تفسير سورة النبأ - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         ما أسباب لزوجة اللعاب؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          ما هي أسباب انتفاخ اللهاة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          كيف تميز بين الزكام والحساسية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          علاج ألم الأسنان في المنزل: طرق وحلول سريعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          أشهر أطعمة غنية بالمعادن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          أبرز الفيتامينات والمعادن لصحة الفم والأسنان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          ماذا تعرف عن حاضنات الأطفال الرضع؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          تدليك بطن الرضيع للتخلص من الغازات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          نصائح لتخزين الطعام في الحروب والأزمات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          خروج دم مع البلغم: الأسباب وكيفية علاجه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 02-11-2024, 01:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,759
الدولة : Egypt
افتراضي تفسير سورة النبأ

سُورَةُ النَّبَإِ

يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف

سُورَةُ (النَّبَإِ): سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَهِيَ أَرْبَعُونَ آيَةً[1].

أَسْمَاءُ السُّورَةِ:
وَقَدْ ذُكِرَ مِنْ أَسْمَائِهَا: سَورَةُ (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ)، وَسُورَةُ (النَّبَأِ)، وَسُورَةُ (عَمَّ)، وَسُورَةُ (التَّسَاؤُلِ)، وَسُورَةُ (الْمُعْصِرَاتِ)[2].


الْمَقَاصِدُ الْعَامَّةُ لِلسُّورَةِ:
يُمْكِنُ إِجْمَالُ مَقَاصِدِ سُورَةِ (النَّبَأِ) فِي الْأُمُورِ التَّالِيَةِ[3]:
ذِكْرُ الْقِيَامَةِ وَبَعْضِ أَحْوَالِهَا.
كَيْفِيَّةُ النَّشْرِ وَالْبَعْثِ.
ذِكْرُ عَذَابِ الْعَاصِينَ، وَثَوَابِ الْمُطِيعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
حَالُ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.


شَرْحُ الْآيَاتِ:
قَوْلُهُ: ﴿ عَمَّ يَتَسَاءلُون ﴾، أي: عَنْ أَيِّ شَيْءٍ يَسْأَلُ هَؤُلَاءِ الْجَاحِدُونَ الْمُكَذِّبُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا[4].

قَوْلُهُ: ﴿ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيم ﴾، وَهُوَمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم الْمُشْتَمِلِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[5].

قَوْلُهُ: ﴿ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُون ﴾، أَيْ: مُنْقَسِمُونَ؛ فَبَعْضُهُمْ يَجْحَدُهُ وَآخَرُ يَرْتَابُ فِيهِ[6].

قَوْلُهُ: ﴿ كَلاَّ ﴾: كلمة رَدْعٌ وَزَجْرٌ، ﴿ سَيَعْلَمُون ﴾، أَيْ: سيعلمون مَا يَحِلُّ بِهِمْ عَلَى إنْكَارِهِمْ لَهُ[7]، وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ يَدُلُّ عَلَى أنَّ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ هُمُ الكُفَّارُ فَقَطْ[8].

قَوْلُهُ: ﴿ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُون ﴾، أَعَادَ الْجُمْلَةَ وَالْتَّهْدِيْدَ لِلْمُبَالَغَةِ في التَّأْكِيدِ، والتَّشْدِيدِ فِي الْوَعِيدِ[9].

ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى بَعْضَ مَظَاهِر ِقُدْرَتِهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَى خَلْقِهِ وَعِنَايَتِهِ بِمَصَالِحِهِمْ؛ فقال تعالى: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا ﴾... إلى قوله سبحانه: ﴿ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ﴾، وقد ذكر الله تعالى هذه النعم لِلِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ عَلَى أَمْرَيْنِ:

الأمر الْأَوَّلُ:اِسْتِحْقَاقُهُ وَحْدَهُ لِعِبَادَتِهِمْ.

الأمر الثَّانِي: قُدْرَتُهُ عَلَى بَعْثِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ.

قَوْلُهُ: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا ﴾، المهاد: الوطاء والفراش، أَيْ: جعلها مُمَهَّدَةً لَكُمْ كَالْفِرَاشِ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُون[سورة البقرة:22][10]، وَكما قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُون[سورة الذاريات:48]، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور[سورة الملك:15].

قَوْلُهُ: ﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾، الأوتاد: جمع وتد، وَالْوَتَدُ: عُودٌ غَلِيظٌ، أَسْفَلُهُ أَدَقُّ مِنْ أَعْلَاهُ يُدَقُّ فِي الْأَرْضِ لِتُشَدَّ بِهِ أَطْنَابُ الْخَيْمَةِ، والمعنى: وجعلنا الجبال أوتادًا تُثَبِّتُ الأَرْضَ حَتَّى لَا تَضْطَرِبَ وَتَمِيدَ كَمَا تُثَبِّتُ الْأَوْتَادُ الْخِيَامَ[11]، كَمَا قَاْل تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُون[سورة الأنبياء:31]، وَكما في قَوْلِهِ سبحانه: ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون[سورة الرعد:3].

قَوْلُهُ: ﴿ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ﴾، أَيْ: أَصْنَافًا؛ ذُكُورًا وَإِنَاثًا[12]؛ لِيَحْصُلَ الزَّوَاجُ، وَيَسْكُنَ كُلٌّ مِنْهُمَ إِلَى الْآخَرِ، وَتَكْونَ بينكما الْمَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ[13]، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون[سورة الروم:21][14].

قَوْلُهُ: ﴿ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ﴾، السُّبَاتُ: بِمَعْنَى: السَّبْتِ، وهو: الْقَطْع والسكون، أَيْ: وجَعَلْنَا نومكُمْ لكم قَطْعًا لِعَمَلِ الْجَسَدِ تهدؤون وتسكنون به؛ لأنه لا بد للبدن منه[15]، وهذا كَمَا قَالَ اللهُ: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا[سورة الفرقان:47][16].

قَوْلُهُ: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴾، أَيْ: وجَعَلْنَا اللَّيْلَ سَاتِرًا لَكُمْ بِظَلَامِهِ كَمَا يَسْتُرُكُمُ اللِّبَاسُ؛ كَمَا قَالَ اللهُ: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى[سورة الليل:1]، وكما قَالَ: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا[سورة الشمس:4][17].

قَوْلُهُ: ﴿ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴾، أَيْ: تُحَصِّلُونَ فِيهِ ما يَقُومُ بِهِ مَعَاشُكُمْ، وَمَا قَسَمَهُ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الرِّزْقِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا[سورة الفرقان:47]، أَيْ: يَنْتَشِرُ النَّاسُ فِيهِ لِمَعَايِشِهِمْ وَمَكَاسِبِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ[18].

قَوْلُهُ: ﴿ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا ﴾، أَيْ: سَبْعَ سَمَاوَاتٍ[19]؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا[سورة الطلاق:12]. ﴿ شِدَادًا ﴾، أَيْ: قَوِيَّةَ الْخَلْقِ، مُحْكَمَةَ الْبِنَاءِ، لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا مُرُورُ الدُّهُورِ[20]، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوج[سورة ق:6]، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُور[سورة الملك:3].

قَوْلُهُ: ﴿ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا ﴾، أَيْ: الشَّمْس الْمُنِيرَة. ﴿ وَهَّاجًا ﴾، ﴿ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ﴾ أي: وَقَّادًا مُضِيئًا[21]؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون[سورة يونس:5].

قَوْلُهُ: ﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ ﴾، أَيْ: مِنَ السُّحُبِ الْمُمْطِرَةِ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُون[سورة الروم:48][22]. ﴿ مَاء ثَجَّاجًا ﴾، أَيْ: مُنْصَبًّا بِكَثْرَةٍ وَغَزَارَةٍ[23].

قَوْلُهُ: ﴿ لِنُخْرِجَ بِهِ ﴾، أَيْ: لنخرج بِهذا الْمَاءِ. ﴿ حَبًّا ﴾، أي: مِمَّا يَقْتَاتُ بِهِ النَّاسُ كَالبُرِّ وَالشَّعِيرِ[24]، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُون ﴾ [سورة يس:33]. ﴿ وَنَبَاتًا ﴾، وَهُوَ الْكَلَأُ مِنَ الْحَشِيشِ والزُّرُوعِ مِمَّا تَأْكُلُهُ الْأَنْعَامُ[25].

وَقد جاءت الإشارة إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ بِقَوْلِهِ عز وجل: ﴿ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى[سورة طه:54][26].

قَوْلُهُ: ﴿ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ﴾، أَيْ: بَسَاتِينَ وَحَدَائِقَ مُلْتَفَّةً مُجْتَمِعَةً[27]، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون[سورة الرعد:4][28].

قَوْلُهُ: ﴿ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ﴾، أي: يوم الفصل بَيْنَ الْخَلَائِقِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ؛ كَانَ وَقْتًا وَمِيعَادًا مُحَدَّدًا لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ[29].

قَوْلُهُ: ﴿ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ﴾، أَيْ: يوم ينفخ فِيْ الْقَرْنِ الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ عليه السلام إِيذَانًا بِالبَعْثِ؛ فتأتون مِنْ قُبُورِكُمْ إِلَى أَرْضِ الْمَحْشَرِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ؛ أفواجًا: جَمَاعَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُون[سورة يس:51][30]، وَهَذِهِ هِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ[31]، وَالنَّفْخَةُ الْأُولَى نَفْخَةُ الْفَزَعِ وَالصَّعْقِ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُون[سورة الزمر:68][32]، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ»[33]، وَقَدْ سُئِلَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ مَعْنَى الْأَرْبَعِينَ فَأَبَى أَنْ يُحَدِّدَ، هَلْ هِيَ أَرْبَعُونَ سَنَةً، أَوْ أَرْبَعُونَ شَهْرًا، أَوْ أَرْبَعُونَ يَوْمًا.

قَوْلُهُ: ﴿ وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا ﴾، أَيْ: شُقِّقَتْ لِنُزُولِ الْمَلائِكَةِ؛ فكانت ذَاتَ أَبْوَابٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً[سورة الفرقان:25][34].

وَهَذَا الْفَتْحُ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تعالى: ﴿ إِذَا السَّمَاء انشَقَّت[سورة الانشقاق:1]، وَقَوْلِهِ: ﴿ إِذَا السَّمَاء انفَطَرَت[سورة الانفطار:1]، إذِ الْفَتْحُ وَالتَّشَقُّقُ وَالتَّفَطُّرُ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ[35].

قَوْلُهُ: ﴿ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ﴾، أَيْ: ذُهِبَ بِهَا عَنْ أَمَاكِنِهَا؛ حتى يَظُنُّ مَنْ يَراها مِنْ بُعْدٍ مَاءً، وَهُي فِي الْحَقِيقَةِ هَباءٌ[36]؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ[سورة النمل:88].

قَوْلُهُ: ﴿ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ﴾، أَيْ: مُعَدَّةً ومجهَّزة لَهُمْ، يُقَالُ: أَرْصَدْتُ لَهُ الشَّيْءَ: إِذَا أَعْدَدْتُهُ لَهُ[37].

قوله: ﴿ لِلْطَّاغِينَ مَآبًا ﴾، أَيْ: مَرْجِعًا وَمَأْوًى[38]، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [سورة النازعات:37-39][39].

قَوْلُهُ: ﴿ لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ﴾، أَيْ: مَاكِثينَ فِي جَهَنَّمَ دُهُورًا مُتَتابِعَةً لَا تَنْقَطِعُ، كُلَّمَا مَضَى حِقْبٌ جَاءَ بَعْدَهُ حِقْبٌ آخَرُ[40].

قَوْلُهُ: ﴿ لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا ﴾، أي: يُبْرِدُ جُلُودَهُمْ مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-، ولا يذوقون شرابًا طَيِّبًا يَتَلَذَّذُونَ بِهِ، وَيَدْفَعُ ظَمَأَهُمْ[41].

قَوْلُهُ: ﴿ إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ﴾، أَيْ: لَكِنْ يَذُوقُونَ مَاءً حَارًّا يَشْوِي الْوُجُوهَ مِنْ شِدَّةِ حَرَارَتِهِ[42]، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا[سورة الكهف:29]. ﴿ وَغَسَّاقًا ﴾، وَهُوَ مَا يَسِيلُ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ[43]، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيد * مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيد * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظ[سورة إبراهيم:15-17][44].

قَوْلُهُ: ﴿ جَزَاء وِفَاقًا ﴾، أي: وَإِنَّمَا اسْتَحَقُّواْ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ الْفَظيِعَةِ: جزاءً عَادِلًا مُوَافِقًا لِمَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا، وَالَّتِي مِنْ أَعْظَمِهَا الْكُفْرُ بِاللهِ وَإِنْكَارُ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ[45].

قَوْلُهُ: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا ﴾، أَيْ: لَا يَخَافُونَ وَلَا يَتَوَقَّعُونَ حسابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ[46].

قَوْلُهُ: ﴿ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا ﴾، أَيْ: كذبوا بِالْقُرْآنِ تَكْذِيبًا[47] وَاضِحًا صَرِيحًا.

قَوْلُهُ: ﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ﴾، أَيْ: مِنَ الْأَعْمَالِ ضَبَطْنَاهُ كَتْبًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِنُجازِيَ عَلَيْهِ[48]، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا[سورة الإسراء:14].

قَوْلُهُ: ﴿ فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا ﴾، أَيْ: فَيُقَالَ لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ وُقُوعِ الْعَذَابِ: ذُوقُواْ جَزَاءَكُمْ[49] فلن نزيدكم إلا عذابًا، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَشَّدِّ الْآيَاتِ عَلَى أَهْلِ النَّارِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-[50].

قَوْلُهُ: ﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ﴾، أي: إن للمتقين الَّذِينَ امْتَثَلُوا أَوَامِرَ اللهِ تَعَالَى وَاجْتَنَبُوا نَوَاهِيَهُ، مَكَانًا يَفُوزُونَ بِهِ، وَهُوَ الجَنَّةُ[51].

قَوْلُهُ: ﴿ حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ﴾، هنا بَيَّنَ الْمَفَازَ الذِيْ فِيْ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، فَقَالَ عز وجل: ﴿ حَدَائِقَ[52]، وَهِيَ البَسَاتِينُ العَظِيمَةُ وَالْمُتَنَوِّعَةُ مِنَ النَّخِيلِ وَغَيْرِهَا. ﴿ وَأَعْنَابًا ﴾: جَمْعُ عِنَبٍ، وَيُطْلَقُ عَلَى شَجَرَةِ الْكَرْمِ وَعَلَى ثَمَرِهَا[53].

قَوْلُهُ: ﴿ وَكَوَاعِبَ ﴾، أَيْ: نِساءً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، ثُدُيُّهُنَّ نَوَاهِدُ لَمْ يَتَدَلَّيْنَ؛ لِأَنَّهُنَّ أَبْكَارٌ. ﴿ أَتْرَابًا ﴾، أَيْ: فِي سِنٍّ وَاحِدَةٍ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِّأَصْحَابِ الْيَمِين[سورة الواقعة:35-38][54].

قَوْلُهُ: ﴿ وَكَأْسًا دِهَاقًا ﴾، أَيْ: مَمْلُوءَةً خَمْرًا صَافِيًا[55].

قَوْلُهُ: ﴿ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّابًا ﴾، أَيْ: لا يسمعون فِي الْجَنَّةِ ﴿ لَغْوًا ﴾ وهو الكَلَام البَاطِل كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا * إِلاَّ قِيلاً سَلاَمًا سَلاَمًا[سورة الواقعة:25-26][56]، ﴿ وَلاَ كِذَّابًا ﴾ أَيْ: ولا يُكْذِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا[57].

قَوْلُهُ: ﴿ جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا ﴾، أَيْ: جزاء لِأَهْلِ الْجَنَّةِ كَثِيرًا وَافِيًا؛ بِسَبَبِ تَقْوَاهُمْ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَعْطَانِي فَأَحْسَبَنِي، أَيْ: أَكْثَرَ عَلَيَّ حَتَى قُلْتُ: حَسْبِي[58].

قَوْلُهُ: ﴿ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ[59]، أَيْ: الَّذِي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُون[سورة الأعراف:156].

وَلَعَلَّ فِي ذِكْرِ هَذَا الِاسْمِ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ، إِذْ أَنْكَرُوا اسْمَ الرَّحْمَنِ الْوَارِدِ فِي الْقُرْآنِ،كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا[سورة الفرقان:60][60].

قَوْلُهُ: ﴿ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ﴾، أَيْ: لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ من الخلق أَنْ يُخَاطِبَهُ عز وجل إِلَّا بِإِذْنِهِ؛ خَوْفًا مِنْهُ وَإِجْلَالًا له؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيد[سورة هود:105][61].

قَوْلُهُ: ﴿ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ ﴾، أَيْ: جِبْرِيلُ عَلَى الْأَظْهَرِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ[62]؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ قَدْ وَصَفَهُ بِذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ؛ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْر[سورة القدر:4] ﴿ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ﴾، ﴿ صَفًّا ﴾ حال، أَيْ: مُصْطَفِّينَ خَاضِعِينَ[63]. ﴿ لاَّ يَتَكَلَّمُونَ ﴾، أَيْ: الْخَلْقُ فِي مَوْقِفِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ إِجْلالًا لِرَبِّهِمْ وَخُضُوعًا لَهُ[64]. ﴿ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ ﴾ فِي الْكَلِامِ، ﴿ وَقَالَ صَوَابًا ﴾، أي: وقال قَوْلًا حَقًّا وَسَدَادًا[65].

قَوْلُهُ: ﴿ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا ﴾، أي: ذلك اليوم الَّذِي لَا رَيْبَ فِي وُقُوعِهِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. ﴿ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا ﴾، أَيْ: مَرْجِعًا يَرْجِعُ إلَيْهِ بِالْعَمَلِ الصّالِحِ[66]؛ لِيَسْلَمَ مِنَ الْعَذَابِ[67]؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً[سورة الإنسان:29].

قَوْلُهُ: ﴿ إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا ﴾، أي: أنذرناكم أَيُّهَا النَّاسُ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ قَرِيبُ الْوُقُوعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَيَجِدُ الْإِنْسَانُ مَا قَدَّمَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ[68].

قَوْلُهُ: ﴿ إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ﴾، أي: يوم ينظر الإنسان عمله؛ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَاد[سورة آل عمران:30][69]، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه[سورة الزلزلة:7-8]، وَهَذَا فِيهِأَنَّ الْعَبْدَ يُجْزَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِعَمَلِهِ هُوَ، لَا بِعَمَلِ غَيْرِهِ. ﴿ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ﴾، أَيْ: ويقول الكافر إِذَا شَاهَدَ مَا أَعَدَّهُ اللهُ تَعَالَى لَهُ مِنَ الْعَذَابِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرابًا فِي الدُّنْيَا، فَلَمْ أُخْلَقْ وَلَمْ أُكَلَّفْ، أَوْ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرابًا فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَلَمْ أُبْعَثْ[70].

بَعْضُ الْفَوَائِدِ الْمُسْتَخْلَصَةِ مِنَ الْآيَاتِ:
الإشارة إلى عَظَمَة شَأْنِ الْمَسْؤُولِ عَنْهُ في أول السورة:
في قوله تعالى: ﴿ عَمَّ يَتَسَاءلُون ﴾، وهو: مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌصلى الله عليه وسلم من التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وغيره؛ وَذَلِكَ بِسَبَبِ إِبْهَامِ أَمْرِهْ، وَتَوْجِيهِ أَذْهَانِ السَّامِعِينَ نَحْوَهُ، وَتَنزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ الْمُسْتَفْهِمِينَ، وَإِيرَادِهِ عَلَى طرِيقَةِ الاسْتِفْهَامِ مِنَ اللهِ، وَهَذَا كُلُّهُ يَسْتَدْعِي أَنْ يُعْتَنَى بِمَعْرِفَتِهِ وَيُسْأَلَ عَنْهُ[71].

بيان الاخْتِلَاف بين أَهْل الْبَاطِلِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُون ﴾: بَيَّنَ الله أَنَّ الْمُخَالِفِينَ لِلرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ مخُتَلِفُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلَيْسُوا عَلَى قَلْبٍ وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيد[سورة البقرة:176]؛ فَمَنْ خَالَفُوا الْحَقَّ تَجِدُهُمْ فِرَقًا وَشِيَعًا وَأَحْزَابًا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ، أَمَّا البَاطِلُ فَشُعَبٌ وَظُلُمَاتٌ، وَاللهُ تَعَالَى دَائِمًا يُوَحِّدُ الْحَقَّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون[سورة الأنعام:153].

جَوَازُ اسْتِعْمَالِ أُسْلوبِ التَّهْديدِ فِي الْوَعْظِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ كَلاَّ سَيَعْلَمُون * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُون ﴾: دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ أُسْلُوبِ التَّهْدِيدِ فِي الْمَوَاعِظِ وَغَيْرِهَا.

اسْتِعْمَالُ أُسْلُوبِ التَّكْرَارِ لِلتَّهْدِيدِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:: ﴿ كَلاَّ سَيَعْلَمُون * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُون ﴾ تَكْرَارٌ فِي التَّهْدِيدِ، وَالعَرَبُ مَتَى تَهَمَّمَتْ بشَيْءٍ أَرَادَتْهُ لِتَحَقُّقِهِ وَقُرْبِ وُقُوعِهِ، أَوْ قَصَدَتِ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ؛ كَرَّرَتْهُ تَوْكيدًا، وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّر * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّر[سورة المدثر:19-20]، وَقَوْلُهُ: ﴿ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى[سورة القيامة:34-35]، وَمِنْهُ: ﴿ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِين[سورة التكاثر:6-7]، وَالِإنْسَانُ مَجْبُولٌ مِنَ الطَّبَائِعِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَكُلُّهَا دَاعِيَةٌ إِلَى الشَّهَوَاتِ، وَلَا يَقْمَعُ ذَلِكَ إِلَّا تَكْرَارُ الْمَوَاعِظِ وَالْقَوَارِعِ[72].

الرَّدُّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ كَلاَّ سَيَعْلَمُون * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُون ﴾: رَدٌّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ وَلِهَذَا جَاءَتْ بِأُسْلُوبِ الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ الْقَوِيِّ، وَأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ الْحَقِيقَةَ عِنْدَمَا يُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ[73]، وقد ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى أَدِلَّةً تِسْعَةً عَلَى قُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وكأنه يقول: إن مَنْ قَدَرَ عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ قَادِرٌ عَلَى الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، فَمَا الْبَعْثُ وَالنُّشُورُ بِشَيْءٍ أَمَامَ هَذِهِ الْآيَاتِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا[سورة النبأ:17].

الدَّعْوَةُ إِلى التَّفَكُّرِ فِي آيَاتِ اللهِ الْكَوْنِيَّةِ:
من تأمل في هَذِهِ السُّورَةُ وجدها مَلِيئَةً بِالآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الدَّعْوَةُ إِلَى التَّفَكُّرِ فِي آيَاتِ اللهِ الْكَوْنِيَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا[سورة النبأ:6]، فهَذِهِ تُعَدُّ مِنَ الآيَاتِ الْعَظِيمَةِ؛ حَيْثُ مَهَّدَ اللهُ لِعِبَادِهِ السَّيْرَ عَلَى الأَرْضِ[74]، وَمن ذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾ ؛ فهُنَا حَدَّثَ اللهُ عِبَادَهُ عَنْ نِعْمَةِ الجِبَالِ، وأنها بِمَثَابَةِ الْوَتدِ الَّذِي يُثبِّتُ الْأَرْضَ حَتَى لَا تَهْتَزَّ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا[سورة الرعد:3]، وَقَالَ: ﴿ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُون[سورة النحل:15].

ذكر أن التَّزَاوُج فِي الْكَوْنِ مِنْ سُنَنِ اللهِ الْكَوْنِيَّةِ:
في قوله تعالى: ﴿ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ﴾: أن الله تعالى يزاوج بَيْنَ الذَّكَر وَالأُنْثَى، ويَجْعَل بَيْنَهُمَا السَّكِينَةَ والْمُتْعَةَ وَالتَّكَامُلَ، فَلَا يَسْتَغْنِي أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ الاِسْتِقْرَارُ الاِجْتِمَاعِيُّ وَالتَّنَاسُلُ الَّذِي تَسْتَمِرُّ بِهِ الْحَيَاةُ، قَالَ اللهُ: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون[سورة الروم:21].


يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 182.99 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 181.27 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (0.94%)]