فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 13 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 129 - عددالزوار : 1164 )           »          خواطرفي سبيل الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 72 - عددالزوار : 21819 )           »          قلبٌ وقلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 72 - عددالزوار : 20434 )           »          حياة البرزخ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 76 )           »          مذاهب العلماء في نفقة الزوجة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 89 )           »          سعي المرأة لطلب الرزق بين الوجوب وعدمه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 75 )           »          الغُمة الشعورية الكئيبة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 79 )           »          التفسير بالعموم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 72 )           »          فشكر الله له فغفر له (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 69 )           »          وتعاونوا على البر والتقوى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 78 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 18-05-2022, 08:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (123)

من صــ 157 الى صـ
ـ 164




وفي السنن {من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة} وهذا قول جماهير العلماء والنزاع فيه شاذ.
وأيضا فالأمي تصح صلاته بلا قراءة باتفاق العلماء كما في السنن {أن رجلا قال: يا رسول الله؛ إني لا أستطيع أن آخذ شيئا من القرآن فعلمني ما يجزيني منه. فقال: قل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله فقال: هذا لله فما لي؟ قال: تقول: اللهم اغفر لي وارحمني وارزقني واهدني}. وأيضا فلو نسي القراءة في الصلاة قد قيل: تجزئه الصلاة وروي ذلك عن الشافعي.

وقيل: إذا نسيها في الأولى قرأ في الثانية قراءة الركعتين وروي هذا عن أحمد.
وأما السجود فلا يسقط بحال فعلم أن السجود أفضل من القراءة كما أنه أفضل من القيام والمسبوق في الصلاة يبني على قراءة الإمام الذي استخلفه كما قد بنى النبي صلى الله عليه وسلم على قراءة أبي بكر. الوجه الخامس: أنه قد ثبت في الصحيح {أن النار تأكل من ابن آدم كل شيء إلا موضع السجود} فتأكل القدم وإن كان موضع القيام.
الوجه السادس: إن الله تعالى قال: {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون} {خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون} وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة: أنه إذا تجلى لهم يوم القيامة سجد له المؤمنون ومن كان يسجد في الدنيا رياء يصير ظهره مثل الطبق ". فقد أمروا بالسجود في عرصات القيامة دون غيره من أجزاء الصلاة. فعلم أنه أفضل من غيره.
الوجه السابع: أنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة: أن الرسول إذا طلب منه الناس الشفاعة يوم القيامة قال: {فأذهب فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا وأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن} فهو إذا رآه سجد وحمد وحينئذ يقال له: {أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع}. فعلم أنه أفضل من غيره. الوجه الثامن: إن الله تعالى قال: {كلا لا تطعه واسجد واقترب} وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد} وهذا نص في أنه في حال السجود أقرب إلى الله منه في غيره وهذا صريح في فضيلة السجود على غيره.
والحديث رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء}. الوجه التاسع: ما رواه مسلم في صحيحه عن {معدان بن أبي طلحة قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أخبرني بعمل يدخلني الله به الجنة أو قال: بأحب الأعمال إلى الله فسكت ثم سألته الثانية فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة} قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء فسألته فقال لي مثلما قال لي ثوبان.
فإن كان سأله عن أحب الأعمال فهو صريح في أن السجود أحب إلى الله من غيره وإن كان سأله عما يدخله الله به الجنة فقد دله على السجود دون القيام فدل على أنه أقرب إلى حصول المقصود. وهذا الحديث يحتج به من يرى أن كثرة السجود أفضل من تطويله لقوله: {فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة} ولا حجة فيه؛ لأن كل سجدة يستحق بها ذلك لكن السجدة أنواع. فإذا كانت إحدى السجدتين أفضل من الأخرى كان ما يرفع به من الدرجة أعظم وما يحط به عنه من الخطايا أعظم كما أن السجدة التي يكون فيها أعظم خشوعا وحضورا هي أفضل من غيرها فكذلك السجدة الطويلة التي قنت فيها لربه هي أفضل من القصيرة. الوجه العاشر: ما روى مسلم أيضا عن {ربيعة بن كعب قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته فقال لي: سل فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة فقال: أوغير ذلك؟ فقلت:
هو ذاك قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود}. فهذا قد سأل عن مرتبة علية وإنما طلب منه كثرة السجود. وهذا أدل على أن كثرة السجود أفضل لكن يقال المكثر من السجود قد يكثر من سجود طويل وقد يكثر من سجود قصير وذاك أفضل.
وأيضا فالإكثار من السجود لا بد فإذا صلى إحدى عشرة ركعة طويلة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم فإذا صلى المصلي في مثل زمانهن عشرين ركعة فقد أكثر السجود لكن سجود ذاك أفضل وأتم وهذا أكثر من ذاك وليس لأحد أن يقول: إنما كان أكثر مع قصرها فهو أفضل مما هو كثير أيضا وهو أتم وأطول كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم.

الوجه الحادي عشر: أن مواضع الساجد تسمى مساجد. كما قال تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} وقال تعالى: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} وقال تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} وقال تعالى: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد} ولا تسمى مقامات إلا بعد فعل السجود فيها. فعلم أن أعظم أفعال الصلاة هو السجود الذي عبر عن مواضع السجود بأنها مواضع فعله. الوجه الثاني عشر: أنه تعالى قال: {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} وهذا وإن تناول سجود التلاوة فتناوله لسجود الصلاة أعظم؛ فإن احتياج الإنسان إلى هذا السجود أعظم على كل حال فقد جعل الخرور إلى السجود مما لا يحصل الإيمان إلا به وخصه بالذكر وهذا مما تميز به وكذلك أخبر عن أنبيائه أنهم: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} وقال في تلك الآية:

{تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا}. والدعاء في السجود أفضل من غيره كما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل قوله في حديث أبي هريرة {أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء} ومثل ما روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: {كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر. فقال أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم} وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء في السجود في عدة أحاديث وفي غير حديث تبين أن ذلك في صلاته بالليل فعلم أن قوله: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا} وإن كان يتناول الدعاء في جميع أحوال الصلاة فالسجود له مزية على غيره كما لآخر الصلاة مزية على غيرها؛ ولهذا جاء في السنن: {أفضل الدعاء جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات}.

فهذه الوجوه وغيرها مما يبين أن جنس السجود أفضل من جنس القيام والقراءة ولو أمكن أن يكون أطول من القيام لكان ذلك أفضل؛ لكن هذا يشق مشقة عظيمة فلهذا خفف السجود عن القيام مع أن السنة تطويله إذا طول القيام كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فروي: {أنه كان يخفف القيام والقعود ويطيل الركوع والسجود} ولما أطال القيام في صلاة الكسوف أطال الركوع والسجود. وكذلك في حديث حذيفة الصحيح: {أنه لما قرأ بالبقرة والنساء وآل عمران قال: ركع نحوا من قيامه وسجد نحوا من ركوعه} وفي حديث البراء الصحيح أنه قال: {كان قيامه فركعته فاعتداله فسجدته فجلوسه بين السجدتين فجلسته ما بين السلام والانصراف قريبا من السواء}. وفي رواية: {ما خلا القيام والقعود}.

وثبت في الصحيح عن عائشة: {أنه كان يسجد السجدة بقدر ما يقرأ الإنسان خمسين آية} " فهذه الأحاديث تدل على أن تطويل الصلاة قيامها وركوعها وسجودها أفضل من تكثير ذلك مع تخفيفه وهو القول الثالث في الصورة الثانية ومن سوى بينهما قال: إن الأحاديث تعارضت في ذلك وليس كذلك؛ فإن قوله: {أفضل الصلاة طول القنوت} يتناول التطويل في القيام والسجود وكذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة} " وقال: {من أم الناس فليخفف فإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء} ". وأحاديث تفضيل السجود قد بينا أنها لا تنافي ذلك. ومعلوم: أن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأيضا فإنه لما صلى الكسوف كان يمكنه أن يصلي عشر ركعات أو عشرين ركعة يكثر فيها قيامها وسجودها فلم يفعل؛ بل صلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود وجعل في كل ركعة قيامين وركوعين وعلى هذا فكثرة الركوع والسجود أفضل من طول القيام الذي ليس فيه تطويل الركوع والسجود.
وأما إذا أطال القيام والركوع والسجود فهذا أفضل من إطالة القيام فقط وأفضل من تكثير الركوع والسجود والقيام بقدر ذلك. والكلام إنما هو في الوقت الواحد: كثلث الليل أو نصفه أو سدسه أو الساعة. هل هذا أفضل من هذا أو هذا أفضل من هذا.
وفي الصحيحين عن {أم هانئ لما صلى الثماني ركعات يوم الفتح قالت: ما رأيته صلى صلاة قط أخف منها غير أنه كان يتم الركوع والسجود} " وفي رواية لمسلم {ثم قام فركع ثماني ركعات لا أدري أقيامه فيها أطول أم ركوعه أم سجوده كل ذلك متقارب} " فهذا يبين أنه طول الركوع، والسجود قريبا من القيام وأن قولها:

{لم أره صلى صلاة أخف منها} إخبار منها عما رأته وأم هانئ لم تكن مباشرة له في جميع الأحوال ولعلها أرادت منع كثرة الركعات فإنه لم يصل ثمانيا جميعا أخف منها فإن صلاته بالليل كانت أطول من ذلك وهو بالنهار لم يصل ثمانيا متصلة قط؛ بل إنما كان يصلي المكتوبة والظهر كان يصلي بعدها ركعتين وقبلها أربعا أو ركعتين أو لعله خففها لضيق الوقت فإنه صلاها بالنهار وهو مشتغل بأمور فتح مكة كما كان يخفف المكتوبة في السفر حتى يقرأ في الفجر بالمعوذتين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 18-05-2022, 08:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (124)

من صــ 165 الى صـ
ـ 172




وروي أنه قرأ في الفجر بالزلزلة في الركعتين فهذا التخفيف لعارض. وقد احتج من فضل التكثير على التطويل بحديث {ابن مسعود قال: إني لأعرف السور التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهن من المفصل كل سورتين في ركعة} يدل على أنه لم يكن يطيل القيام وهذا لا حجة فيه؛ لأنه أولا جمع بين سورتين من المفصل وأيضا فإنه كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها.
وأيضا فإن حذيفة روى عنه: {أنه قام بالبقرة والنساء وآل عمران في ركعة} وابن مسعود ذكر أنه طول حتى هممت بأمر سوء: أن أجلس وأدعه. ومعلوم أن هذا لا يكون بسورتين فعلم أنه كان يفعله أحيانا ولا ريب أنه كان يطيل بعض الركعات أطول من بعض كما روت عائشة وغيرها والله أعلم.
(الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ... (255)

(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

وأما من سلك في دفع عداوتهم [الجن] مسلك العدل الذي أمر الله به ورسوله فإنه لم يظلمهم بل هو مطيع لله ورسوله في نصر المظلوم وإغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب بالطريق الشرعي التي ليس فيها شرك بالخلق ولا ظلم للمخلوق ومثل هذا لا تؤذيه الجن إما لمعرفتهم بأنه عادل؛ وإما لعجزهم عنه. وإن كان الجن من العفاريت وهو ضعيف فقد تؤذيه فينبغي لمثل هذا أن يحترز بقراءة العوذ مثل آية الكرسي والمعوذات والصلاة والدعاء ونحو ذلك مما يقوي الإيمان ويجنب الذنوب التي بها يسلطون عليه فإنه مجاهد في سبيل الله وهذا من أعظم الجهاد فليحذر أن ينصر العدو عليه بذنوبه وإن كان الأمر فوق قدرته فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها فلا يتعرض من البلاء لما لا يطيق. ومن أعظم ما ينتصر به عليهم آية الكرسي فقد ثبت في صحيح البخاري حديث {أبي هريرة قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة قال: فخليت عنه فأصبحت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت:

يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته وخليت سبيله قال: أما أنه قد كذبك وسيعود فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود فرحمته فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته فخليت سبيله قال: أما إنه قد كذبك وسيعود فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات تزعم أنك لا تعود ثم تعود قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال:

ما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح وكانوا أحرص شيء على الخير فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما إنه قد صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قلت: لا. قال: ذاك شيطان}.
ومع هذا فقد جرب المجربون الذين لا يحصون كثرة أن لها من التأثير في دفع الشياطين وإبطال أحوالهم ما لا ينضبط من كثرته وقوته فإن لها تأثيرا عظيما في دفع الشيطان عن نفس الإنسان وعن المصروع وعن من تعينه الشياطين مثل أهل الظلم والغضب وأهل الشهوة والطرب وأرباب السماع المكاء والتصدية إذا قرئت عليهم بصدق دفعت الشياطين وبطلت الأمور التي يخيلها الشيطان ويبطل ما عند إخوان الشياطين من مكاشفة شيطانية وتصرف شيطاني إذ كانت الشياطين يوحون إلى أوليائهم بأمور يظنها الجهال من كرامات أولياء الله المتقين وإنما هي من تلبيسات الشياطين على أوليائهم المغضوب عليهم والضالين.
والصائل المعتدي يستحق دفعه سواء كان مسلما أو كافرا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد} فإذا كان المظلوم له أن يدفع عن مال المظلوم ولو بقتل الصائل العادي فكيف لا يدفع عن عقله وبدنه وحرمته فإن الشيطان يفسد عقله ويعاقبه في بدنه وقد يفعل معه فاحشة إنسي بإنسي وإن لم يندفع إلا بالقتل جاز قتله.

(ياأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين (264)
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
فصل:

لما ذكر سبحانه ما يبطل الصدقة من المن والأذى ومن الرياء ومثله بالتراب على الصفوان إذا أصابه المطر ولهذا قال: {ولا يؤمن بالله واليوم الآخر} لأن الإيمان بأحدهما لا ينفع هنا بخلاف قوله في النساء: {إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا} إلى قوله: {والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر}. فإنه في معرض الذم فذكر غايته وذكر ما يقابله وهم الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم. فالأول الإخلاص.
و " التثبيت " هو التثبت كقوله: {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا} كقوله: {وتبتل إليه تبتيلا} ويشبه - والله أعلم - أن يكون هذا من باب قدم وتقدم كقوله: {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} فتبتل وتثبت لازم بمعنى ثبت لأن التثبت هو القوة والمكنة وضده الزلزلة والرجفة فإن الصدقة من جنس القتال فالجبان يرجف والشجاع يثبت ولهذا {قال النبي صلى الله عليه وسلم وأما الخيلاء التي يحبها الله فاختيال الرجل بنفسه عند الحرب واختياله بنفسه عند الصدقة} لأنه مقام ثبات وقوة فالخيلاء تناسبه وإنما الذي لا يحبه الله المختال الفخور البخيل الآمر بالبخل فأما المختال مع العطاء أو القتال فيحبه. وقوله {من أنفسهم} أي ليس المقوي له من خارج كالذي يثبت وقت الحرب لإمساك أصحابه له وهذا كقوله: {وإذا ما غضبوا هم يغفرون} بل تثبته ومغفرته من جهة نفسه.
وقد ذكر الله سبحانه في البقرة والنساء الأقسام الأربعة في العطاء. إما أن لا يعطي فهو البخيل المذموم في النساء أو يعطي مع الكراهة والمن والأذى فلا يكون بتثبيت وهو المذموم في البقرة أو مع الرياء فهو المذموم في السورتين فبقي القسم الرابع: ابتغاء رضوان الله وتثبيتا من أنفسهم.
ونظيره " الصلاة " إما أن لا يصلي أو يصلي رياء أو كسلان أو يصلي مخلصا والأقسام الثلاثة الأول مذمومة وكذلك " الزكاة " ونظير ذلك " الهجرة والجهاد " فإن الناس فيهما أربعة أقسام وكذلك {إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا} في الثبات والذكر وكذلك: {وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة}. في الصبر والمرحمة أربعة أقسام وكذلك {استعينوا بالصبر والصلاة} فهم. . . (1) في الصبر والصلاة فعامة هذه الأشفاع التي في القرآن: إما عملان وإما وصفان في عمل: انقسم الناس فيها قسمة رباعية ثم إن كانا عملين منفصلين كالصلاة والصبر والصلاة والزكاة ونحو ذلك نفع أحدهما ولو ترك الآخر وإن كانا شرطين في عمل كالإخلاص والتثبت لم ينفع أحدهما فإن المن والأذى محبط كما أن الرياء محبط كما دل عليه القرآن ومن هذا تقوى الله وحسن الخلق فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون والبر والتقوى والحق والصبر وأفضل الإيمان السماحة والصبر.

بخلاف الأشفاع في الذم كالإفك والإثم والاختيال والفخر والشح والجبن والإثم والعدوان؛ فإن الذم ينال أحدهما مفردا ومقرونا لأن الخير من باب المطلوب وجوده لمنفعته فقد لا تحصل المنفعة إلا بتمامه والشر يطلب عدمه لمضرته وبعض المضار يضر في الجملة غالبا ولهذا فرق في الأسماء بين الأمر والنهي والإثبات والنفي فإذا أمر بالشيء اقتضى كماله وإذا نهى عنه اقتضى النهي عن جميع أجزائه ولهذا حيث أمر الله بالنكاح - كما في المطلقة ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره وكما في الإحصان - فلا بد من الكمال بالعقد والدخول وحيث نهى عنه كما في ذوات المحارم فالنهي عن كل منهما على انفراده وهذا مذهب مالك وأحمد المنصوص عنه أنه إذا حلف ليتزوجن لم يبر إلا بالعقدة والدخول بخلاف ما إذا حلف لا يتزوج فإنه يحنث بالعقدة وكذلك إذا حلف لا يفعل شيئا حنث بفعل بعضه بخلاف ما إذا حلف ليفعلنه فإن دلالة الاسم على كل وبعض تختلف باختلاف النفي والإثبات.
__________
Q (1) هنا كلمات غير متضحة

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 18-05-2022, 08:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (125)

من صــ 173 الى صـ
ـ 180






ولهذا لما أمر الله بالطهارة والصلاة والزكاة والحج كان الواجب الإتمام كما قال تعالى: {بكلمات فأتمهن} وقال: {وإبراهيم الذي وفى}. ولما نهى عن القتل والزنا والسرقة والشرب كان ناهيا عن أبعاض ذلك؛ بل وعن مقدماته أيضا وإن كان الاسم لا يتناوله في الإثبات ولهذا فرق في الأسماء النكرات بين النفي والإثبات والأفعال كلها نكرات وفرق بين الأمر والنهي بين التكرار وغيره {وقال صلى الله عليه وسلم إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه}. وإنما اختلف في المعارف المنفية على روايتين كما في قوله: لا تأخذ الدراهم ولا تكلم الناس.
(ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير (265)

قال قتادة: تثبيتا من أنفسهم احتسابا من عند أنفسهم. وقال الشعبي: يقينا وتصديقا من أنفسهم. وقيل يخرجونها طيبة بها أنفسهم على يقين بالثواب وتصديق بوعد الله يعلمون أن ما أخرجوه خير لهم مما تركوه. قلت: إذا كان المعطي محتسبا للأجر من الله لا من الذي أعطاه فلا يمن عليه.

(للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم (273)
(فصل في أن المسلمين أربعة أصناف)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

السالكون طريق الله منهم من يكون مع قيامه بما أمره الله به من الجهاد والعلم والعبادة وغير ذلك عاجزا عن الكسب كالذين ذكرهم الله في قوله: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا} والذين ذكرهم الله في قوله: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون}. فالصنف الأول أهل صدقات والصنف الثاني أهل الفيء كما قال تعالى في الصنف الأول: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير} إلى قوله: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} وقال في " الصنف الثاني ": {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} إلى قوله: {للفقراء المهاجرين} ثم قال: {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم}.

فذكر المهاجرين والأنصار وكان المهاجرون تغلب عليهم التجارة؛ والأنصار تغلب عليهم الزراعة وقد قال للطائفتين: {أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض}

فذكر زكاة التجارة وزكاة الخارج من الأرض وهو العشر أو نصف العشر أو ربع العشر. ومن السالكين من يمكنه الكسب مع ذلك وقد قال تعالى لما أمرهم بقيام الليل: {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله} فجعل المسلمين أربعة أصناف صنفا أهل القرآن والعلم والعبادة وصنفا يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وصنفا يجاهدون في سبيل الله والرابع المعذرون.
(فصل في العفة والغنى)
قال شيخ الإسلام:

جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين العفة والغنى في عدة أحاديث منها قوله في حديث أبي سعيد المخرج في الصحيحين: {من يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله} ومنها قوله في حديث عياض بن حمار في صحيح مسلم: {أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط ورجل غني عفيف متصدق} ومنها قوله في حديث الخيل الذي في الصحيح: {ورجل ارتبطها تغنيا وتعففا. ولم ينس حق الله في رقابها وظهورها فهي له ستر} ومنها ما روي عنه: {من طلب المال استغناء عن الناس واستعفافا عن المسألة لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر}. ومنها قوله في حديث عمر وغيره: {ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه} فالسائل بلسانه وهو ضد المتعفف والمشرف بقلبه وهو ضد الغنى. قال في حق الفقراء: {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف}
أي عن السؤال للناس. وقال: {ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس} فغنى النفس الذي لا يستشرف إلى المخلوق فإن الحر عبد ما طمع والعبد حر ما قنع. وقد قيل: أطعت مطامعي فاستعبدتني. فكره أن يتبع نفسه ما استشرفت له لئلا يبقى في القلب فقر وطمع إلى المخلوق؛ فإنه خلاف التوكل المأمور به وخلاف غنى النفس.
وسئل:
عن السؤال في الجامع: هل هو حلال؟ أم حرام؟ أو مكروه؟ وأن تركه أوجب من فعله؟.
فأجاب:

الحمد لله، أصل السؤال محرم في المسجد وخارج المسجد إلا لضرورة فإن كان به ضرورة وسأل في المسجد ولم يؤذ أحدا بتخطيه رقاب الناس ولا غير تخطيه ولم يكذب فيما يرويه ويذكر من حاله ولم يجهر جهرا يضر الناس مثل أن يسأل والخطيب يخطب أو وهم يسمعون علما يشغلهم به ونحو ذلك جاز والله أعلم.

(الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (274)

[فصل البرهان السابع والعشرون " الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية " والجواب عليه]
فصل
قال الرافضي: " البرهان السابع والعشرون: قوله تعالى: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية} [سورة البقرة: 274]. من طريق أبي نعيم بإسناده إلى ابن عباس نزلت في علي، كان معه أربعة دراهم، فأنفق درهما بالليل، ودرهما بالنهار، ودرهما سرا، ودرهما علانية، وروى الثعلبي ذلك. ولم يحصل ذلك لغيره، فيكون أفضل، فيكون هو الإمام ".

والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة النقل. ورواية أبي نعيم والثعلبي لا تدل على الصحة.
الثاني: أن هذا كذب ليس بثابت.
الثالث: أن الآية عامة في كل من ينفق بالليل والنهار سرا وعلانية، فمن عمل بها دخل فيها، سواء كان عليا أو غيره، ويمتنع أن لا يراد بها إلا واحد معين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 18-05-2022, 08:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (126)

من صــ 181 الى صـ
ـ 188




الرابع: أن ما ذكر من الحديث يناقض مدلول الآية ; فإن الآية تدل على الإنفاق في الزمانين اللذين لا يخلو الوقت عنهما، وفي الحالين اللذين لا يخلو الفعل منهما. فالفعل لا بد له من زمان، والزمان إما ليل وإما نهار. والفعل إما سرا وإما علانية ; فالرجل إذا أنفق بالليل سرا، كان قد أنفق ليلا سرا. وإذا أنفق علانية نهارا، كان قد أنفق علانية نهارا. وليس الإنفاق سرا وعلانية خارجا عن الإنفاق بالليل والنهار. فمن قال: إن المراد من أنفق درهما بالسر، ودرهما في العلانية، ودرهما بالليل، ودرهما بالنهار - كان جاهلا، فإن الذي أنفقه سرا وعلانية قد أنفقه ليلا ونهارا، والذي قد أنفقه ليلا ونهارا قد أنفقه سرا وعلانية. فعلم أن الدرهم الواحد يتصف بصفتين، لا يجب أن يكون المراد أربعة.
لكن هذه التفاسير الباطلة يقول مثلها كثير من الجهال، كما يقولون:
محمد رسول الله والذين معه (أبو بكر) أشداء على الكفار (عمر) رحماء بينهم (عثمان) تراهم ركعا سجدا (علي) يجعلون هذه الصفات لموصوفات متعددة ويعينون الموصوف في هؤلاء الأربعة.

والآية صريحة في إبطال هذا وهذا، فإنها صريحة في أن هذه الصفات كلها لقوم يتصفون بها كلها، وإنهم كثيرون ليسوا واحدا. ولا ريب أن الأربعة أفضل هؤلاء، وكل من الأربعة موصوف بهذا كله، وإن كان بعض الصفات في بعض أقوى منها في آخر.
وأغرب من ذلك قول بعض جهال المفسرين: {والتين والزيتون - وطور سينين - وهذا البلد الأمين} [سورة التين: 1 - 3] إنهم الأربعة ; فإن هذا مخالف للعقل والنقل. لكن الله أقسم بالأماكن الثلاثة التي أنزل فيها كتبه الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن، وظهر منها موسى وعيسى ومحمد، كما قال في التوراة: جاء الله من طور سينا، وأشرق من ساعين، واستعلن من جبال فاران.
فالتين والزيتون: الأرض التي بعث فيها المسيح، وكثيرا ما تسمى الأرض بما ينبت فيها، فيقال: فلان خرج إلى الكرم وإلى الزيتون وإلى الرمان، ونحو ذلك، ويراد الأرض التي فيها ذلك، فإن الأرض تتناول ذلك، فعبر عنها ببعضها.

وطور سينين حيث كلم الله موسى، وهذا البلد الأمين مكة أم القرى التي بعث بها محمد - صلى الله عليه وسلم -.
والجاهل بمعنى الآية، لتوهمه أن الذي أنفقه سرا وعلانية غير الذي أنفقه في الليل والنهار - يقول: نزلت فيمن أنفق أربعة دراهم، إما علي وإما غيره، ولهذا قال: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية} * لم يعطف بالواو، فيقول: وسرا وعلانية. بل هذان داخلان في الليل والنهار، سواء * قيل: هما منصوبان على المصدر ; لأنهما نوعان من الإنفاق، أو قيل: على الحال. فسواء قدرا سرا وعلانية، أو مسرا ومعلنا، فتبين أن الذي كذب هذا كان جاهلا بدلالة القرآن. والجهل في الرافضة ليس بمنكر.

الخامس: أنا لو قدرنا أن عليا فعل ذلك، ونزلت فيه الآية، فهل هنا إلا إنفاق أربعة دراهم في أربعة أحوال؟! وهذا عمل مفتوح بابه ميسر إلى يوم القيامة. والعاملون بهذا وأضعافه أكثر من أن يحصوا، وما من أحد فيه خير إلا ولا بد أن ينفق إن شاء الله تارة بالليل وتارة بالنهار، وتارة في السر وتارة في العلانية. فليس هذا من الخصائص، فلا يدل على فضيلة الإمامة.
(فائدة)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

وقد ذكر الله في آخر البقرة أحكام الأموال وهي ثلاثة أصناف: عدل؛ وفضل؛ وظلم؛ فالعدل: البيع؛ والظلم: الربا؛ والفضل: الصدقة. فمدح المتصدقين وذكر ثوابهم وذم المربين وبين عقابهم وأباح البيع والتداين إلى أجل مسمى؛ فالعقل من جنس ما أوجبه من الحقوق لبعض الناس على بعض كحق المسلم؛ وحق ذي الرحم وحق الجار؛ وحق المملوك والزوجة.

(الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا ... (275)
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف: قوم يكذبون بدخول الجني في الإنس. وقوم يدفعون ذلك بالعزائم المذمومة فهؤلاء يكذبون بالموجود وهؤلاء يعصون بل يكفرون بالمعبود. والأمة الوسط تصدق بالحق الموجود وتؤمن بالإله الواحد المعبود وبعبادته ودعائه وذكره وأسمائه وكلامه فتدفع شياطين الإنس والجن.
وأما سؤال الجن وسؤال من يسألهم فهذا إن كان على وجه التصديق لهم في كل ما يخبرون به والتعظيم للمسئول فهو حرام كما ثبت في صحيح مسلم وغيره {عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت: يا رسول الله أمورا كنا نصنعها في الجاهلية كنا نأتي الكهان قال: فلا تأتوا الكهان} وفي صحيح مسلم أيضا عن عبيد الله؛ عن نافع؛ عن صفية؛ عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما}.
وأما إن كان يسأل المسئول ليمتحن حاله ويختبر باطن أمره وعنده ما يميز به صدقه من كذبه فهذا جائز كما ثبت في الصحيحين: {أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ابن صياد فقال: ما يأتيك؟ فقال: يأتيني صادق وكاذب قال: ما ترى؟ قال: أرى عرشا على الماء قال: فإني قد خبأت لك خبيئا قال: الدخ الدخ قال: اخسأ فلن تعدو قدرك فإنما أنت من إخوان الكهان}. وكذلك إذا كان يسمع ما يقولونه ويخبرون به عن الجن كما يسمع المسلمون ما يقول الكفار والفجار ليعرفوا ما عندهم فيعتبروا به وكما يسمع خبر الفاسق ويتبين ويتثبت فلا يجزم بصدقه ولا كذبه إلا ببينة كما قال تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا}
وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة: {أن أهل الكتاب كانوا يقرءون التوراة ويفسرونها بالعربية فقال النبي صلى الله عليه وسلم إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه وقولوا: {آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} فقد جاز للمسلمين سماع ما يقولونه ولم يصدقوه ولم يكذبوه.
وقد روي عن أبي موسى الأشعري أنه أبطأ عليه خبر عمر وكان هناك امرأة لها قرين من الجن فسأله عنه فأخبره أنه ترك عمر يسم إبل الصدقة. وفي خبر آخر أن عمر أرسل جيشا فقدم شخص إلى المدينة فأخبر أنهم انتصروا على عدوهم وشاع الخبر فسأل عمر عن ذلك فذكر له فقال: هذا أبو الهيثم بريد المسلمين من الجن وسيأتي بريد الإنس بعد ذلك فجاء بعد ذلك بعدة أيام.
فصل:
ويجوز أن يكتب للمصاب وغيره من المرضى شيئا من كتاب الله وذكره بالمداد المباح ويغسل ويسقى كما نص على ذلك أحمد وغيره قال عبد الله بن أحمد: قرأت على أبي ثنا يعلى بن عبيد؛ ثنا سفيان؛ عن محمد بن أبي ليلى عن الحكم؛ عن سعيد بن جبير؛ عن ابن عباس قال: إذا عسر على المرأة ولادتها فليكتب: بسم الله لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون}. قال أبي: ثنا أسود بن عامر بإسناده بمعناه وقال: يكتب في إناء نظيف فيسقى قال أبي: وزاد فيه وكيع فتسقى وينضح ما دون سرتها قال عبد الله: رأيت أبي يكتب للمرأة في جام أو شيء نظيف. وقال أبو عمرو محمد بن أحمد بن حمدان الحيري:
أنا الحسن بن سفيان النسوي؛ حدثني عبد الله بن أحمد بن شبوية؛ ثنا علي بن الحسن بن شقيق؛ ثنا عبد الله بن المبارك؛ عن سفيان؛ عن ابن أبي ليلى؛ عن الحكم؛ عن سعيد بن جبير؛ عن ابن عباس قال: إذا عسر على المرأة ولادها فليكتب: بسم الله لا إله إلا الله العلي العظيم لا إله إلا الله الحليم الكريم؛ سبحان الله وتعالى رب العرش العظيم؛ والحمد لله رب العالمين {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون}. قال علي: يكتب في كاغدة فيعلق على عضد المرأة قال علي: وقد جربناه فلم نر شيئا أعجب منه فإذا وضعت تحله سريعا ثم تجعله في خرقة أو تحرقه.
(واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم (282)
وقد شاع في لسان العامة أن قوله: {واتقوا الله ويعلمكم الله} من الباب الأول؛ حيث يستدلون بذلك على أن التقوى سبب تعليم الله وأكثر الفضلاء يطعنون في هذه الدلالة لأنه لم يربط الفعل الثاني بالأول ربط الجزاء بالشرط فلم يقل؛ واتقوا الله ويعلمكم ولا قال فيعلمكم. وإنما أتى بواو العطف وليس من العطف ما يقتضي أن الأول سبب الثاني وقد يقال العطف قد يتضمن معنى الاقتران والتلازم كما يقال: زرني وأزورك؛ وسلم علينا ونسلم عليك ونحو ذلك مما يقتضي اقتران الفعلين والتعاوض من الطرفين كما لو قال لسيده: أعتقني ولك علي ألف؛ أو قالت المرأة لزوجها طلقني ولك ألف؛ أو اخلعني ولك ألف؛ فإن ذلك بمنزلة قولها بألف أو علي ألف.

وكذلك أيضا لو قال: أنت حر وعليك ألف أو أنت طالق وعليك ألف؛ فإنه كقوله: علي ألف أو بألف عند جمهور الفقهاء. والفرق بينهما قول شاذ ويقول أحد المتعاوضين للآخر: أعطيك هذا وآخذ هذا ونحو ذلك من العبارات فيقول الآخر: نعم وإن لم يكن أحدهما هو السبب للآخر دون العكس. فقوله: {واتقوا الله ويعلمكم الله} قد يكون من هذا الباب فكل من تعليم الرب وتقوى العبد يقارب الآخر ويلازمه ويقتضيه فمتى علمه الله العلم النافع اقترن به التقوى بحسب ذلك ومتى اتقاه زاده من العلم وهلم جرا.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 18-05-2022, 08:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (127)

من صــ 189 الى صـ
ـ 196






(فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم (283)
فصل:
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

القسم الثاني من الأمانات: الأموال كما قال تعالى في الديون: {فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه}. ويدخل في هذا القسم: الأعيان والديون الخاصة والعامة: مثل رد الودائع ومال الشريك والموكل والمضارب ومال المولى من اليتيم وأهل الوقف ونحو ذلك وكذلك وفاء الديون من أثمان المبيعات وبدل القرض وصدقات النساء وأجور المنافع ونحو ذلك. وقد قال الله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا} {إذا مسه الشر جزوعا} {وإذا مسه الخير منوعا} {إلا المصلين} {الذين هم على صلاتهم دائمون} {والذين في أموالهم حق معلوم} {للسائل والمحروم} إلى قوله: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} وقال تعالى:
{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} أي لا تخاصم عنهم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم {أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك} وقال النبي صلى الله عليه وسلم {المؤمن من أمنه المسلمون على دمائهم وأمولهم والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله}. وهو حديث صحيح بعضه في الصحيحين وبعضه في سنن الترمذي وقال صلى الله عليه وسلم {من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله} رواه البخاري. وإذا كان الله قد أوجب أداء الأمانات التي قبضت بحق؛ ففيه تنبيه على وجوب أداء الغصب والسرقة والخيانة ونحو ذلك من المظالم كذلك أداء العارية. وقد {خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وقال في خطبته: العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم؛ إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث}.
وهذا القسم يتناول الولاة والرعية فعلى كل منهما: أن يؤدي إلى الآخر ما يجب أداؤه إليه فعلى ذي السلطان ونوابه في العطاء أن يؤتوا كل ذي حق حقه. وعلى جباة الأموال كأهل الديوان أن يؤدوا إلى ذي السلطان ما يجب إيتاؤه إليه؛ كذلك على الرعية الذين تجب عليهم الحقوق؛ وليس للرعية أن يطلبوا من ولاة الأموال ما لا يستحقونه فيكونون من جنس من قال الله تعالى فيه: {ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون} ثم بين سبحانه لمن تكون بقوله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم}.

ولا لهم أن يمنعوا السلطان ما يجب دفعه إليه من الحقوق وإن كان ظالما؛ كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر جور الولاة فقال: {أدوا إليهم الذي لهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم}. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وأنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء ويكثرون.

قالوا: فما تأمرنا؟ فقال: أوفوا ببيعة الأول فالأول؛ ثم أعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم}. وفيهما عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها قالوا: فما تأمرنا به يا رسول الله؟ قال: أدوا إليهم حقهم؛ واسألوا الله حقكم}. وليس لولاة الأمور أن يقسموها بحسب أهوائهم كما يقسم المالك ملكه؛ فإنما هم أمناء ونواب ووكلاء ليسوا ملاكا؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إني - والله - لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا؛ وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت}. رواه البخاري وعن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
فهذا رسول رب العالمين قد أخبر أنه ليس المنع والعطاء بإرادته واختياره كما يفعل ذلك المالك الذي أبيح له التصرف في ماله وكما يفعل ذلك الملوك الذين يعطون من أحبوا ويمنعون من أبغضوا وإنما هو عبد الله يقسم المال بأمره فيضعه حيث أمره الله تعالى. وهكذا قال رجل لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين - لو وسعت على نفسك في النفقة من مال الله تعالى. فقال له عمر: أتدري ما مثلي ومثل هؤلاء؟ كمثل قوم كانوا في سفر فجمعوا منهم مالا وسلموه إلى واحد ينفقه عليهم فهل يحل لذلك الرجل أن يستأثر عنهم من أموالهم؟. وحمل مرة إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مال عظيم من الخمس؛ فقال: إن قوما أدوا الأمانة في هذا لأمناء.
فقال له بعض الحاضرين: إنك أديت الأمانة إلى الله تعالى فأدوا إليك الأمانة ولو رتعت لرتعوا. وينبغي أن يعرف أن أولي الأمر كالسوق ما نفق فيه جلب إليه؛ هكذا قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. فإن نفق فيه الصدق والبر والعدل والأمانة جلب إليه ذلك؛ وإن نفق فيه الكذب والفجور والجور والخيانة جلب إليه ذلك. والذي على ولي الأمر أن يأخذ المال من حله ويضعه في حقه ولا يمنعه من مستحقه؛ وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا بلغه أن بعض نوابه ظلم يقول: اللهم إني لم آمرهم أن يظلموا خلقك ولا يتركوا حقك.
(وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير (284)
قال شيخ الإسلام:

وهذه الآية وإن كان قد قال طائف من السلف إنها منسوخة كما روى البخاري في صحيحه عن مروان الأصفر عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - وهو ابن عمر - إنها نسخت فالنسخ في لسان السلف أعم مما هو في لسان المتأخرين يريدون به رفع الدلالة مطلقا وإن كان تخصيصا للعام أو تقييدا للمطلق وغير ذلك كما هو معروف في عرفهم وقد أنكر آخرون نسخها لعدم دليل ذلك وزعم قوم: أن ذلك خبر والخبر لا ينسخ.
ورد آخرون بأن هذا خبر عن حكم شرعي. كالخبر الذي بمعنى الأمر والنهي. والقائلون بنسخها يجعلون الناسخ لها الآية التي بعدها وهي قوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} كما روى مسلم في صحيحه من حديث أنس في هذه الآية فيكون المرفوع عنهم ما فسرت به الأحاديث وهو ما هموا به وحدثوا به أنفسهم من الأمور المقدورة ما لم يتكلموا به أو يعملوا به ورفع عنهم الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. كما روى ابن ماجه وغيره بإسناد حسن {إن الله تجاوز لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه}.
و " حقيقة الأمر " أن قوله سبحانه: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} لم يدل على المؤاخذة بذلك؛ بل دل على المحاسبة به ولا يلزم من كونه يحاسب أن يعاقب؛ ولهذا قال: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} لا يستلزم أنه قد يغفر ويعذب بلا سبب ولا ترتيب ولا أنه يغفر كل شيء أو يعذب على كل شيء مع العلم بأنه لا يعذب المؤمنين وأنه لا يغفر أن يشرك به إلا مع التوبة. ونحو ذلك.
والأصل أن يفرق بين ما كان مجامعا لأصل الإيمان وما كان منافيا له ويفرق أيضا بين ما كان مقدورا عليه فلم يفعل وبين ما لم يترك إلا للعجز عنه فهذان الفرقان هما فصل في هذه المواضيع المشتبهة. وقد ظهر بهذا التفصيل أن أصل النزاع في " المسألة " إنما وقع لكونهم رأوا عزما جازما لا يقترن به فعل قط وهذا لا يكون إلا إذا كان الفعل مقارنا للعزم وإن كان العجز مقارنا للإرادة امتنع وجود المراد لكن لا تكون تلك إرادة جازمة فإن الإرادة الجازمة لما هو عاجز عنه ممتنعة أيضا فمع الإرادة الجازمة يوجد ما يقدر عليه من مقدمات الفعل ولوازمه وإن لم يوجد الفعل نفسه.
والإنسان يجد من نفسه: أن مع قدرته على الفعل يقوى طلبه والطمع فيه وإرادته ومع العجز عنه يضعف ذلك الطمع وهو لا يعجز عما يقوله ويفعله على السواء ولا عما يظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه. مثل بسط الوجه وتعبسه وإقباله على الشيء والإعراض عنه وهذه وما يشبهها من أعمال الجوارح التي يترتب عليها الذم والعقاب كما يترتب عليها الحمد والثواب. وبعض الناس يقدر عزما جازما لا يقترن به فعل قط وهذا لا يكون إلا لعجز يحدث بعد ذلك من موت أو غيره فسموا التصميم على الفعل في المستقبل عزما جازما ولا نزاع في إطلاق الألفاظ؛ فإن من الناس من يفرق بين العزم والقصد فيقول: ما قارن الفعل فهو قصد وما كان قبله فهو عزم. ومنهم من يجعل الجميع سواء.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين ابن تيمية - قدس الله روحه ونور ضريحه -:
فصل:

في قوله تعالى {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير} قد ثبت في صحيح مسلم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن {أبي هريرة قال: لما أنزل الله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} اشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب وقالوا: أي رسول الله كلفنا من العمل ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة؛ وقد نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فلما قرأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها:
{آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال: نعم {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} قال: نعم {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال: نعم.

{واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قال: نعم}. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس معناه وقال: قد فعلت قد فعلت بدل نعم. ولهذا قال كثير من السلف والخلف: إنها منسوخة بقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}كما نقل ذلك عن ابن مسعود وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس في رواية عنه والحسن والشعبي وابن سيرين وسعيد بن جبير وقتادة وعطاء الخراساني والسدي ومحمد بن كعب ومقاتل والكلبي وابن زيد ونقل عن آخرين أنها ليست منسوخة بل هي ثابتة في المحاسبة على العموم فيأخذ من يشاء ويغفر لمن يشاء كما نقل ذلك عن ابن عمر والحسن واختاره أبو سليمان الدمشقي والقاضي أبو يعلى وقالوا: هذا خبر والأخبار لا تنسخ.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 18-05-2022, 08:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (128)

من صــ 197 الى صـ
ـ 204




و " فصل الخطاب ": أن لفظ " النسخ " مجمل فالسلف كانوا يستعملونه فيما يظن دلالة الآية عليه من عموم أو إطلاق أو غير ذلك كما قال من قال: إن قوله: {اتقوا الله حق تقاته} {وجاهدوا في الله حق جهاده} نسخ بقوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} وليس بين الآيتين تناقض لكن قد يفهم بعض الناس من قوله: {حق تقاته} و {حق جهاده} الأمر بما لا يستطيعه العبد فينسخ ما فهمه هذا كما ينسخ الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته.
وإن لم يكن نسخ ذلك نسخ ما أنزله بل نسخ ما ألقاه الشيطان إما من الأنفس أو من الأسماع أو من اللسان. وكذلك ينسخ الله ما يقع في النفوس من فهم معنى وإن كانت الآية لم تدل عليه لكنه محتمل وهذه الآية من هذا الباب؛ فإن قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم} الآية إنما تدل على أن الله يحاسب بما في النفوس لا على أنه يعاقب على كل ما في النفوس وقوله: {لمن يشاء} يقتضي أن الأمر إليه في المغفرة والعذاب لا إلى غيره.
ولا يقتضي أنه يغفر ويعذب بلا حكمة ولا عدل كما قد يظنه من يظنه من الناس حتى يجوزوا أنه يعذب على الأمر اليسير من السيئات مع كثرة الحسنات وعظمها وأن الرجلين اللذين لهما حسنات وسيئات يغفر لأحدهما مع كثرة سيئاته وقلة حسناته ويعاقب الآخر على السيئة الواحدة مع كثرة حسناته ويجعل درجة ذاك في الجنة فوق درجة الثاني. وهؤلاء يجوزون أن يعذب الله الناس بلا ذنب وأن يكلفهم ما لا يطيقون ويعذبهم على تركه والصحابة إنما هربوا وخافوا أن يكون الأمر من هذا الجنس فقالوا: لا طاقة لنا بهذا؛ فإنه إن كلفنا ما لا نطيق عذبنا فنسخ الله هذا الظن وبين أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها وبين بطلان قول هؤلاء الذين يقولون إنه يكلف العبد ما لا يطيقه ويعذبه عليه وهذا القول لم يعرف عن أحد من السلف والأئمة؛ بل أقوالهم تناقض ذلك حتى إن سفيان بن عيينة سئل عن قوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} قال: إلا يسرها ولم يكلفها طاقتها.

قال البغوي: وهذا قول حسن؛ لأن الوسع ما دون الطاقة وإنما قاله طائفة من المتأخرين لما ناظروا المعتزلة في " مسائل القدر " وسلك هؤلاء مسلك الجبر جهم وأتباعه فقالوا هذا القول وصاروا فيه على مراتب وقد بسط هذا في غير هذا الموضع. قال ابن الأنباري في قوله: {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} أي لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه وإن كنا مطيقين له على تجشم وتحمل مكروه. قال: فخاطب العرب على حسب ما تعقل؛ فإن الرجل منهم يقول للرجل ما أطيق النظر إليك وهو مطيق لذلك؛ لكنه ثقيل عليه النظر إليه قال: ومثله قوله: {ما كانوا يستطيعون السمع}. قلت ليست هذه لغة العرب وحدهم؛ بل هذا مما اتفق عليه العقلاء.

و " الاستطاعة في الشرع " هي ما لا يحصل معه للمكلف ضرر راجح كاستطاعة الصيام والقيام فمتى كان يزيد في المرض أو يؤخر البرء لم يكن مستطيعا؛ لأن في ذلك مضرة راجحة؛ بخلاف هؤلاء فإنهم كانوا لا يستطيعون السمع لبغض الحق وثقله عليهم: إما حسدا لقائله وإما اتباعا للهوى ورين الكفر والمعاصي على القلوب وليس هذا عذرا فلو لم يأمر العباد إلا بما يهوونه لفسدت السموات والأرض ومن فيهن.
والمقصود أن السلف لم يكن فيهم من يقول: إن العبد لا يكون مستطيعا إلا في حال فعله وأنه قبل الفعل لم يكن مستطيعا فهذا لم يأت الشرع به قط ولا اللغة ولا دل عليه عقل؛ بل العقل يدل على نقيضه كما قد بسط في غير هذا الموضع. والرب تعالى يعلم أن العبد لا يفعل الفعل مع أنه مستطيع له والمعلوم أنه لا يفعله ولا يريده لا أنه لا يقدر عليه والعلم يطابق المعلوم فالله يعلم ممن استطاع الحج والقيام والصيام أنه مستطيع ويعلم أن هذا مستطيع يفعل مستطاعه فالمعلوم هو عدم الفعل لعدم إرادة العبد؛ لا لعدم استطاعته كالمقدورات له التي يعلم أنه لا يفعلها لعدم إرادته لها لا لعدم قدرته عليها والعبد قادر على أن يفعل وقد علم الله أنه لا يفعل مع القدرة؛ ولهذا يعذبه لأنه إنما أمره بما استطاع لا بما لا يستطيع ومن لم يستطع لم يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه. وإذا قيل: فيلزم أن يكون قادرا على تغيير علم الله لأن الله علم أنه لا يفعل فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم الله.

قيل: هذه مغلطة؛ وذلك أن مجرد قدرته على الفعل لا يلزم فيها تغيير العلم وإنما يظن من يظن تغيير العلم إذا وقع الفعل ولو وقع الفعل لكان المعلوم وقوعه؛ لا عدم وقوعه فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم الله بعدم وقوعه؛ بل إن وقع كان الله قد علم أنه يقع وإن لم يقع كان الله قد علم أنه لا يقع ونحن لا نعرف علم الله إلا بما يظهر وعلم الله مطابق للواقع فيمتنع أن يقع شيء يستلزم تغيير العلم بل أي شيء وقع كان هو المعلوم والعبد الذي لم يفعل لم يأت بشيء يغير العلم؛ بل هو قادر على فعل ما لم يقع ولو وقع لكان الله قد علم أنه يقع لا أنه لا يقع.

وإذا قيل: فمع عدم وقوعه يعلم الله أنه لا يقع فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم. قيل ليس الأمر كذلك؛ بل العبد يقدر على وقوعه وهو لم يوقعه ولو أوقعه لم يكن المعلوم إلا وقوعه فمقدور العبد إذا وقع لم يكن المعلوم إلا وقوعه فإذا وقع كان الله عالما أنه سيقع وإذا لم يقع كان الله عالما بأنه لا يقع ألبتة فإذا فرض وقوعه مع انتفاء لازم الوقوع صار محالا من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه وكل الأشياء بهذا الاعتبار هي محال.
ومما يلزم هؤلاء أن لا يبقى أحد قادرا على شيء إلا الرب؛ فإن الأمور نوعان: " نوع " علم الله أنه سيكون و " نوع " علم الله أنه لا يكون. ف " الأول " لا بد من وقوعه. و " الثاني " لا يقع ألبتة. فما علم الله أنه سيقع يعلم أنه يقع بمشيئته وقدرته وما علم أنه لا يقع يعلم أنه لا يشاؤه وهو سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وأما " المعتزلة " فعندهم أنه يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء وأولئك " المجبرة " في جانب وهؤلاء في جانب وأهل السنة وسط. وما يفعله العباد باختيارهم يعلم سبحانه أنهم فعلوه بقدرتهم ومشيئتهم وما لم يفعلوه مع قدرتهم عليه يعلم أنهم لم يفعلوه لعدم إرادتهم له لا لعدم قدرتهم عليه وهو سبحانه الخالق للعباد ولقدرتهم وإرادتهم وأفعالهم وكل ذلك مقدور للرب وليس هذا مقدورا بين قادرين بل القادر المخلوق هو وقدرته ومقدوره مقدور للخالق مخلوق له.

و " المقصود هنا " أن قوله تعالى {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} حق والنسخ فيها هو رفع فهم من فهم من الآية ما لم تدل عليه فمن فهم أن الله يكلف نفسا ما لا تسعه فقد نسخ الله فهمه وظنه ومن فهم منها أن المغفرة والعذاب بلا حكمة وعدل فقد نسخ فهمه وظنه فقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} رد للأول وقوله: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} رد للثاني وقوله: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} كقوله في آل عمران:

{ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم} وقوله: {ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير} ونحو ذلك. وقد علمنا أنه لا يغفر أن يشرك به وأنه لا يعذب المؤمنين وأنه يغفر لمن تاب كذلك قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} الآية. ودلت هذه الآية على أنه سبحانه يحاسب بما في النفوس وقد قال عمر: زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.
و " المحاسبة " تقتضي أن ذلك يحسب ويحصى. وأما " المغفرة والعذاب " فقد دل الكتاب والسنة على أن من في قلبه الكفر وبغض الرسول وبغض ما جاء به أنه كافر بالله ورسوله وقد عفا الله لهذه الأمة - وهم المؤمنون حقا الذين لم يرتابوا - عما حدثت به أنفسها ما لا تتكلم به أو تعمل كما هو في الصحيحين من حديث أبي هريرة وابن عباس وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم {أن الذي يهم بالحسنة تكتب له والذي يهم بالسيئة لا تكتب عليه حتى يعملها} إذا كان مؤمنا من عادته عمل الحسنات وترك السيئات فإن ترك السيئة لله كتبت له حسنة فإذا أبدى العبد ما في نفسه من الشر بقول أو فعل صار من الأعمال التي يستحق عليها الذم والعقاب وإن أخفى ذلك وكان ما أخفاه متضمنا لترك الإيمان بالله والرسول مثل الشك فيما جاء به الرسول أو بغضه كان معاقبا على ما أخفاه في نفسه من ذلك؛ لأنه ترك الإيمان الذي لا نجاة ولا سعادة إلا به وأما إن كان وسواسا والعبد يكرهه فهذا صريح الإيمان كما هو مصرح به في الصحيح.

وهذه " الوسوسة " هي مما يهجم على القلب بغير اختيار الإنسان فإذا كرهه العبد ونفاه كانت كراهته صريح الإيمان وقد خاف من خاف من الصحابة من العقوبة على ذلك فقال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 18-05-2022, 11:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (129)

من صــ 205 الى صـ
ـ 212




و " الوسع " فعل بمعنى المفعول أي ما يسعه لا يكلفها ما تضيق عنه فلا تسعه وهو المقدور عليه المستطاع وقال بعض الناس: إن " الوسع " اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عليه. وليس كذلك؛ بل ما يسع الإنسان هو مباح له وما لم يسعه ليس مأمورا به فما يسعه قد يؤمر به وأما ما لا يسعه فهو المباح يقال: يسعني أن أفعل كذا ولا يسعني أن أفعل كذا والمباح هو الواسع ومنه باحة الدار فالمباح لك أن تفعله هو يسعك ولا تخرج عنه ومنه يقال: رحم الله من وسعته السنة فلم يتعدها إلى البدعة: أي فيما أمر الله به وما أباحه ما يكفي المؤمن المتبع في دينه ودنياه لا يحتاج أن يخرج عنه إلى ما نهي عنه.
وأما ما كلفت به فهو ما أمرت بفعله وذلك يكون مما تسعه أنت لا مما يسعك هو وقد يقال: لا يسعني تركه؛ بل تركه محرم وقد قال تعالى: {تلك حدود الله فلا تقربوها} وهو أول الحرام وقال: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} وهي آخر الحلال وقال: {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} وهذا التغيير نوعان: أحدهما: أن يبدوا ذلك فيبقى قولا وعملا يترتب عليه الذم والعقاب.
والثاني أن يغيروا الإيمان الذي في قلوبهم بضده من الريب والشك والبغض ويعزموا على ترك فعل ما أمر الله به ورسوله فيستحقون العذاب هنا على ترك المأمور وهناك على فعل المحظور. وكذلك ما في النفس مما يناقض محبة الله والتوكل عليه والإخلاص له والشكر له يعاقب عليه؛ لأن هذه الأمور كلها واجبة فإذا خلي القلب عنها واتصف بأضدادها استحق العذاب على ترك هذه الواجبات.
وبهذا التفصيل تزول شبه كثيرة ويحصل الجمع بين النصوص فإنها كلها متفقة على ذلك فالمنافقون الذين يظهرون خلاف ما يبطنون يعاقبون على أنهم لم تؤمن قلوبهم؛ بل أضمرت الكفر قال تعالى: {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} وقال: {في قلوبهم مرض} وقال: {أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم} فالمنافق لا بد أن يظهر في قوله وفعله ما يدل على نفاقه وما أضمره كما قال عثمان بن عفان: ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه وقد قال تعالى عن المنافقين: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم} ثم قال: {ولتعرفنهم في لحن القول} وهو جواب قسم محذوف أي: والله لتعرفهم في لحن القول فمعرفة المنافق في لحن القول لا بد منها وأما معرفته بالسيما فموقوفة على المشيئة.
ولما كانت هذه الآية: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} خبرا من الله؛ ليس فيها إثبات إيمان للعبد بخلاف الآيتين بعدها كما {قال النبي صلى الله عليه وسلم الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه} متفق عليه وهما قوله: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون} إلى آخرها. وكلام السلف يوافق ما ذكرناه قال ابن عباس: هذه الآية لم تنسخ ولكن الله إذا جمع الخلائق يقول: إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم وهو قوله: {يحاسبكم به الله} يقول: يخبركم به الله وأما أهل الشرك والريب فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب وهو قوله: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}.
وقد روي عن ابن عباس: أنها نزلت في كتمان الشهادة وروي ذلك عن عكرمة والشعبي وكتمان الشهادة من باب ترك الواجب وذلك ككتمان العيب الذي يجب إظهاره وكتمان العلم الذي يجب إظهاره وعن مجاهد أنه الشك واليقين وهذا أيضا من باب ترك الواجب؛ لأن اليقين واجب وروي عن عائشة: ما أعلنت فإن الله يحاسبك به وأما ما أخفيت فما عجلت لك به العقوبة في الدنيا.

وهذا قد يكون مما يعاقب فيه العبد بالغم كما سئل سفيان بن عيينة عن غم لا يعرف سببه قال هو ذنب هممت به في سرك ولم تفعله فجزيت هما به. فالذنوب لها عقوبات: السر بالسر والعلانية بالعلانية وروي عنها مرفوعا {قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} فقال يا عائشة هذه معاتبة الله العبد مما يصيبه من النكبة والحمى حتى الشوكة والبضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيروع لها فيجدها في جيبه حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير}.

قلت: هذا المرفوع هو والله أعلم بيان ما يعاقب به المؤمن في الدنيا؛ وليس فيه أن كل ما أخفاه يعاقب به بل فيه أنه إذا عوقب على ما أخفاه عوقب بمثل ذلك وعلى هذا دلت الأحاديث الصحيحة. وقد روى الروياني في مسنده من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن سنان عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه العقوبة بذنبه حتى يوافيه بها يوم القيامة} وقد قال تعالى: {فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون} {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور}. فهؤلاء كانوا في ظنهم ظن الجاهلية ظنا ينافي اليقين بالقدر وظنا ينافي بأن الله ينصر رسوله فكان عقابهم على ترك اليقين ووجود الشك وظن الجاهلية ومثل هذا كثير.
ومما يدخل في ذلك نيات الأعمال فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. و " النية " هي مما يخفيه الإنسان في نفسه فإن كان قصده ابتغاء وجه ربه الأعلى استحق الثواب وإن كان قصده رياء الناس استحق العقاب كما قال تعالى: {فويل للمصلين} {الذين هم عن صلاتهم ساهون} {الذين هم يراءون} وقال: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس}. وفي حديث أبي هريرة الصحيح في الثلاثة الذين أول من تسعر بهم النار في الذي تعلم وعلم ليقال: عالم قارئ والذي قاتل ليقال جريء وشجاع.
والذي تصدق ليقال جواد وكريم فهؤلاء إنما كان قصدهم مدح الناس لهم وتعظيمهم لهم وطلب الجاه عندهم؛ لم يقصدوا بذلك وجه الله وإن كانت صور أعمالهم صورا حسنة فهؤلاء إذا حوسبوا كانوا ممن يستحق العذاب كما في الحديث: {من طلب العلم ليباهي به العلماء أو ليماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس إليه فله من عمله النار} وفي الحديث الآخر: {من طلب علما مما يبتغى به وجه الله لا يطلبه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام}. وفي " الجملة " القلب هو الأصل كما قال أبو هريرة: القلب ملك الأعضاء والأعضاء جنوده فإذا طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث خبثت جنوده وهذا كما في حديث النعمان بن بشير المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب} فصلاحه وفساده يستلزم صلاح الجسد وفساده فيكون هذا مما أبداه لا مما أخفاه.

وكل ما أوجبه الله على العباد لا بد أن يجب على القلب فإنه الأصل وإن وجب على غيره تبعا فالعبد المأمور المنهي إنما يعلم بالأمر والنهي قلبه وإنما يقصد بالطاعة والامتثال القلب والعلم بالمأمور والامتثال يكون قبل وجود الفعل المأمور به كالصلاة والزكاة والصيام وإذا كان العبد قد أعرض عن معرفة الأمر وقصد الامتثال كان أول المعصية منه؛ بل كان هو العاصي وغيره تبع له في ذلك؛ ولهذا قال في حق الشقي: {فلا صدق ولا صلى} {ولكن كذب وتولى} الآيات وقال في حق السعداء: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} في غير موضع والمأمور نوعان. " نوع " هو عمل ظاهر على الجوارح وهذا لا يكون إلا بعلم القلب وإرادته. فالقلب هو الأصل فيه كالوضوء والاغتسال وكأفعال الصلاة: من القيام والركوع والسجود. وأفعال الحج: من الوقوف والطواف وإن كانت أقوالا فالقلب أخص بها فلا بد أن يعلم القلب وجود ما يقوله أو بما يقول ويقصده.

ولهذا كانت الأقوال في الشرع لا تعتبر إلا من عاقل يعلم ما يقول ويقصده فأما المجنون والطفل الذي لا يميز فأقواله كلها لغو في الشرع لا يصح منه إيمان ولا كفر ولا عقد من العقود ولا شيء من الأقوال باتفاق المسلمين وكذلك النائم إذا تكلم في منامه فأقواله كلها لغو سواء تكلم المجنون والنائم بطلاق أو كفر أو غيره وهذا بخلاف الطفل؛ فإن المجنون والنائم إذا أتلف مالا ضمنه ولو قتل نفسا وجبت ديتها كما تجب دية الخطأ. وتنازع العلماء في السكران مع اتفاقهم أنه لا تصح صلاته لقوله صلى الله عليه وسلم {مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع} وهو معروف في السنن.
وتنازعوا في عقود السكران كطلاقه وفي أفعاله المحرمة كالقتل والزنا هل يجرى مجرى العاقل أو مجرى المجنون أو يفرق بين أقواله وأفعاله وبين بعض ذلك وبعض؟ على عدة أقوال معروفة. والذي تدل عليه النصوص والأصول وأقوال الصحابة: أن أقواله هدر - كالمجنون - لا يقع بها طلاق ولا غيره؛ فإن الله تعالى قد قال:{حتى تعلموا ما تقولون} فدل على أنه لا يعلم ما يقول والقلب هو الملك الذي تصدر الأقوال والأفعال عنه فإذا لم يعلم ما يقول لم يكن ذلك صادرا عن القلب؛ بل يجري مجرى اللغو والشارع لم يرتب المؤاخذة إلا على ما يكسبه القلب من الأقوال والأفعال الظاهرة كما قال: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} ولم يؤاخذ على أقوال وأفعال لم يعلم بها القلب ولم يتعمدها وكذلك ما يحدث به المرء نفسه لم يؤاخذ منه إلا بما قاله أو فعله وقال قوم: إن الله قد أثبت للقلب كسبا فقال: {بما كسبت قلوبكم} فليس لله عبد أسر عملا أو أعلنه من حركة في جوارحه أو هم في قلبه إلا يخبره الله به ويحاسبه عليه ثم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.

واحتجوا بقوله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} وهذا القول ضعيف شاذ؛ فإن قوله: {يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} إنما ذكره لبيان أنه يؤاخذ في الأعمال بما كسب القلب لا يؤاخذ بلغو الأيمان كما قال: {بما عقدتم الأيمان} فالمؤاخذة لم تقع إلا بما اجتمع فيه كسب القلب مع عمل الجوارح فأما ما وقع في النفس؛ فإن الله تجاوز عنه ما لم يتكلم به أو يعمل وما وقع من لفظ أو حركة بغير قصد القلب وعلمه فإنه لا يؤاخذ به.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 18-05-2022, 11:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (130)

من صــ 205 الى صـ
ـ 212






و " أيضا " فإذا كان السكران لا يصح طلاقه والصبي المميز تصح صلاته ثم الصبي لا يقع طلاقه فالسكران أولى وقد {قال النبي صلى الله عليه وسلم لماعز لما اعترف بالحد: أبك جنون؟ قال: لا ثم أمر باستنكاهه لئلا يكون سكران} فدل على أن إقرار السكران باطل وقضية ماعز متأخرة بعد تحريم الخمر فإن الخمر حرمت سنة ثلاث بعد أحد باتفاق الناس وقد ثبت عن عثمان وغيره من الصحابة كعبد الله بن عباس أن طلاق السكران لا يقع ولم يثبت عن صحابي خلافه.
والذين أوقعوا طلاقه لم يذكروا إلا مأخذا ضعيفا وعمدتهم أنه عاص بإزالة عقله وهذا صحيح يوجب عقوبته على المعصية التي هي الشرب فيحد على ذلك وأما الطلاق فلا يعاقب به مسلم على المعصية ولو كان كذلك لكان كل من شرب الخمر أو سكر طلقت امرأته وإنما قال من قال: إذا تكلم به طلقت فهم اعتبروا كلامه لا معصيته ثم إنه في حال سكره قد يعتق والعتق قربة فإن صححوا عتقه بطل الفرق وإن ألغوه فإلغاء الطلاق أولى فإن الله يحب العتق ولا يحب الطلاق.
ثم من علل ذلك بالمعصية لزمه طرد ذلك فيمن زال عقله بغير مسكر كالبنج وهو قول من يسوي بين البنج والسكران من أصحاب الشافعي وموافقيه كأبي الخطاب والأكثرون على الفرق وهو منصوص أحمد وأبي حنيفة وغيرهما؛ لأن الخمر تشتهيها النفس وفيها الحد؛ بخلاف البنج فإنه لا حد فيه؛ بل فيه التعزير؛ لأنه لا يشتهى كالميتة والدم ولحم الخنزير فيها التعزير وعامة العلماء على أنه لا حد فيها إلا قولا نقل عن الحسن فهذا فيمن زال عقله. وأما إذا كان يعلم ما يقول فإن كان مختارا قاصدا لما يقوله فهذا هو الذي يعتبر قوله وإن كان مكرها فإن أكره على ذلك بغير حق فهذا عند جمهور العلماء أقواله كلها لغو مثل كفره وإيمانه وطلاقه وغيره وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم.

وأبو حنيفة وطائفة يفرقون بين ما يقبل الفسخ وما لا يقبله. قالوا: فما يقبل الفسخ لا يلزم من المكره كالبيع؛ بل يقف على إجازته له وما لا يقبل الفسخ كالنكاح والطلاق واليمين فإنه يلزم من المكره. والجمهور ينازعون في هذا الفرق: في ثبوت الوصف وفي تعلق الحكم به؛ فإنهم يقولون: النكاح ونحوه يقبل الفسخ وكذلك العتق يقبل الفسخ عند الشافعي وأحد القولين في مذهب أحمد حتى إن المكاتب قد يحكمون بعتقه ثم يفسخون العتق ويعيدونه عبدا والأيمان المنعقدة تقبل التحلة كما قال تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم}.

وبسط الكلام على هذا له موضع آخر.
و " المقصود هنا " أن القلب هو الأصل في جميع الأفعال والأقوال فما أمر الله به من الأفعال الظاهرة فلا بد فيه من معرفة القلب وقصده وما أمر به من الأقوال وكل ما تقدم والمنهي عنه من الأقوال والأفعال إنما يعاقب عليه إذا كان بقصد القلب وأما ثبوت بعض الأحكام كضمان النفوس والأموال إذا أتلفها مجنون أو نائم أو مخطئ أو ناس فهذا من باب العدل في حقوق العباد ليس هو من باب العقوبة. فالمأمور به كما ذكرنا " نوعان " نوع ظاهر على الجوارح ونوع باطن في القلب.
" النوع الثاني " ما يكون باطنا في القلب كالإخلاص وحب الله ورسوله والتوكل عليه والخوف منه وكنفس إيمان القلب وتصديقه بما أخبر به الرسول فهذا النوع تعلقه بالقلب ظاهر فإنه محله وهذا النوع هو أصل النوع الأول وهو أبلغ في الخير والشر من الأول فنفس إيمان القلب وحبه وتعظيمه لله وخوفه ورجائه والتوكل عليه وإخلاص الدين له لا يتم شيء من المأمور به ظاهرا إلا بها وإلا فلو عمل أعمالا ظاهرة بدون هذه كان منافقا وهي في أنفسها توجب لصاحبها أعمالا ظاهرة توافقها وهي أشرف من فروعها كما قال تعالى:
{لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم}. وكذلك تكذيب الرسول بالقلب وبغضه وحسده والاستكبار عن متابعته أعظم إثما من أعمال ظاهرة خالية عن هذا كالقتل والزنا والشرب والسرقة وما كان كفرا من الأعمال الظاهرة: كالسجود للأوثان وسب الرسول ونحو ذلك فإنما ذلك لكونه مستلزما لكفر الباطن وإلا فلو قدر أنه سجد قدام وثن ولم يقصد بقلبه السجود له بل قصد السجود لله بقلبه لم يكن ذلك كفرا وقد يباح ذلك إذا كان بين مشركين يخافهم على نفسه فيوافقهم في الفعل الظاهر ويقصد بقلبه السجود لله كما ذكر أن بعض علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب فعل نحو ذلك مع قوم من المشركين حتى دعاهم إلى الإسلام فأسلموا على يديه ولم يظهر منافرتهم في أول الأمر.
وهنا " أصول " تنازع الناس فيها. منها أن القلب هل يقوم به تصديق أو تكذيب ولا يظهر قط منه شيء على اللسان والجوارح وإنما يظهر نقيضه من غير خوف؟ فالذي عليه السلف والأئمة وجمهور الناس أنه لا بد من ظهور موجب ذلك على الجوارح فمن قال: إنه يصدق الرسول ويحبه ويعظمه بقلبه ولم يتكلم قط بالإسلام ولا فعل شيئا من واجباته بلا خوف فهذا لا يكون مؤمنا في الباطن؛ وإنما هو كافر.
وزعم جهم ومن وافقه أنه يكون مؤمنا في الباطن. . . (1) وأن مجرد معرفة القلب وتصديقه يكون إيمانا يوجب الثواب يوم القيامة بلا قول ولا عمل ظاهر وهذا باطل شرعا وعقلا كما قد بسط في غير هذا الموضع وقد كفر السلف كوكيع وأحمد وغيرهما من يقول بهذا القول وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب} فبين أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد فإذا كان الجسد غير صالح دل على أن القلب غير صالح والقلب المؤمن صالح فعلم أن من يتكلم بالإيمان ولا يعمل به لا يكون قلبه مؤمنا حتى إن المكره إذا كان في إظهار الإيمان فلا بد أن يتكلم مع نفسه وفي السر مع من يأمن إليه ولا بد أن يظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه كما قال عثمان.

وأما إذا لم يظهر أثر ذلك لا بقوله ولا بفعله قط فإنه يدل على أنه ليس في القلب إيمان. وذلك أن الجسد تابع للقلب فلا يستقر شيء في القلب إلا ظهر موجبه ومقتضاه على البدن ولو بوجه من الوجوه وإن لم يظهر كل موجبه لمعارض فالمقتضي لظهور موجبه قائم؛ والمعارض لا يكون لازما للإنسان لزوم القلب له؛ وإنما يكون في بعض الأحوال متعذرا إذا كتم ما في قلبه كمؤمن آل فرعون مع أنه قد دعا إلى الإيمان دعاء ظهر به من إيمان قلبه ما لا يظهر من إيمان من أعلن إيمانه بين موافقيه وهذا في معرفة القلب وتصديقه.

ومنها قصد القلب وعزمه إذا قصد الفعل وعزم عليه مع قدرته على ما قصده هل يمكن أن لا يوجد شيء مما قصده وعزم عليه؟ فيه قولان أصحهما أنه إذا حصل القصد الجازم مع القدرة وجب وجود المقدور وحيث لم يفعل العبد مقدوره دل على أنه ليس هناك قصد جازم وقد يحصل قصد جازم مع العجز عن المقدور لكن يحصل معه مقدمات المقدور وقيل: بل قد يمكن حصول العزم التام بدون أمر ظاهر. وهذا نظير قول من قال ذلك في المعرفة والتصديق وهما من أقوال أتباع جهم الذين نصروا قوله في الإيمان كالقاضي أبي بكر وأمثاله فإنهم نصروا قوله وخالفوا السلف والأئمة وعامة طوائف المسلمين. وبهذا ينفصل النزاع في " مؤاخذة العبد بالهمة " فمن الناس: من قال: يؤاخذ بها إذا كانت عزما ومنهم من قال: لا يؤاخذ بها والتحقيق: أن الهمة إذا صارت عزما فلا بد أن يقترن بها قول أو فعل؛ فإن الإرادة مع القدرة تستلزم وجود المقدور.
والذين قالوا: يؤاخذ بها احتجوا بقوله: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار} الحديث وهذا لا حجة فيه؛ فإنه ذكر ذلك في رجلين اقتتلا كل منهما يريد قتل الآخر وهذا ليس عزما مجردا؛ بل هو عزم مع فعل المقدور؛ لكنه عاجز عن إتمام مراده وهذا يؤاخذ باتفاق المسلمين فمن اجتهد على شرب الخمر وسعى في ذلك بقوله وعمله ثم عجز فإنه آثم باتفاق المسلمين وهو كالشارب وإن لم يقع منه شرب وكذلك من اجتهد على الزنا والسرقة ونحو ذلك بقوله وعمله ثم عجز فهو آثم كالفاعل ومثل ذلك في قتل النفس وغيره كما جعل الداعي إلى الخير له مثل أجر المدعو ووزره لأنه أراد فعل المدعو وفعل ما يقدر عليه فالإرادة الجازمة مع فعل المقدور من ذلك فيحصل له مثل أجر الفاعل ووزره وقد قال تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم} الآية.
وفصل الخطاب في الآية أن {أولي الضرر} نوعان: نوع لهم عزم تام على الجهاد ولو تمكنوا لما قعدوا ولا تخلفوا وإنما أقعدهم العذر فهم كما {قال النبي صلى الله عليه وسلم إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا: وهم بالمدينة قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر} وهم أيضا كما قال في حديث أبي كبشة الأنماري {هما في الأجر سواء} وكما في حديث أبي موسى {إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل صحيحا مقيما} فأثبت له مثل ذلك العمل؛ لأن عزمه تام وإنما منعه العذر.

والنوع الثاني من " أولي الضرر " الذين ليس لهم عزم على الخروج فهؤلاء يفضل عليهم الخارجون المجاهدون وأولو الضرر العازمون عزما جازما على الخروج وقوله تعالى {غير أولي الضرر} سواء كان استثناء أو صفة دل على أنهم لا يدخلون مع القاعدين في نفي الاستواء فإذا فصل الأمر فيهم بين العازم وغير العازم بقيت الآية على ظاهرها ولو جعل قوله: {فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة} عاما في أهل الضرر وغيرهم لكان ذلك مناقضا لقوله: {غير أولي الضرر} فإن قوله: {لا يستوي القاعدون} {والمجاهدون} إنما فيها نفي الاستواء؛ فإن كان أهل الضرر كلهم كذلك لزم بطلان قوله: {غير أولي الضرر} ولزم أنه لا يساوي المجاهدين قاعد ولو كان من أولي الضرر وهذا خلاف مقصود الآية.
__________
Q (1) بياض بالأصل


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 10-06-2022, 09:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (131)

من صــ 221 الى صـ
ـ 228




و " أيضا " فالقاعدون إذا كانوا من غير أولي الضرر والجهاد ليس بفرض عين فقد حصلت الكفاية بغيرهم؛ فإنه لا حرج عليهم في القعود؛ بل هم موعودون بالحسنى كأولي الضرر وهذا مثل قوله: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} الآية فالوعد بالحسنى شامل لأولي الضرر وغيرهم. فإن قيل: قد قال في الأولى في فضلهم درجة ثم قال في فضلهم {درجات منه ومغفرة ورحمة} كما قال: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين} {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون} {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم}.

فقوله: {أعظم درجة} كما قال في السابقين {أعظم درجة} وهذا نصب على التمييز: أي درجتهم أعظم درجة وهذا يقتضي تفضيلا مجملا يقال: منزلة هذا أعظم وأكبر كذلك قوله: {وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما} الآيات؛ ليس المراد به أنهم لم يفضلوا عليهم إلا بدرجة فإن في الحديث الصحيح الذي يرويه أبو سعيد وأبو هريرة: {إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض} الحديث وفي حديث أبي سعيد: {من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وجبت له الجنة فعجب لها أبو سعيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض فقال: وما هي يا رسول الله؟ قال الجهاد في سبيل الله} فهذا الحديث الصحيح بين أن المجاهد يفضل على القاعد الموعود بالحسنى من غير أولي الضرر مائة درجة وهو يبطل قول من يقول: إن الوعد بالحسنى والتفضيل بالدرجة مختص بأولي الضرر فهذا القول مخالف للكتاب والسنة.
وقد يقال: إن (درجة منصوب على التمييز كما قال أعظم درجة أي فضل درجتهم على درجتهم أفضل كما يقال: فضل هذا على هذا منزلا ومقاما وقد يراد (بالدرجة جنس الدرج وهي المنزلة والمستقر لا يراد به درجة واحدة من العدد وقوله: {وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما} {درجات} منصوب (بفضل لأن التفضيل زيادة للمفضل فالتقدير زادهم عليهم أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة فهذا النزاع في العازم الجازم إذا فعل مقدوره هل يكون كالفاعل في الأجر والوزر أم لا؟ وأما في استحقاق الأجر والوزر فلا نزاع في ذلك وقوله: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما} فيه حرص كل واحد منهما على قتل صاحبه وفعل مقدوره فكلاهما مستحق للنار ويبقى الكلام في تساوي القعودين بشيء آخر.

وهكذا حال المقتتلين من المسلمين في الفتن الواقعة بينهم فلا تكون عاقبتهما إلا عاقبة سوء الغالب والمغلوب فإنه لم يحصل له دنيا ولا آخرة كما قال الشعبي: أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أشقياء وأما الغالب فإنه يحصل له حظ عاجل ثم ينتقم منه في الآخرة وقد يعجل الله له الانتقام في الدنيا كما جرى لعامة الغالبين في الفتن فإنهم أصيبوا في الدنيا كالغالبين في الحرة وفتنة أبي مسلم الخراساني ونحو ذلك.

وأما من قال: إنه لا يؤاخذ بالعزم القلبي فاحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم {إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها} وهذا ليس فيه أنه عاف لهم عن العزم بل فيه أنه عفا عن حديث النفس إلى أن يتكلم أو يعمل فدل على أنه ما لم يتكلم أو يعمل لا يؤاخذ؛ ولكن ظن من ظن أن ذلك عزما وليس كذلك؛ بل ما لم يتكلم أو يعمل لا يكون عزما؛ فإن العزم لا بد أن يقترن به المقدور وإن لم يعمل العازم إلى المقصود فالذي يعزم على القتل أو الزنا أو نحوه عزما جازما لا بد أن يتحرك ولو برأسه أو يمشي أو يأخذ آلة أو يتكلم كلمة أو يقول أو يفعل شيئا فهذا كله ما يؤاخذ به كزنا العين واللسان والرجل فإن هذا يؤاخذ به وهو من مقدمات الزنا التام بالفرج وإنما وقع العفو عما ما لم يبرز خارجا بقول أو فعل ولم يقترن به أمر ظاهر قط فهذا يعفى عنه لمن قام بما يجب على القلب من فعل المأمور به سواء كان المأمور به في القلب وموجبه في الجسد أو كان المأمور به ظاهرا في الجسد وفي القلب معرفته وقصده فهؤلاء إذا حدثوا أنفسهم بشيء كان عفوا مثل هم ثابت بلا فعل ومثل الوسواس الذي يكرهونه وهم يثابون على كراهته وعلى ترك ما هموا به وعزموا عليه لله تعالى وخوفا منه.
(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير (285)
وقال الشيخ - رحمه الله تعالى -:
اعلم أن الله سبحانه وتعالى أعطى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وبارك خواتيم (سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤت منه نبي قبله ومن تدبر هذه الآيات وفهم ما تضمنته من حقائق الدين وقواعد الإيمان الخمس والرد على كل مبطل وما تضمنته من كمال نعم الله تعالى على هذا النبي صلى الله عليه وسلم وأمته ومحبة الله سبحانه لهم وتفضيله إياهم على من سواهم فليهنه العلم ولو ذهبنا نستوعب الكلام فيها لخرجنا عن مقصود الكتاب ولكن لا بد من كليمات يسيرة تشير إلى بعض ذلك فنقول: لما كانت (سورة البقرة) سنام القرآن وأكثر سوره أحكاما وأجمعها لقواعد الدين: أصوله وفروعه وهي مشتملة على ذكر " أقسام الخلق ": المؤمنين والكفار والمنافقين وذكر أوصافهم وأعمالهم. وذكر الأدلة الدالة على إثبات الخالق - سبحانه وتعالى - وعلى وحدانيته وذكر نعمه وإثبات نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم،وتقرير المعاد وذكر الجنة والنار وما فيهما من النعيم والعذاب. ثم ذكر تخليق العالم العلوي والسفلي. ثم ذكر خلق آدم عليه السلام وإنعامه عليه بالتعليم وإسجاد ملائكته له وإدخاله الجنة ثم ذكر محنته مع إبليس وذكر حسن عاقبة آدم عليه السلام. ثم ذكر " المناظرة " مع أهل الكتاب من اليهود وتوبيخهم على كفرهم وعنادهم ثم ذكر النصارى والرد عليهم وتقرير عبودية المسيح ثم تقرير النسخ والحكمة في وقوعه.
ثم بناء البيت الحرام وتقرير تعظيمه وذكر بانيه والثناء عليه ثم تقرير الحنيفية ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وتسفيه من رغب عنها ووصية بنيه بها وهكذا شيئا فشيئا إلى آخر السورة فختمها الله تعالى بآيات جوامع مقررة لجميع مضمون السورة فقال تعالى: {لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير}. فأخبر تعالى: أن ما في السموات وما في الأرض ملكه وحده لا يشاركه فيه مشارك وهذا يتضمن انفراده بالملك الحق والملك العام لكل موجود وذلك يتضمن توحيد ربوبيته وتوحيد إلهيته فتضمن نفي الولد والصاحبة والشريك؛ لأن ما في السموات وما في الأرض إذا كان ملكه وخلقه لم يكن له فيهم ولد ولا صاحبة ولا شريك.
وقد استدل سبحانه بعين هذا الدليل في سورة الأنعام وسورة مريم فقال تعالى: {بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء} وقال تعالى في سورة مريم: {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا} {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا} ويتضمن ذلك أن الرغبة والسؤال والطلب والافتقار لا يكون إلا إليه وحده؛ إذ هو المالك لما في السموات والأرض.
ولما كان تصرفه سبحانه في خلقه لا يخرج عن العدل والإحسان وهو تصرف بخلقه وأمره وأخبر أن ما في السموات وما في الأرض ملكه فما تصرف خلقا وأمرا إلا في ملكه الحقيقي وكانت سورة البقرة مشتملة من الأمر والخلق على ما لم يشتمل عليه سورة غيرها - أخبر تعالى أن ذلك صدر منه في ملكه قال تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} فهذا متضمن لكمال علمه سبحانه وتعالى بسرائر عباده وظواهرهم وأنه لا يخرج شيء من ذلك عن علمه كما لم يخرج شيء ممن في السموات والأرض عن ملكه فعلمه عام وملكه عام. ثم أخبر تعالى عن محاسبته لهم بذلك وهي تعريفهم ما أبدوه أو أخفوه فتضمن ذلك علمه بهم وتعريفهم إياه ثم قال: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} فتضمن ذلك قيامه عليهم بالعدل والفضل فيغفر لمن يشاء فضلا ويعذب من يشاء عدلا وذلك يتضمن الثواب والعقاب المستلزم للأمر والنهي المستلزم للرسالة والنبوة.
ثم قال تعالى:
{والله على كل شيء قدير} فتضمن ذلك أنه لا يخرج شيء عن قدرته ألبتة وأن كل مقدور واقع بقدره ففي ذلك رد على المجوس الثنوية والفلاسفة والقدرية المجوسية وعلى كل من أخرج شيئا من المقدورات عن خلقه وقدرته - وهم طوائف كثيرون. فتضمنت الآية إثبات التوحيد وإثبات العلم بالجزئيات والكليات وإثبات الشرائع والنبوات وإثبات المعاد والثواب والعقاب وقيام الرب على خلقه بالعدل والفضل وإثبات كمال القدرة وعمومها وذلك يتضمن حدوث العالم بأسره؛ لأن القديم لا يكون مقدورا ولا مفعولا.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 10-06-2022, 09:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (132)

من صــ 229 الى صـ
ـ 236




ثم إن إثبات كمال علمه وقدرته يستلزم إثبات سائر صفاته العلى وله من كل صفة اسم حسن فيتضمن إثبات أسمائه الحسنى وكمال القدرة يستلزم أن يكون فعالا لما يريد وذلك يتضمن تنزيهه عن كل ما يضاد كماله فيتضمن تنزيهه عن الظلم المنافي لكمال غناه وكمال علمه؛ إذ الظلم إنما يصدر عن محتاج أو جاهل وأما الغني عن كل شيء العالم بكل شيء سبحانه فإنه يستحيل منه الظلم كما يستحيل عليه العجز المنافي لكمال قدرته والجهل المنافي لكمال علمه.
فتضمنت الآية هذه المعارف كلها بأوجز عبارة وأفصح لفظ وأوضح معنى. وقد عرفت بهذا أن الآية لا تقتضي العقاب على خواطر النفوس المجردة؛ بل إنما تقتضي محاسبة الرب عبده بها وهي أعم من العقاب والأعم لا يستلزم الأخص وبعد محاسبته بها يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وعلى هذا فالآية محكمة لا نسخ فيها ومن قال من السلف: نسخها ما بعدها فمراده بيان معناها والمراد منها وذلك يسمى نسخا في لسان السلف كما يسمون الاستثناء نسخا.
ثم قال تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله} فهذه شهادة الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام بإيمانه بما أنزل إليه من ربه وذلك يتضمن إعطاءه ثواب أكمل أهل الإيمان - زيادة على ثواب الرسالة والنبوة - لأنه شارك المؤمنين في الإيمان ونال منه أعلى مراتبه وامتاز عنهم بالرسالة والنبوة وقوله: {أنزل إليه من ربه} يتضمن أنه كلامه الذي تكلم به ومنه نزل لا من غيره كما قال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك} وقال: {تنزيل من رب العالمين}.
وهذا أحد ما احتج به أهل السنة على المعتزلة القائلين بأن الله لم يتكلم بالقرآن قالوا: فلو كان كلاما لغير الله لكان منزلا من ذلك المحل لا من الله؛ فإن القرآن صفة لا تقوم بنفسها؛ بخلاف قوله: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} فإن تلك أعيان قائمة بنفسها فهي منه خلقا وأما " الكلام " فوصف قائم بالمتكلم فلما كان منه فهو كلامه؛ إذ يستحيل أن يكون منه ولم يتكلم به. ثم شهد تعالى للمؤمنين بأنهم آمنوا بما آمن به رسولهم ثم شهد لهم جميعا بأنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله فتضمنت هذه الشهادة إيمانهم بقواعد الإيمان الخمسة التي لا يكون أحد مؤمنا إلا بها وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وقد ذكر تعالى هذه الأصول الخمسة في أول السورة ووسطها وآخرها فقال في أولها: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} فالإيمان بما أنزل إليه وما أنزل من قبله يتضمن الإيمان بالكتب والرسل والملائكة ثم قال: {وبالآخرة هم يوقنون} والإيمان بالله يدخل في الإيمان بالغيب وفي الإيمان بالكتب والرسل فتضمنت الإيمان بالقواعد الخمس. وقال في وسطها: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} ثم حكى عن أهل الإيمان أنهم قالوا: {لا نفرق بين أحد من رسله} فنؤمن ببعض ونكفر ببعض فلا ينفعنا إيماننا بمن آمنا به منهم كما لم ينفع أهل الكتاب ذلك؛ بل نؤمن بجميعهم ونصدقهم ولا نفرق بينهم وقد جمعتهم رسالة ربهم فنفرق بين من جمع الله بينهم ونعادي رسله ونكون معادين له.

فباينوا بهذا الإيمان جميع طوائف الكفار المكذبين لجنس الرسل. والمصدقين لبعضهم المكذبين لبعضهم. وتضمن إيمانهم بالله إيمانهم بربوبيته وصفات كماله ونعوت جلاله وأسمائه الحسنى وعموم قدرته ومشيئته وكمال علمه وحكمته فباينوا بذلك جميع طوائف أهل البدع والمنكرين لذلك أو لشيء منه؛ فإن كمال الإيمان بالله يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه وتنزيهه عما نزه نفسه عنه فباينوا بهذين الأمرين جميع طوائف الكفر وفرق أهل الضلال الملحدين في أسماء الله وصفاته.

ثم قالوا: {سمعنا وأطعنا} فهذا إقرار منهم بركني الإيمان الذي لا يقوم إلا بهما وهما السمع المتضمن للقبول؛ لا مجرد سمع الإدراك المشترك بين المؤمنين والكفار؛ بل سمع الفهم والقبول و " الثاني " الطاعة المتضمنة لكمال الانقياد وامتثال الأمر وهذا عكس قول الأمة الغضبية سمعنا وعصينا. فتضمنت هذه الكلمات كمال إيمانهم وكمال قبولهم وكمال انقيادهم ثم قالوا: {غفرانك ربنا وإليك المصير} لما علموا أنهم لم يوفوا مقام الإيمان حقه مع الطاعة والانقياد الذي يقتضيه منهم وأنهم لا بد أن تميل بهم غلبات الطباع ودواعي البشرية إلى بعض التقصير في واجبات الإيمان وأنه لا يلم شعث ذلك إلا مغفرة الله تعالى لهم سألوه غفرانه الذي هو غاية سعادتهم ونهاية كمالهم؛ فإن غاية كل مؤمن المغفرة من الله تعالى فقالوا: {غفرانك ربنا} ثم اعترفوا أن مصيرهم ومردهم إلى مولاهم الحق لا بد لهم من الرجوع إليه فقالوا: {وإليك المصير}.
فتضمنت هذه الكلمات إيمانهم به ودخولهم تحت طاعته وعبوديته واعترافهم بربوبيته واضطرارهم إلى مغفرته واعترافهم بالتقصير في حقه وإقرارهم برجوعهم إليه. ثم قال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} فنفى بذلك ما توهموه من أنه يعذبهم بالخطرات التي لا يملكون دفعها وأنها داخلة تحت تكليفه فأخبرهم أنه لا يكلفهم إلا وسعهم فهذا هو البيان الذي قال فيه ابن عباس وغيره فنسخها الله عنهم بقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وقد تضمن ذلك أن جميع ما كلفهم به أمرا ونهيا فهم مطيقون له قادرون عليه وأنه لم يكلفهم ما لا يطيقون وفي ذلك رد صريح على من زعم خلاف ذلك.
والله تعالى أمرهم بعبادته وضمن أرزاقهم فكلفهم من الأعمال ما يسعونه وأعطاهم من الرزق ما يسعهم فتكليفهم يسعونه وأرزاقهم تسعهم فهم في الوسع في رزقه وأمره: وسعوا أمره ووسعهم رزقه ففرق بين ما يسع العبد وما يسعه العبد وهذا هو اللائق برحمته وبره وإحسانه وحكمته وغناه؛ لا قول من يقول إنه كلفهم ما لا قدرة لهم عليه ألبتة ولا يطيقونه ثم يعذبهم على ما لا يعملونه. وتأمل قوله عز وجل: {إلا وسعها} كيف تجد تحته أنهم في سعة ومنحة من تكاليفه؛ لا في ضيق وحرج ومشقة؛ فإن الوسع يقتضي ذلك فاقتضت الآية أن ما كلفهم به مقدور لهم من غير عسر لهم ولا ضيق ولا حرج؛ بخلاف ما يقدر عليه الشخص فإنه قد يكون مقدورا له ولكن فيه ضيق وحرج عليه وأما وسعه الذي هو منه في سعة فهو دون مدى الطاقة والمجهود؛ بل لنفسه فيه مجال ومتسع وذلك مناف للضيق والحرج {وما جعل عليكم في الدين من حرج} بل {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} قال سفيان بن عيينة في قوله: {إلا وسعها} إلا يسرها لا عسرها ولم يكلفها طاقتها ولو كلفها طاقتها لبلغ المجهود.

فهذا فهم أئمة الإسلام وأين هذا من قول من قال إنه كلفهم ما لا يطيقونه ألبتة ولا قدرة لهم عليه؟ ثم أخبر تعالى أن ثمرة هذا التكليف وغايته عائدة عليهم وأنه تعالى يتعالى عن انتفاعه بكسبهم وتضرره باكتسابهم؛ بل لهم كسبهم ونفعه. وعليهم اكتسابهم وضرره فلم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه إليهم؛ بل رحمة وإحسانا وتكرما ولم ينههم عما نهاهم عنه بخلا منه عليهم بل حمية وحفظا وصيانة وعافية. وفيه أيضا أن نفسا لا تعذب باكتساب غيرها ولا تثاب بكسبه ففيه معنى قوله: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} {ولا تزر وازرة وزر أخرى}.

وفيه أيضا إثبات كسب النفس المنافي للجبر.
وفيه أيضا اجتماع الحكمة فيه فإما كسب خيرا أو اكتسب شرا لم يبطل اكتسابه كسبه كما يقوله أهل الإحباط والتخليد؛ فإنهم يقولون: إن عليه ما اكتسب وليس له ما كسب فالآية رد على جميع هذه الطوائف فتأمل كيف أتى فيما لها بالكسب الحاصل ولو لأدنى ملابسة وفيما عليها بالاكتساب الدال على الاهتمام والحرص والعمل؛ فإن اكتسب أبلغ من كسب ففي ذلك تنبيه على غلبة الفضل للعدل والرحمة للغضب. ثم لما كان ما كلفهم به عهودا منه ووصايا وأوامر تجب مراعاتها والمحافظة عليها وأن لا يخل بشيء منها؛ ولكن غلبة الطباع البشرية تأبى إلا النسيان والخطأ والضعف والتقصير أرشدهم الله تعالى إلى أن يسألوه مسامحته إياهم في ذلك كله ورفع موجبه عنهم بقولهم: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} أي لا تكلفنا من الآصار التي يثقل حملها ما كلفته من قبلنا؛ فإنا أضعف أجسادا وأقل احتمالا. ثم لما علموا أنهم غير منفكين مما يقضيه ويقدره عليهم كما أنهم غير منفكين مما يأمرهم به وينهاهم عنه سألوه التخفيف في قضائه وقدره كما سألوه التخفيف في أمره ونهيه فقالوا: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} فهذا في القضاء والقدر والمصائب وقولهم {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} في الأمر والنهي والتكليف فسألوه التخفيف في النوعين.

ثم سألوه العفو والمغفرة والرحمة والنصر على الأعداء؛ فإن بهذه الأربعة تتم لهم النعمة المطلقة ولا يصفو عيش في الدنيا والآخرة إلا بها وعليها مدار السعادة والفلاح فالعفو متضمن لإسقاط حقه قبلهم ومسامحتهم به والمغفرة متضمنة لوقايتهم شر ذنوبهم وإقباله عليهم ورضاه عنهم؛ بخلاف العفو المجرد؛ فإن العافي قد يعفو ولا يقبل على من عفا عنه ولا يرضى عنه فالعفو ترك محض والمغفرة إحسان وفضل وجود والرحمة متضمنة للأمرين مع زيادة الإحسان والعطف والبر فالثلاثة تتضمن النجاة من الشر والفوز بالخير والنصرة تتضمن التمكين من إعلان عبادته وإظهار دينه وإعلاء كلمته وقهر أعدائه وشفاء صدورهم منهم وإذهاب غيظ قلوبهم وحزازات نفوسهم وتوسلوا في خلال هذا الدعاء إليه باعترافهم أنه مولاهم الحق الذي لا مولى لهم سواه فهو ناصرهم وهاديهم وكافيهم ومعينهم ومجيب دعواتهم ومعبودهم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 360.30 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 354.42 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (1.63%)]