
26-01-2023, 12:12 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,889
الدولة :
|
|
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 255)
من صــ 21 الى صـ 35
قال: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيه - وهو قدحه - فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء. قد سبق الفرث والدم}. وذكر ما في الحديث. فهؤلاء أصل ضلالهم: اعتقادهم في أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنهم خارجون عن العدل وأنهم ضالون وهذا مأخذ الخارجين عن السنة من الرافضة ونحوهم ثم يعدون ما يرون أنه ظلم عندهم كفرا. ثم يرتبون على الكفر أحكاما ابتدعوها.
فهذه ثلاث مقامات للمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم. في كل مقام تركوا بعض أصول دين الإسلام حتى مرقوا منه كما مرق السهم من الرمية وفي الصحيحين في حديث أبي سعيد: {يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان؛ لئن أدركتهم لأقتلهم قتل عاد} وهذا نعت سائر الخارجين كالرافضة ونحوهم؛ فإنهم يستحلون دماء أهل القبلة لاعتقادهم أنهم مرتدون أكثر مما يستحلون من دماء الكفار الذين ليسوا مرتدين؛ لأن المرتد شر من غيره. وفي حديث أبي سعيد: أن {النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قوما يكونون في أمته: يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحليق. قال: هم شر الخلق أو من شر الخلق تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق} وهذه السيما سيما أولهم كما كان ذو الثدية؛ لأن هذا وصف لازم لهم.
وأخرجا في الصحيحين حديثهم من حديث سهل بن حنيف بهذا المعنى ورواه البخاري من حديث عبد الله بن عمر ورواه مسلم من حديث أبي ذر ورافع بن عمرو وجابر بن عبد الله وغيرهم وروى النسائي {عن أبي برزة أنه قيل له: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الخوارج؟ قال: نعم.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني ورأيته بعيني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال فقسمه فأعطى من عن يمينه ومن عن شماله؛ ولم يعط من وراءه شيئا. فقام رجل من ورائه فقال: يا محمد؛ ما عدلت في القسمة - رجل أسود مطموم الشعر عليه ثوبان أبيضان - فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا وقال له: والله لا تجدون بعدي رجلا هو أعدل مني ثم قال: يخرج في آخر الزمان قوم كأن هذا منهم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية سيماهم التحليق لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع الدجال.
فإذا لقيتموهم فاقتلوهم. هم شر الخلق والخليقة} وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن بعدي من أمتي - أو سيكون بعدي من أمتي - قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق والخليقة}. قال ابن الصامت: فلقيت رافع بن عمرو الغفاري أخا الحكم بن عمرو الغفاري قلت: ما حديث سمعته من أبي ذر كذا وكذا؟ فذكرت له الحديث فقال: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذه المعاني موجودة في أولئك القوم الذين قتلهم علي رضي الله عنه وفي غيرهم. وإنما قولنا: إن عليا قاتل الخوارج بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل الكفار أي قاتل جنس الكفار وإن كان الكفر أنواعا مختلفة.
وكذلك الشرك أنواع مختلفة وإن لم يكن الآلهة التي كانت العرب تعبدها هي التي تعبدها الهند والصين والترك؛ لكن يجمعهم لفظ الشرك ومعناه. وكذلك الخروج والمروق يتناول كل من كان في معنى أولئك ويجب قتالهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم كما وجب قتال أولئك. وإن كان الخروج عن الدين والإسلام أنواعا مختلفة وقد بينا أن خروج الرافضة ومروقهم أعظم بكثير.
فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج؛ كالحرورية والرافضة ونحوهم: فهذا فيه قولان للفقهاء هما روايتان عن الإمام أحمد. والصحيح أنه يجوز قتل الواحد منهم؛ كالداعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممن فيه فساد. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أينما لقيتموهم فاقتلوهم} وقال: {لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد} وقال عمر لصبيغ بن عسل: لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك. ولأن علي بن أبي طالب طلب أن يقتل عبد الله بن سبأ أول الرافضة حتى هرب منه. ولأن هؤلاء من أعظم المفسدين في الأرض. فإذا لم يندفع فسادهم إلا بالقتل قتلوا ولا يجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول أو كان في قتله مفسدة راجحة. ولهذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل ذلك الخارجي ابتداء لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " ولم يكن إذ ذاك فيه فساد عام؛ ولهذا ترك علي قتلهم أول ما ظهروا لأنهم كانوا خلقا كثيرا وكانوا داخلين في الطاعة والجماعة ظاهرا لم يحاربوا أهل الجماعة ولم يكن يتبين له أنهم هم.
وأما تكفيرهم وتخليدهم: ففيه أيضا للعلماء قولان مشهوران: وهما روايتان عن أحمد. والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم. والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضا. وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع؛ لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه. فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له.
وقد بسطت هذه القاعدة في " قاعدة التكفير ". ولهذا لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفر الذي قال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم ذروني في اليم فوالله لأن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين مع شكه في قدرة الله وإعادته؛ ولهذا لا يكفر العلماء من استحل شيئا من المحرمات لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته ببادية بعيدة؛ فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة. وكثير من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه ولا يعلم أن الرسول بعث بذلك فيطلق أن هذا القول كفر ويكفر متى قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها؛ دون غيره. والله أعلم؟.
(فصل: قتل الذمي إذا وجب عليه القتل بسبه النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن أسلم)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وأما من قال: "إن الساب يقتل وإن تاب وأسلم وسواء كان كافرا أو مسلما" فقد تقدم دليله على أن المسلم يقتل بعد التوبة وأن الذمي يقتل وإن طلب العود إلى الذمة.
وأما قتل الذمي إذا وجب عليه القتل بالسب وإن أسلم بعد ذلك فلهم فيه طرق وهي دالة على تحتم قتل المسلم أيضا كما تدل على تحتم قتل الذمي:
الطريقة الأولى: قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} فوجه الدلالة أن هذا الساب المذكور من المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا الداخلين في هذه الآية سواء كان مسلما أو معاهدا وكل من كان من المحاربين الداخلين في هذه الآية فإنه يقام عليه الحد إذا قدر عليه قبل التوبة سواء تاب بعد ذلك أو لم يتب فهذا الذمي أو المسلم إذا سب ثم أسلم بعد أن كل واحد قد قدر عليه قبل التوبة فيجب إقامة الحد عليه وحده القتل فيجب قتله سواء تاب أو لم يتب.
والدليل مبني على مقدمتين:
إحداهما: أنه داخل في هذه الآية.
والثانية: أن ذلك يوجب قتله إذا أخذ قبل التوبة.
أما المقدمة الثانية فظاهرة فإنا لم نعلم مخالفا في أن المحاربين إذا أخذوا قبل التوبة وجب إقامة الحد عليهم وإن تابوا بعد الأخذ وذلك بين في الآية فإن الله أخبر أن جزاءهم أحد هذه الحدود الأربعة إلا الذين تابوا قبل أن تقدروا عليهم فالتائب قبل القدرة ليس جزاؤه شيئا من ذلك وغيره هذه أحد هذه جزاؤه وجزاء أصحاب الحدود تجب إقامته على الآية لأن جزاء العقوبة إذا لم يكن حقا لآدمي حي بل كان حدا من حدود الله وجب استيفاؤه باتفاق
المسلمين وقد قال تعالى في آية السرقة: {فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا} فأمر بالقطع جزاء على ما كسباه فلو لم يكن الجزاء المشروع المحدود من العقوبات واجبا لم يعلل وجوب القطع به إذ العلة المطلوبة يجب أن تكون أبلغ من الحكم وأقوى منه والجزاء اسم للفعل واسم لما يجازى به ولهذا قرأ قوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل} بالتنوين وبالإضافة وكذلك الثواب والعقاب وغيرهما فالقتل والقطع قد يسمى جزاء ونكالا وقد يقال فعل هذه ليجزيه وللجزاء.
ولهذا قال الأكثرون: إنه نصب على المفعول له والمعنى أن الله أمر بالقطع ليجزيهم ولينكل عن فعلهم.
وقد قيل: إنه نصب على المصدر لأن معنى "اقطعوا" اجزوهم ونكلوا.
وقيل: إنه على الحال أي فاقطعوهم مجزين منكلين هم وغيرهم أو جازين منكلين.
وبكل حال فالجزاء مأمور به أو مأمور لأجله فثبت أنه واجب الحصول شرعا وقد أخبر أن جزاء المحاربين أحد الحدود الأربعة فيجب تحصيلها إذ الجزاء هنا يتحد فيه معنى الفعل ومعنى المجزي به لأن القتل والقطع والصلب وهي أفعال وهي عين ما يجزي به وليست أجساما بمنزلة المثل من النعم.
يبين ذلك أن لفظ الآية خبر عن أحكام الله سبحانه التي يؤمر الإمام بفعلها ليست عن الحكم الذي يخير بين فعله وتركه إذا ليس لله أحكام في أهل ذنوب يخير الإمام بين فعلها وترك جميعها.
وأيضا فإنه قال: {ذلك لهم خزي في الدنيا} والخزي لا يحصل إلا بإقامة الحدود لا بتعطيلها.
وأيضا فإنه لو كان هذا الجزاء إلى الإمام له إقامته وتركه بحسب المصلحة لندب إلى العفو كما في قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} وقوله: {والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له} وقوله: {ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا}.
وأيضا فالأدلة على وجوب إقامة الحدود على السلطان من السنة والإجماع ظاهرة ولم نعلم مخالفا في وجوب جزاء المحاربين ببعض ما ذكر الله في كتابه وإنما اختلفوا في هذه الحدود: هل يخير الإمام بينها بحسب المصلحة أو لكل جرم جزاء محدود شرعا؟ كما هو مشهور فلا حاجة إلى الإطناب في وجوب الجزاء لكن نقول: جزاء الساب القتل عينا بما تقدم من الدلائل الكثيرة ولا يخير الإمام فيه بين القتل والقطع بالإنفاء وإذا كان جزاؤه القتل من هذه الحدود وقد أخذ قبل التوبة وجب إقامة الحد عليه إذا كان من المحاربين بلا تردد.
فلنبين المقدمة الأولى وهي أن هذا من المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا وذلك من وجوه:
أحدها: ما رويناه من حديث عبد الله بن صالح كاتب الليث قال: ثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "وقوله {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخير الله رسوله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله أن يقتل وإن شاء أن يصلب وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وأما النفي فهو أن يهرب في الأرض فإن جاء تائبا فدخل في الإسلام قبل منه ولم يؤاخذ بما سلف منه ثم قال في موضع آخر وذكر هذه الآية من شهر السلاح في قبة الإسلام وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطع يده ورجله ثم قال: {أو ينفوا من الأرض} يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم}.
وكذلك روى محمد بن يزيد الواسطي عن جويبر عن الضحاك قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} قال: "كان ناس من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فقطعوا الميثاق وأفسدوا في الأرض فخير الله رسوله أن يقتل إن شاء أو يصلب أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وأما النفي أن يهرب في الأرض ولا يقدر عليه فإن جاء تائبا داخلا في الإسلام قبل منه ولم يؤاخذ بما عمل".
وقال الضحاك: "أيما رجل مسلم قتل أو أصاب حدا أو مالا لمسلم فلحق بالمشركين فلا توبة له حتى يرجع فيضع يده في يد المسلمين فيقر بما أصاب قبل أن يهرب من دم أو غيره أقيم عليه أو أخذ منه".
ففي هذين الأثرين أنها نزلت في قوم معاهدين من أهل الكتاب لما نقضوا العهد وأفسدوا في الأرض وكذلك في تفسير الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وإن كان لا يعتمد عليه إذا انفرد أنها نزلت في قوم موادعين وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي على ألا يعينه ولا يعين عليه ومن أتاه من المسلمين فهو آمن أن يهاج ومن أتى المسلمين منهم فهو آمن أن يهاج ومن مر بهلال بن عويمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو آمن أن يهاج.
قال: "فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من أسلم من قوم هلال بن عويمر ولم يكن هلال يومئذ شاهدا فنهدوا إليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل عليه جبريل بالقصة فيهم" فقد ذكر أنها نزلت في قوم معاهدين لكن من غير أهل الكتاب.
وروى عكرمة عن ابن عباس وهو قول الحسن أنها نزلت في المشركين ولعله أراد الذين نقضوا العهد كما قال هؤلاء فإن الكافر الأصلي لا ينطبق عليه حكم الآية.
والذي يحقق أن ناقض العهد بما يضر المسلمين داخل في هذه الآية من الأثر ما قدمناه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أتى برجل من أهل الذمة نخس بامرأة من المسلمين بالشام حتى وقعت فتجللها فأمر به عمر فقتل وصلب فكان أول مصلوب في الإسلام وقال: "يا أيها الناس اتقوا الله في ذمة محمد عليه الصلاة والسلام ولا تظلموهم فمن فعل هذا فلا ذمة له" وقد رواه عنه عوف بن مالك الأشجعي وغيره كما تقدم.
وروى عبد الملك بن حبيب بإسناده عن عياض بن عبد الله الأشعري قال: "مرت امرأة تسير على بغل فنخس بها علج فوقعت من البغل فبدا بعض عورتها فكتب بذلك أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر: "أن اصلب العلج في ذلك المكان فإنا لم نعاهدهم على هذا إنما عاهدناهم على أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".
وقد قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل في مجوسي فجر بمسلمة: "يقتل هذا قد نقض العهد وكذلك إن كان من أهل الكتاب يقتل أيضا قد صلب عمر رجلا من اليهود فجر بمسلمة هذا نقض العهد" قيل له: ترى عليه الصلب مع القتل؟ قال: "إن ذهب رجل إلى حديث عمر كأنه لم يعب عليه".
فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عمر وأبو عبيدة وعوف بن مالك ومن كان في عصرهم من السابقين الأولين قد استحلوا قتل هذا وصلبه وبين عمر أنا لم نعاهدهم على مثل هذا الفساد وأن العهد انتقض بذلك فعلم أنهم تأولوا فيمن نقض العهد بمثل هذا أنه من محاربة الله ورسوله والسعي في الأرض فسادا فاستحلوا لذلك قتله وصلبه وإلا فصلب مثله لا يجوز إلا لمن ذكره الله في كتابه.
وقد قال آخرون منهم ابن عمر وأنس بن مالك ومجاهد وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن جبير ومكحول وقتادة وغيرهم رضي الله عنهم: "إنها نزلت في العرنيين الذين ارتدوا عن الإسلام وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم" وحديث العرنيين مشهور ولا منافاة بين الحديثين فإن سبب النزول قد يتعدد مع كون اللفظ عاما في مدلوله وكذلك كان عامة العلماء على أن الآية عامة في المسلم والمرتد والناقض كما قال الأوزاعي في هذه الآية: هذا حكم حكمه الله في هذه الأمة على من حارب مقيما على الإسلام أو مرتدا عنه وفيمن حارب من أهل الذمة.
وقد جاءت آثار صحيحة عن علي وأبي موسى وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم تقتضي أن حكم هذه الآية ثابت فيمن حارب المسلمين بقطع الطريق ونحوه مقيما على إسلامه لهذا يستدل جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على حد قطع الطريق بهذه الآية.
والمقصود هنا أن هذا الناقض للعهد والمرتد عن الإسلام بما فيه الضرر داخل فيها كما ذكرنا دلائله عن الصحابة والتابعين وإن كان يدخل فيها بعض
من هو على الإسلام وهذا الساب ناقض للعهد بما فيه ضرر على المسلمين ومرتد بما فيه ضرر على المسلمين فيدخل في الآية.
ومما يدل على أنه قد عنى بها ناقضو العهد في الجملة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفى بني قينقاع والنضير لما نقضوا العهد إلى أرض الحرب وقتل بني قريظة وبعض أهل خيبر لما نقضوا العهد والصحابة قتلوا وصلبوا بعض من فعل ما ينقض العهد من الأمور المضرة فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه في أصناف ناقض العهد كحكم الله في هذه الآية مع صلاحه لأن يكون امتثالا لأمر الله فيها دليل على أنهم مرادون منها.
الوجه الثاني: أن ناقض العهد والمرتد المؤذي لا ريب أنه محارب لله ورسوله فإن حقيقة نقض العهد محاربة المسلمين ومحاربة المسلمين محاربة لله ورسوله وهو أولى بهذا الاسم من قاطع الطريق ونحوه لأن ذلك مسلم لكن لما حارب المسلمين على الدنيا كان محاربا لله ورسوله فالذي يحاربهم على الدين أولى أن يكون محاربا لله ورسوله ثم لا يخلو إما أن لا يكون محاربا لله ورسوله حتى يقاتلهم ويمتنع عنهم أو يكون محاربا إذا فعل ما يضرهم مما فيه نقض العهد وإن لم يقاتلهم والأول لا يصح لما قدمناه من أن هذا قد نقض العهد وصار من المحاربين ولأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: أيما معاهد تعاطى سب الأنبياء فهو محارب غادر.
وعمر وسائر الصحابة قد جعلوا الذمي الذي تجلل المسلمة بعد أن نخس بها الدابة محاربا بمجرد ذلك حتى حكموا فيه بالقتل والصلب فعلم أنه لا يشترط في المحاربة المقاتلة بل كل ما نقض العهد عندهم من الأقوال والأفعال المضرة فهو محارب داخل في هذه الآية.
فإن قيل: فيلزم من هذا أن يكون كل من نقض العهد بما فيه ضرر يقتل إذا أسلم بعد القدرة عليه.
قيل: وكذلك نقول وعليه يدل ما ذكرناه في سبب نزولها فإنها إذا نزلت فيمن نقض العهد بالفساد وقد قيل فيها: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} علم أن التائب بعد القدرة مبقى على حكم الآية.
الوجه الثالث: أن كل ناقض للعهد فقد حارب الله ورسوله ولولا ذلك لم يجز قتله ثم لا يخلوا إما أن يقتصر على نقض العهد بأن يلحق بدار الحرب أو يضم إلى ذلك فسادا فإن كان الأول فقد حارب الله ورسوله فقط فهذا لم يدخل في الآية وإن كان الثاني فقد حارب وسعى في الأرض فسادا مثل أن يقتل مسلما أو يقطع الطريق على المسلمين أو يغصب مسلمة على نفسها أو يظهر الطعن في كتاب الله ورسوله ودينه أو يفتن مسلما عن دينه فإن هذا قد حارب الله ورسوله بنقضه العهد وسعى في الأرض فسادا بفعله ما يفسد على المسلمين إما دينهم أو دنياهم وهذا قد دخل في الآية فيجب أن يقتل أو يقتل ويصلب أو ينفى من الأرض حتى يلحق بأرض الحرب إن لم يقدر عليه أو تقطع يده ورجله إن كان قد قطع الطرق وأخذ المال ولا يسقط عنه ذلك إلا أن يتوب من قبل أن يقدر عليه وهو المطلوب.
الوجه الرابع: أن هذا الساب محارب الله ورسوله ساع في الأرض فسادا فيدخل في الآية وذلك لأنه عدو لله ولرسوله ومن عادى الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي سبه: "من يكفنني عدوي؟ " وقد تقدم ذكر ذلك من غير وجه إذا كان عدوا له فهو محارب
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تبارك وتعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة".
وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اليسير من الرياء شرك ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة" فإذا كان من عادى واحدا من الأولياء قد بارز الله بالمحاربة فكيف من عادى صفوة الله من أوليائه؟ فإنه يكون أشد مبارزة له بالمحاربة وإذا كان محاربا لله لأجل عداوته للرسول فهو محارب للرسول بطريق الأولى فثبت أن الساب للرسول محارب لله ورسوله.
فإن قيل: فلو سب واحدا من أولياء الله غير الأنبياء فقد بارز الله بالمحاربة فإنه إذا سبه فقد عاداه كما ذكرتم وإذا عاداه فقد بارز الله بالمحاربة كما نصه الحديث الصحيح ومع هذا لا يدخل في المحاربة المذكورة في الآية فقد انتقض الدليل وذلك يوجب صرف المحاربة إلى المحاربة باليد.
قيل: هذا باطل من وجوه:
أحدها: أن ليس كل من سب غير الأنبياء يكون قد عاداهم إذ لا دليل يدل على ذلك وقد قال الله سبحانه وتعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} بعد أن أطلق أنه من آذى الله ورسوله فقد لعنه الله في الدنيا والآخرة فعلم أن المؤمن قد يؤذى بما اكتسب ويكون أذاه بحق كإقامة الحدود والانتصار في الشتمة ونحو ذلك مع كونه وليا لله وإذا كان واجبا في بعض الأحيان أو جائزا لم يكن مؤذيه في تلك الحال عدوا له لأن المؤمن يجب عليه أن يوالي المؤمن ولا يعاديه وإن عاقبه
عقوبة شرعية كما قال تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} وقال تعالى: {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا}.
الثاني: أن من سب غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد يكون مع السب مواليه من وجه آخر فإن سباب المسلم إذا لم يكن بحق كان فسوقا والفاسق لا يعادي المؤمنين بل يواليهم ويعتقد مع السب للمؤمن أنه تجب موالاته من وجه آخر أما سب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ينافي اعتقاد نبوته ويستلزم البراءة منه والمعاداة له لأن اعتقاد عدم نبوته وهو يقول "إنه نبي" يوجب أن يعامل معاملة المتنبيين وذلك يوجب أبلغ العداوات له.
الثالث: لو فرض أن سب غير النبي صلى الله عليه وسلم عداوة له لكن ليس أحد بعينه يشهد له أنه ولي لله شهادة توجب أن ترتب عليها الأحكام المبيحة للدماء بخلاف الشهادة للنبي بالولاية فإنها بعينه نعم لما كان الصحابة قد يشهد لبعضهم بالولاية خرج في قتل سابهم خلاف مشهور ربما نبينه أن شاء الله تعالى عليه.
الرابع: أنه لو فرض أنه عادى وليا علم أنه ولي فإنما يدل على أنه بارز الله بالمحاربة وليس فيه ذكر محاربة الله ورسوله والجزاء المذكور في الآية إنما هو لمن حارب الله ورسوله ومن سب الرسول فقد عاداه ومن عاداه فقد حاربه وقد حارب الله أيضا كما دل عليه الحديث فيكون محاربا لله ورسوله ومحاربة الله ورسوله أخص من محاربة الله والحكم المعلق بالأخص لا يدل على أنه معلق بالأعم وذلك أن محاربة الرسول تقتضي مشاقته على ما جاء به من الرسالة وليس في معاداة ولي بعينه مشاقة في الرسالة بخلاف الطعن في الرسول.
الخامس: أن الجزاء في الآية لمن حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا والطاعن في الرسول قد حارب الله ورسوله كما تقدم وقد سعى في الأرض فسادا كما سيأتي وهذا الساب للولي وإن كان قد حارب الله فلم يسع في الأرض فسادا لأن السعي في الأرض فسادا إنما يكون بإفساد عام لدين الناس أو دنياهم وهذا إنما يتحقق في الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا لا يجب على الناس الإيمان بولاية الولي ويجب عليهم الإيمان بنبوة النبي.
السادس: أن ساب الولي لو فرض أنه محارب لله ورسوله فخروجه من اللفظ العام لدليل أوجبه لا يوجب أن يخرج هذا الساب للرسول لأن الفرق بين العداوتين ظاهر والقول العام إذا خصت منه صورة لم تخص منه صورة أخرى لا تساويها إلا بدليل آخر.
السابع: أن حمله على المحاربة باليد متعذر أيضا في حق الولي لأن من عاداه بيده لم يوجب ذلك أن يدخل في حكم الآية على الإطلاق مثل أن يضربه ونحو ذلك فلا فرق إذا في حقه بين المعاداة باليد واللسان بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا فرق بين أن يعاديه بيد أو لسان فإنه يمكن دخوله في الآية وذلك مقرر الاستدلال كما تقدم.
وإذا ثبت أن هذا الساب محارب لله ورسوله فهو أيضا ساع في الأرض فسادا لأن الفساد نوعان: فساد الدنيا من الدماء والأموال والفروج وفساد الدين والذي يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقع في عرضه يسعى ليفسد على الناس دينهم ثم بواسطة ذلك يفسد عليهم دنياهم وسواء فرضنا أنه أفسد على أحد دينه أو لم يفسد لأنه سبحانه وتعالى إنما قال: {ويسعون في الأرض فسادا} قيل أنه نصب على المفعول له أي ويسعون في الأرض للفساد وكما قال: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل
والله لا يحب الفساد} والسعي هو العمل والفعل فمن سعى ليفسد أمر الدين فقد سعى في الأرض فسادا وإن خاب سعيه وقيل: إنه نصب على المصدر أو على الحال تقديره سعى في الأرض مفسدا كقوله: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} أو كما يقال: جلس قعودا وهذا يقال لكل من عمل عملا يوجب الفساد وإن لم يؤثر لعدم قبول الناس له وتمكينهم إياه بمنزلة قاطع الطريق إذا لم يقتل أحدا ولم يأخذ مالا على أن هذا العمل لا يخلو من فساد في النفوس قط إذا لم يقم عليه الحد.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|