
28-04-2022, 05:30 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,616
الدولة :
|
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 677 الى صـ 682
الحلقة (132)
القول في تأويل قوله تعالى:
[262] الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون أي: لا يعقبون: ما أنفقوا منا وهو ذكره لمن أنفق عليه ليريه أنه أوجب بذلك عليه حقا: ولا أذى وهو [ ص: 677 ] ذكره لغيره، فيؤذيه بذلك أو التطاول عليه بسببه: لهم أجرهم عند ربهم الموعود به قبل: ولا خوف عليهم أي: فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة: ولا هم يحزنون على فائت من زهرة الدنيا، لصيرورتهم إلى ما هو خير من ذلك.
لطائف:
الأولى: قال الزمخشري: معنى (ثم) إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى. وفي حواشيه للناصر ما نصه: (ثم) في أصل وضعها تشعر بتراخي المعطوف بها عن المعطوف عليه في الزمان وبعد ما بينهما، والزمخشري يحملها على التفاوت في المراتب والتباعد بينهما، حيث لا يمكنه حملها على التراخي في الزمان لسياق يأبى ذلك، كهذه الآية، وحاصله أنها استعيرت من تباعد الأزمنة لتباعد المرتبة، وعندي فيها وجه آخر محتمل في هذه الآية ونحوها، وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول في استصحابه، فهي على هذا لم تخرج عن الإشعار ببعد الزمن، ولكن معناها الأصلي تراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه، ومعناها المستعارة إليه دوام وجود الفعل وتراخي زمن بقائه، وعليه حمل قوله تعالى: ثم استقاموا أي: داوموا على الاستقامة دواما متراخيا ممتد الأمد، وتلك الاستقامة هي المعتبرة، لا ما هو منقطع إلى ضده من الحيد إلى الهوى والشهوات، وكذلك قوله: ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى أي: يدومون على تناسي الإحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان، ليسوا بتاركيه في أزمنة إلى الأذية، وتقليد المنن بسببه، ثم يتوبون. والله أعلم. وقريب من هذا أو مثله، أن السين يصحب الفعل لتنفيس زمان وقوعه وتراخيه، ثم ورد قوله تعالى حكاية [ ص: 678 ] عن الخليل عليه السلام: إني ذاهب إلى ربي سيهدين وقد حكى الله تعالى في مثل هذه الآية: الذي خلقني فهو يهدين فليس إلى حمل السين على تراخي زمان وقوع الهداية له من سبيل. فيتعين المصير إلى حملها على الدلالة على تنفس دوام الهداية الحاصلة له وتراخي بقائها وتمادي أمدها. انتهى.
الثانية: قال الزمخشري: (فإن قلت): أي فرق بين قوله: لهم أجرهم وقوله فيما بعد: فلهم أجرهم ؟! (قلت): الموصول لم يضمن ههنا معنى الشرط، وضمنه ثمه، والفرق بينهما من جهة المعنى: أن الفاء فيها دلالة على أن الإنفاق به استحق الأجر، وطرحها عار عن تلك الدلالة.
وقال أبو السعود: وتخلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها، للإيذان بأن ترتيب الأجر على ما ذكر من الإنفاق وترك اتباع المن والأذى - أمر بين لا يحتاج إلى التصريح بالسببية.
القول في تأويل قوله تعالى:
[263] قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم .
قول معروف أي: من كلمة طيبة ودعاء لمسلم: ومغفرة أي: غفر عن ظلم قولي أو فعلي: خير من صدقة يتبعها أذى إذ لا يحصل للصدقة ثواب ويحصل إثم الأذى، وقد دخل في قوله (قول معروف) الرد الجميل للسائل. و (مغفرة) العفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول والله غني عن طلب صدقة لعبيده مع الأذى لهم أو المن عليهم: حليم عن معالجة من يمن ويؤذي بالعقوبة.
[ ص: 679 ] القول في تأويل قوله تعالى:
[264] يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين .
يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى أي: لا تحبطوا أجرها بكل واحد منهما، فإنهما إساءتان ينافيان الإحسان المعتبر في الصدقة، والمنافي مبطل كالرياء.
فيصير المان والمؤذي: كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر في بطلان صدقته، و (رئاء) إما مفعول له أو حال. أي: مرائيا. والهمزة الأولى في (رئاء) عين الكلمة لأنه من: راءى، والأخيرة بدل من الياء لوقوعها طرفا بعد ألف زائدة كالقضاء، ويجوز تخفيف الهمزة الأولى بأن تقلب ياء فرارا من ثقل الهمزة بعد الكسرة، وقد قرئ به. قاله أبو البقاء.
فمثله أي: هذا المنفق رياء، في إنفاقه مقارنا لما يفسده. ومثل نفقته: كمثل صفوان وهو حجر أملس: عليه تراب فأصابه وابل أي: مطر كثير: فتركه صلدا أي: أجرد لا شيء عليه: لا يقدرون على شيء مما كسبوا أي: المرائي والمان والمؤذي، لا يقدرون على تحصيل شيء من ثواب ما عملوا لبطلانه. كقوله: فجعلناه هباء منثورا
فلا يجدون ثواب صدقاتهم كما لا يوجد على الصفا التراب بعد ما أصابه الوابل: والله لا يهدي القوم الكافرين إلى الخير والرشاد. وفيه تعريض بأن الرياء والمن والأذى على الإنفاق من صفات الكفار، ولا بد للمؤمن أن يتجنب عنها، وقد ورد في وعيد المن بالصدقة أحاديث متواترة، ففي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ثلاثة [ ص: 680 ] لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب » . وفي سنن النسائي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا عاق لوالديه ولا منان » .
القول في تأويل قوله تعالى:
[265] ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير .
ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله مفعول له: و وتثبيتا معطوف عليه، ويجوز أن يكونا حالين. أي: مبتغين ومتثبتين: من أنفسهم قال أبو البقاء: يجوز أن يكون (من) بمعنى اللام أي: تثبيتا لأنفسهم، كما تقول: فعلت ذلك كسرا من شهوتي، ويجوز أن تكون على أصلها أي: تثبيتا صادرا من أنفسهم، والتثبيت مصدر فعل متعد، فعلى الوجه الأول: يكون: من أنفسهم مفعول المصدر، وعلى الثاني: يكون المفعول محذوفا. تقديره: [ ص: 681 ] ويثبتون أعمالهم بإخلاص النية، ويجوز أن يكون تثبيتا بمعنى (تثبت) فيكون لازما، والمصادر قد تختلف ويقع بعضها موقع بعض، ومثله قوله تعالى: وتبتل إليه تبتيلا أي: تبتلا. انتهى. وعن الشعبي: تثبيتا تصديقا ويقينا: كمثل جنة أي: بستان: بربوة أي: موضع مرتفع: أصابها وابل مطر كثير: فآتت أكلها أي: أخرجت ثمرها: ضعفين أي: بالنسبة إلى غيرها من الجنان: فإن لم يصبها وابل فطل وهو المطر الضعيف، أو أخف المطر، أو أضعفه أو الندى، ولا بد من تقدير مضاف هنا كما تقدم: إما من جانب المشبه أو المشبه به، أي: ومثل نفقة الذين... إلخ، أو كمثل غارس جنة إلخ ؛ رعاية للتناسب.
قال الشهاب: وفي التشبيه وجهان:
أحدهما: أنه مركب، والتشبيه لحال النفقة بحال الجنة بالربوة في كونها زاكية متكثرة المنافع عند الله، كيفما كانت الحال.
والثاني: أن تشبيه حالهم بحال الجنة على الربوة في أن نفقتهم، كثرت أو قلت، زاكية زائدة في حسن حالهم، كما أن الجنة يضعف أكلها قوي المطر وضعيفه، وهذا أيضا تشبيه مركب، إلا أنه لوحظ الشبه فيما بين المفردات، وحاصله: أن حالهم في اتباع القلة والكثرة تضعيف الأجر، كحال الجنة في إنتاج الوابل والطل تضعيف ثمارها، ويحتمل وجها ثالثا وهو أن يكون من تشبيه المفرد بالمفرد، بأن تشبه حالهم بجنة مرتفعة في الحسن والبهجة، والنفقة الكثيرة والقليلة بالطل والوابل، والأجر والثواب بالثمرات، والربوة مثلثة الراء، وأكل بضمتين، وتسكن للتخفيف. وبه قرئ: ( والله بما تعملون بصير ) تحذير عن الرياء وترغيب في الإخلاص.
[ ص: 682 ] القول في تأويل قوله تعالى:
[266] أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون .
أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر أي: كبر السن، فإن الفاقة والعالة في الشيخوخة أصعب: وله ذرية ضعفاء صغار لا قدرة لهم على الكسب: فأصابها إعصار أي: ريح شديدة: فيه نار فاحترقت تلك الجنة، وبقي صاحبها بمضيعة مع ضعفه وثقل ظهره بالعيال وقلة المال، والمعنى: تمثيل حال من يفعل الأفعال الحسنة، ويضم إليها ما يحبطها، كرياء وإيذاء، في الحسرة والأسف إذا كان يوم القيامة، واشتدت حاجته إليها وجدها محبطة بحال من هذا شأنه: كذلك أي: مثل هذا البيان: يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون أي: فيها، فتعتبرون بها. وروى البخاري في التفسير عن عبيد بن عمير قال: قال عمر رضي الله تعالى عنه يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيم ترون هذه الآية نزلت: أيود أحدكم أن تكون له جنة قالوا: الله أعلم، فغضب عمر فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. قال عمر: يا ابن أخي، قل ولا تحقر نفسك. قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل. قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي، [ ص: 683 ] حتى أغرق أعماله. (قال ابن كثير وهو من أفراد البخاري) ولابن جرير من طريق عطاء عن ابن عباس معناه: أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل الخير، حتى إذا كان حين فني عمره ختم ذلك بعمل أهل الشقاء، فأفسد ذلك فأحرقه.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|