|
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() ثم يَمضي متمدحًا بما اكتسَبه من تجارب الحياة، أو كما يُسميها هو (الآداب التي أخذها من غير الدهر)،فهذه التجارب تَمنعه أن ينخدعَ بهذه العودة؛ لأنه حريص على سُمعته، لا يحب أن يَلوكَ الناسَ سيرته ويَسخروا منه مِن خلف ظهره، بوصفه الرجلَ الذي تلقَّى طعنةَ الخيانة، ثم لم يجد غَضاضةً في أن يعاشر مِن جديد مَن طَعَنَتْه وأذلَّتْ كبرياءَه، وقضتْ على كرامته! خِفْتُ مأثورَ الحديثِ غدًا *** وغدٌ أَدْنَى لمُنتظِرِه وما أجمل قوله: (وغدٌ أَدنى لمنتظرِه)، وما فيه من إشارة إلى أن أَلسِنةَ الناس مُشرعة دومًا لِلَوْكِ سيرة مَن لا يحافظ على كرامته! فما أسرعَ أن يكون مُضغةً في الأفواه!وإذا كانت هذه الصديقة قد حاولت أن تَجعله يَصفَح عن خيانتها، فأخذتْ تتودَّد إليه، لعله ينسى الماضي ويبدأ صفحةً جديدة، فإنه قد نفَض يده تمامًا منها، وها هو يَلمِزُها: فاتَّصلْ إن كنتَ متصلًا *** بِقُوى مَن أنتَ مِن وَطَرِه فكأنه يقول لها: (إن كنتِ تريدين حبيبًا، فابحثي لك عن إنسان آخر غيري يوافق طبعُه طبعَكِ، أما ما كان بيننا فيَجدُر بكِ أن تَنسيه نسيانًا تامًّا)! ثم يتحول إلى نفسه فيُنحي عليها باللائمة وهو يَعَضُّ بَنان الندمِ؛ إذ كيف تَخدَعه مثل هذه المرأة وتنال منه غِرَّةً؟! لقد راح - كما نقول الآن: - في سابع نومة، فطعَنته الطعنةَ النَّجلاء، إن الذنبَ ذنبه هو، ولذلك فهو يدعو على نفسه بالخيبة والخسران:خابَ مَن أَسْرى إلى بلدٍ *** غيرُ معْلومٍ مدى سَفَرِه مصورًا هذه العلاقة التي كانت تَربِطه بصديقته الغادرة على أنها كانت سفرًا مجهول الغاية، تَمَّ في ظلام الليل، وفضلًا عن ذلك فهو لم يأخذ في أثناء ذلك حِذْرَه، فأسلم عينيه للنوم يُرنِّقُ فيهما، وتأمَّلْ جمالَ البيت التالي:وسَدَتْهُ ثِنْيَ ساعدِه *** سِنَةٌ حَلَّتْ إلى شُفُرِه وكيف يصوِّر الشاعر فيه دبيبَ النعاس في أعضائه عضوًا بعد آخر، حتى ينتهي إلى أشفار عينيه، فيُطبق جفونه ويُوسِّد رأسَه ذراعَه المَثْنِية.أما في القسم الثاني، فإن الشاعر يُخصصه لاستعراض بعض تجاربه في الحياة استعراضًا خاطفًا، ليس فيه حرارة ولا تعمُّق، وكأنه قائمة برؤوس موضوعات سوف يتناولها فيما بعدُ، مخصصًا لكلِّ تجربة من هذه التجارب بيتين، فهو كثيرًا ما سهِر ونام أصدقاؤه وبقِي هو يَحرُسهم، وهو أيضًا على كتمان مشاعره ومُصانعةِ مُبغضِه جِدُّ قديرٍ، وهو كثيرًا ما ذاق حلاوة الحب فنونًا وألوانًا، ترى أهو يريد أن يقول: إنه إذا كان قد سها وترك عينيه للنوم، فتلقَّى الطعنةَ المُصْمِيَةَ، فإن ذلك لم يكن مِن طبعه وهو الحَذِرُ الذي لا ينام عادةً وإن نام غيرُه؟! تُرى أهو كذلك يريد أن يقول: إنه إذا كان قد ابتلع سخطه، فليس معنى ذلك أن كَسْبَ رضاه بالشيء السهل الهيِّن؟! أتُراه أيضًا يريد أن يقول: إنه إذا كانت هذه المرأة قد خانتْه، فكم من نساء أعطينَه أنفسَهنَّ ولَم يَتَأَبَّيْنَ عليه، فكانت علاقته بهنَّ صفوًا متصلًا وسعادةً غامرةً؟! إننا لا نستطيع الجواب على هذه الأسئلة، بل الحق أن في هذه الأسئلة شيئًا غير قليل مِن التكلف؛ إذ إن الشاعر يستعرض - كما سلف القول - تجارِبَه هذه استعراضًا باهتًا. أما في الحديث عن رحلته، فإنه يفصِّل القول في وصف حصانه، فهو حصان قوي، عَبْلُ الجسد، ضامر الخاصرتين، يُفرز مِن شِدقيه زَبَدًا يَكسو منه العُثنون والمِنخرين وعَظْمَ الحاجبين، ثم تُطيِّره بعد ذلك الريحُ كما تُطير المِنْدفة نُتَفَ القطن الأبيض في الهواء، وهو كما ترى وصفٌ مفصَّلٌ، لكنه يَفتقر إلى الهدف وإلى الجمال! أما القسم الثالث، وهو القسم الذي خصَّصه لمنافقة ممدوحه على عادة كثيرٍ من الشعراء في تلك العصور، فإن معانيه تَخلو من الأصالة، اللهم إلا بعض اللمحات الجزئية؛ كقوله يَصِف حرَّ وطيس الحرب: وإذا مَجَّ القَنا عَلَقًا *** وتَرَاءَى الموتُ في صُوَرِه فالقَنا هنا لا تتلطَّخ بدماء الأعداء، بل تَمُجُّ الدم من أحشائها وأفواهها، فأي رماح هذه! والموت يتجسَّم أمام العين تجسمًا؛ كالغول تتراءى في صور مختلفة تُخبِّل العيون والعقولَ! كذلك لا تَخلو صورة الأشراف الذين أسَرهم الممدوح في حربه مع أعدائه من شيء - وإن كان طفيفًا - من قوة التأثير: وتَرى السادات ماثلةً ![]() لسليلِ الشمس مِن قَمَرِه ![]() فَهُمُ شَتَّى ظنونُهُمُ ![]() حَذَرَ المكْنونِ من فِكَرِه ![]() ومَبعث هذه القوة أنه لا يُحدثنا صراحة عن ذِلَّتهم وضَراعتهم، ولكننا نَفهَم هذا مِن تصويره إياهم، وقد مثَلوا أمام ممدوحه صامتين لا يَنبِسون ببنت شَفةٍ، كما نفهَم أنهم قد خَرِستْ منهم الألسنُ من قوله: (فهمُ شتَّى ظنونُهم)، فإن ظنونَهم تَشغلهم عن كل كلام؛ إذ يستغرقهم تمامًا التفكير فيما ينتظرهم على يديه مِن مصير أسود، وهو مِن جهته يَحتقرهم ويَزيد عذابهم بالصمت والتعالي، ومع ذلك فإن قوله عن هذا الممدوح في أثناء ذلك: ......................... ![]() لسليلِ الشمس من قَمَرِه ![]() وكريمُ الخالِ مِن يَمَنٍ ![]() وكريمُ العمِّ مِن مُضَرِه ![]() هو السُّخْف بعينه، إذ ما صِلتُه بموقف الرهبة والفزع الذي يَقفه هؤلاء الأشراف الذين أسرَهم؟! قد يَصلُح هذا الكلام في وصف فتاة تتزوج، فيقال: إنها سليلة الشمس والقمر! ومثلُه في السُّخف، بل أسخفُ منه: قوله عن هذا الممدوح قبل ذلك: إن (رسول الله مِن نَفَرِه)،وكأن الممدوح هو الأصل، والرسولعليه السلام مجرد واحد من الفروع التابعة له، إن هذه قلةُ أدبٍ، ولكن قاتَل الله النفاق والمنافقين ومَن يُصغون إليهم! أما قوله عن ممدوحه: فاسْلُ عن نَوْءٍ تُؤمِّلُهُ ![]() حَسْبُكَ العبَّاسُ مِنْ مَطَرِه ![]() مَلِكٌ قَلَّ الشبيهُ لَهُ ![]() لم تَقَعْ عَينٌ على خَطَرِه ![]() لا تُغَطَّى عنه مَكْرُمةٌ ![]() برُبا وادٍ ولا خَمَرِه ![]() فهو كلام لا يساوي ثَمَنَ الحِبر الذي كُتِب به؛ لأنه مجرَّد كلام مرصوفٍ قد صدَر عن قلبٍ ميتٍ!
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |