولا تقتلوا }

46- {ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون } أي يكون سببا للعقل ، فمن خالف ذلك فهو سفيه
47- قاعدة : الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه ، فدل ذلك على أن من راعى حدود الله عز وجل ، فهذا أتم وأكمل في عقله ، وبحسب عقل العبد يكون قيامه بأمر الله عز وجل ومراعاة حدوده

48- كلمة (لعل) في القرآن هي للتعليل ، إلا في موضع واحد { وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون } أي كأنكم تخلدون
الآية الثانية

﴿وَلا تَقرَبوا مالَ اليَتيمِ إِلّا بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ حَتّى يَبلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوفُوا الكَيلَ وَالميزانَ بِالقِسطِ لا نُكَلِّفُ نَفسًا إِلّا وُسعَها وَإِذا قُلتُم فَاعدِلوا وَلَو كانَ ذا قُربى وَبِعَهدِ اللَّهِ أَوفوا ذلِكُم وَصّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ﴾
[الأنعام: ١٥٢]
الوصية السادسة

{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن }

49- هذا نهي للتحريم ،، ولا الناهية مع الفعل المضارع تتوجه للعموم : عموم الأفراد والأحوال والأمكنة والأزمنة
50- {ولا تقربوا } جاء النهي بعدم القربان ، لأن ما فيه طمع جاء النهي عن قربانه ، فإذا كان النهي عن مجرد القربان فهو أبلغ ، وهذا يدل على رعاية وعناية الشارع بالضعفاء ، وسعة رحمته ، فلا يكون اليتامى عرضة لذوي النفوس الدنيئة

51- {إلا بالتي هي أحسن } مقال " إلا بالحسن " ليشمل ذلك الناحيتين الدنيوية والشرعية ، فما كان فيه تثمير للمال مع محرم أو شبهة فإنه يترك ويلجأ للحلال
52- في الآية دلالة على عناية الشارع باليتيم ، ومن ثمّ فإنه لا يلي مال اليتيم من كان ضعيفا سواء كان الضعف في العقل والتفكير ، أو كان الضعف في القدرات باعتلاله ومرضه ، أو ضعف في الوازع الديني
الوصية السابعة
{وأوفوا الكيل والميزان بالقسط}
53- الوفاء بمعنى التكميل ، وقد يدل على معنى الزيادة ، وهذا يدل على النهي عن ضده ، وهو النقص

54- المكاييل والموازين هي التي يكون بها قوام حياة الناس ومعايشهم ، فإذا حدث التطفيف فإن ذلك ترتفع معه الثقة في التعاملات ، ويكون سببا لتعريض مصالح الناس للضياع والبخس ، ويؤثر في مروءات الناس

55- {لا نكلف نفسا إلا وسعها}

هذه الشريعة ليس فيها تكليف بما لا يطاق ، فالله دفع عن هذه الأمة الآصار والأغلال ، وهذا يدل على سعة الشريعة ورحمة الله بالخلق ، وأنه كلفهم بما يطيقون ، فينبغي للعبد أن يبادر بالقيام بشرائع الدين ، وألا يستثقل ذلك ، فقد كلفه الله أمورا تدخل في وسعه ، وما كان خارجا عن وسعه فهو معفوّ عنه
الوصية الثامنة

{وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى }
56- هذا الأمر للوجوب ، وليس من التفضل والإحسان للناس
57- إذا ذكر الله العدل في الأقوال ، كان العدل في الأفعال والمزاولات من باب أولى

58- {ولو كان ذا قربى } لو يقال عنها وصليّة ، تفيد المبالغة في الحال التي من شأنها أن يظن السامع عدم شمول الحكم إياها ، لاختصاصها من بين الأحوال
الوصية التاسعة

{وبعهد الله أوفوا }

59- أي بوصية الله التي أوصاكم بها ، وهي أن يطيعوه فيما أمرهم به ونهاهم عنه ، وأن يعملوا بكتابه ،، وسنة رسوله
60- هذا الوفاء بالعهد يشمل جميع ما عهده الله لعباده ، ويدخل فيه ما يقع بين الناس من عهود فهم مأمورون بحفظها ،وكذلك ما أوجبه الإنسان على نفسه من النذور
الآية الثالثة

﴿وَأَنَّ هذا صِراطي مُستَقيمًا فَاتَّبِعوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبيلِهِ ذلِكُم وَصّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقونَ﴾
[الأنعام: ١٥٣]
الوصية العاشرة

61- صفة المستقيم للصراط هي صفة كاشفة وليست مقيدة ، لأن الصراط في اللغة لا يقال إلا لما كان مستقيما
62- أضاف الله ﷻ الصراط إلى نفسه ( صراطي ) لأنه هو الذي رسمها وشرّعها
المستقيم : هو القويم الذي لا اعوجاج فيه ، وهو دين الإسلام واتباع الكتاب والسنة

63- { وأن هذا صراطي } فهو صراط واحد ، فالطريق الموصل لله واحد ، وهي التي شرعها ، فلا يجوز للإنسان أن يبتدع لنفسه طريقا يعبد الله بها ، أما السبل فجاءت مجموعة
64- {فاتبعوه} هذا الأمر للوجوب ، فلا نجاة لهم بغيره

65- {ولا تتبعوا السبل } هذا النهي للتحريم ، فيدخل فيه الأديان والملل غير الإسلام

66- {فتفرق بكم } التعبير بالفاء يدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها ، وعلى التعقيب المباشر ، وعلى التعليل ، فمن شأن اتباع هذه السبل أن تؤدي بمتبعها إلى التفرق عن سبيل الله ، والنأي عنه والانحراف والضلال
67- {لعلكم تتقون } أي من أجل أن تتقوا ، وإذا فسرت بالترجي فيكون ذلك بمعنى " من فعل ذلك وبذل جهدا لعله يكون من المتقين " ، فكيف لمن لم يرفع به رأسا أن يرجو أن يكون متقيا

ما سبب ختم الوصايا العشر المحكمات في سورة الأنعام بقوله { لعلكم تعقلون } ( لعلكم تذكرون ) { لعلكم تتقون } ؟
68- {لعلكم تتقون } علل بعض أهل العلم هذا الختم لأن الحديث عن الصراط المستقيم ، فيشمل الشريعة كاملة ( الأوامر والنواهي ) ، فإذا اتبعها السالك صار متقيا
69- وقيل :

الآية الأولى اشتملت على أمور عظيمة ، والوصية فيها أبلغ من غيرها ، فختم بأشرف ما في الإنسان وهو عقله { لعلكم تعقلون } ، والآية الثانية اشتملت على أربع وصايا يقبح ارتكابها ، والوصية بها تجري مجرى الوعظ والزجر ، فختمها بـ {لعلكم تذكرون } ، والآية الثالثة عن الصراط المستقيم واتباعه وترك ما يخالفه ، فختمت بالتقوى التي هي ملاك العمل وخير الزاد
70- وقيل : الآية الأولى اشتملت على خمس أمور ظاهرة يدركها العقل ، ويدرك قبحها ، ويدل عليها النقل ، فختمت بقوله ( لعلكم تعقلون ) ، أما القضايا الأربعة في الآية الثانية فهي قضايا غامضة ، لا
بد لها من الاجتهاد والفكر ، حتى يقف المرء على موضع الاعتدال فيها ، فهي تؤثر في الأهواء والشهوات والغرائز ، وهذه تعمي وتصمّ ، فاتبعت بترجي التذكر ، لأن من تذكر أبصر ، فعقل وامتنع
ولما كانت هذه الوصايا العشر مما اتفقت عليه الشرائع ، ولم تنسخ في ملة من الملل ، وأن من أخذ بها كان سالكا للصراط المستقيم ، عقّب ذلك بقوله ( لعلكم تتقون )
71- وأسهل من ذلك وأوضح أن يكون ذلك على سبيل التدرج ، فالإنسان يعقل أولا عن الله ، ثم يحصل له التذكر ، فإذا حصل له التذكر اتقى الله في نفسه ، فجاءت متدرجة حسب الوقوع

72- كل الآيات ختمت بتكرار {ذلكم وصاكم به } تأكيدا للوصية ، وتجديدا للعهد
======================
*منقول من موقع مثانى القرآن



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 14-03-2025, 11:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان



من مظاهر الرحمة في تشريع الصيام
الكاتب : محمد الخولي
(14)




إنّ المتأمل في كتاب الله وما فيه من الأحكام يرى كثيرًا من مظاهر الرحمة في تشريعها، وهذه المقالة تسلِّط الضوء على عبادة الصيام ومظاهر الرحمة في تشريعها من خلال آيات الصيام في سورة البقرة.
تمهيد:

إنّ المتأمل في كتاب الله -عز وجل- وما فيه من الأحكام والعبادات يشهد صورًا من الرحمة في تشريع هذه الأحكام والعبادات؛ فتارة بالتدريج في فرضيتها، وتارة في التيسير في كيفيتها، وتارة برفع الحرج عن أصحاب الأعذار إلى غير ذلك من الصور؛ بحيث تكون متوافقة مع الفطرة البشرية وفي وُسع المكلَّف وطاقته، والآيات الدالّة على ذلك كثيرة، ومنها قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة: 286]، وقوله تعالى:
{وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[المؤمنون: 62].
يقول الشيخ السعدي -رحمه الله-: «أخبر تعالى أنه لا يكلِّف {نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} أي: بقدر ما تسَعُه، ويفضل من قوّتها عنه، ليس مما يستوعب قوّتها، رحمةً منه وحكمة، لتيسير طريق الوصول إليه، ولتعمر جادّة
السالكين في كلِّ وقت إليه»[1].
وتُعدُّ عبادة الصيام من أحبّ الأعمال إلى الله تعالى وأعظمها أجرًا عنده، وقد امتدح سبحانه الصائمين في غير آية من كتابه العزيز ووعدهم بالمغفرة والأجر العظيم، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ
وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا

وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[الأحزاب: 35].
وورَد في السُّنة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كلُّ عملِ ابنِ آدم له إلّا الصومَ، فإنه لي وأنا أَجزِي به، ولَـخُلُوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك»[2].
يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «اللهُ اختص لنفسه الصوم من بين سائر الأعمال، وذلك لشرفه عنده، ومحبته له، وظهور الإخلاص له سبحانه فيه؛ لأنه سرٌّ بين العبد وربه لا يطّلع عليه إلّا الله...، وأضاف
الجزاء إلى نفسه الكريمة؛ لأن الأعمال الصالحة يضاعف أجرها بالعدد، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، أمّا الصوم فإنّ الله أضاف الجزاء عليه إلى نفسه من غير اعتبار عدد، وهو سبحانه أكرم الأكرمين وأجود الأجودين، والعطية بقدر معطيها؛ فيكون أجر الصائم عظيمًا كثيرًا بلا حساب»[3].
والصيام من العبادات البدنية التي تبدو في ظاهرها شاقّة وثقيلة على النفس؛ لأنها تدعو إلى التغلّب على شهواتها والتحكم في رغائبها وإخضاعها للأمر والنهي، ولكن المتأمّل في حقيقة هذه العبادة والناظر إليها بعين الاعتبار يلمح مظاهر الرحمة التي تغمرها من كلِّ جوانبها.

ويحسن بنا أيها القارئ الكريم ونحن نستظلّ بظلال شهر رمضان المبارك، وتغمرنا سحائب طاعاته، ومَعين قرباته، وفيض رحماته أن نتوقّف مع بعض هذه المظاهر من خلال آيات الصيام التي وردت في سورة البقرة.

إن أول مظاهر الرحمة في تشريع الصيام: إخبار الله سبحانه بأنه كتَب الصيام على هذه الأمة كما كتَبه على الذين من قبلها، وهذا من باب التهوين والتسرية على هذه الأمة، لا سيما وقد جاء هذا الإخبار مسبوقًا
بنداء الإيمان، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}[البقرة: 183]؛ وذلك لجذب القلوب إليه سبحانه، ولإشعار هذه الأمة أن عبادة الصيام ليست من العبادات الشاقة التي اختصَّت بها.
يقول الشيخ السعدي -رحمه الله-: «يخبر تعالى بما مَنَّ به على عباده، بأنه فرض عليهم الصيام كما فرضه على الأمم السابقة؛ لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كلِّ زمان، وفيه تنشيط لهذه الأمة، بأنه ينبغي لكم أن تُنَافِسوا غيركم في تكميل الأعمال، والمسارعة إلى صالح الخصال، وأنه ليس من الأمور الثقيلة التي اختصَّيتم بها»[4].

ويمكن الإشارة هنا إلى أنّ تشريع الصيام قد مرَّ بمراحل متدرّجة، بداية بالأمر بصيام عاشوراء وثلاثة أيام من كلّ شهر، ثم الأمر بصيام رمضان لمن شاء من العشاء إلى المغرب من اليوم التالي، ثم فُرض صيام رمضان في

المرحلة الثالثة على الكيفية التي نعرفها من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وإن كان هذا التدرّج لا نشعر بأثره في الوقت الحالي لارتباطه بزمان التشريع إلّا أنه يعكس لنا صورة من صور رحمته سبحانه بعباده، حيث اهتمَّ بتهيئة النفوس لاستقبال هذه العبادة حتى إذا ذاقت حلاوتها واطمأنَّت بها أكمل سبحانه جوانب تشريعها.
ومن مظاهر الرحمة كذلك في تشريع الصيام: أن الله سبحانه ذكر لعباده الحكمة أو الغاية من فرضيته، حيث بيَّن سبحانه ما يعود على المكلَّف من النفع من وراء هذه العبادة، ألَا وهو تحقيق التقوى التي هي مفتاح
كلِّ خير ومطلب كلّ مؤمن وسبب الرفعة والنجاة في الدنيا والآخرة؛ وذلك ليكون العبد أكثر إقبالًا على هذه العبادة وأكثر حرصًا على تحقيق مقاصدها، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 183].
يقول الشيخ السعدي -رحمه الله-: «ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فإنّ الصيام من أكبر أسباب التقوى؛ لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه، فممّا اشتمل عليه من التقوى: أنّ الصائم يترك ما حرّم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها، التي تميل إليها نفسه، متقربًا بذلك إلى الله، راجيًا بتركها ثوابه، فهذا من التقوى، ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى
نفسه، مع قدرته عليه، لعلمه باطلاع الله عليه، ومنها: أن الصيام يضيِّق مجاري الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فبالصيام يضعف نفوذه، وتقلّ منه المعاصي، ومنها: أن الصائم في الغالب تكثر طاعته،

والطاعات من خصال التقوى، ومنها: أن الغنيّ إذا ذاق أَلَم الجوع، أوجب له ذلك مواساة الفقراء المعدمين، وهذا من خصال التقوى»[5].
ومن مظاهر الرحمة في تشريع الصيام كذلك: أن الله سبحانه أمَر عباده بصيام أيام معدودات ولم يأمرهم بصيام الدهر كلّه أو يأمرهم بصيام نصف الدهر، فقال تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}[البقرة: 184]، وذلك لعلمه سبحانه بضعفهم عن تحمّل صيام الدهر أو نصف الدهر، فرفع عنهم المشقة وكلَّفهم بما يطيقون برحمته وفضله.

يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: «ثم بيَّن مقدار الصوم، وأنه ليس في كلّ يوم، لئلّا يشقّ على النفوس فتضعف عن حمله وأدائه»[6].
ومن رحمته سبحانه أنه لم يحجر على أصحاب الهمم العالية في منعهم عن الصيام بعد رمضان إنما فتح لهم باب التطوّع طوال العام لمن يريد الزيادة ويعلم من نفسه القدرة والاستطاعة.

ومن مظاهر الرحمة في تشريع الصيام أيضًا: أن الله سبحانه رفع الحرج عن المريض والمسافر بأن أباح لهما ترك الصيام خلال مدة المرض أو السفر رفعًا للمشقة عنهما، وأمَرهما بقضاء هذه الأيام في أيام أُخر لتتم عدّة

الصيام ويحصِّل العبد مقاصده، فقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة: 184]، وقال في الآية التي تليها: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة: 185].
ويبيّن سبحانه الحكمة من ذلك فيقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[البقرة: 185]، فهو سبحانه يريد بعباده اليُسر ولا يريد بهم العُسر؛
لذلك كان من الواجب على عباده أن يكبِّروه ويعظِّموه ويشكروه على هذه الرحمة والتيسير.
وأمّا كبار السنّ وأصحاب الأمراض المزمنة التي يصعب معها الصيام، فقد جعل الله لهم فدية عن صيامهم أن يطعموا عن كلّ يوم مسكينًا، فقال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}[البقرة: 184]،
وذلك جبرًا لخواطرهم ورفعًا للحرج والمشقّة عنهم برحمته وفضله سبحانه.
ومن مظاهر الرحمة في تشريع الصيام أيضًا: أنه سبحانه أحلّ لعباده ليلة الصيام ما كان محرّمًا عليهم وقت الصيام من الطعام والشراب والجماع، وذلك من غروب الشمس إلى طلوع الفجر بخلاف ما كان عليه الأمر
في أول تشريع الصيام، فقال سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ

وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}[البقرة: 187].
يقول الإمام ابن كثير -رحمه الله-: «هذه رخصةٌ من الله تعالى للمسلمين، ورفعٌ لِما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحلّ له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء، أو ينام قبل ذلك، فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة»[7].

فوجد الصحابة -رضوان الله عليهم- بعض المشقة في ذلك فشَكَوا الأمر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فرفع الله عنهم وعن الأمة مِن بعدهم هذه المشقة، وأحلّ لعباده ليلة الصيام ما كان محرّمًا عليهم، من غروب الشمس إلى طلوع الفجر برحمته وفضله سبحانه.

فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال في قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} قال: «كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الآية إذا صلَّوا العشاء الآخرة حرم

عليهم الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا، وإن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء، وأن صرمة بن قيس الأنصاري غلبته عينه بعد صلاة المغرب، فنام ولم يشبع من الطعام، ولم يستيقظ حتى صلَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العشاء، فقام فأكل وشرب، فلما أصبح أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بذلك، فأنزل الله عند ذلك: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} يعني بالرفث: مجامعة النساء، {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} يعني: تجامعون النساء، وتأكلون وتشربون بعد العشاء، {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} يعني: جامعوهنّ، {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} يعني: الولد، {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فكان ذلك عفوًا من الله ورحمة»[8].
خاتمة:

وبعدُ أيها القارئ الكريم، فمن خلال ما مرّ معنا وما توقفنا معه من بعض مظاهر الرحمة في تشريع الصيام، ورأينا كيف أن الله سبحانه لا يكلِّف العبد إلّا بما فيه الرحمة واليسر ويرفع عنهم كلّ ما فيه مشقة وعسر، ينبغي أن يظهر أثر هذه الوقفات على نفس المؤمن؛ وذلك بأن يشعر بمنّة الله سبحانه وفضله، ويجتهد في شكره على تشريع هذه العبادة، وكذلك الإقبال عليها والقيام بها على الوجه الأمثل وعدم استثقالها، وكذلك

ينبغي أن تنعكس آثار هذه الرحمة على نفس الصائم فتظهر في سلوكه وأخلاقه من خلال إطعامه للفقراء ومواساته للمساكين، كما كان هدي النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الطيبين الطاهرين، وصلِّ اللهم وسلِّم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] تيسير الكريم الرحمن، (ص554).
[2] رواه البخاري.

[3] مجالس شهر رمضان، (ص15، 16).
[4] تيسير الكريم الرحمن، (ص86).

[5] تيسير الكريم الرحمن، (ص86).
[6] تفسير ابن كثير، (1/ 497).

[7] تفسير ابن كثير، (1/ 510).
[8] تفسير ابن كثير، (1/ 511).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 17-03-2025, 10:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان



تأملات في سورة العصر *
- تغريدات د.محمد الربيعة
(17)




[١] صدق قول الشافعي فيها
( لو لم ينزل الله على عباده إلا هذه السورة لكفتهم )

[٢] {والعصر}
هو عصر الإنسان ودهره الذي يعيشه ، عظمه الله فأقسم به، فهل نعظمه ونستثمره بما ينفعنا

فياحسرة على أعمار تذهب سدى
[٣] { والعصر}

أول مرحلة لاستثمار حياتك معرفة قيمة الوقت الذي تعيشه وأنه زمن لن يعود ، وسيكون لك أو عليك
[٤]

سورة تعداد آياتها ثلاث آيات لكنها والله منهج للحياة

[٥] { والعصر}
ما السر في القسم بالعصر دون الدهر ؟
لأن العصر دال على قيمة الزمن وأهميته

[٦] {والعصر}
العصر الحقيقي هو عصر الإسلام والإيمان لا عصر الحضارة المادية والثورة التقنية والإعلامية

[٧] {والعصر}على معنى أن العصر وقت العصر الذي هو آخر النهار فيه دلالة على سرعة انقضاء الزمن وذهابه ، بعثا للنفوس على استغلاله
[٨] المقصد العام للسورة هو بيان حقيقة الخسارة والربح للإنسان وأسبابها

[٩] {إن الإنسان لفي خسر }

ابتدأ الله بذكر خسارة الإنسان قبل ذكر صفات المؤمنين لينبه على عظم الأمر وليحذر كل ذي لب من الخسارة

[١٠] { إن الإنسان لفي خسر}
مهما كان عليه الإنسان من تطور مادي وتقدم حضاري فهو خاسر إلا من آمن وعمل صالحا

[١١] { إن الإنسان لفي خسر}
تأمل قوله {لفي خسر} دون لخاسر

للدلالة على أنه في حال متجددة في الخسران كلما بعد عن أمر الله

[١٢] { إن الإنسان لفي خسر}
تأمل قوله {لفي خسر} مبالغة في انغماسه في الخسارة لأن في للظرفية المفيدة التمكن من الشيء
[١٤] { إن الإنسان لفي خسر}

تنكير {خسر} يفيد العموم والمبالغة في حيازته للخسارة
[١٥] {إن الإنسان لفي خسر}
تضمنت الآية مؤكدات عدة:
إن

اللام

في
تنكير خسر
مجيء الآية جوابا للقسم

مبالغة وتعظيما للأمر
[١٦] { وتواصوا بالصبر }

ختم الأعمال بالصبر لكونه جامعا لما قبله ، وجميع ماسبق محتاج إليه ، ولذلك كان ( الصبر شطر الإيمان)

[١٧] { وتواصوا بالصبر} يشمل التواصي بالصبر على
- فعل الطاعات
- ترك المحرمات

- الدعوة إلى ذلك
- الأذى في ذلك
[١٨] { وتواصوا بالصبر }
ختم الأعمال بالصبر لكونه جامعا لما قبله ، وجميع ماسبق محتاج إليه ، ولذلك كان ( الصبر شطر الإيمان)

[١٩] وتواصوا بالصبر}

كرر فعل التواصي تأكيدا ، وبيانا لعظم أمر الصبر وحاجته لذلك
[٢٠] {وتواصوا بالحق] يشمل
- تعليم التوحيد والشريعة

- الدعوة إلى الله
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

ما أعظمها من كلمة

[٢١] { وتواصوا [بالحق] } ولم يقل بالإيمان والعمل
لأن الحق ما جاء عن الله ورسوله فقط .
كما يفيد أيضا الثبات على الحق .

[٢٢] { وتواصوا بالحق }
التواصي على الشيء يدل على مشقته ولذلك (حفت الجنة بالمكاره)
والمؤمن ضعيف بنفسه قوي بإخوانه
[٢٣] تأمل صيغة الجمع { آمنوا وعلموا الصالحات وتواصوا} بعد قوله {إن الإنسان}دون الناس

مما يؤكد فضيلة الاجتماع وأثره على المسلم

[٢٤] اشتملت الآية الثالثة على صفات الإمامة في الدين كما قال ابن القيم .
- الإيمان والعلم
- العمل

- الدعوة
- الصبر

[٢٥] { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات}

تلازم الإيمان والعمل
[٢٦] تأمل مناسبة مجيء السورة بين سورتي التكاثر والهمزة تجد مناسبة بديعة خلاصتها أن
الانشغال المال هو سبب الخسارة الحقيقية

[٢٧] {إن الإنسان لفي خسر}
{ قل هل ننبؤكم بالأخسرين أعمالا . الذين ظل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}
[٢٨] {إن الإنسان لفي خسر}
الإنشغال بالدنيا عن الآخرة...خسارة

[٢٩] {إن الإنسان لفي خسر}

الخسارة ليست بالكفر فقط بل بالغفلة عن طاعة الله والتفريط فيها
{...ياحسرتا على مافرطت في جنب الله}
[٣٠] {إن الإنسان لفي خسر}

الخسارة الحقيقية خسارة الدين
فيالخسارة أصحاب الأموال الذين صرفتهم أموالهم عن طاعة الله

[٣١] تعتبر السورة مقياسا لكمال الدين ونقصانه
فانظر إلى حالك في

-الإيمان
-العمل

-الدعوة
-الصبر

وبقدر نقصانك فيها فإنك في خسر
==============================

* منقول من موقع مثانى القرآن





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 18-03-2025, 10:42 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان



التأثّر بالقرآن الكريم؛ وسائله وثمراته
الكاتب : محمد الخولي
(18)



أخبر الله -عز وجل- عن أثر القرآن الكريم في نفوس عباده المؤمنين، وتأتي هذه المقالة لتسلِّط ضوءًا على أهم الوسائل التي يحقِّق بها المؤمن التأثّر بآيات الله البينات، كما تعرِّف بالعوائق التي تحول دون هذا التأثّر، وتكشف طرفًا من الثمرات التي يحصّلها مَنْ تأثّر بالقرآن الكريم.
إنّ إعجاز القرآن الكريم لم يتوقف عند روعة الألفاظ وجمال المعاني، بل هناك وجه آخر من أوجه الإعجاز ربما يغفل عنه كثيرٌ من الناس، ألَا وهو الإعجاز التأثيري للقرآن، والمقصود به ذلك الأثر
الظاهر أو الباطن الذي يتركه القرآن على قارئه أو سامعه؛ فتارة تذرف العيون، وتارة توجل القلوب، وتارة تقشعر الأبدان، وغير ذلك من الآثار العملية التي لا يُحدثها في النفس إلّا القرآن، فقد قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[الزمر: 23].
يقول الإمام الخطابي -رحمه الله- وهو مِن أبرز مَن كتَب في إعجاز القرآن: «في إعجاز القرآن وجه آخر ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلّا الشاذّ من آحادهم، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلامًا غير القرآن -منظومًا ولا منثورًا- إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذّة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذَت حظّها منه عادت مرتاعة قد عراها الوجيب والقلَق، وتغشّاها الخوف والفرَق، تقشعر منه الجلود وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس وبين مضمراتها
وعقائدها الراسخة فيها»[1].

ولقد لفَت اللهُ -سبحانه- الأنظارَ إلى هذه القوة التأثيرية للقرآن، فقال سبحانه: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الحشر: 21].
يقول ابن كثير -رحمه الله-: «يقول تعالى معظمًا لأمر القرآن، ومبيّنًا علوّ قدره، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب، وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد والوعيد الأكيد: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي: فإنْ كان الجبل في غلظته وقساوته، لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه، لخشع وتصدّع من خوف الله عز وجل، فكيف يليق بكم أيها البشر ألّا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه؟!»[2].

ولقد عاب الله على مَن لا يتأثر بالذِّكر وأعظم الذِّكر القرآن، فقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الزمر: 22]، وذكر سبحانه أن ذلك من أوصاف المشركين والمنافقين، فقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا}[التوبة: 124]، وقال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}[محمد: 16].

صور من التأثّر بالقرآن:
ولقد ضرب لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى في التأثّر بالقرآن، فكان إذا سمعه رَقّ قلبه وذرفت عينه؛ لعلمِه بعظمة القرآن، فعن ابن مسعودٍ -رضي الله عنه- قال: (قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اقْرَأْ علَيَّ القُرآنَ»، قلتُ: يا رسول الله، أقرأُ عليك، وعليك أُنزِل؟! قال: «إِني أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي»، فقرأتُ عليه سورة النساء، حتى جئتُ إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}[النساء: 40]، قال: «حَسْبُكَ الآن»، فالتفتُّ إليه، فإذا عيناه تذرفان)[3].

ولقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- أيضًا يتأثرون عند سماع القرآن تأثرًا عظيمًا، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى المرض وملازمة الفراش عندما استمع إلى بعض الآيات التي تتحدّث عن يوم القيامة، فعن جعفر بن زيد أنّ عمر بن الخطاب خرج يعسّ بالمدينة ليلةً ومعه غلام له وعبد الرحمن بن عوف، فمرّ بدار رجل من المسلمين فوافقه وهو قائم يصلي، فوقف يسمع لقراءته، فقرأ: {وَالطُّورِ} حتى بلغ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 1- 8]، فقال عمر: قسَم ورب الكعبة حقّ، فاستسند إلى حائط فمكث مليًّا، فقال له عبد الرحمن: امضِ لحاجتك،
فقال: ما أنا بفاعل الليلة إذ سمعتُ ما سمعتُ، قال: فرجع إلى منزله فمرض شهرًا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه[4].
لماذا لا نتأثّر بالقرآن؟
بعد هذا العرض السابق، يدور هذا السؤال في خلد كثيرٍ منّا، لماذا لا نتأثر بالقرآن؟ وما العوائق التي تحجبنا عن التأثر بالقرآن كما تأثّر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه؟ ويمكن أن نُجمِل بعض الأسباب التي تحُول بيننا وبين التأثر بالقرآن، فيما يأتي:

أولًا: طول الهجر للقرآن:
فإن طول الهجر للقرآن يولّد فجوة كبيرة تحُول بين القلب والتأثر به، ويعدُّ من أعظم الذنوب التي يرتكبها المسلم؛ لذلك يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة ويشتكي لربه هذا الهجران،

فقد قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}[الفرقان: 30].
ثانيًا: مرض القلب وقسوته:
فالقلب هو المخاطَب الأول بالقرآن، ولن ينتفع بآيات القرآن ومواعظه وعِبَرِه إلّا القلب السليم، أمّا القلوب التي أمرضتها الذنوب واستولت عليها الشهوات المحرّمة فلن تتأثر بالقرآن، فقد قال
تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}[ق: 37].
ثالثًا: الغفلة والانشغال بالمُلهيات:
فالإنسان الذي استولت عليه الدنيا وزخارفها لم ولن يشعر بأثر القرآن، ولن يتذوق حلاوته، بل سيتقلّب حاله بين الغفلة والإعراض: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 2، 3].

رابعًا: عدم الاهتمام بمعرفة التفسير:
فعدم الاهتمام بمعرفة معاني القرآن وتفسيره يحجب القلب عن الـتأثّر به، فكيف يتأثّر القلب بما لا يفهمه؛ لذلك فقد قال الإمام الطبري صاحب التفسير: «إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذُّ بقراءته؟!»[5].
كيف نتأثر بالقرآن؟
وبعدُ أيها القارئ الكريم، بعدما تعرَّفنا على بعض الأسباب التي تحُول بيننا وبين التأثر بالقرآن، أسوق بين يديك بعض الوسائل التي تُعِين على التأثر بالقرآن:

أولًا: تجديد العهد بالقرآن:
إنّ تجديد العهد بالقرآن والعودة إليه والمداومة على قراءته هي أولى الوسائل وأعظمها أثرًا؛ لذلك على العبد أن يجاهد نفسه على ذلك وأن يصبر على مشقة ذلك؛ لأن هذه المشقة -إنْ وُجدت- هي نتيجة بُعد العهد بكتاب الله، لذلك عليه أن يستمر ولا ييأس، وليكن على يقين أنّ مَن داوَم على قرع الباب يوشك أن يُفتَح له، وأنَّ دوامَ نزول قطر الماء على الحجر يُحدِث فيه أثرًا لا محالة، فما بالك بأثر كلام الله على القلوب إذا داوم العبد عليه؟

ثانيًا: حضور القلب عند التعامل مع القرآن:
ينبغي للمسلم أن يجتهد في استحضار قلبه عند التعامل مع القرآن وإفراغه من الصوارف التي تحجبه عن التأثر بالقرآن، فقد قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}[ق: 37]، ومما يساعد على ذلك استشعار أن الله -سبحانه- هو المتحدِّث بهذا القرآن، يقول ابن القيم -رحمه الله-: «إذا أردتَ الانتفاع بالقرآن، فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألقِ سمعَكَ، واحضر حضور مَن يخاطبه به مَن تكلَّم به -سبحانه- منه إليه؛ فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله»[6].

ثالثًا: الجهر بتلاوة القرآن:
فالجهر بتلاوة القرآن يساعد على يقظة القلب ومِن ثمَّ التأثر بالقرآن، بخلاف ما لو قرأ المسلم سرًّا، فإنه يكون أقرب لشرود الذهن وانصراف القلب؛ ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحب أن يجهر بالقرآن، فعندما سُئل ابن عباس -رضى الله عنهما- عن قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالليل قال: «كان يقرأ في حجرته، فيَسمع قراءتَه مَن كان خارجًا»[7].
رابعًا: استشعار المسلم بأنه مخاطَب بكلّ آية:
فمِن أعظم أسباب التأثر بالقرآن أن يستشعر المسلم بأنه هو المقصود بهذا الخطاب، وأن كلّ أمرٍ أو نهي هو مأمور به، فلقد فطن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهذا الأمر جيدًا،
ومن ذلك ما ورَدَ عن أنس بن مالك، أنه قال: «لمَّا نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ

لَا تَشْعُرُونَ}[الحجرات: 2]، جلس ثابت بن قيس في بيته، وقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فسأل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- سعدَ بن معاذ، فقال: «يا أبا عمرو، ما شأن ثابت؟ أشتكَى؟»، قال سعد: إنه لَجاري، وما علمتُ له بشكوى، قال: فأتاه سعد، فذكر له قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال ثابت: أُنزلت هذه الآية، ولقد علمتم أني مِن أرفعكم صوتًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعدٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «بل هو من أهل الجنة»[8].
خامسًا: الحرص على تدبر آياته ومعرفة معانيه:

فتدبُّر آيات القرآن ومعرفة ما غمض من معانيه بالرجوع إلى كتب التفسير؛ من أعظم أسباب التأثر به والشعور بحلاوته في القلوب؛ لأن ذلك هو الأصل الذي أنزل الله القرآن لأجله، فقد قال
تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[ص: 29].
ولقد كانت هذه طريقة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضوان الله عليهم-، يقول ابن مسعود: «كان الرجل منّا إذا تعلم عشر آيات لم يتجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن»[9].

سادسًا: استخراج المواعظ والعِبر من قصص القرآن وأمثاله:
فالقرآن يحوي الكثير من القصص والأمثال، والعاقل مَن تدبَّرها وتأمَّلها واستخرج ما فيها من العبر وتأثَّر بما فيها من المواعظ؛ لأن هذا هو الهدف الذي من أجله ذَكَر اللهُ هذه القصص والأمثال، فقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[يوسف: 111]، كما قال تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[إبراهيم: 25]، وقال أيضًا: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الحشر: 21].

يقول ابن قدامة -رحمه الله-: «ينبغي لتالي القرآن أن يعلم أنه مقصود بخطاب القرآن ووعيده، وأنّ القصص لم يُرَد بها السَّمَر، بل العِبَر، فليُتنبه لذلك»[10].
سابعًا: عدم المبالغة في الانشغال بالإقامة للحروف:
فبعض المسلمين يُسرِف في الاهتمام بإقامة حروف القرآن ومع ذلك لا يترك مساحة ولو صغيرة للتدبّر والفهم؛ وذلك لأنه غفل عن كون القرآن يتكوّن مِن مَبانٍ ومَعانٍ، والمباني وسيلة للهدف الأعظم وهو فهم المعاني؛ لذلك لا ينبغي أن يكون شغلنا الشاغل إقامة المباني على حساب تدبّر المعاني، فلقد عدَّ ابن قدامة -رحمه الله- ذلك أحد مداخل الشيطان التي تحجب عن فهم القرآن،
فقال -رحمه الله-: «ولْيتخلَّ التالي من موانع الفهم، مثل أن يخيّل الشيطان إليه أنه ما حقّق تلاوة الحرف ولا أخرجه من مخرجه، فيكرره التالي، فيصرف همته عن فهم المعنى»[11].
ثامنًا: الحرص على قيام الليل بالقرآن:
فإنّ قيام الليل من أعظم العبادات وأحبها إلى الله، وأكثرها حضورًا للقلب؛ لذلك إن أراد المسلم التأثر بالقرآن فعليه أن يقوم الليل به، وهذه وصية الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، حيث قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}[المزمل:
1-6].

يقول الإمام ابن كثير: «والمقصود أنّ قيام الليل هو أشد مواطأةً بين القلب واللسان وأجمع على التلاوة، ولهذا قال تعالى: {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}، أي: أجمعُ للخاطر في أداء القراءة وتفهّمها مِن قيام النهار»[12].

ثمرات التأثّر بالقرآن:
وبعد أن وقفنا على أهم الوسائل التي يتحقق بها التأثّر بالقرآن الكريم، فلنعلم أن القارئ للقرآن يجني الكثير من الثمرات بتدبُّره وتأثره بالقرآن، ومن ذلك:
الثمرة الأولى: زيادة الإيمان:
فالعبد المؤمن الذي يحسن التعامل مع القرآن، يزداد إيمانًا وإقبالًا على الله ويمتلئ قلبه توكُّلًا وبِشرًا وسرورًا، فقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال: 2]، وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[التوبة: 124].

الثمرة الثانية: صلاح القلوب:
فالقرآن الكريم أعظم أدوية القلوب أثرًا في إزالة أمراض الشهوات والشبهات، ولِمَ لا وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}[يونس: 57].
يقول الشيخ السعدي -رحمه الله-: «هذا القرآن شفاء لما في الصدور من أمراض الشهَوات الصادّة عن الانقياد للشرع، وأمراض الشبُهات القادحة في العلم اليقيني، فإنّ ما فيه من المواعظ
والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، مما يوجب للعبد الرغبة والرهبة»[13].
الثمرة الثالثة: الإقبال على طاعة الله:
فالإقبال على الطاعات وشحن الهمم للقيام بها من أعظم الآثار العملية التي يحدِثها القرآن، فقد قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ

ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[الزمر: 23].
يقول القرطبي -رحمه الله-: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، قيل: «أي: تلين إلى العمل بكتاب الله والتصديق به»[14].
الثمرة الرابعة: زيادة خشية الله سبحانه:
فإنّ التأثّر بالقرآن وتدبّر ما فيه من الحديث عن عظمة الله -سبحانه- وقدرته من أعظم أسباب زيادة خشيته -سبحانه-، قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}[الحشر: 21]، يقول الإمام ابن عاشور في تفسير هذه الآية: «لو كان المخاطَب بالقرآن جبلًا، وكان الجبل يفهم الخطاب لتأثَّر بخطاب القرآن تأثُّرًا ناشِئًا من خشيةٍ لله، خشيةٍ تُؤَثِّرها
فيه معاني القرآن»[15].
الثمرة الخامسة: تهذيب السلوك والأخلاق:

إنّ انعكاس القرآن على سلوك المسلم من أعظم الثمرات المرجوّة، فبعد فهم القرآن وتدبره يأتي التخلُّق بأخلاقه والاهتداء بهديه كما كان حال النبي -صلى الله عليه وسلم-، فالسيدة عائشة -رضي الله عنها-: عندما سُئلت عن خُلقه -صلى الله عليه وسلم-، قالت للسائل: ألستَ تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: «خُلق نبيّ الله -صلى الله عليه وسلم- كان القرآن»[16].

ويقول الحسن البصري -رحمه الله-: «والله ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إنّ أحدهم ليقول قرأتُ القرآن كلَّه، ما يُرى له القرآنُ في خُلق ولا عمل»[17].
وختامًا: فقد تبيَّن مما سبق عظيمُ أثر القرآن في النفوس، وأهم الوسائل المعينة على التأثر به، وكذلك ما يجنيه التالي للقرآن ممن تدبره وتأثر به من ثمرات، وأسأل الله -سبحانه- أن يردَّنا إلى كتابه مرَدًّا جميلًا، وأن يعلِّمَنا منه ما جهلنا، وأن يجعله حجة لنا لا علينا، وصلِّ اللهم وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

[1] بيان إعجاز القرآن: (ص70).
[2] تفسير ابن كثير: (8/ 78).
[3] متفق عليه.

[4] تاريخ دمشق لابن عساكر: (44/ 308).
[5] تفسير الطبري: (1/ 10).
[6] الفوائد: (ص3).

[7] شعب الإيمان: (3/ 453).
[8] رواه مسلم (119).
[9] تفسير الطبري: (1/ 80).

[10] مختصر منهاج القاصدين: (ص54).
[11] مختصر منهاج القاصدين: (ص53).
[12] تفسير ابن كثير: (8/ 263).

[13] تفسير السعدي: (367).
[14] تفسير القرطبي: (15/ 249).
[15] التحرير والتنوير: (28/ 116).

[16] رواه مسلم (746).
[17] تفسير ابن كثير: (7/ 64).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 19-03-2025, 10:43 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان



فوائد من كتاب ( مجالس القرآن ) الجزء الأول*
للدكتور فريد الأنصاري
(19)



1- يا حسرة عليك أيها الإنسان!
هذا عمرك الفاني يتناثر كل يوم ،لحظةً فلحظة، كأوراق الخريف المتهاوية على الثرى تَتْرَى!
اُرْقُبْ غروبَ الشمس كل يوم؛ لتدرك كيف أن الأرض تجري بك بسرعة هائلة؛

لتلقيك عن كاهلها بقوة عند محطتك الأخيرة!

فإذا بك بعد حياة صاخبة جزءٌ حقير من ترابها وقمامتها!
وتمضي الأرض في ركضها لا تبالي..

2 - (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ. يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.)(النور:35)
الآية مَثَلٌ ضربه الله جل جلاله للقرآن في قلب العبد المؤمن عندما يتوهج إيمانه، ويَتَّقِدُ وجدانه؛ بما يتدفق عليه من زيت القرآن وهو آياته البينات! فذلك: نورٌ على نور! فالمشكاة: هي صدر المؤمن. والمصباح هو: القرآن. والزجاجة هي: قلب المؤمن. فكلما اشتغل العبد بِوَارِدِ القرآن تَوَهَّجَ الإيمان بقلبه واشتعل؛ فتدفق منه النور! فهو لذلك كالكوكب الدُّرِّيّ النابضِ بالحسن والجمال في علياء السماء! فإلى نحو هذا المعنى ذهب الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله في تفسير الآية؛ نقلا عن عدد من سلف الصحابة والتابعين، منهم أُبَيّ بن كعب، وابن عباس رضي الله عنهما.

3- تَتَبَّعْ - لبناء النفس وتربيتها - منهج القرآن كما عرضه القرآن!

وهو – على الإجمال - ثلاث خطوات قابلة للتفصيل، وهي: التلاوة بمنهج التلقي،



والتعلم والتعليم بمنهج التدارس،
ثم التزكية بمنهج التَّدَبُّر.

فذلك ما ذكره الله - سبحانه وتعالى – بإجمال، عند تحديد وظائف النبوة الثلاث. وهي المذكورة في قوله جل ثناؤه: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)(آلعمران:164) وقوله سبحانه وتعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِنقَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ)(الجمعة:2). وتلك هي استجابة دعوة إبراهيم عليه السلام لهذه الأمة، بما ورد في قوله تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاًمِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَالعَزِيزُ الحَكِيمُ)(البقرة:129).
4- التلاوة، والتعليم، والتزكية هي الأصول الكلية لمهمة الرسالة، وهي المراحل الأساسية لبناء النفس المؤمنة، وتكوين النسيج الاجتماعي الإسلامي. إلا أنها مراحل متداخلة في عملية الاشتغال بالقرآن الكريم لهذا الغرض، إذ يصعب القول بأنها منقطعة مبتورة المفاصل، بل هي متواصلة، يكمل آخرُها أولَها، ويرفد أولُها آخرَها؛ إذ تجد بدايات اللاحقة منها منذ الشروع في السابقة، وتجد آثار السابقة مستمرة في اللاحقة! وإنما تتميز عن بعضها بالغلبة ليس إلا. وبيانها كما يلي:

الخطوة الأولى: تلاوة القرآن بمنهج التلقي
تلقي القرآن: بمعنى استقبال القلب للوحي، على سبيل الذِّكْرِ؛ إنما يكون بحيث يتعامل معه العبد بصورة شهودية، أي كأنما هو يشهد تنـزله الآن غضا طريا! فيتدبره آيةً، آيةً، باعتبار أنها تنـزلت
عليه لتخاطبه هو في نفسه ووجدانه، فتبعث قلبه حيا في عصره وزمانه!



كثيرون هم أولئك الناس الذين يتلون القرآن اليوم، أو يستمعون له على الإجمال، على أشكال وأغراض مختلفة. ولكن قليل منهم من (يَتَلَقَّى) القرآن!
وإنما يؤتي القرآنُ ثمارَ الذكر حقيقةً لمن تَلَقَّاهُ! وإنما كان رسول اللهe يَتَلَقَّى القرآن من ربه. قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)( النمل:6).
ولا يزال القرآن معروضا لمن يتلقاه، وليس لمن يتلوه فقط!

والتلقي في اللغة: هو الاستقبال عموما. كما في قول الله تعالى: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)(الأنبياء:103).
وأما تلقي القرآن: فهو استقبال القلب للوحي. إما على سبيلا لنبوءة، كما هو الشأن بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم. على نحو ما في قول الله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)( النمل:6). إذ ألقى الله عليه القرآن بهذا المعنى!

كما فسره الراغب الأصفهاني من قوله تعالى: (إنا سَنُلْقِي عليك قولا ثقيلا)(المزمل:5)
قال رحمه الله: (إشارة إلى ما حُمِّلَ من النبوة والوحي!).

وإما أن يكون (تلقي القرآن) بمعنى: استقبال القلب للوحي، على سبيل الذِّكْرِ.



وهو عام في كل مؤمن أخذ القرآن بمنهج التلقي على ما سنبينه بعدُ بحول الله. فذلك المنهج هو الذي به تنبعث حياة القلوب. لأنها تتلقى آنئذ القرآن (روحا) من لدن الرحمن. قال تعالى: : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا. مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الْإِيمَانُ. وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا. وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)(الشورى:52-53).

أن تتلقى القرآن: معناه إذن؛ أن تصغي إلى الله يخاطبك! فتبصر حقائق الآيات وهي تتنـزل على قلبك روحا. وبهذا تقع اليقظة والتذكر، ثم يقع التَّخَلُّقُ بالقرآن، على نحو ما هو مذكور في وصف رسول اللهe،من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، لما سئلت عن خُلُقِهe؛فقالت: (كان خُلُقُهُ القرآنَ!).

وأنْ تتلقى القرآن: معناه أيضا أن تتنـزل الآيات على موطن الحاجة من قلبك ووجدانك! كما يتنـزل الدواء على موطن الداء!

فآدم عليه السلام لما أكل هو وزوجه من الشجرة المحرمة؛ ظهرت عليهما أمارة الغواية؛ بسقوط لباس الجنة عن جسديهما!
فظل آدم عليه السلام كئيبا حزينا.

قال تعالى: (فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا! وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ. وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)(طه:121).

ولم يزل كذلك حتى (تلقَّى) كلمات التوبة من ربه فتاب عليه؛ فكانت له بذلك شفاءً!

وذلك قوله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم)(البقرة:37). فهو عليه السلام كان في حاجة شديدة إلى شيء يفعله أو يقوله؛ ليتوب إلى الله، لكنه لا يدري كيف؟ فأنزل الله عليه - برحمته تعالى - كلمات التوبة؛ ليتوب بها هو وزوجه إلى الله تعالى. وهي – كما يقول المفسرون - قوله تعالى: (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(الأعراف:23)



فبمجرد ما أن تنـزلت الآيات على موطن الحاجة من قلبه؛ حتى نطقت بها الجوارح والأشواق؛ فكانت له التوبة خُلُقاً إلى يوم القيامة! وكان آدم عليه السلام بهذا أول التوابين! وذلك أخذه كلمات التوبة على سبيل (التلقي): (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ)!

فعندما تقرأ القرآن إذن؛ استمع وأنصت! فإن الله جل جلاله يخاطبك أنت! وادخل بوجدانك مشاهد القرآن، فإنك في ضيافة الرحمن! هناك حيث ترى من المشاهد ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر!
الخطوة الثانية: التعلم والتعليم بمنهج التدارس
وتحصيل العلم بالكتاب للنفس أو تلقينه للغير، إنما يكون بمنهج الدراسة والتدارس لآياته وسوره مبنى ومعنى؛ لقول الله تعالى: (وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)(آلعمران:79). فقد قُرِئَتْ (تَعْلَمُونَ) و(تُعَلِّمُونَ) فهي عملية مزدوجة، الجمع بين شقيها في الفهم والعمل أولى: التَّعَلُّم والتَّعْلِيم. وأقل ذلك أن تكون أحَدَهما: معلما أو متعلما. بيد أن العلم ههنا إنما هو ما أفاد العمل. على قاعدة علماء مقاصد الشريعة: أن (كل علم ليس تحته عمل فهو باطل). وعلى هذا يحمل قولهe: (إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالما
أو متعلما!)

وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنا لله لم يبعثني مُعَنِّتاً ولا مُتَعَنِّتاً؛ ولكن بعثني مُعَلِّماً مُيَسِّراً).



أي: معلما أعمال الخير والصلاح للعالمين، بمنهج حكيم.

فالمقصود بقوله تعالى: (تَدْرُسُون) - من آية آل عمران المذكورة - يعني تدرسون الكتابَ نفسه، على اعتبار أن الدراسة والتدارس أو المدارسة هي منهج التعلم، كما ذهب إليه الإمام الطبري رحمه الله(). والتدارس للقرآن الكريم هو المنهج التعليمي الكفيل بالوصول بالدارس إلى الحكمة، التي بمقتضاها يصير (ربانيا). وقد روى ابن جرير الطبري رحمه الله – عن ابن عباس وعدد من التابعين - تفسير(ربانيين) في الآية؛ بأنهم: (الحكماء الفقهاء).
فالدراسة والتدارس إذن: هو تتبع صيغ العبارات، ووجوه المعاني والدلالات للمقاصد والغايات، من كل آية وسورة، وتعلُّم ذلك كله ترتيلا وتفسيرا، بما فيه ضبط ألفاظه وآياته وسوره؛ للتعرف على أسرار هو حِكَمِه. وذلك جماع ما كان يفعله جبريل عليه السلام مع رسول الله في ليالي رمضان، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسولا الله أجود الناس! وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فَيُدَارِسُهُ القرآنَ، فَلَرسُول الله أجودُ بالخير من الريح المرسلة!)() وهو ما ذكرنا من قوله تعالى: (وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)(آلعمران:79). وذلك تفسير قوله تعالى - من آيات وظائف النبوة - (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ). وفُسِّرت الحكمةُ بأنها: (شيء يجعله الله في القلب ينور له به!)().

ويجمع المرحلتين المذكورتين قبل، أعني: (التلاوة، ثم التعلم والتعليم بمنهج التدارس) ما جاء عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ إلَى النّبِيّe فَقَالُوا أَنِ ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالاً يُعَلّمُونَا الْقُرْآنَ وَالسّنّةَ. فَبَعَثَ إلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ. يُقَالُ لَهُمُ الْقُرّاءُ. فِيهِمْ خَالِي حَرَامٌ. يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَدَارَسُونَ بِاللّيْلِ يَتَعَلّمُونَ).
الخطوة الثالثة: التزكية بمنهج التَدَبُّر

وانظر - رحمك الله - كيف ذكر (التزكية) قبل (التعليم) في الآيتين من آل عمران والجمعة، مع أنه لا تزكية بغير تعليم ابتداء، على ما ترجم له الإمام البخاري رحمه الله في كتاب العلم من صحيحه قال: (باب العلم قبل القول والعمل). وقد قُدِّمَ ذِكْرُ التعليم على التزكية - بناء على الأصل - في قوله تعالى من دعوة إبراهيم: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ)(البقرة:129).

صحيح أن العطف بالواو - في الآيات كما هو في العربية - لايفيد الترتيب، لكن التقديم والتأخير في البلاغة يفيد الأهمية؛ ومن هنا جاءت التزكية في الآيتين الأوليين مقدمة على التعليم؛ من باب ذكر المقاصد قبل الوسائل؛ لشرف الغاية وعلوها؛ وحتى لا يفتتن السائر بالوسيلة عن الغاية؛ فيضل عنها، ويكون من الخاسرين.

تقول: تَدَبَّرَ الشيء في - اللغة – يَتَدبَّرُه بمعنى: تَتَبَّعَ دَوَابِرَه، أي نظر إلى أواخره وعواقبه ومآلاته، كيف هو إذا صار إليها؟ وكيف يكون؟ جاء في لسان العرب: (ودَبَّرَ الأَمْرَ وتَدَبَّره: نظر في عاقبته، واسْتَدْبَرَه: رأَى في عاقبته ما لم ير في صدره؛ وعَرَفَ الأَمْرَ تَدَبُّراً أَي بأَخَرَةٍ (...) والتَّدْبِيرُ في الأَمر: أَن تنظر إِلى ما تَؤُول إِليه عاقبته. والتَّدَبُّر: التفكرفيه).

أما التَّدَبُّر في الاصطلاح القرآني فهو: أنك إذْ تقرأ الآيات،وتتعلم وتدرس؛ تنظر إلى مآلاتها، وعواقبها في النفس وفي المجتمع؛ فتبصر حقائقها الإيمانية إبصارا؛ فتكتسب بذلك من الصفات الوجدانية، ما يعمر قلبك بالإيمان، ويثبت قدمك في طريق المعرفة الربانية، ويضعك على صراط السير إلى التخلق بأخلاق القرآن. وبيان ذلك هو كما يلي:

فتدبر القرآن وآيات القرآن إذن: هو – كما ذكرنا - النظر إلى مآلاتها وعواقبها في النفس وفي المجتمع. وذلك بأن تقرأ الآية من كتاب الله، فتنظر - إن كانت متعلقة بالنفس - إلى موقعها من

نفسك، وآثارهاعلى قلبك وعملك، تنظر ما مرتبتك منها؟ وما موقعك من تطبيقها أو مخالفتها؟ وما آثار ذلك كله على نفسك وما تعانيه من قلق واضطراب في الحياة الخاصة والعامة؟ تحاول بذلك كله أن تقرأ سيرتك في ضوئها، باعتبارها مقياسا لوزن نفسك وتقويمها. وتعالج أدواءك بدوائها، وتستشفي بوصفاتها.

وأما إن كانت تتعلق بالمجتمع؛ فتنظر في سنن الله فيه كيف وقعت؟ وكيف تراها اليوم تقع؟ وكيف ترى سيرورة المجتمع وصيرورته في ضوئها؟ عند المخالفة وعند الموافقة.. ثم تنظر ما علاقة ذلك كلهبالكون والحياة والمصير؟ ثم ما موقع النفس – نفسك أنت! - من هذا كله؟
- التدارس: هو عملية تعليمية ذهنية، تشتغل من داخل النص القرآني لاَ خارجه، وينتجها العقلُ في علاقته بنص الخطاب القرآني مباشرةً، وفي ارتباطه بلغته وأساليبه، على قَدْرِ ما تتيحه تلك اللغةُ من مَعانٍ وحِكَمٍ ودلالات.
بينما التَّدَبُّر: عمليةٌ قلبية ذوقية محضة. فهي - وإن صاحبت التدارس - واقعةٌ في النفس لا في النص! إنها حركة وجدانية تجري خارج النص القرآني، إنها تتلقى المعاني والحِكَمَ من التدارس، ثم
تَدْخُلُ بها إلى أعماق النفس، أو تخرج بها إلى مطالعة أحوالالمجتمع؛ لتراقب النفس والمجتمع معاً على موازينها. تُشَخِّصُ الأمراضَ والأسقام الواقعة بهما، ثم تنظر إلى وصفات العلاج التي قدمها لها القرآن: كيف تتعامل معها؟ وكيف تستشفي بها؟

وبما أن القرآن كتاب يحيل المتدبر له على سعة الكون وامتداده الفسيح، ويرجع به إلى كشف كثير من أسرار الوجود، وغرائب الخلق؛ فإن (التدبر) الذي هو المنهج الرباني لقراءة القرآن؛ يحيل الإنسان على (التفكر) الذي هو المنهج الرباني لقراءة الكون. فيكون كل متدبر للقرآن متفكرا في الكون. فتقرأ - بقراءة القرآن - كلَّ آيات الله المنظورة والمقروءة سواء.

وبذلك كله يتم لك شيء آخر، هو: الإبصار.

إن التدبر والتفكر كليهما، يعتبران بمثابة الضوء، أو الشعاع المسلط على الأشياء، تماما كما تسلط الشمس أشعتها المشرقة - في اليوم الصحو - على الموجودات، فتبصرها الأعين الناظرة. فكذلك التدبر يكشف حقائق الآيات القرآنية، والتفكر يكشف حقائق الآيات الكونية، حتى إذا استنارت هذه وتلك؛ أبصرها المتدبرون والمتفكرون. وكانت لهم فيها بصائر ومشاهَدات لا تكون لغيرهم. ولذلك قال عز وجل: (قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَاوَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ)(الأنعام:104). وقال سبحانه: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِيالْأَبْصَارِ)(الحشر:2).

هكذا وجب أن تقرأ القرآن آية آيةً؛ اقرأ وتدبر ثم أبصر!.. عسى أن ترى ما لم تر، وتدرك من حقائقه ما لم تدرك من قبل؛ فتكون له متدبرا حقا !

يتبع

=============================
* منقول من موقع مثانى القرآن


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 28-03-2025, 09:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان



صور نصر الله للمؤمنين في سورة غافر؛ نظرات وتأمّلات
الكاتب : إبراهيم لبيب
(28)



وَعَدَ اللهُ -عزّ وجلّ- عبادَه المؤمنين بالنّصر والتمكين في كتابه المجيد، ومن ذلك ما حفلَت به سورة غافر من وعدٍ بالنصر، وهذه المقالة تسلّط الضوء على ما ورد من هذا الباب في هذه السورة بالخصوص، وتتعرّض لأهمية معرفة ذلك في واقعنا، وكَشْف بعض الإشكالات المتعلقة بمفهوم هذا الوعد.
الحمد لله الذي أوجب على نفسه الكريمة -تفضّلًا منه وكرمًا- نصرَ عباده المؤمنين؛ فقال -وقوله الحقّ-: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[الروم: 47].

والصلاةُ والسلامُ على نبيّنا وحبيبنا محمد -صلّى الله عليه وسلم- الذي أقرّ اللهُ عينيه بالنصر والتمكين؛ فأنزل عليه في آخر عُمره: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر: 1- 3].
أمّا بعد، فإنّ مما تكاثرتْ به نصوص القرآن الكريم، وسُنّة خاتم المرسلين وُعُود الله بالنصر والتمكين لعباده المؤمنين. وقد حفلتْ سورة غافر بذِكْر عدد من صور هذا النصر والتمكين، وقد أحببنا في هذه المقالة تسليط
الضوء على هذه الصور وبيانها؛ لِمَا لذلك من أهمية في فهم حقيقة نصر الله ووعده بالتمكين كما سنبيّن، وكذلك تقوية نفوس المسلمين؛ فمع علوِّ أهل الباطل في الأزمان المتأخّرة قد يتسرَّب اليأس والشكّ إلى بعض النفوس المؤمنة لما يرونه من تسلُّط أهل الباطل وضعف أهل الحقّ، وما يقاسونه من قتلٍ وتشريدٍ وتنكيلٍ.
بل إنّ أهل الباطل يستدلّون بعلوِّهم وتمكينهم في الأرض على أنهم هم أهل الرضا الذين يحبهم الله، وأنهم لولا أنهم على الحقّ لما مُكِّنوا في الأرض، والله -عز وجل- يقول: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ *
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}[آل عمران: 196- 197].
فجاء هذا المقال لينبّه على ما في سورة غافر من صور للنصر والتمكين؛ ليزيل اللبس، ويوضح المفهوم الصحيح لوعد الله بالنصر والتمكين لعباده من الأنبياء والمرسلين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين؛ ليكون المؤمن على بصيرة من أمره، فالله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل، وذلك بعد تمهيد نسلِّط الضوء فيه إجمالًا على فكرة وُعُود النصر والتمكين وأهميتها في واقعنا ونبيّن بعض الإشكالات في فهمها، وكذلك سبب اختيارنا
لسورة غافر لنعالج صور النّصر والتمكين من خلالها.
تمهيد:

آيات وُعُود الله تعالى للمؤمنين بالنّصر والتمكين في القرآن كثيرة، قد لا يناسب المقام ذكرها كلّها، وسنكتفي بذِكْر بعضها؛ فمن ذلك: قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}[غافر: 51]، وقوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[المجادلة: 21]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}[الصافات: 171- 173].
وليس وعدُ الله قاصرًا فقط على الغلَبة على الأعداء، بل جاء الوعد بالاستخلاف في الأرض والتمكين، فقد وعد اللهُ عباده المؤمنين -ووعدُه الحقّ- في القرآن بذلك، فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}[النــور: 55].
ولكن هنا يقع إشكال يَرِد على كثيرٍ من الناس، وهو: أين هذا النصر ونحن نرى المؤمنين كثيرًا ما يُنَكَّلُ بهم، ويصيبهم الأذى، بل وربما القتل في شتى البقاع والأزمنة؟!
والجواب على هذا السؤال ينبغي أن يسبقه حقيقة إيمانية لا بد أن تكون راسخة في قلبِ كلّ مؤمن يؤمن بأنّ هذا القرآن هو كلام الله، وأنه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خَلْفه، فيوقِن أنّ وَعْد الله
حقّ، وأنه لا يُخْلِف الميعاد، ويكون على ثقة تامّة ويقين جازم بذلك، فإذا ما رأى المؤمنون على أرض الواقع خلاف ما وَعَد الله في كتابه فليس أمامهم إلا أمران:
الأمر الأول: أن يتَّهِموا أنفسَهم بالتقصير في تحقيق شرط النّصر، وأنهم بوَضْعهم الحالي ليسوا أهلًا لتحقيق وَعْد الله؛ لأنّ الله وَعَد بالنصر مَنْ كان أهلًا لذلك، ومن تحقّق فيه شرطه، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد: 7].

وهذا كان حال المؤمنين الأوائل، إذا تأخَّر عنهم النصر راجعوا أنفسهم، وفتَّشوا عن الذنوب والعيوب؛ ليقينهم بأنّ وَعْد الله لا يتخلَّف أبدًا، فإذا لم ينتصروا فقد يكون ذلك بسبب ذنوبهم، {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران: 165].

الأمر الثاني: أنهم ربما لم يفهموا كلام ربّ العالمين بوعوده بالتمكين، وذلك يرجع إلى سببين:
السبب الأول: عدم فهم السّنن الإلهية في تحقيق النصر، فالله -عز وجل- لا يمكِّن لعباده في الأرض إلا بعد أن يُبْتَلَوْا، ولنا في سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُسوة حَسنة، فقد كان في العهد المكيّ مع أصحابه مستضعَفين، ثمّ مَكّن اللهُ لهم بعد ذلك بعد الهجرة وحتى وفاته -صلى الله عليه وسلم-؛ ولذلك لما سُئِلَ الشافعِيُّ -رحمه الله-: أيُّهما أفضلُ للرجل أن يُمَكَّنَ أو يُبْتَلَى؟ قال: «لا يُمَكَّنُ حَتَّى يُبْتَلَى»[1].
السبب الثاني: عدم فهم حقيقة النصر وحَمْله على صورة ذهنية واحدة، وسيتّضح في المقال -بإذن الله- أنّ نصر الله -عز وجل- للمؤمنين له صورٌ كثيرة إضافة إلى الصورة المتبادرة إلى الذّهن.

لماذا وقع الاختيار على سورة غافر؟
القرآن الكريم مملوء بوُعُود الله بنصر المؤمنين كما ذكرنا، ولكن وقع الاختيار على سورة غافر كموضوعٍ للدراسة؛ لخصوصيتها في إظهار الصراع بين الحقّ والباطل، والإيمان والكفر، وكيف بيَّنَتْ لنا السورة أنّ تقلُّب أهل الباطل في البلاد وعلوَّهم في الأرض مآلُه إلى الخسران والهلاك مهما بلغَتْ بهم القوّة، ومهما طال الزمان.

ففي بداية آيات السورة، نجد أنها بيَّنت حال أهل الباطل: {‌مَا ‌يُجَادِلُ ‌فِي ‌آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ}[غافر: 5].
وفي نهاية السورة كانت آخر آية، بل آخر جملة من الآية والسورة: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}[غافر: 85].

وهذا بلا شكّ تأكيد على أن الغلَبة في النهاية لا بد وأن تكون لأهل الحقّ من الرُّسُل وأتباع الرُّسُل، كما صرّحت الآية: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}[غافر: 51].
صور نصر الله للمؤمنين من سورة غافر:
افتُتِحَت السورة باسمين جليلَيْن من أسماء الله تعالى: {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}[غافر: 1- 2].
فهي تبدأ بتقرير أنّ العزّة -كلّ العزّة- لله سبحانه وتعالى؛ ومِن لوازم هذا الاسم أنّ الله سبحانه وتعالى يُلْقِي هذه العِزّة على مَنْ آمن به واتّبع رضوانه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون: 8].

فالعِزّة عنوان للسّورة كلّها، وهذا يجعلنا نبحث عن معالم ومظاهر عِزّة الله في السورة، والتي منها: نصر الله تعالى للمؤمنين: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[آل عمران: 126].
فمن صور نصر الله للمؤمنين في سورة غافر:

1- النصر بالغَلَبة والتمكين وإهلاك الظالمين:
فمعلومٌ ما حدث لفرعون وجنوده من غرق وهلاك، وإنجاء الله لعباده المؤمنين، وتمكينهم في الأرض بعد أن كانوا مستضعفين: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ}[الأعراف: 137].

وإهلاك الظالمين من فرعون وجنوده دَلَّ عليه قول الله في سورة غافر: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}[غافر: 45- 46].

فلم يكتفِ القرآن بذِكْر هلاكهم في الدنيا، بل ذَكَر عذابهم في البرزخ ويوم القيامة.
وفي ثنايا حوار مؤمن آل فرعون مع قومه ذَكَر إهلاك الله للأمم السابقة التي كَذّبَتْ رُسُلَها، فقال: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ}[غافر: 30- 31].
وهذا النوع من النصر (الغَلَبة والتمكين وإهلاك الظالمين) هو أوّل أنواع النّصر التي يتبادر الذِّهن إليها، ولكنها ليست الصورة الوحيدة للنصر.

2- النصر بالحُجّة والبيان:
من المفسِّرين مَنْ حملَ تفسير قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[غافر: 51]، على النصر بالحُجّة والبيان.
عن أبي العالية -رحمه الله- في قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا} الآية، قال: «ذَلِكَ فِي الحُجَّةِ؛ يَفْتَحُ اللَّهُ حُجَّتَهُمْ فِي الدُّنْيَا»[2].

وتَمَثَّل هذا النصر في سورة غافر في تلك الحُجَج القوية التي واجَه بها مؤمنُ آل فرعون قومَه، فقد كان ظاهر في حديثه علوّ حجّته على قومه، وأنهم ما استطاعوا أن يجابهوه، ولأهمية قصة مؤمن آل فرعون لموضوع السورة؛ فإنّ من أحد أسماء هذه السورة: سورة المؤمن؛ نسبة إلى مؤمن آل فرعون.

قال ابن القيم: «كلّ سُلْطَانٍ فِي القُرآن فَهُوَ الحُجَّة، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[الصافات: 156- 157]، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}[النَّجْم: 23]، وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِم سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ}[الرّوم: 35].
وَهَذَا لِأَنّ الحُجَّة تسلِّط صَاحِبَها على خَصمه، فَصَاحِب الحُجَّة لَهُ سُلْطَان وقُدرة على خَصمه وَإِن كَانَ عَاجِزًا عَنهُ بِيَدِهِ، وَهَذَا هُوَ أحد أَقسَام النُّصْرَة الَّتِي ينصر الله بهَا رسله وَالْمُؤمنِينَ فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}[غَافِر: 51]»[3].

وهذا حال كلّ مؤمن لديه إيمان راسخ بأنّ الله هو الحقّ، وأنّ ما يدعون من دونه الباطل؛ ولهذا فإنّ من أهمّ سمات أهل الضلالة أنهم دائمًا في أمر مريج وأقوال متضاربة، لا يكادون يثبتون على حُجّة قوية، كما قال تعالى عن المشركين تعقيبًا على أقوالهم الباطلة: {...قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأنعام: 148- 149].
هذه هي القضية: {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا}؟! هل لديكم كتاب من الله؟! أم أنّ القضية اتّباع الظنّ: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ}، فالذي يبني قناعاته على الخَرْصِ والظنِّ، لا شكّ أنه في
ضلال مبين، بعكس مَنْ بَنى عقيدته وقناعاته على وحي من الله وهدى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}[محمد: 14].
وقد قال تعالى في السورة نفسها عُقَيْب قصة مؤمن آل فرعون: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ}[غافر: 56].
قال ابن كثير: «وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ}، أَيْ: يَدْفَعُونَ الحَقَّ بِالبَاطِلِ، وَيَرُدُّونَ الْحُجَجَ الصَّحِيحَةَ بِالشُّبَهِ الْفَاسِدَةِ بِلَا بُرْهَانٍ وَلَا حُجَّةٍ مِنَ اللَّهِ، {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ
بِبَالِغِيهِ}، أَيْ: ما في صدورهم إلا كبر على اتباع الحقّ، واحتقار لمن جاءهم به، وليس ما يرومونه من إخمال الحقّ وإعلاء الباطل بحاصل لهم، بل الحقّ هو المرفوع، وقولهم وقصدهم هو الموضوع»[4].

عن قتادة: «{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ}، أي: لم يأتهم بذلك سلطان، {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ}، قال: «الكِبر في صدورهم»[5].
وقال السعدي: «...فهذا نصّ صريح، وبشارة، بأنّ كلّ مَن جادل الحقّ أنه مغلوب، وكلّ مَن تكبّر عليه فهو في نهايته ذليل»[6].

3- النّصر بخذلان الكافرين، وصَرْفِ كيدهم:
وهذا نوع من أنواع النّصْر قَلَّ من يتنبَّه له، وهو أنّ الله -عز وجل- قد ينصر عباده المؤمنين -خاصّة إذا كانوا مستضعفين- بمجرّد كفِّ أيدي الظالمين عنهم، وإذهاب كيدهم.
قال السعدي: «وإذا تأمّلْتَ الواقع رأيتَ نصر الله لعباده المؤمنين دائرًا بين هذين الأمرين، غير خارج عنهما؛ إمّا نصر عليهم، أو خذل لهم»[7].
قال الطبري عند تفسيره لقوله تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ}[آل عمران: 127]: «وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ: أَوْ يُخْزِيَهُمْ بِالْخَيْبَةِ بِمَا رَجَوْا مِنَ الظَّفَرِ بِكُمْ»[8].
وقال السعدي في تفسير الآية: «أي: نصر الله لعباده المؤمنين، لا يعدو أن يكون قطعًا لطرف من الكفار، أو ينقلبوا بغيظهم، لم ينالوا خيرًا، كما أرجعهم يوم الخندق، بعدما كانوا قد أتوا على حردٍ قادرين، أرجعهم الله بغيظهم خائبين»[9].

ومن أمثلة ذلك أيضًا: قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة: 40].
فسمَّى اللهُ صَرْفَ كيدِ الكافرين عن نبيِّه نصرًا لرسوله، وخزيًا لأعدائه.

أمّا عن هذا النوع من النصر في سورة غافر فتمثَّل في صرفِ الله أذى فرعون وقومه عن مؤمن آل فرعون، وذلك بعد أنْ فَوَّض مؤمنُ آل فرعون أمْرَه إلى ربّ العالمين، فكان آخر ما قاله لقومه: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}[غافر: 44]. فكانت النتيجة: {‌فَوَقَاهُ ‌اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ}[غافر: 45].

فلم تكن سيئة واحدة منهم، بل كانت سيئات، وقد ذكر بعض المفسِّرين أنّ فرعون وملأه فكّرُوا في قتله، وفي حرقه، وفي تقطيع أوصاله، وفي أنواع من البلاء والعذاب إلى القضاء عليه، ولكن الله -عزّ وجلّ- حفظه، فنِعم المولى ونِعم النصير.
4- النصر بانتقام الله ممن ظلموا المؤمنين، ونصر قضيتهم التي عاشوا من أجلها:

مَرَّ بنا أنّ الله -عز وجل- قد ينصر المؤمنين في حياتهم، لكن هنا يأتي إشكال، أنه وُجِدَ في الواقع من الأنبياء والمؤمنين من قُتِلوا دون أنْ يَروا نصرًا.

والجواب أنّ النصر في هذه الحالة يكون بانتقام الله -عز وجلّ- من الظالمين، ونصر قضية المؤمنين التي عاشوا من أجلها.
قَالَ السُّدِّيّ: «لمْ يبْعث اللّهُ -عزّ وجلّ- رسولًا قطّ إلى قَوْم فيقتلونه، أوْ قومًا مِنْ المؤمنين يدْعُون إلى الحقّ فيُقتلون، فيذهب ذلك القرن حتّى يبعث اللّه -تبارك وتعالى- لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممّن فعل ذلك بهم في الدّنْيا»[10].

فالله تعالى شديد العقاب؛ قال تعالى: {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ}[غافر: 3]. وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}[غافر: 5].
أي: «فكيْف كان عِقابي إيّاهم، ألمْ أُهْلكهم فأجعلهم للخَلْق عِبْرة، ولمن بَعْدهم عِظة؟ وأَجْعل ديارَهم ومساكنَهم مِنْهم خلاء، وللوحوش ثواء؟!»[11].

وهذا الإهلاك الذي ذكره اللهُ في السورة يشمل كلَّ مكذِّبي الرّسل والأنبياء؛ سواء شَهِدَ الأنبياء هذا النصر أم حدث بعد مماتهم.
أمّا عن نَصْر قضيتهم التي عاشوا من أجلها في الحياة الدنيا بأنْ يُعْلِي الله -عز وجلّ- كلمتهم بعد مماتهم، فالله -عز وجل- نَصَر رسولَه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ومكَّن للإسلام، ودخل الناس في دين الله في آخر حياته أفواجًا، ولكنّ الصحابة رضوان الله عليهم لم يشهدوا جميعهم هذا النصر والتمكين، فمنهم من قُتِلَ من التعذيب في العهد المكي، ومنهم من قُتِلَ في معارك وغزوات؛ كأُحُد، وبئر معونة، وغيرها من
الأحداث التي قُتِلَ فيها عدد غير يَسير من الصحابة.
فهل نقول: إنّ الله -حاشاه- أخلفَ هؤلاء الشهداء وَعْده؛ لأنهم قَضَوْا نَحْبَهم قبل أن يروا نصرًا؟!
الجواب: كلَّا؛ فالله -عز وجل- نَصَر أُمّته ونَصَر عباده الموحّدين ونَصَر هؤلاء الشهداء بأنْ نَصَر دينهم وقضيّتهم التي عاشوا من أجلها، وهي توحيد الله -عز وجل- وأن يكون الدِّين كلّه لله، وأن تكون كلمة الله هي
العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، فالعبرة بالمآل وانتصار المبادئ، وبكمال النهايات لا بنقصِ البدايات.

فعلى هذا فإنّ المؤمن يسعى بكلّ ما أُوتي من جهد في نصرة دين الله وهو يعلم يقينًا أنّ الله سينصره في النهاية حتى وإن لم يشهد هذا التمكين والنصر في حياته، فإنه سيحدث يومًا ما لا محالة. {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}[غافر: 77].
5- النصر باعتراف الظالمين بالهزيمة:
من أروع صور الانتصار أن يعترف المهزوم بالهزيمة، بل إنّ بعض الباحثين العسكريّين يقول: إنّ الهزيمة لا تنعقد إلا باعتراف المهزوم بالهزيمة؛ لأنّ معيار النصر والهزيمة قد يختلف من جماعة لأخرى؛ فلو أنّ جيشًا التحم
في معركة مع جيش آخر، ثم انتهت المعركة بالاستيلاء على أرض الخصم، فهو في اعتباره أنه منتصر، حتى وإن كان قد قُتِلَ من جيشه عددٌ كبيرٌ.
ولكن في المقابل قد يرى الجيش الآخر الذي سُلِبَت منه الأرض أنه انتصر باعتبار أنه قَتَل من الجيش المحتلّ أعدادًا كبيرة، وأنّ الأرض التي تم الاستيلاء عليها سترجع مرة أخرى في معركة تالية، لكن الذين قُتِلوا لن
يعودوا للحياة مرة أخرى!
ولا يعنينا الآن تحقيق الصواب في المسألة، ولكننا نبيِّن فقط أنّ معيار النصر والهزيمة قد يختلف من فردٍ لآخر في كثير من الأحيان، والذي يحسم الجدل هو أن يعترف المهزوم بالهزيمة، وأن يُذْعِن تمام الإذعان للمنتصر،
فهنا يمكننا القول أنّ النصر قد انعقد وتمّ باعتراف المهزوم.
وعند التأمّل في سورة غافر نجد عددًا من اعترافات الكفار بهزيمتهم أمام أهل الحقّ، وسنأخذ مثالَيْن؛ أحدهما لاعتراف في الدنيا، والآخر لاعتراف في الآخرة:
أمّا اعتراف الدنيا؛ فهو عند معاينتهم العذاب قُبَيْل الموت بلحظات، كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ
خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}[غافر: 84- 85].
وهاتان الآيتان هما آخر آيتين في سورة غافر؛ خسر الكافرون، وقبل خسارتهم اعترفوا بشِرْكِهم وأعلنوا إيمانهم، فقالوا: آمنّا بالله وحده وكفرنا بما كنّا به مشركين.

ولكن هذا الإيمان عند معاينة العذاب أو حضور الموت لا ينفع، ودَلّ على هذا آيات أخرى من كتاب الله؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّار}[النساء: 18].
وَكَقَوْلِه تعالى في شأن فِرْعَوْنَ: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[يونس: 90- 91].
وأمّا اعتراف الآخرة؛ ففي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ}
[غافر: 10- 11].
فها هو اعتراف صريح من الكفار من مُكَذِّبي الرّسل وغيرهم حين مَقَتُوا أنفسهم بسبب كُفرهم، يعترفون بذنوبهم، ويطلبون من الله الرجعة إلى الحياة الدنيا مرّة أخرى.
وقد بَيَّن -سبحانه وتعالى- في مواضع كثيرة من كتابه أن اعتراف الكافر بذنبه يوم القيامة لا ينفعه في هذا اليوم، كما في قوله تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِير}[الملك: 11].

وكذلك من اعترافات الآخرة في السورة نفسها قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}[غافر: 52].
6- نصر الله للمؤمنين يوم القيامة:
قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ‌وَيَوْمَ ‌يَقُومُ ‌الْأَشْهَادُ ‌‌* يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}[غافر: 51- 52].

فما أعظمه من نصر، حين يجمع اللهُ الأوّلين والآخِرِين في مشهد عظيم، ويقف الأشهاد من الملائكة والنبيّين والشهداء والصالحين، فيُعْلِي الله أهل الحقّ، ويخزي أعداءهم من أهل الباطل.
«وأمّا حال أعدائهم فهو أنّه حصلتْ لهم أمورٌ ثلاثةٌ:

أحدها: أنّه لا ينفعهم شيءٌ من المعاذير البتّة.
وثانيها: أنّ لهم اللّعْنة، وهذا يفيد الحَصْر، يَعْنِي: اللعنة مَقْصورة عليهم وهي الإهانة والإذلال.
وثالثها: سوء الدّار، وهو العقاب الشّديد.

فهذا اليوم إذا كان الأعداء واقعين في هذه المراتب الثّلاث من الوحْشَة والْبَلِيّة، ثمّ إنّه خَصّ الأنبياء والأولياء بأنواع التّشْريفات الواقعة في الجمع الأعْظم، فههنا يَظْهر أنّ سرور المؤمن كم يكون، وأنّ غموم الكافرين إلى أين تبلغ؟»[12].
فماذا خسر أهل الإيمان في الدنيا حتى ولو لاقَوا بعض الأذى؟! أليس في الآخرة عوضٌ عن الدنيا؟ ألم يقل الله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت: 64]؟ وقال سبحانه: {وَالْآخِرَةُ
خَيْرٌ وَأَبْقَى}[الأعلى: 17].
فالفوز الحقيقي إنما هو الفوز بالجنة ورضوان الله، والخسارة الحقيقية إنما هي خسارة النفس في نار جهنم خالدين فيها أبدًا.
قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[آل عمران: 185].

7- نصر الله بتخليد ذِكْر المؤمنين:
ويا له مِن شَرَفٍ عظيم لا شَرَفَ أعظم منه في الدنيا، أن يُخَلِّد اللهُ ذِكْرَ عبده المؤمن في كتاب يُتَعَبَّدُ بتلاوته إلى قيام الساعة.

فمؤمن آل فرعون -طيَّب اللهُ ثراه- جاهَدَ بأفضل أنواع الجهاد، وهي قول كلمة الحقّ عند سلطانٍ جائر؛ ولأنّ الأجر يكون على قَدْر المشقّة، ولأنّ قول كلمة حقّ عند سلطان جائر يُعَرّضُ القائل لأشدّ أنواع البلاء؛ فكان هذا الأجر المضاعَف، بل وسُمِّيَت السورة باسمه على قول كثير من أهل العلم: (سورة المؤمن).

خاتمة:

حفلَ القرآن الكريم بذِكْرِ العديد من وُعُود النصر والتميكن لعباد الله المؤمنين، وقد اهتمّت سورة غافر بهذا الأمر، وأشارتْ لعدد من صور هذا النصر والتمكين، وقد استعرضنا في هذا المقال هذه الصورة التي ذكرَتْها سورة غافر، وبينَّا رسوخ مبدأ نصر الله وتمكينه لعباده المؤمنين في القرآن الكريم؛ وأنّ نَصْرَه لهم يكون في الدنيا والآخرة، وأنّ صور هذا النصر لها ألوان تتعدّد، واللهُ غالِبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
نسألُ اللهَ العَلِيّ العظيم أن يُقِرَّ أعيننا بنصر عباده المؤمنين في حياتنا ويوم يقوم الأشهاد.
وصلى اللهُ على نبيِّنا وحبيبنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
[1] زاد المعاد (3/ 14).

[2] تفسير ابن أبي حاتم (18437).
[3] الفروسية، ص187.
[4] تفسير ابن كثير (7/ 152).

[5] تفسير عبد بن حميد كما في الدر المنثور (13/ 51).
[6] تفسير السعدي، ص740.
[7] تفسير السعدي، ص146.

[8] تفسير الطبري (6/ 41).
[9] تفسير السعدي، ص974.
[10] تفسير ابن كثير (7/ 150).

[11] تفسير الطبري (20/ 282).
[12] تفسير الرازي (27/ 524).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 29-03-2025, 09:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان



نظرات في خواتيم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} في سورة الروم
الكاتب : أحمد محمد الكيلاني
(29)



خُتِمَتْ عدّة آيات في سورة الروم بقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ}، وهذه المقالة تسلّط الضوء على هذه الآيات الكريمة، وتبيّن بعض ما فيها من لطائف، وتنبّه على ما نبّهَت عليه من الأمور اللازمة للقيام بعملية التفكّر الحقّ في آيات الله -عزّ وجلّ-.
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: «إذا سمعتَ اللهَ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأَرْعِها سمعَك؛ فإنه خير يَأْمُر به أو شَرّ يَنْهَى عنه»[1]. وهذا القول يهدينا لقاعدة عامّة في تدبّر القرآن، وهي: أنّ كلّ آياتٍ القرآن
المشتركة في بداية أو في نهاية فهي مما خُصَّت بغرضٍ يستدعي التنبُّه له والتفكُّر فيه.
ونُسَلِّط تلك القاعدة على الآيات المختومة بقوله -سبحانه-: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ}، فنلاحظ بجلاء أنها اشتركَتْ في مقصد واحد وهو تنبيه العباد على عظيم خَلْق الله وتصرّفه وتدبيره للكون وموجوداته، مما يحثّ على مزيد من التفكُّر والتدبُّر في كلام الله -سبحانه- من جهة، وفي خلقه من جهة أخرى.

وفي هذه المقالة سنجتهد في تسليط الضوء على الآيات المتعاقبة في سورة الروم مما خُتِم بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ}، بحيث نبيّن ما فيها من لطائف وما نبّهت عليه من أمور لازمة للقيام بعملية التفكّر الحقّ. وسيأتي كلامنا مقسومًا لقسمين: أحدهما نعرض فيه الآيات، ونشير لبعض اللطائف المتعلّقة بها، معتمِدِين في ذلك على تفسير ابن عاشور بشكلٍ خاصّ؛ لِمَا له من عناية بعرضِ دقائق الآيات ومناسبات الألفاظ ومدلول كلّ منها، كما له بَاعٌ في اللغة عظيم يساعد على ما نحن بصدده من تفكّر وتأمّل. والثاني يُعَدُّ مولِجًا لما يُخْتَمُ به المقال من مناسبة ختم الآيات الشريفة بصفات مخصوصة، وما مدلولها، وكيف حَوَتْ أطوار التفكّر
الحقّ الهادي لليقين.
القسم الأول: خواتيم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} في سورة الروم؛ عرض وبيان:
1- قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الروم: 21].


سُبقت هذه الآية بقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ}[الروم: 20]؛ امتنانًا على البشر بنعمة الخَلْق والإنشاء، وحيث لم تُخْتَم بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ}، فلم نتعرَّض لتفسيرها لكونها خارجة عن حدّ المقال، ولكن إدراجها لبيان سياق الآيات التالية ووجوه المناسبة بينها.
ثم ثَنَّى ربُّنا -سبحانه- بعد نظام الخَلْق بنظام التزاوج والتناسل؛ وناسبَ ذِكْرُه بعد الخَلْقِ لأنه أساس بقائه.

وخُتِمَت الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}؛ لأن الناس لمّا اعتادوا هذا النَّسَق غفلوا عن الآيات المتضمّنة فيه، وهي: «أنْ جُعِلَ للإنسان ناموسُ التناسل، وأنْ جُعل تناسلُه بالتزاوج ولم يَجعله كتناسل النبات من نفسه، وأن جَعَل أزواجَ الإنسان من صِنفه ولم يَجعلها من صنف آخر؛ لأن التآنُس لا يحصل بصِنْف مخالِف، وأن جَعل في ذلك التزاوج أُنْسًا بين الزوجين ولم يجعله تزاوجًا عنيفًا أو مُهْلِكًا كتزاوج الضفادع، وأن جَعَل بين كلّ زوجين مودة ومحبّة، فالزوجان يكونان من قَبْلِ التزاوج متجاهِلَيْن فيصبحان بعد التزاوج متحابَّيْن، وأنْ جَعل بينهما رحمة، فهما قبل التزاوج لا عاطفة بينهما، فيصبحان بعده متراحمَيْن كرحمة الأبوّة
والأمومة»[2].
لذلك يأتي كثيرًا تذكيرُ الله -سبحانه- بنِعَمِه المعتادة على خَلْقِه لغفلتهم عنها، وكانت تلك النعم الدائمة أحقّ بالشُّكر من غيرها؛ ولمّا كان العبد لا يتنبّه لمثل هذا عُوتب بقوله: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، فمَنْ غفلَ عن تلك النعم كأنه عُدِم التفكُّر.

2- قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}[الروم: 22].

ابتدأتْ هذه الآية بخلق السماوات والأرض وليس هو المقصود، بل هي تمهيد لما بعدها من اختلاف ألوان الناس ولغاتهم؛ «إيماءً إلى انطواء أسباب الاختلاف في أسرار خلق السماوات والأرض... فاختلاف الألسنة سببه القرار بأوطان مختلفة متباعدة، واختلاف الألوان سببه اختلاف الجهات المسكونة من الأرض، واختلاف مُسَامَتَة أشعة الشمس لها؛ فهي من آثار خَلْق السماوات والأرض»[3].
وترتيب هذه الآية ناسبَ أن يُذْكَر بعد الآيتين السابقتين؛ حيث كانت الأُولى بيانًا لأحوال الإنسان الذاتية: خِلْقَتِه من تراب وهي ملازمة لكلّ الناس، ثم ذكر أحواله النسبية، فالزواج ملازم لطبيعة الإنسان إلا أنه قد يُفارق بعض الناس فلا يتزاوجون. والآية الثالثة ذُكر فيها أحواله العرضية الملازمة له؛ باختلاف الألسُن والألوان لأنها مكتسبة من طبيعة المكان[4].
وهنا نجد ختام الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}، أي: لأهل العلم، على ما قرأ حفص. وخُصّ أهلُ العلم في هذا الموضع؛ لأنّ آية اختلاف الفرع مع اتحاد الأصل أبهر، والله -سبحانه- يُشْهِدُ أهلَ العلم في
المُهمَّات، كما أشهدهم على وحدانيته وهي أعظم ما يُشْهَدُ عليه؛ إعلاءً لقدرهم ومنزلتهم، وهذا من ذاك.
وعلى قراءة الجمهور بفتح اللام {للعالَمين}، أي: لجميع الناس، فشابهت الآيةَ الأولى {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، من اعتياد الناس هذا النسقَ مِن الخَلْق فغفلوا عن تدبُّرِه وعن اعتباره آيةً من الآيات.
3- قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}[الروم: 23].

لمّا كان النوم من أحوال الإنسان العجيبة التي أودعها اللهُ فيه؛ إِذْ جعله اللهُ في نظامِ أعصاب دماغه يُعَطِّلُ بعض الحواس دون تعطيل مهام الجسد الرئيسة، ولكنه يقلّل من نشاطها إذا أُنهِكَ الجسدُ واعتراه الإعياء فيعتريه شبه موت يعطّل إدراكه حتى تمرّ فترة من الزمن يستكفي بها الجسد فيفيق نشطًا وقد عادت له حياته كاملةً؛ لمّا كانت الحالة كذلك ناسَب أن يمتنّ اللهُ بها على عباده في سياق تعداد النّعم حثًّا على التفكُّر.
وخُتِمَتْ هذه الآية بقوله سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}؛ خَصّ السّمع هنا في ختام الآية؛ لأنّ النوم يحُول دون الشعور بالمسموعات، قبل أن يحُول دون الشعور بالمبصرات، وطريق العلم بأحوال النائم
هو السمع حين يستيقظ، فخُصّ السمعُ لذلك؛ إقرارًا لليقظان بعجزه في نومه وتعطيل حاسّته التي يتمتع بها في يقظته، فأَوْلَى له أن يُعملها بالتدبّر في تلك الآيات الباهرات[5].

4- قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[الروم: 24].
وآية البرق آية غير متّصلة بالإنسان ولا من لوازمه؛ لكنها متعلّقة به لأن آلة إدراكها هي العين، وجاء ذِكْر البرق بعد تعداد النعم تهديدًا ووعيدًا، كأنّه -سبحانه- يتوعّد مَن حادَ عن الحقّ بعد تذكيره بكلّ ما سبق.

وأيضًا لِما في البرق من آية عجيبة؛ لاحتماله النّعمة والنّقمة، ويقذف في قلوب العباد الخوف من العذاب والطمع في الغيث.
وخُتِمَتْ هذه الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}؛ لأنه «نِيطَ الانتفاعُ بهذه الآيات بأصحاب صفة العقل؛ لأنّ العقل المستقيم غير المشوب بعاهة العناد والمكابرة كافٍ في فهمِ ما في تلك المذكورات من الدلائل والحِكَم»[6].

وهنا لفتة لطيفة: هي أنه -سبحانه- جعل إدراك البرقِ في الآية بالرؤية؛ لأنه لا يلزم من كلّ ذي بصر أن يكون ذا عقل.
القسم الثاني: خواتيم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} في سورة الروم؛ نظرات تحليلية:
قبل إلقاء الضوء على بعض النظرات التحليلية العامّة في خواتيم الآيات التي سبق الحديث عنها وعرضها، لا بد من التنبيه على عظيم مكانة التدبّر، ولا غرو فقد حَثَّ عليه القرآن العظيم في غير ما موضع، فقال -
سبحانه-: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[ص: 29]، وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[النساء: 82].

فكأنّ الغرض المقصود من العباد نحو هذا الكتاب العظيم هو فهمه وتدبّره، والتدبّر ألوان ودرجات؛ منها استنباط الفوائد واللطائف القرآنية، لكن وجب التنبيه أنّ التدبّر لا ينحصر في استخراج اللطائف، بل هو بابٌ واسعٌ، استنباطُ اللطائف فرعٌ عنه.
ومن المهم إعمال عقولنا في فهم الإشارات المبثوثة في الآيات، عسى الله أن يُنْفِذَ نور القرآن لعقولنا وقلوبنا، وهذا الفهم النوراني الذي نبتغيه هو ما عبّر عنه كعب بن مالك -رضي الله عنه- بقوله: «عليكم بالقرآن، فإنَّه فَهْمُ العقل، ونورُ الحُكْم، وأحدثُ الكُتُب عهدًا بالرحمن».
ومما يساعد على التدبّر وسرعة التنبّه إلى الإشارات اللطيفة؛ معرفةُ أنّ القرآن كلّه متّصل ببعضه أشدّ الصِّلة قال -تعالى-: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[هود: 1]، أي: «نُظِمَتْ نظمًا
محكَمًا لا يَلْحَقُها تناقضٌ ولا خَللٌ»[7]، وما كان كذلك فهو في إجماله مترابط متناسق. حتى قال البَقاعي -رحمه الله- في عرضه لتفسير سورة الناس ومناسباتها: «واتصالُها بالفاتحة كاتصالها بما قبلها بل أشدّ»!
وكلّ ما سُقناه يرشدنا إلى ترابط آي القرآن بعضها ببعض، وبهذا نَلِج لتحليل خواتيم آيات المقال فنقول: خُتمت الآيات السالفة بهذه الصفات الأربع: (الفكر - العلم - السمع - العقل)، وقد جاءت بهذا الترتيب لشيء مقصود، يرشدنا إليه سياق الآيات وغرضها؛ وهو التدبّر والتفكّر، ولمّا كانت آيات القرآن شديدة الاتصال ببعضها تنبهنا إلى اختصاص هذه الصفات بسياق الآيات لرابطة الحثّ على التفكر والتدبّر، وبيانه
ببيان أطوار التفكّر الحقّ الذي يهدي لليقين:
- التفكُّر والنظر أوّلُ عملية يقوم بها الإنسان فيما يَعْرِضُ له، وهذا تفكّر مبدئيّ يُحَلِّل به الإنسان ما يستجدّ عليه من أحداث ودعوات وكلام.
- فإنْ تفكَّر فيه أدركَه في نفسه وبانَت له ملابساته ودقائقه؛ كان عالمًا به على وجهه دون شبهات تَحُول بينه وبين حقيقته.

- فإنْ عَلِمَه سَمِعَ سَمْعَ عالمٍ واعٍ ممحِّصٍ متأمِّل، فالعلم أصلٌ للسمع، لا البصر؛ لذلك لم يُذكر البصر هنا في هذه الآيات، ولعلّ ما يؤيّده حكاية ربّنا عن قوم نوح: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي

آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}[نوح: 7].
فصكُّوا أسماعهم بادئ الأمر؛ لأنهم لم يستجيبوا لتفكُّرٍ ولا تأمُّل، فلم يعلموا حقيقة دعوة نوح -عليه السلام-، مما جعلهم لا يَقبلون السمع. وانصراف أنظارهم عنه مبالغة في الإعراض، وليس البصر وحده يفيد عِلمًا.

وكذلك قصة الطفيل بن عمرو الدوسي[8]، لمَّا لم يدرك دعوة النبيّ على وجهها، سدّ أذنيه لئلا يسمع قول النبيّ بتحريضٍ من قريش، فَهُمْ علموا عقل ذلك الرجل وخافوا أن يُعْمِل عقله فيتفكّر ويتأمّل، فلما رآه الطفيل يصلِّي عند الكعبة تفكّر في حاله فأدرك أنه ليس كذابًا، وعلم ذلك في نفسه بعقله، فتتبّع رسولَ الله ليسمع منه سماعَ مبتغٍ للحقّ، فلما مَرَّ بهذه الأطوار على وجهها أسلم -رضي الله عنه-.
- فإنْ فعَلَ ذلك عقلَ ما تفكّر فيه بنفسه وروحه فاستحال تفلُّته منه، فكلّ ذلك مفضٍ للعقل الصحيح السليم، وهذا هو مبلغ المرام، ولا يكون عاقلًا مَن أخلَّ بأحد هذه الثلاثة السابقة كائنًا مَن كان.

فتلك ثلاث مقدّمات تهدي إلى نتيجة؛ تفكُّر فعِلْم فسَمْع فعَقْل!
وهنا لفتة أخرى، أنّ المقدّمات الثلاث يجوز حملُ الآيات التي ذُكِرَتْ فيها على أنها مقدّمات أيضًا، فهي تعداد للنّعم، وتذكير لبني آدم بآلاء الله -سبحانه-؛ ثم مُعْرِضٌ ومؤمِن، خائف وطامع، فآية البرق نتيجة للمقدّمات السابقة، ولسان حال الآيات: مَنْ أقرّ بنعم الله -سبحانه- وشُكْرِها زاده اللهُ بغيثه، ومَنْ أعرضَ وتكبّر فجزاؤه قذفُ الخوف في قلبه وإنذاره بالعذاب.

وبما تبيَّن لا يخفى ما في سياق الآيات من مقابلة تقديرية بين الإيمان والكفر، والغيث والعذاب، نبهَتْنا إليه المقابلةُ اللفظية في قوله: {خَوْفًا وَطَمَعًا}[الروم: 24].
فاللهم نسألك ذِكْرَك وشُكْرَك وحُسْنَ عبادتك، واجعلنا من أهل القرآن فهمًا وعِلْمًا وعَملًا، واجعلنا ممن يُقيم حروفه وحدوده، والحمد لله، وهو المستعان.

[1] رواه ابن أبي حاتم، انظر تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ط. دار طيبة (2/ 6).
[2] التحرير والتنوير، ابن عاشور، ط. الدار التونسية (21/ 71).
[3] التحرير والتنوير، ابن عاشور (21/ 73).
[4] انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور (21/ 72-73).

[5] انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور (21/ 76).
[6] التحرير والتنوير، ابن عاشور (21/ 79).

[7] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ط. دار الكتب المصرية (9/ 2).
[8] انظر: دلائل النبوة، البيهقي، ط. دار الكتب العلمية (5/ 360) وما بعدها.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 271.50 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 265.61 كيلو بايت... تم توفير 5.89 كيلو بايت...بمعدل (2.17%)]