شرح صحيح مسلم للشيخ محمد الحمود النجدي - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الإدارة بين الإتقان الشرعي والنجاح الدنيوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          فن المغادرة الاحترافية: إستراتيجيات الارتقاء المهني عند إنهاء الخدمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          إضاءة: ما أروع النظام! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          التغيير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          أسرار الكون بين العلم والقدرة الإلهية: رحلة في الغموض والدينامية البيئية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          كيف أن الأرض فيها فاكهة ونخل ذات أكمام؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          بيع فضل الماء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          صفة الصلاة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          بيع التورق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          من مائدة الفقه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 9 - عددالزوار : 7702 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 02-10-2023, 10:55 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,053
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح صحيح مسلم للشيخ محمد الحمود النجدي

شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم (11)


الشيخ.محمد الحمود النجدي



– باب : الميت يُعَذّب ببكاء الحيّ


عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عبْدِ الرَّحْمن أَنَّها أَخْبَرَتْه: أَنَّها سمِعَتْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، وذُكِرَ لها أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- يقولُ: «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ»؛ فَقَالَتْ عائشَةُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عبْدِ الرَّحْمَنِ، أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ، ولَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ، إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عَلَى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عليْها؛ فَقال: «إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيها، وإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا»، هذا الحديث رواه مسلم في كتاب الجنائز (2/643) وبوب عليه النووي: باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، ورواه البخاري في الجنائز (2/643) برقم (932).

وعمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة بن عدس الأنصارية النجارية، المدنية الفقيهة، تابعية من تريبة أم المؤمنين عائشة وتلميذتها، قيل لأبيها صحبة، وجدها سعد من قدماء الصحابة، وهو أخو النقيب الكبير أسعد بن زرارة، قال الحافظ يحيى بن معين: عمرة بنت عبد الرحمن ثقة حجة. وقال الإمام المحدّث سفيان بن عيينة: أعلم الناس بحديث عائشة ثلاثة: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعروة بن الزبير ، وعَمْرة بنت عبد الرحمن، وقال الإمام الذهبي: كانت عالمة، فقيهة، حُجّة، كثيرة العلم، وحديثها كثير في دواوين الإسلام .
توفيت عمرة بنت عبد الرحـمن وهي ابنة سبع وسبعين سنة، وقد اختلفوا في وفاتها؛ فقيل: توفيت سنة ثمان وتسعين، وقيل: توفيت في سنة ست ومئة -رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
عذاب الميت ببكاء أهله
قوله: «إنّ الميت ليعذب ببكاء أهله عليه»، وفي رواية: «ببعض بكاء أهله عليه»، وفي رواية: «ببكاء الحي»، وفي رواية: «يعذب في قبره بما نيح عليه»، وفي رواية: «مَنْ يبك عليه يعذب»، وهذه الروايات من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبد الله -رضي الله عنهما-، أما عمر رضي الله عنه، فروى مسلم: عن نافع عن عبد الله: أنَّ حفصة بكت على عمر -رضي الله عنهما-؛ فقال: مهلاً يا بُنيّة، ألم تعلمي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الميتَ يعذب ببكاء أهله عليه».
ألا تنتهي عن البكاء ؟
وروى مسلم (2/642) أيضاً: عن عبد الله بن أبي مليكة قال: تُوفيت ابنةٌ لعثمان بن عفان بمكة، قال: فجئنا لنشهدها، قال؛ فحضرها ابن عمر وابن عباس، قال: وإني لجالسٌ بينهما ، قال: جلست إلى أحدهما ثم جاء الآخر فجلس إلى جنبي؛ فقال عبد الله بن عمر لعمرو بن عثمان - وهو مواجهُهُ - : ألا تنتهى عن البكاء؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إنَّ الميت ليُعذب ببكاء أهله عليه»؛ فقال ابن عباس: قد كان عمر يقول بعض ذلك، ثم حدَّث فقال: صَدَرْت مع عمر من مكة، حتى إذا كنا بالبيداء، إذا هو بركبٍ تحت ظل شجرة؛ فقال: اذهب فانظر من هؤلاء الركب؟ فنظرتُ فإذا هو صهيب، قال : فأخبرته فقال: ادعه لي، قال: فرجعت إلى صهيب؛ فقلت: ارتحلْ فالْحقْ أمير المؤمنين؛ فلما أنْ أُصيب عمر، دخل صهيب يبكي يقول: واأخَاه واصَاحباه؛ فقال عمر: يا صهيبُ أتبكي عليّ؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه!»، فقال ابن عباس: فلما مات عمر ذكرتُ ذلك لعائشة فقالت: يرحمُ اللهُ عمر؛ لا واللهِ ما حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يعذب المؤمن ببكاء أحد»، ولكن قال: «إنَّ الله يزيدُ الكافر عذاباً ببكاءِ أهله عليه»، قال: وقالت عائشة: حَسْبُكم القرآن: {ولا تَزِر وازرةٌ وزرَ أخْرى}، قال: وقال ابن عباس عند ذلك: والله أضْحكَ وأبْكى، قال ابن أبي مليكة: فوالله ما قال ابن عمر من شيء .
- قولها: «يغفر الله لأبي عبد الرحمن»
- قولها: «يغفر الله لأبي عبد الرحمن»، هي كنية عبد الله بن عمر، قدّمته تمهيداً لما يستوحِش من نسبته إلى النسيان أو الخطأ، وهو من الآداب، كما قال الله -تعالى-: {عفَا اللهُ عنكَ لمَ أذنتَ لهم}(التوبة: 43)؛ فمن استغرب من غيره شيئًا، ينبغي أن يُمهد له بالدعاء أو الثناء عليه، إقامة لعذره فيما وقع منه، وأنه لم يتعمّده، ومِنْ ثم زادت على ذلك بياناً واعتذاراً بقولها: «أما» بفتح الهمزة، والتخفيف، وهي أداة تنبيه واستفتاح، يُلقى بها إلى المخاطب تنبيهاً له ، وإزالة لغفلته «إنه لم يكذب»، أي لم يُرِد الكذب، ولم يتعمّده، ولكنه نسي أو أخطأ.
فقد أنكرتْ أم المؤمنين عائشة ذلك، ونسبتهما إلى النسيان والاشتباه عليهما، وأنكرت أنْ يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، واحتجت بقوله -تعالى-: {ولا تَزِرُ وازِرةٌ وزْرَ أخْرى}(الإسراء: 15)، أي: كيف يُعَذّبُ الميت ببكاء غيره بعد أنْ مات، وانقطع عمله أصلاً؛ فاستبعدت -رضي الله عنها- الحديث؛ لكونها رأته مخالفاً للآية المذكورة، وقالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم في يهودية أنها: تعذب وهم يبكون عليها، يعني: تُعذّب بكفرها في حال بكاء أهلها، لا بسبب البكاء. لكن الصواب: أن الحديث
اختلاف العلماء في الحديث
واختلف العلماء في هذا الحديث: فتأوَّله الجمهور على مَن وصَّى بأنْ يُبكى عليه ويناح بعد موته فنفذّت وصيته؛ فهذا يُعذب ببكاء أهله عليه ونوحهم؛ لأنه بسببه وبأمره لهم، ومنسوب إليه .
قالوا: فأما مَن بكى عليه أهله وناحوا، مِن غير وصيةٍ منه؛ فلا يعذب لقول الله -تعالى-: {ولا تَزِرُ وازِرةٌ وزْرَ أخْرى}(الإسراء: 15)، قالوا: وكان من عادة العرب الوصية بذلك، ومنه قول طَرْفة بن العبد:
إذا متُّ فانْعيني بما أنَا أهْله
وشُقّي عليَّ الجيبَ يا ابنةَ مَعْبد
قالوا: فخرج الحديث مطلقاً، حَمْلا على ما كان معتاداً لهم .
قال كاتبه: وهو ما قاله الإمام البخاري -رحمه الله- في ترجمة الباب الذي وضع الحديث تحته، قال -رحمه الله تعالى-: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه»، إذا كان النوح من سُنّته؛ لقول الله -تعالى-: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}(التحريم: 6)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكمْ راعٌ ومسؤولٌ عنْ رعيته».
إهمال الوصية
وقالت طائفةٌ: هو محمول على مَنْ أوْصى بالبكاء والنوح، وكذا إذا لم يوص بتركهما؛ فمن أوصى بهما، أو أهمل الوصية بتركهما يعذب بهما لتفريطه بإهمال الوصية بتركهما؛ فأما من وصّى بتركهما؛ فلا يعذب بهما؛ إذْ لا صُنع له فيهما، ولا تفريط منه، وحاصل هذا القول إيجاب الوصية بتركهما، ومَنْ أهملهما عذّب بهما .
معنى الأحاديث
وقالت طائفة: معنى الأحاديث أنهم كانوا ينوحون على الميت، ويندبونه بتعديد شمائله ومحاسنه في زعمهم، وتلك الشمائل قبائح في الشرع، يعذب بها ؛ كما كانوا يقولون : يا مُؤيّم النسوان، ومؤتّم الولدان، ومخرّب العمران، ومفرق الأخدان، ونحو ذلك مما يرونه شجاعة وفخراً، وهو حرام شرعا.
وقالت طائفة: معناه: أنه يعذّب بسماعه بكاء أهله، ويتألم ويرقُّ لهم، وإلى هذا ذهب محمد بن جرير الطبري، ورجحه ابن المرابط، وعياض، ونصره ابن تيمية. قال القاضي عياض: وهو أولى الأقوال، واحتجوا بحديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم زَجَر امرأةً عن البكاء على أبيها وقال: «إنَّ أحدَكم إذا بَكَى اسْتعبر له صويحبه؛ فيا عباد الله لا تُعذّبوا إخوانكم» رواه ابن سعد في الطبقات (1/320)، والطبراني في الكبير (25/1) في حديث طويل، والبخاري في الأدب المفرد (1034)، وحسنه الألباني في الحاشية، وقالت عائشة -رضي الله عنها-: معنى الحديث: أنّ الكافر أو غيره من أصحاب الذنوب ؛ يُعذّب في حال بكاء أهله عليه بذنبه لا ببكائهم .
البكاء بصوتٍ ونياحة
والصحيح من هذه الأقوال: ما قدمناه عن الجمهور، وأجمعوا كلهم على اختلاف مذاهبهم، أن المراد بالبكاء هنا: البكاء بصوتٍ ونياحة، لا مجرد دمع العين.


تعليق الشيخ ابن باز -رحمه الله
وقال الشيخ عبد العزيز ابن باز -رحمه الله- تعليقا على الحديث : والرسول صلى الله عليه وسلم قصد بهذا منع الناس من النياحة على موتاهم، وأنْ يتحلَّوا بالصبر، ويكفوا عن النَّوْح، ولا بأس بدمع العين وحزن القلب، كما قال صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم: «العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون»؛ فالميت يُعذب بالنياحة عليه من أهله، والله أعلم بكيفية العذاب الذي يحصل له بهذه النياحة، وهذا مستثنى من قوله -تعالى-: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}(الإسراء: 15)؛ فإنَّ القرآن والسنة لا يتعارضان، بل يُصَدّق أحدهما الآخر، ويفسر أحدهما الآخر؛ فالآية عامة والحديث خاص، والسنة تفسر القرآن، وتبين معناه؛ فيكون تعذيب الميت بنياحة أهله عليه مستثنى من الآية الكريمة، ولا تعارض بينها وبين الأحاديث.
وأما قول عائشة -رضي الله عنها-؛ فهذا من اجتهادها، وحرصها على الخير، وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم مقدّم على قولها وقول غيرها؛ لقول الله -سبحانه-: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}(الشورى: 10)، وقوله -عز وجل-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}(النساء: 59)، والآيات في هذا المعنى كثيرة، والله الموفق . انتهى

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 11-10-2023, 04:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,053
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح صحيح مسلم للشيخ محمد الحمود النجدي



شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم (13)


الشيخ.محمد الحمود النجدي


– باب : في غسل الميت


عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رضي الله عنها- قالت: لَمَّا مَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قال لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «اغْسِلْنَهَا وِتْرًا ثَلَاثًا أَو خَمْسًا، واجْعَلْنَ فِي الخَامِسَةِ كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فإِذا غَسَلْتُنَّهَا فَأَعْلِمْنَنِي»، قَالَتْ: فَأَعْلَمْنَاه؛ فَأَعْطَانَا حَقْوَهُ ، وَقَال : «أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ» . الحديث رواه مسلم في كتاب الجنائز (2/648) وبوب عليه النووي كتبويب المنذري، ورواه البخاري في كتاب الجنائز: باب كيف الإشْعار للميت .
وأُمِّ عَطِيَّةَ هي نسيبة بنت كعب الأنصارية، صحابية مشهورة، مدنية ثم سكنت البصرة، قال النووي في (تهذيب الأسماء واللغات) في ترجمتها : وهي مِن فاضلات الصحابيات، والغازيات منهن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت تغسل الميتات، وهي التي غسلت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واسمها : نسيبة .
قولها: «لَمَّا مَاتَتْ زَيْنَبُ»
قولها: «لَمَّا مَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم » تصريح بأن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلمهذه التي غسلتها، هي زينب -رضي الله عنها-، وهكذا قاله الجمهور، قال القاضي عياض: وقال بعض أهل السير: إنها أم كلثوم، والصواب: زينب، كما صرح به مسلم في روايته التي بعد هذه، وقال ابن عبد البر: وكل بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم تُوفين في حياته، إلاّ فاطمة؛ فإنها توفيت بعده بستة أشهر، وقيل: بثمانية أشهر، ولم يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة ابنته رُقية؛ لأنه كان بِبَدْر. انتهى.
زينب -رضي الله عنها
وزينب -رضي الله عنها-، قال ابن عبد البر: كانت أكبر بناته -رضي اللَّه عنهن- وماتت سنة ثمان مِن الهجرة، وقال ابن حجر عنها: أول مَن تزوّج منهنّ، وُلِدت قبل البعثة بِمُدّة. قيل: إنها عشر سنين، وتزوّجها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع العبشمي، وأمّه هالة بنت خويلد، وذَكَر أسْرَ أبا العاص ومَنّ النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ثم قال: ومضى إلى مكة فأدّى الحقوق لأهلها، ورجع فأسلم في المحرم سنة سبع، فَرَدّ عليه زينب بالنكاح الأول .
قوله صلى الله عليه وسلم: «اغْسلنها ثلاثا»
قوله صلى الله عليه وسلم: «اغْسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك»، وفي رواية : «ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك، إنْ رأيتن ذلك»، وفي رواية: «اغسلنها وِتراً، ثلاثاً أو خمسا». وفي رواية: «اغْسلنها وتراً خمساً أو أكثر».
وهذه الروايات متفقة في المعنى، وإنْ اختلفت ألفاظها، والمراد: اغْسلنها وتراً، وليكنْ أقلهن ثلاثا؛ فإن احتجتن إلى زيادة عليها للإنقاء فليكنْ خمساً؛ فإنْ احتجتن إلى زيادة الإنقاء فليكن سبعا، وهكذا أبداً. وحاصله أنَّ الإيتار مأمور به، والثلاث مأمور بها ندباً؛ فإن حصل الإنقاء بثلاث لم تشرع الرابعة، وإلا زِيد حتى يحصل الإنقاء، ويندب كونها وتراً.
فرض كفاية
وأصل غسل الميت فرض كفاية، وكذا حمله وكفنه والصلاة عليه ودفنه، كلها فروض كفاية، والواجب في الغسل مرة واحدة عامة للبدن، قال ابن قدامة: جَعَل جميع ما أمَرَ به وتراً. وقال أيضا: «اغسلنها وترا». ولا يُقطع إلاّ على وتر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : «اغسلنها ثلاثاً أو خمسا أو سبعا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن».
- ورَوى عبد الرزاق: عن ابن سيرين قال: يُغسل الميت وتراً، وقال إبراهيم النخعي: غسل الميت وِترٌ ، وكفَنه وِتر ، وتجميره وِتر.
هل يُزاد على سبع غسلات؟
قال ابن قدامة: قال أحمد: ولا يُزاد على سبع، والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : «اغسلنها ثلاثا، أو خمسا، أو سبعا» لم يَزِد على ذلك؛ ولأن الزيادة على الثلاث، إنما كانت للإنقاء، وللحاجة إليها؛ فكذلك فيما بعد السبع، ولم يذكر أصحابنا أنه يزيد على سَبْع .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنْ رأيتنّ ذلك» بكسر الكاف، خطابٌ لأم عطية، ومعناه: إنْ احتجتنّ، وليس معناه التخيير، وتفويض ذلك إلى رأيهن، وكانت أم عطية -رضي الله عنها- غاسلة للميتات.
قوله صلى الله عليه وسلم : «بماءٍ وسدر»
وقوله صلى الله عليه وسلم: «بماءٍ وسدر»، فيه دليل على استحباب استعمال (السّدر) في غسل الميت، وهو متفقٌ على استحبابه، ويكون في المرة الواجبة، وقيل: يجوز فيهما.

قوله صلى الله عليه وسلم: «واجعلن في الآخرة كافوراً، أو شيئاً من كافور».فيه استحباب شيء من الكافور في الأخيرة، وهو متفق عليه عندنا ، وبه قال مالك وأحمد وجمهور العلماء، وقال أبو حنيفة: لا يستحب، وحجة الجمهور هذا الحديث؛ ولأنه يطيب الميت، ويصلب بدنه ويبرده، ويمنع إسراع فساده، أو يتضمن إكرامه.
قولها: «فألقى إلينا حِقْوه».
وقولها: «فألقى إلينا حِقْوه»؛ فقال: «أشْعرنها إياه» هو بكسر الحاء وفتحها لغتان، يعني: إزاره، وأصل الحقو: معقد الإزار، وجمعه أحق وحقي، وسمي به الإزار مجازاً؛ لأنه يشدُّ فيه.
ومعنى: «أشعرنها إياه» أي: الْفِفْنَها فيه، واجعلنه شعاراً لها، وهو الثوب الذي يلي الجسد، سُمّي شعاراً؛ لأنه يلي شعر الجسد، والحكمة في إشعارها به: تبريكها به؛ ففيه التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم ولباسه، وفيه: جواز تكفين المرأة بثوب الرجل .
مسائل مهمة
وفي الحديث عدد من المسائل وهي:
أصل في غسل الميت
أن حديث أم عطية هذا أصل في غسل الميت عند العلماء، وكان التابعون يأخذون غسل الميت عن أم عطية -رضي الله عنها-، رَوى أبو داود: عن محمد بن سيرين: أنه كان يأخذ الغسل عن أم عطية، يغسل بالسدر مرتين، والثالثة بالماء والكافور، قال ابن عبد البر: ولست أعلم في غسل الميت حديثا جعله العلماء أصلا في ذلك، إلاَّ حديث أم عطية الأنصارية هذا؛ فعليه عَدَلوا في غسل الموتى .
ثم نَقَل ابن عبد البر عن الإمام أحمد قوله: ليس في حديث غسل الميت أرفع مِن حديث أم عطية ولا أحسن منه، فيه ثلاثا أو خمسا أو سبعا، وابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها، ثم قال: ما أحسنه!
قال ابن عبد البر: يُقال إن أعلم التابعين بغسل الميت ابن سيرين ثم أيوب بعده، وكلاهما كان غاسلا للموتى يتولّى ذلك بنفسه. اهـ .
وضع السدر
المسألة الثانية: اخْتُلِف في وضع السِّدر والكافور، في أي غَسْلَة؟ قال أبو بكر الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: أتذهب إلى السدر في الغسلات كلها؟ قال: نعم، السدر فيها كلها على حديث أم عطية «اغسلنها ثلاثاً أو خمسا أو أكثر مِن ذلك، إنْ رأيتن ذلك بماء وسدر».
قال: في حديث ابن عباس: «بماء وسدر».
قال ابن عبد البر: أكثر العلماء أن يُغسّل الميت الغَسْلة الأولى بالماء القراح، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بماء فيه كافور.
السنة في تكفين الميت
المسألة الثالثة: السُّـنّة أن يُكفَّن الميت في ثلاثة أثواب، والمرأة في خمسة .
سئل جابر بن زيد عن الميت: كم يكفيه مِن الكَفن؟ قال: كان ابن عباس يقول: ثوبٌ، أو ثلاثة أثواب، أو خمسة أثواب. رواه ابن أبي شيبة.
وقال الإمام مالك: ليس في كفن الميت حدّ، ويُستحب الوتر، وفي رواية أخرى عنه: أحب إلي أن يُكفّن الرجل في ثلاثة أثواب ويُعمم، ولا أحب أن يُكفن في أقل مِن ثلاثة أثواب. نقله ابن عبد البر.
التبرك بالآثار
المسألة الرابعة: في الحديث جواز التبرك بالآثار المحسوسة للنبي صلى الله عليه وسلم، كشعره، وعَرَقه، وريقه، ووضوئه، وطعامه، وثيابه، وسيفه، وجبته، وغيرها، وقد اتفق المسلمون بالإجماع على ذلك، وهي فضيلة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزه من معجزات نبوته، وليست لأحدٍ غيره، والأحاديث الواردة في ذلك كثيرة، منها:-
أ- حديث أَنَسِ رضي الله عنه أنهٍ قال: لَمَّا رَمَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الجَمْرَةَ ونَحَرَ نُسُكَهُ وحَلَقَ، نَاوَلَ الحالِقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَحَلَقَه، ثُمَّ دَعَا أَبا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ فأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ فَقَال: «احْلِقْ» فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أَبا طَلْحة، فَقال: «اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ». رواه مسلم (1305).
ب - حديث أُمَّ سُلَيْمٍ -رضي الله عنها: كانتْ تَبْسُطُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نِطَعًا فيَقِيلُ عندها على ذلك النِّطَعِ؛ فإِذا نَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ وشَعَرِهِ؛ فَجَمَعَتْهُ فِي قَارُورَةٍ ، ثُمَّ جَمَعَتْهُ فِي سُكٍّ، قَال ثمامة بن عبد الله بن أنس: فَلَمَّا حَضَرَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الْوَفَاةُ، أَوْصَى إِليَّ أَنْ يُجْعَلَ في حَنُوطِهِ مِنْ ذَلِكَ السُّكِّ، قال: فَجُعِلَ في حَنُوطِهِ. رواه البخاري (6281).
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن ذات النبي صلى الله عليه وسلم وما انفصل عنها، قد جعل الله فيها البركة، ويرجى بسببها الخير في الدنيا والآخرة، وقد أقرّ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه لالتماس البركة منه في ذلك، وقد تبرك الصحابة بما بقي من آثاره الحسية بعد موته، كخاتمه وبردته وسيفه وعصاه وشعره وثيابه وآنيته ونعله وغيرها، واستمر الأمر على ذلك سنوات ممن أتى بعدهم، ثم انقرضت هذه الآثار .
فالزعم الآن بأن هذا من شعر النبي صلى الله عليه وسلم أو آثاره، زعم لا يسنده دليل، وعامة ما يقال في ذلك هو نوع من الكذب والخرافة؛ فليُتنبه!
التبرك بآثار الصالحين
قول النووي عند قوله: «فألقى إلينا حِقْوه فقال: أشْعرنها إياه»؛ ففيه: «التبرك بآثار الصالحين ولباسهم». ونحوه عن الحافظ ابن حجر، قول غير صحيح!
فليس في الحديث حجةٌ على جواز التبرك بآثار الصالحين ولا لباسهم ؛ لأن آثار النبي صلى الله عليه وسلم ليست كآثار غيره، ولا يجوز التبرّك بآثار الصالحين؛ لِعدم ورُود ذلك عن الصحابة، بل ثبت عكس ذلك عنهم؛ فلم يتبرك الصحابة -رضي الله عنهم- بأحدٍ منهم، لا في حياته، ولا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، لا مع الخلفاء الراشدين، ولا مع غيرهم؛ فدلّ ذلك على أنهم قد عرفوا أنَّ ذلك خاصٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره؛ ولأنّ ذلك وسيلة إلى الشرك وعبادة غير الله -سبحانه-؛ فالتبرّك بآثار الصالحين يُفضي إلى الغلوّ والشرك.
التبرك الصحيح
ومع ذلك؛ فنحن نؤمن بالتبرك الصحيح، فيما جعل الله فيه البركة، من الأعمال الصالحة والذوات؛ فنتبرك بدعاء الصالحين ومجالسهم وعلمهم، لا بذواتهم أو آثارهم، ونتبرك بتلاوة القرآن، وبالصلاة وبذكر الله، وبشرب ماء زمزم، وكذلك نؤمن ببركة مكة، والمدينة، والأقصى، والشام، واليمن، وبركة عجوة المدينة، وشجرة الزيتون، والنخلة، وبركة السحور، والمطر، وببركة بعض الأزمان، كأيام رمضان ولياليه، وليلة القدر خصوصا، والعشر من ذي الحجة، ويوم الجمعة، والثلث الأخير من الليل، وغيرها مما ثبت في الأحاديث الصحيحة .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 02-10-2023, 10:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,053
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح صحيح مسلم للشيخ محمد الحمود النجدي

شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم (12)


الشيخ.محمد الحمود النجدي




- ما جاء في مُسْتَريح ومستراح منه



عن أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ - رضي الله عنه - أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ فقَال: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ فَقَال: «الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا والْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ والْبِلَادُ، والشَّجَرُ والدَّوَابُّ»، الحديث أخرجه مسلم في الجنائز (2/656) وبوب عليه النووي بمثل تبويب المنذري، ورواه البخاري في الرقاق (6513،6512) باب: سكرات الموت.
وأبو قتادة الأنصاري السلمي، صحابي مشهور -فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم -، شهد أحداً، والخندق، والحديبية، وحنيناً، وله أحاديث عدة، واسمه: الحارث بن ربعي، على الصحيح، وقيل: اسمه: النعمان، وقيل: عمرو.ومن مناقبه في الصحيح: أنّه قال: «خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام حنين، الحديث، وفيه: فقال أبو بكر: لا ها الله، إذا لا يعمد إلى أسدٍ من أسْد الله، فيعطيك سَلبه، فأعطاني الدرع، فبعته. قال: فابتعت به مَخْرفا; فإنه لأول مال تأثَّلتُه» وروى ابن سعد: عن عبد الله بن عبيد بن عمير: أنّ عمر - رضي الله عنه - بعث أبا قتادة، فقتل مَلك فارس بيده، وعليه منطقة قيمتها خمسة عشر ألفا، فنفّلها إياه عمر، مات أبو قتادة سنة أربع وخمسين. وروى له الجماعة.
مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ
قوله «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ» أي: مرّوا عليه بجنازةٍ، وقوله «فقال: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ» قال النووي: «معنى الحديث أنَّ الموتى قسمان: مستريحٌ ومستراح منه، ونصب الدنيا: تعبها. وأما استراحة العباد من الفاجر معناه: اندفاع أذاه عنهم، وأذاه يكون من وجوهٍ منها: ظلمه لهم، ومنها ارتكابه للمنكرات؛ فإنْ أنكروها قاسوا مشقةً من ذلك، وربما نالهم ضرره، وإنْ سكتوا عنه أثموا.
واستراحة الدواب منه كذلك؛ لأنه كان يُؤْذيها ويضر بها ويحمّلها ما لا تطيقه، ويُجيعها في بعض الأوقات، وغير ذلك، واستراحة البلاد والشجر، فقيل: لأنها تُمْنع القطر بمصيبته، قاله الداودي. وقال الباجي: لأنه يغصبها ويمنعها حقها من الشرب وغيره» انتهى. قال اِبن التِّين: يَحْتَمِل أَنْ يُرِيد بِالْمُؤْمِنِ: التَّقيّ خَاصَّة، ويَحْتَمِل كُلّ مُؤْمِن، والفَاجِر يَحْتَمِل أَنْ يُرِيد به الكافِرَ، ويَحْتَمِل أَنْ يَدْخُلَ فيه الْعَاصِي.
وقال الدَّاوُدِيُّ: أَمَّا اِسْتِرَاحةُ الْعِبَادِ؛ فلِما يَأْتِي بِه مِنْ الْمُنْكَرِ؛ فإِنْ أَنْكَرُوا عليه آذَاهُم، وإِنْ تَرَكُوهُ أَثِمُوا، واسْتِراحة الْبِلاد مِمَّا يأْتي بِه مِنْ الْمَعَاصي؛ فَإِنَّ ذَلِكَ ممَّا يَحْصُلُ به الْجَدْبُ؛ فَيَقْتَضِي هَلَاكَ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ.
قال: ويَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِراحة العِبَادِ منه؛ لِمَا يَقَع لَهُمْ مِنْ ظُلْمِهِ، وراحَةُ الْأَرْضِ منه؛ لِمَا يَقَع عليها مِنْ غَصْبِها ومَنْعِهَا مِنْ حَقِّها وصَرْفِهِ في غيرِ وَجْهِهِ، وراحة الدَّوَابِّ مِمَّا لَا يَجُوزُ مِنْ إِتْعَابِهَا، واَللّه أَعلم. (الفتح)؛ ولذا فليس لأحد - كائنًا من كان - أنْ يخرج من هذه القسمة ألبتة، أو يتجاوزها أو تتجاوزه، فلا بدَّ أنْ يكون أحد الوصفين له: إما مستريحٌ، وإما مستراحٌ منه، مستغرقًا له، دالاًّ عليه، واصفًا لحاله.
الموتى قسمان
ففي الحديث أنّ الموتى قسمان: قسمٌ يستريح، وقسمٌ يُستَراح منه. فالأول: المؤمن، يستريح هو من نصب الدنيا وما فيها، وهو من أشار إليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يَستريحُ مِن نَصَبِ الدنيا وأذاها إلى رحمة الله». وفي رواية للنسائي: «الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ؛ فَيَسْتَرِيحُ مِنْ أَوْصَابِ الدُّنْيَا، ونَصَبِهَا وأَذَاهَا». ولا سيما والدُّنيا: «سِجْن المؤمن» كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح عند مسلم.
الاستراحة من نصب الدنيا
- فالقسم الأول: يستريح من نصب الدنيا: تعبها وأذاها، ويوضِّح مدى هذه الراحة والاستراحة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لما وَجَدَ مِن كرب الموت ما وَجَد، قالت فاطمة: واكَرْبَ أبتاهْ ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا كربَ على أبيك بعد اليوم»، أخرجه ابن ماجة (1629)، وابن حبان (6613)، عن أنس - رضي الله عنه -، وهو حديث صحيح.
وذلك أنّ الكرب والحُزن، والهمّ والغمّ، عند المؤمن، ينتهي بنهاية الدنيا، وانقطاعه منها؛ وذلك لأنها تحجزه عما بعدها من السرور والراحة، والسعادة الأبدية، والتي لا ينغّصها شيء.
وقال -تعالى- في ذلك: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) فصلت: 30، فيقول -تعالى- ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} وحده لا شريك له، وبرئوا من الآلهة والأنداد {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} على توحيد الله، ولم يخلطوا توحيد الله بشرك غيره به، وانتهوا إلى طاعته فيما أمر ونهى؛ وقوله: {أَلا تَخَافُوا} أي: ما تُقْدِمون عليه من بعد مماتكم {وَلا تَحْزَنُوا} على ما تخلّفونه وراءكم.
قال مجاهد: لا تخافوا ما تقدمون عليه من أمر الآخرة، ولا تحزنوا على ما خلفتم من دنياكم من أهل وولد؛ فإنا نُخلفكم في ذلك كله.(الطبري).
الفاجر أو الكافر
- والقسم الثاني من الناس: الفاجر أو الكافر، تستريح منه الدنيا وأهلُها، وهو من أشار إليه قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «يستريح منه العبادُ والبلاد، والشجر والدوابُّ». نعم يستريح غيره منه -مِن أذاه وظُلمه، وسوء خُلقه وفُجوره- يستريح غيره من فساده الكبير، وشرِّه المستطير.
قال أبو الوليد الباجي في (المنتقى شرح الموطأ): قوله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا رَأَى الجِنازةَ: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ»، يُرِيدُ أَنَّ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْ النَّاسِ على ضَرْبينِ: ضَرْبٌ يَسْتَرِيحُ، وضَرْبٌ يُسْتَرَاحُ مِنْهُ؛ فَسَأَلُوهُ عَنْ تَفْسِيرِ مُرادِهِ بِذلِك، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُسْتَرِيحَ هو العَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَصِيرُ إِلى رَحْمَةِ اللَّهِ، وما أَعَدَّ له مِنْ الجَنَّةِ والنِّعْمَةِ، ويَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وتَعَبِهَا وأَذَاهَا.
والْمُسْتَرَاحُ مِنه: هو الْعَبْدُ الفَاجِرُ، فإِنَّهُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ العِبَادُ والْبِلَادُ والشَّجَرُ والدَّوَابُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَذَاهُ لِلْعِبَادِ بِظُلْمِهِمْ، وَأَذَاهُ لِلْأَرْضِ وَالشَّجَرِ بِغَصْبِهَا مِنْ حَقِّهَا وَصَرْفِهَا إِلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، وإِتْعَابِ الدَّوَابِّ بِمَا لَا يَجُوزُ له مِنْ ذلِك فهذا مُسْتَرَاحٌ منه، وقال الدَّاوُدِيُّ مَعْنَى يَسْتَرِيحُ مِنْه العِبَادُ أَنَّهم يَسْتَرِيحُونَ مِمَّا يأْتِي بِه مِنْ الْمُنْكَرِ، فإِنْ أَنْكَرُوا عَليهِ نَالَهُم أَذَاهُ، وإِنْ تَرَكُوهُ أَثِمُوا؛ واسْتِرَاحَةُ الْبِلَادِ أَنَّهُ بِما يَأْتِي مِنْ الْمَعاصِي تَخْرُبُ الْأَرْضُ فَيَهْلِكُ لِذَلِك الحَرْثُ والنَّسْلُ؛ وهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فيه نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَنْ نَالَهُ الْأَذَى مِنْ أَهْلِ الْمُنْكَرِ؛ لَا يأْثمُ بِتَرْكِ الْإِنْكَارِ عليهِم، ويَكْفِيه أَنْ يُنْكِرَهُ بِقَلْبِهِ، أَوْ بِوَجْهٍ لا يَنَالُهُ به أَذَاهُ؛ وسَيَأْتِي ذلِك مُفسَّرًا فِي الجامِعِ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ».
من فوائد الحديث
1- ربما هذا المُستراح منه، الذي تستريح منه البلادُ والعباد، يكون مغروراً بنفسه وحاله؛ لما يقع من منَح الله -عز وجل- له وعطاياه في الدنيا ابتلاءً واختبارًا، فيظن أنه محسن غير مسيء! وأنّ له مكانة ومنزلة ليست لغيره، ولم يَدْرِ هذا الأخرقُ أن هذا الإعطاء من الدنيا ليست ميزانًا على القَبول والرضا عند الله، وأنها لا تعدو أنْ تكون استدراجًا؛ ولذلك ردَّ الله -تعالى- على هذه الدعوى في آيات كثيرة، منها قوله -عز وجل-: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} آل عمران: 178.
وقال -عز وجل-: {والذينَ كذّبوا بآياتنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (الأعراف: 182-183)، وقال الله -عز وجل-: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ}( المؤمنون: 55)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «.. وإنَّ الله يُعطي الدنيا مَنْ يُحبُّ ومَن لا يحب، ولا يُعطي الإيمان إلا من أحب..». رواه الطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب. الصحيحة (2714). وظن هذا المغرور المستدرج أنه عند موته سيَنال من النِّعم مثل ما كان يناله في الدنيا، كما ذكر الله -تعالى- قول من قال منهم: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} فصلت: 50.
أو قول الآخر: {ولَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} الكهف: 36. قياسًا منه للآخرة على الدنيا وهو قياس فاسد باطل.
المؤمنون شهداء الله -عز وجل
2- المؤمنون شهداء الله -عز وجل- في الأرض؛ فإذا أراد أحدُنا أنْ يعلم حال الميت من أي النوعين هو؟ فعليه أنْ يسمع ما يقوله المؤمنون فيه، من أقربائه وجلسائه وجيرانه وممن هم حوله، الذين هم شهداء الله -عز وجل- في الأرض، وهل هم يُثنون بالخير عليه أم لا؟، ولا بدّ أن يكونوا جمعًا من المسلمين الصادقين، وأقلُّهم اثنان، من ذوي الصلاح والعلم.
فعن أنس - رضي الله عنه - قال: مُرَّ على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بجنازة، فأُثنِي عليها خيرًا، وتتابعت الألسن بالخير، فقالوا: كان - ما علِمْنا - يحبُّ الله ورسوله، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: «وَجَبَتْ وجبت وجبت»، ومُرَّ بجنازة فأُثنِيَ عليها شرًّا، وتتابعت الألسن لها بالشر، فقالوا: بئس المرءُ كان في دين الله ! فقال نبي الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «وَجَبَتْ وَجَبت وَجَبت»، فقال عمر: فدى لك أبي وأمي، مُرَّ بجنازة فأثني عليها شرًّا، فقلت: وجبت وجبت وجبت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أثنَيْتم عليه خيرًا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرًّا وجبت له النار، الملائكة شهداء الله في السماء، وأنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض». أخرجه البخاري (1367)، ومسلم (949) واللفظ له.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 11-10-2023, 04:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,053
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح صحيح مسلم للشيخ محمد الحمود النجدي

شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم (14)


الشيخ.محمد الحمود النجدي

– باب: في تَحْسِين كفن الميت


عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما-: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ يَوْمًا، فَذَكَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ قُبِضَ؛ فَكُفِّنَ فِي كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ؛ وقُبِرَ لَيْلًا؛ فَزَجَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ؛ حَتَّى يُصَلَّى عليْه؛ إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِنْسَانٌ إِلَى ذَلك»، وقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؛ فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ».
الحديث رواه مسلم في كتاب الجنائز (2/651)، وبوب النووي عليه بمثل تبويب المنذري، وقوله: «أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خطبَ يوما» إما أنْ يكون ذلك في خُطبة الجمعة، أو خطبهم في يوم من أيام الأسبوع.
قوله: «فذكر رجلا من أصحابه قُبض» أي: قبضه الله وتوفّاه، «فكفّن في كفنٍ غير طائل» غير طائل أي: حقير، غير كامل الستر.
قوله: «وقُبر ليلاً» أي: دفن بالليل.
وقوله: «فزجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ؛ حتى يصلى عليه» يُصلى: هو بفتح اللام.
النهي عن القبر ليلاً
وأما النهي عن القبر ليلاً حتى يصلى عليه: فقيل: سببه أنَّ الدفن نهاراً يحضره ناسٌ كثيرون؛ ويصلون عليه، ولا يحضره في الليل إلا أفرادٌ قليلون. وقيل: لأنهم كانوا يفعلون ذلك بالليل لرداءة الكفن؛ فلا يبين في الليل، ويؤيده أول الحديث وآخره، قال القاضي: العلتان صحيحتان، قال: والظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصدهما معا.
حُكم الدفن في الليل
قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إلا أنْ يضطر إنسان إلى ذلك» دليل أنه لا بأس به في وقت الضرورة، وقد اختلف العلماء في حُكم الدفن في الليل: فكرهه الحسن البصري إلا لضرورة، وهذا الحديث مما يستدل له به، وقال جماهير العلماء من السلف والخلف: لا يكره، واستدلوا بأنَّ أبا بكر الصديق - رضي الله عنه -، وجماعة من السلف؛ دُفنوا ليلا من غير إنكار، وبحديث المرأة السوداء، أو الرجل الذي كان يَقُمُّ المسجد، فتوفي بالليل فدفنوه ليلا، وسألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه فقالوا: تُوفي ليلا فدفناه في الليل، فقال: «ألا آذنتموني؟» قالوا: كانت ظلمة، ولم ينكر عليهم.
وأجابوا عن هذا الحديث: أن النهي كان لترك الصلاة، ولم ينه عن مجرد الدفن بالليل، وإنما نهى لترك الصلاة، أو لقلة المُصلين، أو عن إساءة الكفن، أو عن المجموع كما سبق.
وقال النووي: في دفن فاطمة ليلًا «جواز الدفن بالليل، وهو مجمعٌ عليه، لكن النهار أفضل؛ إذا لم يكنْ عذر». انتهى.
الدفن في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها
وأما الدفن في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها؛ والصلاة على الميت فيها، فهو مما ثبت أيضاً: فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن ثلاث ساعات، من حديث عقبة بن عامر عند مسلم -رحمه الله-، قال عقبة بن عامر: ثلاث ساعات نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ نُصلي فيهن، وأنْ نقبرَ فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزولَ الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب».
هذه الثلاث ساعات: عند طلوع الشمس حتى ترتفع قِيد رمح، وعند قيامها قبيل الظهر حتى تزول، قبل الظهر بقليل، وعند غروبها عند انحدارها للغروب، وتضيفها للغروب واصفرارها، حينها في هذه الحال لا يصلى على الميت ولا يدفن.
قوله: «فليُحَسن كفنه»
وقوله: «فليُحَسن كفنه» ضبطوه بوجهين: فتح الحاء وإسْكانها، وكلاهما صحيح. قال القاضي: والفتح أصوب وأظهر وأقرب إلى لفظ الحديث، وفيه: الأمر بإحسان الكفن. قال العلماء: وليس المراد بإحسْانه السَّرف فيه، والمغالاة ونفاسته، وإنما المراد: نظافته ونقاؤه، وكثافته وستره، وتوسطه، وكونه من جنس لباسه في الحياة غالبا، لا أفخر منه، ولا أحقر.
فوائد من الحديث
- أن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كان حريصًا عَلى تَعليمِ أُمَّتِه الآدابَ الشَّرعيَّةَ كلَّها، في جميع شئون الحياة، وهنا يُرشدُ - صلى الله عليه وسلم - إلى بعضِ الآدابِ الخاصَّةِ بالمَوتى، مِثلَ إِحسانِ الكفنِ، وعدمِ الدَّفنِ ليلًا إلَّا للضَّرورةِ.
- وفيه: الزَّجرُ عنِ الدَّفنِ ليلًا، إلَّا في حالةِ الضَّرورةِ.
وفيهِ: أنَّ الأَفضلَ تَكثيرُ النَّاسِ في الصَّلاةِ عَلى الميِّتِ، بإعلامهم بموته وتذكيرهم بالصلاة عليه.
وفيه: الأَمرُ بإِحسانِ الكَفنِ؛ مِن غيرِ إِسرافٍ ولا تَقتيرٍ فيه.
باب: الإسْراع بالجنازة
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ؛ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ - لَعَلَّهُ قَال: تُقَدِّمُونَهَا عَلَيْهِ - وَإِنْ تَكُنْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ».
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب الجنائز ( 2/651-652)، وبوب النووي عليه بمثل تبويب المنذري، ورواه البخاري في الجنائز (1315) باب: السُّرعة في الجنازة.
قوله «أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ»
فهِم كثير من الفقهاء أنَّ هذا الحديث دليلٌ على الإسراع بالجنازة، يعني: إذا حملوها فإنهم يسرعون في المشي، ولا يصل الإسراع إلى الخبب الذي هو السعي الشديد، بل سرعة المشي وإن لم يكن سعيًا , فيقولون: المشي رويدًا مكروه، والسعي الذي يصل إلى الخبب مكروه، والإسراع - وهو وسط - هذا هو المستحب.
وقال العيني: «أسرعوا بالجنازة» إسراعًا خفيفًا، بين المشي المعتاد والخبب، لأنّ ما فوق ذلك يؤدّي إلى انقطاع الضعفاء، ومشقة الحامل، فيُكره، وهذا إنْ لم يضره الإسراع، فإنْ ضرّه فالتأني أفضل، فإنْ خيف عليه تغير أو انفجار أو انتفاخ، زيد في الإسراع انتهى.
وقيل: المقصود بقوله «أسْرعوا بالجنازة»؛ يعني: الإسراع بتجهيزها؛ وذلك لأنه علّل وحث على سرعة التجهيز، بقوله: «تضعونه عن رقابكم»، ومعلوم أنه ليس كل الذين يهمهم أمر الميت يحملونه، إنما قد يحمله مثلاً أربعة أو أكثر، والبقية لا يحملونه، فكيف قال: «تضعونه عن رقابكم «وهم لا يحملونه؟ ولم يقل: يضعه بعضكم، أو يضعه مَنْ حمله عن رقبته؟!
المراد: التجهيز
فدلَّ على أنّ المراد: التجهيز؛ أي: أسْرعوا بتجهيز الجنائز، ولا تؤخروها، فإنها إذا كانت صالحة قدّمتموها إلى خير، وهو ما تلقاه في البرزخ من النعيم، وإذا كانت غير ذلك - أي غير صالحة - فهو واجبٌ أنتم مُلزمون به ويهمكم؛ فتضعونه عن رقابكم، بمعنى أنكم تنتهون منه وتستريحون، وتنجزونه وتسلمون من مسؤوليته، فكأنكم وضعتم شيئًا قد حملتم همَّه على رقابكم، وذلك بتجهيزكم لهذا الميت، ودفنكم له؛ يدل على هذا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينبغي لجيفةِ مُسْلم؛ أنْ تُحْبس بين ظهراني أهله». رواه أبو داود.
الأصل المبادرة
فدل على أن المراد: بعد موته لا يُؤخر؛ بل يبادر به، هذا هو الأصل، لكن يجوز تأخيره لحاجة. وإسراع تجهيزه إن مات غير فجأة، فاستثنوا إذا مات فجأة أنه يؤخر إلى أنْ يتحقق موته؛ لأنه قد يكون أصابه سكتة أو غشية أو إغماء، ولا يكون ميتًا، بل يكون حيًّا، وكم قد حصل من ذلك؟!
ذكروا أنَّ ميتًا أو نعشًا مُرّ به على أناسٍ جالسين، وقد حمل على النعش، فقال بعض الجالسين: إن هذا المحمول حي، قالوا: قد كيف يكون حيًّا؟ وقد غُسّل وكُفن ووضع على النعش، وحُمل وذُهب به إلى المقبرة؟! فقال: إنه لا يزال حيًّا، فأُخبروا بذلك، فانتظروا وإذا هو قد أفاق، فسألوه: كيف عرفت أنه حي؟ فقال: رأيت قدميه قائمتين! يعني: أنه قد وقفت قدماه، والميت قدماه تمتد. فاستنبط من وقوف قدميه أنه لا يزال فيه حياة.
فلهذا لا يسرع به إذا كان مثلاً موته فجأة، أما إذا تحقق موته؛ فإنه يسرع به، والله أعلم.
قوله: «فإنْ تك» أي: الجنازة «صالحة» نصب خبر كان «فخير» أي: فهو خير، خبر مبتدأ محذوف «تقدمونها» زاد العيني كابن حجر: «إليه» أي: إلى الخير، باعتبار الثواب، أو الإكرام الحاصل له في قبره، فيسرع به ليلقاه قريبًا.
قوله: «وإن تك» الجنازة «سوى ذلك» أي: غير صالحة «فشر» أي: فهو شر «تضعونه عن رقابكم» فلا مصلحة لكم في مصاحبتها؛ لأنها بعيدة من الرحمة.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 11-10-2023, 04:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,053
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح صحيح مسلم للشيخ محمد الحمود النجدي

شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم (15)


الشيخ.محمد الحمود النجدي

– باب: نهي النساء عن اتباع الجنازة


«عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رضي الله عنها- قالت: كُنَّا نُنْهَى عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا»، هذا الحديث رواه مسلم في الجنائز (2/646) وبوب عليه النووي كتبويب المنذري، ورواه البخاري (1278) في كتاب الجنائز أيضاً، باب اتباع النساء الجنائز، وقولها: «نُهيِنا عن اتِّباع الجَنَائز» أي: إلى أنْ نصل بها إلى القُبور. ورواه البخاري في الحيض: عن حفصة عنها بلفظ: «كنَّا نُهينا عن اتباع الجنائز».
قولها: «نُهيِنا» ذهب الشافعي وأحمد وأكثر الأئمة والمُحدثين: أنه يجب إضافة ذلك إلى النبي -عليه الصلاة والسلام.
قال الآمدي: فإذا قال الصحابي منهم: أُمرنا أو نُهينا كان الظاهر منه أمرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهيه، ولا يُمكن حمله على أمر الكتاب ونهيه؛لأنه لو كان كذلك لكان ظاهراً للكل، فلا يختصُّ بمعرفته الواحد منهم، ولا على أمر الأُمة ونهيها؛لأنَّ قول الصحابي: أمرنا ونهينا، قول الأمة، وهم لا يأمرون وينهون أنفسهم، ولا على أمر الواحد من الصحابة؛ إذْ ليس أمر بعضهم لبعض؛ أولى من العكس. (انظر: كتاب الإحكام في أصول الأحكام).
نهي النبي - صلى الله عليه وسلم -
وقد رواه الإسماعيلي بلفظ: «نَهانا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -..». وفيه ردٌ على من قال: لا حُجة في هذا الحديث. ويؤيد رواية الإسماعيلي: ما رواه الطبراني من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية عن جدته أم عطية قالت: «لمَّا دَخَل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة؛ جمعَ النساء في بيتٍ، ثم بعث إلينا عمر، فقال: إني رسولُ رسول الله إليكنَّ، بعثني إليكنَّ لأبايعكن على أنْ لا تُشركن بالله شيئا». الحديث. وفي آخره: «وأمرنا أنْ نُخرج في العيد العواتقَ، ونهانا أنْ نَخرج في جنازة».
اتِّباع الجنائز
وقد مضت سُنَّة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على أنَّ اتِّباع الجنائز من بيتها حتى يُصلَّى عليها، واتِّباعها حتى تُدفن، وتولِّي حملها ودفنها، من خصائص الرِّجال، وليس للنساء حظٌّ في ذلك، وهو الذي جَرَى عليه عمل السلف الصالح؛ فعن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه : أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا وُضعتِ الجنازةُ؛ واحتمَلَهَا الرِّجالُ على أعناقهمْ، فإنْ كانت صالحةً؛ قالت: قَدِّمُوني، وإنْ كانت غيرَ صَالِحَةٍ؛ قالت: يا ويلَهَا أينَ يَذهبُونَ بها؟ يَسمَعُ صَوتهَا كُلُّ شيءٍ إلاَّ الإنسانَ، ولو سَمعَهُ صَعقَ». أخرجه البخاري في صحيحه (1313) وبوَّب عليه: بابُ حمل الرِّجالِ الجنازةَ دُون النساءِ؛ قال النووي في المجموع (5/ 166): «قالَ الشافعيُّ في الأُمِّ والأصحابُ: لا يَحملُ الجنازةَ إلاَّ الرِّجالُ، سواءٌ كانَ الْميِّتُ ذكَراً أو أُنثى، ولا خلافَ في هذا».
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن اتَّبعَ جَنازةَ مُسلمٍ إيماناً واحتساباً، وكان معه حتى يُصلَّى عليها، ويُفرَغَ من دفنها، فإنه يَرجعُ من الأجرِ بقيراطينِ». أخرجه البخاري (47).
قولها: «ولم يُعزم علينا»
قولها: «ولم يُعزم علينا» أي: ولم يؤكد علينا في المنع، كما أكَّد علينا في غيره من المنهيات؛ فكأنها قالت: كره لنا اتباع الجنائز من غير تحريم. قال النووي: وقولها: «ولم يُعزم علينا» معناه: نُهينا نهياً شديداً غير مُحتّم، ومعناه: كراهة تَنَزيه ليس بِحَرام. اهـ
وقال ابن حجر: قولها: «ولَمْ يَعْزِم عَلَيْنَا»، أَيْ: ولَمْ يُؤَكِّد عَلَيْنَا في المَنْع؛ كما أَكَّدَ عليْنَا فِي غيره مِنْ الْمَنْهِيَّات، فكأَنَّهَا قالت: كَرِهَ لَنَا اِتِّبَاع الْجَنَائِز مِنْ غَيْر تَحْرِيم، قال الإمام ابن تيمية: «قد تكونُ هيَ -رضي الله عنها- ظنَّت أنه ليس بنهي تحريم، والْحُجَّة في قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لا في ظنِّ غيره». مجموع الفتاوى (24/ 355).
وقال الإمام ابنُ القيم: «وقولها: «ولم يُعزم علينا» إنما نفتْ فيه وصف النَّهي، وهو النهي المؤكَّد بالعزيمة، وليس ذلك شرطاً في اقتضاء التحريم، بل مجرَّد النهي كاف، ولَمَّا نهاهنَّ انتهين لطواعيتهنَّ لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، فاستغنين عن العزيمة، وأمّ عطية لم تشهد العزيمة في ذلك النهي، وقد دلَّت أحاديث لعنة الزائرات على العزيمة؛ فهي مُثبتة للعزيمة؛ فيجبُ تقديمها، وبالله التوفيق» تهذيب السنن (3/ 1556).
وقال النووي: «هذا الذي ذكرناه من كراهة اتباع النساء الجنازة هو مذهبنا، ومذهب جماهير العلماء، حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود، وابن عمر، وأبي أمامة، وعائشة، ومسروق، والحسن، والنخعي، والأوزاعي، وأحمد، وإسحق، وبه قال الثوري». المجموع (5/ 171).
القول بالكراهة عند السلف
ومن المعلوم أنَّ القول بكراهة اتباع النساء للجنائز عند السلف هو بمنزلة المنع والتحريم؛ فإنَّ التفرقة بين نهي التنزيه والتحريم في عُرف الصحابة غير مستقر؛ فلم يُفرِّقوا فيه، بل كانوا يجتنبون المكروه تنزيهاً وتحريماً مطلقاً؛ إلا لضرورة.
أدلة الباب
ومن الأدلة في الباب: حديث أنس - رضي الله عنه - قال: شَهِدنا بنتَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ورسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جالسٌ على القبرِ، فرأيتُ عينيهِ تدمَعانِ، فقال: هل فيكم من أَحَدٍ لم يُقارِف الليلةَ؟ فقال أبو طلحةَ: أنا، قال: فانزِلْ في قبرِها، فنَزلَ في قبرِهَا فقَبَرَها». أخرجه البخاري (1342)، ومعلومٌ أنها كانت لها أخوات كفاطمة وغيرها من محارمها وغيرهنَّ هناك -رضي الله عنهن-؛ فدلَّ على أنه لا مدخلَ للنساء في إدخال القبر والدَّفن.
وقال ابن قدامة -رحمه الله-: وكيف يُشرَعُ لهُنَّ وقد نهاهُنَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن اتِّباعِ الجنائزِ؟ ولأنَّ ذلكَ لو كانَ مشروعاً لَفُعِلَ في عصرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أو خُلَفَائهِ، ولَنُقِلَ عن بعض الأئمَّةِ، ولأنَّ الجنازةَ يَحضُرُها جُمُوعُ الرِّجال، وفي نُزُولِ النِّساءِ في القبرِ بينَ أيديهِم هتكٌ لَهُنَّ، مَعَ عَجزهنَّ عن الدَّفن، وضَعفهنَّ عن حملِ الميِّتةِ وتقليبها. المغني (3/ 433)، وقد وردت أقوال كثيرة عن السلف في تأييد ما سبق، منها:
1- عن الشعبي -رحمه الله- قال: خُروج النساء على الجنائز بدعة. أخرجه عبدالرزاق (6296).
2- وعن إبراهيمَ النخعي قال: كانوا إذا أخرجُوا الجِنازةَ أغلَقُوا البابَ على النساءِ. أخرجه ابن أبي شيبة (11402)، وقال أيضاً: كانوا يقفلون على النساء الأبواب، حتى يُخرِجَ الرِّجالُ الجنائز. أخرجه عبد الرزاق (6293).أي: باب المسجد.
3- وقال علقمة -رحمه الله-: لقنوني: لا إله إلا الله عند موتي، وأسرعوا بي إلى حُفرتي، ولا تنعوني؛ فإني أخافُ أنْ أكون كنعي الجاهلية؛ فإذا خرَجَ الرِّجالُ بجنازتي فأغلقوا الباب؛ فإنه لا أرب لي بالنساء. أخرجه عبدالرزاق (6046).
4- وعن عبد اللهِ بن مُرَّةَ عن مسرُوقٍ -رحمه الله- قال: رأيتُه يَحثُو الترابَ في وُجُوهِ النساءِ في الجنازةِ، يقولُ لهنَّ: ارجعنَ، فإنْ رجعنَ مَضَى مع الجنازةِ، وإلاَّ رَجَعَ وتركَـها. أخرجه ابن أبي شيبة (11409).
5- وكان الأوزاعيُّ -رحمه الله- يرى منْعً النساء الخروج مع الجنائز. الأوسط (5/ 387).
6- وعن ابن جريج قال: قلتُ لعطاء: خروج النساء على الجنائز؟ قال: يَفتنَّ. أخرجه عبد الرزاق (6295).
7- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - علَّلَ الإذن للرِّجال: بأنَّ ذلك يُذكِّرُ بالموتِ، ويُرقِّقُ القلبَ، ويُدمعُ العينَ، هكذا في مسند أحمد، ومعلومٌ أنَّ المرأةَ إذا فُتحَ لها هذا البابُ أخرجها إلى الجزع والندبِ والنياحةِ؛ لِما فيها من الضعفِ، وكثرةِ الجزع، وقلَّةِ الصَّبرِ.
وأيضاً: فإنَّ ذلكَ سَببٌ لتأذِّي الْميِّتِ ببُكائها، ولافتتانِ الرِّجالِ بصوتها وصُورَتها، كما جاءَ في حديثٍ آخرَ: «فإنكُنَّ تَفتنَّ الحيَّ، وتُؤذينَ الْميِّتَ» مجموع الفتاوى (24 / 355-356).
8- وقال أيضاً: «الصلاةُ على الجنائزِ أوكدُ من زيارةِ القبورِ، ومَعَ هذا فقد ثبتَ في الصحيح: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهَى النساءَ عن اتِّباع الجنائزِ، وفي ذلك تفويتُ صلاتهنَّ على الْميِّتِ؛ فإذا لم يَستحبَّ لَهُنَّ اتِّباعَهَا لِمَا فيها من الصلاةِ والثوابِ فكيفَ بالزِّيارةِ؟!». المصدر السابق (24/ 345).
9- وقال ابن المنذر: «وقد روينا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لامرأة: «صلاتُك في بيتك؛ خيرٌ من صلاتُكِ في حُجرتكِ، وصلاتكِ في حُجرتكِ خيرٌ من صلاتكِ في داركِ، وصلاتكِ في داركِ؛ خيرٌ من صلاتكِ في مسجدِ قومكِ». فإذا كان هذا سبيلها في الصلاة وقد أُمرن بالسِّترِ، فالقُعود من الجنائز أولى بهنَّ وأسترُ، واللهُ أعلم». الأوسط (5/ 388-389).
10- وقال أبو بكر الطرطوشي: ومن البدع المنكرةِ عندَ جماعةِ العلماء: خروج النساء لاتباع الجنائز. كتاب الحوادث والبدع (ص 336).
قصد الذهاب إلى المساجد
فعُلمَ مِمَّا تقدَّم: أنه يُكره للمرأة قصد الذهاب إلى المساجد للصلاة على الجنائز إنْ لم يحرم؛ لأنه من اتباع الجنائز المنهي عنه، ولم يُنقل فيما نعلم: أنَّ نساء الصحابة -رضي الله عنهن- كُنَّ يحضرن للمسجد، أو مُصلَّى الجنائز لقصد الصلاة على الأموات، وأمَّا إذا حَضَرتِ المرأةُ إلى المسجد للصلاة فيه، كالمسجد الحرام أو المسجد النبوي وغيرهما، فوَافقت جنازة فلا بأسَ بالصلاة عليها مع الناس.
وكذا لو كانت الجنازة في بيتها فصلَّت عليها فلا حَرَج في ذلك؛ لِما أخرجه مسلم في صحيحه (ح100-973): عن عبد اللهِ بن الزبير يُحدِّثُ عن عائشةَ -رضي الله عنها-: أنها لَمَّا توُفِّيَ سعدُ بنُ أبي وقاصٍ، أرسلَ أزواجُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن يَمُرُّوا بجنازتهِ في المسجدِ، فيُصَلِّينَ عليه، ففعلُوا، فَوُقفَ بهِ على حُجَرِهنَّ يُصلِّينَ عليه، أُخرجَ بهِ من بابِ الجنائزِ الذي كان إلى الْمَقاعدِ، فبلَغَهُنَّ أنَّ الناسَ عابُوا ذلك، وقالُوا: ما كانت الجنائزُ يُدخَلُ بها المسجدَ، فبلَغَ ذلك عائشةَ، فقالت: ما أسرَعَ الناسَ إلى أن يَعيبُوا ما لا علمَ لهم بهِ! عابُوا علينا أن يُمَرَّ بجنازةٍ في المسجدِ! وما صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على سُهيل بنِ بيضاءَ إلاَّ في جوفِ المسجدِ. وكذا لو جُهِّزَ الْميِّتُ في بيته، وهي فيه فلا بأس بصلاتها عليه، والله أعلم.
هل النساءُ مثل الرِّجال؟
فإنّ قيل: ثبتَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مَن اتَّبعَ جَنازةَ مُسلمٍ إيماناً واحتساباً وكان معه حتى يُصلِّي عليها، ويَفرُغَ من دفنها؛ فإنه يَرجعُ من الأجرِ بقيراطينِ، كُلُّ قيراطٍ مثلُ أُحُدٍ، ومَن صلَّى عليها ثمَّ رَجَعَ قبلَ أنْ تُدفنَ؛ فإنه يَرْجعُ بقيراطٍ». أخرجه البخاري (47). والنساءُ مثل الرِّجال!
فالجوابُ: ما قاله الإمام ابن تيمية: «قد عُلمَ بالأحاديثِ الصَّحيحةِ: أنَّ هذا العُمُومَ لم يَتناول النساءَ، لنهي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَهُنَّ عن اتِّباعِ الجنائزِ، سواءٌ كانَ نهيَ تحريمٍ أو تنزيهٍ» مجموع الفتاوى (24/ 346)، وقال الحافظ ابن حجر: «قال الزين بن المنيِّر: فَصلُ المصنفِ بين هذه الترجمة - أي قول البخاري: باب اتِّباع النساء الجنائز - وبين فضل اتباع الجنائز بتراجم كثيرة تُشعر بالتفرقة بين النساء والرِّجال، وأنَّ الفضل الثابت في ذلك يختصُّ بالرِّجال دون النساء؛ لأنَّ النهي يقتضي التحريم، أو الكراهة، والفضل يدلُّ على الاستحباب، ولا يجتمعان، وأطلق الحكم هنا؛ لِما يتطرَّق إليه من الاحتمال، ومن ثمَّ اختلف العلماءُ في ذلك، ولا يخفى أن محلَّ النزاع إنما هو حيث تُؤمنُ المفسدة». فتح الباري (3/ 145).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 11-10-2023, 04:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,053
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح صحيح مسلم للشيخ محمد الحمود النجدي

شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم (16)


الشيخ.محمد الحمود النجدي


– باب : القيام للجنازة



عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قال: مَرَّتْ جَنَازَةٌ فَقَامَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقُمْنَا مَعَهُ؛ فَقُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا يَهُودِيَّةٌ، فَقَال: «إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ؛ فَإِذَا رَأَيْتُمْ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا»، هذا الحديث رواه مسلم في الجنائز (2/660)، وبوّب عليه النووي كتبويب المنذري، ورواه البخاري في صحيحه في الجنائز (1311): باب من قام لجنازة يهودي .
قوله: «إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ» خوفٌ وهول، قال البزار: وفيه تنبيه على أن تلك الحالة ينبغي لمن رآها أن يقلق من أجلها ويضطرب، ولا يظهر منه عدم المبالاة، وقوله: «فإذا رأيتم الجنازة فقوموا». أي: تعظيماً لهول الموت وفزعه، لا تعظيماً للميت؛ فلا يختص القيام بميت دون ميت.
تعليل القيام لجنازة اليهودي
وقد اختلفت الأحاديث في تعليل القيام لجنازة اليهودي أو غيره؛ ففي هذا الحديث التعليل بقوله: «إن الموت فزع»، وفي حديث سهل بن حنيف وقيس الآتي التعليل بكونها (نفساً)؛ فروى مسلم: عن ابن أبي ليلى: أنّ قيس بن سعد وسهل بن حنيف: كانا بالقادسية؛ فمرّت بهما جنازة فقاما؛ فقيل لهما: إِنَّها مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ؛ فقالَا: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ؛ فقيل: إِنَّهُ يَهُودِيٌّ، فقال: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا». ورواه البخاري (1312).
قوله: «من أهل الأرض، أي من أهل الذمة، وقيل لأهل الذمة: أهل الأرض؛ لأن المسلمين لما فتحوا البلاد، أقروهم على عمل في الأرض، وحمل الخراج، وفي حديث أنس مرفوعا عند النسائي والطبراني والحاكم: «إنّما قمْنا للملائكة»، ولأحمد (6573): عن عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو: أَنَّهُ سَأَلَ رَجُلٌ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؛ فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ، تَمُرُّ بِنَا جَنَازَةُ الكَافِرِ، أَفَنَقُومُ لها؟ َقَال: «نَعَمْ قُومُوا لها؛ فإِنَّكُم لَسْتُمْ تَقُومُونَ لها، إِنَّمَا تَقُومُونَ إِعْظَامًا لِلَّذِي يَقْبِضُ النُّفُوسَ». وصححه وابن حبان والحاكم، وهو كذلك .
وهذا أيضا لا ينافي التعليل السابق؛ لأنّ القيام للفزع من الموت، فيه تعظيم لأمر الله، وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك، وهم الملائكة، ولا معارضة بين هذه التعليلات؛ قال الحافظ ابن حجر: لا منافاة فيها؛ لأن القيام للفزع من الموت فيه تعظيم لأمر الله، وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك، وهم الملائكة .
حكم قيام مَنْ مرّت به الجنازة
وقد اختلف أهل العلم في حكم قيام مَنْ مرّت به الجنازة وهو جالس، على قولين:
القول بالكراهة
- القول الأول: كراهة القيام للجنازة لمن مرّت به، ولو كان في المقبرة سابقا، وهو المعتمد في مذهب الحنفية والحنابلة، ونقله بعض الشافعية عن جمهور الأصحاب.
قال ابن الهمام الحنفي -رحمه الله-: «القاعد على الطريق إذا مرت به، أو على القبر إذا جيء به: فلا يقوم لها, وقيل يقوم, واختير الأول؛ لما روي عن علي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس» بهذا اللفظ لأحمد. انتهى. فتح القدير (2/135).
وقال البهوتي الحنبلي -رحمه الله-: وإنْ جاءت الجنازة وهو جالس، أو مرت به «وهو جالس» كره قيامه لها لحديث ابن سيرين قال: مر بجنازة على الحسن بن علي وابن عباس؛ فقام الحسن ولم يقم ابن عباس؛ فقال الحسن لابن عباس: أما قام لها النبي[؟ قال ابن عباس: قام ثم قعد، رواه النسائي. انتهى. كشاف القناع (2/130).
وقال الخطيب الشربيني الشافعي -رحمه الله-: يكره القيام للجنازة إذا مرّت به، ولم يرد الذهاب معها كما صرح به في (الروضة)، وجرى عليه ابن المقري، خلافا لما جرى عليه المتولي من الاستحباب. انتهى. مغني المحتاج (2/20)، وعزاه النووي -رحمه الله- في المجموع(5/241) إلى الإمام الشافعي وجمهور الأصحاب.
القول بالاستحاب
- القول الثاني: يستحب القيام لمَن مَرَّت به الجنازة، وهو القول الآخر عند الشافعية، ومذهب ابن حزم الظاهري، قال الإمام النووي -رحمه الله-: هذا الذي قاله صاحب (التتمة) هو المختار –يعني الاستحباب-؛ فقد صحت الأحاديث بالأمر بالقيام, ولم يثبت في القعود شيء، إلا حديث علي]، وهو ليس صريحا في النسخ, بل ليس فيه نسخ؛ لأنه محتمل القعود لبيان الجواز، والله أعلم. المجموع(5/241)، وقال ابن حزم -رحمه الله-: نستحب القيام للجنازة إذا رآها المرء - وإنْ كانت جنازة كافر - حتى توضع أو تَخْلفه؛ فإنْ لم يقمْ فلا حرج. المحلى (3/380).
واستدلوا بما يلي:
1- عن عامِرِ بنِ رَبِيعَةَ قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : «إِذَا رَأَيْتُمْ الْجَنَازَةَ؛ فَقُومُوا لَهَا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ، أَوْ تُوضَعَ». رواه مسلم (958).
2- وعن ابنِ أَبِي ليلى: أَنَّ قَيْسَ بنَ سَعْدٍ وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ كانَا بِالْقَادِسِيَّةِ؛ فَمَرَّتْ بِهِما جَنَازَةٌ فَقَامَا، فَقِيل لهما: إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ؛ فقالَا: إِنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيل: إِنَّهُ يَهُودِيٌّ، فقال: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا». رواه مسلم (960).
وأجابوا عن أدلة القول الأول: بأن قعود النبي صلى الله عليه وسلم ليس صريحا في النسخ ؛ إذْ قد يكون لبيان الجواز، كما سبق نقله في كلام النووي -رحمه الله-، قال ابن حزم -رحمه الله-: «فكان قعوده صلى الله عليه وسلم بعد أمره بالقيام، مبينا أنه أمرُ ندب, وليس يجوز أنْ يكون هذا نسخا; لأنه لا يجوز ترك سُنّة متيقنة إلا بيقينٍ نسخ, والنسخ لا يكون إلا بالنهي, أو بتركٍ معه نهي .
فإنْ قيل: قد رويتم من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ قال: قمت إلى جنب نافع بن جبير في جنازة, فقال لي: حدثني مسعود بن الحكم، عن علي بن أبي طالب قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقيام، ثم أمرنا بالجلوس .
فهلا قطعتم بالنسخ بهذا الخبر ؟
قلنا: كنا نفعل ذلك, لولا ما روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا يوسف بن سعيد نا حجاج بن محمد هو الأعور عن ابن جريج، عن ابن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة, وأبي سعيد الخدري قالا جميعا: ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد جنازة قط؛ فجلس حتى توضع؛ فهذا عمله -عليه السلام- المداوم , وأبو هريرة وأبو سعيد ما فارقاه -عليه السلام- حتى مات؛ فصحَّ أن أمره بالجلوس إباحة وتخفيف, وأمره بالقيام وقيامه ندب. المحلى (3/380-381).
وقال البيضاوي: يحتمل قول علي: «ثم قعد». أي : بعد أنْ جاوزته وبعدت عنه، ويحتمل أنْ يريد كان يقوم في وقتٍ، ثم ترك القيام أصلا، وعلى هذا يكون فعله الأخير، قرينة في أن المراد بالأمر الوارد في ذلك الندب، ويحتمل أنْ يكون نسخاً للوجوب المستفاد من ظاهر الأمر، والأول أرجح لأنّ احتمال المجاز - يعني في الأمر - أولى من دعوى النسخ. انتهى.
والاحتمال الأول يدفعه: ما رواه البيهقي: من حديث علي أنه أشار إلى قوم قاموا: أنْ يجلسوا، ثم حدثهم الحديث، ومن ثم قال بكراهة القيام جماعة، منهم سليم الرازي وغيره من الشافعية، وأما ما أخرجه أحمد: من حديث الحسن بن علي قال: إنما قام رسول الله[ تأذيا بريح اليهودي، زاد الطبراني: من حديث عبد الله بن عياش: «فآذاه ريح بخورها»، وللطبراني والبيهقي من وجه آخر عن الحسن: «كراهية أنْ تعلو رأسه»؛ فهي أحاديث لا تصح سنداً .

المسألة الثانية
أما المسألة الثانية في هذا الحديث فهي: حكم بقاء المشيِّعين للجنازة قياما في المقبرة، حتى يوضع الميت في قبره، قد اختلف أهل العلم في هذه المسألة أيضاً على قولين :
القول الأول
استحباب القيام وكراهة الجلوس، وهو المعتمد في مذهب الحنفية والحنابلة، واختاره بعض الشافعية.
واستدلوا بحديث أَبِي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « إِذَا اتَّبَعْتُمْ جنَازَةً؛ فلا تَجْلِسُوا حتَّى تُوضَعَ». رواه مسلم (959).
قال ابن الهمام الحنفي -رحمه الله-: «وإذا بلغوا إلى قبره يكره أنْ يجلسوا قبل أنْ يوضع عن أعناق الرجال؛ لأنه قد تقع الحاجة إلى التعاون ، والقيام أمكن منه؛ ولأن المعقول من ندب الشرع لحضور دفنه إكرام الميت, وفي جلوسهم قبل وضعه ازدراء به وعدم التفات إليه, هذا في حق الماشي معها». فتح القدير (2/135).
وقال البهوتي الحنبلي -رحمه الله-: «ويكره جلوس من تبعها» أي: الجنازة حتى توضع بالأرض للدفن، نص عليه، «إلا لمن بَعُد عنها» أي : عن الجنازة؛ فلا يكره جلوسه قبل وضعها بالأرض؛ لما في انتظاره قائما من المشقة، قال: «وكان الإمام أحمد إذا صلى على جنازة - هو وليها - لم يجلس حتى تدفن نقله المروذي، ونقل حنبل: لا بأس بقيامه على القبر حتى تدفن جبرا وإكراما، ووقف علي على قبر فقيل له: ألا تجلس يا أمير المؤمنين؟ فقال: قليل على أخينا قيامنا على قبره. ذكره أحمد محتجا به . كشاف القناع (2/130).
القول الثاني
كراهة القيام، وهو المعتمد في مذهب المالكية ، على خلاف بينهم ، وقول عند الشافعية والحنابلة، قال النووي -رحمه الله-: ثبتت الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالقيام لمن مرَّت به جنازة حتى تخلفه، أو تُوضع، وأمر من تبعها ألا يقعد عند القبر حتى توضع، ثم اختلف العلماء في نسخه؛ فقال الشافعي وجمهور أصحابنا: هذان القيامان منسوخان؛ فلا يُؤمر أحد بالقيام اليوم, سواء مرت به أم تبعها إلى القبر.
ثم قال المصنف وجماعة: هو مخير بين القيام والقعود. المجموع (5/241)، وقال المرداوي -رحمه الله-: قوله: «ولا يجلس من تبعها حتى توضع « يعني : يكره ذلك, وهو المذهب وعليه الأصحاب, وعنه : لا يكره الجلوس لمن كان بعيدا عنها .
تنبيه
قوله: «حتى توضع» يعني بالأرض للدفن, وهذا المذهب نقله الجماعة, وعنه حتى توضع للصلاة, وعنه: حتى توضع في اللحد، قوله: «وإنْ جاءت وهو جالس لم يقم لها»، وهو المذهب نص عليه, وعليه أكثر الأصحاب وجزم به في (الوجيز) وغيره، وقدمه في (الفروع), و(المغني), و (الشرح) وغيرهم, وعليه أكثر الأصحاب.
وعنه: يستحب القيام لها, ولو كانت كافرة، نصره ابن أبي موسى واختاره القاضي, وابن عقيل, والشيخ تقي الدين, وصاحب (الفائق) فيه، وعنه: القيام وعدمه سواء، وعنه: يستحب القيام حتى تغيب أو توضع، وقاله ابن موسى . الإنصاف (2/542-543).
واختار غير واحد من أهل العلم المعاصرين: القول باستحباب القيام للجنازة في المسألتين، في حالة مرورها بالقاعد، وفي حالة وصولها إلى المقبرة للدفن، اعتماداً على الأدلة الصريحة التي جاء فيها القيام للجنازة من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، وعدم ثبوت ما يدل على النسخ، وأما ترك النبي صلى الله عليه وسلم القيام في بعض الأحيان؛ فهو لبيان الجواز .
وقد سئل العلامة ابن باز -رحمه الله-: إذا كان المسلم في المسجد، ورأى الجنازة هل يقوم؟
فأجاب: ظاهر الحديث العموم؛ فهو إذنٌ مستحب, ومَن تركه فلا حرج; لأن القيام لها سُنة وليس بواجب; لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قام تارة، وقعد أخرى، فدل ذلك على عدم الوجوب». مجموع فتاوى ابن باز (13/187-188).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «الراجح أن الإنسان إذا مرّت به الجنازة قام لها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، وفعله أيضاً ، ثم تركه ، والجمع بين فعله وتركه: أنّ تركه ليبين أنّ القيام ليس بواجب». مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (17/112).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 139.33 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 135.28 كيلو بايت... تم توفير 4.05 كيلو بايت...بمعدل (2.91%)]