«عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله - الصفحة 47 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         انحراف الفكر مجلبة لسوء العمل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          وسائل صناعة الكراهية بين الثقافات: الاستشراق الصحفي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          الهداية والعقل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          حقوق غير المسلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          مواقيت الصلوات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 292 )           »          الاستصناع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          تخريج حديث: إذا أراد أحدكم أن يتبول فليرتد لبوله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          حديث: حين نزلت آية المتلاعنين: أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          تفسير القرآن الكريم ***متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3104 - عددالزوار : 396197 )           »          الأسماء الحسنى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 14-04-2025, 11:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,318
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله



وهي أصل الكتب التي أُنزِلت على بني إسرائيل وأعظمها، وبها حكم أنبياؤهم، وهي أفضل كتب الله تعالى بعد القرآن الكريم؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44].

﴿ والإنجيل ﴾: هو الكتاب الذي أنزل الله تعالى على عيسى، وهو متمم ومكمل للتوراة، قال تعالى: ﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [آل عمران: 50]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44].

قوله تعالى: ﴿ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾.

قوله ﴿ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ «الواو»: عاطفة، و«رسولًا»: مفعول به لفعل محذوف تقديره: يجعله رسولًا إلى بني إسرائيل.

و«الرسول»: من أُوحِيَ إليه بشرع وأُمِرَ بتبليغه. فعيسى عليه السلام رسول إلى بني اسرائيل، ورسالته مكملة لرسالة موسى عليه السلام.

﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾؛ أي: قائلًا لهم: ﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ أي: أُرسِلت إليكم بآية، أي: بعلامة من ربكم دالة على صدقي.

﴿ قَدْ﴾: للتحقيق، والباء في قوله: ﴿ بِآيَةٍ﴾للملابسة، أي: مقارنة للآية الدالة على صدقي في هذه الرسالة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [الزخرف: 63].

﴿ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ ﴾:قرأ نافع وأبو جعفر بكسر الهمزة: «إِني» على أن الكلام استئناف لبيان « آية »، وقرأ الباقون بفتحها: ﴿ أَنِّي ﴾ على أنه بدل من قوله: ﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ ﴾.

وهذا وما بعده بيان للآية التي جاء بها عيسى عليه السلام بقوله: ﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ .


﴿ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ﴾: قرأ أبو جعفر بالإفراد «كهيئة الطائر»، وقرأ الباقون: ﴿ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ﴾، والطير: اسم يقع غالبًا على الجمع، وقد يقع على الواحد، والكاف بمعنى: مثل، وهي صفة لموصوف محذوف، أي: أخلق لكم شيئًا كهيئة الطير، أي: كصورة الطير.

﴿ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا ﴾: قرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب بالإفراد «فيكون طائرًا»، أي: فيكون طائرًا تشاهدونه يطير، وقرأ الباقون: ﴿ فَيَكُونُ طَيْرًا ﴾، أي: طيرًا حيًّا بعد أن كان صورة على هيئة الطير، والمعنى: فيكون هذا الذي خلقت لكم من الطين على هيئة الطير، ونفخت فيه الروح طيرًا حياًّ يطير بجناحيه؛ لأن القراءتين بمثابة آيتين يُكمل بعضهما بعضًا.

﴿ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ أي: بأمره الكوني الشرعي، فلولا أنَّ الله تعالى قدَّر ذلك كونًا، وأقدر عيسى عليه ما حصل ذلك، ولولا أن الله تعالى أذن لعيسى أن يُصوِّر على هيئة الطير ما فعل ذلك؛ لأن تصوير ذوات الأرواح لا يجوز؛ لما فيه من مضاهاة خلق الله تعالى؛ كما قال تعالى في الحديث القدسي: «ومَن أظلم ممَّن ذهب يَخلق كخَلْقي»[3].

وفي قول عيسى عليه السلام: ﴿ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ إظهار كمال عبوديته لله تعالى، واحتراس من أن يظن أنه يخلق استقلالًا.

﴿ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ﴾: معطوف على ﴿ أَخْلُقُ ﴾، و«أُبرئ» من (البرء) وهو الشفاء، أي: وأشفي، قيل: يبرؤهما بالدعاء.

و﴿ الْأَكْمَهَ ﴾: الذي وُلِدَ أعمى، وقيل: الأعمى مطلقًا.

﴿ وَالْأَبْرَصَ ﴾: من به برص، وهي بقع بيضاء شديدة البياض تظهر على الجلد، وقد تنتشر حتى تعُم الجلد كله، وهو مرض مستقذر.

كما في قصة الثلاثة: الأبرص والأقرع والأعمى: «فجاء الملك للأبرص، فقال له: أي شيء أحب اليك؟ قال: «لون حسن وجلد حسن، قد قذرني الناس»[4].

وخصَّ إبراء الأكمه والأبرص؛ لأنهما أمران مُعضلان أعجزا الأطباء مع كثرتهم في زمنه وحذقهم؛ ولهذا أراهم الله تعالى المعجزة من جنس الطب، وقرن ذلك بالخلق وإحياء الموتى.

﴿ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾: معطوف على ﴿ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ﴾، أي: وأُحيي الذين ماتوا بإذن الله الكوني، و(أل) في «الموتى» للجنس، أي: جنس «الموتى» بأن يقف على أي ميت فيأمره فيحيى، وليس المراد بذلك ميتًا بعينه كما قيل إنه أحيا سام بن نوح أو غيره من أناس بأعيانهم؛ فهذا لا دليل عليه.

﴿ وَأُنَبِّئُكُمْ ﴾ أي: أخبركم.

﴿ بِمَا تَأْكُلُونَ ﴾ «ما»: موصولة، أو مصدرية في الموضعين، أي: بالذي تأكلونه اليوم، أو بأكلكم في يومكم.

﴿ وَمَا تَدَّخِرُونَ ﴾ أي: والذي تدَّخرونه، أو ادخاركم ﴿ فِي بُيُوتِكُمْ ﴾: لغد، أو لما بعده، مما لم أطلع عليه.

وهذا من جملة الآيات التي أعطاها لعيسى؛ لأن هذا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ومن ارتضى من رسله، كما قال تعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ﴾ [الجن: 26، 27].

وكما أن في هذا آية من آيات الله التي منحها الله تعالى لعيسى؛ لأن هذا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله؛ ففي ذلك حض لهم على الأكل والادخار مما أباح الله تعالى لهم، وتحذير مما حرَّمه الله عليهم؛ كما قال عيسى عليه السلام: ﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [آل عمران: 50].

﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ ﴾: الإشارة لما سبق من قوله تعالى: ﴿ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ﴾؛ أي: إن في ذلك المذكور لآية لكم، أي: لعلامة على صدقي فيما جئتكم به من الرسالة تدعو إلى الإيمان بذلك.

﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ أي: إن كنتم مصدقين بآيات الله، منقادين لشرعه؛ ففي ذلك آية لكم؛ لأنه لا ينتفع بالآيات إلا المؤمنون بخلاف أهل العناد والمكابرة، كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 99]، وقال تعالى: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 101].

قوله تعالى: ﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾.

قوله: ﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ﴾ «مصدقًا»: حال، أي: وحال كوني «مصدقًا لما بين يدي من التوراة»، والمصدق: المخبر بصدق غيره، واللام في قوله: ﴿ لِمَا بَيْنَ ﴾: للتقوية، أي: تصديقًا مثبتًا محققًا، والمعنى: ومصدقًا لما تقدم قبلي وسبقني من التوراة، ببيان أنها حق من عند الله، وبكوني مِصداق ما أخبرت به، فأخبرت ببعثته عليه السلام قبل مبعثه، فكان مبعثه مِصداق ما أخبرت به، وأيضًا مصدقًا لها بكون ما جاء به غالبًا موافقًا لِما جاء فيها من أخبار وأحكام.

﴿ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ «الواو»: عاطفة، والجملة معطوفة على قوله: ﴿ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾، و«اللام»: للتعليل؛ أي: ولأجل أن أحل لكم بعض الذي حُرِّم عليكم في التوراة تخفيفًا عنكم، وقال في الآية الأخرى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [الزخرف: 63]، والمحرم عليهم ذكره الله تعالى في قوله: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ [الأنعام: 146]، وقال تعالى: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ﴾ [النساء: 160].

فبسبب بَغيهم وظلمهم، حرَّم الله تعالى عليهم هذه الطيبات، ثم أحل الله تعالى لهم بعضها على لسان عيسى؛ كما قال عليه السلام: ﴿ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾.

و﴿ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ تأكيد لقوله: ﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، وليبني عليه قوله: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾.

﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ أي: اتخذوا وقاية من عذاب الله بفعل ما أمر الله به، وترك ما
نهى الله عنه.

﴿ وَأَطِيعُونِ ﴾: قرأ يعقوب بإثبات ياء المتكلم «وأطيعوني»، وقرأ الباقون بحذفها، و﴿ وَأَطِيعُونِ ﴾ معطوف على ما قبله، أي: وأطيعوني بفعل ما آمركم به، وترك ما أنهاكم عنه.

قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾: أمر عيسى قومه بتقوى الله تعالى وطاعته، ثم بيَّن عِلة أمره لهم بذلك، وهو أن الله عز وجل ربه وربهم، يجب عليهم جميعًا تقواه وطاعته وعبادته وحده.

قوله ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ﴾: هذه الجملة تعليل للأمر بالتقوى والطاعة، أي: لأن الله ربي وربكم، فلكونه ربهم فهو حقيق بأن يتقوه جل وعلا، ولكونه رب عيسى وأرسله يقتضي تقواه وطاعة رسوله.

﴿ فَاعْبُدُوهُ ﴾ «الفاء»: للسببية، أي: فاعبدوه وحده، وفي هذا دلالة على أن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية.

وفيه أيضًا تنبيه وإشارة إلى أن عيسى مع ما أُعطيه من الآيات السابقة؛ فهو كغيره من الخلق مربوب لله تعالى، خاضع، منقاد له؛ ولهذا بدأ عليه السلام بنفسه بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي ﴾.

والعبادة في اللغة: التذلُّل والخضوع لله تعالى، وهي في الشرع: اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة؛ كالصلاة، والزكاة، وبر الوالدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإخلاص لله تعالى، والمحبة في الله تعالى والبغض في الله.. وغير ذلك.

كما تُطلق العبادة على فعل التعبُّد.

﴿ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾: الإشارة إلى ما سبق في قوله: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ﴾، أي: تقوى الله تعالى، وطاعة عيسى عليه السلام، وعبادة الله تعالى هي الصراط المستقيم.

ويُحتمل عود الإشارة إلى أقرب مذكور وهو قوله: ﴿ فَاعْبُدُوهُ ﴾.

﴿ هَذَا صِرَاطٌ ﴾ أي: هذا طريق واسع.

﴿ مُسْتَقِيمٌ ﴾: عدل، لا اعوجاج فيه، يؤدي إلى السعادة في الدنيا والآخرة، وإلى الله - عز وجل - وجنته بأقصر مسافة، وأقل وقت.

[1] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (7/ 65)، والبيهقي في «سننه» (1/ 125).

[2] أخرجه البخاري في «التفسير» تفسير سورة طه (4736)، ومسلم في «القدر» (2652)، وأبو داود في «السنة» (470)، والترمذي في «القدر» (2134)، وابن ماجه في «المقدمة» (80)، وأحمد (2/ 268) (392)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[3] أخرجه البخاري في «اللباس» (5953)، ومسلم في «اللباس والزينة» (2111)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[4] أخرجه البخاري في «أحاديث الأنبياء» (3464)، ومسلم في «الزهد والرقائق» (2964)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 22-04-2025, 05:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,318
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله الله تعالى:﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ... ﴾

قوله الله تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 53، 54].

قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾.

لما ذكر الله - عز وجل - في الآيات السابقة بشارة الملائكة لمريم بعيسى عليه السلام، وما له من المنزلة العظيمة، والقرب من الله تعالى، وما أعطاه الله - عز وجل - من الآيات الشرعية والكونية، وإرساله إلى بني إسرائيل، وتبليغهم آيات الله تعالى، وأمرهم بتقوى الله وطاعته وعبادته وحده، وأن هذا هو الصراط المستقيم - أتبَع ذلك ببيان إطباقهم على الكفر، ولجوء عيسى عليه السلام إلى اختيار الصفوة منهم إعذارًا منه إلى الله تعالى.

قوله: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ ﴾ الفاء: استئنافية، و«لما»: ظرف بمعنى «حين» متضمن معنى الشرط؛ أي: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ ﴾ بعد أن جاءهم بالآيات وبلغهم بالرسالة، وأمرهم بتقوى الله وطاعته وعبادته - عز وجل - وحده.

ومعنى ﴿ أَحَسَّ﴾؛ أي: استشعر وأدرك وسمع وعلم وتيقن.

﴿ مِنْهُمُ ﴾؛ أي: من بني إسرائيل الذين أُرسِل إليهم.

﴿ الْكُفْرَ﴾؛ أي: التصميم على الكفر والجحود والتكذيب بآيات الله، والاستمرار على الضلال؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 96، 97].

﴿ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾؛ أي: قال عيسى لعموم بني إسرائيل.

﴿ مَنْ﴾ للاستفهام؛ أي: (من أنصاري منكم)، وأنصار: جمع «نصير»، والأنصار: «الأعوان».

﴿ إِلَى اللَّهِ﴾؛ أي: في دعوتي إلى الله وطريقي إلى الله تعالى.

والمعنى: أنه عليه السلام لما تيقَّن منهم الكفر وعدم الإيمان لجأ إلى الاختيار وانتخاب الأكْفَاء؛ تأكيدًا للبلاغ وإعذارًا إلى الله تعالى، فقال: ﴿ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾؛ أي: من أنصاري منكم في دعوتي وطريقي إلى الله؟

كما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول في مواسم الحج: «ألا رجل يحملني إلى قومه؛ فإن قريشًا منعوني أن أبلغ كلام ربي»[1]، حتى قيَّض الله تعالى له الأنصار فآوَوه وآزَروه ونصَروه.

وفى قول عيسى عليه السلام: ﴿ إِلَى اللَّهِ ﴾ إشارة إلى أن النصرة ينبغي أن تكون خالصة لله تعالى.

﴿ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ﴾: «الحواريون» جمع «حواريّ» بتشديد الياء، وهو الناصر والصفيّ، أي: قال أنصار عيسى وأصفياؤه وخاصته، قيل: «كانوا اثنى عشر رجلًا»، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم انتدب الناس يوم الأحزاب، فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن لكل نبي حواريًّا، وإن حواريَّ الزبير بن العوام»[2].

وقد غلب اسم الحواريين على أنصار عيسى عليه السلام.

﴿ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ﴾: الجملة مكونة من مبتدأ وخبر، معرّفة الطرفين تفيد الحصر؛ أي: نحن لا غيرنا.

﴿ أَنْصَارُ اللَّهِ ﴾؛ أي: أنصار دينه؛ كما قال تعالى في سورة الصف: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾ [الصف: 14].

﴿ آمَنَّا بِاللَّهِ ﴾؛ أي: صدَّقنا بالله، وأقررنا به، وانقدنا لشرعه.

﴿ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾؛ أي: كُن شهيدًا لنا على أننا مسلمون، ولم يطلبوا الشهادة على إيمانهم بالله لأنه أمر باطن، وإنما استشهدوه على الإسلام؛ لأنه أمر ظاهر، وذلك من باب التوكيد وإعلان الإسلام تقوية لعيسى عليه السلام.

قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾.

قوله: ﴿ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ ﴾؛ أي: يا ربنا صدقنا باطنًا بالذي أنزلت؛ أي: بالإنجيل الذي أنزلت على عيسى- عليه السلام- وبالتوراة التي أنزلت على موسى- عليه السلام- وبجميع الكتب التي أنزلتها على أنبيائك، وبهذا أشهدوا ربَّهم على إيمانهم الباطن بما أنزل على جميع رسله.

﴿ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ ﴾: معطوف على ﴿ آمَنَّا ﴾، و«أل» في ﴿ الرَّسُولَ ﴾ للعهد الذهني، أي: الرسول المعهود عندنا؛ أي: رسولنا عيسى- عليه السلام.

ويحتمل كون «أل» للعهد الذكري؛ لقوله تعالى فيما سبق: ﴿ ورسولًا ﴾.

ويحتمل كونها للجنس؛ أي: جنس الرسل؛ أي: وأقرَرنا بجميع الرسل، واتبعناهم بما جاؤوا به من الدعوة إلى الله، وبهذا أشهدوا ربهم على إيمانهم الظاهر باتباعهم الرسول وانقيادهم له، فجمعوا بين التصديق باطنًا بما أنزَل الله، وبين الاتباع ظاهرًا للرسول، وهو ثمرة الإيمان الباطني.

و﴿ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ الفاء: واقعة في جواب شرط مقدر، و﴿ مَعَ ﴾ للمصاحبة، أي: فاكتبنا مع الشاهدين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولكتبك ورسلك بالصدق والحق؛ كما قال تعالى عنهم في سورة المائدة: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 83]؛ أي: فاكتبنا مع الشاهدين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولكُتبك ورسلك بالحق والصدق؛ كما قال تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18].

وقيل: المراد بـ﴿ الشَّاهِدِينَ ﴾: أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم هم الذين لهم الشهادة المطلقة على جميع الرسل بالبلاغ، وعلى أُممهم بمواقفهم من رسلهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143].

والمعنى على هذا: فاكتبنا مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشرنا به عيسى - عليه السلام - كما قال تعالى عنه: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الصف: 6].

قوله تعالى: ﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾.

قوله: ﴿ وَمَكَرُوا ﴾: الضمير «الواو» يعود إلى الذين كفروا من بني إسرائيل؛ كما قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ ﴾، و«المكر»: هو الكيد والتدبير الخفيّ لإلحاق الضرر بالغير خفية؛ أي: «ومكر بنو إسرائيل وبخاصة اليهود»، أي: كادوا ودبروا بخفية لإنكار رسالة عيسى عليه السلام، وتكذيب دعوته، والكفر بها، ولقتله، فوشَوا به إلى ملكهم، وتمالَؤوا على قتله، ولكن الله أنجاه منهم، فعاد وبال كيدهم عليهم؛ كما قال تعالى: ﴿ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴾ [فاطر: 43]، وقال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [الأنعام: 123]، وقال تعالى: ﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾ [إبراهيم: 46].

ولهذا قال: ﴿ وَمَكَرَ اللَّهُ ﴾، والمكر لا يُضاف ولا يُنسب إلى الله تعالى إلا على سبيل المجازاة للماكرين، كالكيد للكائدين، والاستهزاء بالمستهزئين، والسخرية بالساخرين.. ونحو ذلك، كما قال تعالى: ﴿ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [النمل: 50، 51]؛ أي: ومكر الله بهم، وكاد لهم معاقبةً لهم ومجازاة على مكرهم، فنصر عيسى عليه السلام ومن معه من الحواريين عليهم؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾ [الصف: 14].

ومكر عز وجل بهم فنجَّى عيسى عليه السلام منهم حينما تمالؤوا على قتله، ودخلوا عليه يريدون قتله وهو لم يَشعر بذلك، فألقى الله - عز وجل - شبه عيسى على رجل منهم، بل قيل على زعيمهم، أو على رجل من أصحاب عيسى عليه السلام، فظنُّوه عيسى فقتَلوه وصلبوه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ [النساء: 157].

﴿ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾؛ أي: أقواهم وأشدهم وأعظمهم مكرًا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30]، وقال تعالى: ﴿ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 42]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ﴾ [يونس: 21].

ومن أشد مَكره - عز وجل - بهؤلاء الذين همُّوا بقتل عيسى عليه السلام أن يُلقي سبحانه على رجل منهم أو على زعيمهم شبهَ عيسى عليه السلام، فيظنوه عيسى فيقتلوه ويصلبوه، فعاملهم عز وجل بنقيض قصدهم، وقد قيل: «مَن حفَر حُفرة لأخيه وقع فيها»[3].

[1] أخرجه أحمد (3 /322،339)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

[2] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2847)، ومسلم في فضائل الصحابة (2415)، والترمذي في المناقب (3745)، وابن ماجه في المقدمة (122)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

[3] قيل: كان هذا مكتوبًا في التوراة، روي هذا عن عمرو بن العاص، وعن كعب الأحبار، رواه عنه ابن عباس؛ انظر: «حلية الأولياء» (1 /288)، و«تفسير الثعلبي» (8 /116)، و«تفسير ابن جزي» (2 /177).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 20-05-2025, 02:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,318
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ... ﴾


قوله تعالى:﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 53، 54].

1- شدة عتو بني إسرائيل، فمع ما جاءهم به عيسى عليه السلام من الآيات الشرعية والكونية لم ينجع فيهم ذلك ولم يؤمنوا، بل كفر أكثرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ ﴾.

2- ينبغي للداعية إلى الله تعالى اختيار ذوي الإخلاص والصدق ليكونوا عونًا له في دعوته إلى الله؛ لقوله تعالى: ﴿ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾.

3- التغيير في أسلوب الدعوة أمر مطلوب؛ لأن عيسى عليه السلام لما استعصى عليه إيمانُ كثير من بني إسرائيل وجَّه النداء للمخلصين منهم خاصة.

4- لا ينبغي أن يتطرق اليأس إلى نفس الداعي إلى الله تعالى، فعيسى عليه السلام لما كفر به بنو إسرائيل، وكان يطمع في إيمانهم لم ييئَس، ولم يَثنه ذلك، بل نادى بهم تأكيدًا للبلاغ وإعذارًا إلى الله تعالى قائلًا: ﴿ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾، فأجابه الحواريون: ﴿ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ﴾ الآية.

5- أن الخير لا يُعدم في الناس، فمع كفر أكثر بني إسرائيل آمن فريق منهم وهم الحواريون، وناصروا عيسى عليه السلام.

6- عدم الاغترار بما عليه الكثرة، فالأكثرون ضد الحق والإيمان؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾ [الأنعام: 116]، وقال تعالى: ﴿ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴾ [ص: 24]، وقال تعالى: ﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13].

7- ترغيب المدعوين في نصرة الحق؛ لقول عيسى عليه السلام: ﴿ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾؛ أي: في طريقي إلى الله ونصرة دينه.

8- أن دعوة الرسل عليهم السلام إلى الله وإلى إخلاص العبادة له وحده، والانتصار لدينه، لا لأنفسهم؛ لقول عيسى عليه السلام: ﴿ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾، أي: في طريقي إلى الله ودعوتي إليه.

9- حاجة الرسل إلى النصرة في دعوتهم إلى الله؛ لقول عيسى عليه السلام: ﴿ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾؛ كما قال نوح عليه السلام: ﴿ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ﴾ [القمر: 10]، وقال موسى عليه السلام: ﴿ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ﴾ [طه: 29]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 62].

10- أن نصرة الرسل في دعوتهم نصرة لله تعالى؛ لقول الحواريين: ﴿ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ﴾.

11- فضل الحواريين لمسارعتهم لنصرة دين الله لما دعاهم عيسى لذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ الآية.

12- ينبغي نصرة الحق والداعين إليه من الرسل وغيرهم؛ لأن الله امتدح الحواريين بذلك.

13- إطلاق اسم المسلمين على أتباع عيسى عليه السلام؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾.

وهكذا أتباع جميع الرسل يُسمون بذلك، وبعد بَعثة محمد صلى الله عليه وسلم صار الإسلام علمًا على الدين الذي جاء به، والذي لا يقبل الله من أحدٍ سواه بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم.

14- أن الخلق إنما يشهدون على الظاهر، أما الباطن فأمرُه إلى الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾، ولم يقولوا: بأنَّا مؤمنون.

15- أنه ليس من الرياء أو السمعة أن يقول الإنسان: أنا من أنصار الله، أو أنا مؤمن، أو مسلم، أو متبع للرسول إذا كان ذلك على سبيل إعلان الحق والجهر به ونصرته ونصرة الداعي إليه وتقوية جانبه وعزيمته ورفع معنويته؛ لقول الحواريين: ﴿ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾.

16- التوسل إلى الله - عز وجل - بربويَّته، وبالإيمان بما أنزل، واتباع الرسول؛ لقول الحواريين: ﴿ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾.

17- إثبات ربوبية الله تعالى الخاصة بأوليائه؛ لقوله تعالى ﴿ رَبَّنَا ﴾.

18- أن الإيمان بالله مُقدَّم على غيره من أركان الإيمان والإسلام ؛ لقول الحواريين: ﴿ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾.

19- أن الواجب الإيمان بكل ما أنزل الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ بِمَا أَنْزَلْتَ ﴾.

20- التلازم بين الإيمان بالله تعالى وبما أنزل وبين الإسلام واتباع الرسول بالعمل الصالح؛ لقوله تعالى: ﴿ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ ﴾.

21- عِظم منزلة الشاهدين الذين يشهدون بوحدانية الله تعالى وبالحق والصدق لكُتبه ورُسله؛ لقول الحواريين: ﴿ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾.

22- مكر بني إسرائيل وكيدهم لعيسى عليه السلام ولدعوته، وتَمالُؤهم على قتْله من حيث لا يشعر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَكَرُوا ﴾.

23- مكر الله - عز وجل - بالذين مكروا بعيسى عليه السلام وأنكروا رسالته وردُّوا دعوته وهمُّوا بقتله مُعاقبةً ومجازاةً لهم، وذلك بنصرة عيسى عليه السلام وأتباعه، وإنجائه منهم واستدراجهم، لقوله تعالى: ﴿ وَمَكَرَ اللَّهُ ﴾.

24- مكر الله - عز وجل - بالماكرين مجازاةً ومعاقبةً لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَكَرَ اللَّهُ ﴾، وهو من الصفات الفعلية المتعلقة بالمشيئة.

25- أن الله - عز وجل - خير الماكرين وأقواهم وأشدهم مكرًا بالماكرين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾.

26- أن الله - عز وجل - لا يوصف بالمكر مطلقًا؛ لأن المكر بالإطلاق صفة نقص، وإنما يوصَف به على سبيل المجازاة والمعاقبة للماكرين، وهو بهذا المعنى صفةُ مدح، ولا يقدَح في هذا ما جاء ظاهره الإطلاق؛ كما في قوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 99]، فهو محمولٌ على الوصف المذكور.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 23-06-2025, 03:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,318
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم





تفسير قوله تعالى:
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا... ﴾

قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾[آل عمران: 64 - 68].

قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾.

قوله: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ﴾ الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، و«أهل الكتاب» اليهود والنصارى، وسموا أهل الكتاب؛ لأن الله تعالى أنزل عليهم الكتاب، فأنزل على اليهود «التوراة»، وأنزل على النصارى «الإنجيل»، وبقيت كتبهم إلى أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي تسميتهم أهل الكتاب إشارة إلى أن كونهم أهل كتاب يوجب عليهم قبول الحق وإرشاد الناس إليه لا رده، كما أن في ذلك تعريضًا بقيام الحجة عليهم، وذمهم لما هم عليه من الكفر والشرك وتكذيب رسل الله.

﴿ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ ﴾ ﴿ تَعَالَوْا ﴾؛ أي: هلمُّوا وأقبلوا وائتوا.

﴿ إِلَى كَلِمَةٍ ﴾ هذه الكلمة هي ما بيَّنه الله تعالى بقوله: ﴿ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 64].

فالمراد بقوله هنا: ﴿ إِلَى كَلِمَةٍ ﴾؛ أي: إلى كلام مفيد، لا إلى كلمة مفردة، وهذا كما في قوله تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ﴾ [المؤمنون: 100]،يعني بها قوله قبل هذا: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99، 100]، كما يقال: «كلمة التوحيد»، و«كلمة الشهادة» ويراد بذلك: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «أصدق كلمة قالها شاعر:
ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطل»[1]

﴿ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ﴾ ﴿ سَوَاءٍ ﴾: صفة لـ﴿ كَلِمَةٌ ﴾، أي: كلمة عدل ونَصَفٍ، نستوي نحن وأنتم فيها.

﴿ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ ﴾ هذه الجملة وما عطف عليها بدل من ﴿ كَلِمَةٍ ﴾ بدل كل من كل، فهي بيان وتفسير لـ﴿ كَلِمَةٍ ﴾؛ أي: تعالوا إلى عبادة الله وحده، وعدم الإشراك به، وعدم اتخاذ أرباب من دونه.

و﴿ إِلَّا ﴾ في قوله: ﴿ إِلَّا اللَّهَ ﴾: أداة حصر، أي: ألا نعبد نحن وأنتم إلا الله وحده.

والعبادة في اللغة: التذلل والخضوع لله تعالى، وهي في الشرع: اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة.

﴿ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ﴾ هذه الجملة معطوفة على الجملة قبلها، وهي قوله: ﴿ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ ﴾ ففي الجملة الأولى إفراد العبادة لله تعالى وحده، ومفهومها نفيها عما عداه، وهو ما صرح به في قوله: ﴿ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ﴾.

و﴿ شَيْئًا ﴾: نكرة في سياق النفي، فتعم أيَّ شيء، أي: لا نشرك به شيئًا من الشرك، لا شركًا أصغر ولا شركًا أكبر، ولا شركًا خفيًّا ولا شركًا جليًّا.

والشرك الأكبر الجلي: عبادة غير الله، وطلب الحاجات من الأولياء وأصحاب القبور ونحو ذلك.

والشرك الأصغر والخفي كالرياء، كما قال صلى الله عليه وسلم: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. فسئل عنه فقال: الرياء»[2].

وهو أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء.

وأيضًا: ولا نشرك به شيئًا من الأشياء أيًّا كان، لا وثنًا، ولا صنمًا، ولا صليبًا، ولا نارًا، ولا مَلَكًا، ولا وليًّا، ولا شيئًا غير ذلك.

والمعنى: تعلوا؛ لنفرد العبادة لله تعالى وحده لا شريك له.

﴿ وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ الواو: عاطفة، و«لا»: نافية، ﴿ يَتَّخِذَ ﴾: منصوب عطفًا على ﴿ نَعْبُدَ ﴾، ﴿ بَعْضُنَا ﴾: «بعض» فاعل و«نا» مضاف إليه. ﴿ بَعْضًا ﴾: مفعول أول لـ﴿ يَتَّخِذَ ﴾، و﴿ أَرْبَابًا ﴾: مفعول ثانٍ له؛ أي: ولا يجعل بعضنا البعض الآخر ﴿ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾، وفي التعبير بالبعض إشارة إلى أنهم من جنس واحد، فكيف يكون بعضهم أربابًا لبعض؟!

و﴿ أَرْبَابًا ﴾ جمع «رب» أي: أسيادًا نطيعهم بالتحليل والتحريم من دون الله، كما في قوله تعالى في سورة التوبة: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 31].

ولهذا لما قال عدي بن حاتم: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم؛ قال صلى الله عليه وسلم: «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرِّمونه، ويُحلون ما أحل الله فتحلِّونه؟» قال: نعم، قال: «فتلك عبادتهم»[3].

ففي قوله: ﴿ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ﴾ نفي عبادة غير الله والإشراك به في العبادة.

وفي قوله: ﴿ وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ نفي الإشراك معه في الطاعة والتحليل والتحرير.

وعلى هذا اتفقت جميع الرسالات؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [النحل: 36]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهذه الآية أحيانًا في الركعة الثانية الفجر: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ[4].

﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾ أي: فإن تولى أهل الكتاب وأعرضوا عن هذه الكلمة السواء والدعوة النَصَف.

﴿ فَقُولُوا ﴾ أيها المسلمون لهم: ﴿ اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾، أي: أشهدوهم على استمراركم على الإسلام واعتزازكم به، من غير اكتراث بمن تولى عنه.

كما في قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 1 - 6].

وقد كان صلى الله عليه وسلم يكتب بهذه الآية إلى ملوك أهل الكتاب، فعن ابن عباس- رضي الله عنهما - في حديثه عن أبي سفيان - رضي الله عنه - أن في كتابه صلى الله عليه وسلم لهرقل: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تَسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾»[5].

قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾.

قوله: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ ﴾.

عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: «اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنازعوا عنده؛ فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديًّا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيًّا، فأنزل الله - عز وجل - فيهم: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾، قالت النصارى: كان نصرانيًّا، وقالت اليهود: كان يهوديًّا. فأخبرهم الله أن التوراة والإنجيل إنما أنزلا من بعده، وبعده كانت اليهودية والنصرانية»[6].

قوله: ﴿ لِمَ ﴾: اللام حرف جر، و«ما»: اسم استفهام حذفت ألفها لدخول حرف الجر عليها، كما في قوله تعالى: ﴿ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ﴾ [النبأ: 1].

والاستفهام في قوله: ﴿ لِمَ تُحَاجُّونَ ﴾ للإنكار والتوبيخ؛ أي: لم تجادلون وتنازعون ﴿ فِي إِبْرَاهِيمَ ﴾؛ أي: في دين إبراهيم، فاليهود يقولون: إن إبراهيم كان يهوديًّا، والنصارى يقولون: إن إبراهيم كان نصرانيًّا.

ويدعي كل منهما أنه على دين إبراهيم، تشبثًا من كل منهما بذلك، وترويجًا ودعوة لدينه، وانتقاصًا من كل منهما لما عليه الآخر؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [البقرة: 113].

وأيضًا ليخلص كل منهما - أي: اليهود والنصارى - إلى نفي أن يكون ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو دين إبراهيم عليه السلام.

﴿ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ﴾ الواو: حالية، و«ما»: نافيه، «إلا»: أداة حصر، والضمير في قوله: ﴿ مِنْ بَعْدِهِ ﴾ يعود إلى إبراهيم، أي: والحال أنه ما أنزلت التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى إلا من بعد إبراهيم، فكيف تحاجون أيها اليهود وتقولون: إن إبراهيم كان يهوديًّا، وكيف تحاجون أيها النصارى، وتقولون: إنه كان نصرانيًّا- علمًا أن التوراة والإنجيل ما أنزلتا إلا من بعده؟!

وقد قيل: إن بين إبراهيم وموسى نحو ستمائة إلى ألف سنة، كما أن بين موسى وعيسى على ما قيل نحو ألفي سنة، وقيل غير ذلك.

وكيف تحاجون وتقولون: إنكم على دين إبراهيم علمًا أن اليهود منكم شريعتهم التوراة، والنصارى شريعتهم الإنجيل، وإبراهيم سابق لنزولهما، فدينه غيرهما، كما قال تعالى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48].

وكيف تحاجون وتنكرون أن دين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو دين إبراهيم عليه السلام؟!

﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ الهمزة للاستفهام، ومعناه الإنكار والتوبيخ، والفاء: عاطفة، والجملة معطوفة على مقدر، أي: أغفلتم فلا تعقلون. أي: أفلا يكون لكم عقول تعقلون بها ما تحاجون به، وفي هذا تسفيه لهم، ووصف لهم بالحمق والجهل؛ لأن المنفي هنا عقل الرشد الذي هو مناط المدح والذي يحمل صاحبه على حسن التصرف والتدبير في الأعمال والأقوال والأموال، وجميع الأحوال، وليس المراد به عقل الإدراك الذي هو مناط التكليف، فهذا موجود عندهم، ولولاه ما كلفوا، كما قال صلى الله عليه وسلم: «رُفِعَ القلم عن ثلاث: النائم حتى يستيقظ، والصغير حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق»[7].

قوله تعالى: ﴿ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾.

قوله: ﴿ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ ﴾ «ها» في الموضعين للتنبيه، و«أنتم» ضمير فصل في محل رفع مبتدأ، و«أولاء» اسم إشارة للقريب، في محل نصب على النداء، والتقدير: ها أنتم يا هؤلاء، أي: هب أنكم يا هؤلاء.

﴿ حَاجَجْتُمْ ﴾ الجملة: في محل رفع خبر المبتدأ، أي: جادلتم وخاصمتم ونازعتم، ﴿ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ «ما»: موصولة، أي: في الذي لكم به علم، وهو الذي أنتم عليه من الدين والذي في كتبكم وعليه أنبياؤكم.

﴿ فَلِمَ تُحَاجُّونَ ﴾ الفاء: عاطفة، والاستفهام للإنكار والتوبيخ، أي: فلم تجادلون وتحاجون ﴿ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ «ما»: موصولة- كسابقتها- أي: في الذي ليس لكم به علم، وهو أمر إبراهيم وما كان عليه من الدين مما لم يذكر في كتبكم.

والمعنى: كان الأجدر بكم أن تحاجوا في الذي تعلمون، وهو ما أنتم عليه من الدين وما في كتبكم وما عليه أنبياؤكم، دون الذي لا تعلمون من دين إبراهيم عليه السلام.

﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ﴾ الواو: استئنافية، أي: والله ذو علم مستمر دائم، يعلم كل شيء على الدوام، مما كان عليه إبراهيم من الدين وغير ذلك، وقد أخبر عز وجل أن إبراهيم كان على ملة الإسلام، وهي الحنيفية السمحة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى في الآية بعد هذه الآية: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾، وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 123].

﴿ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ الواو: عاطفة، أي: وأنتم جهلة لا تعلمون شيئًا؛ ولهذا تحاجون بلا علم.

فوصفهم أولًا بالسفه والحمق وعدم العقل، ووصفهم ثانيًا بالجهل وعدم العلم وواحد من هذين الوصفين كافٍ في الذم فكيف إذا اجتمعا، فلا حكمة ولا علم، فهذا غاية الذم.

قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾.

أنكر عز وجل في الآيتين السابقتين على اليهود والنصارى محاجتهم في إبراهيم- وذلك بزعم كل منهما أن إبراهيم كان على دينهم- علمًا أن التوراة والإنجيل لم تنزل إلا من بعده، مبينًا سفههم وعدم رشدهم، ومجادلتهم بما لا علم لهم به، ثم بيَّن في هذه الآية براءة إبراهيم من اليهود والنصارى، وأنه كان حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين.

قوله: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا ﴾«ما»: نافية، أي: ما كان إبراهيم يهوديًّا على دين اليهود، كما يزعمون.

﴿ وَلَا نَصْرَانِيًّا ﴾ أي: ولا كان نصرانيًّا على دين النصارى - كما يزعمون - وكرَّر النفي بـ«لا» للتأكيد.

﴿ وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا ﴾ «لكن»: استدراك؛ لبيان ما كان عليه- عليه السلام.

﴿ حَنِيفًا ﴾ «الحنف» في اللغة: الميل، فمعنى ﴿ حَنِيفًا ﴾ أي: مائلًا عن الشرك ثابتًا على التوحيد. ﴿ مُسْلِمًا ﴾: مستسلمًا منقادًا لأمر الله ظاهرًا وباطنًا.

﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ الواو: عاطفة، و«ما»: نافية، أي: وما كان من المشركين الذين يعبدون الأصنام. وفي هذا تأكيد لقوله: ﴿ حَنِيفًا ﴾ ونفي لقول المشركين: إنهم على ملة إبراهيم، وتعريض بأن أهل الكتاب مشركون؛ لقولهم: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله. وهذه الآية كقوله تعالى في سورة البقرة: ﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [البقرة: 135]، وقوله تعالى في سورة النحل: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 120]، وقوله تعالى عن إبراهيم أنه قال: ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 79].

قوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.

هذا ردٌّ على محاجة أهل الكتاب في إبراهيم وزعمهم أنهم على دين إبراهيم وإنكارهم أن يكون ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم على ملة إبراهيم. فبيَّن عز وجل أن أولى الناس به عليه السلام هم الذين اتبعوه ومحمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه.

قوله: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ ﴾ ﴿ أَوْلَى ﴾: اسم تفضيل، أي: أشد الناس ولاية بإبراهيم أي: أحق الناس بإبراهيم وأخصهم به وأقربهم منه، سواء كان هؤلاء الناس من أهل الكتاب أو من المشركين أو من المسلمين؛ حيث إن كلًّا من هؤلاء الأصناف يقول: إنه على دين إبراهيم؛ أي: إن أحق الناس بإبراهيم الذين هم على دينه وملته.

﴿ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ﴾: خبر «إنَّ»، واللام تفيد التوكيد، فالجملة مؤكدة بـ«إنَّ» واللام أي: للذين اتبعوه على ما كان عليه من الدين في حياته.

﴿ وَهَذَا النَّبِيُّ ﴾: معطوف على قوله: ﴿ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ﴾ من عطف الخاص على العام، والإشارة لخاتم الأنبياء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾ معطوف على ما قبله، أي: والذين آمنوا من أصحابه صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، ومن بعدهم من المؤمنين.

وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أولى الناس بإبراهيم؛ لأنهم على ملته الحنيفية ملة الإسلام، كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 123].

﴿ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي: والله ولي المؤمنين كلهم: إبراهيم والذين اتبعوه ومحمد والذين آمنوا، أي: والله ولي المؤمنين كلهم ولاية خاصة، يحفظهم وينصرهم ويرزقهم ويوفقهم ويهديهم إلى صراطه المستقيم في الدنيا وإلى جنات النعيم في الآخرة.

قال تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 257]، وقال تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [يونس: 62 - 64].

[1] أخرجه البخاري في المناقب (3841)، ومسلم في الشعر (2256)، وابن ماجه في الأدب (3757)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[2] أخرجه أحمد (5/ 429)، من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه.

[3] أخرجه الترمذي (395)، والطبري في «جامع البيان» (11/ 417-418)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (6/ 1784)، والبيهقي في «سننه» (10/ 116)، وانظر: «تيسير العزيز الحميد» ص(551).

[4] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (727)، والنسائي في الافتتاح (944)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

[5] أخرجه البخاري في بدء الوحي (7)، ومسلم في الجهاد والسير (1773).

[6] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (5/ 481)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (5/ 384)، وانظر: «سيرة ابن هشام» (1/ 553).

[7] أخرجه أبوداود في الحدود (4398)، والنسائي في الطلاق (3432)، وابن ماجه في الطلاق (2041)، من حديث عائشة رضي الله عنها.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 30-06-2025, 12:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,318
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم





فوائد وأحكام من قوله تعالى:

﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا... ﴾




قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 64 - 68].

1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ﴾ الآية؛ ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يكتب إلى الملوك بهذه الآية.

2- شدة عناد أهل الكتاب، ومعالجة القرآن لهم بشتى الأساليب والوسائل، ولم ينجع ذلك فيهم.

3- وسطية القرآن في دعوته أهل الكتاب فلم يكلفهم شططًا، بل دعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده ونبذ الشرك والأرباب من دون الله؛ لقوله تعالى:﴿ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾.

4- تنزل القرآن في دعوته أهل الكتاب؛ لقوله تعالى: ﴿ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ ﴾ بضمير الجمع، وكذا قوله: ﴿ وَلَا نُشْرِكَ ﴾، وقوله: ﴿ وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ ولم يقل: «ألا تعبدوا إلا الله» «ولا تشركوا» «ولا تتخذوا أربابًا من دون الله».

ووجه ذلك أن ضمير الجمع مشعر بكون الفريقين كل منهما يعبد غير الله ويشرك به ويتخذ أربابًا من دون الله، والحقيقة أن الذي يفعل ذلك هم المدعوون أهل الكتاب.

5- قيام القرآن والإسلام على التوحيد والوسطية والعدل.

6- يجب العدل في المناظرة حتى مع العدو، ويحسن التنازل للخصم لإلزامه الحق، وإقامة الحجة عليه.

7- اتفاق الرسل والرسالات على الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك؛ لقوله تعالى: ﴿ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ﴾.

8- أنه كما يجب إفراد الله تعالى بالتوحيد والعبادة يجب إفراده بالطاعة والحكم والتحليل والتحريم، وعدم اتخاذ أرباب من دونه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾.

9- التعريض بذم أهل الكتاب وغيرهم من المشركين؛ لما هم عليه من الشرك وعبادة غير الله واتخاذ الأرباب من دونه؛ لقوله تعالى: ﴿ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾، وقوله تعالى عن إبراهيم: ﴿ وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾.

10- التلازم بين إفراد الله تعالى بالعبادة دون شريك وبين تحكيم شرعه وطاعته وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر، فمن لازم توحيد الله تعالى في العبادة طاعته واتباع شرعه، ومن لازم طاعته واتباع شرعه توحيده في العبادة.

11- وجوب إظهار الحق والتمسك به وإشهاره، وعدم الاكتراث بمن تولى عنه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾.

12- وجوب اعتزاز المسلم بدينه إعلاءً للحق وإظهارًا له، وإغاظة لأعداء الدين وخصومه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾.

13- يجب ألا يتأثر ولا يكترث من كان على الحق بمن يتولون عنه مهما كثروا، وعليه أن يتمسك بالحق، فالحق أحق أن يتبع.

14- تصدير الخطاب بالنداء للتنبيه والاهتمام؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ﴾.

15- الإنكار على أهل الكتاب وتوبيخهم في محاجتهم في إبراهيم وما هو عليه من الدين، وزعم كل من اليهود والنصارى أنه على دينهم أو أنهم على دينه؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ﴾.

16- فضل إبراهيم عليه السلام، وعلو شأنه ومنزلته بين الأمم، فكل من المسلمين واليهود والنصارى بل والمشركون يقول: إنه على دينهم أو إنهم على دينه.

17- إثبات علو الله على خلقه، وإنزاله التوراة والإنجيل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ﴾.

18- إبطال زعم كل من اليهود والنصارى أن إبراهيم كان على دينهم أو أنهم كانوا على دينه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.

19- أن إبراهيم عليه السلام كان قبل نزول التوراة والإنجيل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾ الآية.

20- سفه أهل الكتاب وعدم رشدهم، لمحاجتهم بما لا يقبله العقل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، وكما قال تعالى في سورة البقرة: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44]، وكما قال تعالى في وصف أهل جهنم: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].

21- لا ينبغي إهمال العقل في الاستدلال؛ لأن العقل الصريح يوافق النقل الصحيح.

22- التنزُّل مع الخصم لإقامة الحجة عليه؛ لقوله تعالى: ﴿ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾؛ أي: لو فرض أن محاجتكم كانت فيما لكم به علم وقبلت منكم، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم، مما لا يمكن قبوله، وهذا على سبيل الفرض، وإلا فإن من يحاج لإبطال الحق ورده لا يمكن أن تكون محاجته عن علم، بل العلم حقًّا مع خصمه صاحب الحق.

23- جواز المحاجة بعلم إذا كانت لإظهار الحق، وبالتي هي أحسن، فإن كانت لإظهار الباطل لم تجز.

24- الإنكار على أهل الكتاب وذمهم لمحاجتهم فيما ليس لهم به علم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾.

25- عدم جواز المحاجة بغير علم وأنها مذمومة حتى لو كانت لإحقاق الحق وإبطال الباطل، فإن كانت لإبطال الحق وإظهار الباطل فهي أشد حرمة وذمًا، كما في دعوى أهل الكتاب أنهم هم الذين على دين إبراهيم، وإنكارهم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم على ملة إبراهيم.

26- إثبات العلم لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾ أي: إنه - عز وجل - ذو علم واسع، مستمر دائم، ولا يخفى عليه شيء.

27- نفي العلم عن أهل الكتاب المحاجين في إبراهيم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾.

28- جمع أهل الكتاب بين الاعتراض على النقل وتكذيبه، وإغفال العقل وإهماله، والجهل وعدم العلم.

29- يجب رد العلم إلى الله تعالى وطلبه منه، فهو ذو العلم سبحانه، يؤتي العلم والحكمة من يشاء.

30- الإشارة إلى أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الإسلام هو دين إبراهيم عليه السلام، وهو ما صرح به بعد ذلك.

31- تبرئة إبراهيم عليه السلام من اليهود والنصارى، وما هم عليه من الدين، وتكذيبهم في دعواهم، هم والمشركون أنه منهم؛ لقوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾.

32- إثبات أن دين إبراهيم عليه السلام هو الحنيفية السمحة ملة الإسلام؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾.

33- ثناء الله - عز وجل - على إبراهيم عليه السلام؛ لجمعه بين توحيد الله تعالى، والاستسلام والانقياد له ظاهرًا وباطنًا، والبراءة من الشرك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾.

34- أنه لابد في التوحيد من إثبات العبادة لله وحده ونفيها عما سواه، والاستسلام لله ظاهرًا وباطنًا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾.

35- أن أحق الناس بالولاية لإبراهيم والانتساب لملته هم الذين اتبعوه من بني إسرائيل ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من أمته؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ﴾، ومفهوم هذا التعريض بعدم إيمان أهل الكتاب.

36- إثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته؛ لقوله تعالى: ﴿ وَهَذَا النَّبِيُّ ﴾.

37- تشريف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقربه من ربه؛ لأن الله تعالى أشار إليه بإشارة القريب بقوله تعالى: ﴿ وَهَذَا النَّبِيُّ﴾.

38- فضل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأمته حيث كانوا أولى بإبراهيم عليه السلام من بين سائر الأمم.

39- إبطال قول كل من اليهود والنصارى أنهم أولى بإبراهيم، بعد تبرئته منهم ومن دينهم؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ ﴾ الآية.

40- إثبات ولاية الله تعالى الخاصة للمؤمنين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

41- الترغيب في الإيمان والازدياد منه؛ لأنه سبب لولاية الله تعالى، وكلما كان إيمان العبد أقوى كانت ولاية الله له أعظم.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 08-07-2025, 12:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,318
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

تفسير قوله تعالى:

﴿ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [آل عمران: 69 - 74].

قوله تعالى: ﴿ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾.

ذكر الله - عز وجل - في الآيات السابقة محاجَّة أهل الكتاب في إبراهيم، وزعْمهم أنه على دينهم، وأنهم على دينه، وأنه أَولى به من محمد صلى الله عليه وسلم وأُمته، وردَّ عليهم وأبطَل زعمهم، وبيَّن أن إبراهيم كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين، ثم بيَّن في هذه الآية السبب الذي يحملهم على هذه المحاجة بالباطل، وهو ما توده طائفةٌ منهم من إضلال المؤمنين، فبيَّن في الآيات السابقة ضلالهم، ثم بيَّن كونهم دعاة إلى الضلالة.

قوله: ﴿ وَدَّتْ ﴾، أي: أحبت وتمنت. ﴿ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ «من» للتبعيض، أي: جماعة من بعض أهل الكتاب، وهم رؤساء يهود وأحبارهم.

﴿ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ﴾ «لو»: مصدرية بمعنى «أن» أي: أن يضلوكم، والتقدير: ودت إضلالكم.

ومعنى ﴿ يُضِلُّونَكُمْ﴾ الإضلال الإتاهة والإبعاد عن الحق، والضلال: التيه والبُعد عن الحق، أي: ودوا إضلالكم: عن الهدى، وإبعادكم عن الحق، وإرجاعكم إلى دينهم، حسدًا منهم، كما قال تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ [البقرة: 109].

وقال تعالى: ﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ﴾ [النساء: 89]، وقال تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120].

﴿ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ﴾ الواو: حالية، و«ما»: نافية، أي: والحال أنهم ما يضلون إلا أنفسهم، و«إلا»: أداة حصر، أي: وما يضلون بمودتهم إضلالكم إلا أنفسهم، ولن يضركم ذلك أيها المؤمنون، فمودتهم إضلالكم إنما هي إضلال لأنفسهم وإهلاك لها في الحال والمآل.

أما في الحال فإن مودتهم إضلالكم هي ضلال أوقعوا فيه أنفسهم وأشغلوها به عن طلب هدايتها، وأما في المآل فإن وبال ذلك وعقوبته عليهم لا على غيرهم.

﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ الجملة في محل نصب معطوفة على الحال السابقة، والشعور هو إدراك الشيء بإحدى الحواس الخمس، ونفي الشعور معناه عدمه، وإذا انتفى الشعور والإدراك بالحواس انتفى العلم من باب أَولى.

فالمعنى: وما يعلمون أنهم بهذا العمل إنما يضلون أنفسهم.

قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.

ذكر الله - عز وجل - في الآيات السابقة محاجة أهل الكتاب في إبراهيم معرِّضًا بما هم عليه من الشرك وعبادة غير الله، واتخاذ الأنداد، والسفه وعدم العلم ومودتهم إضلال المؤمنين، وهم في الحقيقة لا يضلون إلا أنفسهم، ثم أنكر عليهم ووبَّخهم في هاتين الآيتين على كفرهم بآيات الله مع شهادتهم، ولبسهم الحق بالباطل مع علمهم.

قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ التفات إلى خطاب أهل الكتاب، والاستفهام للإنكار، وإعادة ندائهم بقوله: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ﴾ ثانية لتوبيخهم وتسجيل باطلهم عليهم؛ أي: لم تكفرون وتكذبون بآيات الله الشرعية في القرآن الكريم، وفي كتبكم الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

﴿ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ الواو: حالية، أي: والحال أنكم تشهدون، أي: تعلمون صحتها وصدقها بشهادة كتبكم بذلك، وعبَّر عن العلم بالشهادة ولم يقل: «وأنتم تعلمون»؛ لأن الشهادة أقوى؛ لأنها تقتضي أن يكون العالم كالمشاهد للشيء بحسه، والمشاهدة بالحس أقوى من العلم، وفي الحديث: «ليس الخبر كالعيان»[1].

قال ابن القيم[2]: «يعني: تكفرون بالقرآن، وبمن جاء به، وأنتم تشهدون بصحته وبأنه الحق، فكفركم كفر عناد وجحود عن علم وشهود، لا عن جهل وجفاء».

قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.

قوله: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ : الاستفهام كسابقه للإنكار والتوبيخ، و«اللبس» بمعنى: الخلط والستر، أي: لم تخلطون وتسترون الحق بالباطل.

و«الحق»: الأمر الثابت، وهو ما جاءت به الرسل، ودلَّت عليه الآيات الشرعية والكونية.

و«الباطل»: الشيء الزائل المضمحل الزاهق؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81].

قال لبيد[3]:
ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطلٌ
وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ




فأنكَر عز وجل عليهم أولًا كفرهم بآيات الله، ثم أنكر عليهم مخادعتهم في هذا الكفر بخلطهم الحق وستره بالباطل.

ومن ذلك: تحريف ما جاء من الحق في كتبهم، وتكذيب ما أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإظهار الإسلام وإبطان الكفر، فيضمون للباطل شيئًا من الحق ويتكلمون بعبارات تحتمل الحق والباطل تمويهًا على الناس ومخادعة لهم؛ لأنهم لو تكلموا بالباطل صراحًا لافتُضِحوا وما قُبِل منهم.

وما مثلهم في لبسهم الحق بالباطل إلا كما ذُكر أن رجلًا مَرَّ بشخصين كفيفين مستندين في ظل جدار يقول أحدهما للآخر: يا فلان، الصدق ما يصلح دائمًا، والكذب ما يصلح دائمًا. فقال له الآخر: لماذا؟ فقال: لأنك إن صدقت دائمًا نفد ما عندك، وإن كذبت دائمًا لم تُصدَّق.

﴿ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ ﴾: معطوف على ﴿ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ ﴾؛ أي: وتخفون الحق، وهو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل عليه وما جاء في كتبكم من نعته صلى الله عليه وسلم والبشارة به، كما قال تعالى: ﴿ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [الصف: 6]، فجمعوا بين خلط الحق بالباطل، وكتمان الحق، وبهذا أظهروا الباطل.

﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أي: والحال أنكم تعلمون، أي: تعلمون الحق وتعرفونه؛ كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146].

قوله تعالى: ﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾.

ذكر الله تعالى في الآيتين السابقتين، محاولتهم الإضلال وكفرهم مجاهرة، ثم ذكر في هذه الآية محاولتهم الإضلال وكفرهم مخادعة.

قوله: ﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾؛ أي: جماعة منهم ﴿ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا ﴾؛ أي: صدقوا بالقرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أي: صدِّقوا بذلك ظاهرًا واعملوا به، نفاقًا منهم؛ لأنهم لا يؤمنون بذلك حقيقة.

﴿ وَجْهَ النَّهَارِ ﴾ أي: أول النهار، لمقابلته بقوله: ﴿ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ ﴾ أي: واكفروا آخر النهار؛ أي: واكفروا بالذي أنزل عليهم آخر النهار.

﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ الضمير يعود إلى الذين آمنوا، أي: رجاء أن يرجعوا عن دينهم، أو لأجل أن يرجعوا عن دينهم، وهذه مكيدة منهم؛ ليقال عنهم حينما يؤمنون به أول النهار ويكفرون آخره أنهم كفروا عن بصيرة وتجربة، فلولا أنه مخالف للكتب السابقة ما كفروا به بعد الإيمان.

قال ابن كثير[4]: «هذه مكيدة أرادوها؛ ليلبسوا على الضعفاء من الناس أمر دينهم، وهو أنهم اشتَوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار، ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم؛ ليقول الجهلة من الناس: إنما ردهم إلى دينهم اطلاعهم على نقيصة وعيب في دين المسلمين، ولهذا قالوا: ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾».

وأنَّى لهم أن يرجع المؤمنون عن دينهم بعد أن ذاقوا حلاوة الإيمان، فحال المؤمن حقًّا كما قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله، كما يكره أن يقذف في النار»[5].

وكما في حديث هرقل حين سأل أبا سفيان: «هل يرجع أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، قال: فكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد»[6].

قوله تعالى: ﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾.

قوله: ﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ هذا من قول الطائفة من أهل الكتاب، فهو معطوف على قوله: ﴿ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا ﴾؛ أي: ولا تصدقوا إلا للذي تبع دينكم، كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ [يوسف: 17]، وقوله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 61]؛ أي: ويصدق للمؤمنين.

وقوله: ﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ هذا من باب الاحتراس بعد قولهم مخادعة: ﴿ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ ﴾؛ أي: ولا تؤمنوا إيمانًا حقًّا، ولا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم نبيًّا كان أو غيره.

أو: ولا تظهروا الإيمان بالذي أنزل عليهم وجه النهار والكفر آخره إلا لمن تبع دينكم، أي: لأجل الحفاظ على أتباعكم وبقائهم على دينهم.

أو: ولا تطمئنوا وتظهروا سرَّكم وما أردتم من المكر والخديعة بالإيمان أول النهار والكفر آخره من إرجاع المسلمين عن دينهم إلا لمن تبِع دينكم، أو: ولا تظهروا ما بأيديكم من العلم للمسلمين فيؤمنوا به ويحتجوا به عليكم.

﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ﴾ هذه الجملة معترضة بين قولهم: ﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ وقولهم: ﴿ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ﴾ الغرض منها المبادرة بما يفيد ضلالهم؛ لأن الله حرَمهم التوفيق؛ أي: قل لهم: إن التوفيق إلى الهدى بيد الله، والهدى هداه - عز وجل - كما قال تعالى في سورة البقرة: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120].

والغرض منها تيئيس أهل الكتاب، أي: مهما عملتم من المكر لصد المؤمنين وإرجاعهم عن دين الله وإضلالهم فلن تستطيعوا، فالله سبحانه وتعالى هو الموفق والهادي، وهداه هو الهدى حقًّا، وهو الإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، لا ما أنتم عليه وما تدعون إليه.

﴿ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ﴾ هذه الجملة من كلام الطائفة من أهل الكتاب، فهي متعلقة بقوله: ﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ قرأ ابن كثير «أأن» بزيادة همزة الاستفهام.

وهذه الجملة ﴿ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ﴾ يحتمل أن يكون تعليلًا لقولهم قبله: ﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ بقصد تثبيت أنفسهم على دينهم. فيكون التقدير: لئلا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، كما في قوله تعالى: ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ﴾ [النساء: 176]؛ أي: لئلا تضلوا.

ويحتمل أن يكون هذا إنكارًا منهم أن يؤتى أحد النبوة كما أوتيها أنبياء بني إسرائيل، فيكون الكلام استفهامًا إنكاريًّا حذفت منه همزة الاستفهام لدلالة السياق، ويؤيده قراءة ابن كثير: «أأن يؤتى».

فالمعنى: لا تؤمنوا ولا تصدقوا أن يُؤتى أحدٌ مثل ما أُوتيتم من النبوة والفضائل، أي: لا يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم من ذلك.

﴿ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ ﴾ «أو»: للتقسيم، وهي عاطفة، فالجملة معطوفة على قوله: ﴿ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ﴾، وهي على التقديرين السابقين تحتمل التعليل؛ أي: ولئلا يحاجوكم عند ربكم، أو الاستفهام الإنكاري والنفي، أي: كيف يحاجوكم عند ربكم، أي: لا حجة لهم عليكم عند ربكم، أي: ولا تؤمنوا ولا تصدِّقوا أن يحاجوكم عند ربكم؛ لأنكم أكرم على الله منهم بما فضلكم عليهم.

والذي حملهم على هذا كله هو الحسد أن تكون النبوة في غيرهم، وإرادةُ أن يُتَّبَعوا على دينهم.

قال السعدي[7]: «يعني أن الذي حملهم على هذه الأفعال المنكرة الحسد والبغي وخشية الاحتجاج عليهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ [البقرة: 109].

﴿ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ هذا مع قوله بعده: ﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ كقوله: ﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ﴾، ففي هذا بيان أن الهدى هو هدى الله، وبيده سبحانه، وفي قوله: ﴿ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ ﴾ الآية، وقوله: ﴿ خْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ الآية، بيان أن الفضل بيده يخص به من يشاء، وفي هذا وذاك رد على أهل الكتاب، وتيئيس لهم أن يمنعوا هدى الله وفضله عن المؤمنين.

قوله: ﴿ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ ﴾؛ أي: قل لهم يا محمد ﴿ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ ﴾؛ أي: الخير كله بيد الله - عز وجل - كما قال صلى الله عليه وسلم: «والخير كله في يديك»[8]، فبيده - عز وجل - الفضل والخير كله، وبيده ومنه التفضل والزيادة والإحسان بالنعم الدينية والدنيوية والأخروية.

﴿ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾؛ أي: يعطيه من يشاء من عباده، وفي هذا إبطال وتكذيب لأهل الكتاب في قولهم لبعضهم: ﴿ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ﴾.

﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ ﴾؛ أي: والله ذو سعة في جميع صفاته، فهو - عز وجل - واسع الملك واسع الكرسي، واسع العلم، واسع الحكمة، واسع المغفرة، واسع الرحمة، واسع الحلم، واسع العفو، واسع القدرة، واسع الفضل والغنى والإحسان والجود والعطاء، واسع الإحاطة، واسع جميع الصفات.

﴿ عَلِيمٌ ﴾ أي: ذو علم واسع بكل شيء. يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون.

علمه - عز وجل - محيط بالأشياء كلها في أطوارها الثلاثة، قبل الوجود، وبعد الوجود، وبعد العدم، كما قال موسى - عليه السلام - لما سئل عن القرون الأولى قال: ﴿ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ﴾ [طه: 52].

قوله تعالى: ﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾.

قوله: ﴿ يَخْتَصُّ﴾ أي: يخص.

﴿ بِرَحْمَتِهِ ﴾؛ أي: برحمته الفعلية الخاصة بأوليائه، ومن ذلك ما خص الله تعالى هذه الأمة من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن ودين الإسلام، وما يخص به أولياءه من توفيقهم وهدايتهم في الدنيا إلى الإيمان، وفي الآخرة إلى الجنان.

﴿ مَنْ يَشَاءُ ﴾ «من»: اسم موصول في محل نصب مفعول به، أي: يخص الذي يشاء، أي: الذي يريد كونًا ممن هو أهل لرحمته الخاصة- بعلمه - عز وجل - وحكمته، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ﴾ [الأنعام: 124]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [الإنسان: 30].

ويجوز كون «من» الموصولة في محل رفع فاعل، ويكون المعنى: والله ينفرد برحمته من يشاؤه، والمعنيان متلازمان، فمن اختصه الله برحمته انفرد بها.

﴿ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ ﴾ أي: صاحب الفضل، أي: التفضل والزيادة والإحسان، بلا استحقاق من المتفضَّل عليه ﴿ الْعَظِيمِ﴾ الواسع الكثير، الذي لا أعظم ولا أوسع ولا أكثر من فضله، ولا يقدر عظمة فضله إلا هو سبحانه.

[1] أخرجه أحمد (1/ 215)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

[2] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 500).

[3] انظر: «ديوانه» ص(256).

[4] في «تفسيره» (2/ 48-49).

[5] أخرجه البخاري في الإيمان (16)، ومسلم في الإيمان (43)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (4987)، والترمذي في الإيمان (2624)، وابن ماجه في الفتن (4033)، من حديث أنس رضي الله عنه.

[6] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2941)، ومسلم في الجهاد والسير- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل (1773)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

[7] في «تيسير الكريم الرحمن» (1/ 392).

[8] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (771)، وأبو داود في الصلاة (760)، والنسائي في الافتتاح (897)، والترمذي في الدعوات (3422)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 14-07-2025, 12:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,318
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



فوائد وأحكام من قوله تعالى:

﴿ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [آل عمران: 69 - 74].

1- منة الله تعالى على هذه الأمة بفضح أعدائها من أهل الكتاب وبيان مكرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ﴾ الآيتين.

2- شدة عداوة أهل الكتاب للمسلمين ومودتهم إضلالهم بغيًا منهم وحسدًا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 109].

3- علِم الله - سبحانه وتعالى - بما تنطوي عليه القلوب وما تكنه الضمائر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَدَّتْ طَائِفَةٌ ﴾، والمودة محلها القلب.

4- وجوب الحذر من أهل الكتاب وخداعهم ومكرهم؛ لأنهم يودون إضلال المسلمين وصدهم عن دينهم، وأن يتبعوهم، كما قال تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120].

5- أن ما عليه أهل الكتاب، وما يودونه من إضلال المؤمنين هو إضلال لأنفسهم، ووبال ذلك وعقوبته عليهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾، وفي هذا تثبيت لقلوب المؤمنين وطمأنة لهم.

6- أن الجزاء من جنس العمل، وكما يدين المرء يدان، ومن حفر لأخيه حفرة وقع فيها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ﴾.

7- عدم شعور أهل الضلال والإضلال بأنهم إنما يضلون أنفسهم بسبب انطماس بصائرهم وعمى قلوبهم، فيرون الضلال هدى، والباطل حقًا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، وصدق الله العظيم: ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [فاطر: 8].

8- الإنكار الشديد على أهل الكتاب وتوبيخهم على كفرهم بآيات الله، وهم يشهدون؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾.

9- أن كفر أهل الكتاب وبخاصة اليهود لم يكن عن جهل بل عن علم وشهادة؛ ولهذا شدد النكير عليهم.

10- كفر أهل الكتاب بآيات الله كلها حتى لو ادَّعوا الإيمان بما جاء في كتبهم؛ لأن كفرهم بالقرآن كفر بما جاء في كتبهم؛ لأنها مبشرة بالقرآن.

11- مخادعة أهل الكتاب ولبسهم الحق بالباطل تمويهًا على الناس، وإنكار الله عليهم وتوبيخه لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ﴾.

فيخلطون مع الباطل بعض الحق، ويُلبسون الباطل ثوب الحق، ويتكلمون بما ظاهره الحق وهم يبطنون الباطل.

12- أن الناس بفطرهم السليمة يقبلون الحق، ويرفضون الباطل، ولهذا يُلبِّس عليهم هؤلاء بإلباس الباطل ثوب الحق.

13- الإنكار على أهل الكتاب في كتمانهم الحق وهم يعلمونه، ومن ذلك كتمانهم ما في كتبهم من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.

14- أن كتمان الحق مع العلم به أشد وأشنع.

15- ينبغي الحذر من خداع أهل الكتاب ومكرهم وتمويههم، ومن مسالكهم من لبس الحق بالباطل وكتمان الحق مع العلم به.

16- كيد أهل الكتاب للمسلمين لصدهم عن دينهم وإخراجهم منه بشتى الحيل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾.

17- إقرار أهل الكتاب بأن الله أنزل آيات على الذين آمنوا؛ لقولهم: ﴿ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا ﴾.

18- أن في أهل الكتاب منافقين؛ لقولهم: ﴿ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ ﴾؛ أي: آمنوا ظاهرًا ونفاقًا، وليس مقصودهم الإيمان، إذ لو كان مقصدهم الإيمان الحق ما أمروهم بالكفر آخر النهار.

19- تعصب أهل الكتاب لدينهم مع ضلالهم وبطلان ما هم عليه؛ لقولهم: ﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾.

20- أن التوفيق إلى الهدى بيد الله، وأن الهدى هداه- سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ﴾.

فمهما حاول أهل الكتاب وغيرهم إرجاع المؤمنين عن دينهم وصد الناس عن الإسلام فلن يستطيعوا ذلك.

21- حسد أهل الكتاب لغيرهم وإعجابهم بأنفسهم وتكبرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ﴾؛ كما قال تعالى عنهم: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 54].

22- إيمان أهل الكتاب بربوبية الله تعالى، وبالبعث والحساب والتخاصم عند الله؛ لقولهم: ﴿ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ ﴾.

23- أن الفضل بيد الله والعطاء منه – سبحانه - يعطي من يشاء من عباده، لا راد لفضله؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾.

24- إثبات اليد لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ بِيَدِ اللَّهِ ﴾ وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله - عز وجل - يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها»[1].

25- إثبات الأفعال الاختيارية لله - عز وجل - المتعلقة بالمشيئة، كالإيتاء والعطاء والمنع، والبسط والقبض، والرضا والغضب، ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾.

26- إثبات المشيئة لله تعالى، وهي الإرادة الكونية؛ لقوله تعالى: ﴿ مَنْ يَشَاءُ ﴾.

27- إثبات صفة الواسع لله - عز وجل - فهو - عز وجل - واسع الصفات كلها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ ﴾.

28- إثبات صفة العلم الواسع لله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ عَلِيمٌ ﴾.

29- أن الله - عز وجل - يختص برحمته الخاصة مَن يشاء؛ لقوله تعالى: ﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾.

ومن ذلك ما خصَّ الله تعالى به محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمته من بعثته منهم، وإنزال القرآن الكريم عليه، ودين الإسلام، كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الجمعة: 4].

30- أن الله - عز وجل - يعطي مَن يشاء بفضله، ويمنع من يشاء بعدله.

31- أن الله - عز وجل - ذو الفضل العظيم، لا يقدر عظم فضله إلا هو، وهو العظيم سبحانه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾.

[1] أخرجه مسلم في التوبة (2759).






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 22-07-2025, 11:32 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,318
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله تعالى:

﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 75 - 80].

قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾.

ذكر عز وجل في الآيات السابقة مودة طائفة من أهل الكتاب إضلال المؤمنين، وخيانتهم في الأمور الدينية من لبسهم الحق بالباطل، وكتمانهم الحق وكفرهم، ثم أتبع ذلك في ذكر خيانتهم في تعاملهم في الأمور الدنيوية استمرارًا بفضحهم، وبيان دخائلهم.

قوله: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ الواو: استئنافية، ﴿ مِنْ ﴾: تبعيضية.

﴿ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ ﴾ «مَن»: موصولة، أي: الذي إن تأمنه، و﴿ إِنْ ﴾: شرطية، و﴿ تَأْمَنْهُ ﴾: فعل الشرط، والخطاب في قوله: ﴿ تَأْمَنْهُ ﴾ لكل من يصلح خطابه، ﴿ بِقِنْطَارٍ ﴾: أي: على قنطار، فالباء بمعنى: «على»؛ كقوله تعالى: ﴿ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ ﴾ [يوسف: 11]، وقوله تعالى: ﴿ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ﴾ [يوسف: 64]، و(القنطار): المال الكثير.

﴿ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾: قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر: «يؤدِّهْ» بإسكان الهاء، وقرأ الباقون بكسرها: ﴿ يُؤَدِّهِ ﴾.

و﴿ يُؤَدِّهِ ﴾: جواب شرط مجزوم بحذف حرف العلة الياء؛ لأن أصله «يؤديه».

أي: يرده إليك من غير خيانة، كما في الحديث: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تَخُن من خانك»[1].

والمعنى: ومن أهل الكتاب من هو أمين إن أمنته على مالٍ كثير مهما كثر يؤدهِ إليك كاملًا من غير نقص ولا مماطلة، أي: هذه حال فريق منهم، وإذا كان لا ينقص من المال الكثير شيء مع أنه لو أخذ منه الشيء القليل لا يتبين، فأمانته على المال القليل أولى وأحرى.

﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾؛ أي: ومِن أهل الكتاب من هو خائن، وهو الذي إن تأمنه بدينار لا يؤدهِ إليك، أي: الذي إن أمِنته على مالٍ قليل مهما قلَّ ولو كان دينارًا واحدًا لا يؤدهِ إليك، أي: هذه حال فريق منهم.

و(الدينار): هو الوحدة من النقد الذهبي، وهو المسمى بـ «الجنيه»، وأصله «دِنَّا» ووزنه أربعة وعشرون قيراطًا، والقيراط ثلاث حبات شعير معتدلة، فالمجموع اثنتان وسبعون شعيرة.

﴿ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾ أي: لا يرده إليك.

﴿ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ﴾ «إلا»: أداة استثناء، والاستثناء هنا مفرع من أعم الأوقات أو الأحوال، أي: لا يؤده إليك في وقتٍ من الأوقات، أو في حالٍ من الأحوال إلا في وقت دوام قيامك عليه، أو في حال قيامك عليه بالمطالبة والملازمة والإلحاح في استخلاص حقك.

وإذا كان هذا صنيعه في القليل كالدينار ونحوه، ففي الكثير من باب أولى وأحرى.

وقدَّم الجار والمجرور ﴿ عَلَيْهِ ﴾ على متعلقه ﴿ قَائِمًا ﴾ للتأكيد، أي: إذا لم يكن قيامك عليه لم يرجع لك أمانتك.

وذكر القنطار والدينار من باب التمثيل فقط، فمثَّل للمال الكثير بالقنطار، ومثَّل للمال القليل بالدينار.

وقد قيل: «المأمون على الكثير هم النصارى؛ لأن الخيانة فيهم قليلة، والخائن في القليل هم اليهود؛ لأن الغالب عليهم الخيانة».

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا ﴾ «ذلك»: إشارة إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله: ﴿ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾.

﴿ بِأَنَّهُمْ ﴾ الباء: للسببية، أي: بسبب أنهم.

وضمير الجمع في «أنهم» يعود إلى معنى «مَن» في قوله: ﴿ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ ﴾؛ أي: إن ترك هذا الفريق للأداء وخيانتهم الأمانة بسبب أنهم ﴿ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾؛ أي: بسبب قولهم: ﴿ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾.

ويعنون بالأُميين «العرب»؛ لأنهم لا يقرؤون ولا يكتبون، كما وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2]؛ يعني في العرب.

وكما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ﴾ [الأعراف: 157]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 48].

وقال صلى الله عليه وسلم: «نحن أمة أمية لا نكتُب ولا نحسب»[2].

والأُمِّي الذي لا يقرأ ولا يكتب؛ كما قال تعالى عن أهل الكتاب: ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾ [البقرة: 78].

﴿ سَبِيلٌ ﴾: حرج أو مؤاخذة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 91]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 93].

والمعنى: ليس علينا في ديننا في معاملة العرب، ومَن ليس من أهل الكتاب حرج ولا مؤاخذة في أكل أموالهم وأخذ حقوقهم وظلمهم، فيرون إعجابًا منهم بأنفسهم، واحتقارًا لغيرهم أن مَن سواهم لا حُرمة لهم، وقد أكذبهم الله تعالى في هذا المقال.

﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾، الجملة: مستأنفة، أي: ويفترون على الله الكذب بقولهم: ﴿ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾؛ لأنهم ينسبون ذلك إلى الله تعالى وإلى دينه، أي: ليس علينا في ديننا، وفيما جاء في كتبنا وعلى ألسنة رسلنا.

﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ الواو: حالية، أي: والحال أنهم يعلمون أنهم يكذبون فيتعمدون الكذب على الله تعالى، وفي الحديث: «إن يهود قوم بُهت»[3].

فجمعوا بين الخيانة وبين احتقار غيرهم، وبين الكذب على الله تعالى وهم يعلمون ذلك، كما قال الله تعالى عنهم: ﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 80]، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 24].

قوله تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾.

﴿ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ ﴾ «بلى»: حرف جواب مختص بإبطال النفي، فهو هنا لإبطال ما نفوه بقولهم: ﴿ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾ وإثبات ضده، أي: بلى عليهم سبيل في الأُميين فلا يجوز لهم أكل أموالهم وظلمهم وأخذ حقوقهم.

و﴿ مَنْ ﴾: شرطية، ﴿ أَوْفَى ﴾: فعل الشرط، وجوابه: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾، و﴿ أَوْفَى ﴾ فيها ثلاث لغات: «أوفى» بإثبات الهمزة، و«وفَّى» بحذف الهمزة مع تخفيف الفاء وتشديدها، كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 37].

وجملة: ﴿ مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ ﴾: استئنافية مقررة للجملة التي دلَّت عليها ﴿ بَلَى ﴾؛ حيث أفادت بمفهومها المخالف ذم من لم يفِ بالعهود مطلقًا.

﴿ بِعَهْدِهِ ﴾: يُحتمل أن يعود الضمير في ﴿ بِعَهْدِهِ ﴾ إلى الله؛ لقوله قبله: ﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ؛ أي: بلى من أوفى بعهد الله، ويُحتمل أن يعود على ﴿ مَنْ ﴾؛ أي: بلى من أوفى بعهده الذي عاهد عليه.

أي: أتم عهد الله الذي عاهده عليه من الإيمان بالله وكتبه ورسله وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وامتثل ما أمر الله تعالى به من أداء الأمانة وغير ذلك، وأتم ما بينه وبين الخلق من عهود وعقود، وهي أيضًا مما أوجب الله الوفاء به، وقد قال الله تعالى: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ [البقرة: 40].

﴿ وَاتَّقَى ﴾ أي: واتقى الله في البعد عما نهى الله تعالى عنه من نقض العهود والأيمان، ونكثها، والخيانة.. وغير ذلك.

﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾: جواب الشرط «من»، وربط الفاء؛ لأنه جملة إسمية، أي: فإن الله يحب المتقين الذين اتقوه بفعل أوامره واجتناب نواهيه، والوفاء بعهده وعدم نقضه.

وأظهر في موضع الإضمار، ولم يقل: «فإن الله يحبه»، بل قال: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾؛ لبيان علة الحكم؛ أي: يحبهم لتقواهم، وليعم هذا الحكم كل من اتقى فإن الله يحبه، إضافة إلى ما في الإظهار مقام الإضمار من تنبيه المخاطب.

قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.

سبب النزول:
عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين وهو فيها فاجرٌ؛ ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لَقِيَ الله وهو عليه غضبان»، فقال الأشعث بن قيس: فيَّ والله كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألك بينة»؟ قلت: لا، فقال لليهودي: «احلف» قلت: يا رسول الله، إذن يحلف فيذهب مالي، فأنزل الله - عز وجل -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ الآية»[4].

وعن عبدالله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - أن رجلًا أقام سلعة في السوق، فحلف بالله، لقد أعطي بها ما لم يعط؛ ليوقع فيها رجلًا من المسلمين، فنزلت: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ الآية»[5].

امتدح الله سبحانه وتعالى من أوفى بعهده واتقى الله، وبيَّن محبته للمتقين، ثم أتبع ذلك بذم ووعيد الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا في إشارة إلى أهل الكتاب؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ﴾، وهكذا كل من سلك طريقهم.

قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾؛ أي: إن الذين يعتاضون ويستبدلون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا، والعهد: الميثاق والعقد.

و«عهد الله»: ما أخذه عليهم من الميثاق من الإيمان به، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه، وبيان ما عندهم من العلم في كتبهم في ذلك، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187]، وقال تعالى: ﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾ [البقرة: 41].

وأيضًا ما بينهم وبين الخلق من عهود وعقود؛ فهي من عهد الله؛ لأن الله تعالى أوجب الوفاء بها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 91].

﴿ وَأَيْمَانِهِمْ ﴾: معطوف على «عهد الله»، أي: ويشترون بأيمانهم، و«الأيمان» جمع (يمين) وهو الحلف، أي: ويأخذون بحلفهم وأيمانهم الكاذبة الفاجرة ثمنًا قليلًا.

والمعنى: إن الذين يعتاضون بعهد الله وبأيمانهم عوضًا زهيدًا من المال وحطام الدنيا ومتاعها الزائل، فينقضون عهد الله، وينكثون في أيمانهم، ويحلفون الأيمان الكاذبة من أجل ذلك، فيدَّعون ما ليس لهم ويحلفون على ذلك، وينكرون ما يجب عليهم ويحلفون على ذلك.

﴿ أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ﴾ «أولئك»: خبر «إنَّ» في قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ﴾، والإشارة فيها إلى الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا.

و«الخلاق»: الحظ والنصيب؛ كما قال تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 200، 201].

فقابل عز وجل بين قوله: ﴿ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾ وقوله: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ﴾ [البقرة: 202]، فدل على أن (الخلاق) هو النصيب.

والمعنى: أولئك الذين يشترون بعهدهم وأيمانهم ثمنًا قليلًا لا حظ ولا نصيب لهم في ثواب الدار الآخرة ونعيمها، وهذا يدل على كفرهم بسبب هذا العمل؛ لأنه لا يُنفى نصيب الآخرة إلا عمن كان كافرًا.

﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ﴾، هذا معطوف على قوله: ﴿ أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ﴾.

ونفي تكليم الله تعالى لهم في الآخرة ونظره إليهم، وتزكيته لهم هو من أعظم نصيب الآخرة الذي حرموه، ونصَّ عليه والله أعلم؛ لبيان عِظَم ما حُرِمُوه.

﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ ﴾؛ أي: لا يكلمهم الله تعالى تكليم لُطف بهم ورضا عنهم، وبما يَسُرُّهم، كما في تكليم الله - عز وجل - للمؤمنين، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله - عز وجل - يُدْنِي الْـمُؤْمِنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ»[6]، فيقرره بذنوبه، ويقول: أتذكر ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقول عز وجل: «إِنِّي سَتَرْتهَا عَلَيْك فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرهَا لَك الْيَوْم»[7].

وعن صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ قال: يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟...» الحديث[8].

أما تكليم الله - عز وجل - لهؤلاء المذكورين وغيرهم من الكفار تكليم سخط وإهانة وتقريع وتوبيخ لهم، وبما يسوؤهم، فهو ثابت كما في قوله تعالى مخاطبًا أهل النار: ﴿ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴾ [المؤمنون: 108]، وغير ذلك.

﴿ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾: قرأ حمزة بضم الهاء «إليهُم»، وقرأ الباقون بكسرها، أي: ولا ينظر إليهم نظر رحمة ورأفة.

﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ أي: يوم البعث والمعاد والحساب والجزاء، وسُمِّي يوم القيامة لقيام الناس فيه من قبورهم لرب العالمين، كما قال الله تعالى في سورة المطففين: ﴿ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ *لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المطففين: 4 - 6]، ولقيام الحساب فيه، كما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 41].

ولقيام الأشهاد فيه، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51].

ولقيام العدل والقسط فيه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، والله تعالى لا ينظر إليهم نظر رحمة ورأفة لا في الدنيا ولا يوم القيامة، لكن حرمانهم من ذلك يوم القيامة أعظم عليهم؛ لشدة أهوال ذلك اليوم وكرباته وعذابه.

﴿ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ﴾؛ أي: ولا يطهرهم مما تلبَسُّوا به من رجس الكفر ودنس المعاصي والذنوب، ولا يغفر لهم يوم القيامة، كما أنه لا يطهرهم في الدنيا بسبب كفرهم وعدم إيمانهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأنعام: 110].

﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾: وهو عذاب النار، والعذاب: النكال والعقوبة.

﴿ أَلِيمٌ ﴾: على وزن «فعيل» بمعنى «مفعل»، أي: مؤلم موجِع حسيًّا ومعنويًّا، فرتب الله تعالى على هذا الفعل- وهو الشراء بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا - خمس عقوبات.

وهي: حرمانهم من أي نصيب في الآخرة، ومن تكليم الله لهم تكليم رضا، ومن نظر الله لهم نظر رحمة ورأفة وعطف، ومن تزكية الله لهم، مع توعدهم بالعذاب الأليم.

فهؤلاء وإن نالوا باستبدالهم بعهد الله وأيمانهم قليلًا من حطام الدنيا ومتاعها الحقير الفاني، فقد حرموا نصيب الآخرة التي هي دار الحياة الحقة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 28-07-2025, 11:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,318
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



فوائد وأحكام من قوله تعالى:

﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 75-80].

1- أن من أهل الكتاب من هو أمين، لو ائتمَن على مال مهما كثر أدَّاه كاملًا من غير نقص، وأن منهم من هو خائن لو اُؤتِمن على أقل القليل من المال لم يؤدِّه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ﴾.

2- إنصاف القرآن لأهل الكتاب، وبيانه أن منهم من هو أمين لو اُئتِمن على مالٍ مهما كثر أدَّاه كاملًا ولم يُنقِص منه شيئًا، وذمِّهِ لفريق منهم وهم الخونة.

3- أن من كان أمينًا عل المال الكثير لا يُنقِص منه شيئًا مع كثرته التي قد لا يظهر معها النقص القليل، فهو من باب أولى أمين على المال القليل الذي يظهر فيه أدنى نقص منه.

4- أن مَن لم يكن أمينًا على المال القليل الذي يظهر أدنى نقص منه فهو من باب أَولى لا يؤمن على المال الكثير الذي قد لا يظهر النقص القليل منه.

5- جواز التعامل مع أهل الكتاب. وقد توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من الشعير[1].

6- ينبغي الحذر في التعامل مع أهل الكتاب؛ لأن منهم من طُبِع على الخيانة وعدم الأمانة؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ﴾.

وهكذا كل من يخشى خيانته ينبغي مراقبته، والقيام عليه حِفظًا للأموال والحقوق.

كما يجب الحذر منهم أشدَّ فيما يتعلق بمسؤوليات المسلمين ومصالحهم العامة، فلا يجوز الاعتماد عليهم في شيءٍ منها، ولا الثقة بهم؛ لأنهم حرب للإسلام وأعداء للمسلمين منذ عهد الرسالة، مهما أظهروا خلاف ذلك، قال تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 109]، وقال تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51].

ولهذا رُوِيَ أن أبا موسى الأشعري - رضي الله عنه - وكان واليًا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، كتب إلى عمر في تولية كاتب نصراني في بيت المال، فكتب له عمر - رضي الله عنه - بعزله، وقال له: كيف تأمن من خوَّنه الله؟! فكتب له أبو موسى في شأنه مرة ثانية، وأثنى بمعرفته الكتابة والحساب وأنه لا يوجد مثله، ونحو ذلك، فكتب عمر - رضي الله عنه - بطاقة لم يزد فيها على قوله: «مات النصراني.. والسلام»[2]؛ أي: افترض أن النصراني مات، هل يتعطل بيت المال أو يتعطل شأن الدولة الإسلامية؟! بمعنى أن المسلمين في غِنىً عنه، فرضى الله عنك يا عمر وأرضاك.

7- تكبَّر أهل لكتاب وإعجابهم بأنفسهم واحتقارهم لغيرهم؛ لقولهم: ﴿ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾.

8- أن العجب والتكبر قد يحمل على أذية الآخرين واحتقارهم وغمط حقوقهم؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الكبر بطرُ الحق، وغمطُ الناس»[3]؛ أي: احتقارهم.

9- جرأة أهل الكتاب على الكذب على الله وهم يعلمون؛ حيث يقولون: ﴿ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ؛ أي: إن الله أباح لنا شرعًا استباحة أموال الأُميين وظلمهم، وهذا كذب على الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾.

10- أن من حَكَم أو أفتى بغير ما أنزل الله، ونسَب ذلك إلى حُكم الله وشرعه فقد كذب على الله تعالى، وفيه شبه من أهل الكتاب.

11- أن من كذب على الله تعالى وهو يعلم؛ أشد عدوانًا وإثمًا ممن لا يعلم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾؛ أي: وهم يعلمون أنهم يكذبون ويتعمَّدون ذلك.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»[4]، والكذب على الله أشد وأعظم.

12- إبطال دعوى أهل الكتاب أنه ليس عليهم في الأُميين سبيل، لقوله تعالى: ﴿ بلى ﴾، أي: بلى عليهم سبيل ومُحاسبون في الاعتداء على الأُميين وعلى غيرهم.

13- الترغيب في الوفاء بالعهد، والثناء على أهله، وأنه من التقوى؛ لقوله تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى ﴾.

14- الترغيب في تقوى الله، وأنها سببٌ لمحبة الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾.

15- أن خيانة الأمانة وعدم أدائها نقض للعهد ومنافٍ لتقوى الله.

16- إثبات صفة المحبة لله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾، وكما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 54].

17- ذم أهل الكتاب وبخاصة أحبارهم وعلمائهم؛ لأخذهم بعهد الله وأيمانهم عِوضًا قليلًا، واستبدال الآخرة بالدنيا؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾.

وذلك أن الكلام معهم والسياق فيهم، وكما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187].

18- تهديد الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا من أهل الكتاب وغيرهم ووعيدهم بأشد العقوبات؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.

فرتَّب على فعلهم هذا خمس عقوبات، كل منها في غاية الشدة، وهي:
حرمانهم من أي نصيب في الآخرة، ومِن تكليم الله تعالى لهم تكليم لطف ورضا، ومن نظر الله تعالى لهم نظر رحمة ورأفة، ومن تزكيته لهم، مع توعدهم بالعذاب الأليم.

وكل واحدة من هذه العقوبات تدل على كفرهم؛ لأنه لا يستحقها إلا من كان كافرًا.

19- التحذير من نقض عهد الله، والكذب في الأيمان، والاشتراء بها ثمنًا قليلًا، والتحذير لهذه الأمة وبخاصة علمائها من مسالك أهل الكتاب السيئة.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين هو فيها فاجرٌ يقتطع بها مال امرئٍ مسلم بغير حق، لَقِيَ الله وهو عليه غضبان»[5].

وعن أبي ذرٍ رضي الله عنه: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليم»، قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرارًا. قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال «المسبل، والمنان، والمنفِّق سلعته بالحلف الكاذب»[6].

20- يُفهم من قوله تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ الآية: أن من وفوا بعهد الله ولم يشتروا بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا أن لهم نصيبًا في الآخرة، ويكلمهم الله وينظر إليهم يوم القيامة، ويزكيهم، ويقيهم العذاب الأليم، ولهم الثواب العظيم.

21- أن الحظ والنصيب حقًّا ما كان في الآخرة؛ لأنها هي دار الحياة الحقيقية كما قال تعالى: ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت: 64]، ولهذا قال: ﴿ أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ، ولم يقل: في الدنيا؛ لأن نصيب الدنيا مهما كان لا يساوي شيئًا بالنسبة للآخرة.

22- إثبات الدار الآخرة والقيامة؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾.

23- إثبات الكلام لله تعالى لأن نفي تكليمه لمن اشتروا بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا يدل بمفهومه على ثبوت تكليمه لمن وفَّوْا ولم يشتروا بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا؛ لأنه - عز وجل - لو لم يكن يتكلم ويكلم هؤلاء ما كان لنفي تكليمه عن المذكورين فائدة، وما كان ذلك عقوبة لهم.

24- إثبات النظر لله - عز وجل - لأن نفي نظره تعالى إلى المذكورين يوم القيامة بقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ يدل بمفهومه على نظره إلى من كانوا بخلافهم.

25- عدم تزكية الله لهؤلاء المذكورين وعدم تطهيره لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ﴾، ومفهوم هذا تزكيته - عز وجل - لمن كانوا بخلافهم.

26- شدة عذاب المذكورين يوم القيامة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾: أي: مؤلم حسيًّا ومعنويًّا.

27- أن العقوبات منها ما هو منع وحرمان من الخير كحرمان نصيب الآخرة والحرمان من تكليم الله تعالى ومن نظره وتزكيته، ومنها ما هو جلب شر وخزي كالعذاب الأليم.

28- أن مِن أهل الكتاب فريقًا يلوون ألسنتهم بتحريف ألفاظ الكتاب ومعانيه؛ ليظهر أن هذا المحرف من الكتاب، ويقولون هو من عند الله لإضلال الناس؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾.

29- نفي أن يكون ما لوى به أهل الكتاب ألسنتهم وحرفوه من الكتاب، وأن يكون من عند الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ ﴾، وقوله: ﴿ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾.

30- كذب أهل الكتاب وافتراؤهم على الله تعالى وهم يعلمون؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾.

31- الوعيد والتهديد لأهل الكتاب لكذبهم على الله وهم يعلمون؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وهو وعيدٌ لهم ولمن سلك طريقهم في الكذب على الله، ولبس الحق بالباطل.

32- أن الكذب على الله مع العلم والتعمُّد أشد ذنبًا ووعيدًا من الكذب بلا علم ولا تعمد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.

33- النفي القاطع أن يدعو أحد ممن مَنَّ الله عليه بإعطائه الكتاب والحكم والنبوة إلى عبادة نفسه وطاعته من دون الله، وأن هذا لا يمكن أن يكون لا شرعًا ولا قدرًا؛ لقوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾.

34- أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بشرٌ من سائر البشر.

35- أن النبي من أُنزِلَ عليه الكتاب والوحي، وأُعطِيَ الحكم الشرعي بين الناس، والنبوة؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ﴾.

36- أن الأنبياء عليهم السلام إنما يأمرون بطاعة الرب - عز وجل - وعبادته؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ﴾.

37- ينبغي أن يكون من يُعَلِّم الناس مُعَلِّمًا ربانيًا، يقرن بين التعليم، والتربية على العمل؛ لأن ثمرة العلم هي العمل والتربِّي به؛ لقوله تعالى: ﴿ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ﴾.

38- إثبات الأسباب؛ لقوله تعالى: ﴿ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾.

39- أن علم الكتاب وتعليمه ومُدارسته له الأثر في كون صاحبه ربانيًا عابدًا لله مطيعًا له، مربيًا الناس على ذلك.

40- استحالة أن يدعو أحد من الأنبياء عليهم السلام إلى الإشراك بالله واتخاذ الملائكة والنبيين آلهة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا ﴾.

41- الرد على المشركين من أهل الكتاب وغيرهم في اتخاذهم الملائكة والنبيين وغيرهم أربابًا من دون الله.

42- إثبات وجود الملائكة؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ ﴾، والإيمان بهم ركن من أركان الإيمان الستة.

43- أن من قال للناس كونوا عبادًا لي من دون الله، وأمرهم باتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا، فقد أمر بالكفر الـمُخرِج مِن الملة؛ لقوله تعالى: ﴿ أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.

[1] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2916)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[2] انظر: «الكشاف» (1/ 344).

[3] أخرجه مسلم في الإيمان (91)، والترمذي في البر والصلة (1999)، من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.

[4] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3461)، والترمذي في العلم (2669)، من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.

[5] أخرجه البخاري في الخصومات؛ كلام الخصوم بعضهم في بعض (2417)، ومسلم في الإيمان، وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار (138)، وأبو داود في الأيمان والنذور (3243)، والترمذي في البيوع (1269)، وابن ماجه في الأحكام (2323)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

[6] أخرجه مسلم في الإيمان (106)، وأبو داود في اللباس (4087)، والنسائي في الزكاة (2563)، والترمذي في البيوع (1211)، وابن ماجه في التجارات (2208).







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 05-08-2025, 11:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,318
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




تفسير قوله تعالى:

﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ...َ ﴾


قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [آل عمران: 81 - 83].

قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾.

قوله: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ ﴾ الواو: استئنافية، ﴿ وَإِذْ ﴾: ظرف بمعنى «حين»، متعلق بمحذوف تقديره «اذكر»، أي: اذكر يا محمد حين أخذ الله ميثاق النبيين، اذكره بنفسك ولأمتك ولأهل الكتاب، و«الميثاق»: العهد المؤكد، وسُمِّيَ العهد ميثاقًا لأن كلًا من المتعاهدين يتوثق به مع الآخر، كالوثاق وهو الحبل الذي يُشد به.

والمراد بـ﴿ النَّبِيِّينَ ﴾: ما يشمل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وميثاق النبيين ميثاق على أممهم.

﴿ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ﴾: فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب.

قرأ حمزة بكسر اللام «لـِما»، وقرأ الباقون بفتحها: ﴿ لَمَا ﴾، وقرأ نافع وأبو جعفر بنون العظمة ﴿ آتَيْناكُمْ ﴾، وقرأ الباقون بتاء المتكلم ﴿ آتَيْتُكُمْ ﴾.

واللام في قوله «لِـما» على قراءة فتح اللام: موطئة للقسم؛ لأن أخذ الميثاق في معنى اليمين، ويجوز كون اللام للابتداء، و«ما»: شرطية أو موصولة، أي: للذي آتيتكم.

أو لمهما آتيتكم من كتاب وحكمة، أي: لمهما أعطيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به، ولتنصرنه، ولا يمنعكم ما أوتيتم من علم الكتاب والحكمة من ذلك.

وعلى قراءة كسر اللام تكون اللام للتعليل، و«ما»: مصدرية، أي: من أجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة، ولمجيء رسول مصدِّق لما معكم لتؤمنن به.

ويجوز كون «ما»: موصولة، أي: لأجل الذي آتيتكم، ولمجيء رسول مصدق، أي: شكرًا على إيتائي إياكم أو على الذي آتيتكم وعلى أن بعثت رسولًا مصدقًا لما معكم لتؤمنن به.

﴿ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ﴾ «مِن»: تبعيضية، أي: بعض الكتاب والحكمة، وقيل: بيانية.

وقوله: ﴿ كِتَابٍ ﴾: كالتوراة والإنجيل.

﴿ وَحِكْمَةٍ ﴾ الحكمة: الشريعة، والحكم بها بين الناس.

﴿ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ ﴾ يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم.

ويحتمل أن يشمل قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ﴾ محمدًا صلى الله عليه وسلم وغيره من الرسل - عليهم السلام - بأن أخذ الله الميثاق على النبيين جميعًا بأن يؤمن المتقدم منهم بمن يأتي بعده ويُناصره، ويصدق بعضهم بعضًا[1].

وقوله: ﴿ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ ﴾؛ أي: مصدق لما معكم من كتب الله تعالى؛ كالتوراة والإنجيل وغيرهما، ببيان أنها حق من عند الله تعالى، وذلك باشتماله على ما يشهد بصدقها، وبكونه مصداق ما أخبرت به؛ حيث أخبرت هذه الكتب ببعثته صلى الله عليه وسلم؛ كما قال عيسى بن مريم عليه السلام: ﴿ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الصف: 6]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].

فكانت بَعثته الله صلى الله عليه وسلم مصداق ما أخبرت به هذه الكتب، فكان بهذا مصدقًا لها.

﴿ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ﴾، اللام: واقعة في جواب القسم، فالجملة جواب القسم، ويجوز أن تكون اللام: موطئة للقسم، أي: لتصدقنه.

﴿ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ﴾، أي: ولتُعِيْنُنَّه على تبليغ رسالته ونشرها، وعلى قتال أعدائه، فالنصر هنا يشمل نصره باللسان، والدعوة إلى الله، وبالسنان والعُدة والعتاد. والمراد: لتؤمنن به ولتنصرنه أنتم وأتباعكم.

﴿ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ ﴾ أي: اعترفتم والتزمتم بذلك.

﴿ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ﴾: معطوف على ما قبله؛ أي: وأخذتم على ذلكم عهدي، أي: ميثاقي الشديد المؤكد الثقيل، والإصر: العهد الثقيل، وجمعه: آصار؛ قال تعالى: ﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157].

﴿ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ ﴾؛ أي: اعترفنا والتزمنا بأن نؤمن به وننصره.

﴿ قَالَ فَاشْهَدُوا ﴾؛ أي: ليشهد كل منكم على نفسه؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [الأعراف: 172، 173].

وأيضًا ليشهد بعضكم على بعض، واشهدوا على أممكم بذلك.

﴿ وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾: على العهد الذي أخذته عليكم وعلى أُممِكم؛ قال تعالى: ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 79].

فاستشهَدهم عز وجل على أنفسهم، وعلى بعضهم، وعلى أُممهم على الميثاق الذي أخذه عليهم، وشهد عز وجل عليهم كلهم بذلك.

قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾.

ذكر الله - عز وجل - أخذه ميثاق النبيين إن بُعِثَ محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به وينصُروه، وأن يؤمن بعضهم بعضًا، ويصدِّق بعضهم بعضًا، وإقرارهم وشهادتهم على أنفسهم بذلك، وشهادته تعالى عليهم، وهو ميثاق عليهم وعلى أُممهم، ثم أتبع ذلك ببيان حكم مَن تولَّى من أُممهم عن الالتزام بهذا الميثاق، وأنه من الفاسقين، وفي هذا تحذيرٌ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وبخاصة أهل الكتاب الموجودين في عهده صلى الله عليه وسلم من التولي عن الإيمان به ونُصرته.

قوله: ﴿ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ ﴾ الفاء: استئنافية، و«من»: شرطية، و﴿ تَوَلَّى ﴾: فعل الشرط، وجوابه جملة: ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾، ومعنى «تولي» أي: أعرض بقلبه وبدنه.

﴿ بَعْدَ ذَلِكَ ﴾؛ أي: بعد أخذ ميثاق الأنبياء، وتقريرهم، وإشهادهم على ذلك، وشهادة الله عليهم بذلك.

والمعنى: من تولى وأعرَض من أتْباع الأنبياء وأُممهم عن الإيمان بالرسل ونُصرتهم، وبخاصةً خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم، بعد تبليغ أنبيائهم لهم بما أخذ من الميثاق عليهم في ذلك؛ ولهذا لم يقل: «فمن تولى بعد ذلك منكم»؛ كما قال في سورة المائدة في خطاب بني إسرائيل: ﴿ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [المائدة: 12].

﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾؛ لأن الميثاق الذي أُخِذَ على الأنبياء ميثاق عليهم وعلى أممهم، ولهذا لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قطعة من التوراة غضب؟ فقال: «أمُتهوكون فيها يا بن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاءَ نقية، لا تسألوهم عن شيء فيُخبروكم بحق، فتكذبوا به، أو بباطل فتُصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى صلى الله عليه وسلم حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني»[2].

والفاء في قوله: ﴿ فَأُولَئِكَ ﴾ رابطة لجواب الشرط، والجملة جواب الشرط.

والإشارة في قوله: «أولئك» لـ «من» في قوله: ﴿ فَمَنْ تَوَلَّى ﴾؛ لأن معناها الجمع، وقد أُكِدت هذه الجملة بكونها اسمية مُعَرَّفة الطرفين، وبضمير الفصل «هم».

أي: فأولئك الذين بلغوا غاية الفسق، و(الفسق): الخروج عن طاعة الله تعالى.

وهو نوعان: فسق مُخرِج من الملة وكفر؛ كما في قوله: ﴿ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [الحشر: 12]، وقوله تعالى: ﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ﴾ [السجدة: 18]، وفسق دون ذلك، لا يُخرِج من الملة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6].

والمراد بالفسق هنا في قوله: ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾: الفسق المخرج من الملة، المؤدِّي إلى الكفر؛ لأن مَن تولَّى وأعرَض عن الإيمان بالرسل وتصديقهم ونُصرتهم - وخصوصًا خاتمهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم - فهو كافر.

قوله تعالى: ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾.

حذَّر عز وجل عن التولِّي والإعراض عن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من الرسل ونُصرتهم؛ ثم أتبع ذلك بالإنكار على الذين يَبْغُون غير دين الله من أهل الكتاب وغيرهم، وقد أسلم له سبحانه الخلق كلهم وإليه مرجعهم.

قوله: ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ ﴾: الاستفهام للإنكار والتوبيخ.

والفاء: حرف عطف على ما سبق، وقد أخِّرت لتكون الصدارة لهمزة الاستفهام، والتقدير: «فأغير دين الله يبغون»، ويجوز أن يكون حرف العطف عاطفًا لما بعده على مقدر بينه وبين الهمزة، والتقدير: «أيتولون فغير دين الله يبغون؟».

و﴿ دِينِ اللَّهِ ﴾: شرعه الذي شرعه لعباده، وهو دين التوحيد والعدل والإسلام، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85].

وأضافه - عز وجل - إليه؛ لأنه سبحانه هو الذي شرعه، وهو الذي يجازي عليه، وتعظيمًا له وتشريفًا.

﴿ يَبْغُونَ ﴾: قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم ويعقوب بياء الغيبة: ﴿ يَبْغُونَ ﴾، وقرأ الباقون بتاء الخطاب «تبغون»، والمعنى: أفغير دين الله وشرعه وحكمه يطلبون ويريدون، أو تطلبون وتريدون، والمراد بهذا أهل الكتاب وغيرهم ممن يبتغي غير دين الله.

﴿ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ الواو: حالية، أي: والحال أنه أسلم له مَن في السماوات والأرض، وقدَّم الخبر: ﴿ لَهُ ﴾ للدلالة على الحصر والاختصاص، أي: وله وحده أسلم مَن في السماوات والأرض.

ومعنى «أسلم»: أي استسلم وانقاد كونًا، وليس المراد الاستسلام شرعًا؛ لأن الإسلام الشرعي لا إكراه فيه؛ كما قال تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة: 256]، ولأن الإسلام الشرعي لا يعم كل مَن في الأرض، بل أكثرهم لا يُسلم.

و﴿ مَنْ ﴾: موصولة تدل على العموم، أي: جميع مَن في السماوات والأرض.

وفي التعبير بـ﴿ مَنْ ﴾ تغليب لجانب العقلاء تكريمًا لهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70]، ولأنهم هم المكلفون دون غيرهم، ولأنهم أكثر من غيرهم؛ لأن من بينهم الملائكة.

وفي الحديث: «أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط ما مِن موضع شبرٍ إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد»[3].

والسماوات أكبر من الأرض، بل السماء الدنيا أكبر من الأرض، وكل سماء أكبر من التي تحتها.

﴿ طَوْعًا وَكَرْهًا ﴾: منصوبان على الحال، أي: طائعين وكارهين، و«الطوع»: ما فُعِلَ بالاختيار، و«الكُره»: ما فُعِلَ بغير الاختيار؛ أي: استسلم له من فيها طوعًا وكرهًا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾ [الرعد: 15]، وقال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [النحل: 48 - 50].

فالمؤمن مستسلم لله تعالى طوعًا بقلبه وقالبه، والكافر مستسلم لله تعالى كرهًا، والخلق والكون كله مستسلم منقاد لله تعالى طوعًا؛ كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11].

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾: قرأ حفص عن عاصم ويعقوب بياء الغيبة ﴿ يُرْجَعُونَ ﴾، والضمير على هذه القراءة يعود إلى الذين يبغون غير دين الله، أو إلى «من» في قوله: ﴿ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾، أو إليهما معًا، وهو أَولى.

فجميعهم إليه يرجعون، أي: يُرَدُّون يوم القيامة، فيُحاسبهم ويفصِل بينهم بحُكمه، من كان منهم من أهل التكليف أو غيرهم.

وقرأ الباقون بتاء الخطاب: «ترجعون» وفقًا لقراءة «تبغون»، فيعود الخطاب للذين يبغون غير دين الله، وفي هذا وعيدٌ وتهديد لهم.

وقدَّم المتعلق في قوله: ﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ لإفادة الحصر والتخصيص، أي: وإليه وحده يرجعون، لا إلى غيره، فلله - عز وجل - استسلم كل مَن في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا في الدنيا، وإليه رجوعهم في الآخرة، فيُحاسبهم ويجازيهم على أعمالهم، فكيف لعاقلٍ أن يبتغي غير دين الله ويعدل به غيره؟!!

[1] انظر: «جامع البيان» (5 /539-544).

[2] أخرجه أحمد (3 /387)، من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه.

[3] أخرجه الترمذي في الزهد (2312)، وابن ماجه في الزهد (4190)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 18 ( الأعضاء 0 والزوار 18)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 360.58 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 354.69 كيلو بايت... تم توفير 5.89 كيلو بايت...بمعدل (1.63%)]