«عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله - الصفحة 25 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         خواطرفي سبيل الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 277 )           »          قلبٌ وقلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 306 )           »          قصيدة أبكت أعظم ملوك الأرض (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          طرق تساعدك على العيش بأقل الإمكانيات مع الحفاظ على الراتب.. خليكى ذكية ووفرى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          وصفات طبيعية للتخلص من قشرة الشعر الدهنية.. أخلصى منها بخطوات بسيطة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          خليك قدوة ليهم.. إزاى تكون مصدر أمان وثقة لأولادك؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          اتجاهات ديكور مستوحاة من البحر لإضافة لمسة جمالية منعشة.. موضة صيف 2025 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          طريقة عمل السجق البلدى بمكونات سهلة ومتوفرة فى البيت (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          4 وصفات طبيعية تعالج جفاف البشرة وشحوبها وتزيد ترطيبها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          6 أسرار لزيادة الكولاجين وتعزيز مرونة البشرة.. خليكى شباب على طول (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 07-12-2022, 09:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,201
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم






فوائد وأحكام من قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا ﴾

1- تصدير الخطاب بالنداء للتنبيه والعناية والاهتمام؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾.

2- عموم رسالته صلى الله عليه وسلم لجميع الناس؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾، وفي هذا رد على من ادعى من أهل الكتاب خصوص رسالته صلى الله عليه وسلم بالعرب.

3- أن الأصل فيما في الأرض، وفي الأشياء الحل والطيب حتى يرد دليل التحريم، أو الاستخباث؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا ﴾.

قال السعدي[1]: «ففي هذه الآية دليلٌ على أن الأصل في الأعيان الإباحة؛ أكلاً وانتفاعاً، وأن المحرم نوعان: إما محرم لذاته وهو الخبيث الذي هو ضد الطيب، وإما محرم لما عرض له، وهو المحرم لتعلق حق الله، أو حق عباده به، وهو ضد الحلال».

4- فضل الله عز وجل على الناس ومنته عليهم حيث أباح لهم جميع ما في الأرض حلالاً طيباً؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ [البقرة: 29].

5- إباحة الأكل من الحلال الطيب والحث عليه، بل ذلك واجب بقدر ما يقيم البنية يأثم تاركه، والتحذير من أكل الحرام والخبيث.

عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال: «يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوماً، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به»[2].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأني يستجاب لذلك»[3].

6- أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا ﴾، وهذا يشمل جميع الناس بما فيهم الكفار، وفيه - مع الدلالة على إباحة ذلك وحله وطيبه - التوبيخ للمشركين في تحريم ذلك وترك أكله.

وهذا هو القول الصحيح أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؛ ولهذا يعاقبون على تركها كما قال تعالى: ﴿ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ﴾ [المدثر: 39 - 47].

7-النهي عن اتباع خطوات الشيطان وطرقه وعمله ووساوسه وتزيينه، وتحريم ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة: 168].

8- تأكيد عداوة الشيطان البينة لبني آدم، والتحذير الشديد منه؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾.

9- تعليل أحكام الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾، فنهانا عز وجل عن اتباع خطوات الشيطان؛ لأنه لنا عدو بيِّن العداوة.

10-أن الشيطان لا يأمر بالخير أبدًا، وإنما يأمر بالسوء والفحشاء والقول على الله بغير علم؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾؛ أي: لا يأمركم إلا بالسوء والفحشاء، والقول على الله ما لا تعلمون.

ولو أمر الشيطان بما ظاهره الخير فذلك لتفويت خير أعظم من ذلك، أو الوصول إلى شر أعظم من ذلك.

11- إن مما ابتلي به بنو آدم أن جعل الله للشيطان أمرًا وسلطانًا على الذين يتولونه منهم؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ ﴾ الآية، وكما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 100]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [الحجر: 42].

12- عظم القول على الله بلا علم وخطورته؛ لأن الله عطفه على «السوء والفحشاء»، وهو داخل فيهما من عطف الخاص على العام، وأعظم من ذلك أن يقول على الله ما يعلم أن الله قال خلافه، فيجعل الحق باطلًا والباطل حقًّا عن علم منه.

13- تحريم الفتوى بلا علم؛ لأنها من القول على الله بلا علم، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 33].

14- تدرج الشيطان ببني آدم من الأمر بالسوء إلى الأمر بالفحشاء إلى القول على الله بلا علم، فيبدأ في إيقاعهم في الصغائر، ثم الكبائر، ثم الكفر بالقول على الله بلا علم، ولا يقتنع منهم بما دون الكفر.

15- ذم المشركين على تعصبهم لآبائهم وتقليدهم لهم على ما هم عليه من الضلال وعدم الرشد وبيان جهلهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة: 170].
16- ذم التعصب الأعمى بلا حجة ولا برهان والتحذير منه؛ لأنه يمنع صاحبه من قبول الحق واتباعه، وكم هلك أقوام وضلوا بسبب ذلك.

17- وجوب اتباع ما أنزل الله؛ لأنه الحق؛ لقوله تعالى: اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
18- يجب قبول قول الآمر بالحق أيًّا كان؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ﴾، وهذا يعم أي قائل.

19- إثبات صفة العلو لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾، والإنزال يكون من أعلى إلى أسفل.

20-إثبات أن القرآن منزل من عند الله غير مخلوق؛ لقوله تعالى: ﴿ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾، وفي هذا رد على المعتزلة في زعمهم أن القرآن مخلوق تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.

21- أن العقل كل العقل، والهدى كل الهدى في اتباع ما أنزل الله تعالى، وأن من لم يهتد بهدى الله وما أنزله من الحق فهو ضال وليس بعاقل، وليس على هدى؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾.

22- أن مثل المتبعين لآبائهم فيما هم عليه من الكفر والمقلدين لهم تقليدًا أعمى مثل البهائم التي تتبع صوت دعاء ونداء الراعي، بلا وعي ولا عقل منها؛ حتى ولو كان يقودها، لحتفها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [البقرة: 171].

وفي هذا من التحقير والتجهيل لهم والتحذير من مسلكهم ما لا يخفى.

23- تعطل وسائل وصول الحق إلى قلوب هؤلاء الكفار فهم صم عن سماع الحق، بكم عن النطق به، عمي عن رؤيته وإبصاره، فهم لا يعقلون؛ لقوله تعالى: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾.

24- بلوغ القرآن الغاية في البلاغة في تمثيله الذين كفروا في اتباعهم آبائهم بلا برهان بالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً.

[1] في «تيسير الكريم الرحمن» (1/ 199).

[2] أخرجه ابن مردويه- فيما ذكر ابن كثير في «تفسيره» (1/ 292).

[3] أخرجه مسلم في الزكاة (1015)، والترمذي في التفسير (2989).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 20-12-2022, 08:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,201
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم





فوائد وأحكام من قوله تعالى﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ... ﴾

1- تصدير الخطاب بالنداء للتنبيه والعناية والانتباه؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أيها ﴾.

2- في نداء المؤمنين بوصف الإيمان تشريف وتكريم لهم وحث على الاتصاف بهذا الوصف، وأن امتثال ما بعده من مقتضيات الإيمان، وعدم امتثاله يعد نقصًا في الإيمان؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾.

3- الأمر بالأكل من طيبات ما رزقنا الله، وهو للامتنان والإباحة من حيث العموم، وللوجوب فيما إذا خيف الضرر أو الهلاك بتركه؛ لقوله تعالى: ﴿ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾.

4- أن كل ما يتمتع به الخلق من رزق وعطاء هو من الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 58]، وقال تعالى: ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ [الإسراء: 20].

5- أن من امتنع من الأكل من الطيبات فقد عصى أمر الله، ومن حرمها فقد كفر؛ لأن الله تعالى أمر بالأكل من الطيبات.

6- عدم جواز الأكل من الخبائث لمفهوم قوله تعالى: ﴿ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾؛ لأنها محرمة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ﴾ [الأعراف: 157].

7- وجوب الشكر لله تعالى بالعمل الصالح؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 172].

8- أن القيام بشكر الله عز وجل شرط في تحقيق العبودية له سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172].

9- أن الشكر سببٌ لدوام النعم وزيادتها؛ لأن الله تعالى أعقب الأمر بالأكل من طيبات رزقه ونعمه بالأمر بشكره، وفي الحديث: «إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة، فيحمَده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها»[1].

10- وجوب إخلاص العبادة لله عز وجل وحده؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾، وتقديم المعمول يفيد الحصر والاختصاص.

11- أن التحليل والتحريم إلى الله عز وجل وحده؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ﴾ [البقرة: 173]؛ أي: إنما حرم الله عليكم، وسواء جاء ذلك في الكتاب أو السنة؛ لأن ذلك كله وحي من عند الله عز وجل.

12- تحريم أكل الميتة؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ﴾، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما حرم من الميتة أكلها»[2].

وتشمل الميتة ما ماتت حتف أنفها، وما لم يذكر اسم الله عليه.

ويستثنى من الميتة ميتة البحر والجراد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في البحر: «هو الطهور ماؤه الحل مَيتته»[3].

وعن ابن عمر رضي الله عنه: «أُحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطِّحال»[4].

وفي حديث جابر رضي الله عنه في قصة العنبر الذي قذفه البحر فأكلوا منه نصف شهر[5].

وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد»[6].

وأما ما يعيش في البر والبحر، فيعطى حكم ميتة البر، تغليبًا لجانب الحظر[7].

13- تحريم أكل الدم؛ لقوله تعالى: ﴿ والدمَ ﴾، والمراد بذلك الدم المسفوح، لقوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ﴾ [الأنعام: 145].

14- تحريم أكل لحم الخنزير؛ لقوله تعالى: ﴿ أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ ﴾، وهذا يشمل لحمه وشحمه وجميع أجزائه.

15- تحريم ما أهل به لغير الله، أي: ما ذُكر اسم غير الله عليه عند تذكيته، حتى ولو ذكر معه اسم الله، كأن يقول المذكي: بسم الله واللات، أو بسم الله والولي فلان، ونحو ذلك؛ لأن هذا شرك، وقد قال الله عز وجل في الحديث القدسي: «من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه»[8].

16- تحريم ما ذبح لغير الله، كالذي يذبح تعظيمًا لصنم وتقربًا إليه، حتى ولو ذكر اسم الله عليه عند الذبح؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُهِلَّ به لِغَيْرِ اللَّهِ ﴾، وقوله تعالى في سورة المائدة: ﴿ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ﴾ [المائدة: 3].

17- حكمة الله عز وجل في تحريم هذه المذكورات لِما فيها من الضرر على الأبدان والعقول وخبثها حسيًّا ومعنويًّا.

18- عناية الله عز وجل بالمؤمنين ورحمته بهم في منعهم عما يضرهم وحظره عليهم.

19- إباحة الأكل من الميتة وغيرها من المحرمات عند الضرورة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ ﴾، وهذا يتضمن شروطًا أربعة.
أولًا: أن يضطر إلى الأكل منها ضرورة محققة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ ﴾.

ثانيًا: أن تندفع الضرورة وتزول بذلك، فإن كانت لا تندفع بذلك أو ربما أدى تناول المحرم إلى الهلاك كأن يتناول المضطر سمًا فهذا لا يجوز.

ثالثًا: أن يكون ﴿ غَيْرَ بَاغٍ ﴾ أي: غير طالب للأكل من هذه المحرمات بلا ضرورة؛ لقوله تعالى: ﴿ غَيْرَ بَاغٍ ﴾.

رابعًا: أن يكون غير عاد، أي: غير متجاوز في الأكل حد الضرورة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا عَادٍ ﴾، وقد اختلف في هذا، فذهب بعض أهل العلم إلى أنه يأكل ما يدفع الضرورة ويسد رمقه، وقيل: له أن يشبع، وظاهر الآية يدل على الأول - لكن إن غلب على ظنه أنه لا يجد غيرها، فقال بعضهم: له أن يشبع أو يحمل معه شيئًا منها إن اضطُرَّ إليه أكله وإلا ترَكه.

واختلف في حكم الأكل من ميتة الآدمي عند الاضطرار على قولين، الأظهر منهما جواز ذلك إبقاء على النفس وحفاظًا عليها.

20- أن الضرورات تبيح المحظورات، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده وتيسيره عليهم، ولا يقف الأمر عند إباحة المحرم حال الضرورة، بل يكون أكله واجبًا في هذه الحال حفاظًا على النفس، ويأثم إن ترك الأكل حتى مات ويكون قاتلًا لنفسه.

21- أن من أكَل من هذه المحرمات من غير ضرورة فهو آثِم، لمفهوم قوله تعالى: ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ [البقرة: 173].

22- إثبات صفة المغفرة الواسعة لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 173].

23- إثبات صفة الرحمة الواسعة لله عز وجل رحمة ذاتية ثابتة لله عز وجل، ورحمة فعلية يوصلها من يشاء من خلقه، رحمة عامة، ورحمة خاصة؛ لقوله تعالى: ﴿ رَحِيمٌ ﴾.

24- أن من مغفرة الله عز وجل ورحمته بعباده أن وسع عليهم في الأكل من المحرمات عند الاضطرار.

25- الوعيد الشديد للذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنًا قليلًا من المال والرياسة والجاه ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 174].

26- تحريم كتمان العلم ووجوب نشره وبذله لمن يحتاجه؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [البقرة: 159].

27- إثبات نزول الكتب من عند الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ ﴾، أي: من الكتب، ولقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾ [البقرة: 176].

28- إثبات علو الله عز وجل بذاته وصفاته على خلقه؛ لقوله تعالى: ﴿ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾، والإنزال يكون من الأعلى.

29- حقارة الدنيا بما فيها من المال والرياسة والجاه وغير ذلك بالنسبة للآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ [البقرة: 174].

30- أكل المعذبين النار في بطونهم بسبب كتمانهم ما أنزل الله في كتابه واشترائهم به ثمنًا قليلًا من الدنيا؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ﴾ [البقرة: 174].

كما قال تعالى في أكلة أموال اليتامى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10]، وفي الحديث: «الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم»[9].

31- أن الجزاء من جنس العمل، فالذين يكتمون ما أنزل الله ويشترون به ثمنًا قليلًا يأكلونه ويتمتعون به في هذه الدنيا يعذبون بأكل النار في بطونهم يوم القيامة.

32- حرمان الذين يكتمون ما أنزل الله ويشترون به ثمنًا قليلًا من تكليم الله عز وجل لهم يوم القيامة كلام رضا، ومن تزكيتهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ﴾ [البقرة: 174].

33- إثبات الكلام لله عز وجل وأنه عز وجل يكلم المؤمنين؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ﴾، فمفهوم هذا أنه عز وجل يكلم يوم القيامة الذين لا يكتمون ما أنزله تعالى، بل يؤمنون به ويظهرونه، ولا يعتاضون به ثمنًا قليلًا من الدنيا، ويزكيهم.

34- إثبات القيامة؛ لقوله تعالى: ﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾.

35- شدة عذاب الذين يكتمون ما أنزل الله ويعتاضون به ثمنًا قليلًا من الدنيا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 174]؛ أي: مؤلم موجع حسيًّا للأبدان ومعنويًّا للقلوب.

36- في عطف قوله: ﴿ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ [البقرة: 174] على قوله: ﴿ يَكْتُمُونَ ﴾، إشارة إلى أن من أعظم أسباب كتمان العلم طلب المال والرياسة والجاه، وهذا واقع مشاهد.

37- تحقير هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله تعالى ويعتاضون به ثمنًا قليلًا، وبيان سوء مسلكهم وما اختاروه لأنفسهم، حيث اختاروا الضلالة بدل الهدى، والعذاب بدل المغفرة، وتأكد وتحقق ضلالهم وعذابهم؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ﴾ [البقرة: 175].

38- في تحقير المذكورين وبيان سوء ما اختاروه لأنفسهم تحذير من مسلكهم في كتمانهم ما أنزل الله والاشتراء به ثمنًا قليلًا من الدنيا، وأنه سبب ضلالهم وعذابهم.

39- إثبات الاختيار للإنسان، وأنه ليس مجبورًا على فعله؛ لقوله تعالى: ﴿ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ﴾، فهم الذين اختاروا هذا المسلك، وفي هذا رد على الجبرية.

40- أن الهدى والمغفرة في بيان ما أنزل الله من العلم والحق وإظهاره والأخذ به وعدم استبداله بغيره؛ لمفهوم قوله تعالى في الذين يكتمون ما أنزل الله: ﴿ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ﴾.

41- إرشاد المخاطبين إلى التعجب من صبر هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله ويشترون به ثمنًا قليلًا على النار؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾ [البقرة: 175].

42- إثبات العجب لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾ [البقرة: 175]، وهذا على الاحتمال الثاني في معنى الآية؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الصافات: 121] على القراءة بضم التاء، وهي قراءة سبعية، وفي حديث أبي رزين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيره»[10].

43- الإشارة إلى شدة وعظم عذاب النار؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾.

44- أن الله عز وجل إنما عذب هؤلاء بسبب كتمانهم الكتاب الذي نزله تعالى بالحق؛ لقوله عز وجل: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾ [البقرة: 176].

45- إثبات الحكمة والعلة في أفعال الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾؛ أي: بسبب أن الله عز وجل نزل الكتاب بالحق، وفي هذا رد على الجبرية الذين ينفون الحكمة عن الله عز وجل ويقولون: إنه يفعل لمجرد المشيئة.

46- تعظيم الله عز وجل لكتبه وثناؤه عليها؛ لأنها جاءت بالحق ومن طريق الحق ومشتملة على الحق؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾.

47- شدة مشاقة المختلفين بالكتاب لله عز وجل، وشدة وبعد ما بينهم من الاختلاف؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ [البقرة: 176].

48- أن الاختلاف في كتاب الله وعدم الاهتداء بهديه سبب للشقاق البعيد.

[1] أخرجه مسلم في «الذكر والدعاء» (2734، والترمذي في الأطعمة (1816) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

[2] أخرجه مسلم في الحيض (363)، وأبوداود في الصيد (2858)، والنسائي في الفرع والعتيرة (4235)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

[3] أخرجه أبو داود في الطهارة (83)، والنسائي في المياه (332)، والترمذي في الطهارة (69)، وابن ماجه في الطهارة (386)، وأحمد (2/ 237، 267)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.

[4] أخرجه الشافعي في «الأم» (6/ 258)، وأحمد (2/ 97) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما موقوفاً وله حكم المرفوع.

[5] أخرجه البخاري في المغازي (436)، ومسلم في الصيد والذبائح (1935).

[6] أخرجه البخاري في الذبائح والصيد (549)، ومسلم في الصيد والذبائح (1952)، والنسائي في الصيد والذبائح (4356)، والترمذي في الأطعمة (1821).

[7] سيأتي ذكر الخلاف في حكم الانتفاع بأجزاء الميتة في غير الأكل عند تفسير قوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ﴾ [المائدة:3].

[8] أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[9] أخرجه البخاري في الأشربة (5634)، ومسلم في اللباس في الزينة (2065)، وابن ماجه في الأشربة (3413)، من حديث أم سلمة رضي الله عنها.

[10] سبق تخريجه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 26-12-2022, 07:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,201
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله تعالى﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ... ﴾

قال الله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 180 - 182].

قوله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾.

قوله: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ ﴾ فرض عليكم، أي: فرض الله وأوجب عليكم أيها المؤمنون.

﴿ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ﴾ «إذا» ظرفية شرطية غير عاملة، أي: إذا حضر أحدكم الموت، بحضور علاماته وأسبابه؛ كالمرض المخوف ونحو ذلك.

لكن قبل بلوغ الروح الحلقوم، وقبل الغرغرة، فإنه في هذه الحال لا تعتبر الوصية، وكذا جميع إقرارات الإنسان، بل لا تقبل منه التوبة في هذه الحال؛ لأنها حال اضطرار لا اختيار، كما قال تعالى: ﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [النساء: 18].

والموت: عبارة عن خروج الروح من البدن، ومفارقتها له، ولابد لكل إنسان من هذا الحضور، وهذه اللحظة الحاسمة، وهذا الموقف الرهيب، قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ [آل عمران: 185]، وقال تعالى: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 26، 27]، وقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا محمد، عش ما شئت فإنك ميِّت، وأحبِب مَن شئت فإنك مفارقه»[1].
قال جرير[2] في مهاجاة الفرزدق:
أنا الموت الذي حدثت عنه
فليس لها رب مني نجاء


وقال كعب بن زهير[3]:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يومًا على آلة حدباء محمول


وإذا كان الأمر هكذا، فعلى الإنسان أن يتذكر هذه الساعة، ويستعد لها، ولما بعدها، ولا يغفل.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثروا ذكر هاذم اللذات؛ يعني الموت»[4].

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل من الأنصار، فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا رسول الله، أي المؤمنين أفضل؟ قال: «أحسنهم خلقًا»، قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: «أكثرهم للموت ذِكْرًا، وأحسنهم لما بعده استعدادًا، أولئك الأكياس»[5].

﴿ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا ﴾ جملة معترضة، والخير في الأصل كل ما ينفع في الدنيا والآخرة، والمراد به في الآية: المال الكثير عرفًا فقوله: ﴿ خيرًا ﴾ أي: مالًا كثيرًا، قال تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾ [العاديات: 8]؛ أي: لحب المال.

ويفهم من قوله: ﴿ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ ﴾ أن من لم يترك مالًا فلا تجب عليه الوصية.

و﴿ الوصيةُ ﴾ نائب فاعل للفعل ﴿ كُتب ﴾؛ أي: فُرض وأوجب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك مالًا أن يوصي لمن ذكروا، فالوصية لهم واجبة.

والوصية في الأصل: هي العهد والأمر بأمر هام، وتكون في الحياة وبعد الممات، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [النساء: 131]، وقال تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ﴾ [الأحقاف: 15]، وقال تعالى: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ﴾ [البقرة: 132]؛ أي: أمرهم بكلمة التوحيد، وعهد إليهم بها في حياته وبعد مماته.

والوصية بعد الموت تنقسم إلى قسمين: عهد وإذن بالتصرف بعد الموت، وتبرع بالمال بعد الموت، وهو المراد بالوصية هنا؛ كما في قوله تعالى: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن ﴾ [النساء: 11].

﴿ لِلْوَالِدَيْنِ ﴾ أي: للأم والأب، وسمي الأب والدًا من باب التغليب، وقَدَّم الوالدين، لعظم حقهما على سائر الأقربين.

﴿ الْأَقْرَبِينَ ﴾ جمع أقرب على وزن «أفعل» التفضيل، فالأولى بالوصية من أقارب الميت الأقرب منهم فالأقرب إليه.

والمعنى: فُرض وأوجب عليكم إذا حضر أحدكم الموت - إن ترك مالًا كثيرًا - الوصية لوالديه، والأقربين إليه بشيء من المال، الأقرب منهم فالأقرب.

﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ أي: بما هو معروف في الشرع، من غير سرف ولا مضارة؛ لقوله تعالى: ﴿ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ [النساء: 12].

وذلك بأن تكون الوصية في الثلث فأقل، لما جاء في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما زاره الرسول صلى الله عليه وسلم في مرضه، أنه قال: «يا رسول الله، إن لي مالًا، ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأوصي بثلثي مالي؟ قال: لا. قال: فالشطر؟ قال: لا. قال: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس»[6].

كما أن من المعروف في الشرع: أن تكون الوصية لغير وارث؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث»[7].

ومن ذلك أيضًا: أن تكون الوصية بنية طيبة، وقصد حسن ابتغاء وجه الله تعالى، لا مقابل منافع دنيوية، ونحو ذلك، ولا لأجل المضارة للورثة، ونحو ذلك.

﴿ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾؛ أي: واجبًا ثابتًا على المتقين الوصية لمن ذكروا، وهذا تأكيد لوجوب الوصية لهم؛ لأنه من مقتضى تقوى الله عز وجل، وتقوى الله واجبة، وفي هذا إغراء بتقوى الله، وتشريف وتكريم للمتقين.

و«المتقين» جمع «متقي» وهم المؤمنون الذين اتقوا الله بفعل أوامره، وترك نواهيه.

ويؤيد وجوب الوصية ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماحق امرئٍ مسلم، له شيء يوصي به، يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عنده»[8].

قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾.

قوله: ﴿ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ ﴾ الفاء: عاطفة، و«من» شرطية، والضمير في «بدله» و«سمعه» يعود إلى المفهوم من الوصية، وهو: الإيصاء، أي: نص الوصية.

أي: فمن بدل نص الموصي، وحرف الوصية وغيّرها، فزاد فيها، أو نقص، أو كتمها، أو شيئًا منها.

﴿ بَعْدَمَا سَمِعَهُ ﴾ أي: بعد سماعه قول الموصي، أو بعد سماعه لشهادة الشهود عليها، أو بعد سماعه لقراءة الوصية مكتوبة، أو قراءته لها بنفسه، ونحو ذلك.

﴿ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ﴾ جملة جواب الشرط، واقترن بالفاء؛ لأنه جملة اسمية، والضمير يعود إلى مصدر الفعل «بدله»؛ أي: فإنما إثم تبديل الوصية على الذين يبدلونه؛ أي: فإنه آثم، وإثم تبديله عليه هو؛ لما في ذلك من الضرر على الورثة، إن زاد في الوصية، ولما في ذلك من الضرر على الموصى له، إن نقص منها، أو كتمها، أو شيئًا منها، أو غيَّر مجراها، ولما في ذلك كله من الاعتداء على حق الموصي.

وفي هذا وعيد شديد، يتناول كل من بدل الوصية، بعد علمه بها عن عمد منه، سواء كان الكاتب لها، أو الشهود عليها، أو النَّقَلَة بعد ذلك، أو شهود النقل، أو الموصى له، أو غيرهم.

أما من بدلها عن جهل، أو تصرف فيها خطأ، بلا قصد فلا إثم عليه.

وأما الميت الموصي فقد وقع أجره على الله، ولا إثم عليه، فكما أن في الآية وعيدًا شديدًا لمن يتجرأ على تبديل الوصية وتغييرها، ففيها طمأنة للموصي بثبوت أجره.

وتبديل الوصية، وتغييرها، أو كتمانها، أو كتمان شيء منها، قد يقع من الورثة وغيرهم، وبخاصة ضعاف النفوس، وأهل الطمع والجشع؛ ولهذا قدم الله عز وجل في آيات المواريث ذكر الوصية على الدين - مع أن الدَّين مقدَّم عليها بالإخراج بالإجماع - تأكيدًا على وجوب العناية بها، والاهتمام بتنفيذها، حسب نص الموصي، وتحذيرًا من التهاون بها.

﴿ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ الجملة تعليلية فيها التحذير من تبديل الوصية، أي: إن الله ذو سمع واسع يسمع جميع الأقوال والأصوات، ويجيب الدعوات، كما قالت عائشة رضي الله عنها: «والذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت خولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها، فكان يخفى عليَّ كلامها، فأنزل الله عز وجل: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1] [9]، وقال إبراهيم عليه السلام: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 39] وقال زكريا عليه السلام: ﴿ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [آل عمران: 38]؛ أي: سميع الدعاء ومجيبه.

﴿ عَلِيمٌ ﴾؛ أي: ذو علم واسع يسع كل شيء ويحيط به، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [طه: 98].

فهو عز وجل يسمع ويعلم ما قاله الموصي في وصيته، ويسمع ويعلم ما قاله وما فعله المبدل للوصية، ويسمع ويعلم كل ما يحصل في الكون من قول أو فعل، أو حركة أو سكون، وفي هذا وعد لمن امتثل أمر الله، ووعيد لمن خالفه؛ لأن مقتضى سمعه وعلمه أن يحاسب الناس، ويجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.

قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.

قوله: ﴿ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا ﴾: قرأ حمزة والكسائي ويعقوب وخلف وأبو بكر عن عاصم: ﴿ من مُوَصٍّ ﴾ بتحريك الواو، وتشديد الصاد، وقرأ الباقون بتسكين الواو، وتخفيف الصاد: ﴿ مِنْ مُوصٍ ﴾.

والفاء في قوله: ﴿ فَمَنْ خَافَ ﴾ عاطفة، و«من» شرطية، والجنف: الميل عن الحق من غير قصد، والإثم: الميل عن الحق عن قصد.

والمعنى: فمن خاف من موص حضرته الوفاة، وتوقع منه ﴿ جنفًا ﴾؛ أي: ميلًا في وصيته عن الحق، بلا قصد منه، ﴿ أو إثمًا ﴾؛ أي: تعمدًا منه للميل عن الحق في وصيته، يستوجب بسببه الإثم، أو اطلع من موص على ميل في الوصية عن قصد، أو عن غير قصد، كأن يوصي لوارث، أو لغيره بأكثر من الثلث، من غير إجازة الورثة ذلك، أو يوصي بشيء محرم، أو على شيء محرم، ونحو ذلك.

﴿ فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ ﴾؛ أي: أصلح بين الموصي والموصى إليهم، أو أصلح بين الورثة والموصى إليهم، بإصلاح ما في الوصية من خطأ أو ظلم، ورد ذلك إلى الصواب والعدل.

﴿ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾؛ لأن إصلاحه بينهم لا يعد تبديلًا في الوصية، وإنما هو تعديل لها، وإبعاد للموصي عن الوقوع في الجنف والإثم، وهو مثاب مأجور؛ قال تعالى: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114].

ولهذا ينبغي لمن حضر الموصي حال وصيته أن يحثه على العدل في الوصية، وينهاه عن الجور فيها، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما «في قوله: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا؛ يعني: إثمًا، يقول: إذا أخطأ الميت في وصيته، أو حاف فيها، فليس على الأولياء حرج أن يردوا خطأه إلى الصواب»[10].

﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ جملة تعليلية؛ أي: إن الله ذو مغفرة واسعة لذنوب عباده؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ [النجم: 32]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ ﴾ [الرعد: 6]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ ﴾ [فصلت: 43]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه: 82].

والمغفرة: ستر الذنب عن الخلق، والتجاوز عن العقوبة؛ كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يدني المؤمن يوم القيامة، فيضع عليه كَنَفَهُ[11] ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم، أي رَبِّ، حتى إذا قرَّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعُطى كتاب حسناته»[12].

ومنه سُمي: «المغفر» وهو البيضة التي توضع على الرأس، تستره وتقيه السهام.

﴿ رحيم ﴾؛ أي: ذو رحمة واسعة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156]، وقال تعالى: ﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ﴾ [الأنعام: 147].

رحمة ذاتية ثابتة له عز وجل، ورحمة فعلية، يوصلها من شاء من خلقه، رحمة عامة وخاصة.

فهو عز وجل غفور لذنوب عباده، مما يتعلق بأمر الوصية، وغير ذلك، رحيم بهم.

وقدَّم عز وجل المغفرة على الرحمة؛ لأن التخلية قبل التحلية، فبالمغفرة زوال المرهوب، وبالرحمة حصول المطلوب.

[1] أخرجه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الحاكم في «المستدرك» (4/ 360)- حديث (7921)، وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 253)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (349)- حديث (1054). وأخرجه البيهقي أيضاً في «الشعب»- من حديث جابر رضي الله عنه، وأخرجه أبو نعيم أيضًا في «الحلية» (3/ 202)، من حديث علي رضي الله عنه وصححه السيوطي في «الجامع الصغير» (89).

[2] انظر: «ديوانه» (2/ 120).

[3] انظر: «ديوانه» ص (19).

[4] أخرجه النسائي في الجنائز (1824)، والترمذي في الزهد (2307)، وابن ماجه في الزهد (4258).

[5] أخرجه ابن ماجه في الزهد (4259).

[6] أخرجه البخاري في الجنائز (1296)، ومسلم في الوصية (1628)، وأبوداود في الوصايا (2864)، والنسائي في الوصايا (3626)، والترمذي في الوصايا (2116).

[7] سبق تخريجه.

[8] أخرجه البخاري في الوصايا (2738)، ومسلم في الوصية (1627)، وأبوداود في الوصايا (2862)، والنسائي في الوصايا (3615)، والترمذي في الجنائز (974)، وابن ماجه في الوصايا (2699).

[9] أخرجه النسائي في الطلاق (3460)، وابن ماجه في المقدمة (188).

[10] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 143)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 301، 303).

[11] أي: عفوه ورحمته.

[12] أخرجه البخاري في المظالم والغصب (244)، ومسلم في التوبة (2768)، وابن ماجه في المقدمة (183).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 08-01-2023, 11:58 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,201
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم





تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ... ﴾

قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 188].

في التأمل في سياق هذه الآية ولحاقها، يتبين أن الكلام في المناسبات بين الآيات، إنما هو أمر ظني تقريبي، يظهر ويتضح في بعض المواضع، ويخفى وينغلق في بعضها؛ لهذا لا ينبغي التكلف والتمحل في البحث عن المناسبات بين الآيات؛ إذا لم تكن واضحة، كما في هذا الموضع، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «قرأ عمر بن الخطاب ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ [عبس: 1]، فلما أتى على هذه الآية ﴿ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ﴾ [عبس: 31]، قال: عرفنا ما الفاكهة، فما الأب؟ فقال: لعمرك يا بن الخطاب، إن هذا لهو التكلف»[1].

أما إذا كانت المناسبة بين الآيات ظاهرة جلية، فيستحسن التنبيه عليها ولا ينبغي إغفالها.

قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ الواو: استئنافية، و«لا» ناهية، والمراد النهي عن الأكل وسائر الانتفاعات، وإنما خص الأكل؛ لأنه الأهم من جمع المال، وأقوى وجوه الانتفاع، وهو كما يقال: كسوة الباطن، والنهي عنه نهي عن سائر الانتفاعات بالمال إذا كانت بالباطل؛ لأنه إذا حرم أكل الأموال بيننا بالباطل مع أن الأكل حاجة وضرورة، فسائر الانتفاعات بها تحرم من باب أولى.

والأموال: كل ما يملك ويتمول من نقد، أو عين، من الدراهم والعقار والحيوان والأثاث وغير ذلك. ﴿ بَيْنَكُمْ ﴾ أي: بالتعامل بينكم.

﴿ بِالْبَاطِلِ ﴾ الباء للتعدية، أي: تتوصلون إلى أكلها بالباطل و«الباطل» الذاهب الزائل، وما ليس بحق، قال تعالى: ﴿ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ﴾ [الشورى: 24].

قال لبيد[2]:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل




والباطل هنا يشمل كل ما أخذ من الأموال بغير حق، سواء من طريق البيوع والمعاملات المحرمة كالربا والقمار والغش، أو من طريق الغصب والسرقة، وجحد الحقوق وغير ذلك.

أي: لا يأكل بعضكم أموال بعض بالباطل، فأضاف الأموال إلى الآكلين، وهي أموال غيرهم للتنبيه على أمرين:
الأول: أن أكل الإنسان لمال أخيه بالباطل بمثابة أكله لماله هو بالباطل، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [النساء: 29]؛ أي: لا يقتل بعضكم بعضًا؛ لأن قتل الإنسان لأخيه بمثابة قتله لنفسه.

وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [الحجرات: 11]؛ أي: لا يلمز بعضكم بعضًا؛ لأن لمز الإنسان لأخيه بمثابة لمزه لنفسه.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء، بالحمى والسهر»[3].

الأمر الثاني: ليعتبر من يأكل مال أخيه بالباطل ذلك بماله هو، فكما لا يرضى أن يؤكل ماله بالباطل فكيف يأكل مال أخيه بالباطل ويرضى له بذلك.

﴿ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ﴾ الضمير في «بها» يعود على الأموال، أي: وتتوصلوا وتتقدموا بها إلى الحكام والقضاة، احتيالًا منكم؛ لتجعلوهم وسيلة لأكلها، وذلك بالتلبيس عليهم، والأيمان الفاجرة، ونحو ذلك.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقضي له بقطعة من النار، فليأخذها أو ليدعها»[4]، أو برشوة الحكام منها ليحكموا بها لكم بالباطل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الراشي والمرتشي»[5].

﴿ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْم ﴾ اللام للعاقبة، أي: لتكون العاقبة والنهاية أن تأكلوا فريقًا من أموال الناس بالإثم.

ويحتمل أن تكون اللام للتعليل، أي: لأجل أن تأكلوا فريقًا من أموال الناس بالإثم.

والمعنى: لتأكلوا طائفة وقسمًا ﴿ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ ﴾، وهي أموال المدلى بأموالهم إلى الحكام أو بعضها.

والمراد بالناس المدلى بأموالهم إلى الحكام، أو عامة الناس.

﴿ بِالْإِثْم ﴾ الباء للمصاحبة، أي: أكلًا مصحوبًا بالإثم، وهو الذنب؛ لأنه أكل بغير حق.

﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ الواو: حالية، أي: والحال أنكم تعلمون أن أكلكم لها باطل وإثم، وأنها حرام عليكم، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 42].

عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: «فهذا الرجل يكون عليه مال، وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال، فيخاصمهم فيه إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم آكل حرامًا»[6].

[1] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (24/ 20)، وقال ابن كثير في «تفسيره» (8/ 348): «إسناده صحيح».

[2] انظر: «ديوانه» (ص256).

[3] أخرجه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر والصلة (2586)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.

[4] أخرجه البخاري في الشهادات (2680)، ومسلم في الأقضية (1713)، وأبو داود في الأقضية (3583)، والنسائي في آداب القضاة (5401)، من حديث أم سلمة رضي الله عنها.

[5] أخرجه أبوداود في الأقضية (3580)، والترمذي في الأحكام (1336)، وابن ماجه في الأحكام (2313)، وأحمد (2/ 164، 190) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.

[6] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 277)، وابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 321).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 19-01-2023, 07:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,201
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله تعالى:﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ... ﴾

تفسير قال الله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 190 - 195].

قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.

قوله: ﴿ وَقَاتِلُوا ﴾ الواو: استئنافية، والمقاتلة: المفاعلة من القتل، وهي ما يكون بين فريقين أو شخصين، والأمر للوجوب، وقد يكون القتال واجبًا عينيًّا، وقد يكون واجبًا على الكفاية، حسب الحال والحاجة.

﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: في دين الله، وفق شرعه، ولإعلاء كلمته- عز وجل- كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»[1].

فالقتال المشروع ما كان في سبيل الله، وفق شرعه، ولإعلاء كلمته عز وجل.

﴿ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ أي: الذين يقاتلونكم من الكفار والمشركين، ممن يباشرون قتالكم حقيقة، أو حكمًا، ممن يساعدون على ذلك بالمال والرأي، ونحو ذلك.

وفي هذا بيان أن القتال إنما يكون لمن يُقاتِلون، دون من لا يقاتل كالنساء والصبيان ونحوهم.

وفيه إغراء وتهييج وتحريض للمؤمنين على القتال، كما قال تعالى بعد هذه الآية: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ [البقرة: 191].

وقال تعالى في سورة التوبة: ﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾ [التوبة: 5]، وقال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ﴾ [التوبة: 36].

﴿ وَلَا تَعْتَدُوا ﴾ الاعتداء: تجاوز الحد المباح إلى المحرم؛ أي: ولا تعتدوا فتقتلوا من لم يقاتل من النساء والصبيان والرهبان وأصحاب الصوامع، ومن يبذلون الجزية ونحوهم، أو تغلوُّا، أو تغدروا، أو تمثلوا، أو تقتلوا الحيوانات، ونحو ذلك.

كما كان صلى الله عليه وسلم ينهى جيوشه عن ذلك، ففي حديث بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلُّوا، ولا تغدروا، ولا تُـمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا»[2].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: «اخرجوا باسم الله، قاتلوا في سبيل الله، من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تَغُلُّوا، ولا تُـمَثِّلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع»[3].

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «وجدت امرأة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان»[4].

وعن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ يقول: لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير، ولا من ألقى إليكم السلم، وكفّ يده، فإن فعلتم، فقد اعتديتم »[5].

ومن الاعتداء أيضًا: ابتداء القتال في الأشهر الحرم، وفي الحرم؛ لقوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 217].

وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ﴾ [المائدة: 2]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 191].

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ تعليل للنهي عن الاعتداء، أي: لأن الله - عز وجل - لا يحب المعتدين، بل يبغضهم، ويبغض ويكره الاعتداء، قال تعالى: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا ﴾ [المائدة: 2].

وبالمقابل فهو- عز وجل- يحب أهل العدل، الذين لا يعتدون، كما قال تعالى: ﴿ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9].

قوله تعالى: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾.

قوله: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ ﴾ الضمير «هم» يعود إلى الذين يقاتلوننا من الكفار.

﴿ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾ «حيث» ظرف مكان، أي: في أي مكان ﴿ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾ أي: وجدتموهم وظفرتم بهم. وهذا يستلزم العموم في الزمان والمكان، أي: واقتلوهم في أي مكان وزمان وجدتموهم، وظفرتم بهم، قتال دفاع، وقتال ابتداء، ولا يستثنى من ذلك إلا ما كان في الحرم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾ [البقرة: 191]، أو في الأشهر الحرم؛ لقوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 217]، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ ﴾ [المائدة: 2].

﴿ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ؛ أي: وأخرجوهم من مكة حيث أخرجوكم منها، واضطروكم إلى الهجرة عنها، وأخرجوهم أيضًا من كل بلد أخرجوكم منه مجازاة لهم، على سبيل المقايضة والمجازاة، والجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ [الشورى: 40].

﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ الفتنة في الأصل: الابتلاء والاختبار، والمراد هنا الفتنة في الدين بالكفر والشرك، وصد الناس عن دين الله، وإخراجهم منه، كما قال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39].

وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ [البروج: 10]؛ أي: فتنوهم بصدهم عن دينهم، وتحريقهم بالنار.

﴿ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ أي: أعظم جرمًا من القتل الذي وقع منكم في الشهر الحرام، ومن قَتْلكم لمن يقاتلكم، كما قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 217].

كما أن فتنة المؤمن في دينه أشد من قتله؛ لأن القتل غايته الموت، لكن الفتنة بصد الناس عن دينهم غايتها إيقاعهم بالكفر، الذي عاقبته النار وبئس القرار، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 217].

ومن هنا يؤخذ أن غزو المسلمين فكريًّا، وإفساد عقائدهم وأخلاقهم، والتأثير على عقولهم أعظم جرمًا، وأشد ضررًا من الغزو العسكري.

والمصيبة أن هذا الغزو المُركَّز والمُسلَّط على المسلمين لطمس هويتهم الإسلامية يقع على أيدي كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام، ممن تربعوا على عروش كثير من وسائل الإعلام المشاهدة والمسموعة والمقروءة، ممن هم من جنسنا ويتكلمون بلغتنا، مصداق قوله صلى الله عليه وسلم لما سأله حذيفة رضي الله عنه وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها»، قال حذيفة: قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: «هم من جنسنا ويتكلمون بلغتنا»[6].

﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ﴾ قرأ حمزة والكسائي وخلف: «ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم» بدون ألف بعد القاف في المواضع الثلاثة، وقرأ الباقون بألف بعد القاف فيها: ﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾.

قوله: ﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ ﴾ الواو: عاطفة، و«لا» ناهية، أي: ولا تقاتلوهم ابتداءً ﴿ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ أي: في مكة، داخل حدود الحرم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه، حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم»[7].

﴿ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ﴾ «حتى» للغاية، والضمير في قوله: «فيه» يعود إلى المسجد الحرام، أي: حتى يقاتلوكم في الحرم، بأن يبدؤوا القتال بأنفسهم.

﴿ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾ أي: فإن قاتلوكم في الحرم- ولم يرعوا حرمة الحرم، فاقتلوهم فيه معاملة لهم بالمثل، ودفاعًا عن دينكم ودمائكم وأعراضكم وأوطانكم وأموالكم وحرمات المسلمين.

فنهى الله- عز وجل- المؤمنين عن ابتداء القتال في الحرم، وحرم ذلك عليهم حرمة للحرم وتعظيمًا له، وأمرهم بقتل من قاتلهم فيه؛ دفعًا للصائل ودفاعًا عن حرمات المسلمين، ومعاملة له بالمثل.

﴿ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾ الإشارة للمصدر المفهوم من قوله: ﴿ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾ أي: مثل هذا القتل، وهو قتل من قاتل عند المسجد الحرام ﴿ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ أي: عقوبة الكافرين بالله، المكذبين لرسله وشرعه، وهي قتلهم في الدنيا- مع ما أعد لهم في الآخرة من العذاب الأليم في النار، كما قال تعالى: ﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [السجدة: 21].

قوله تعالى: ﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.

قوله: ﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا ﴾ أي: كَفوا عن قتالكم، أو عمّا هم عليه من قتالكم ومن الكفر والشرك.

﴿ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي: فإن الله ذو مغفرة واسعة، يستر الذنب، ويتجاوز عن عقوبته, وذو رحمة واسعة: رحمة ذاتية ثابتة له- عز وجل- ورحمة فعلية يوصلها من شاء من خلقه: عامة، وخاصة.

وهذه الجملة كالتعليل لما قبلها، أي: فإن انتهى الكفار عن قتالكم، فكفوا عن قتالهم، وتجاوزوا عنهم.

أو فإن انتهوا وتابوا عمّا هم عليه من قتالكم ومن الكفر والشرك فإن الله- عز وجل- يغفر لهم ما سلف منهم، ويستر عليهم، ويتجاوز عنهم، ويرحمهم، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ [الأنفال: 38].

وفي حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «يا عمرو، أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله»[8].

فبمغفرته- عز وجل- ورحمته الواسعتين يستر ذنوب من كفوا عن قتال المؤمنين، وعن الكفر والصد عن دين الله، ودخلوا في الإسلام، ويرغب عباده بالتجاوز عنهم، قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].

بل ويبدِّل سيئاتهم حسنات، كما قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70].

والرحمة سبب للمغفرة، والمغفرة من آثار رحمته- عز وجل- وقدم المغفرة على الرحمة؛ لأن التخلية قبل التحلية، فبالمغفرة زوال المرهوب، وبالرحمة حصول المطلوب.
قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾.

قوله: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ تأكيد للأمر بقتالهم، وبيان المقصود من القتال في سبيل الله، وأنه ليس المقصود به سفك دماء الكفار، وأخذ أموالهم، وإنما المقصود به ﴿ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾.

قوله: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ﴾ أي: وقاتلوا الكفار الذين يقاتلونكم.

﴿ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ «حتى» للغاية، و«كان» تامة، أي: حتى لا توجد فتنة، أي: حتى لا يوجد صد للناس عن دين الله إلى الكفر والشرك.

قال الإمام أحمد- رحمه الله- في قوله تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]: «أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك»[9].

فالمعنى: وقاتلوهم، حتى لا يُفتن الناس في دينهم ويُصَدون عنه.

عن نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير، فقالا: إن الناس قد ضُيِّعوا، وأنت ابن عمر، وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم، فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: «يمنعني أن الله حرم دم أخي. فقالا: ألم يقل الله: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾؟ فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله».

وفي رواية: «أن رجلًا أتى ابن عمر، فقال: يا أبا عبدالرحمن، ما حملك على أن تحج عامًا وتعتمر عامًا، وتترك الجهاد في سبيل الله- عز وجل- وقد علمت ما رغب الله فيه؟ قال: يا ابن أخي، بني الإسلام على خمس: إيمان بالله ورسوله، والصلوات الخمس، وصيام رمضان، وأداء الزكاة، وحج البيت. قال: يا أبا عبدالرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9].

﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ قال: فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلًا فكان الرجل يفتن في دينه، إما قتلوه، وإما يعذبونه، حتى كثر الإسلام، فلم تكن فتنة»[10].

﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾ أي: ويكون الدين الظاهر والعبادة والطاعة لله وحده، كما قال تعالى في سورة الأنفال: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33].

فالحكمة من إيجاب القتال في سبيل الله؛ حتى لا يفتن الناس ويُصدوا عن دينهم بالكفر والشرك، وليكون الدين كله لله وحده.

عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله»[11].

وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل ﷲ»[12].

وفي قوله: ﴿ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ دلالة على أنه لا يقبل من أحد أن يدين لغير الله، أي: لا يقبل من أحد أن يدين بغير الإسلام، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19].

﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا ﴾ أي: فإن انتهوا عن كفرهم، وقتالكم، وما هم عليه من الظلم، والصد عن دين الله، ودخلوا في دين الله، أو بذلوا الجزية.

﴿ فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ أي: فكفوا عنهم ولا تقاتلوهم؛ لأن العدوان لا يجوز إلا على الظالمين، الكفار المقاتلين.

والمراد بالعدوان على الظالمين: المقاتلة لهم، أي: لا مقاتلة إلا للظالمين، وإنما سمي قتال الظالمين «عدوانًا» من باب المشاكلة، ومقابلة الشيء بمثله لفظًا؛ لأنه سببه، كما في قوله تعالى: ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 194]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126]، وقوله تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40].

وليس معناه أن مقاتلة الظالمين من العدوان، بل هي من الحق الواجب، لكن فيه إشارة واضحة إلى أن قتالهم بعد انتهائهم عما هم عليه من الظلم، هو من العدوان عليهم والظلم لهم.

وقيل: معنى ﴿ فَلَا عُدْوَانَ ﴾ أي: فلا سبيل، كما في قوله تعالى في قصة موسى: ﴿ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ [القصص: 28]؛ أي: فلا سبيل عليَّ.

والظلم في الأصل: النقص، كما قال تعالى: ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾ [الكهف: 33]؛ أي: ولم تنقص منه شيئًا.

وهو أيضًا: وضع الشيء في غير موضعه، على سبيل العدوان، وأظلم الظلم الشرك بالله، كما قال لقمان لابنه: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].

قوله تعالى: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾.

منع المشركون رسول الله وأصحابه عام الحديبية، سنة ست من الهجرة، في ذي القعدة، من دخول مكة، وصدوه عن البيت، فقاضاه الله، وأقصه منهم سنة سبع من الهجرة، في شهر ذي القعدة، فدخل مكة، وقضى عمرته، فأنزل الله - عز وجل - قوله: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [13].

قوله: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾ «أل» في «الشهر» للجنس؛ لأن الشهر الحرام ليس شهرًا واحدًا وإنما هي أربعة أشهر، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾ [التوبة: 36]، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، كما في حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الزمان قد استدار، كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم؛ ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان»[14].
يتبع






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 07-12-2022, 09:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,201
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم





تفسير قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ... ﴾

قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾[البقرة: 172 - 176].

قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾.

أمر الله عز وجل في الآيات السابقة الناس عمومًا بالأكل مما في الأرض حلالًا طيبًا، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم، ثم امتن على المؤمنين خاصة بأمرهم بالأكل من طيبات ما رزقهم الله، مبينًا لهم ما حرم عليهم؛ لأنهم هم الذين يمتثلون أمر الله ويجتنبون نهيه شكرًا له، ولهذا قال: ﴿ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾.

قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ سبق الكلام عليه.

﴿ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾: الأمر للامتنان والإباحة، وقد يستحب في بعض الأحوال، وقد يجب حفاظًا على بقاء النفس.

﴿ مِنْ ﴾: لبيان الجنس، وقيل: للتبعيض.

والمراد بالطيبات: الحلال في ذاته وعينه، بحيث لا يكون نجسًا ولا مستخبثًا ضارًّا بالبدن أو العقل، والحلال في كسبه بحيث لا يكون مسروقًا أو مغصوبًا أو من كسب حرام، كالربا والقمار والغش، ونحو ذلك.

والطيبات أيضًا ما يستطاب ويستلذ وينفع، كما قال تعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ﴾ [الأعراف: 157].

﴿ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ «ما»: موصولة، أي: من طيبات الذي رزقناكم، أي الذي أعطيناكم وأمددناكم.

﴿ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ ﴾ معطوف على ﴿ كُلُوا ﴾، وفيه التفات في التكلم إلى الغيبة، فلم يقل: «واشكرونا».

كما أن فيه إظهارًا مقام الإضمار، للإشعار بعظمة الله عز وجل، وأنه الإله المستحق للشكر وحده دون سواه.

والأمر هنا للوجوب؛ لأن شكر الله عز وجل واجب، بل هو أعظم الواجبات وأهمها وأوجبها.

والشكر الاعتراف بنعمة المنعم، والثناء عليه بها، والاستعانة بها على رضاه، قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة
يدي ولساني والضمير المحجبا[1]


وشكر الله تعالى يكون بالقلب، بالاعتراف بنعم الله باطنًا، ويكون باللسان بالاعتراف بها ظاهرًا والثناء عليه بها ونسبتها إليه، والتحدث بها، قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ [الضحى: 11].

ويكون بالجوارح بالاستعانة بها على طاعة الله تعالى والعمل الصالح، كما قال تعالى: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ﴾ [سبأ: 13].

وقام صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، وقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»[2].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله عز وجل أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون ﴾[البقرة: 172][3].

وأمر عز وجل بالشكر بعد الأمر بالأكل من الطيبات؛ لأن الشكر يحفظ النعم الموجودة، ويجلب النعم المفقودة، كما قال تعالى: ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].

وقد أحسن القائل:
إذا كنت في نعمة فارعها
فإن المعاصي تزيل النعم
وحافظ عليها بشكر الإله
فإن الإله سريع النقم[4]


﴿ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾: قدم المفعول «إياه» للحصر والاختصاص، أي: إن كنتم إياه تعبدون، وتعتقدون حقًّا تفرده بالعبادة وحده، فاشكروا له وحده؛ لأن عبادتكم له عز وجل تستلزم شكره، بل هي الشكر نفسه.

قال ابن القيم[5]: «الذي حسن مجيء «إن» ههنا الاحتجاج والإلزام، فإن المعنى: إن عبادتكم لله تستلزم شكركم له، بل هي الشكر نفسه، فإن كنتم ملتزمين لعبادته داخلين في جملتها، فكلوا من رزقه واشكروه على نعمه».

قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾[البقرة: 173].

ذكر عز وجل في الآية السابقة إباحة الطيبات، ثم ذكر تحريم الخبائث، فقال: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ، كما قال تعالى في سورة النحل: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 115].

وقال تعالى في سورة المائدة: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ﴾ [المائدة: 3].

وقال تعالى في سورة الأنعام: ﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 145].

قوله: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ﴾ قرأ أبو جعفر «حُرِّم» بالبناء للمفعول، وقرأ الباقون ﴿ حرَّم ﴾ بالبناء للفاعل، أي: إنما حرم الله عليكم الميتة، و«إنما»: أداة حصر.

والحصر: إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه، أي: ما حرم الله عليكم إلا هذه الأشياء المذكورة.

وذكرها بطريق الحصر وعدَّها ليدل على قلة المحرمات، وليدلل بمفهوم ذلك على كثرة الطيبات.

كما أن في ذلك تعريضًا بالمشركين الذين حرموا على أنفسهم كثيرًا من الطيبات، وأحلوا الميتة والدم، وما ذبح لغير الله.

ومعنى: ﴿ حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ﴾: أي منع، وحظر عليكم، والتحريم: الحظر والمنع.

﴿ الْمَيْتَةُ ﴾ قرأ أبو جعفر «الميّتة» بتشديد الياء، وقرأ الباقون بتخفيفها، وهما لغتان كما قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميْت ميِّت الأحياء[6]


و«الميتة» مفعول «حَرَّم»، والمعنى: إنما حرم عليكم أكل الميتة، يدل على هذا قوله في الآية قبلها: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾[البقرة: 172]، ثم قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ ﴾، فهذا أشبه بالاستثناء من قوله: ﴿ كُلُوا ﴾، أي: إلا هذه الأشياء فلا تأكلوها، وفي الحديث: «إنما حرم من الميتة أكلها»[7].

و«أل» في «الميتة» تفيد العموم، فكل ميتة حرام، يحرم أكل أي جزء منها.

والميتة في اللغة: ما مات حتف أنفه.

وفي الشرع: ما مات بغير ذكاة شرعية ولا اصطياد، سواء مات حتف أنفه، أو ذبح على غير اسم الله، أو ذبح ولم يذكر اسم الله عليه، أو ذكاه من لا تحل ذبيحته كالمجوسي والمشرك والمرتد، ونحو ذلك.

﴿ وَالدَّمَ ﴾: معطوف هو وما بعده على الميتة، أي: وحرم عليكم الدم، أي: أكل الدم، والمراد به الدم المسفوح، وهو الذي يُسفح عند التذكية دون ما يتبقى في اللحم والعروق، ودون دم الكبد والطحال والقلب، فليس محرم.

وإنما نص عز وجل على تحريم الدم؛ لأن بعض العرب كانوا يجعلون الدم في الأمعاء، ثم يشوونها بالنار ويأكلونها، ويسمون ذلك الفصد.

وحكمة تحريم أكل الدم أو شربه أنه يورث ضراوة في الإنسان فتغلظ طباعه فيصير كالحيوان المفترس.

قال ابن تيمية[8]: «وحرم الدم المسفوح؛ لأنه مجمع قوى النفس الشهوية الغضبية وزيادته توجب طغيان هذه القوى، وهو مجرى الشيطان من البدن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»[9]».

﴿ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ﴾، أي: وحرم عليكم أكل لحم الخنزير، سواء ذكي أو مات حتف أنفه، وهذا يشمل لحمه وشحمه وجميع أجزائه، إما تغليبًا أو إن اللحم يشمل ذلك كله.

وحكمة تحريمه - والله أعلم - تناوله القاذورات بإفراط وقذارته، وما فيه من الأوصاف الذميمة التي تضر بالنفس والبدن، قال الأطباء: إنه يورث الدودة الوحيدة التي تؤدي إلى أعراض وأمراض كثيرة.

﴿ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ﴾: معطوف على ما قبله، و«ما»: موصولة، أي: وحرم عليكم الذي ﴿ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ﴾، وهو ما ذكر عليه عند تذكيته اسم غير الله، من الأنصاب والأصنام والأوثان، أو قصد به التقرب لغير الله، حتى ولو ذكر اسم الله عليه.

و﴿ أُهِلَّ ﴾: مبني للمفعول، أي: وما أَهل عليه المهلُ لغير الله، وضمن «أُهل» معنى: «تُقرب»، فتعدى إلى المتعلق بالباء وباللام مثل: «تُقرب».

وفائدة هذا التضمين تحريم ما تقرب به لغير الله سواء ذكر اسم المتقرب إليه أم لا.

والإهلال في الأصل: رفع الصوت، قيل: مأخوذ من رفع الصوت عند رؤية الهلال، وقيل غير ذلك، ومنه الحديث: «إذا استهل المولود ورث»[10].

ومنه الإهلال بالتلبية، أي: رفع الصوت بها.

قيل: كان العرب في الجاهلية إذا ذبحوا أو نحروا للصنم صاحوا باسمه عند ذلك، فقالوا باسم اللات أو باسم العزى، ونحو ذلك.

قال السعدي[11]: «وهذا المذكور غير خاص للمحرمات، وجيء به لبيان أجناس الخبائث المدلول عليها بمفهوم قوله: ﴿ طَيِّبَاتِ ﴾، فعموم المحرمات تستفاد من الآية السابقة، من قوله: ﴿ حلالًا طيبًا ﴾ كما تقدم».


﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ ﴾ قرأ عاصم وحمزة بكسر النون لالتقاء الساكنين، وقرأ الباقون بضمها، وقرأ أبو جعفر «اضطِرَّ» بكسر الطاء، وقرأ الباقون بضمها.

و«من»: شرطية، و«اضطر» فعل الشرط، أي: فمن ألجأته الضرورة إلى الأكل من هذه المحرمات، كأن خاف على نفسه التلف بسبب جوع، أو أكره.

﴿ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ ﴾؛ أي: حال كونه غير باغ ولا عاد، أي: ﴿ غَيْرَ بَاغٍ ﴾، أي غير طالب لأكل المحرم، بلا ضرورة، ﴿ وَلَا عَادٍ﴾ أي: ولا متجاوز حد الضرورة في الأكل، كما قال تعالى: ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 3]، وقال تعالى: ﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ [المؤمنون: 7].

﴿ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ جواب الشرط «مَنْ»، قرن بالفاء؛ لأنه جملة اسمية، و«الإثم»: الذنب، أي: فلا ذنب عليه ولا عقوبة.

﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾: تعليل للحكم قبله، فنفى عز وجل الإثم عمن ألجأته الضرورة إلى الأكل من هذه المحرمات من غير بغي ولا عدوان؛ لأنه عز وجل غفور رحيم.

و﴿ غَفُورٌ﴾ على وزن «فعول» صفة مشبهة أو صيغة مبالغة يدل على سعة مغفرته عز وجل وكثرتها، فهو عز وجل يغفر لكثير من عباده، ويغفر الذنوب الكثيرة، بل يغفر الذنوب جميعًا، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ [النجم: 32]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].

و«المغفرة»: ستر الذنب في الدنيا عن الخلق، والتجاوز عن العقوبة عليه في الآخرة، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدني الله العبد المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه وستره، فيقرره بذنوبه، فيقول: أتعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: أي رب، فيقول الله تعالى: أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»[12].

ومنه سمي «المغفر» وهو البيضة التي توضع على الرأس؛ لأنه يستر الرأس ويقيه السهام.

﴿ رَّحِيمُ ﴾ أي: ذو الرحمة الواسعة التي وسعت كل شيء وعمت كل حي.

والمعنى: إن الله غفور لمن أكل من هذه المحرمات حال الضرورة ﴿ رَّحِيمُ ﴾؛ حيث رخص له الأكل في هذه الحال إبقاءً على نفسه.

قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾[البقرة: 174].

قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ «إنَّ»: حرف توكيد ونصب، «يكتمون»: يخفون، و«ما»: موصولة.

و«أل» في «الكتاب» يحتمل أن تكون للجنس، فيشمل جميع ما أنزله الله من الكتب؛ التوراة والإنجيل وغيرهما، ويشمل ذلك اليهود والنصارى وغيرهم، فيكون المعنى: إن الذين يخفون الذي أنزل الله على رسله من الكتب، كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحديد: 25].

ويحتمل أن تكون «ال» للعهد، فيكون المراد بـ«الكتاب»: التوراة؛ لأنه أعظم الكتب قبل نزول القرآن، فيكون المراد بـ﴿ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ﴾ أهل الكتاب، وبخاصة اليهود، والأول أعم، لكن أهل الكتاب لا شك هم أول من يدخل في هذا لكتمانهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم وما في كتبهم من الشهادة بصدق رسالته، وما جاء به من الحق.

﴿ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾: معطوف على ﴿ يَكْتُمُونَ ﴾، أي: ويأخذون ويعتاضون ﴿ بِهِ ﴾، أي: بما أنزل الله من الكتاب وبكتمانهم له.

﴿ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾، أي: عوضًا زهيدًا حقيرًا من المال والرشوة والرياسة والجاه، ونحو ذلك، فكل ذلك قليل وحقير زهيد بالنسبة لما في الآخرة، ولو كان ذلك الدنيا كلها بحذافيرها.

وفي قوله: ﴿ قَلِيلًا﴾ إشعار بدناءة نفوسهم حيث رضيت بالقليل.

﴿ أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ﴾ الإشارة للذين ﴿ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾، وأشار إليهم بإشارة البعيد: ﴿ أُولَئِكَ ﴾؛ إشارة لانحطاط منزلتهم وتحقيرًا لهم، وتشهيرًا بهم.

و«ما»: نافية، وتخصيص الأكل من بين سائر الانتفاعات؛ لأنه المقصود الأهم من جمع المال.

وقوله: ﴿ فِي بُطُونِهِمْ ﴾ للتأكيد والمبالغة؛ لأن الأكل لا يكون إلا في البطون، وهذا كقوله تعالى: ﴿ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ ﴾ [الأحزاب: 4]، وقوله تعالى: ﴿ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ ﴾ [النور: 15]، وقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].

وكقول القائل: «سمعت بأذني، وأبصرت بعيني».

وفي قوله: ﴿ فِي بُطُونِهِمْ ﴾ تنبيه على شرهم وتقبيح لصنعهم، حيث كتموا ما أنزل الله واعتاضوا عنه بالثمن القليل من أجل بطونهم.

﴿ إِلَّا النَّارَ ﴾ «إلا»: أداة حصر.

﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: النفي هنا ليس نفيًا لمطلق الكلام، بل نفي للكلام المطلق، أي: لا يكلمهم تكليم تكريم، ورضا ورحمة؛ لغضبه وسخطه عليهم، وهذا عذاب معنوي ينصب على قلوبهم، لا يقل عن العذاب الحسي بالنار.

ولا ينافي هذا تكليمه لهم تكليم مساءلة. وتوبيخ وتقريع وغضب، كقوله تعالى: ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الحجر: 92 - 94]، وقوله تعالى: ﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الأعراف: 6]، وقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴾ [المؤمنون: 107، 108].

﴿ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ﴾، أي: ولا يطهرهم، ولا يثني عليهم، وهذا فيه كناية عن ذمهم.

﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي: عقاب ونكال.

﴿ أَلِيمٌ ﴾ على وزن فعيل، بمعنى «مفْعِل»، أي: مؤلم موجع، حسيًا للأبدان، ومعنويًا للقلوب.

فقابل اشتراءهم بما أنزل الله الثمن القليل وطمَعهم بالوعيد والإخبار أنهم ﴿ أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ﴾.

وقابل كتمانهم الحق وعدم نطقهم وتكلمهم به بالوعيد والإخبار بنفي تكليمه لهم يوم القيامة، فقال تعالى: ﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾.

وقابل ذلك كله بعدم تزكيتهم، وبالعذاب الأليم، فقال تعالى: ﴿ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.

قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾[البقرة: 175].

ذكر الله عز وجل في الآية السابقة الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنًا قليلًا من الدنيا، وذكر ما أعد لهم من النار والعذاب الأليم، ثم أتبع ذلك بيان أنهم بهذا العمل اختاروا الضلالة بدل الهدى، والعذاب بدل المغفرة، فما أصبرهم على النار.

﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ﴾ الإشارة للذين ﴿ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾، وأشار إليهم بإشارة البعيد- كما سبق- تحقيرًا لهم.

﴿ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ﴾ أي الذين اختاروا الضلالة لأنفسهم ولغيرهم، واعتاضوا بها وأخذوها بدل الهدى في الدنيا، بسبب كتمانهم الحق، للمطامع الدنية والأغراض الدنيوية، فضلوا بأنفسهم وأضلوا غيرهم.

﴿ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ﴾، أي: واختاروا العذاب واعتاضوا به، وأخذوه بدل المغفرة والستر والتجاوز عنهم في الآخرة، بما تعاطوه من أسباب العذاب، فخسروا بسبب ذلك الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال:
﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾ الفاء: استئنافية، و«ما»: نكرة تامة، ومعناها التعجب، والتقدير، أي شيء عظيم أصبرهم، كما قال تعالى: ﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ﴾ [عبس: 17].

وقال بعضهم: «ما» استفهامية فيها معنى التعجب، والتقدير: فما الذي أصبرهم على النار؟! قال أبوبكر بن عياش: «هذا استفهام ولو كانت من الصبر قال: (فما أصبرُهم) رفعًا قال: يقال للرجل: ما أصبرك؟ ما الذي فعل بك هذا؟»[13].

والآية إرشاد منه عز وجل للمخاطبين أن يتعجبوا من صبر هؤلاء على النار، وهي تعجب من ارتكابهم ما يوجب لهم النار من كتمان ما أنزل الله، فكأنهم صبروا عليها أو يدَّعون الصبر عليها.

قال قتادة: ﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾، يقول: فما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار»، وقال: «والله ما لهم عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على النار»[14].

ويحتمل أن يكون العجب من الله عز وجل يعجب من ارتكابهم ما يوجب لهم النار، كما في قوله تعالى: ﴿ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ﴾ [الصافات: 12].

على قراءة حمزة والكسائي وخلف بضم التاء.

وفي حديث أبي رزين: «عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره»[15].

والعجب من الله هو بالنظر إلى حال المتعجب منه في خروجه عن نظائره، وعما ينبغي أن يكون عليه، وليس لخفاء أسباب الشيء المتعجب منه عليه جل وعلا، فهذا مستحيل في حقه سبحانه لأنه عز وجل لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

وعلى كل فليس في الآية ما يقتضي أنهم يصبرون على النار، وقد ذكر الله عز وجل عن أصحاب النار قولهم: ﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ [المؤمنون: 107]، وقولهم: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 49] وقولهم: ﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ﴾ [الزخرف: 77]، وغير ذلك.

قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾[البقرة: 176].

توعد الله عز وجل في الآيات السابقة الذين يكتمون ما أنزله من الكتاب ويشترون به ثمنًا قليلًا بالنار وحرمانهم من تكليم الله وتزكيته لهم، وبالعذاب الأليم، ثم أتبع ذلك ببيان سبب ذلك وهو كتمانهم الحق الذي أنزله الله عز وجل واختلافهم فيه ومشاقتهم لله تعالى.

قوله: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾ المشار إليه- كما تقدم- هو ما توعد الله به المذكورين من النار والعذاب، وحرمانهم من تكليم الله لهم وتزكيته لهم.

وجيء بالإشارة ﴿ ذَلِكَ ﴾ لربط الكلام اللاحق بالكلام السابق.

﴿ بِأَنَّ اللَّهَ ﴾ الباء: للسببية، أي: بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق الذي يجب اتباعه، وبيانه، وعدم كتمانه، فلما كتموه واشتروا به ثمنًا قليلًا استحقوا هذا الوعيد، وهذا مقتضى ما أنزل الله به الكتاب من الحق والعدل.

و(ال) في «الكتاب» للجنس، فيشمل جميع كتب الله عز وجل التوراة والإنجيل والقرآن وغير ذلك.

﴿ بِالْحَقِّ﴾ الباء للملابسة، أي: متلبسًا بالحق، والحق: الأمر الثابت البين، فهو حق، وطريق وصوله حق، وهو مشتمل على الحق، أخباره صدق، وأحكامه عدل، كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام: 115].

﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ ﴾؛ أي: الذين اختلفوا في الكتاب الذي أنزله الله بالحق، فلم يتبعوا ما أنزله الله في كتبه، بل آمنوا ببعض كتب الله تعالى وكفروا ببعض، والواجب الإيمان بجميع كتب الله تعالى إجمالًا، والإيمان بالقرآن واتباعه تفصيلًا.

﴿ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾، الشقاق: الخلاف والمنازعة، مأخوذ من الشق، وهو الجانب؛ لأن كل واحد من المتنازعين يكون في شق وجانب غير شق وجانب صاحبه، والمعنى: وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي جانب بعيد عن الحق والصواب وعن الوفاق، كما قال تعالى: ﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 137].

[1] البيت لبشر. انظر: «المفضليات» ص (344).

[2] أخرجه البخاري في الجمعة (1130)، ومسلم في صفة القيامة (2819)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار (1644)، والترمذي في الصلاة (412)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1419) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري أيضاً من حديث عائشة رضي الله عنها، في التفسير (4837)، ومسلم في صفة القيامة (2820).

[3] أخرجه مسلم في الزكاة (1015،) والترمذي في التفسير (2989)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[4] انظر: «الدر الفريد وبيت القصيد» (2/ 395).

[5] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 380).

[6] البيت لعدي ابن الرعلاء الغساني، وهو في «الأصمعيات» ص (152)، «معجم الشعراء» ص(86).

[7] سيأتي تخريجه.

[8] انظر: «مجموع الفتاوى» (7/ 179- 180).

[9] أخرجه البخاري في الاعتكاف (2038)، ومسلم في السلام (2175)، وأبو داود في الصوم (2470)، وابن ماجه في الصيام (1779)، من حديث علي بن الحسين رضي الله عنه.

[10] أخرجه أبو داود في الفرائض (2920)، وابن ماجه في الفرائض (2751)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[11] في «تيسير الكريم الرحمن» (1/ 205).

[12] أخرجه البخاري في المظالم والغصب (2441)، ومسلم في التوبة (2768)، وابن ماجه في المقدمة (183) من حديث ابن عمر رضي الله عنهم.

[13] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 70).

[14] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 68).

[15] ذكره ابن تيمية في «العقيدة الواسطية»، وابن كثير في «تفسيره» (1/ 367) من حديث أبي رزين، وقال ابن تيمية: «إسناده حسن»، انظر: «العقيدة الواسطية» مع شرح العثيمين (2/ 26)، وحسنه الألباني في «السلسلة الصحيحة» حديث (2810).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 20-12-2022, 08:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,201
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




تفسير قوله تعالى﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾

قال الله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].

قال ابن كثير[1]: «فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولاً بالتوجه إلى بيت المقدس، ثم حولهم إلى الكعبة شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل، وامتثال أوامره، والتوجه حيثما وجه، واتباع ما شرع لهم، فهذا هو البر والتقوى، والإيمان الكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق إلى المغرب بر ولا طاعة، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه، ولهذا قال: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾؛ كما قال في الأضاحي والهدايا: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾[الحج: 37]، وكما قال تعالى: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة: 19]، وكقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»[2].

قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾، قرأ حمزة وحفص عن عاصم بنصب ﴿ البر ﴾ على أنه خبر «ليس» مقدم، والمصدر المؤوّل ﴿ أَنْ تُوَلُّوا ﴾ في محل رفع اسمها مؤخر؛ أي: ليس البرَّ توليتُكم، كما في قول الشاعر:
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم
فليس سواءً عالمٌ وجهولُ[3]



وقرأ الباقون برفع «البرُّ» على أنه اسم «ليس»، و﴿ أَنْ تُوَلُّوا ﴾: خبرها، أي: ليس البرُّ توليتكم.

و﴿ البر ﴾ كلمة جامعة لكل خصال الخير، الظاهرة والباطنة، وهو الذي تسكن إليه النفس، ويطمئن إليه القلب، كما قال صلى الله عليه وسلم: «البر ما سكنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب»[4]، وهو حسن الخلق، كما قال صلى الله عليه وسلم: «البر حسن الخلق»[5].

وهو ضد الإثم، كما قال تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]، وهو ضد الفجور؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾ [الانفطار: 13، 14].

أي: ليس البر وكثرة الخير ﴿ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ﴾ أي: أن توجهوا وجوهكم ﴿ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾، أي: جهة المشرق والمغرب، أي: أن توجهوا في صلاتكم إلى جهة المشرق أو المغرب، والخطاب للمؤمنين ولغيرهم من أهل الكتاب ونحوهم.

واقتصر على ذكر المشرق والمغرب؛ لأنهما أشهر الجهات، أو للإشارة إلى قبلة اليهود وقبلة النصارى، ولإبطال تهويل الفريقين على المسلمين حين استقبلوا الكعبة، ففيه تعريض بأهل الكتاب في لمزهم المسلمين وتلقين المسلمين الحجة عليهم.

﴿ ولكن البر ﴾ قرأ نافع وابن عامر: «البرُّ» بالرفع وتخفيف «لكِن»، وقرأ الباقون: ﴿ ولكن البر ﴾، أي: ولكن البر حقًّا، أو حقيقة البر.

﴿ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ﴾: خبر لمبتدأ ﴿ البر ﴾، ولكن على تقدير مضاف، أي: ولكن البر بر من آمن بالله.

والإيمان في اللغة: التصديق، وإذا عُدي بالباء تضمن مع التصديق الطُمأنينة والثبات والاستقرار.

والإيمان بالله هو الإيمان بوجوده وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.

والإيمان بالله هو أصل أركان الإيمان الستة وأولها وأعظمها، كما قال صلى الله عليه وسلم: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره»[6].

﴿ واليوم الآخر ﴾ هذا وما بعده مجرور عطفًا على لفظ الجلالة (الله)؛ أي: وآمن باليوم الآخر، وهو يوم القيامة وما فيه من البعث والمعاد والحساب والجزاء على الأعمال، وما فيه من المواقف والأهوال والجنة والنار، كما جاء في الكتاب والسنة، وهو أحد أركان الإيمان.

وسُمي يوم القيامة بـ«اليوم الآخر»؛ لأنه ليس بعده يوم، فآخر ليلة من الدنيا صبيحتها يوم القيامة.

وكثيرًا ما يُقرن بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر في القرآن والسنة؛ لأن الإيمان باليوم الآخر من أعظم أركان الإيمان؛ لأنه هو الذي يحمل على العمل؛ لأن فيه الحساب والجزاء على الأعمال، وقد رُويَ أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: «لولا الإيمان باليوم الآخر لرأيت من الناس غير ما ترى».

أي: لتنكر الناس بعضهم لبعض, واقتحموا الموبقات.

ويدخل في اليوم الآخر كل ما يكون بعد الموت؛ لأن الإنسان إذا مات قامت قيامته.

﴿ والملائكة ﴾ أي: وآمن وصدق بـ«الملائكة»، والملائكة: جمع «مَلك» وهم عالم غيبي خلقهم الله عز وجل من نور، كما قال صلى الله عليه وسلم: «خلق الله الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما ذكر لكم»[7].

والإيمان بالملائكة على وجه الإجمال واجب، بل ركن من أركان الإيمان، كما يجب الإيمان بما ذكر في الكتاب والسنة من أسمائهم وأوصافهم وأعمالهم، وغير ذلك على وجه التفصيل[8].

﴿ والكتاب ﴾ «أل» في «الكتاب» للجنس، فـ«الكتاب» اسم جنس يشمل جميع كتب الله عز وجل؛ أي: وآمن وصدق بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء على وجه الإجمال والتفصيل، من أولها إلى خاتمها وأشرفها القرآن الكريم المهيمن عليها كلها.

﴿ والنبيين ﴾، النبيين جمع «نبي»، ويدخل فيهم الرسول؛ لأن كل رسول نبي، ولا عكس، قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾ [النساء: 163].

أي: وآمن بجميع النبيين والرسل من لدن آدم عليه السلام إلى نبينا محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، كما جاء ذكرهم في الكتاب والسنة على وجه الإجمال والتفصيل.

﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى ﴾ معطوف على ﴿ آمَن ﴾، و«آتى» بمعنى «أعطى» تنصب مفعولين، الأول هنا: «المال»، والثاني: «ذوي القربى»، ويحتمل كون المفعول الثاني «المال»، والمفعول الأول «ذوي القربى».

﴿ وَآتَى الْمَالَ ﴾، أي: وأعطى المال حال كونه محبًّا له، راغبًا فيه؛ لحاجته إليه، أو تعلق نفسه به، لجودته أو نفاسته، أو حسنه وجماله، ونحو ذلك، وهذا أفضل الإنفاق، وأدل على الإخلاص، كما قال تعالى: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 8، 9]، وقال تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر»[9].

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾ أن تعطيه وأنت صحيح شحيح، تأمُل الغنى، وتخشى الفقر»[10].

﴿ ذوي القربى ﴾ أصحاب القرابة، وقدمهم؛ لأن حقهم آكدُ، فهم أولى من غيرهم بالصدقة والهدية إحسانًا إليهم، وتأليفًا بينهم؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذوي الرحم اثنتان: صدقة وصلة»[11].

وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنها وامرأة أخرى سألتا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما، وعلى أيتام في حجورهما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لهما أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة»[12].

ولما نزَل قوله تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92]، قال أبو طلحة رضي الله عنه: يا رسول الله إن الله أنزل هذه الآية: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾، وإن أحب مالي إليَّ (بيرحاء) وإني أضعها صدقة لله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: «بخٍ بخٍ ذاك مال رابح، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين»، ففعل ذلك أبو طلحة[13].

والأولى من القرابة بالإحسان والنفقة والصدقة الأقرب فالأقرب، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال: أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك أدناك»[14].

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك»[15].

وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول»[16].

﴿ واليتامى ﴾؛ أي: وآتى المال اليتامى، و«اليتامى»: جمع يتيم، ويتيمة؛ مأخوذ من اليتم وهو الانفراد، وهو من مات أبوه قبل بلوغه ذكرًا كان أو أنثى، فإذا بلغ زال عنه اليتم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يتم بعد احتلام»[17].

﴿ المساكين ﴾ جمع «مسكين» وهو الفقير الذي لا يجد شيئًا أو لا يجد كفايته في قوته ومسكنه وملبسه، ونحو ذلك، سُمي بذلك أخذًا من السكون واللصوق في الأرض وعدم الحركة؛ لأن الفقر أسكنه وأذله، كما قال تعالى: ﴿ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ﴾ [البلد: 16].

قال صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه»[18].

وقال صلى الله عليه وسلم: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالقائم الذي لا يفتر، وكالصائم الذي لا يفطر»[19].

﴿ وابن السبيل ﴾ «السبيل»: الطريق، و﴿ وابنالسبيل ﴾ المسافر، وسمي المسافر بابن السبيل لملازمته الطريق، كما يقال لطير الماء: «ابن الماء» لملازمته إياه.

فابن السبيل وهو المسافر المجتاز من بلد إلى بلد المنقطع في سفره، الذي نفذت نفقته، يُعطى ما يحتاجه من المال في سفره، وما يوصله إلى بلده، ولو كان غنيًا في بلده.

إن الغريب له حق لغربته
على المقيمين في الأوطان والسكن
لا تنهرن غريبًا حال غربته
الدهر ينهره بالذل والمحن[20]


وهؤلاء الأصناف الأربعة من أهم ما ينبغي الإحسان إليهم، كما قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 215].

﴿ والسائلين ﴾: جمع سائل، وهو المستجدي الذي يتعرض لسؤال الناس من المال بلسان المقال، وقد يكون بلسان الحال والتعريض دون التصريح، كأن يظهر ذلك على هيئته وملبسه ونحو ذلك، كما قيل:
حال المقل ناطق
عما خفى من عيبه
فإن رأيت عاريًا
فلا تسأل عن ثوبه[21]




﴿ وفي الرقاب ﴾، أي: وفي إعتاق الرقاب من الرق، والإعانة على ذلك وعون المكاتبين لوفاء ما كوتبوا عليه، وفداء الرقاب من الأسر والقتل.

ورتَّب من يعطون المال على هذا النحو، فبدأ بذي القربى؛ لأنهم أولى بالمعروف، ثم اليتامى لشدة حاجتهم، ثم المساكين الذين لا مال لهم حاضرًا ولا غائبًا، ثم ابن السبيل الذي قد يكون له مال غائب، ثم السائلين الذين منهم صادق وكاذب، ثم في الرقاب الذين لهم أرباب يعولونهم، فكل صنف أشد مما بعده.

﴿ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ﴾، معطوف على ﴿ آمن ﴾؛ أي: ومن ﴿ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ﴾؛ أي: ﴿ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ ﴾ فرضها ونفلها إقامة تامة بشروطها وأركانها، وواجباتها وسننها.

﴿ وَآتَى الزَّكَاةَ ﴾؛ أي: وأعطى الزكاة المفروضة لمستحقيها[22].

﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ﴾ معطوف على «من» الموصولة في قوله: ﴿ من آمَن ﴾.

و«إذا»: ظرف للزمن المستقبل مجرد من الشرط، وفي قوله: ﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ ﴾ دلالة على استمرارهم على الوفاء بعدهم، أي: الموفون بعهدهم وقت العهد، أي: في الحال التي يعاهدون فيها، فإذا عاهدوا وفوا، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ﴾ [الرعد: 20].

و«العهد» يشمل العهد فيما بينهم وبين الله عز وجل، والعهد بينهم وبين الخلق من المسلمين وغيرهم.

﴿ وَالصَّابِرِينَفِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ «الصابرين»: منصوب على المدح بفعل مقدر، أي: وأخص الصابرين.

﴿ وَالصَّابِرِينَ﴾ معطوف من حيث المعنى على قوله: ﴿ من آمَن ﴾، ولكن لما تكررت الصفات خولِف بين وجوه الإعراب، وهو أبلغ؛ لأن الكلام يصير على جمل متعددة، بخلاف اتفاق الإعراب، فإنه يكون جملة واحدة.

وتغير أسلوب الكلام وسياقه أدعى للانتباه، بخلاف ما إذا كان الكلام على نسق واحد ووتيرة واحدة.

ومثل هذا قوله تعالى: ﴿ والمقيمين الصلاة ﴾ في الآية: ﴿ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 162]، فقوله: ﴿ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ ﴾ منصوب على الاختصاص، أي: وأخص «المقيمين الصلاة».

ومثل هذا قول الشاعرة:
لا يبعدن قومي محمد الذين همو
سُم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك
والطيبون معاقد الأزر[23]




بنصب «النازلين» على الاختصاص.

﴿ فِي الْبَأْسَاءِ ﴾؛ أي: في حال البأساء، وهي البؤس وشدة الفقر، فلا يحملهم ذلك على التسخط والجزع، أو البحث عن المال بطريق الحرام من السرقة والغصب ونحو ذلك.

﴿ والضراء ﴾؛ أي: والصابرين في حال الضراء، وفي حال المرض والسقم والضر، كما قال أيوب عليه السلام: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 83]، فلا يحملهم الضر والمرض على الجزع والتسخط من قضاء الله وقدره.

﴿ وحين البأس ﴾؛ أي: والصابرين حين البأس، أي: وقت القتال لأعداء الله على ما سيصيبهم من القتل والجراح، ومن هذا الصبر على الأذى في سبيل الله مما لا يستطيع الإنسان دفعه، كما في الحديث: «صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة»[24].

وترقى في ذكر هذه الأحوال من الشديد إلى الأشد، فالصبر على المرض فوق الصبر على الفقر، والصبر على القتال فوق الصبر على المرض.

وعدي الصبر على البأساء والضراء بـ«في» لكثرة وطول الابتلاء بهذين الأمرين، وأتى بـ﴿ وحين ﴾ مع «البأس»؛ لأن البأس وهو القتال حالة لا تكاد تطول غالبًا.

وخص بالثناء في الآية الصابرين في هذه الأحوال الثلاث؛ لشدة حاجتهم إلى الصبر فيها؛ لعظم ما فيها من الآلام القلبية والمعنوية، والآلام البدنية والحسية، ولأن الصبر في هذه الأحوال ينتظم أنواع الصبر كلها، الصبر على أقدار الله، وعلى طاعة الله، وعن معصية الله تعالى.

﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾، الإشارة في الموضعين تعود إلى المتصفين بالبر والأعمال والصفات المذكورة في الآية، وأشار إليهم بإشارة البعيد «أولئك»، وأكد الجملة بكونها اسمية معرفة الطرفين تنبيهًا على عظم شأنهم ورفعة منزلتهم، وعلو مرتبتهم؛ أي: أولئك المتصفون بهذه الصفات المذكورة الذين صدقوا في اتصافهم بالبر والإيمان باطنًا بالإخلاص بقلوبهم، وظاهرًا بالمتابعة بأقوالهم وأفعالهم، وصدقوا بالوفاء بالعهد مع الله عز وجل، ومع الخلق، مصداق هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا»[25].

وهذه شهادة من الله عز وجل- خير الشاهدين- بصدقهم، فأنعم وأكرم بها من شهادة، فهي أعلى وأعظم شهادة؛ لأنها شهادة العلي العظيم- سبحانه وتعالى.

﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾، الإشارة مرة ثانية تأكيدًا لمدحهم والثناء عليهم، وأكد وصفهم بالتقوى بكون الجملة اسمية معرفة الطرفين، وبضمير الفصل «هم»، أي: وأولئك الذين اتقوا الله تعالى حقًا باجتناب ما ينافي البر.

فجمعوا بين كونهم أهل الصدق، بفعل المأمورات، وأهل التقوى بترك المحظورات المنافية للبر، وبهذا جمعوا بين البر والتقوى، كما قال عز وجل: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 2].

وفي وصفهم بالمتقين دلالة على أن القيام بالبر من التقوى، وأن التقوى من البر، وأن بينهما تداخلًا، وإذا انفرد أحدهما دل على معنى الآخر، وإذا اجتمعا فُسر «البر» بمعنى فعل المأمورات، وفسرت «التقوى» بترك المحظورات.

[1] في تفسيره (1 /296- 297).

[2] أخرجه البخاري في الأدب (6114)، ومسلم في البر والصلة (2609) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[3] البيت للسموأل، انظر: «ديوانه» ص (92).

[4] أخرجه أحمد (4 /694)، والدارمي في الأضاحي (2533)، من حديث أبي ثعلبة الخُشني- رضي الله تعالى عنه.

[5] أخرجه مسلم في البر والصلاة (2553)، والترمذي في الزهد (2389)، وأحمد (4 /182) من حديث النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنه.

[6] سبق تخريجه.

[7] أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2996)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[8] انظر الكلام على قوله تعالى في آخر السورة: ﴿ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ﴾ [البقرة: 285]، والكلام على قوله تعالى في سورة النساء: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ [النساء: 97].

[9] أخرجه البخاري في الزكاة – أي الصدقة أفضل (1419)، ومسلم في الزكاة (1032)، وأبو داود في الوصايا (2865)، والنسائي في الزكاة (2542).

[10] أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (1 /66)، وفي مصنفه – الأثر (16324)، والطبري في «جامع البيان» (3 /71- 79)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1 /288)، وقد روي مرفوعاً، والصحيح وقفه.

[11] أخرجه النسائي في الزكاة- الصدقة على الأقارب (2583)، وابن ماجه في الزكاة (1844)، من حديث سلمان بن عامر رضي الله عنه.

[12] أخرجه البخاري في الزكاة – الزكاة على الأقارب (1466)، ومسلم في الزكاة (1000)، والنسائي في الزكاة (2583)، وابن ماجه في الزكاة (1834).

[13] أخرجه البخاري في الزكاة (1461)، ومسلم في الزكاة (998)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

[14] أخرجه مسلم في البر والصلاة (2548)، وابن ماجه في الوصايا (3658).

[15] أخرجه مسلم في الزكاة (995).

[16] أخرجه البخاري في الزكاة (1428)، ومسلم في الزكاة (1034، والنسائي في الزكاة (2531)، والترمذي في صفة القيامة (2463).

[17] أخرجه أبو داود في الوصايا (2873) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وله شاهد من حديث جابر وأنسk.

[18] أخرجه البخاري في تفسير قوله تعالى: ﴿ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ﴾ [البقرة: 273] (4539)، ومسلم في الزكاة – المسكين الذي لا يجد غنى ولا يفطن له فيتصدق عليه (1039)، وأبو داود في الزكاة (1631)، والنسائي في الزكاة (2571)، وأحمد (2 /260، 393)، وانظر في تفصيل الكلام في معنى الفقير والمسكين في حال انفرادهما أو اجتماعهما عند الكلام على قول الله تعالى في سورة النساء: ﴿ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ ﴾ [النساء: 8]، وقوله تعالى في سورة التوبة: ﴿﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ﴾ [التوبة: 60].

[19] أخرجه البخاري في النفقات (5353)، ومسلم في الزهد والرقائق (2982)، والنسائي في الزكاة (2577)، والترمذي في البر والصلاة (1969)، وابن ماجه في التجارات (2140)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[20] البيتان من قصيدة تنسب لزين العابدين, وقيل لغيره. وقد ذكر بعضها بلا نسبة في «المنازل والديار» (ص50)، «تاج العروس» (14 /316).

[21] البيتان لبدر الدين الشافعي. انظر: «شذرات الذهب» (10 /487).

[22] انظر ما سبق في الكلام على قوله تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 110].

[23] البيتان للخرنق بنت بدر. انظر: «ديوانها» ص (12).

[24] أخرجه الحاكم في «المستدرك» (3 /432) (5646)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (3 /172) (1515) عن ابن إسحاق.

[25] أخرجه البخاري في الأدب (6094)، ومسلم في البر والصلاة (2607)، وأبو داود في الأدب (4989)، والترمذي في البر (1971)، وابن ماجه في المقدمة (460)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 20-12-2022, 08:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,201
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم


فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ... ﴾

1- أن البر ليس في تولية الوجوه قبل المشرق والمغرب؛ لقوله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾ [البقرة: 177].

2- أن البر حقًّا هو الإيمان بأصول الإيمان، من الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، مع القيام بالشرائع الظاهرة، من إعطاء المال وبذله للمحتاجين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهد، والصبر، وذلك ينتظم أعمال القلوب والجوارح، والباطن والظاهر، والإحسان في عبادة الله تعالى والإحسان إلى عباد الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾ [البقرة: 177].

3- أهمية صلاح القلب والأعمال الباطنة؛ لأن الله تعالى قدم ذكر الإيمان بأصول الإيمان، والإيمان بأركانه على الأعمال الظاهرة.

4- أن الإيمان بالله هو أصل الإيمان وأساسه، وأعظم أركان الإيمان وأولها؛ لأن الله تعالى بدأ به.

5- عظم وأهمية الإيمان باليوم الآخر، يوم القيامة وما فيه من الأهوال، والمواقف والحساب، والجزاء والجنة والنار لقرنه في الآية، بل في كثير من آيات القرآن الكريم بالإيمان بالله عز وجل؛ لأنه من أعظم ما يحمل على العمل.

6- إثبات وجود الملائكة ووجوب الإيمان بهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْمَلَائِكَةِ ﴾.

7- إثبات نزول الكتب السماوية من عند الله عز وجل، ووجوب الإيمان بها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْكِتَابِ ﴾، كما قال تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 213]، وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ﴾ [الحديد: 25].

8- إثبات النبوات ووجوب الإيمان بالنبيين على وجه الإجمال مطلقًا، وعلى وجه التفصيل والتحديد بمن ذكر منهم في القرآن الكريم.

9- الترغيب في الصدقات وإعطاء المال للمحتاجين، من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين، وأن ذلك من أعظم البر؛ لأن الله عز وجل ذكر ذلك بعد أركان الإيمان، فقال تعالى: ﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده.

10- فضل بذل المال والتصدق به مع محبته لحاجة ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ عَلَى حُبِّهِ ﴾.

11- الإشارة لحب النفوس للمال؛ لقوله تعالى: ﴿ عَلَى حُبِّهِ ﴾؛ كما قال في سورة الفجر: ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر: 20].

12- أن ذوي القربى أولى بالصدقة من غيرهم؛ لأن الله تعالى بدأ بهم، والأولى منهم الأقرب فالأقرب.

13- عناية الشرع الحنيف باليتامى والإنفاق عليهم لفقدهم من يعولهم وينفق عليهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْيَتَامَى ﴾.

14- مراعاة الإسلام حقوق ذوي الحاجات من المساكين وابن السبيل والسائلين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ ﴾.

15- أن ابن السبيل يُعطى من المال والصدقة حتى ولو كان غنيًا في بلده؛ لقوله تعالى: ﴿ وَابْنَ السَّبِيلِ ﴾.

16- أن السائل يُعطى من الصدقة حتى ولو كان غنيًّا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالسَّائِلِينَ﴾، وهذا مطلق عام في كل سائل، «وكان صلى الله عليه وسلم لا يرد سائلًا»[1]، «ولا يسأل على الإسلام شيئًا إلا أعطاه»[2]، وفي الحديث: «للسائل حق وإن جاء على فرس»[3]، وفيه: «ردوا السائل ولو بظلف محرق»[4].

17- حرص الإسلام على عتق الرقاب وتحريرها من الرق، وفدائها من القتل والأسر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَفِي الرِّقَابِ ﴾.

18- عظم مكانة الصلاة والزكاة في الإسلام، وأن من أعظم البر إقام الصلاة كما شرعها الله تعالى بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها، وإعطاء الزكاة لمستحقيها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ﴾.

19- الثناء على الموفين بالعهد فيما بينهم وبين الله تعالى، وفي عهودهم مع الخلق، وأن ذلك من البر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ﴾.

20- عناية الإسلام بالوفاء بالعهد، وأن ذلك من البر وتأكيد وجوب ذلك بقرنه بأركان الإيمان وبإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.

21- الترغيب في الصبر على أقدار الله تعالى وعلى طاعته عز وجل، والصبر عن معصية الله تعالى، وامتداح أهله الصابرين في حال البؤس والفقر وحال المرض والضر، وحين القتال لأعداء الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾.

22- شدة حاجة من أصابته البأساء والفقر، ومن أصابته الضراء والمرض، والمقاتل في سبيل الله إلى الصبر على ما يلاقيه، كل منهم من الآلام القلبية والمعنوية، من الآلام البدنية والحسية، ولهذا خص الله تعالى بالذكر الصابرين في هذه الأحوال.

23- في ختم أعمال البر التي ذكرت في الآية من الإيمان بالله واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين، وبذل المال للمحتاجين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهد بالثناء على الصابرين وامتداحهم إشارة؛ لعظم مكانة الصبر، فهو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد؛ لأنه لا يمكن القيام بما ذكر من أعمال البر وغيرها إلا بالصبر.

24- ثناء الله عز وجل على المتصفين بالبر القائمين بأعماله ظاهرًا وباطنًا، الموفين بالعهد، بوصفه لهم بالصدق والتقوى وتأكيد ذلك، والإشارة إلى علو مرتبتهم ورفعة منزلتهم؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾.

25- أن خصال البر وأعماله هي خصال التقوى بعينها؛ لقوله تعالى بعد أن ذكر خصال البر: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾.

26- فضل الصدق في الأقوال والأفعال مع الخالق عز وجل، ومع الخلق، وفضل التقوى بفعل الأوامر واجتناب النواهي؛ لأن الله تعالى مدح بهذين الوصفين أهل البر، فقال: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾.

[1] أخرجه البخاري في البيوع (2093)، وابن ماجه في اللباس (3555)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.

[2] أخرجه مسلم في الفضائل (2312) من حديث موسى بن أنس عن أبيه رضي الله عنه.

[3] أخرجه أبو داود في الزكاة – حق السائل – (1665)، من حديث حسين بن علي رضي الله عنه.

[4] أخرجه النسائي في الزكاة (2565)، وأخرجه بمعناه أبو داود في الزكاة (1667)، والترمذي في الزكاة (665) من حديث ابن بجيد الأنصاري عن جدته رضي الله عنها.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 20-12-2022, 08:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,201
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ... ﴾


1- دلت الآية على وجوب الوصية على مَن ترك مالًا كثيرًا للوالدين والأقربين؛ لقوله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾.
وقد أجمع أهل العلم على أن هذا الحكم ليس باقيًا على إطلاقه.

فذهب الجمهور منهم إلى أن هذه الآية منسوخة بآيات المواريث، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث»[1].

وذهب بعض أهل العلم إلى أن الآية محكمة، خصصتها آيات المواريث في الوالدين غير الوارثين، لرق أو اختلاف دين، وبمن لا يرث من الأقربين، فيوصى لهم. وهذا هو الراجح.

وبناءً على هذا اختلفوا في حكم الوصية، فذهب جمهور أهل العلم إلى أن الوصية مستحبة لغير الوارثين، من الوالدين والأقربين وغيرهم.

وذهب طائفة من أهل العلم إلى أن الوصية واجبة للوالدين والأقربين غير الوارثين، أو لغيرهم، مستدلين بالآية.

والراجح أن الوصية غير واجبة إلا على من كان عليه حقوق، أو عنده أمانات يجب عليه الخروج منها وبيانها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «ما حق امرئٍ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده»[2].
وقد حُكي الإجماع على هذا القول[3].

2- جواز الوصية ممن حضره الموت، لقوله تعالى: ﴿ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ﴾.
والمراد- والله أعلم- حضور علاماته، من مرض لا يرجى برؤه، ونحو ذلك، وليس المراد بحضور الموت حالة الغرغرة، وبلوغ الروح الحلقوم، وغلبة المرء على نفسه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ﴾ [النساء: 18].
3- أن الموت حق، وهو مصير كل مخلوق.

4- أن الوصية إنما تجب على من ترك مالًا كثيرًا؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا ﴾.
أما من ترك مالًا قليلًا فلا تجب عليه الوصية، بل ولا تستحب منه، بل الأفضل في حقه تركها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما: «إنك أن تذر ورثتك أغنياءَ، خيرٌ من أن تذرهم عالة، يتكففون الناس»[4].

5- ظاهر الآية جواز الوصية بما شاء من المال، وقد قيَّدت السنة ذلك بالثلث فأقل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لسعد رضي الله عنهما: «الثلث والثلث كثير».

6- فضل الوالدين وشرفهم على غيرهم، وعظيم حقِّهم، من بين سائر القرابة؛ لأن الله قدَّمهم في الذكر في الآية على الأقربين.

7- عظم حق القرابة لهذا أمر عز وجل بالوصية للوالدين والأقربين.

8- أن الأَولى بالوصية الأقرب فالأقرب من الميت؛ لقوله تعالى: ﴿ والأقربين ﴾.

9- يجب أن تكون الوصية بالمعروف شرعًا، فلا يوصي لوارث، ولا لغيره بأكثر من الثلث، ولا يكون القصد من الوصية مضارة الورثة، ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ بالمعروف ﴾.

10- تأكيد وجوب الوصية؛ لقوله تعالى: ﴿ حقًّا على المتقين ﴾، وفي هذا إشارة إلى أن من تقوى الله عز وجل الوصية لمن ذكروا، وأن المتقين هم الذين يمتثلون أوامر الله عز وجل دون من سواهم، وفي هذا إغراء بتقوى الله، وتشريف وتكريم لهم.

11- وجوب تنفيذ الوصية وَفْقَ نص الموصي، وتحريم تبديلها وتغييرها، والتحذير من ذلك، والوعيد لمن بدلها، بعد سماعه لها وعلمه بها، وبيان أنه ارتكب إثمًا عظيمًا؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ﴾.

وذلك لتعديه على حق الموصي، ولما في ذلك من الإضرار، إما بالورثة، كما في حال الزيادة في الوصية، وإما بالموصى له كما في حال النقصان منها، أو تغيير مجراها، لكن لو بدلها جهلًا، أو أخطأ في التصرف فيها، عن غير علم، وعن غير قصد، فلا إثم عليه ولا ضمان، لكن يجب عليه إرجاع الوصية إلى ما كانت عليه، والتصرف فيها وفق نص الموصي.

12- لا إثم على الموصي إذا عدل في وصيته، وبدلت بعد وفاته، بل للموصي أجره وعلى المبدل وزره، وهكذا كل من أسس خيرًا فله أجره، وإن بُدِّل بعده.

13- إثبات أفعال العباد الاختيارية؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ﴾، وفي هذا رد على الجبرية.

14- إثبات أنه عز وجل ذو السمع الواسع للدعاء ولجميع الأقوال والأصوات ومجيب الدعوات، وذو العلم الواسع المحيط بكل شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾.

15- في ختام الآية بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ تأكيد للوعيد السابق لمن بدل، وغيَّر في الوصية، كما أن فيه وعدًا لمن عدل فيها وأنصف، ونفَّذها وفق نص الموصي.

16- إذا حصل من الموصي ميل عن الحق في الوصية عن قصد أو عن غير قصد وجب أن يُصْلَح ما فيها من فساد، وميل عن الصواب، ويُصْلَح ما حصل من شقاق بسبب ذلك، بين الموصي- إن كان ذلك في حال حياته، وبين الورثة، والموصى له، ولا يعد هذا من التبديل المتوعد عليه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، بل إن المصلح لذلك مثاب مأجور، مغفور له، مرحوم بإذن الله عز وجل؛ لقوله تعالى في ختام الآية: ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.

17- أنه قد ينفى الإثم عن الشيء دفعًا لتوهُّمه، فلا ينافي ذلك كونه واجبًا، أو مندوبًا؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾.
وهذا كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ [البقرة: 158].

18- إثبات صفة المغفرة التامة، والرحمة الواسعة لله عز وجل رحمة ذاتية ثابتة له عز وجل ورحمة فعلية، يوصلها من شاء من خلقه، رحمة عامة لجميع خلقه، ورحمة خاصة بالمؤمنين.
فهو غفور لذنوب عباده مما يتعلق بالوصية وغير ذلك، ورحيم بهم؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.

19- أن التخلية قبل التحلية؛ لهذا قدَّم المغفرة على الرحمة؛ لأن بالمغفرة زوال المرهوب، وبالرحمة حصول المطلوب.
* * *


[1] أخرجه أبوداود في الوصايا- ما جاء في الوصية للوارث (2870)، والترمذي في الوصايا- ما جاء لا وصية لوارث (2120)، وابن ماجه في الوصايا- لا وصية لوارث (2713)، وأحمد (5/267) ـ من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».
وأخرجه من حديث عمرو بن خارجة رضي الله عنه النسائي في الوصايا- إبطال الوصية للوارث (3641)، والترمذي في الباب السابق (2121)، وابن ماجه في الباب السابق (2712)، وأحمد (4/ 186، 187). وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».
وأخرجه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ابن ماجه في الباب السابق (2714).

[2] سبق تخريجه.

[3] انظر: «الإفصاح» (2/ 70)، «المغني» (6/1- 2).

[4] سبق تخريجه.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 20-12-2022, 08:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,201
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم





تفسير قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ... ﴾

قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 178، 179]

عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾؛ «يعني إذا كان عمدًا، الحر بالحر، وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات، حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا ألا يرضوا، حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، فنزلت فيهم»[1].

ورُويَ نحوه عن قتادة[2]، ورُوي أنها نزلت في بني قريظة والنضير[3].

قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.

قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ) «يا» حرف نداء، و«أي» منادى نكرة مقصودة، مبني على الضم في محل نصب؛ لأن المنادى مفعول به، كقولك: أدعوك، و«ها» للتنبيه، و«الذين» اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب صفة لـ«أي» أو بدل منها.

و«آمنوا» صلة الموصول، أي: صدقوا بقلوبهم وألسنتهم، وانقادوا بجوارحهم.
والإيمان لغة: التصديق، وشرعًا: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان.

﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ﴾؛ أي: فرض عليكم القصاص، وبُني الفعل «فرض» لما لم يسم فاعله؛ لأن الذي كتب القصاص معلوم، وهو الله عز وجل الذي فرض الفرائض، وشرع الشرائع كلها.

و«القصاص» قتل القاتل بمن قتله، بمثل ما قتله به، وعلى الصفة التي قتله عليها، مأخوذ من قصِّ الأثر، وهو اتباعه، ومنه قوله تعالى: ﴿ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ﴾ [الكهف: 64]؛ أي: يقصان أثرهما ويتبعانه، وقوله تعالى: ﴿ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ﴾ [القصص: 11]؛ أي: اتِّبعي أثره، وسُمي جزاء الجاني قصاصًا؛ لأن المجني عليه يتبع أثر الجاني، فيفعل به كما فعل.

﴿ في القتلى ﴾؛ أي: في شأن القتلى، و«القتلى» جمع قتيل، كجرحى، جمع جريح.

﴿ الْحُرُّ بِالْحُرِّ ﴾، هذا وما بعده تفصيل لما أُجمل في قوله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾.

ومعنى قوله: ﴿ الْحُرُّ بِالْحُرِّ ﴾؛ أي: الحر يُقتل بدل الحر، فيُقتل الحر إذا قتل حرًّا، ومفهوم هذا أن الحر لا يقتل بالعبد، والراجح أنه يقتل به، كما سيأتي في الأحكام.

﴿ والعبد بالعبد ﴾؛ أي: والعبد يقتل بدل العبد، والعبد: هو الرقيق المملوك، ومن باب أولى أن يقتل العبد بالحر.

﴿ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ﴾؛ أي: والأنثى تُقتل بدل الأنثى، ومن باب أولى أن تقتل الأنثى بالذكر، ومفهوم الآية أنه لا يقتل الذكر بالأنثى، والصحيح أنه يقتل بها، كما سيأتي بيانه.

﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ ﴾ الفاء: عاطفة تفيد التفريع، و«من» شرطية، و«عفي» فعل الشرط، وجوابه جملة ﴿ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ وما عطف عليها، وقرن الجواب بالفاء؛ لأنه جملة اسمية، والعفو: التجاوز، والمراد به هنا التجاوز بإسقاط القصاص عن القاتل، والضمير في قوله «له» يعود إلى القاتل الذي عُفي عنه، والضمير في قوله «من أخيه» يعود إلى المقتول الذي عفا وارثه عن القصاص من قاتله؛ أي: ﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ ﴾؛ أي: من دم أخيه المقتول.

وقوله: ﴿ شيء ﴾ نكرة في سياق الشرط، فتعم أيَّ شيء، قليلًا كان أو كثيرًا.
فإذا عفا واحد من ورثة المقتول - مهما قلَّ نصيبُه - سقط القصاص.

﴿ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ﴾؛ أي: فالواجب على وارث وولي المقتول الذي عفا عن القصاص إلى الدية، اتباع القاتل بالمعروف، من غير أن يشق عليه، ويحمله ما لا يطيق من الدية، أو يمن عليه بعفوه عنه عن القصاص، أو يؤذيه.

﴿ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ﴾؛ أي: وعلى القاتل إيصال ما اتفق عليه من الدية إلى وارث المقتول.

﴿ بِإِحْسَانٍ ﴾ الباء للمصاحبة؛ أي حال كون هذا الأداء مصحوبًا بالإحسان الفعلي، بأداء ما اتفق عليه من الدية وافيًا، من غير مماطلة، أو مضارة، ومصحوبًا بالإحسان القولي بشكره والدعاء له، مقابل عفوه عن القصاص منه، واتباعه له بالمعروف.

﴿ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ الإشارة إلى المعنى المفهوم من قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾، وهو مشروعية العفو عن القصاص إلى الدية؛ أي: شرعنا لكم العفو عن القصاص إلى الدية تخفيفًا من ربكم عليكم، وقد كان الحال عند اليهود تحتُّم القصاص، وعند النصارى تحتم العفو، وليس لهم أخذ الدية، فخير الله عز وجل هذه الأمة بين الأمور الثلاثة.

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى، ولم يكن فيهم العفو، فقال الله لهذه الأمة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾، فالعفو أن يقبل الدية في العمد، وذلك تخفيف مما كتب على من كان قبلكم ﴿ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾ »[4].

وقوله: ﴿ من ربكم ﴾؛ أي: من خالقكم ومالككم ومدبِّركم، والخطاب لجميع المؤمنين، وأضاف اسمه عز وجل «الرب» إلى ضميرهم تذكيرًا لهم بنعمة ربوبيته لهم ليشكروه.

﴿ وَرَحْمَةٌ ﴾؛ أي: ورحمة من ربكم أيها المؤمنون، فمشروعية القصاص رحمة من الله عز وجل بجميع المؤمنين، وإسقاط القتل عن القاتل بالعفو رحمة له، وإباحة الدية لورثة المقتول رحمة لهم.


﴿ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ ﴾ الفاء: عاطفة، و«من» شرطية، أي: فمن اعتدى من أولياء المقتول، فقتل القاتل بعد العفو عن القصاص، وقبول الدية، أو بعد العفو مطلقًا.

ويحتمل أن المراد: فمن اعتدى من أولياء المقتول، أو القاتل الذي عفي عن القصاص منه فعاد إلى القتل مرة أخرى.

﴿ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ جملة جواب الشرط؛ أي: ﴿ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ في الآخرة، مع ما يترتب عليه في الدنيا من العقوبة بالقصاص أو غيره.

و﴿ أليم على وزن «فعيل» بمعنى «مفعل»؛ أي: مؤلم حسيًّا للبدن، ومعنويًّا للقلب.

عن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أُصيب بقتل أو خَبْلٍ، فإن أراد يختار إحدى ثلاث، إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد الرابعة، فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك، فله نار جهنم خالدًا فيها»[5].

وعن الحسن عن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أُعفي رجلًا قتل بعد أخذ الدية - يعني لا أقبل منه الدية، بل أقتله»[6].


وإنما شدَّد القرآن في أمر من يعفو عن القصاص، ثم يعتدي بعد ذلك على القاتل فيقتله؛ لما فيه من الخيانة، وعدم الوفاء بالعهد، ولما فيه من الشبه بمن يعود في هبته.

قوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾.
قوله: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ ﴾، أي: ولكم في شرع القصاص، وهو قتل القاتل بمن قتله، على الصفة التي قتله عليها، وفي قوله: «لكم» إشارة إلى أن القصاص إنما شرع رحمة لكم، وإحسانًا إليكم، وهكذا كل ما شرعه الله، إنما شرعه رحمة بالعباد، وإحسانًا إليهم، ولذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب، قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].

﴿ حياة ﴾ نكِّرت للتعظيم والتكثير، أي: حياة عظيمة كثيرة للنفوس ببقائها وسلامتها من القتل وصونها وحقن الدماء؛ لأن القاتل إذا علم أنه سيُقتل قصاصًا، أو توقَّع ذلك، كفَّ عن القتل، وارتدع خوفًا على نفسه، فكان في ذلك حياة له، ولمن أراد قتله، وللعنصر الإنساني.

قال ابن القيم[7]: «قوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾[البقرة: 179]، وهذا أحسن من قولهم: «القتل أنفى للقتل» لوجوه سبعة:

الأول: أن قولهم: «القتل أنفى للقتل» في ظاهره متناقض؛ لأنه جعل حقيقة الشيء منافية لنفسه، وإن قيل: إن المراد منه أن كل واحد من أفراد هذا النوع ينفي غيره، فهو أيضًا ليس أنفى للقتل قصاصًا، بل أدعى له، وإنما يصلح إذا خصص، فقيل: القتل قصاصًا أنفى للقتل، فيصير كلامًا طويلًا، مع أن التقييدات بأسرها حاصلة في الآية.

الثاني: أن القتل قصاصًا لا ينفي القتل ظلمًا؛ من حيث إنه قتل، بل من حيث إنه قصاص، وهذه الجملة غير معتبرة في كلامهم.
الثالث: أن حصول الحياة هو المقصود الأصلي، ونفي القتل إنما يراد لحصول الحياة، والتنصيص على الغرض الأصلي أولى من التنصيص على غيره.
الرابع: أن التكرار عيب، وهو موجود في كلامهم دون الآية.

الخامس: أن حروف «في القصاص حياة» اثنا عشر، وحروف «القتل أنفى للقتل» أربعة عشر.
السادس: أنه ليس في كلامهم كلمة يجمع فيها حرفان متلاصقان متحركان إلا في موضع واحد، بل ليس فيها الأسباب حقيقة متوالية، وقد عرف أن ذلك مما ينقص من سلاسة الكلام بخلاف الآية.

السابع: أن الدافع لصدور القتل عن الإنسان كراهته لذلك، وصارفه القوي عنه، حتى إنه ربما يعلم أنه لو قتَل قُتل، ثم لا يرتدع، وإنما رادعه القوي هو إما الطمع في الثواب أو الذكر الجميل، وإذا كان كذلك فليس أنفى الأسباب للقتل هو القتل، بل الأنفى لذلك هو الصارف القوي».

فيا لها من حكمة عظيمة في مشروعية القصاص، فيها صون النفوس المعصومة وبقاؤها، وأمن الناس على دمائهم.

وما تسلَّط المجرمون وعصابات السطو والقتل والإجرام، إلا بعد أن عطل حكم القصاص في كثير من بقاع الأرض، بما في ذلك كثير من البلاد الإسلامية بذريعة الرحمة والإنسانية المزعومة، وأن القتل همجية، حتى غصت السجون بالمجرمين، فيا سبحان الله، كيف يرحم المجرم، ولا يرحم المجتمع كله من شره، إنه انتكاس القلوب والفطر، وصدق الله العظيم: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50].

قوله: ﴿ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾؛ أي: يا أصحاب العقول النيرة التي تتعقل وتتدبر أحكام الله عز وجل، وما فيها من الحكم والمصالح، وتهدي أصحابها إلى ما ينفعهم، وتحجزهم عما يضرهم، ولهذا خصَّهم الله عز وجل دون غيرهم ممن لا يعقل.

وفي هذا ثناء منه عز وجل عليهم، وامتداح لهم؛ كما قال تعالى عنهم: ﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 17، 18].

﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ الجملة تعليلية، أي: لأجل أن تتقوا الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، والتي من أعظمها قتل النفوس المعصومة بغير حق.

[1] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 300).

[2] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 96).

[3] انظر: «تفسير ابن كثير» (1/ 299).

[4] أخرجه البخاري في التفسير (4498)، والنسائي في القسامة (4781)، والطبري في «جامع البيان» (3/ 104، 112)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 294)، والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (1/ 479).

[5] أخرجه أبوداود في الديات (4496)، وابن ماجه في الديات (2623)، والدارمي في الديات (2351).

[6] أخرجه أبوداود في الديات (4507)، وأحمد (3/ 363).

[7] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 382).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 6 ( الأعضاء 0 والزوار 6)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 359.04 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 353.16 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (1.64%)]