الأدب العربي في السنين المائة الأخيرة - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 519 - عددالزوار : 8800 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 5102 - عددالزوار : 2355167 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4687 - عددالزوار : 1652041 )           »          فضائل المعوذتين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 66 )           »          قِيمَةُ العَمَلِ في الإِسْلَامِ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 117 )           »          الاختلاف المثمر بين الزوجين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 92 )           »          مقبرةُ القرارات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 74 )           »          أن يكون القرآن حيّا في جوانبنا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 67 )           »          أخلاقُك تُعرف مِن كلماتك لا مِن هيئتك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 89 )           »          خطوات الشيطان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 64 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 04-10-2020, 06:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,406
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأدب العربي في السنين المائة الأخيرة

(10) الصحافة ونهضة الأدب:







وإذا كانت المعاهد التعليمية المختلفة قد قامت بقسط كبير في تثقيف الجيل الذي اضطلع بأعباء النهضة الحديثة، وإذا كانت حركة التأليف والنشر قد غذت تلك الجهود التربوية في تنشئة الجيل وإمداده بالوعي العلمي والثقافي - فإن هناك الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية التي يرجع إليها أكبر الفضل في تثقيف الجمهور العام، وإروائه من مناهل العلوم والفنون والآداب، على تباين مصادرها الشرقية والغربية، وعلى اختلاف ألوانها القديمة والحديثة.

كانت الصحافة وسيلة ناجحة للتنوير والتوجيه، وذلك ليسرها على الكاتب والقارئ معًا؛ فالكاتب يجد فيه ميدانًا قريب التناول للتعبير عن رأيه، ونشر ما تجود به القريحة، وبسط ما يهدي إليه البحث والدرس؛ إذ ليس الطريق ممهدًا أمام كل كاتب لإظهار ذلك في كتاب يطبع، والقارئ كذلك لا يتعذر عليه أن يحصل على صحيفة يومية أو مجلة أسبوعية أو شهرية يستمتع فيها بألوان ثقافية مختلفة ترضي شتى الأذواق، وتلائم شتى المستويات.



وقد تعددت الميادين الصحفية، بين دينية وعلمية واجتماعية وأدبية وفنية، ولا يستطيع باحثٌ في مصادر الاتجاهات الأدبية للعصر الحديث أن ينسى الأثر الكبير الذي أحدثته في رسم تلك الاتجاهات المجلات الشهرية والأسبوعية؛ كالمقتطف والهلال والمنار والهداية الإسلامية والزهور والسفور والسياسة الأسبوعية ولغة العرب والمشرق والجديد والحديث والمجلة الجديدة والرسالة والثقافة وعشرات غيرها، ولا الصحف اليومية كالأهرام والجريدة واللواء والمؤيد والبلاغ وسواها.



إن هذه المجلات والصحف كانت في ذلك الزمن بمثابة جامعات منتظمة، تتطاير منها المعارف المبسطة، والآراء الجديدة، والأفكار المتحررة، والتوجهات الثقافية، والآثار الفنية، على أوسع نطاق، وكثير من رجال الفكر والأدب كانت ينابيعهم فيما اكتَسَبُوا من عِلْمٍ ومعرفة واطلاع هي الصحف والمجلات، أكثر مما كانت ينابيعهم معاهد تعلموا فيها أو كتبًا تدارسوها، ولا شك في أن الصحافة يومئذٍ كانت تسدُّ النقص والحرمان الذي يشعر به المجتمع الشرقي من ناحية التعليم الجامعي، الذي كان مفقودًا أو محدود المجال.



وهذه الصحافة التي استطاعت أن تتجه بأسلوب الكتابة اتجاهًا يطوِّعها للتعبير عن كل ما يتصل بالحياة الفكرية، والكفاح الاجتماعي، وتبسيط العلم والمعرفة للجمهور العام.

وقد استفادت بذلك اللغة العربية مرونةً وسلاسة، وقدرة على الأداء السهل السائغ الدقيق، الحافل بالمعاني والأغراض.



وكذلك مما يُذكر للصحافة: أنها هي التي ازدهر في حقلها ذلك الفن الكتابي الذي أُطلق عليه اسم "المقالة"؛ فكانت أشبه بالرئة التي تعين على التنفس في يسر، ووجد الكتاب والأدباء فيها مجالاً للإفصاح عن خواطرهم والتعبير عن أفكارهم، وأصبحت "المقالة" غذاء سهل الإعداد على الكاتب، سهل الهضم للقارئ، وبلغ من خطر "المقالة" أن صارت مصدرًا للتأليف، وكثيرٌ من أمهات الكتب الأدبية العصرية إنما هي مجموعة "مقالات"، ولقد أدركت "المقالة" ذروتها الفنية على أقلام أدباء وكتاب أتقنوا صوغها وأحسنوا عرضها، وفي مقدمتهم "لطفي السيد" في مقالاته التي جمعت في كتابه "المنتخبات" و"التأملات"، و الدكتور "منصور فهمي" في مقالاته التي جمعت في كتابه "خطرات نفس"، و"عبدالعزيز البشري" في مقالاته التي جمعت في كتابه "المرأة"، وكتابه "المختار"، وكتابه "قطوف"، وكذلك "المنفلوطي" في "النظرات"، و"العقاد" في "الفصول" وغيره، و"المازني" في "قبض الريح" وسواه، و"أحمد أمين" في "فيض الخاطر"، و"الرافعي" في "وحي القلم"، و"الزيات" في "وحي الرسالة"، وأمثال هؤلاء كثيرٌ.



(11) تطور النهضة:

ويعتبر الربع الأول من القرن العشرين في حياتنا الأبية مرحلة حرث وتخطيط وإلقاء للبذور المختلفة، وتعهُّد لها بالسُّقيا، وتجربة لنباتها في حقول الأذهان؛ فكانت هناك نهضة إصلاح دينية تعالج تنقية المعتقدات من الخرافات والأوهام، وتصحيح الفهم لروح التدين وسلطانه على المجتمع السليم، ولا يُنسى في هذه الناحية فضل الرائد الأول "جمال الدين الأفغاني"، وحامل الشعلة من بعده "الشيخ محمد عبده".



وكانت هناك أيضًا نهضة لإحياء الثقافة العربية القديمة، وتحقيق التراث الذي تركه أعلام الفكر والأدب في الحضارة الإسلامية، وقد تولى إذكاء تلك النهضة وحمايتها من أن تقضي عليها الدعوات التجديدية المتطرفة طائفةٌ من أعلام البحث والتحقيق؛ أمثال: "أحمد تيمور"، و"شكيب أرسلان"، و"محمد كرد علي".



وكانت هناك أيضًا نهضة علمية تحاول الخروج بالتعليم من نطاق إعداد موظفين محدودي المعرفة، إلى آفاق البحث الحر والمشاركة في العلم، في ميادينه الرحبة التي جاءت بها الحضارة الحديثة، وقد تجلى مظهر هذه النهضة في إنشاء "الجامعة الأهلية" التي أصبحت فيما بعد هي "الجامعة المصرية" الرسمية.



وكانت هناك أيضًا نهضة تثقيفية عامة، تجلت في التصانيف المختلفة، وفي المجلات والصحف اليومية المتعددة؛ فرأينا مثلاً "لطفي السيد" يوجه الأفكار إلى الأسس التي تتوافر بها تربية الفرد والجماعة، ومن هذا كله شاعت في الأمة روح علمية منهجية عالية في مستوى البحث والدرس، تتناول مشكلات الحياة وأوضاعها، وما يتحقق به التقويم والتجديد والإصلاح، كما شاعتْ في الوطن العربي روح استقلالية تنفر من العبودية والتبعية، وتحاول إبراز الشخصية، وتنشد التحرر والهيمنة على أجهزة الحكم، وتوجيهها وجهة تلائم منازع النهوض، وأصبح الأسلوب الكتابي الذي يعبر عن هذا كله أسلوبا واقعيًّا زاخرًا بالموضوعات الوثيقة الصلة بأعماق المجتمع، المصورة لآماله وآلامه، وأخذ الكتاب يترفعون عن الزخارف والمحسنات اللفظية، ويأبون الصنعة والتكلف في التعبير، ويبرؤون من الإغراق في الأخيلة التافهة، ويتخلصون من الدوران حول الأغراض المكررة المبتذلة المحصورة في حدود من الأفكار العائمة والعلاقات الفردية السطحية.



(12) معركة القديم والجديد:

وقد التقت هذه العوامل مجتمعة مع فئات من أبناء الأمة تثقفهم معاهد تعليمية أجنبية قامت في أرجاء الوطن العربي، ومئات أخرى من الشباب الذين عادوا من أنحاء الغرب بعد أن اغترفوا من لغاتها ومن ثقافتها ما اغترفوا، وفي الوقت نفسه كان هناك "الأزهر" و"دار العلوم" وغيرهما من معاهد تعمل على حفظ اللغة العربية وإحياء علومها المتوارثة، وتقيم منها سدًّا منيعًا للاحتماء من هجمات الأفكار المتطرفة في الدين والأدب والاجتماع، وكان اجتماع العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية والتعليمية على هذا النحو، وتباين المنازع بين المفكرين وحملة الأقلام يوم ذاك - إيذانًا بنشوب معركة "القديم والجديد" بين الذين يؤمنون بالثقافة العربية من ناحية، والذين يؤمنون بالثقافة الأوروبية من ناحية أخرى.



ولعل روح النهضة والخروج من هذا السبات الطويل الذي عاشت فيه بلاد العروبة ردحًا من الدهر، وتفتح الأعين على حضارة غريبة ساطعة الأضواء تبهر الأنظار – لعل ذلك كله أشعر الرأي العربي العام بما يسميه علماء النفس "مركب النقص"، وكان لذلك أثره في كل من حزب اليمين وحزب اليسار، بين قادة الفكر في ذلك العصر.



فالمحافظون في الصف الأيمن دفعهم "مركب النقص" إلى الخشية من هذه الأمواج الدافقة التي اندفعت إلى الشرق من جانب الغرب، تحمل حضارة جديدة في كل شأن من شؤون الحياة ومرافقها الاجتماعية، فانبعثوا يدعون إلى المحافظة، ويحذرون من التهافت على البريق الخلاب، حتى لا يطغى من ورائه دفق الأمواج على كل مقومات الأمة من عقائد وتقاليد وتراث عقلي وأدبي؛ فيصبح العربي طوعًا لهذا الطغيان، غريبًا في كيانه ووجدانه؛ إذ تفتنه مدينة الغرب بلألائها، وتجذبه نحوها، فلا يبقى له من وجوده الموروث أثر.



والمجددون في الصف الأيسر دفعهم "مركب النقص" أيضًا إلى الحملة على كل قديم، والإزراء بكل موروث؛ إذ هالهم أن تتخلف الأمة عن ركب الحضارة الجديدة هذا التخلف البعيد، وسمت هممهم إلى ملاحقة الركب؛ فأغراهم ذلك بأن ينادوا بنبذ كل ما صاحب الأمة في عهود تخلفها من ثقافة جامدة ونظريات عتيقة، لم تعد في نظرهم تصلح لعصر البعث والإحياء؛ بل لقد كانوا يحسبون أن تلك الثقافة وهذه النظريات هي علة التخلف والضعف الذي مُنيت به الأمة، وهي التي عوَّقتها عن التقدم والنمو والازدهار.



ولقد كان لمركب النقص الذي شعر به كل من الحزبين المتباينين في ميدان الفكر أثره البالغ في إنعاش حركة الأدب، وإذكاء نشاط الفكر، والتمرس بطرائق النقد، ولئن دلت معركة القديم والجديد في هذه المرحلة من الحياة العقلية بين أنصار المحافظة والدعاة إلى التحرر على شيء؛ فإنها لتدل على أن الشعب فيه حياة وفيه انتفاضة، وفيه يقظة ووعي، بيد أن ذلك كان يختلف اتجاهات وميولاً وآراء بحسب اختلاف ينابيع الثقافة والعقلية للأمة في تلك المرحلة التي لم تتوحد فيها مناهج التربية والتعليم، وإنما كانت معاهد العلم والدرس متشعبة بين وطنية وأجنبية، بين شرقية وغربية، بين جامدة ومتحررة، تكاد في تشيعها تتناكر في الطابع والروح.



ولا يسعنا الآن إلا أن نحيى هذه المعركة التي دارت بين المحافظين والمجددين؛ فلن تبتلى أمة بأسوأ من الخمول والسكون؛ حيث لا تفكير في جديد، ولا نزاع على رأي، ولا دفاع عن مذهب، ولا موازنة بين موروث ومستحدث من نتاج القرائح والعقول والأذواق.



ومما لا شك فيه أن هذا الاختلاف المذهبي والصراع النقدي كان خيرًا وبركة على الأدب في توجيهه وجهة سديدة؛ إذ أنه أفاد المحافظين والمجددين جميعًا في كبح ما بنفوسهم من جماح التطرف والاستئثار بالسلطان على العقول والأفكار، وفي تجنبهم مزالق التفريط والإفراط؛ فقد كان لاصطراع المذاهب والأهداف ما يشبه التلاقح والتطعيم، ولذلك انتهت هذه المذاهب والأهداف إلى شيء من الاعتدال والتصالح والتوفيق، بفضل ما دار بين أشياعها وخصومها من تجاذب ونزاع.



(13) القصة الفنية وروادها في الأدب العربي:

وفي العهد الذي كانت فيه تتجمع الأسباب التي هيأت الأذهان من بعد لخوض تلك المعركة الحامية، معركة القديم والجديد، في ميدان الفكر والرأي والمعتقدات، كان هنالك نزوع عند ناشئة الأدباء إلى توجيه الأدب نحو الاستجابة للحياة الاجتماعية المتطورة، والتعبير عن الطابع الوطني للأمة في مختلف نوازعها، في أنماط جديدة تستوحي في صورها الأدب الأوربي الحديث، وكانت "القصة" بمعناها الفني قبلة الأنظار لبلوغ ذلك الهدف.



وقد سجل التاريخ في العقد الأول من القرن العشرين للدكتور "محمد حسين هيكل" أنه - وهو يومئذٍ شابٌّ نازحٌ إلى "فرنسا"، يتلقى فيها دراسة الحقوق - أجرى قلمه بكتابة قصة "زينب"، التي تعد باكورة القصص الفني في الأدب العربي، وقد احتوت وصفًا للريف المصري، يتراءى من خلال أحداث القصة وشخصياتها ومشاهدها.



وكذلك يسجل التاريخ في تلك الفترة لشقيقي "محمد تيمور" أنه لما عاد من "فرنسا" التي ذهب إليها حينًا لدراسة الحقوق أيضًا – بدأ يعالج كتابه القصة القصيرة والمسرحية، ويدعو إلى أدب مصري الملامح، مستكمل للعناصر الفنية، يعرض ألواحًا تصور بيئتنا القومية، بما يعتلج فيها من مشاعر وأشجان.

وعلى نهجه تتابعت أقلام الجيل الصاعد من الكتاب؛ فتألقت مدرسة الأدب القصصي الجديد، وكان من روادها: "شحاتة عبيد"، و"عيسى عبيد"، و"محمود طاهر لاشين"، و"يحيى حقي"، و"إبراهيم المصري"، وكاتب هذه السطور: "محمود تيمور".



ومن الظواهر التي لا بد من التنويه بها في هذا الإنتاج القصصي الفني الوليد: أنه قد تميز في لغته بشيء من الحرية والانطلاق؛ فلم يكن التعبير في القصص ملتزمًا كل الالتزام أوضاع اللغة في تقاليدها المتوارثة، وما تتزين به من زخرف لفظي ومحسنات بلاغية، وإنما كان أدباء الطليعة القصصية حراصًا على أن يستكملوا مقومات الصيغة المحلية باستخدام اللغة الدارجة كثيرًا في الحوار، وقليلاً في الوصف، وكان أولئك الرواد يحاولون أن يصطنعوا لأنفسهم أسلوبًا كتابيًّا تتوضح فيه شخصية الكاتب، ولا يكون محاكاةً وتقليدًا للأساليب الكتابية التي تلتزم تلك الأوضاع القديمة.



(14) أعلام الكتابة القصصية:

وبعد طبقة الرواد التي كانت تشق الطريق لوضع أساس القصة الفنية في الأدب العربي الحديث؛ تزاحمت عشرات الكتاب تعالج التأليف القصصي، وما هي إلا أن لمع في الأفق القصصي كاتب نابغة، يجمع إلى الثقافة العربية الأصيلة ثقافةً أوربيةً جامعيةً، ذلك هو الدكتور "طه حسين"، حين شرع يكتب سيرة شخصية مكتملة العناصر الفنية للقصص الرفيع، وهي سيرته هو منذ طفولته؛ فكان لتلك السيرة التي حملت اسم "الأيام" صدى بعيد في الأدب الجديد.



وفي هذه الحقبة رأينا كاتبًا أديبًا من أقطاب نهضة القلم، هو الأستاذ "إبراهيم عبدالقادر المازني" يرسم لنا صورًا قصصية تمتاز بالحيوية والطرافة ورشاقة العبارة وظرف الحديث، ومن هذه الصور ما يتخذ شكل أحداث ينتحلها الكاتب لنفسه، أو يحملها على مَنْ يعايشه من الأهل والصحب؛ فيكشف فيها زوايا فَكِهَة من جوانب الحياة وشؤون الناس، وقد احتوى هذه الصور كتابه "خيوط العنكبوت" و"صندوق الدنيا" وغيرهما، ثم كتب القصة الطويلة في ذلك المنحى الأنيس الذي عُرف به، فقرأنا له "إبراهيم الكاتب" وغيرها، ولا يغفل الناقد للأستاذ "المازني" أنه كان على فصاحة أسلوبه وإبداعه البياني يحاول المزج بين العامية والفصحى في حصافة ولباقة وحسن اختيار.



وبينما كان كتاب القصة يومئذٍ يزاولونها على تفاوت في درجة الإتقان، وتباين في فهم المعايير الفنية للأداء القصصي - سطع في سماء الأدب العربي نجم قوى اللألاء، ذلك هو الأستاذ "توفيق الحكيم"؛ إذ راع عصره بأدب مسرحي وقصصي يدل على معرفة تامة بأصول فن القصة وأوضاعه السليمة، إلى أصالة في الفكر، وعمق في الثقافة، ورهافة في الحاسة الفنية للتصوير، وحنكة في المعالجة والتحليل، وروعة في الخيال، وبراعة في إدارة الحوار، وإذا نحن نقرأ له "أهل الكهف" و"شهر زاد" و"عودة الروح"، وما إليها من تلك البدائع الفنية التي انطوت على قيم فكرية واجتماعية وأدبية ليست محدودة بحدود إقليمية ضيقة، ولكنها تستطيع أن تحتفظ بمستوى ملحوظ في سوق الأدب العالمي.



وبهذه الجهود القصصية التي توجتها روائع الأدباء الأعلام - استقرت مكانة القصة العربية بين فنون الأدب العربي المتوارثة، من "مقامة"، أو "مقالة"، أو "رسالة"، أو "قصيدة"؛ بل إن القصة ظلت تزاحم تلك الفنون حتى وصلت إلى الصدر، فإذا القصة عنوان الأدب الآن.



(15) المؤثرات في تقويم القصص الفني:

حقًّا، لقد استهوت القصة صفوة الكتاب والمفكرين، وتعددت على أقلامهم مناحيها وأساليبها؛ فاكتسب الأدب القصصي الحاضر تجارب وخبرات من مزاولات الأدباء له، ومن ثمرات الرقى العقلي والثقافي والاجتماعي للأمة العربية التي تثب وثبات بعيدة في سبيل استكمال النضج والوعي.



ومما يؤثر أثرًا قويًّا في تقويم الفن القصصي في الأدب العربي: مواصلة الترجمة على أوسع نطاق لأكبر الأعمال القصصية في مختلف اللغات الأجنبية؛ فالقصص الإنجليزي والقصص الفرنسي والقصص الروسي وغيره من قصص الآداب العالمية يتوافر في اللغة العربية، ويتزايد يومًا بعد يوم.



كذلك مما كان له أبلغ الأثر في إنضاج فن القصة العربية: انتشار الدراسات والمؤلفات التي تتناول علم النفس؛ فقد كانت هذه الدراسات والمؤلفات سبيلاً إلى تنمية الوعي الكتابي، والدقة في التحليل النفسي، بالوقوف على نظريات الفلاسفة والمفكرين المحدثين فيما يتعلق بالعقل الباطن، وتشابك الغرائز، وصراع النزعات، وسلطان ذلك على البواعث الظاهرة من سلوك البشر.



ومن الفنون القصصية التي نشأت حديثًا في الأدب العربي: فن قصص الأطفال، ولا تذكر نشأة هذا الفن إلا ذكر معها اسم "كامل كيلاني"، الذي شرع منذ ثلث قرن يقدم قصصًا مقتبسةً أو مخرجةً إخراجًا عربيًّا جديدًا من مصادر شتى، بينها مصادر عربية؛ مثل "ألف ليلة" وقصص "جحا"، وإلى جانب ذلك قدم ترجمات مبسطة ملائمة لمدارك النشء من روائع "شكسبير" وغيره من أعلام الأدب الأوروبي، وقدم أيضًا نماذج كثيرة من الأساطير.



وإذا كان الميدان اليوم حافلاً بأفانين من أدب الأطفال، مؤلفة أو مترجمة أو مقتبسة، لعدد كبير من رجال التربية والأدب والفكر؛ فإن "كامل كيلاني" يعتبر الرائد لهم في أدبنا العربي الحديث.



(16) محاولة الأدب تعصير اللغة والأسلوب والموضوع:

وإلقاءُ نظرةٍ عامة على أدبنا العربي الحديث، فيما سما إليه من تجديد، ومن مسايرة للأفكار العصرية في فهم رسالة الأدب ومهمة الأديب - ترينا أن أدبنا هذا قد مرَّ أول أمره بعهد حاول فيه تعصير اللغة بالاقتصار على الألفاظ الحية المأنوسة في الاستعمال، وحاول فيه تعصير الأسلوب بإخلائه من التزاويق والمحسنات، وحاول فيه تعصير موضوعه بجعله أدبًا محليًّا يستجيب للبيئة من حوله، ويعبر عنها، ولكنه في هذه العهد كله كان معنيًّا أيما عناية بالدوران حول تصوير العادات والتقاليد التي هي وليدة التخلف والجهالة وطغيان حكم الاستبداد، ومن ثم تنازع الكتاب مشكلات محلية موقوتة، مثل مشكلة الأخذ بالثأر، ومشكلة تحكم الأهلين في زواج البنت، ومشكلات التزمت في الأحكام الأخلاقية وفرضها على المجتمع، والمشكلات العاطفية في مجتمع تسري فيه روح الحجاب والحرمان الجنسي؛ فكان الأدب يصور ذلك كله، متخذًا له في أغلب الأحوال هدفًا أخلاقيًا هو الانتصار للفضيلة وإعلاء كلمتها حين تصير الأمور إلى الغايات، وتنتهي المقدمات إلى النتائج، ولا شك في أن النتاج الأدبي في ذلك العهد كان – طوعًا لتلك الفروض والقيود – بادي الضعف من الوجهة الفنية البحتة؛ إذ كان يفقد حرية الاستلهام وحرية الأداء، بيد أننا لا ننكر أن الأدب يومئذ قد أدى للأمة رسالة إصلاحية بعثت عليها الظروف والملابسات.



وقد شغل الأدب بهذه الاتجاهات المحلية الموقوتة، والنقد الأخلاقي المحدود، ومحاولة الإصلاح الاجتماعي في ذلك العهد، عن لمس الأهداف الإنسانية العامة، والمثل العليا في نطاقها الرحيب، والمشكلات الدقيقة، والمشاعر الأصلية الناجمة عن الغرائز البشرية الثابتة.



(17) التصوير الفني للمشكلات الاجتماعية:

على أن هذا العهد لم يلبث أن تقلص، ليبدأ عهد جديد يرتقي فيه التعبير عن المشكلات الاجتماعية، وعن البواعث الكمينة للتقاليد والعادات، وعن الأثر البعيد للملابسات الاقتصادية والعمرانية في المجتمع العصري، وهكذا انتقل الأدب من الصور الهزيلة في قصص "عبدالله النديم" - مثلاً - إلى الصور الفنية الرفيعة في قصة "المستضعفين في الأرض" للدكتور "طه حسين"، ومن الصور البسيطة "لمحمد المويلحي" في "حديث عيسى بن هشام"، إلى الألواح النابضة في "يوميات نائب في الأرياف" "لتوفيق الحكيم"، ومن نقدات "حافظ إبراهيم" الوعظية في "ليالي سطيح"، إلى المنحى العصري في قصص "يحكى أن" "لمحمود طاهر لاشين".



(18) الأدب بين العامية والفصحى:

ويجمل بنا أن نشير إلى أن اللغة التي يُكتب بها الأدب الحديث هي العربية الفصحى، وقد أخفقت كل المحاولات التي أُريد بها تسويد اللهجات العامية في البلاد العربية، وجعلها لغة كتابة كما هي لغة تخاطب وحديث، هذا مع أن اللهجات العامية أسهمت في التعبير الأدبي في الأغاني والأناشيد والأزجال والحوار القصصي والمسرحيات المحلية، ونبغ في أدب اللغة العامية أدباء مثل الزجال "بيرم التونسي" والشاعر "أحمد رامي"؛ إذ قدموا إنتاجًا فيه حرارة وحيوية، وفيه سمو فني، وفيه استلهام من البيئة الشعبية، واستجابة لما فيها من مشاعر وأحاسيس، ولكن هذا الأدب العامي يقتصر الآن على المسرحيات المحلية، والتمثيليات السينمائية والإذاعية، وما إليها من أغنيات وأناشيد، وكاد يمحى من حوار القصص المكتوب بالفصحى.



ولعل انحصار الأدب العامي في هذا النطاق مرده إلى أن هذا الأدب لم يستطع أن تظهر فيه عبقرية بيانية تفرض نفسها لتزاحم بيان الأدب الفصيح، وتكاد الدلائل كلها تجمع على أن المستقبل للفصحى، وأن الفرص التي أتيحت من قبل لإحياء اللهجات العامية في نطاق ينفسح أو يضيق، تقل الآن وتتزايل؛ بسبب انتشار التعليم والصحافة والإذاعة، ودعم وسائل الاتصال بين البلاد العربية، وهيمنة الوعي العام لتوحيد اللغة، والحد من اختلاف اللهجات في الوطن العربي الكبير.



(19) مجمل الطابع الحاضر للأدب العربي:

وأما أدبنا الحديث في حاضره الذي يتوثب إلى الأمام بخطًا فساح - فإنه زاخر بموجات فكرية تمدها ضروب من الثقافات المتنوعة، وهي تستند إلى تأييد ورعاية من سلطان الدولة، بما تنشئ من هيئات ومجامع، وما تنظم من جوائز، وما تمهد من وسائل التفرغ والتشجيع والتقدير.

وإن هذه الموجات الفكرية لتستهدى بنظرات نقدية منهجية حديثة، وتكاد "البيئة الجامعية" المتنورة في ذوقها الفني ومستواها الرفيع تستأثر بالنشاط في شتى فنون الأدب، وتشيع فيها روح السمو والتجديد.



وفي وسعنا أن نتبين في هذا الأدب الحديث الذي نطالعه الآن صباح مساء اتجاهات واضحة وميولاً قوية؛ منها: محاولة تعميق النظرة إلى الحياة وإلى النظم الاجتماعية، وتخليص هذه النظرة من نطاق المحلية الواقعية المحدودة، والنهوض بها إلى آفاق الروح الإنساني الشامل، على أساس من فهم الغرائز البشرية الثابتة، والمشكلات الاجتماعية الأصلية، وأثر ذلك كله في السلوك العام، حين تتلاطم الغرائز، وتتعاكس تيارات النفوس، ويتجلى الكفاح من أجل الحياة في صور متناقضة يلتبس فيها الخير بالشر.



ومن الاتجاهات والميول: معالجة تصوير الآلام التي يعانيها المجتمع، وتمثيل نضاله لتكميل نفسه.

ومنها: المشاركة في الدعوة إلى الأهداف العقلية والاجتماعية الرشيدة، وهي التي تمثل وجدان الشعوب، وعلى رأسها دعوة الحرية، والوحدة الإنسانية، والسلام العالمي.



ومنها: العمل على أن يكون الأدب وسيلة من وسائل التربية الاجتماعية للفرد والتوجيه العام للجماعة، وذلك بتوسيع الخبرة بالحياة، وإضافة تجربة إلى سلسلة التجارب، والتبصير بحقيقة المشاعر والتصرفات، من طريق التحليل النفسي العميق لمختلف ألوان السلوك.


وثمة منارتان يستضيء بهما الأدب العربي الحديث في سيره إلى الأمام:



المنارة الأولى: الحرص على الطابع الشرقي، والاحتفاظ بالروح العربي، مهما يكن من استمداد الغذاء والنماء من شتى المصادر الأدبية عند الأمم واللغات.

والمنارة الأخرى: العمل على أن يدخل الأدب العربي ميدان "العالمية"؛ ليكون له مكان مرموق في قيادة الركب الإنساني تحت راية الفكر.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 68.54 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 66.84 كيلو بايت... تم توفير 1.71 كيلو بايت...بمعدل (2.49%)]