استدعاء ذاكرة وتجربة ودروس يبنى بها وعليها للمستقبل - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         روائع قرآنية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 28 - عددالزوار : 155 )           »          ‏تأملات في آيتين عجيبتين في كتاب الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          الكلمة الطيِّبة (لا إله إلا الله ) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          أسد بن الفرات بن سنان رحمة الله فاتح صقلية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          صدق الله فصدقه الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          لماذا التأريخ بالهجرة لا بغيرها؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          الهجرة النبويّة فن التخطيط والإعداد وبراعة الأخذ بالأسباب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          معاهدة محمد الثالث مع ملك فرنسا لويس الخامس عشر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          أمية بن أبي الصلت الداني (460-529هـ/1067-1134م) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          فرق كبير بين الصالح والمصلح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 22-03-2023, 06:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: استدعاء ذاكرة وتجربة ودروس يبنى بها وعليها للمستقبل



إلا أن إمهالهم في الفترة المكيَّة وهم سادرون في الغيِّ والعتوِّ والتحدِّي لا يعني أنهم لا يستحقُّون العذاب، وإنما هو تأجيل له إلى حين، وتأجيله ليس إلغاء له؛ ولذلك عقب الحق عز وجل بقوله:﴿ وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ ﴾ [الأنفال: 34]، ولماذا لا يعذبون بما فعلوا، ويفعلون بعد خروجك من بينهم ﴿ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ [الأنفال: 34]، وهم يصادرون حرية العبادة في البيت الحرام، فيسمحون بدخوله لمن شاؤوا، ويردون عنه مَنْ شاؤوا، ويمنعون المؤمنينَ من الحج والعمرة فيه، مثلما كان عام الحديبية؛ إذ صدُّوا الرسول صلى الله عليه وسلم عنه ومنعوه العمرة، وقال في ذلك الحق سبحانه: ﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ﴾ [الفتح: 25]، ثم وكتاب صلح الحديبية بينه وبينهم يكتبه عليٌّ رضي الله عنه حاولوا الغدر به وخيانته فيما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه: (أَنَّ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، هَبَطُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ مُتسلِّحين يريدون غِرَّة النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فأُخِذُوا سِلْمًا فاستحياهم، وأنزل اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الفتح: 24]، وما رواه عبدالله بن مُغفَّل المُزَني قال: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى في القرآن[8]، على ظَهْرِهِ غُصْنٌ مِنْ أَغْصَانِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ فَرَفَعْتُهُ عَنْ ظَهْرِهِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَيْنَ يَدَيْهِ يَكْتُبُ كِتَابَ الصُّلْحِ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا ثَلَاثُونَ شَابًّا عَلَيْهِمُ السِّلَاحُ فَثَارُوا فِي وُجُوهِنَا، فَدَعَا عَلَيْهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ اللَّهُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُمْنَا إِلَيْهِمْ فَأَخَذْنَاهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جِئْتُمْ في عهد أو جَعَلَ لَكُمْ أَحَدٌ أَمَانًا؟ فَقَالُوا: اللَّهُمَّ لَا، فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ.

إنهم يتصرفون في البيت الحرام تصرف المالك، ويستبدون به ويتولون أمره غلابًا ﴿ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ ﴾ [الأنفال: 34]؛ أي: وليست لهم أي ولاية شرعية عليه أو ملكية له أو أهلية لخدمته صيانة أو تطهيرًا أو تسخيرًا لما أسس له، أو قدرة على حماية زوَّاره من الطائفين والركَّع السجود أو جعله مثابة للناس وأمنًا كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [البقرة: 125]، لا سيَّما وقد خصَّ الله تعالى ولاية هذا البيت بالصالحين والأتقياء من عباده، فقال: ﴿ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ ﴾ [الأنفال: 34]، الذين يتَّقون الله ويحذرون يوم الدين حسابًا وجزاءً، فلا يؤذون مَنْ أمَّه ولا يمنعون طائفًا حوله أو عاكفًا فيه أو مصليًا به أو زائرًا له ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 131]؛ ولكن أكثر المشركين المتصدِّرين لاحتكار خدمة البيت ورعايته واستقبال زوَّاره وحُجَّاجه يجهلون هذه الأحكام التي تقررت لبيـت الله الحرام منذ أسَّسَه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام، وأول هذه الأحكام أن أعظم الإثم أن يُحال بين الناس وبين العبادة فيه، أو يترك للخراب بإهمال صيانته، كما قال عز وجل:﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ﴾ [البقرة: 114]؛ أي: لا أشد ظُلمًا ممَّن يحول بين العباد وبين المساجد التي أُقيمت لعبادة الله، سواء كانت لليهودية قبل أن تنسخ، أو للنصرانية قبل أن تنسخ أو عند بعثة محمد صلى الله عليه وسلم التي نُسِخت جميع ما كان قبلها.

والآية الكريمة بذلك رَدٌّ على ما كان مشركو قريش يزعمونه لأنفسهم؛ إذ يقولون: نحن ولاة البيت الحرام نصُدُّ مَنْ نشاء ونُدخل من نشاء، وبيان بعدها لمن يستحقُّون الولاية عليه وهم المسلمون الذين يخافون الله في السِّرِّ والعَلَن، يقيمونه على ما أُقيم له وعليه أول أمره، أمنًا وبرًّا وتوحيدًا وعبادةً ﴿ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [البقرة: 125].

ثم وصف الوحي الحكيم حقيقة ادِّعائهم التديُّن، فقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ﴾ [الأنفال: 35]؛ أي: وما كان ادِّعاؤهم العبادة بالطواف حول الكعبة والصلاة في الحرم إلا مكاء وتصدية، والمكاء: من مكا يمكو مكاء، على وزن فُعال، كثغا يثغو ثُغاءً، ورغا رُغَاءً، أصل صحيح هو الصفير بالفم، وقيل: هو أن يجمع المرء بين أصابع يديه في فَمِه ثم يصفر فيها، أمَّا التصدية فمن الصد وهو المنع؛ أي: منع الناس من الإيمان، أو من "صدا" الصوت يصدو: إذا رجع، كما يحدث عند الصياح في الأماكن غير المأهولة كهوفًا ومنازل مهجورة، وصدى تصدية للمبالغة في الصياح وإحداث جلبة وصدى أقوى، كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ﴾ [الزخرف: 57]، في قراءة من كَسَر الصَّادَ فقال: ﴿ يَصِدُّونَ ﴾؛ أي: يضجون.

لقد وصف الوحي الكريم عبادة المشركين بعدم مماثلتها للعبادة الشرعية مطلقًا، وإنما هي مجرد لعب وجلبة وضجيج وضوضاء، والآية الكريمة بذلك تذكِّر أيضًا بما عاناه الرسول صلى الله عليه وسلم من مِحَن في العهد المكي، كي يتَّخذ أُسوةً في الصبر والإصرار على التبليغ، وكان صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إذا قام للصلاة في الحرم وقف على يمينه مشرك يصفر، وعن يساره آخر يصفق ويصيح؛ كي يشاغبوا على صلاته وقراءته؛ خشية أن يسمعها مَنْ في الحَرَم فيتأثَّروا بها أو يؤمنوا، ثم عقب بتهديدهم بهزائم أخرى بعد بَدْر تنالهم وتستأصلهم، وعذاب في الآخرة إذا ما أصرُّوا على العدوان والشرك، فقال تعالى: ﴿ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ [الأنفال: 35]؛ أي: تجرَّعوا آلام القتل وذِلَّة الأسر ومحنة الهزيمة التي نزلت بكم في بَدْر، وانتظروا عذاب الآخرة بإصراركم على الكُفْر.

ثم تهديدًا لأبي سفيان ورهطه، وكانوا عقب هزيمتهم في بَدْر يعدون لعدوان جديد على المسلمين بجمع الأموال وإعداد السلاح وتدريب الرجال، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وهم المشركون في مكَّة بقيادة أبي سفيان ﴿ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الأنفال: 36]، يجمعون الأموال لينفقوها في الصَّدِّ عن الإيمان والتحريض على حرب المسلمين والزجر عن اتِّباع الحق، في إشارة إلى قول أبي سفيان عن عِيرهم الذي لم يدركه المسلمون، وعاد إلى مكة بتجارتهم سالمة: "نعين بهذا المال على حرب محمدٍ، لعلَّنا ندرك منه ثأرنا، وإلى ندائه في قريش قائلًا: "يا معشر قريش، إنَّ محمدًا قد وتركم – أي: نقصكم - وقتل رجالكم، فأعينونا بهذا المال على حَرْبه، لعلنا ندرك منه ثأرًا"، وما فعله إذ استأجر ليوم أُحُد ألفين من العرب من مختلف القبائل، وأنفق عليهم أربعين أوقية ذهبًا، والأوقية أربعون مثقالًا، والمثقال: أربعة جرامات وربع، ﴿ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ﴾ [الأنفال: 36]، وقد أنفقوها فعلًا بعد بدر في حروبهم المتوالية على المسلمين عدوانًا وظُلْمًا، فباؤوا بالهزائم، وكانت عليهم في نهاية المطاف حسرةً ومرارةً وندمًا بفتح مكة ووقوع أبي سفيان ورهطه في الأَسْر، ثم بالعفو عنهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" [9]،﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 36]؛ أي: والذين أصرُّوا منهم على الكُفْر وماتوا عليه أو قتلوا عليه مصيرهم الحشر في النار.

ثم بيَّن عز جل حكمته في قدره وسننه وما يجريه في خلقه وقال: ﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ [الأنفال: 37]، واللام في قوله تعالى: ﴿ لِيَمِيزَ ﴾ حرف تعليل، والفعل "يميز" منصوب بأن المضمرة في الفعل، والميم والياء والزاي فيه أصل صحيح من المَيْز، وهو فرز شيء عن شيء، تقول: مِزْت الشيءَ أميزه مَيْزًا وميَّزته تمييزًا؛ أي: عزلته عن غيره وفرزته، كما في قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ [آل عمران: 179]، وقراءة الجمهور فيها: ﴿ لِيَمِيزَ، بالتخفيف: أمَّا حمزة والكسائي فقراءتهما: ﴿ يُمَيِّزَ ﴾ بالتشديد من "التمييز".

ولفظ "الخبيث" في الآية الكريمة من فعل "خبُث" وحروف "الخاء والباء والثاء" فيه أصل واحد يدل على فساد في الطَّعْم أو الرائحة أو الجوهر، فيقال: خبُث الشيء أو المرء خبثًا وخباثة: إذا فسد ولم يعد صالحًا للاستعمال أو المعاملة، وهو خبيث: إذا صار ذا خبث، فإن صاحب الخبثاء فهو مُخْبِث، أما لفظ: "الطيب" فمن أصل واحد هو الطاء والياء والباء ويدل على خلاف الخبيث، والطيب والطاب: هو الحلال وما تستطيبه النفس، وتركن إليه من المباح والعمل الطيب، والكلم الطيب: ما كان مريحًا للنفس حسنًا مفيدًا غير ضار، أو كان عبادة خالصة لله، كما قال تعالى: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ [فاطر: 10]، وقال عز وجل: ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ﴾ [الأعراف: 58]، وقوله تعالى: ﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ [الأنفال: 37]؛ أي: ليعزل أصحاب النوايا الخبيثة والأقوال الخبيثة والأعمال الخبيثة عن غيرهم من طيبي النوايا والأقوال والأعمال ﴿ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا ﴾ [الأنفال: 37]، يجمع الخبثاء والمخبثين ذكورًا وإناثًا ويراكمهم على بعضهم جميعًا ﴿ فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ﴾ [الأنفال: 37]، ثم يرميهم حطبًا لجهنم ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأنفال: 37]، الذين لم يكسبوا خيرًا في الدنيا وخسروا الجنة في الآخرة، فأدخلوا النار.

وإذْ بيَّن عز وجل مآل الخبث والمخبثين فتح بابًا من اللُّطف والرحمة والتوبة يَلِجُه منهم مَنْ سبقت له من الله الحسنى، فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ ﴾ [الأنفال: 38]، يا محمد﴿ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [الأنفال: 38]، مِشركي قريش الذين يجيِّشون لحربكم بقيادة أبي سفيان، ولجميع الكفرة الذين يبيتون العداوة للمسلمين في كل عصر ومصر: ﴿ إِنْ يَنْتَهُوا ﴾ [الأنفال: 38]، عن الشرك والكفر والعدوان ﴿ يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ [الأنفال: 38]، يغفر الله لهم ما ارتكبوه فيما مضى كما قال تعالى أيضًا: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 89]، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ، لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ، أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِر) ﴿ وَإِنْ يَعُودُوا ﴾ [الأنفال: 38]، للعدوان ويصرُّوا على الكُفْر ﴿ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الأنفال: 38]، فإنَّ سُنَّة الله الجارية في تدمير مَنْ سَبَق من أقوام الكُفْر معروفة لم تنقطع، وقد تجري عليهم أيضًا، في تذكير بما أصاب المشركين في بَدْر، وتحذير خفي أيضًا للمسلمين المنتصرين من الركون إلى الراحة ولذاذة النصر والمكاسب، أو العودة إلى ما ارتكبوه من تردُّد وجدل عندما دعوا للخروج أول مرة للجهاد، وعندما اختلفوا في قسمة الغنائم؛ ولذلك أكَّد الحق تعالى هذا التحذير بأمر حاسم حازم باتٍّ غير قابل للمراجعة أو المجادلة أو التردُّد، فقال: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ ﴾ [الأنفال: 39]؛ أي: وقاتلوا مشركي قريش الذين يُعِدون لكم ويجيشون للهجوم عليكم ﴿ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ [الأنفال: 39]، حتى لا تنهزموا فيفتن فيكم ضعاف الإيمان، في إشارة إلى ما ينويه ويعد له أبو سفيان من غزو للمدينة عند جبل أُحُد، وإثارة للفتن بالشائعات والمؤامرات بين المسلمين وحولهم وفي طريقهم ﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39]، وكي يبقى دينكم عاليًا مستعليًا خالصًا لله وحده لا شريك له ﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا ﴾ [الأنفال: 39]، عن الكفر والعدوان ودخلوا في الإسلام ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 39]، يرصد نواياهم وأقوالهم وأعمالهم، ويجزيهم بها، وسنته في الذين من قبلهم ومن بعدهم سائرة إلى يوم القيامة ﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾ [الأنفال: 40]، وإن أعرضوا عن دعوة الإسلام وأصرُّوا على محاربة أهله ومحاولة استئصالهم ﴿ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ ﴾ [الأنفال: 40]، فتأكَّدوا أن الله تعالى كفيل بنصركم ﴿ نِعْمَ الْمَوْلَى ﴾ [الأنفال: 40]، هو خير حسيب وكافٍ وكفيل ﴿ وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الأنفال: 40]، وهو خير ناصر ومعين.

لقد ذكَّر الله عز وجل المؤمنين أنصارًا ومهاجرين في هذه الآيات الكريمة بشدة مكر أعدائهم وحَرَدِ عداوتهم، وحرصهم على تصفية الدعوة الإسلامية كتاِبها والمبعوثِ بها والمؤمنين بها، وقد بلغ من إصرارهم على العداوة أن استطابوا في سبيل ذلك العذابَ وأن يُرجَمُوا بالحجارة من السماء كما رجم قوم لوط.

ثم بيَّن لهم فيها سبحانه مراده ووعده في أن يميِّز على أيديهم من بين المشركين الطيب القابل للانصلاح، من الخبيث المصر المركوم في النار، وختمها بدعوة صريحة إلى تهيئة الصف لقتالٍ غايته دفع الفتن عن المجتمع المسلم الجديد، كي يكون الدين لله قائمًا عزيزًا، وكأن هذه الآيات في جوهرها تحذير من شَرٍّ قادمٍ، ونذير خطر وشيك مُباغِت، يوجب الإعداد التام نفسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وحربيًّا لمواجهته ودفعه، وترسيخ لتشريع حربي إلهي فصلته سورة الأنفال في ثناياها يجب الالتزام به، وأكَّدت الأحداث بعدها ضرورة استيعابه وضرر مخالفته، في أول تجربة بأُحُد، بعد سنة واحدة فقط[10] من نزول دروس سورة الأنفال الدقيقة المتوازنة، وتجربة انتصارات غزوة بدر الباهرة.

الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي الحسني الهاشمي.

لندن في يوم الاثنين سادس شعبان 1444 من الهجرة الشريفة على صاحبها أفضل السلام وأزكى التسليم، وعلى آله وأصحابه الميامين.


[1] يحيى بن وثاب الأسدي الكاهلي الكوفي، والده وثاب بزدويه بن ماهويه، سباه مجاشع بن مسعود السلمي من قاشان إذ افتتحها، ثم وقع في سهم عبدالله بن عباس، فسمَّاه وثابًا، وتزوَّج فولد له يحيى، ولما شبَّ يحيى عن الطوق آثر العلم وتلا القرآن على أصحاب علي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود حتى صار أقرأ أهل زمانه، وروى الحديث عن عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر والأسود بن يزيد النخعي وزِرِّ بن حبيش الأسدي وعلقمة بن قيس النخعي ومسروق بن الأجدع وأبي عبدالرحمن السلمي، وروى له البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.

[2] إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخَعي، بفتح الخاء، نسبة إلى النخع، قبيلة من مذحج باليمن، الفقيه الكوفي، ولد سنة 47 هـ، وقيل: سنة 39 هـ، من كِبار تابعي أهل الكوفة، أدرك عددًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحدث عن أحد منهم، توفي سنة 96 هـ بالكوفة في خلافة الوليد بن عبدالملك، وكان ذكيًّا، حافظًا، صاحب سُنَّة، يصوم يومًا ويفطر يومًا.

[3] قتل الغيلة: هو القتل غدرًا، وقتل الغلاب: هو القتل مواجهة ومقاتلة.

[4]عبد المطلب اسمه شيبة الحمد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان جد العرب العدنانيين المشترك.

[5] البخاري في (تفسير سورة الأنفال) ومسلم في صفات المنافقين، باب في قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾ [الأنفال: 33].

[6] قال ابن كثير في تفسيره: " كَانَ إِذَا قَامَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَجْلِسٍ، جَلَسَ فِيهِ النَّضْرُ فَيُحَدِّثُهُمْ مِنْ أَخْبَارِ أُولَئِكَ، ثُمَّ يَقُولُ: بِاللَّهِ أَيُّهُمَا أَحْسَنُ قَصَصًا؟ أَنَا أَوْ مُحَمَّدٌ؟ وَلِهَذَا لَمَّا أَمْكَنَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَوَقَعَ فِي الْأُسَارَى، أَمْرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُضْرَبَ رَقَبَتُهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، ففُعل ذَلِكَ، وَكَانَ الَّذِي أسره المقداد بن الْأَسْوَدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

[7] قال أبُو العباس المقرئ: ورد لفظ "في" في القرآن بستَّةِ أوجه: 1 - بمعنى "مع" كهذه الآية، وقوله تعالى: ﴿ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19] أي: مع عبادك، ومثله: ﴿ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ﴾ [الفجر: 29]. 2 - بمعنى "على"؛ قال تعالى: ﴿ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ﴾ [طه: 71]؛ أي: على جذوع النخل، ومثله: ﴿ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ﴾ [الطور: 38]؛ أي: عليه. 3 - بمعنى "إلى"؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ﴾ [النساء: 97]؛ أي: إليها. 4 - بمعنى "عن"؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى ﴾ [الإسراء: 72]؛ أي: عن هذه الآيات. 5 - بمعنى "مِن"؛ قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ ﴾ [النحل: 89]؛ أي: مِنْ كل أمة. 6 - بمعنى "عند"؛ قال تعالى: ﴿ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا ﴾ [هود: 62]؛ أي: عندنا.

[8] الشجرة التي بُويَع عندها الرسول صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، وقال فيها تعالى: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ﴾ [الفتح: 18]، كانت سَمُرَة من صنف "acacia"، وكانوا نحو ألف وخمسمائة رجل بايعوه صلى الله عليه وسلم بالفتح والنصرة وألَّا يفروا من الموت، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم عندها أيضًا يوم الحديبية فحاولوا الغدر به أثناء كتابة عقد الصلح، وفي حنين نُودِي "يا أصحاب السمرة، فرجع الناس بعدما ولَّوا مدبرين..".

[9] سمَّى رسول الله أسراه من قريش عند فتح مكة "طلقاء"، وسمَّى الأسرى من حلفائهم من الطائف وغير قريش عامة "العتقاء".

[10] كانت غزوة بدر في السابع عشر من رمضان في العام الثاني للهجرة، وكانت غزوة أحد بعد عام فقط يوم السبت السابع من شهر شوال في العام الثالث للهجرة.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 65.77 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 64.06 كيلو بايت... تم توفير 1.71 كيلو بايت...بمعدل (2.60%)]