فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 21 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 129 - عددالزوار : 1164 )           »          خواطرفي سبيل الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 72 - عددالزوار : 21819 )           »          قلبٌ وقلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 72 - عددالزوار : 20434 )           »          حياة البرزخ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 76 )           »          مذاهب العلماء في نفقة الزوجة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 89 )           »          سعي المرأة لطلب الرزق بين الوجوب وعدمه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 75 )           »          الغُمة الشعورية الكئيبة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 79 )           »          التفسير بالعموم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 72 )           »          فشكر الله له فغفر له (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 69 )           »          وتعاونوا على البر والتقوى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 78 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30-10-2022, 10:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد الخامس
الحلقة( 203)

من صــ 381 الى صـ 390





(ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (69)
فصل:
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أولياء الله تعالى على أن الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء وقد رتب الله عباده السعداء المنعم عليهم " أربع مراتب " فقال تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}. وفي الحديث: " {ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر} وأفضل الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} وقال تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في المسند " {أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله} وأفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرن الأول. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال:
" {خير القرون القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم} وهذا ثابت في الصحيحين من غير وجه. وفي الصحيحين أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه}. والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل من سائر الصحابة قال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى} وقال تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} والسابقون الأولون الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا والمراد بالفتح صلح الحديبية فإنه كان أول فتح مكة وفيه {أنزل الله تعالى {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} فقالوا يا رسول الله أوفتح هو قال: نعم}.

وأفضل السابقين الأولين " الخلفاء الأربعة " وأفضلهم أبو بكر ثم عمر وهذا هو المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الأمة وجماهيرها وقد دلت على ذلك دلائل بسطناها في " منهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام أهل الشيعة والقدرية ".
وبالجملة اتفقت طوائف السنة والشيعة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها واحد من الخلفاء ولا يكون من بعد الصحابة أفضل من الصحابة وأفضل أولياء الله تعالى أعظمهم معرفة بما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم واتباعا له كالصحابة الذين هم أكمل الأمة في معرفة دينه واتباعه وأبو بكر الصديق أكمل معرفة بما جاء به وعملا به فهو أفضل أولياء الله إذ كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأمم وأفضلها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأفضلهم أبو بكر رضي الله عنه.

وقد ظن طائفة غالطة أن " خاتم الأولياء " أفضل الأولياء قياسا على خاتم الأنبياء ولم يتكلم أحد من المشايخ المتقدمين بخاتم الأولياء إلا محمد بن علي الحكيم الترمذي فإنه صنف مصنفا غلط فيه في مواضع ثم صار طائفة من المتأخرين يزعم كل واحد منهم أنه خاتم الأولياء ومنهم من يدعي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من جهة العلم بالله وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله من جهته كما يزعم ذلك ابن عربي صاحب " كتاب الفتوحات المكية " و " كتاب الفصوص " فخالف الشرع والعقل مع مخالفة جميع أنبياء الله تعالى وأوليائه كما يقال لمن قال: فخر عليهم السقف من تحتهم لا عقل ولا قرآن.
ذلك أن الأنبياء أفضل في الزمان من أولياء هذه الأمة والأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام أفضل من الأولياء فكيف الأنبياء كلهم؟ والأولياء إنما يستفيدون معرفة الله ممن يأتي بعدهم ويدعي أنه خاتم الأولياء وليس آخر الأولياء أفضلهم كما أن آخر الأنبياء أفضلهم؛ فإن فضل محمد صلى الله عليه وسلم ثبت بالنصوص الدالة على ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم " {أنا سيد ولد آدم ولا فخر}. وقوله: " {آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن:
من أنت؟ فأقول محمد فيقول بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك} و " ليلة المعراج " رفع الله درجته فوق الأنبياء كلهم فكان أحقهم بقوله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} إلى غير ذلك من الدلائل كل منهم يأتيه الوحي من الله لا سيما محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن في نبوته محتاجا إلى غيره فلم تحتج شريعته إلى سابق ولا إلى لاحق؛ بخلاف المسيح أحالهم في أكثر الشريعة على التوراة وجاء المسيح فكملها؛ ولهذا كان النصارى محتاجين إلى النبوات المتقدمة على المسيح: كالتوراة والزبور وتمام الأربع وعشرين نبوة وكان الأمم قبلنا محتاجين إلى محدثين؛ بخلاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله أغناهم به فلم يحتاجوا معه إلى نبي ولا إلى محدث؛ بل جمع له من الفضائل والمعارف والأعمال الصالحة ما فرقه في غيره من الأنبياء؛ فكان ما فضله الله به من الله بما أنزله إليه وأرسله إليه لا بتوسط بشر.
وهذا بخلاف " الأولياء " فإن كل من بلغه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا يكون وليا لله إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وكل ما حصل له من الهدى ودين الحق هو بتوسط محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك من بلغه رسالة رسول إليه لا يكون وليا لله إلا إذا اتبع ذلك الرسول الذي أرسل إليه. ومن ادعى أن من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد فهذا كافر ملحد وإذا قال: أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة؛ فهو شر من اليهود والنصارى الذين قالوا: إن محمدا رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب. فإن أولئك آمنوا ببعض وكفروا ببعض فكانوا كفارا بذلك وكذلك هذا الذي يقول إن محمدا بعث بعلم الظاهر دون علم الباطن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر وهو أكفر من أولئك؛ لأن علم الباطن الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها هو علم بحقائق الإيمان الباطنة وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الإسلام الظاهرة.

فإذا ادعى المدعي أن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما علم هذه الأمور الظاهرة دون حقائق الإيمان؛ وأنه لا يأخذ هذه الحقائق عن الكتاب والسنة فقد ادعى أن بعض الذي آمن به مما جاء به الرسول دون البعض الآخر وهذا شر ممن يقول: أؤمن ببعض وأكفر ببعض ولا يدعي أن هذا البعض الذي آمن به أدنى القسمين. وهؤلاء الملاحدة يدعون أن " الولاية " أفضل من " النبوة " ويلبسون على الناس فيقولون: ولايته أفضل من نبوته وينشدون: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي ويقولون نحن شاركناه في ولايته التي هي أعظم من رسالته وهذا من أعظم ضلالهم فإن ولاية محمد لم يماثله فيها أحد لا إبراهيم ولا موسى فضلا عن أن يماثله هؤلاء الملحدون.

وكل رسول نبي ولي فالرسول نبي ولي. ورسالته متضمنة لنبوته ونبوته متضمنة لولايته وإذا قدروا مجرد إنباء الله إياه بدون ولايته لله فهذا تقدير ممتنع فإنه حال إنبائه إياه ممتنع أن يكون إلا وليا لله ولا تكون مجردة عن ولايته ولو قدرت مجردة لم يكن أحد مماثلا للرسول في ولايته.
(فصل: فيما يتناوله لفظ " الصالح " و " الشهيد " و " الصديق " مفردا ومع غيره)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وكذلك لفظ " الصالح " و " الشهيد " و " الصديق ": يذكر مفردا؛ فيتناول النبيين قال تعالى في حق الخليل: {وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين}. وقال: {وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين}. وقال الخليل: {رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين}. وقال يوسف: {توفني مسلما وألحقني بالصالحين}. وقال سليمان: {وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق على صحته {لما كانوا يقولون في آخر صلاتهم: السلام على الله قبل عباده السلام على فلان فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إن الله هو السلام فإذا قعد أحدكم في الصلاة؛ فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإذا قالها أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض}. . الحديث. وقد يذكر " الصالح مع غيره " كقوله تعالى: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين}. قال الزجاج وغيره: الصالح: القائم بحقوق الله وحقوق عباده.

ولفظ " الصالح " خلاف الفاسد؛فإذا أطلق فهو الذي أصلح جميع أمره فلم يكن فيه شيء من الفساد فاستوت سريرته وعلانيته وأقواله وأعماله على ما يرضي ربه؛ وهذا يتناول النبيين ومن دونهم. ولفظ " الصديق " قد جعل هنا معطوفا على النبيين؛ وقد وصف به النبيين في مثل قوله: {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا} - {واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا}.

وكذلك " الشهيد " قد جعل هنا قرين الصديق والصالح وقد قال: {وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق}. ولما قيدت الشهادة على الناس وصفت به الأمة كلها في قوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}. فهذه شهادة مقيدة بالشهادة على الناس كالشهادة المذكورة في قوله: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء}. وقوله {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}. وليست هذه الشهادة المطلقة في الآيتين بل ذلك كقوله: {ويتخذ منكم شهداء}.
(وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78) ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا (79)
والمراد بالحسنات والسيئات هنا النعم والمصائب، كما قد سمى الله ذلك حسنات وسيئات في غير هذا الموضع من القرآن كقوله: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} [سورة الأعراف 168] وقوله: {إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون} [سورة التوبة 50].
ولهذا قال: ما أصابك ولم يقل: ما أصبت. وهكذا قال السلف. ففي رواية أبي صالح عن ابن عباس: أن الحسنة: الخصب والمطر، والسيئة: الجدب والغلاء. وفي رواية الوالبي عنه: أن الحسنة: الفتح والغنيمة، والسيئة الهزيمة والجراح ونحو ذلك. وقال في هذه الرواية: ما أصابك من حسنة: ما فتح الله عليه يوم بدر، والسيئة ما أصابه يوم أحد. وكذلك قال ابن قتيبة: الحسنة: الغنيمة والنعمة، والسيئة البلية. وروي ذلك عن أبي العالية، وروي عنه أن الحسنة: الطاعة، والسيئة: المعصية.
وهذا يظنه طائفة من المتأخرين، ثم اختلف هؤلاء، فقال مثبتة القدر هذا حجة لنا، لقوله سبحانه: {قل كل من عند الله} [سورة النساء 78].
وقال نفاته: بل هو حجة لنا لقوله: {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [سورة النساء 79]. وحجة كل فريق تدل على فساد قول الآخر.
والقولان باطلان في هذه الآية ; فإن المراد: النعم والمصائب ولهذا قال: وإن تصبهم والضمير قد قيل: إنه يعود على المنافقين، وقيل: على اليهود، وقيل: على الطائفتين.
والتحقيق أنه يعود على من قال هذا من أي صنف كان. ولهذا قيل: هذا لا يعين قائله ; لأنه دائما يقوله بعض الناس، فكل من قاله تناولته الآية ; فإن الطاعنين فيما جاء به الرسول من كافر ومنافق، بل ومن في قلبه مرض أو عنده جهل يقول مثل ذلك، وكثير من الناس يقول ذلك في بعض ما جاء به الرسول، ولا يعلم أنه جاء به، لظنه خطأ صاحبه، ويكون هو المخطئ، فإذا أصابهم نصر ورزق، قالوا: هذا من عند الله، لا يضيفه إلى ما جاء به الرسول، وإن كان سببا له. وإن أصابهم نقص رزق وخوف من العدو وظهوره، قالوا: هذا من عندك، لأنه أمر بالجهاد فجرى ما جرى، وأنهم تطيروا بما جاء به، كما تطير قوم فرعون بما جاء به موسى.
والسلف ذكروا المعنيين، فعن ابن عباس، قال: بشؤمك. وعن ابن زيد قال: بسوء تدبيرك. قال تعالى: {قل كل من عند الله} [سورة النساء 78]. وعن ابن عباس: الحسنة والسيئة، أما الحسنة فأنعم بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها. فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا!؟ وقد قيل في مثل هذا: لم يفقهوه ولم يكادوا، وأن النفي مقابل الإثبات. وقيل: بل معناه فقهوه بعد أن كادوا لا يفقهونه.
كقوله: {فذبحوها وما كادوا يفعلون} [سورة البقرة 71]، فالمنفي بها مثبت، والمثبت بها منفي، وهذا هو المشهور وعليه عامة الاستعمال. وقد يقال: يراد بها هذا تارة وهذا تارة ; فإذا صرحت بإثبات الفعل فقد وجد، فإذا لم يؤت إلا بالنفي المحض كقوله: {لم يكد يراها} و {لا يكادون يفقهون حديثا} فهذا نفي مطلق، ولا قرينة معه تدل على الإثبات فيفرق بين مطلقها ومقيدها.
وهذه الأقوال الثلاثة للنحاة، وقال بكل قول طائفة. وقد وصف الله تعالى المنافقين بعدم الفقه في مثل قوله تعالى: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون} [سورة المنافقون 7].

وفي مثل قوله: {ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم} [سورة محمد 16]. فدل على أنهم لم يكونوا يفقهون القرآن.
لكن قوله {حديثا} نكرة في سياق النفي فتعم، كما قال في الكهف: {وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا} [سورة الكهف 93]. ومعلوم أنهم لا بد أن يفقهوا بعض الأقوال، وإلا فلا يعيش الإنسان بدون ذلك، فعلم أن المراد أنهم يفقهون بعد أن كادوا لم يفقهوه.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 30-10-2022, 10:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد الخامس
الحلقة( 204)

من صــ 391 الى صـ 400




وكذلك في الرواية، وهذا أظهر أقوال النحاة وأشهرها.
والمقصود أن هؤلاء لو فقهوا القرآن لعلموا أنك ما أمرتهم إلا بخير، وما نهيتهم إلا عن شر، وأنه لم تكن المصيبة الحاصلة لهم بسببك، بل بسبب ذنوبهم. ثم قال الله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [سورة النساء 79]. قال ابن عباس: وأنا كتبتها عليك. وقيل: إنها في حرف عند الله وأنا قدرتها عليك.
وهذا كقوله: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} [سورة الشورى 30]، وقوله: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} [سورة آل عمران 165] وقوله: {وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور} [سورة الشورى 48].
وأما رواية كردم عن يعقوب: فمن نفسك، فمعناها يناقض القراءة المتواترة فلا يعتمد عليها.
ومعنى هذه الآية كما في الحديث الصحيح الإلهي: " «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» ".

ومعنى هذه الآية متناول لكل من نسب ما أصابه من المصيبة إلى ما أمر الله به ورسوله كائنا من كان. فمن قال: إنه بسبب تقديمه لأبي بكر وعمر، واستخلافه في الصلاة، أو بسبب ولايتهما، حصل لهم مصيبة. قيل: مصيبتكم بسبب ذنوبكم: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا - ويرزقه من حيث لا يحتسب} [سورة الطلاق 2 - 3]، بل هذا كله من أذى المؤمنين بغير ما اكتسبوا وقد قال تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضا} [سورة الحجرات: 12].

وثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «الغيبة ذكرك أخاك بما يكره ". قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته» ". فمن رمى أحدا بما ليس فيه فقد بهته، فكيف إذا كان ذلك في الصحابة؟.
(فصل: قال شيخ الإسلام)
قوله: {ما أصابك من حسنة فمن الله} الآية بعد قوله: {كل من عند الله} لو اقتصر على الجمع أعرض العاصي عن ذم نفسه والتوبة من الذنب والاستعاذة من شره وقام بقلبه حجة إبليس فلم تزده إلا طردا كما زادت المشركين ضلالا حين قالوا: {لو شاء الله ما أشركنا}. ولو اقتصر على الفرق لغابوا عن التوحيد والإيمان بالقدر واللجأ إلى الله في الهداية كما في خطبته صلى الله عليه وسلم {الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره} فيشكره ويستعينه على طاعته ويستغفره من معصيته ويحمده على إحسانه. ثم قال: {ونعوذ بالله من شرور أنفسنا} إلى آخره. لما استغفر من المعاصي استعاذه من الذنوب التي لم تقع. ثم قال: {ومن سيئات أعمالنا} أي ومن عقوباتها. ثم قال {من يهد الله فلا مضل له} إلخ. شهادة بأنه المتصرف في خلقه ففيه إثبات القضاء الذي هو نظام التوحيد هذا كله مقدمة بين يدي الشهادتين فإنما يتحققان بحمد الله وإعانته واستغفاره واللجأ إليه،والإيمان بأقداره. فهذه الخطبة عقد نظام الإسلام والإيمان. وقال كون الحسنات من الله والسيئات من النفس له وجوه: " الأول " أن النعم تقع بلا كسب. " الثاني " أن عمل الحسنات من إحسان الله إلى عبده فخلق الحياة وأرسل الرسل وحبب إليهم الإيمان.

وإذا تدبرت هذا شكرت الله فزادك وإذا علمت أن الشر لا يحصل إلا من نفسك تبت فزال. " الثالث " أن الحسنة تضاعف. " الرابع " أن الحسنة يحبها ويرضاها فيحب أن ينعم ويحب أن يطاع؛ ولهذا تأدب العارفون فأضافوا النعم إليه والشر إلى محله كما قال إمام الحنفاء: {الذي خلقني فهو يهدين} إلى قوله: {وإذا مرضت فهو يشفين}. " الخامس " أن الحسنة مضافة إليه؛ لأنه أحسن بها بكل اعتبار وأما السيئة فما قدرها إلا لحكمة.
" السادس " أن الحسنات أمور وجودية متعلقة بالرحمة والحكمة؛لأنها إما فعل مأمور أو ترك محظور والترك أمر وجودي فتركه لما عرف أنه ذنب وكراهته له ومنع نفسه منه أمور وجودية وإنما يثاب على الترك على هذا الوجه. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم البغض في الله من أوثق عرى الإيمان وهو أصل الترك. وجعل المنع لله من كمال الإيمان وهو أصل الترك. وكذلك براءة الخليل من قومه المشركين ومعبوديهم ليست تركا محضا؛ بل صادرا عن بغض وعداوة. وأما السيئات فمنشؤها من الظلم والجهل.
وفي الحقيقة كلها ترجع إلى الجهل وإلا فلو تم العلم بها لم يفعلها؛ فإن هذا خاصة العقل وقد يغفل عن هذا كله بقوة وارد الشهوة والغفلة والشهوة أصل الشر كما قال تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه} الآية. " السابع " أن ابتلاءه له بالذنوب عقوبة له على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه. " الثامن " أن ما يصيبه من الخير والنعم لا تنحصر أسبابه من إنعام الله عليه؛ فيرجع في ذلك إلى الله ولا يرجو إلا هو؛ فهو يستحق الشكر التام الذي لا يستحقه غيره وأن ما يستحق من الشكر جزاء على ما يسره الله على يديه؛ ولكن لا يبلغ أن يشكر بمعصية الله فإنه المنعم بما لا يقدر عليه مخلوق ونعم المخلوق منه أيضا وجزاؤه على الشكر والكفر لا يقدر أحد على مثله. فإذا عرف أن {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده} صار توكله ورجاؤه إلى الله وحده وإذا عرف ما يستحقه من الشكر الذي يستحقه صار له. . . (1)
والشر انحصر سببه في النفس؛ فعلم من أين يؤتى فتاب واستعان بالله كما قال بعض السلف: لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخاف إلا ذنبه. وقد تقدم قول السلف ابن عباس وغيره: أن ما أصابهم يوم أحد مطلقا كان بذنوبهم لم يستثن أحد وهذا من فوائد تخصيص الخطاب؛ لئلا يظن أنه عام مخصوص ". التاسع " أن السيئة إذا كانت من النفس والسيئة خبيثة: كما قال تعالى: {الخبيثات للخبيثين} الآية.
قال جمهور السلف: الكلمات {الخبيثات للخبيثين} وقال: {ومثل كلمة خبيثة} وقال: {إليه يصعد الكلم الطيب} والأقوال والأفعال صفات للقائل الفاعل فإذا اتصفت النفس بالخبث فمحلها ما يناسبها فمن أراد أن يجعل الحيات يعاشرن الناس كالسنانير لم يصلح؛ بل إذا كان في النفس خبث طهرت حتى تصلح للجنة كما في حديث أبي سعيد الذي في الصحيح وفيه: {حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة} فإذا علم الإنسان أن السيئة من نفسه لم يطمع في السعادة التامة مع ما فيه من الشر بل علم تحقيق قوله: {من يعمل سوءا يجز به} {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} إلخ. وعلم أن الرب عليم حكيم رحيم عدل وأفعاله على قانون العدل والإحسان كما في الصحيح {يمين الله ملآى} إلى قوله: {والقسط بيده الأخرى} وعلم فساد قول الجهمية الذين يجعلون الثواب والعقاب بلا حكمة ولا عدل. إلى أن قال: ومن سلك مسلكهم غايته إذا عظم الأمر والنهي أن يقول - كما نقل عن الشاذلي - يكون الجمع في قلبك مشهودا والفرق على لسانك موجودا كما يوجد في كلامه وكلام غيره أقوال وأدعية تستلزم تعطيل الأمر والنهي مما يوجب أن يجوز عنده أن يجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ويدعون بأدعية فيها اعتداء كما في حزب الشاذلي. وآخرون من عوامهم يجوزون أن يكرم الله بكرامات الأولياء لمن هو فاجر وكافر ويقولون: هذه موهبة ويظنونها من الكرامات وهي من الأحوال الشيطانية التي يكون مثلها للسحرة والكهان كما قال تعالى: {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم} إلى قوله: {هاروت وماروت} وصح قوله:{لتتبعن سنن من كان قبلكم}.
فعدل كثير من المنتسبين إلى الإسلام إلى أن نبذ القرآن وراء ظهره واتبع ما تتلو الشياطين فلا يعظم أمر القرآن ونهيه ولا يوالي من أمر القرآن بموالاته ولا يعادي من أمر القرآن بمعاداته؛ بل يعظم من يأتي ببعض الخوارق. ثم منهم من يعرف أنه من الشياطين؛ لكن يعظمه لهواه ويفضله على طريقة القرآن وهؤلاء كفار قال الله تعالى فيهم: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} إلخ.
قال: وفي قوله تعالى {فمن نفسك} من الفوائد: أن العبد لا يطمئن إلى نفسه ولا يشتغل بملام الناس وذمهم؛ بل يسأل الله أن يعينه على طاعته؛ ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه دعاء الفاتحة وهو محتاج إلى الهدى كل لحظة ويدخل فيه من أنواع الحاجات ما لا يمكن حصره ويبينه أن الله سبحانه لم يقص علينا قصة في القرآن إلا لنعتبر وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا الثاني بالأول؛ فلولا أن في النفوس ما في نفوس المكذبين للرسل لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط؛ ولكن الأمر كما قال تعالى: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} وقوله: {أتواصوا به} وقوله: {تشابهت قلوبهم} ولهذا في الحديث: {لتسلكن سنن من كان قبلكم}. وقد بين القرآن أن السيئات من النفس وأعظم السيئات جحود الخالق والشرك به وطلب أن يكون شريكا له وكلا هذين وقع. وقال بعضهم ما من نفس إلا وفيها ما في نفس فرعون وذلك أن الإنسان إذا اعتبر وتعرف أحوال الناس رأى ما يبغض نظيره وأتباعه حسدا كما فعلت اليهود لما بعث الله من يدعو إلى مثل ما دعا إليه موسى؛ ولهذا أخبر عنهم بنظير ما أخبر به عن فرعون.

وقال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني - تغمده الله تعالى برحمته -:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له. ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
__________
Q (1) بياض بالأصل

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 30-10-2022, 10:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد الخامس
الحلقة( 205)

من صــ 401 الى صـ 410





فصل:
في قوله تعالى {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وبعض ما تضمنته من الحكم العظيمة.
هذه الآية: ذكرها الله في سياق الأمر بالجهاد وذم الناكثين عنه،قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا} الآيات إلى أن ذكر صلاة الخوف وقد ذكر قبلها طاعة الله وطاعة الرسول والتحاكم إلى الله وإلى الرسول. ورد ما تنازع فيه الناس إلى الله وإلى الرسول. وذم الذين يتحاكمون ويردون ما تنازعوا فيه إلى غير الله والرسول. فكانت تلك الآيات: تبيينا للإيمان بالله وبالرسول. ولهذا قال فيها: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}. وهذا جهاد عما جاء به الرسول. وقد قال تعالى {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله} وقال تعالى {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} وقال {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين} {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون} {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات} الآية.

وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} {تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} {يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم} {وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين} {يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين}.

وذكر بعد آيات الجهاد إنزال الكتاب على رسول الله ليحكم بين الناس بما أراه الله ونهيه عن ضد ذلك. وذكره فضل الله عليه ورحمته في حفظه وعصمته من إضلال الناس له وتعليمه ما لم يكن يعلم. وذم من شاق الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين. وتعظيم أمر الشرك وشديد خطره وأن الله لا يغفره. ولكن يغفر ما دونه لمن يشاء - إلى أن بين أن أحسن الأديان: دين من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا. بشرط أن تكون عبادته بفعل الحسنات التي شرعها لا بالبدع والأهواء. وهم أهل ملة إبراهيم الذين اتبعوا ملة إبراهيم حنيفا {واتخذ الله إبراهيم خليلا}. فكان في الأمر بطاعة الرسول والجهاد عليها: اتباع التوحيد وملة إبراهيم. وهو إخلاص الدين لله وأن يعبد الله بما أمر به على ألسن رسله من الحسنات. وقد ذكر تعالى في ضمن آيات الجهاد: ذم من يخاف العدو ويطلب الحياة. وبين أن ترك الجهاد: لا يدفع عنهم الموت.

بل أينما كانوا أدركهم الموت ولو كانوا في بروج مشيدة. فلا ينالون بترك الجهاد منفعة. بل لا ينالون إلا خسارة الدنيا والآخرة. فقال تعالى {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا}. وهذا الفريق قد قيل: إنهم منافقون. وقيل: نافقوا لما كتب عليهم القتال. وقيل: بل حصل منهم جبن وفشل. فكان في قلوبهم مرض. كما قال تعالى: {فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم} {طاعة وقول معروف} الآية وقال تعالى {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا}. والمعنى متناول لهؤلاء ولهؤلاء. ولكل من كان بهذه الحال.

ثم قال: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا}. فالضمير في قوله " وإن تصبهم " يعود إلى من ذكر. وهم الذين {يخشون الناس} أو يعود إلى معلوم وإن لم يذكر. كما في مواضع كثيرة. وقد قيل: إن هؤلاء كانوا كفارا من اليهود. وقيل: كانوا منافقين. وقيل: بل كانوا من هؤلاء وهؤلاء. والمعنى يعم كل من كان كذلك. ولكن تناوله لمن أظهر الإسلام وأمر بالجهاد: أولى. ثم إذا تناول الذم هؤلاء: فهو للكفار الذين لا يظهرون الإسلام أولى وأحرى. والذي عليه عامة المفسرين: أن " الحسنة " و " السيئة " يراد بهما النعم والمصائب. ليس المراد: مجرد ما يفعله الإنسان باختياره باعتباره من الحسنات أو السيئات.
فصل:
ولفظ " الحسنات " و " السيئات " في كتاب الله: يتناول هذا وهذا قال الله تعالى عن المنافقين {إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا} وقال تعالى: {إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون} وقال تعالى {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} وقال تعالى {وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور} وقال تعالى في حق الكفار المتطيرين بموسى ومن معه: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} ذكر هذا بعد قوله: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون}. وأما الأعمال المأمور بها والمنهي عنها: ففي مثل قوله تعالى {من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون} وقوله تعالى {إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} وقوله تعالى {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما}. وهنا قال {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} ولم يقل: وما فعلت وما كسبت. كما قال: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} وقال تعالى: {فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم} وقال تعالى:
{قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا} وقال تعالى: {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم} وقال تعالى: {فأصابتكم مصيبة الموت} وقال تعالى: {وبشر الصابرين} {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون}. فلهذا كان قول {ما أصابك من حسنة} و {من سيئة} متناول لما يصيب الإنسان ويأتيه من النعم التي تسره ومن المصائب التي تسوءه. فالآية متناولة لهذا قطعا. وكذلك قال عامة المفسرين. قال أبو العالية: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله}قال: هذه في السراء {وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك} قال: وهذه في الضراء. وقال السدي: {وإن تصبهم حسنة} قالوا والحسنة الخصب ينتج خيولهم وأنعامهم ومواشيهم ويحسن حالهم وتلد نساؤهم الغلمان {يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة} قالوا - والسيئة: الضرر في أموالهم تشاؤما بمحمد - قالوا: {هذه من عندك} يقولون: بتركنا ديننا واتباعنا محمدا أصابنا هذا البلاء. فأنزل الله {قل كل من عند الله} الحسنة والسيئة {فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} قال: القرآن. وقال الوالبي عن ابن عباس {ما أصابك من حسنة فمن الله} قال: ما فتح الله عليك يوم بدر. وكذلك قال الضحاك. وقال الوالبي أيضا عن ابن عباس " من حسنة " قال: ما أصاب من الغنيمة والفتح فمن الله.
قال: " والسيئة " ما أصابه يوم أحد. إذ شج في وجهه وكسرت رباعيته. وقال: أما " الحسنة " فأنعم الله بها عليك وأما " السيئة " فابتلاك الله بها.
وروي أيضا عن حجاج عن عطية عن ابن عباس {ما أصابك من حسنة فمن الله} قال: هذا يوم بدر {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} قال: هذا يوم أحد. يقول: ما كان من نكبة: فمن ذنبك وأنا قدرت ذلك عليك.

وكذلك روى ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح فمن " نفسك " قال: فبذنبك وأنا قدرتها عليك. روى هذه الآثار ابن أبي حاتم وغيره. وروي أيضا عن مطرف بن عبد الله بن الشخير. قال: ما تريدون من القدر؟ أما تكفيكم هذه الآية التي في سورة النساء {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك} ؟ أي من نفسك. والله ما وكلوا إلى القدر. وقد أمروا به. وإليه يصيرون. وكذلك في تفسير أبي صالح عن ابن عباس {وإن تصبهم حسنة} الخصب والمطر {وإن تصبهم سيئة} الجدب والبلاء. وقال ابن قتيبة {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} قال: الحسنة النعمة. والسيئة البلية.

وقد ذكر أبو الفرج في قوله " {ما أصابك من حسنة} - ومن سيئة " ثلاثة أقوال. أحدها: أن " الحسنة " ما فتح الله عليهم يوم بدر. و " السيئة " ما أصابهم يوم أحد. قال: رواه ابن أبي طلحة - وهو الوالبي - عن ابن عباس. قال: والثاني " الحسنة " الطاعة. و " السيئة " المعصية. قاله أبو العالية. والثالث " الحسنة " النعمة. و " السيئة " البلية. قاله ابن منبه. قال: وعن أبي العالية نحوه. وهو أصح. قلت: هذا هو القول المعروف بالإسناد عن أبي العالية كما تقدم من تفسيره المعروف الذي يروى عنه هو وغيره من طريق أبي جعفر الداري عن الربيع بن أنس عنه وأمثاله. وأما الثاني: فهو لم يذكر إسناده. ولكن ينقل من كتب المفسرين الذين يذكرون أقوال السلف بلا إسناد. وكثير منها ضعيف. بل كذب لا يثبت عمن نقل عنه. وعامة المفسرين المتأخرين أيضا يفسرونه على مثل أقوال السلف وطائفة منهم تحملها على الطاعة والمعصية.

فأما الصنف الأول: فهي تتناوله قطعا. كما يدل عليه لفظها وسياقها ومعناها وأقوال السلف. وأما المعنى الثاني: فليس مرادا دون الأول قطعا. ولكن قد يقال: إنه مراد مع الأول باعتبار أن ما يهديه الله إليه من الطاعة: هو نعمة في حقه من الله أصابته. وما يقع منه من المعصية: هو سيئة أصابته. ونفسه التي عملت السيئة. وإذا كان الجزاء من نفسه فالعمل الذي أوجب الجزاء: أولى أن يكون من نفسه. فلا منافاة أن تكون سيئة العمل وسيئة الجزاء من نفسه. مع أن الجميع مقدر كما تقدم. وقد روي عن مجاهد عن ابن عباس: أنه كان يقرأ " فمن نفسك وأنا قدرتها عليك ".

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 30-10-2022, 10:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد الخامس
الحلقة( 206)

من صــ 411 الى صـ 420




فصل:
والمعصية الثانية: قد تكون عقوبة الأولى. فتكون من سيئات الجزاء مع أنها من سيئات العمل. قال النبي صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته -عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم {عليكم بالصدق. فإن الصدق يهدي إلى البر. والبر يهدي إلى الجنة. ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا. وإياكم والكذب. فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار. ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا}. وقد ذكر في غير موضع من القرآن ما يبين أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى.

وكذلك السيئة الثانية: قد تكون من عقوبة الأولى. قال تعالى {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا} {وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما} {ولهديناهم صراطا مستقيما} وقال تعالى {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} وقال تعالى: {والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم} {سيهديهم ويصلح بالهم} {ويدخلهم الجنة عرفها لهم} وقال تعالى: {ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى} وقال تعالى: {وكتاب مبين} {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم} وقال تعالى: {وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} وقال تعالى: {هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين}

وقال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى} وقال تعالى {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} {وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون} وقال تعالى {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} وقال تعالى {ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين} وقال تعالى {ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين} وقال تعالى {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم} {والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم} {ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم} وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا} {يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم} وقال تعالى {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين}. قال أبو عثمان النيسابوري: من أمر السنة على نفسه - قولا وفعلا - نطق بالحكمة. ومن أمر الهوى على نفسه - قولا وفعلا - نطق بالبدعة. لأن الله تعالى يقول {وإن تطيعوه تهتدوا}

قلت: وقد قال في آخر السورة {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}. وقال تعالى {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} وقال تعالى {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم} وقال تعالى {وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين} - إلى قوله - {ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين} وقال تعالى {وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون} وقال تعالى أيضا {وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا}.

وقال تعالى {فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين} وقال تعالى {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين} {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا} وقال تعالى في النوعين {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} وقال تعالى {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين}.
وقال تعالى {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار} {ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار} {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب}.
وقال تعالى {لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون} {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} وقال تعالى {ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون} {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون} وقال تعالى {ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} وقال تعالى {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} {أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم} {ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم}.

وقال تعالى {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين} {فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون} {فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} وقال تعالى {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين} وقال تعالى في ضد هذا {وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما} - إلى قوله - {ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا} {سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا}. وتوليتهم الأدبار: ليس مما نهوا عنه ولكن هو من جزاء أعمالهم. وهذا باب واسع.

فصل:
وإذا كانت السيئات التي يعملها الإنسان قد تكون من جزاء سيئات تقدمت - وهي مضرة - جاز أن يقال: هي مما أصابه من السيئات وهي بذنوب تقدمت. وعلى كل تقدير: فالذنوب التي يعملها؛ هي من نفسه. وإن كانت مقدرة عليه.
فإنه إذا كان الجزاء الذي هو مسبب عنها من نفسه فعمله الذي هو ذلك الجزاء: من نفسه بطريق الأولى. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته {نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا}. {وقال له أبو بكر رضي الله عنه علمني دعاء. فقال قل: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه. أشهد أن لا إله إلا أنت. أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم. قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك}.
فقد بين أن قوله {فمن نفسك} يتناول العقوبات على الأعمال ويتناول الأعمال. مع أن الكل بقدر الله.
فصل:
وليس للقدرية أن يحتجوا بالآية لوجوه: منها: أنهم يقولون: فعل العبد - حسنة كان أو سيئة - هو منه لا من الله. بل الله قد أعطى كل واحد من الاستطاعة ما يفعل به الحسنات والسيئات. لكن هذا عندهم: أحدث إرادة فعل بها الحسنات. وهذا أحدث إرادة فعل بها السيئات. وليس واحد منهما من إحداث الرب عندهم. والقرآن قد فرق بين الحسنات والسيئات. وهم لا يفرقون في الأعمال بين الحسنات والسيئات إلا من جهة الأمر. لا من جهة كون الله خلق فيه الحسنات دون السيئات. بل هو عندهم لم يخلق لا هذا ولا هذا. لكن منهم من يقول: بأنه يحدث من الأعمال الحسنة والسيئة: ما يكون جزاء. كما يقوله أهل السنة.

لكن على هذا: فليست عندهم كل الحسنات من الله. ولا كل السيئات. بل بعض هذا وبعض هذا. الثاني: أنه قال {كل من عند الله} فجعل الحسنات من عند الله كما جعل السيئات من عند الله. وهم لا يقولون بذلك في الأعمال. بل في الجزاء. وقوله - بعد هذا - {ما أصابك من حسنة} و {من سيئة} مثل قوله {وإن تصبهم حسنة} وقوله {وإن تصبهم سيئة}. الثالث: أن الآية أريد بها: النعم والمصائب. كما تقدم. وليس للقدرية المجبرة أن تحتج بهذه الآية على نفي أعمالهم التي استحقوا بها العقاب. فإن قوله {كل من عند الله} هو النعم والمصائب. ولأن قوله {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} حجة عليهم. وبيان أن الإنسان هو فاعل السيئات. وأنه يستحق عليها العقاب.

والله ينعم عليه بالحسنات - عملها وجزائها - فإنه إذا كان ما أصابهم من حسنة فهو من الله: فالنعم من الله. سواء كانت ابتداء أو كانت جزاء. وإذا كانت جزاء - وهي من الله -: فالعمل الصالح الذي كان سببها: هو أيضا من الله. أنعم بهما الله على العبد. وإلا فلو كان هو من نفسه - كما كانت السيئات من نفسه - لكان كل ذلك من نفسه. والله تعالى قد فرق بين النوعين في الكتاب والسنة. كما في الحديث الصحيح الإلهي: {عن الله يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها.
فمن وجد خيرا فليحمد الله. ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه} وقال تعالى {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} وقال تعالى {وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون} وقال تعالى {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} وقال تعالى {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم} وقال تعالى {وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين} وقال تعالى {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} وقال تعالى للمؤمنين {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون} وقد أمروا أن يقولوا في الصلاة {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}.
فصل:
وقد ظن طائفة: أن في الآية إشكالا أو تناقضا في الظاهر حيث قال {كل من عند الله} ثم فرق بين الحسنات والسيئات. فقال {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}.
وهذا من قلة فهمهم وعدم تدبرهم الآية. وليس في الآية تناقض. لا في ظاهرها ولا في باطنها. لا في لفظها ولا معناها.

فإنه ذكر عن المنافقين والذين في قلوبهم مرض الناكصين عن الجهاد. ما ذكره بقوله {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك} هذا يقولونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي بسبب ما أمرتنا به من دينك والرجوع عما كنا عليه: أصابتنا هذه السيئات. لأنك أمرتنا بما أوجبها. فالسيئات: هي المصائب والأعمال التي ظنوا أنها سبب المصائب: هو أمرهم بها. وقولهم " من عندك " تتناول مصائب الجهاد التي توجب الهزيمة لأنه أمرهم بالجهاد. وتتناول أيضا مصائب الرزق على جهة التشاؤم والتطير. أي هذا عقوبة لنا بسبب دينك. كما كان قوم فرعون يتطيرون بموسى وبمن معه.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 30-10-2022, 10:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد الخامس
الحلقة( 207)

من صــ 421 الى صـ 430





وكما قال أهل القرية للمرسلين {إنا تطيرنا بكم} وكما قال الكفار من ثمود لصالح ولقومه: {اطيرنا بك وبمن معك} فكانوا يقولون عما يصيبهم - من الحرب والزلزال والجراح والقتل وغير ذلك مما يحصل من العدو -: هو منك. لأنك أمرتنا بالأعمال الموجبة لذلك. ويقولون عن هذا وعن المصائب السمائية: إنها منك. أي بسبب طاعتنا لك واتباعنا لدينك: أصابتنا هذه المصائب كما قال تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة}. فهذا يتناول كل من جعل طاعة الرسول وفعل ما بعث به: مسببا لشر أصابه: إما من السماء. وإما من آدمي. وهؤلاء كثيرون. لم يقولوا " هذه من عندك " بمعنى: أنك أنت الذي أحدثتها. فإنهم يعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدث شيئا من ذلك ولم يكن قولهم " من عندك " خطابا من بعضهم لبعض.
بل هو خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. ومن فهم هذا تبين له أن قوله {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} لا يناقض قوله {كل من عند الله} بل هو محقق له. لأنهم - هم ومن أشبههم إلى يوم القيامة - يجعلون ما جاء به الرسول والعمل به: سببا لما قد يصيبهم من مصائب. وكذلك من أطاعه إلى يوم القيامة. وكانوا تارة يقدحون فيما جاء به ويقولون: ليس هذا مما أمر الله به. ولو كان مما أمر الله به: لما جرى على أهله هذا البلاء.

وتارة لا يقدحون في الأصل. لكن يقدحون في القضية المعينة. فيقولون: هذا بسوء تدبير الرسول. كما قال عبد الله بن أبي ابن سلول يوم أحد - إذ كان رأيه مع رأي النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يخرجوا من المدينة - فسأله صلى الله عليه وسلم ناس ممن كان لهم رغبة في الجهاد: أن يخرج. فوافقهم ودخل بيته ولبس لامته. فلما لبس لأمته ندموا. وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أنت أعلم. فإن شئت أن لا نخرج فلا نخرج. فقال: {ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن ينزعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه} يعني: أن الجهاد يلزم بالشروع كما يلزم الحج. لا يجوز ترك ما شرع فيه منه إلا عند العجز بالإحصار في الحج.

فصل:
والمفسرون ذكروا في قوله {وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك} هذا وهذا. فعن ابن عباس، والسدي، وغيرهما: أنهم يقولون هذا، تشاؤما بدينه. وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. قال: بسوء تدبيرك - يعني كما قاله عبد الله بن أبي وغيره يوم أحد - وهم كالذين {قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا}. فبكل حال: قولهم " من عندك " هو طعن فيما أمر الله به ورسوله: من الإيمان والجهاد. وجعل ذلك: هو الموجب للمصائب التي تصيب المؤمنين المطيعين، كما أصابتهم يوم أحد.
وتارة تصيب عدوهم. فيقول الكافرون: هذا بشؤم هؤلاء، كما قال أصحاب القرية للمرسلين {إنا تطيرنا بكم} وكما قال تعالى عن آل فرعون {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون} وقال تعالى عن قوم صالح {قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون} ولما قال أهل القرية {إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم} {قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون}. قال الضحاك: في قوله {ألا إنما طائرهم عند الله} يقول: الأمر من قبل الله ما أصابكم من أمر فمن الله، بما كسبت أيديكم.
وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: " معايبكم " وقال قتادة " عملكم عند الله ". وفي رواية غير علي: عملكم عند الله {بل أنتم قوم تفتنون} أي تبتلون بطاعة الله ومعصيته. رواهما ابن أبي حاتم وغيره. وعن ابن إسحاق قال: قالت الرسل " طائركم معكم " أي أعمالكم. فقد فسروا " الطائر " بالأعمال وجزائها، لأنهم كانوا يقولون: إنما أصابنا ما أصابنا من المصائب بذنوب الرسل وأتباعهم.

فبين الله سبحانه: أن طائرهم - وهو الأعمال وجزاؤها - هو عند الله. وهو معهم. فهو معهم لأن أعمالهم وما قدر من جزائها معهم كما قال تعالى {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} وهو من الله؛ لأن الله تعالى قدر تلك المصائب بأعمالهم. فمن عنده تتنزل عليهم المصائب. جزاء على أعمالهم، لا بسبب الرسل وأتباعهم. وفي هذا يقال: إنهم إنما يجزون بأعمالهم، لا بأعمال غيرهم. ولذلك قال في هذه الآية - لما كان المنافقون والكفار ومن في قلبه مرض يقول: هذا الذي أصابنا هو بسبب ما جاء به محمد، عقوبة دينية وصل إلينا - بين سبحانه: أن ما أصابهم من المصائب إنما هو بذنوبهم. ففي هذا رد على من أعرض عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لئلا تصيبه تلك المصائب. وعلى من انتسب إلى الإيمان بالرسول، ونسبها إلى فعل ما جاء به الرسول، وعلى من أصابته مع كفره بالرسول ونسبها إلى ما جاء به الرسول.

فصل:
والمقصود: أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليس سببا لشيء من المصائب. ولا تكون طاعة الله ورسوله قط سببا لمصيبة، بل طاعة الله والرسول لا تقتضي إلا جزاء أصحابها بخيري الدنيا والآخرة. ولكن قد تصيب المؤمنين بالله ورسوله مصائب بسبب ذنوبهم. لا بما أطاعوا فيه الله والرسول، كما لحقهم يوم أحد بسبب ذنوبهم. لا بسبب طاعتهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وكذلك ما ابتلوا به في السراء والضراء والزلزال: ليس هو بسبب نفس إيمانهم وطاعتهم، لكن امتحنوا به، ليتخلصوا مما فيهم من الشر وفتنوا به كما يفتن الذهب بالنار، ليتميز طيبه من خبيثه. والنفوس فيها شر. والامتحان يمحص المؤمن من ذلك الشر الذي في نفسه. قال تعالى {وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين} {وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} وقال تعالى {وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم} ولهذا قال صالح عليه السلام لقومه {طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون}.
ولهذا كانت المصائب تكفر سيئات المؤمنين، وبالصبر عليها ترتفع درجاتهم وما أصابهم في الجهاد من مصائب بأيدي العدو، فإنه يعظم أجرهم بالصبر عليها. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {ما من غازية يغزون في سبيل الله، فيسلمون ويغنمون إلا تعجلوا ثلثي أجرهم. وإن أصيبوا وأخفقوا: تم لهم أجرهم}. وأما ما يلحقهم من الجوع والعطش والتعب: فذاك يكتب لهم به عمل صالح. كما قال تعالى {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين}. وشواهد هذا كثيرة.
فصل:
والمقصود: أن قوله {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله} فإنهم جعلوا ما يصيبهم من المصائب بسبب ما جاءهم به الرسول. وكانوا يقولون: النعمة التي تصيبنا هي من عند الله. والمصيبة من عند محمد. أي بسبب دينه وما أمر به. فقال تعالى: قل هذا وهذا من عند الله.

لا من عند محمد. محمد لا يأتي لا بنعمة ولا بمصيبة ولهذا قال بعد هذا {فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} قال: السدي وغيره: هو القرآن. فإن القرآن إذا هم فقهوا ما فيه: تبين لهم أنه إنما أمرهم بالخير، والعدل، والصدق، والتوحيد. لم يأمرهم بما يكون سببا للمصائب. فإنهم إذا فهموا ما في القرآن علموا: أنه لا يكون سببا للشر مطلقا. وهذا مما يبين أن ما أمر الله به: يعلم بالأمر به حسنه ونفعه، وأنه مصلحة للعباد. وليس كما يقول من يقول: قد يأمر الله العباد بما لا مصلحة لهم فيه إذا فعلوه.

بل فيه مضرة لهم.
فإنه لو كان كذلك لكان قد يصدقه المتطيرون بالرسل وأتباعهم. ومما يوضح ذلك: أنه لما قال {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} قال بعدها {وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا} فإنه قد شهد له بالرسالة بما أظهره على يديه من الآيات والمعجزات. وإذا شهد الله له كفى به شهيدا. ولم يضره جحد هؤلاء لرسالته بما ذكروه من الشبه التي هي عليهم لا لهم بما أرادوا أن يجعلوا سيئاتهم وعقوباتهم حجة على إبطال رسالته. والله تعالى قد شهد له: أنه أرسله للناس رسولا. فكان ختم الكلام بهذا إبطالا لقولهم: إن المصائب من عند الرسول. ولهذا قال، بعد هذا {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا}.
فصل:
وكان فيما ذكره إبطال لقول الجهمية المجبرة ونحوهم، ممن يقول: إن الله قد يعذب العباد بلا ذنب. وأنه قد يأمر العباد بما لا ينفعهم، بل بما يضرهم. فإن فعلوا ما أمرهم به حصل لهم الضرر، وإن لم يفعلوه عاقبهم.
يقولون هذا ومثله، ويزعمون أن هذا لأنه يفعل ما يشاء. والقرآن يرد على هؤلاء من وجوه كثيرة، كما يرد على المكذبين بالقدر. فالآية ترد على هؤلاء وهؤلاء، كما تقدم، مع احتجاج الفريقين بها. وهي حجة على الفريقين. فإن قال نفاة القدر: إنما قال في الحسنة " هي من الله " وفي السيئة " هي من نفسك " لأنه يأمر بهذا، وينهى عن هذا، باتفاق المسلمين. قالوا: ونحن نقول: المشيئة ملازمة للأمر.
فما أمر به فقد شاءه وما لم يأمر به لم يشأه. فكانت مشيئته وأمره حاضة على الطاعة دون المعصية. فلهذا كانت هذه منه دون هذه. قيل: أما الآية: فقد تبين أن الذين قالوا " الحسنة من عند الله، والسيئة من عندك " أرادوا: من عندك يا محمد، أي بسبب دينك. فجعلوا رسالة الرسول هي سبب المصائب. وهذا غير مسألة القدر.

وإذا كان قد أريد: أن الطاعة والمعصية - مما قد قيل - كان قوله {كل من عند الله} حجة عليكم كما تقدم. وقوله بعد هذا {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} لا ينافي ذلك. بل " الحسنة " أنعم الله بها وبثوابها و " السيئة " هي من نفس الإنسان ناشئة، وإن كانت بقضائه وقدره، كما قال تعالى {من شر ما خلق} فمن المخلوقات ما له شر، وإن كان بقضائه وقدره. وأنتم تقولون: الطاعة والمعصية هما من أحداث الإنسان، بدون أن يجعل الله هذا فاعلا وهذا فاعلا، وبدون أن يخص الله المؤمن بنعمة ورحمة أطاعه بها وهذا مخالف للقرآن.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 30-10-2022, 10:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد الخامس
الحلقة( 208)

من صــ 431 الى صـ 440



فصل:
فإن قيل: إذا كانت الطاعات والمعاصي مقدرة، والنعم والمصائب مقدرة. فلم فرق بين الحسنات، التي هي النعم، والسيئات، التي هي المصائب؟ فجعل هذه من الله، وهذه من نفس الإنسان؟. قيل: لفروق بينهما:

" الفرق الأول ": أن نعم الله وإحسانه إلى عباده يقع ابتداء بلا سبب منهم أصلا. فهو ينعم بالعافية والرزق والنصر، وغير ذلك على من لم يعمل خيرا قط. وينشئ للجنة خلقا يسكنهم فضول الجنة. وقد خلقهم في الآخرة لم يعملوا خيرا. ويدخل أطفال المؤمنين ومجانينهم الجنة برحمته بلا عمل. وأما العقاب: فلا يعاقب أحدا إلا بعمله. " الفرق الثاني ": أن الذي يعمل الحسنات. إذا عملها، فنفس عمله الحسنات: هو من إحسان الله، وبفضله عليه بالهداية والإيمان، كما قال أهل الجنة {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}.

وفي الحديث الصحيح {يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيرا فليحمد الله. ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه}. فنفس خلق الله لهم أحياء، وجعله لهم السمع والأبصار والأفئدة: هو من نعمته ونفس إرسال الرسول إليهم، وتبليغه البلاغ المبين الذي اهتدوا به: هو من نعمته. وإلهامهم الإيمان، وهدايتهم إليه، وتخصيصهم بمزيد نعمة حصل لهم بها الإيمان دون الكافرين: هو من نعمته. كما قال تعالى {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون} {فضلا من الله ونعمة}. فجميع ما يتقلب فيه العالم من خيري الدنيا والآخرة:
هو نعمة محضة منه بلا سبب سابق يوجب لهم حقا. ولا حول ولا قوة لهم من أنفسهم إلا به. وهو خالق نفوسهم، وخالق أعمالها الصالحة، وخالق الجزاء. فقوله {ما أصابك من حسنة فمن الله} حق من كل وجه، ظاهرا وباطنا على مذهب أهل السنة. وأما " السيئة " فلا تكون إلا بذنب العبد. وذنبه من نفسه. وهو لم يقل: إني لم أقدر ذلك ولم أخلقه. بل ذكر للناس ما ينفعهم.
فصل:
فإذا تدبر العبد علم أن ما هو فيه من الحسنات من فضل الله، فشكر الله، فزاده الله من فضله عملا صالحا، ونعما يفيضها عليه.
وإذا علم أن الشر لا يحصل له إلا من نفسه بذنوبه: استغفر وتاب. فزال عنه سبب الشر. فيكون العبد دائما شاكرا مستغفرا. فلا يزال الخير يتضاعف له، والشر يندفع عنه. كما {كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته الحمد لله فيشكر الله. ثم يقول نستعينه ونستغفره نستعينه على الطاعة. ونستغفره من المعصية. ثم يقول ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا} فيستعيذ به من الشر الذي في النفس، ومن عقوبة عمله. فليس الشر إلا من نفسه ومن عمل نفسه.

فيستعيذ الله من شر النفس: أن يعمل بسبب سيئاته الخطايا. ثم إذا عمل استعاذ بالله من سيئات عمله، ومن عقوبات عمله. فاستعانه على الطاعة وأسبابها. واستعاذ به من المعصية وعقابها. فعلم العبد بأن ما أصابه من حسنة فمن الله، وما أصابه من سيئة فمن نفسه: يوجب له هذا وهذا. فهو سبحانه فرق بينهما هنا، بعد أن جمع بينهما في قوله {قل كل من عند الله}. فبين أن الحسنات والسيئات: النعم والمصائب، والطاعات والمعاصي، على قول من أدخلها في " من عند الله ". ثم بين الفرق الذي ينتفعون به. وهو أن هذا الخير: من نعمة الله، فاشكروه يزدكم. وهذا الشر: من ذنوبكم. فاستغفروه، يدفعه عنكم. قال الله تعالى {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} وقال تعالى {الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير} {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله}.

والمذنب إذا استغفر ربه من ذنبه فقد تأسى بالسعداء من الأنبياء والمؤمنين، كآدم وغيره. وإذا أصر، واحتج بالقدر: فقد تأسى بالأشقياء، كإبليس ومن اتبعه من الغاوين. فكان من ذكره: أن السيئة من نفس الإنسان بذنوبه، بعد أن ذكر: أن الجميع من عند الله، تنبيها على الاستغفار والتوبة، والاستعاذة بالله من شر نفسه وسيئات عمله. والدعاء بذلك في الصباح والمساء، وعند المنام، كما {أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أبا بكر الصديق، أفضل الأمة، حيث علمه أن يقول اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا، أو أجره إلى مسلم}. فيستغفر مما مضى. ويستعيذ مما يستقبل. فيكون من حزب السعداء. وإذا علم أن الحسنة من الله - الجزاء والعمل - سأله أن يعينه على فعل الحسنات. بقوله {إياك نعبد وإياك نستعين} وبقوله {اهدنا الصراط المستقيم} وقوله {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} ونحو ذلك. وأما إذا أخبر أن الجميع من عند الله فقط، ولم يذكر الفرق فإنه يحصل من هذا التسوية.
فأعرض العاصي والمذنب عن ذم نفسه وعن التوبة من ذنوبها، والاستعاذة من شرها. بل وقام في نفسه: أن يحتج على الله بالقدر. وتلك حجة داحضة، لا تنفعه. بل تزيده عذابا وشقاء، كما زادت إبليس لما قال {فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم} وقال {رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين}. وكالذين يقولون يوم القيامة {لو أن الله هداني لكنت من المتقين} وكالذين قالوا {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء}. فمن احتج بالقدر على ما فعله من ذنوبه، وأعرض عما أمر الله به، من التوبة والاستغفار، والاستعانة بالله، والاستعاذة به، واستهدائه: كان من أخسر الناس في الدنيا والآخرة. فهذا من فوائد ذكر الفرق بين الجمع.
فصل:
الفرق الثالث: أن الحسنة يضاعفها الله وينميها، ويثيب على الهم بها. والسيئة لا يضاعفها، ولا يؤاخذ على الهم بها فيعطي صاحب الحسنة: من الحسنات فوق ما عمل. وصاحب السيئة: لا يجزيه إلا بقدر عمله. قال تعالى {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون}. الفرق الرابع: أن الحسنة مضافة إليه، لأنه أحسن بها من كل وجه، كما تقدم. فما من وجه من وجوهها: إلا وهو يقتضي الإضافة إليه.
وأما السيئة: فهو إنما يخلقها بحكمة. وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه. فإن الرب لا يفعل سيئة قط. بل فعله كله حسن وحسنات. وفعله كله خير. ولهذا {كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الاستفتاح والخير بيديك. والشر ليس إليك} فإنه لا يخلق شرا محضا. بل كل ما يخلقه: ففيه حكمة، هو باعتبارها خير. ولكن قد يكون فيه شر لبعض الناس.

وهو شر جزئي إضافي. فأما شر كلي، أو شر مطلق: فالرب منزه عنه. وهذا هو الشر الذي ليس إليه. وأما الشر الجزئي الإضافي: فهو خير باعتبار حكمته. ولهذا لا يضاف الشر إليه مفردا قط. بل إما أن يدخل في عموم المخلوقات، كقوله {وخلق كل شيء}. وإما أن يضاف إلى السبب كقوله {من شر ما خلق}. وإما أن يحذف فاعله، كقول الجن {وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا}. وهذا الموضع ضل فيه فريقان من الناس الخائضين في القدر بالباطل:

فرقة كذبت بهذا، وقالت: إنه لا يخلق أفعال العباد، ولا يشاء كل ما يكون. لأن الذنوب قبيحة، وهو لا يفعل القبيح. وإرادتها قبيحة، وهو لا يريد القبيح. وفرقة: لما رأت أنه خالق هذا كله ولم تؤمن أنه خلق هذا لحكمة بل قالت: إذا كان يخلق هذا: فيجوز أن يخلق كل شر، ولا يخلق شيئا لحكمة. وما ثم فعل تنزه عنه. بل كل ما كان ممكنا جاز أن يفعله. وجوزوا: أن يأمر بكل كفر ومعصية. وينهى عن كل إيمان وطاعة، وصدق وعدل.
وأن يعذب الأنبياء، وينعم الفراعنة والمشركين وغير ذلك. ولم يفرقوا بين مفعول ومفعول. وهذا منكر من القول وزور، كالأول. قال تعالى {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} وقال تعالى {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} {ما لكم كيف تحكمون} وقال تعالى {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} ونحو ذلك مما يوجب أنه يفرق بين الحسنات والسيئات، وبين المحسن والمسيء. وأن من جوز عليه التسوية بينهما: فقد أتى بقول منكر، وزور ينكر عليه. وليس إذا خلق ما يتأذى به بعض الحيوان: لا يكون فيه حكمة. بل فيه من الحكمة والرحمة ما يخفى على بعضهم مما لا يقدر قدره إلا الله. وليس إذا وقع في المخلوقات ما هو شر جزئي بالإضافة: يكون شرا كليا عاما. بل الأمور العامة الكلية: لا تكون إلا خيرا ومصلحة للعباد. كالمطر العام وكإرسال رسول عام. وهذا مما يقتضي: أنه لا يجوز أن يؤيد الله كذابا عليه بالمعجزات التي أيد بها أنبياءه الصادقين. فإن هذا شر عام للناس، يضلهم ويفسد عليهم دينهم ودنياهم وآخرتهم. وليس هذا كالملك الظالم، والعدو. فإن الملك الظالم: لا بد أن يدفع الله به من الشر أكثر من ظلمه.

وقد قيل: ستون سنة بإمام ظالم: خير من ليلة واحدة بلا إمام. وإذا قدر كثرة ظلمه: فذاك ضرر في الدين، كالمصائب تكون كفارة لذنوبهم ويثابون عليها، ويرجعون فيها إلى الله، ويستغفرونه ويتوبون إليه. وكذلك ما يسلط عليهم من العدو. وأما من يكذب على الله، ويقول - أي يدعي - أنه نبي: فلو أيده الله تأييد الصادق: للزم أن يسوي بينه وبين الصادق. فيستوي الهدى والضلال، والخير والشر، وطريق الجنة وطريق النار. ويرتفع التمييز بين هذا وهذا.
وهذا مما يوجب الفساد العام للناس في دينهم ودنياهم وآخرتهم. ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال من يقاتل على الدين الفاسد من أهل البدع، كالخوارج. وأمر بالصبر على جور الأئمة. ونهى عن قتالهم والخروج عليهم. ولهذا قد يمكن الله كثيرا من الملوك الظالمين مدة. وأما المتنبئون الكذابون: فلا يطيل تمكينهم. بل لا بد أن يهلكهم. لأن فسادهم عام في الدين والدنيا والآخرة.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 30-10-2022, 11:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد الخامس
الحلقة( 209)

من صــ 441 الى صـ 450





قال تعالى {ولو تقول علينا بعض الأقاويل} {لأخذنا منه باليمين} {ثم لقطعنا منه الوتين} وقال تعالى {أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك} فأخبر: أنه - بتقدير الافتراء - لا بد أن يعاقب من افترى عليه.
فصل:
وهذا الموضع مما اضطرب فيه الناس، فاستدلت القدرية النفاة والمجبرة على أنه إذا جاز أن يضل شخصا: جاز أن يضل كل الناس. وإذا جاز أن يعذب حيوانا بلا ذنب ولا عوض: جاز أن يعذب كل حي بلا ذنب ولا عوض. وإذا جاز عليه أن لا يعين واحدا ممن أمره على طاعة أمره: جاز أن لا يعين كل الخلق. فلم تفرق الطائفتان بين الشر الخاص والعام. وبين الشر الإضافي، والشر المطلق. ولم يجعلوا في الشر الإضافي حكمة يصير بها من قسم الخير. ثم قال النفاة: وقد علم أنه منزه عن تلك الأفعال. فإنا لو جوزنا عليه هذا لجوزنا عليه تأييد الكذاب بالمعجزات، وتعذيب الأنبياء وإكرام الكفار، وغير ذلك، مما يستعظم العقلاء إضافته إلى الله تعالى.
فقالت المثبتة من الجهمية المجبرة: بل كل الأفعال جائزة عليه، كما جاز ذلك الخاص. وإنما يعلم أنه لا يفعل ما لا يفعل، أو يفعل ما يفعل: بالخبر، خبر الأنبياء عنه. وإلا فمهما قدر: جاز أن يفعله، وجاز أن لا يفعله. ليس في نفس الأمر سبب ولا حكمة، ولا صفة تقتضي التخصيص ببعض الأفعال دون بعض. بل ليس إلا مشيئة، نسبتها إلى جميع الحوادث سواء. ترجح أحد المتماثلين بلا مرجح. فقيل لهم: فيجوز تأييد الكذاب بالمعجز. فلا يبقى المعجز دليلا على صدق الأنبياء. فلا يبقى خبر نبي يعلم به الفرق. فيلزم - مع الكفر بالأنبياء - أن لا يعلم الفرق، لا بسمع ولا بعقل.
فاحتالوا للفرق بين المعجزات وغيرها. بأن تجويز إتيان الكذاب بالمعجزات يستلزم تعجيز الباري تعالى عما به يفرق بين الصادق والكاذب. أو لأن دلالتها على الصدق معلوم بالاضطرار. كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع. وبين خطأ الطائفتين. وأن هؤلاء الذين اتبعوا جهما في الجبر - ونفوا حكمة الله ورحمته، والأسباب التي بها يفعل، وما خلقه من القوى وغيرها - هم مبتدعة مخالفون للكتاب والسنة وإجماع السلف، مع مخالفتهم لصريح المعقول. كما أن القدرية النفاة: مخالفون للكتاب والسنة وإجماع السلف، مع مخالفتهم لصريح المعقول.
فصل:

والمقصود هنا: الكلام على قوله {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وأن هذا يقتضي، أن العبد لا يزال شاكرا مستغفرا. وقد ذكر: أن الشر لا يضاف إلى الله، إلا على أحد الوجوه الثلاثة. وقد تضمنت الفاتحة للأقسام الثلاثة هو سبحانه الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم {أنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها} وقد سبقت وغلبت رحمته غضبه، وهو الغفور الودود، الحليم الرحيم.

فإرادته: أصل كل خير ونعمة، وكل خير ونعمة فمنه {وما بكم من نعمة فمن الله}. وقد قال سبحانه {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم} ثم قال {وأن عذابي هو العذاب الأليم} وقال تعالى {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم} فالمغفرة والرحمة من صفاته المذكورة بأسمائه. فهي من موجب نفسه المقدسة، ومقتضاها ولوازمها. وأما العذاب: فمن مخلوقاته، الذي خلقه بحكمة، هو باعتبارها حكمة ورحمة. فالإنسان لا يأتيه الخير إلا من ربه وإحسانه وجوده. ولا يأتيه الشر إلا من نفسه. فما أصابه من حسنة: فمن الله. وما أصابه من سيئة: فمن نفسه. وقوله {وما أصابك} إما أن تكون كاف الخطاب له صلى الله عليه وسلم - كما قال ابن عباس وغيره - وهو الأظهر. لقوله بعد ذلك {وأرسلناك للناس رسولا}.
وإما أن تكون لكل واحد من الآدميين، كقوله {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم}. لكن هذا ضعيف. فإنه لم يتقدم هنا ذكر الإنسان ولا مكانه. وإنما تقدم ذكر طائفة قالوا ما قالوه. فلو أريد ذكرهم: لقيل ما أصابهم من حسنة فمن الله وما أصابهم من سيئة. لكن خوطب الرسول بهذا، لأنه سيد ولد آدم. وإذا كان هذا حكمه: كان هذا حكم غيره بطريق الأولى والأحرى. كما في مثل قوله {اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين} ، وقوله تعالى {لئن أشركت ليحبطن عملك} وقوله {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك}. ثم هذا الخطاب نوعان: نوع يختص لفظه به لكن يتناول غيره بطريق الأولى، كقوله {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك} ثم قال {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم}.
ونوع: قد يكون خطابه خطابا به لجميع الناس، كما يقول كثير من المفسرين: الخطاب له والمراد غيره. وليس المعنى: أنه لم يخاطب بذلك. بل هو المقدم. فالخطاب له خطاب لجميع الجنس البشري. وإن كان هو لا يقع منه ما نهي عنه. ولا يترك ما أمر به. بل هذا يقع من غيره. كما يقول ولي الأمر للأمير: سافر غدا إلى المكان الفلاني. أي أنت ومن معك من العسكر. وكما ينهى أعز من عنده عن شيء. فيكون نهيا لمن دونه. وهذا معروف من الخطاب. فقوله {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} الخطاب له صلى الله عليه وسلم.

وجميع الخلق داخلون في هذا الخطاب بالعموم، وبطريق الأولى. بخلاف قوله {وأرسلناك للناس رسولا} فإن هذا له خاصة. ولكن من يبلغ عنه يدخل في معنى الخطاب. كما قال صلى الله عليه وسلم {بلغوا عني ولو آية} وقال {نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه} وقال {ليبلغ الشاهد الغائب} وقال {إن العلماء ورثة الأنبياء} وقد قال تعالى في القرآن {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ}. والمقصود هنا: أن " الحسنة " مضافة إليه سبحانه من كل وجه. و " السيئة " مضافة إليه لأنه خلقها. كما خلق " الحسنة " فلهذا قال {كل من عند الله}.

ثم إنه إنما خلقها لحكمة. ولا تضاف إليه من جهة أنها سيئة، بل تضاف إلى النفس التي تفعل الشر بها لا لحكمة. فتستحق أن يضاف الشر والسيئة إليها. فإنها لا تقصد بما تفعله من الذنوب خيرا يكون فعله لأجله أرجح. بل ما كان هكذا فهو من باب الحسنات. ولهذا كان فعل الله حسنا. لا يفعل قبيحا ولا سيئا قط. وقد دخل في هذا سيئات الجزاء والعمل. لأن المراد بقوله {ما أصابك من حسنة} و {من سيئة} النعم والمصائب، كما تقدم. لكن إذا كانت المصيبة من نفسه - لأنه أذنب - فالذنب من نفسه بطريق الأولى. فالسيئات من نفسه بلا ريب. وإنما جعلها منه مع الحسنة بقوله:
{كل من عند الله} كما تقدم. لأنها لا تضاف إلى الله مفردة. بل في العموم، كقوله {كل من عند الله}. وكذلك الأسماء التي فيها ذكر الشر، لا تذكر إلا مقرونة، كقولنا " الضار النافع، المعطي المانع، المعز المذل " أو مقيدة، كقوله {إنا من المجرمين منتقمون}. وكل ما خلقه - مما فيه شر جزئي إضافي - ففيه من الخير العام والحكمة والرحمة أضعاف ذلك. مثل إرسال موسى إلى فرعون. فإنه حصل به التكذيب والهلاك لفرعون وقومه. وذلك شر بالإضافة إليهم.
لكن حصل به - من النفع العام للخلق إلى يوم القيامة، والاعتبار بقصة فرعون - ما هو خير عام. فانتفع بذلك أضعاف أضعاف من استضر به. كما قال تعالى {فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين} {فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين} وقال تعالى بعد ذكر قصته {إن في ذلك لعبرة لمن يخشى}. وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم شقي برسالته طائفة من مشركي العرب وكفار أهل الكتاب، وهم الذين كذبوه، وأهلكهم الله تعالى بسببه. ولكن سعد بها أضعاف أضعاف هؤلاء. ولذلك من شقي به من أهل الكتاب كانوا مبدلين محرفين قبل أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم. فأهلك الله بالجهاد طائفة. واهتدى به من أهل الكتاب أضعاف أضعاف أولئك. والذين أذلهم الله من أهل الكتاب بالقهر والصغار، أو من المشركين الذين أحدث فيهم الصغار، فهؤلاء كان قهرهم رحمة لهم.

لئلا يعظم كفرهم، ويكثر شرهم. ثم بعدهم حصل من الهدى والرحمة لغيرهم ما لا يحصيهم إلا الله. وهم دائما يهتدي منهم ناس من بعد ناس ببركة ظهور دينه بالحجة واليد. فالمصلحة بإرساله وإعزازه، وإظهار دينه، فيها من الرحمة التي حصلت بذلك ما لا نسبة لها إلى ما حصل بذلك لبعض الناس من شر جزئي إضافي، لما في ذلك من الخير والحكمة أيضا. إذ ليس فيما خلقه الله سبحانه شر محض أصلا، بل هو شر بالإضافة.

فصل:
الفرق الخامس: أن ما يحصل للإنسان من الحسنات التي يعملها كلها أمور وجودية. أنعم الله بها عليه، وحصلت بمشيئة الله ورحمته وحكمته وقدرته وخلقه، ليس في الحسنات أمر عدمي غير مضاف إلى الله. بل كلها أمر وجودي. وكل موجود وحادث فالله هو الذي يحدثه. وذلك: أن الحسنات إما فعل مأمور به، أو ترك منهي عنه. والترك: أمر وجودي. فترك الإنسان لما نهي عنه، ومعرفته بأنه ذنب قبيح، وبأنه سبب للعذاب، وبغضه وكراهته له، ومنع نفسه منه إذا هويته، واشتهته وطلبته. كل هذه أمور وجودية. كما أن معرفته بأن الحسنات - كالعدل والصدق - حسنة، وفعله لها أمور وجودية. ولهذا إنما يثاب الإنسان على فعل الحسنات إذا فعلها محبا لها بنية وقصد فعلها ابتغاء وجه ربه.
وطاعة لله ولرسوله، ويثاب على ترك السيئات إذا تركها بالكراهة لها، والامتناع منها. قال تعالى {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون} وقال تعالى {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى} {فإن الجنة هي المأوى} وقال تعالى {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}. وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله. ومن كان يكره أن يرجع في الكفر - بعد إذ أنقذه الله منه - كما يكره أن يلقى في النار}. وفي السنن عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم {أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله}. وفيها عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم {من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان}.

وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه. فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان}. وفي الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه - لما ذكر الخلوف - قال {من جاهدهم بيده فهو مؤمن. ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن. ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل} وقد قال تعالى {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء}.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 30-10-2022, 11:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد الخامس
الحلقة( 210)

من صــ 451 الى صـ 460



وقال على لسان الخليل {إنني براء مما تعبدون} {إلا الذي فطرني فإنه سيهدين} وقال {أفرأيتم ما كنتم تعبدون} {أنتم وآباؤكم الأقدمون} {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} وقال {فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون} {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} فهذا البغض والعداوة والبراءة مما يعبد من دون الله ومن عابديه: هي أمور موجودة في القلب، وعلى اللسان والجوارح، كما أن حب الله وموالاته وموالاة أوليائه: أمور موجودة في القلب، وعلى اللسان والجوارح. وهي تحقيق قول " لا إله إلا الله " وهو إثبات تأليه القلب لله حبا خالصا وذلا صادقا. ومنع تأليهه لغير الله، وبغض ذلك وكراهته. فلا يعبد إلا الله.
ويحب أن يعبده، ويبغض عبادة غيره ويحب التوكل عليه وخشيته ودعاءه ويبغض التوكل على غيره وخشيته ودعاءه. فهذه كلها أمور موجودة في القلب. وهي الحسنات التي يثيب الله عليها. وأما مجرد عدم السيئات، من غير أن يعرف أنها سيئة، ولا يكرهها، بل لا يفعلها لكونها لم تخطر بباله، أو تخطر كما تخطر الجمادات التي لا يحبها ولا يبغضها - فهذا لا يثاب على عدم ما يفعله من السيئات. ولكن لا يعاقب أيضا على فعلها. فكأنه لم يفعلها. فهذا تكون السيئات في حقه بمنزلتها في حق الطفل والمجنون والبهيمة. لا ثواب ولا عقاب. ولكن إذا قامت عليه الحجة بعلمه تحريمها. فإن لم يعتقد تحريمها ويكرها وإلا عوقب على ترك الإيمان بتحريمها.

فصل:
وقد تنازع الناس في الترك: هل هو أمر وجودي أو عدمي؟. والأكثرون على أنه وجودي. وقالت طائفة - كأبي هاشم بن الجبائي - إنه عدمي وأن المأمور يعاقب على مجرد عدم الفعل، لا على ترك يقوم بنفسه. ويسمون " المذمية " لأنهم رتبوا الذم على العدم المحض. والأكثرون يقولون: الترك أمر وجودي. فلا يثاب من ترك المحظور إلا على ترك يقوم بنفسه. وتارك المأمور: إنما يعاقب على ترك يقوم بنفسه. وهو أن يأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالفعل فيمتنع. فهذا الامتناع أمر وجودي. ولذلك فهو يشتغل عما أمر به بفعل ضده، كما يشتغل عن عبادة الله وحده بعبادة غيره. فيعاقب على ذلك. ولهذا كان كل من لم يعبد الله وحده، فلا بد أن يكون عابدا لغيره. يعبد غيره فيكون مشركا. وليس في بني آدم قسم ثالث. بل إما موحد، أو مشرك، أو من خلط هذا بهذا كالمبدلين من أهل الملل: النصارى ومن أشبههم من الضلال، المنتسبين إلى الإسلام.
قال الله تعالى {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} {إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} وقد قال تعالى {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} لما قال إبليس {لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين} {إلا عبادك منهم المخلصين} قال تعالى {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين}. فإبليس لا يغوي المخلصين. ولا سلطان له عليهم. إنما سلطانه على الغاوين. وهم الذين يتولونه، وهم الذين به مشركون.
وقوله {الذين يتولونه والذين هم به مشركون} صفتان لموصوف واحد. فكل من تولاه فهو به مشرك، وكل من أشرك به فقد تولاه. قال تعالى {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} {وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم}. وكل من عبد غير الله فإنما يعبد الشيطان، وإن كان يظن أنه يعبد الملائكة والأنبياء.
وقال تعالى {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} {قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون}. ولهذا تتمثل الشياطين لمن يعبد الملائكة والأنبياء والصالحين ويخاطبونهم فيظنون أن الذي خاطبهم ملك أو نبي، أو ولي، وإنما هو شيطان، جعل نفسه ملكا من الملائكة، كما يصيب عباد الكواكب وأصحاب العزائم والطلسمات. يسمون أسماء، يقولون: هي أسماء الملائكة مثل منططرون وغيره، وإنما هي أسماء الجن. وكذلك الذين يدعون المخلوقين من الأنبياء والأولياء والملائكة قد يتمثل لأحدهم من يخاطبه، فيظنه النبي، أو الصالح الذي دعاه.

وإنما هو شيطان تصور في صورته، أو قال: أنا هو، لمن لم يعرف صورة ذلك المدعو. وهذا كثير يجري لمن يدعو المخلوقين، من النصارى ومن المنتسبين إلى الإسلام يدعونهم عند قبورهم، أو مغيبهم. ويستغيثون بهم. فيأتيهم من يقول: إنه ذلك المستغاث به في صورة آدمي إما راكبا، وإما غير راكب. فيعتقد المستغيث: أنه ذلك النبي، أو الصالح، أو أنه سره، أو روحانيته، أو رقيقته أو المعنى تشكل، أو يقول: إنه ملك جاء على صورته.
وإنما هو شيطان يغويه، لكونه أشرك بالله ودعا غيره: الميت فمن دونه. فصار للشيطان عليه سلطان بذلك الشرك.

فظن أنه يدعو النبي، أو الصالح، أو الملك. وأنه هو الذي شفع له، أو هو الذي أجاب دعوته. وإنما هو الشيطان، ليزيده غلوا في كفره وضلاله. فكل من لم يعبد الله مخلصا له الدين، فلا بد أن يكون مشركا عابدا لغير الله. وهو في الحقيقة: عابد للشيطان. فكل واحد من بني آدم إما عابد للرحمن، وإما عابد للشيطان. قال تعالى {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين} {وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون} {حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين} {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} وقال تعالى {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد}. فبنو آدم منحصرون في الأصناف الستة. وبسط هذا له موضع آخر.
فصل:
والمقصود هنا: أن الثواب والعقاب إنما يكون على عمل وجودي بفعل الحسنات، كعبادة الله وحده، وترك السيئات، كترك الشرك أمر وجودي، وفعل السيئات، مثل ترك التوحيد، وعبادة غير الله أمر وجودي. قال تعالى {من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون} وقال تعالى {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} وقال تعالى {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها} وقال تعالى {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} {والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة} - إلى قوله - {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} وقال تعالى {ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون}. فأما عدم الحسنات والسيئات: فجزاؤه عدم الثواب والعقاب. وإذا فرض رجل آمن بالرسول مجملا، وبقي مدة لا يفعل كثيرا من المحرمات، ولا سمع أنها محرمة، فلم يعتقد تحريمها.

مثل من آمن ولم يعلم أن الله حرم الميتة والدم ولحم الخنزير، ولا علم أنه حرم نكاح الأقارب سوى أربعة أصناف، ولا حرم بالمصاهرة أربعة أصناف - حرم على كل من الزوجين أصول الآخر وفروعه - فإذا آمن ولم يفعل هذه المحرمات، ولا اعتقد تحريمها، لأنه لم يسمع ذلك: فهذا لا يثاب ولا يعاقب. ولكن إذا علم التحريم فاعتقده: أثيب على اعتقاده. وإذا ترك ذلك - مع دعاء النفس إليه - أثيب ثوابا آخر، كالذي تدعوه نفسه إلى الشهوات فينهاها كالصائم الذي تشتهي نفسه الأكل والجماع فينهاها، والذي تشتهي نفسه شرب الخمر والفواحش فينهاها.

فهذا يثاب ثوابا آخر، بحسب نهيه لنفسه، وصبره على المحرمات، واشتغاله بالطاعات التي هي ضدها. فإذا فعل تلك الطاعات كانت مانعة له عن المحرمات.
وإذا تبين هذا: فالحسنات التي يثاب عليها كلها وجودية، نعمة من الله تعالى وما أحبته النفس من ذلك، وكرهته من السيئات: فهو الذي حبب الإيمان إلى المؤمنين، وزينه في قلوبهم. وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان.
فصل:
وأما السيئات: فمنشؤها الجهل والظلم. فإن أحدا لا يفعل سيئة قبيحة إلا لعدم علمه بكونها سيئة قبيحة، أو لهواه وميل نفسه إليها. ولا يترك حسنة واجبة إلا لعدم علمه بوجوبها، أو لبغض نفسه لها. وفي الحقيقة: فالسيئات كلها ترجع للجهل. وإلا فلو كان عالما علما نافعا بأن فعل هذا يضره ضررا راجحا لم يفعله. فإن هذا خاصية العاقل. ولهذا إذا كان من الحسنات ما يعلم أنه يضره ضررا راجحا، كالسقوط من مكان عال، أو في نهر يغرقه، أو المرور بجنب حائط مائل، أو دخول نار متأججة، أو رمي ماله في البحر ونحو ذلك،لم يفعله، لعلمه بأن هذا ضرر لا منفعة فيه. ومن لم يعلم أن هذا يضره - كالصبي، والمجنون، والساهي والغافل - فقد يفعل ذلك. ومن أقدم على ما يضره - مع علمه بما فيه من الضرر عليه - فلظنه أن منفعته راجحة. فإما أن يجزم بضرر مرجوح، أو يظن أن الخير راجح.

فلا بد من رجحان الخير، إما في الظن وإما في المظنون، كالذي يركب البحر ويسافر الأسفار البعيدة للربح. فإنه لو جزم بأنه يغرق أو يخسر لما سافر، لكنه يترجح عنده السلامة والربح، وإن كان مخطئا في هذا الظن. وكذلك الذنوب: إذا جزم السارق بأنه يؤخذ ويقطع، لم يسرق. وكذلك الزاني: إذا جزم بأنه يرجم، لم يزن. والشارب يختلف حاله. فقد يقدم على جلد أربعين وثمانين، ويديم الشرب مع ذلك. ولهذا كان الصحيح: أن عقوبة الشارب غير محدودة، بل يجوز أن تنتهي إلى القتل، إذا لم ينته إلا بذلك. كما جاءت بذلك الأحاديث. كما هو مذكور في غير هذا الموضع. وكذلك العقوبات، متى جزم طالب الذنب بأنه يحصل له به الضرر الراجح لم يفعله. بل إما ألا يكون جازما بتحريمه، أو يكون غير جازم بعقوبته. بل يرجو العفو بحسنات، أو توبة، أو بعفو الله، أو يغفل عن هذا كله. ولا يستحضر تحريما، ولا وعيدا فيبقى غافلا. غير مستحضر للتحريم. والغفلة من أضداد العلم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 15-11-2022, 05:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد الخامس
الحلقة( 211)

من صــ 461 الى صـ 470





فَصْلٌ:
فَالْغَفْلَةُ وَالشَّهْوَةُ أَصْلُ الشَّرِّ. قَالَ تَعَالَى {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} وَالْهَوَى وَحْدَهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ إلَّا مَعَ الْجَهْلِ. وَإِلَّا فَصَاحِبُ الْهَوَى، إذَا عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ ذَلِك يَضُرُّهُ ضَرَرًا رَاجِحًا: انْصَرَفَتْ نَفْسُهُ عَنْهُ بِالطَّبْعِ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي النَّفْسِ حُبًّا لِمَا يَنْفَعُهَا، وَبُغْضًا لِمَا يَضُرُّهَا. فَلَا تَفْعَلُ مَا تَجْزِمُ بِأَنَّهُ يَضُرُّهَا ضَرَرًا رَاجِحًا. بَلْ مَتَى فَعَلَتْهُ كَانَ لِضَعْفِ الْعَقْلِ. وَلِهَذَا يُوصَفُ هَذَا بِأَنَّهُ عَاقِلٌ، وَذُو نُهًى، وَذُو حِجًا. وَلِهَذَا كَانَ الْبَلَاءُ الْعَظِيمُ مِنْ الشَّيْطَانِ. لَا مِنْ مُجَرَّدِ النَّفْسِ. فَإِنَّ الشيطان يزين لها السيئات. ويأمرها بها، ويذكر لها ما فيها من المحاسن. التي هي منافع لا مضار. كما فعل إبليس بآدم وحواء. فقال {يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} {فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما} {وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين}.
ولهذا قال تعالى {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين} {وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون} وقال تعالى {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا} وقال تعالى {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون}. وقوله {زينا لكل أمة عملهم} هو بتوسيط تزيين الملائكة، والأنبياء، والمؤمنين للخير. وتزيين شياطين الجن والإنس للشر. قال تعالى {وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم} فأصل ما يوقع الناس في السيئات: الجهل، وعدم العلم بكونها تضرهم ضررا راجحا، أو ظن أنها تنفعهم نفعا راجحا. ولهذا قال الصحابة رضي الله عنهم " كل من عصى الله فهو جاهل " وفسروا بذلك قوله تعالى {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} كقوله {وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم} ولهذا يسمى حال فعل السيئات: الجاهلية. فإنه يصاحبها حال من حال جاهلية.
قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية؟ {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} فقالوا: كل من عصى الله فهو جاهل. ومن تاب قبيل الموت: فقد تاب من قريب. وعن قتادة قال " أجمع أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل من عصى ربه فهو في جهالة، عمدا كان أو لم يكن. وكل من عصى الله فهو جاهل " وكذلك قال التابعون ومن بعدهم. قال مجاهد: من عمل ذنبا - من شيخ، أو شاب - فهو بجهالة، وقال: من عصى ربه فهو جاهل. حتى ينزع عن معصيته. وقال أيضا: هو إعطاء الجهالة العمد. وقال مجاهد أيضا: من عمل سوءا خطأ، أو إثما عمدا: فهو جاهل. حتى ينزع منه.

رواهن ابن أبي حاتم. ثم قال: وروي عن قتادة، وعمرو بن مرة، والثوري، ونحو ذلك " خطأ، أو عمدا ". وروي عن مجاهد والضحاك قالا: ليس من جهالته أن لا يعلم حلالا ولا حراما. ولكن من جهالته: حين دخل فيه. وقال عكرمة: الدنيا كلها جهالة وعن الحسن البصري: أنه سئل عنها؟ فقال: هم قوم لم يعلموا ما لهم مما عليهم. قيل له: أرأيت لو كانوا قد علموا؟ قال: فليخرجوا منها. فإنها جهالة. قلت: ومما يبين ذلك: قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} وكل من خشيه، وأطاعه، وترك معصيته: فهو عالم. كما قال تعالى {أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}. وقال رجل للشعبي: أيها العالم. فقال: إنما العالم من يخشى الله. قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} يقتضي أن كل من خشي الله فهو عالم. فإنه لا يخشاه إلا عالم.

ويقتضي أيضا: أن العالم من يخشى الله. كما قال السلف. قال ابن مسعود " كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار جهلا ". ومثل هذا الحصر يكون من الطرفين. حصر الأول في الثاني. وهو مطرد، وحصر الثاني في الأول نحو قوله {إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب} وقوله {إنما أنت منذر من يخشاها} وقوله {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} {تتجافى جنوبهم عن المضاجع}. وذلك: أنه أثبت الخشية للعلماء، ونفاها عن غيرهم. وهذا كالاستثناء. فإنه من النفي: إثبات، عند جمهور العلماء. كقولنا " لا إله إلا الله " قوله تعالى {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} وقوله {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} وقوله {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا}. وقد ذهب طائفة إلى أن المستثنى مسكوت عنه. لم يثبت له ما ذكر. ولم ينف عنه. وهؤلاء يقولون ذلك في صيغة الحصر بطريق الأولى. فيقولون: نفى الخشية عن غير العلماء، ولم يثبتها لهم.
والصواب: قول الجمهور. أن هذا كقوله {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق} فإنه ينفي التحريم عن غير هذه الأصناف ويثبتها لها.

لكن أثبتها للجنس. أو لكل واحد من العلماء؟ كما يقال: إنما يحج المسلمون. ولا يحج إلا مسلم. وذلك أن المستثنى هل هو مقتض أو شرط؟ . ففي هذه الآية وأمثالها: هو مقتض. فهو عام. فإن العلم بما أنذرت به الرسل يوجب الخوف. فإذا كان العلم يوجب الخشية الحاملة على فعل الحسنات. وترك السيئات. وكل عاص فهو جاهل. ليس بتام العلم. يبين ما ذكرنا من أن أصل السيئات الجهل، وعدم العلم. وإذا كان كذلك. فعدم العلم ليس شيئا موجودا. بل هو مثل عدم القدرة، وعدم السمع والبصر، وسائر الأعدام.

والعدم: لا فاعل له. وليس هو شيئا. وإنما الشيء الموجود. والله تعالى خالق كل شيء. فلا يجوز أن يضاف العدم المحض إلى الله. لكن قد يقترن به ما هو موجود. فإذا لم يكن عالما بالله، لا يدعوه إلى الحسنات، وترك السيئات. والنفس بطبعها متحولة. فإنها حية. والإرادة والحركة الإرادية من لوازم الحياة. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح {أصدق الأسماء: حارث وهمام} فكل آدمي حارث وهمام. أي عامل كاسب، وهو همام. أي يهم ويريد. فهو متحرك بالإرادة. وقد جاء في الحديث {مثل القلب: مثل ريشة ملقاة بأرض فلاة وللقلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا}. فلما كانت الإرادة والعمل من لوازم ذاتها. فإذا هداها الله: علمها ما ينفعها وما يضرها. فأرادت ما ينفعها، وتركت ما يضرها.
فصل:
والله سبحانه قد تفضل على بني آدم بأمرين، هما أصل السعادة:
أحدهما: أن كل مولود يولد على الفطرة كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {كل مولود يولد على الفطرة. فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء. هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم {فطرة الله التي فطر الناس عليها} قال تعالى {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم}.

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {يقول الله تعالى: خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين. وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا}. فالنفس بفطرتها إذا تركت كانت مقرة لله بالإلهية محبة له تعبده لا تشرك به شيئا. ولكن يفسدها ما يزين لها شياطين الإنس والجن بما يوحي بعضهم إلى بعض من الباطل. قال تعالى {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون}.

وتفسير هذه الآية مبسوط في غير هذا الموضع. الثاني: أن الله تعالى قد هدى الناس هداية عامة بما جعل فيهم بالفطرة من المعرفة وأسباب العلم وبما أنزل إليهم من الكتب وأرسل إليهم من الرسل. قال تعالى {اقرأ باسم ربك الذي خلق} {خلق الإنسان من علق} {اقرأ وربك الأكرم} {الذي علم بالقلم} {علم الإنسان ما لم يعلم} وقال تعالى {الرحمن} {علم القرآن} {خلق الإنسان} {علمه البيان} وقال تعالى {سبح اسم ربك الأعلى} {الذي خلق فسوى} {والذي قدر فهدى} وقال تعالى {وهديناه النجدين}. ففي كل أحد ما يقتضي معرفته بالحق ومحبته له.
وقد هداه ربه إلى أنواع من العلم يمكنه أن يتوصل بها إلى سعادة الأولى والآخرة. وجعل في فطرته محبة لذلك. لكن قد يعرض الإنسان - بجاهليته وغفلته - عن طلب علم ما ينفعه. وكونه لا يطلب ذلك ولا يريده: أمر عدمي لا يضاف إلى الله تعالى. فلا يضاف إلى الله: لا عدم علمه بالحق ولا عدم إرادته للخير. لكن النفس كما تقدم: الإرادة والحركة من لوازمها فإنها حية حياة طبيعية؛ لكن سعادتها ونجاتها إنما تتحقق بأن تحيى الحياة النافعة الكاملة. وكان ما لها من الحياة الطبيعية موجبا لعذابها. فلا هي حية متنعمة بالحياة. ولا هي ميتة مستريحة من العذاب. قال تعالى {فذكر إن نفعت الذكرى} {سيذكر من يخشى} {ويتجنبها الأشقى} {الذي يصلى النار الكبرى} {ثم لا يموت فيها ولا يحيا} فالجزاء من جنس العمل. لما كان في الدنيا: ليس بحي الحياة النافعة التي خلق لأجلها.
بل كانت حياته من جنس حياة البهائم. ولم يكن ميتا عديم الإحساس: كان في الآخرة كذلك. فإن مقصود الحياة: هو حصول ما ينتفع به الحي ويستلذ به والحي لا بد له من لذة أو ألم. فإذا لم تحصل له اللذة: لم يحصل له مقصود الحياة فإن الألم ليس مقصودا. كمن هو حي في الدنيا وبه أمراض عظيمة لا تدعه يتنعم بشيء مما يتنعم به الأحياء. فهذا يبقى طول حياته يختار الموت ولا يحصل له. فلما كان من طبع النفس الملازم لها: وجود الإرادة والعمل إذ هو حارث همام. فإن عرفت الحق وأرادته وأحبته وعبدته: فذلك من تمام إنعام الله عليها.
وإلا فهي بطبعها لا بد لها من مراد معبود غير الله. ومرادات سيئة تضرها. فهذا الشر قد تركب من كونها لم تعرف الله ولم تعبده. وهذا عدم لا يضاف إلى فاعل ومن كونها بطبعها لا بد لها من مراد معبود. فعبدت غيره. وهذا هو الشر الذي تعذب عليه. وهو من مقتضى طبعها مع عدم هداها. والقدرية يعترفون بهذا جميعه. وبأن الله خلق الإنسان مريدا. لكن يجعلون المخلوق كونه مريدا بالقوة والقبول. أي قابلا لأن يريد هذا وهذا.

وأما كونه مريدا لهذا المعين وهذا المعين: فهذا عندهم ليس مخلوقا لله وغلطوا في ذلك غلطا فاحشا. فإن الله خالق هذا كله. وإرادة النفس لما تريده من الذنوب وفعلها: هو من جملة مخلوقات الله تعالى فإن الله خالق كل شيء. وهو الذي ألهم النفس - التي سواها - فجورها وتقواها. {وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها. أنت وليها ومولاها}. وهو سبحانه: جعل إبراهيم وآله أئمة يهدون بأمره. وجعل فرعون وآله أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون. لكن هذا لا يضاف مفردا إلى الله تعالى لوجهين: من جهة علته الغائية ومن جهة سببه وعلته الفاعلية. أما الغائية: فإن الله إنما خلقه لحكمة هو باعتبارها خير لا شر. وإن كان شرا إضافيا. فإذا أضيف مفردا: توهم المتوهم مذهب جهم: أن الله يخلق الشر المحض الذي لا خير فيه لأحد لا لحكمة ولا رحمة. والأخبار والسنة والاعتبار تبطل هذا المذهب.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 15-11-2022, 05:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد الخامس
الحلقة( 212)

من صــ 471 الى صـ 480




كما أنه إذا قيل: محمد وأمته يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض: كان هذا ذما لهم وكان باطلا. وإذا قيل: يجاهدون في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله ويقتلون من منعهم من ذلك: كان هذا مدحا لهم وكان حقا. فإذا قيل: إن الرب تبارك وتعالى حكيم رحيم. أحسن كل شيء خلقه وأتقن ما صنع وهو أرحم الراحمين. أرحم بعباده من الوالدة بولدها. والخير كله بيديه. والشر ليس إليه. بل لا يفعل إلا خيرا. وما خلقه من ألم لبعض الحيوانات أو من أعمالهم المذمومة: فله فيها حكمة عظيمة ونعمة جسيمة - كان هذا حقا. وهو مدح للرب وثناء عليه. وأما إذا قيل: إنه يخلق الشر الذي لا خير فيه ولا منفعة لأحد. ولا له فيها حكمة ولا رحمة.
ويعذب الناس بلا ذنب: لم يكن هذا مدحا للرب ولا ثناء عليه. بل كان بالعكس. ومن هؤلاء من يقول: إن الله تعالى أضر على خلقه من إبليس. وبسط القول في بيان فساد قول هؤلاء له موضع آخر. وقد بينا بعض ما في خلق جهنم وإبليس والسيئات: من الحكمة والرحمة. وما لم نعلم أعظم مما علمناه. فتبارك الله أحسن الخالقين وأرحم الراحمين وخير الغافرين. ومالك يوم الدين. الأحد الصمد. الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. الذي لا يحصي العباد ثناء عليه. بل هو كما أثنى على نفسه الذي له الحمد في الأولى والآخرة. وله الحكم وإليه ترجعون. الذي يستحق الحمد والحب والرضا لذاته ولإحسانه إلى عباده. سبحانه وتعالى. يستحق أن يحمد لما له في نفسه من المحامد والإحسان إلى عباده. هذا حمد شكر وذاك حمد مطلقا.

وقد ذكرنا - في غير هذا الموضع - ما قيل: من أن كل ما خلقه الله فهو نعمة على عباده المؤمنين. يستحق أن يحمدوه ويشكروه عليه وهو من آلائه. ولهذا قال في آخر سورة النجم {فبأي آلاء ربك تتمارى} وفي سورة الرحمن يذكر {كل من عليها فان} ونحو ذلك. ثم يقول عقب ذلك {فبأي آلاء ربكما تكذبان}. وقال آخرون: منهم الزجاج وأبو الفرج بن الجوزي {فبأي آلاء ربكما تكذبان} أي من هذه الأشياء المذكورة. لأنها كلها ينعم بها عليكم في دلالتها إياكم على وحدانيته وفي رزقه إياكم ما به قوامكم. وهذا قالوه في سورة الرحمن.
وقالوا في قوله {فبأي آلاء ربك تتمارى} فبأي نعم ربك التي تدل على وحدانيته تتشكك؟ وقيل: تشك وتجادل؟ قال ابن عباس: تكذب؟ . قلت: قد ضمن {تتمارى} معنى تكذب. ولهذا عداه بالتاء. فإن التماري: تفاعل من المراء. يقال: تمارينا في الهلال. والمراء في القرآن كفر وهو يكون تكذيبا وتشكيكا. وقد يقال: لما كان الخطاب لهم. قال {تتمارى} أي تتمارون. ولم يقل: تمتري. فإن التفاعل يكون بين اثنين تماريا. قالوا: والخطاب للإنسان. قيل للوليد بن المغيرة. فإنه قال {أم لم ينبأ بما في صحف موسى} {وإبراهيم الذي وفى} {ألا تزر وازرة وزر أخرى} ثم التفت إليه فقال {فبأي آلاء ربك تتمارى} تكذب. كما قال {خلق الإنسان من صلصال كالفخار} {وخلق الجان من مارج من نار} {فبأي آلاء ربكما تكذبان}. ففي كل ما خلقه الله إحسان إلى عباده يحمد عليه حمد شكر وله فيه حكمة تعود إليه يستحق لأجلها أن يحمد عليه حمدا يستحقه لذاته.
فجميع المخلوقات: فيها إنعام على العباد كالثقلين المخاطبين بقوله {فبأي آلاء ربكما تكذبان} من جهة أنها آيات للرب يحصل بها هدايتهم وإيمانهم الذي يسعدون به في الدنيا والآخرة. فيدلهم عليه وعلى وحدانيته وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته. والآيات التي بعث بها الأنبياء وأيدهم بها ونصرهم. وإهلاك عدوهم - كما ذكره في سورة النجم {وأنه أهلك عادا الأولى} {وثمود فما أبقى} {وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى} {والمؤتفكة أهوى} {فغشاها ما غشى} - تدلهم على صدق الأنبياء فيما أخبروا به من الأمر والنهي والوعد والوعيد. ما بشروا به وأنذروا به. ولهذا قال عقيب ذلك {هذا نذير من النذر الأولى} قيل: هو محمد. وقيل: هو القرآن.
فإن الله سمى كلا منهما بشيرا ونذيرا. فقال في رسول الله {إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} وقال تعالى {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} وقال تعالى في القرآن {كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} {بشيرا ونذيرا} وهما متلازمان. وكل من هذين المعنيين: مراد. يقال: هذا نذير أنذر بما أنذرت به الرسل الرسل المرسلين. ففي المخلوقات: نعم من جهة حصول الهدى والإيمان والاعتبار والموعظة بها. وهذه أفضل النعم. فأفضل النعم: نعمة الإيمان. وكل مخلوق من المخلوقات: فهو الآيات التي يحصل بها ما يحصل من هذه النعمة. قال تعالى {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} وقالي تعالى {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب}. وما يصيب الإنسان إن كان يسره: فهو نعمة بينة. وإن كان يسوءه: فهو نعمة من جهة أنه يكفر خطاياه. ويثاب بالصبر عليه.

ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}. وقد قال في الحديث {والله لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كانوالكتب الأولى. وقوله " من النذر " أي من جنسها. أي رسول من خيرا له. إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له}.
وإذا كان هذا وهذا: فكلاهما من نعم الله عليه. وكلتا النعمتين تحتاج مع الشكر إلى الصبر. أما نعمة الضراء: فاحتياجها إلى الصبر ظاهر. وأما نعمة السراء: فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها.
فإن فتنة السراء أعظم من فتنة الضراء.

كما قال بعض السلف: ابتلينا بالضراء فصبرنا. وابتلينا بالسراء فلم نصبر. وفي الحديث {أعوذ بك من فتنة الفقر. وشر فتنة الغنى}. والفقر: يصلح عليه خلق كثير.
والغنى: لا يصلح عليه إلا أقل منهم. ولهذا كان أكثر من يدخل الجنة المساكين. لأن فتنة الفقر أهون وكلاهما يحتاج إلى الصبر والشكر. لكن لما كان في السراء: اللذة. وفي الضراء: الألم. اشتهر ذكر الشكر في السراء والصبر في الضراء. قال تعالى {ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور} {ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور} {إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير} ولأن صاحب السراء: أحوج إلى الشكر وصاحب الضراء: أحوج إلى الصبر. فإن صبر هذا وشكر هذا: واجب. إذا تركه استحق العقاب. وأما صبر صاحب السراء: فقد يكون مستحبا إذا كان عن فضول الشهوات. وقد يكون واجبا ولكن لإتيانه بالشكر - الذي هو حسنات - يغفر له ما يغفر من سيئاته. وكذلك صاحب الضراء: لا يكون الشكر في حقه مستحبا إذا كان شكرا يصير به من السابقين المقربين. وقد يكون تقصيره في الشكر: مما يغفر له لما يأتي به من الصبر. فإن اجتماع الشكر والصبر جميعا: يكون مع تألم النفس وتلذذها يصبر على الألم ويشكر على النعم.
وهذا حال يعسر على كثير من الناس. وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا: أن الله تعالى منعم بهذا كله وإن كان لا يظهر الإنعام به في الابتداء لأكثر الناس. فإن الله يعلم وأنتم لا تعلمون. فكل ما يفعله الله فهو نعمة منه.

وأما ذنوب الإنسان: فهي من نفسه. ومع هذا فهي - مع حسن العاقبة - نعمة وهي نعمة على غيره بما يحصل له بها من الاعتبار والهدى والإيمان. ولهذا كان من أحسن الدعاء قوله {اللهم لا تجعلني عبرة لغيري ولا تجعل أحدا أسعد بما علمتني مني}. وفي دعاء القرآن {ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين} {لا تجعلنا فتنة للذين كفروا} كما فيه {واجعلنا للمتقين إماما} أي فاجعلنا أئمة لمن يقتدي بنا ويأتم. ولا تجعلنا فتنة لمن يضل بنا ويشقى. و " الآلاء " في اللغة: هي النعم وهي تتضمن القدرة. قال ابن قتيبة: لما عدد الله في هذه السورة - سورة الرحمن - نعماءه وذكر عباده آلاءه ونبههم على قدرته. جعل كل كلمة من ذلك فاصلة بين نعمتين ليفهم النعم ويقررهم بها.

وقد روى الحاكم في صحيحه والترمذي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمن حتى ختمها. ثم قال: ما لي أراكم سكوتا؟ للجن كانوا أحسن منكم ردا. ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة - {فبأي آلاء ربكما تكذبان} - إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب. فلك الحمد}.
والله تعالى يذكر في القرآن بآياته الدالة على قدرته وربوبيته. ويذكر بآياته التي فيها نعمه وإحسانه إلى عباده. ويذكر بآياته المبينة لحكمته تعالى. وهي كلها متلازمة. فكل ما خلق: فهو نعمة ودليل على قدرته وعلى حكمته. لكن نعمة الرزق والانتفاع بالمآكل والمشارب والمساكن والملابس: ظاهرة لكل أحد. فلهذا يستدل بها كما في سورة النحل. وتسمى سورة النعم. كما قاله قتادة وغيره. وعلى هذا: فكثير من الناس يقول: الحمد أعم من الشكر. من جهة أسبابه. فإنه يكون على نعمة وعلى غير نعمة. والشكر أعم من جهة أنواعه. فإنه يكون بالقلب واللسان واليد. فإذا كان كل مخلوق فيه نعمة: لم يكن الحمد إلا على نعمة. والحمد لله على كل حال. لأنه ما من حال يقضيها إلا وهي نعمة على عباده. لكن هذا فهم من عرف ما في المخلوقات من النعم. والجهمية والجبرية: بمعزل عن هذا.

وكذلك كل ما يخلقه: ففيه له حكمة. فهو محمود عليه باعتبار تلك الحكمة. والجهمية أيضا بمعزل عن هذا. وكذلك القدرية الذين يقولون: لا تعود الحكمة إليه. بل ما ثم إلا نفع الخلق.
فما عندهم إلا شكر كما ليس عند الجهمية إلا قدرة. والقدرة المجردة عن نعمة وحكمة: لا يظهر فيها وصف حمد كالقادر الذي يفعل ما لا ينتفع به ولا ينفع به أحدا. فهذا لا يحمد. فحقيقة قول الجهمية أتباع جهم: أنه لا يستحق الحمد. فله عندهم ملك بلا حمد مع تقصيرهم في معرفة ملكه. كما أن المعتزلة له عندهم نوع من الحمد بلا ملك تام. إذ كان عندهم يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء. وتحدث حوادث بلا قدرته. وعلى مذهب السلف: له الملك وله الحمد تامين. وهو محمود على حكمته كما هو محمود على قدرته ورحمته.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 391.10 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 385.22 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (1.50%)]