|
ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#4
|
||||
|
||||
![]() المبحث الثاني: دراسة تقويمية لتكنيك التحول في بناء شخصية البطل: في ضوء ما سبَق نستطيع أن نقول شيئًا في مدى موفقيَّة السارد باكثير في تكوين شخصية البطل حمدان، والانتقال به من طور إلى طور حتى البلوغ به منتهاه؛ إذ قد تبيَّنت لنا ملامح كل الخطوات التي رسَمها لصاحبه، وبإمكاننا تقويمها وتبيان قدر النجاح أو الإخفاق، وبيان مستوى السلاسة التي نقل بها صاحبه أو كمِّ الصعوبة التي تعرَّضت له عملية الانتقال. ونستطيع إعطاء شهادة نجاح لباكثير في مرحلة التكوين الأولى، حين رسم ملامح "حمدان" "الفلاح"، ومنَحه من السِّمات الذاتيَّة الجسميَّة والنفسيَّة ما جعَله فلاحًا غير عادي، بل هو يحمل مشاعر الإحساس بالظلم والرغبة في الانعتاق منه، كما نجَح في رفع مستوى الدافعية للانعتاق والتحرُّر بجملة من المثيرات التي تعلَّقت بحمدان، ساقها عبر أحداث مؤلمة مسَّت عرْض بطله وكرامته وإنسانيَّته. وليست المرحلة الثانية في التكوين بأقلِّ روعة من سابقتها، حتى مع ما اعتوَرَها من تذبذُبِ السارد في تثبيت مستوى الذكاء العقلي لبطله، فقد رأينا ذلك اليقين الثوري الذي أنهى به السارد لحظةَ التكوين الثانية، والذي ظهَر في عزْم البطل على التحوُّل الصريح من مرحلة "الفلاح" إلى مرحلة "العيَّار"، كما ظهَرت مُرونة الانتقال بمصاحبات فكريَّة "ثقافيَّة معلوماتيَّة"، وملاحظاتيَّة "المشاهدة لحياة العيَّارين" هيَّأت سلاسة الانتقال وسهولته. ولعل المرحلة الثالثة التي أراد بها السارد نقْلَ بطله من مرحلة "عيار" إلى "ثائرٍ" هي التي اعتاصَت عليه ولو بنسبة ما. السارد أراد أن يحوِّل بطله من "عيار" - يمتلك سمات الفارس المقاتل، وقد مكَّنه عبر سمات جسمية ونفسية وشخصيَّة من أداء هذه المهمة - إلى "ثائر" لا يحتاج إلى سمات الفارس فقط؛ إذ إنه ليس ثائرًا عاديًّا، بل ثائرًا يهدف إلى بناء دولة، وليست الدولة التي يريدها دولة تقليديَّة، بل دولة فكريَّة تمتلك أيديولوجيَّة غير تقليديَّة، ومن هنا جاء تهيُّب السارد، ذلك التهيُّب الذي لَمَسْناه في عدم ثقته بقناعة المتلقي في تقبُّل تلك النقلة، فجعل يرسم بطله مقدمًا - مُحجمًا في تبنِّي أيديولوجية الدولة الجديدة التي يريد بناءَها في ظلِّ فكرة "المشاعية" أو مذهب "العدل الشامل"؛ كما أسماه. ولعلَّ السفر الثاني في السرديَّة، هو نتاج ذلك التهيُّب أو عدم الاقتناع؛ إذ صنَع السارد لبطله جسرًا يعبر به إلى المكوِّن الثقافي لدولة البطل، ذلك المكوِّن الذي يتناقض مع قِيَم الإسلام الفكرية والتشريعية. صحيح أنَّ السارد نجَح في هدْم البناء "السلوكي" الإسلامي لبطله "الجانب المشاعي للمرأة"[48]، إلاَّ أنه لَم يتمكَّن من هدْم الجانب العَقَدي فيه، فظلَّ حمدان غير مقتنع تمامًا بتلك الأفكار التي لقَّنها له "حسين الأهوازي" داعية المذهب، وحينما شعَر السارد بعدم الموفَّقيَّة في "التحول"، صنَع الجسر الذي سيعبر به البطل ودولته إلى الأمام. إن "الفارس" "القائد" "الثائر" هي السمات التي تنطبق سرديًّا على حمدان في تكوينه النهائي، تلك هي قناعة الراوي، وهي نتيجة لتكنيك "التماهي" الذي صاحَب ولازَم عمليَّة التحوُّلات المختلفة، والبناء التكويني المتنامي للبطل[49]. ومن هنا كان "الجسر - الفكر" المتمثِّل في عبدان هو المخرج المقنع، عبدان يتبنَّى الفكر "القداحي - القرمطي" لا يهمُّ؛ فهو شخصيَّة لا علاقة للسارد بها، كما أنها شخصيَّة ثابتة مرسومة بملامح محدَّدة، أفْرَغ فيها السارد كلَّ مساوئ مذهب القرامطة، وجعَلها الوجه الأخر لبطله، فحين ظلَّ حمدان يتألَّق بأحاسيسه ومشاعره الدفَّاقة تُجاه الناس والمجتمع، ورغبته الحقيقية "البريئة - الساذجة" في تخليص الناس من الظلم الواقع بهم، كان عبدان يتلوَّث بفكر الباطنيَّة والقداحيَّة، ومُختلف النِّحل والمِلل الهادمة لنقاء الدِّين وصفائه، وشعائره وشرائعه، وقِيَمه وأخلاقه، وكان هو "فقيه الدعوة" الذي ينظر للفكر "القرمطي"، ويؤلِّف الشرائع والأنظمة للدولة الجديدة ويسنُّ القوانين لها. السفر الثاني هو "الفكر"، فكر "الثائر الأحمر"، لكن عبر ابن عمِّه "عبدان"، السارد توسَّل بعبدان؛ ليقوم مقام العقل لحمدان، وهيَّأ لعبدان فرصة التثقيف العقلي في بغداد بنقْله من قرية "الدور" في الكوفة، بعد حادثة القتل التي قام بها حمدان للشرطة الذين أرادوا القبض على عبدان، حين كان يفضَح ابن الحطيم، ويشنِّع بممارساته اللاأخلاقيَّة. وهناك في بغداد يمكث عامين في حلقات العلم، ثم ينتقل إلى حلقات خاصة لجماعات تضمُّ مِللاً ونِحَلاً مشبوهة، كجماعة إخوان الصفاء، ثم يلتقي بجعفر الكرماني الذي ينقله إلى الفكر الباطني عبر جماعة القداحين، ويُعَلِّمه مذهبهم، ويتوسَّل بـ"شهر"؛ للإيقاع به في براثن مذهب "العدل الشامل"، ثم يتولَّى أمْرَ الدعوة في بغداد، ويكون مسؤولاً عن قطاع كبيرٍ من أرباب المِهَن والعامَّة، وينتقل بعدها إلى مركز الدعوة بـ"سلمية"؛ فرارًا مع الكرماني و"شهر"؛ ليتلقَّى الفكر من مَنبعه، ثم ينقله السارد وقد بلَغ درجة "فقيه الدعوة" إلى الكوفة؛ ليساعد حمدان في أمر الدعوة وتكوين الدولة. هذا هو موضوع السفر الثاني بوحداته السردية الخمس، جاء عرضيًّا وتاليًا للسفر الأول الخاص بحمدان، وهو ما يؤكِّد ما ذكرناه من أنَّ السارد وقَع تحت ضغوط عدَّة في تكوين بطله، والتي رأينا أنها شكَّلت لَدَيه عقبة كأْداءَ، ومن ثَمَّ لجأ إلى "الجسر عبدان"؛ ليتجاوز تلك العقبة، ومن ثَمَّ تتكوَّن لدى "المتلقي" صورتان للفكر القرمطي، ولثورة القرامطة ودولتهم التي قادها وأسَّسها "حمدان". • صورة حمدان: النقية - الغيورة على المجتمع - الثائرة ضد الظلم - البسيطة التفكير ...إلخ. • صورة عبدان: الملوث بالفكر الباطني - الممارِس لمساوئ وسلوكيَّات الباطنيين - المنظِّر لهم بما يُعارض الدين...إلخ. إنَّ عبدان هو الجانب المظلِم في شخصيَّة "حمدان"، وهو الجانب المظلم في فِكر الحركة القرمطيَّة، فيما مثَّل "حمدان" الجانب المشرق في هذه الحركة الساعية لرفْع الظلم عن الفقراء، وتوفير الحياة الحرة والعيش الكريم للفلاحين، بعيدًا عن الاضطهاد والاستعباد الذي يمارسه مُلاَّك الأرض وحُماتهم من الولاة، وهو ما فَهِمه حمدان من مبادئها وما وافَق عليه، بعيدًا عن تلك الأفكار التي تسعى لزعزعة العقيدة الدينيَّة والسلوك الإسلامي الذي مثَّله عبدان؛ لإظهار حقيقة المذهب القرمطي، وانحرافه عن الدِّين، هذا كله حقَّق للسارد هدفَه في استثارة تعاطُف "المتلقي" مع البطل في كلِّ مراحله، حتى وهو يسقط بين يدي عبدان "وشهر" و"راجية"، فقد أثارَتْ هذه "الحبكة - الحادثة" عاطفة "الإشفاق" عليه أكثر من إثارة "الكراهية". الخاتمة: بعدما انتهَت رحلتنا مع باكثير في سرديَّته، وصحبناه في صنيعه مع بطله "الثائر الأحمر" "حمدان"، نودُّ الوقوف على ما انتهى إليه ذلك المشوار من نتائج مستنبطة في ضوء مباحث ومنهج الدراسة، والتي يمكن إجمالها فيما يلي: أولاً: تبيَّن من دراسة تكنيك التحول في بناء شخصية البطل، أن السارد قد اعتمَد على عدة مكونات في بناء بطله؛ منها: الذاتي "الجسمي والنفسي"، فقد أعدَّه نفسيًّا وصْفُه لشعوره تُجاه رفْض الظلم والرغبة في التخلُّص منه، أو الصورة الجسميَّة التي كوَّنها له مهيَّأة لتحمُّل أعباء التحول ومُتطلباته، كما كان لا بد من مزْج الذاتي بالموضوعي، فشكَّل جملة من المقومات الواقعيَّة الدوافع الموضعيَّة، المتعلقة بالنظام الإقطاعي وممارساته في زمن السردية، ومُمالأة السلطان وحمايته لهذه الممارسات القمعيَّة والاستغلاليَّة؛ لارتباطه بمصالح معها. ثانيًا: استحوَذ المكوِّن المعرفي على تكنيك التحول؛ إذ إن الفكرَ هو محور دوران حبكة السردية ابتداءً وانتهاءً؛ حيث يتعلَّق الأمر ببناء دولة تقوم على فكرة وأيديولوجيَّة غير سائدة وغير مألوفة، وقد حاوَل السارد جاهدًا تسويغَ بناء التحوُّل المعرفي للبطل، كما حاوَل إقناعنا بتقبُّل ذلك التحول، غير أنه - السارد - نفسه لَم يكن مقتنعًا كليَّةً بإمكانيَّة حدوث ذلك التحول، وأنه لَم يرد للبطل تمثُّل التحول؛ لِمَا يمثِّله ذاك من انفصال بينهما "السارد - البطل"، وهو ما لَم يردَّه السارد؛ إعمالاً لتكنيك التماهي الذي اعتمدَه في التعامل مع بطله حمدان. ثالثًا: يتأكَّد ما سبَق بإسناد المهمة الفكرية في الدولة الجديدة إلى البطل "عبدان"، فيما ظلَّ البطل قائدًا للدولة "يحمل سمات الفارس والجندي" بعيدًا - إلى حدٍّ مقبول - عن لَوْثة الفكر الباطني القرمطي القداحي، الذي تبنَّتْه دولته كأيديولوجيَّة لها، رغم سقوطه - أو إسقاطه - عمليًّا وسلوكيًّا في مَصيدته. المصدر: من أبحاث (مؤتمر علي أحمد باكثير ومكانته الأدبية)، المنعقد بالقاهرة في 18 – 21 جمادى الآخرة 1431هـ، 1 - 4 يونيه (حزيران) 2010م [1] انظر: "روايات علي أحمد باكثير التاريخيَّة "؛ د. أبو بكر البابكري، سلسلة إصدارات جامعة صنعاء لعام 2005م، الكتاب الثقافي رقْم 4 ط 2005م، وممن كتَب عنها د. عبدالعزيز المقالح في كتابه: "قراءة في أدب اليمن المعاصر ". [2] "الثائر الأحمر "، ص4. [3] أو قوله: "إنه ليسأل نفسه أحيانًا: أحرٌّ هو أم رقيق؟ "؛ "الثائر الأحمر "، ص9. [4] "الثائر الأحمر "، ص6. [5] "الثائر الأحمر "، ص45. [6] "الثائر الأحمر "، ص45. [7] "الثائر الأحمر "، ص48. [8] "الثائر الأحمر "، ص8. [9] "الثائر الأحمر "، ص45. [10] "الثائر الأحمر "، ص44. [11] "الثائر الأحمر "، ص5. [12] "الثائر الأحمر "، ص8. [13] تكوَّنت جماعات العيَّارين في العصر العباسي. [14] "الثائر الأحمر "، ص19. [15] "الثائر الأحمر "، ص20. [16] خاصة وأنها بعدُ في السادسة عشرة من عُمرها. [17] "الثائر الأحمر "، ص38. [18] "الثائر الأحمر "، ص39. [19] "الثائر الأحمر "، ص45. [20] "الثائر الأحمر "، ص45. [21] "الثائر الأحمر "، ص47. [22] "الثائر الأحمر "، ص47. [23] "الثائر الأحمر "، ص47. [24] "الثائر الأحمر "، ص48 - 49. [25] "الثائر الأحمر "، ص50. [26] "الثائر الأحمر "، ص52. [27] "الثائر الأحمر "، ص54. [28] "الثائر الأحمر "، ص54. [29] "الثائر الأحمر "، ص55. [30] "الثائر الأحمر "، ص57. [31] "الثائر الأحمر "، ص57. [32] "الثائر الأحمر "، ص57. [33] "الثائر الأحمر "، ص62. [34] "الثائر الأحمر "، ص63. [35] "الثائر الأحمر "، ص63. [36] "الثائر الأحمر "، ص64. [37] "الثائر الأحمر "، ص65. [38] "الثائر الأحمر "، ص63. [39] "الثائر الأحمر "، ص65. [40] "الثائر الأحمر "، ص91. [41] "الثائر الأحمر "، ص163. [42] "الثائر الأحمر "، ص138. [43] "الثائر الأحمر "، ص150. [44] "الثائر الأحمر "، ص148. [45] "الثائر الأحمر "، ص148. [46] "الثائر الأحمر "، ص149. [47] "الثائر الأحمر "، ص147. [48] من خلال "شهر، وراجية". [49] رأينا في هذا التكنيك الْتِصَاق السارد بالبطل، وملازمته له؛ مما مثَّل تماهيًا بين السارد والبطل، فغلَبت سماتُ السارد وأيديولوجيَّته سمات البطل وأيديولوجيَّته.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |