السمو الروحي والجمال الفني في البلاغة النبوية مصطفى صادق الرافعي - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         السخرية في سورة ( المنافقون) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          الأخلاق في حياتنا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 5 - عددالزوار : 35 )           »          وقفة تربوية مع التقوى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          فتح مكة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          الخوارج تاريخ وعقيدة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 29 - عددالزوار : 1790 )           »          فتنة المسلمين في الغرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          معركة مرج الصفر شرقي شقحب بحوران (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          أبو مسلم الخراساني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 25 )           »          ابن العديم .. مؤرخ يعشق حلب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى الإنشاء
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الإنشاء ملتقى يختص بتلخيص الكتب الاسلامية للحث على القراءة بصورة محببة سهلة ومختصرة بالإضافة الى عرض سير واحداث تاريخية عربية وعالمية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #3  
قديم 11-06-2020, 04:52 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,740
الدولة : Egypt
افتراضي رد: السمو الروحي والجمال الفني في البلاغة النبوية مصطفى صادق الرافعي


السمو الروحي والجمال الفني في البلاغة النبوية
مصطفى صادق الرافعي

وهنا معنى نريد أن نُنَبِّهُ إليه، ونتكلم في سِرِّه وحقيقته، فإنك تقرأ ما جُمِعَ منَ الكلام النبويِّ، فلا تصيب فيه ما تصيبه في بلاغة أدباء العالم مِمَّا فَنُّه الكلام في المرأة، والحُبِّ، وجمال الطبيعة، وهو في بلاغة الناس كالقلب في الجسم: لا تخلو منه ولا تقوم إلا به، حتى تجد الكلام في المرأة وحدها شَطْرَ الأدب الإنسانيِّ، كما أنَّ المرأة هي شطر الإنسانية، ولا يعرف له - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأغراض إلا كلماتٌ بيانيةٌ جاءت بما يَفُوتُ الوصفَ من الجمال والدِّقَّة، متناهيةً في الحُسْنِ، طاهرةً في الدَّلالة، يظهر في وجه بلاغتها ما يظهر في وجه العذراء من طبيعة الحياءِ والخَفَرِ؛ كقوله في النساء: ((رِفْقًا بِالقَوَارِيرِ))، وقولِهِ لأُسامة بن زيد - وقد كساه قبطية[42] فكساها امرأته -: ((أَخَافُ أَنْ تَصِفَ حَجْمَ عِظَامِهَا))، قال الشريفُ الرَّضِيُّ - في شرح هذه الكلمة -: "وهذه استعارة، والمراد أن القِبْطِيَّةَ برِقَّتِها تَلْصَقُ بالجسم فتُبَيِّنُ حجم الثديَيْنِ، والرادِفَتَيْنِ، وما يشتدُّ من لحم العَضُدَيْنِ والفَخِذَيْنِ فيعرِفُ الناظر إليها مقاديرَ هذه الأعضاء حتى يكون كالظاهرة لِلَحْظِهِ، والممكنةِ للَمْسِهِ فجعلها - عليه الصلاة والسلام - لهذه المحالِّ كالواصفة لما خَلْفَها، والمُخْبِرَةِ عمَّا اسْتَتَرَ بها، وهذه من أحسن العبارات عن هذا المعنى، ولهذا الغرض رمى عمر بن الخطاب في قوله: "إياكم ولُبْسُ القَبَاطِيِّ فإنها إلا تَشِفَّ تَصِفْ"، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا عُذْرَةِ هذا المعنى، ومَنْ تَبِعَهُ فإنما سلك فَجَّهُ.
قلنا: وهذا كلام حَسَن، ولكنَّ في عبارة الحديث سِرًّا هو من معجزات البلاغة النبوية لم يَهْتَدِ إليه الشريفُ على أنَّه هو حقيقة الفنِّ في هذه الكلمة بخاصَّتِها، ولا نظن أن بليغًا من بُلغاء العالم يتأتى لمثله فإنه - عليه الصلاة والسلام -لم يقل: أخاف أن تصف حجم أعضائها، بل قال: "حجم عظامها" مع أنَّ المراد لحم الأعضاء في حجمه وتكوينه، وذلك منتهى السُّمُوِّ بالأدب، إذ ذِكْرُ "أعضاء" المرأة في هذا السياق وبهذا المعرِضِ هو في الأدب الكامل أشبَهُ بالرَّفَثِ[43] ولفظةُ "الأعضاء" تحت الثوب الرقيق الأبيض تنبه إلى صور ذهنية كثيرة هي التي عدها الرَّضِيُّ في شرحه، وهي تومئ إلى صور أخرى من ورائها، فتَنَزَّهَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذلك، وضرب الحجاب اللغويَّ على هذه المعاني السافرةِ، وجاء بكلمة "العظام"؛ لأنها اللفظ الطبيعية المبرَّأَةُ من كل مَزْغَةٍ لا تَقبل أن تَلْتَوِي، ولا تُثِيرُ معنًى ولا تَحمل غَرَضًا؛ إذ تكون في الحيِّ والميِّتِ بل هي بهذا أخصُّ؛ وفي الجميل والقبيح بل هي هنا أَلْيَقُ، وفي الشباب والهرم بل هي في هذا أوضح، والأعضاء لا تقوم إلا بالعظام فالمجاز على ما ترى والحقيقة هي ما علمت.
ومن كلماته في الوصف الطبيعيُّ قولُهُ - صلى الله عليه وسلم - وهو يذكر أوقات الصلاة -: ((العصر إذا كان ظلُّ كلِّ شيءٍ مِثْلَهُ، وكذلك ما دامت الشمس حيَّةً، والعشاء إذا غاب الشَّفَقُ إلى أن تَمْضِيَ كَوَاهِلُ الليل))، وكواهل الليل: أوائِلُهُ، وفُرُوعه المتقدِّمَةُ منه، كالذي يتقدم المطايا من أعناقها الممتدة بعض الامتداد، وقوله وقد سأله رجل: "متى يُصلِّي العشاء الآخِرَةُ؟ "، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((إذا ملأ الليلُ بَطْنَ كلِّ وادٍ))، وقوله: ((إذا طلع حاجب الشمس فأَخِّرُوا الصلاة حتى ترتفع))، وقوله: ((إن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربَّه في الزرع، فقال له: ألستَ فيما شئتَ؟ قال: بلى، ولكني أُحِبُّ أن أزرع، قال: فبَذَرَ فبادر الطرفَ نباتُهُ، واستواؤه، واستحصاده فكان أمثال الجبال)).
وقوله: ((بَيْنَا رجل يمشي فاشتدَّ عليه العَطَشُ، فنزل بِئرًا فشَرِبَ منها ثم خرج فإذا بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خُفَّهُ ثم أمسكه بِفِيهِ، ثم رقي[44] فسقَى الكلبَ فشكر الله له، فغفر له)) قالوا: "يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ " قال: ((في كل كبدٍ رطبةٍ أجر)).
فهذا ونحوه من الفنِّ البديع النادرِ وهو مع ذلك لا يأتي في كلامه - صلى الله عليه وسلم - إلا في مثل ما رأيت فلا يراد منه استجلابُ العبارة، ولا صناعةُ الخيال فيظن من لا يُمَيِّزُ، ولا يُحَقِّق أن خُلُوَّ البلاغة النبوية من فنِّ وصف الطبيعة والجمال والحبِّ دليل على ما يُنكره، أو يَسْتَجْفِيهِ[45]، ويقول: بَدَاوَةٌ، وسَذَاجَةٌ، ونحو ذلك مما تُشَبِّهُهُ الغفلةُ على جَهَلَةِ المستشرقين، ومَن في حكمهم مِن ضِعاف أدبائنا وجَهَلَةِ كُتَّابِنَا، وإنما انتفى ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لانتفاء الشِّعْر عنه، وكونه لا ينبغي له كما بسطناه في مَوْضِعِهِ؛ فعمله أن يَهْدِيَ الإنسانيةَ لا أن يُزَيِّنَ لها، وأن يَدُلَّها على ما يجب في العلم، لا ما يحسن في صناعة الكلام، وأن يَهْدِيَهَا إلى ما تفعله لتَسْمُوَ به، لا إلى ما تتخيله لتَلْهُوَ به، والخيال هو الشيء الحقيقيُّ عند النفس في ساعة الانفعال، والتأثُّر به فقط، ومعنى هذا أنه لا يكون أبدا حقيقة ثابتة، فلا يكون إلا كذبًا على الحقيقة.
ثم هو - صلى الله عليه وسلم - ليس كغيره من بُلغاء الناس: يتصل بالطبيعة ليستملي منها؛ بل هو نبي مرسل متصل بمصدرها الأزلي ليملي فيها، وقد كانت آخِرُ ابتسامة له في الدنيا ابتسامتَه للصلاة يَتَهَلَّل لطهارة النفس المؤمنة، وجمالها قائمة بين يدي خالقها، مُنْسَكِبًا في طهارتها روحُ النور، وكل إنسان إنما يبدو الكون في عينه على ما يرى مما يشبه ما في نفسه، فكُلَّمَا رآه المصلي الخاشع في صلاته يبدو له كأنه يصلي في ضرب من العبادة على نحوٍ منَ الدين، وكُلَّمَا رآه السكران في سُكْرِهِ يكاد يراه متخبطًا يُعَرْبِدُ ما يتماسَكُ.
ثم إن الكلام في وصف الطبيعة والجمال والحُبِّ على طريقة الأساليب البيانية، إنما هو باب من الأحلام؛ إذ لا بد فيه من عينَيْ شاعر، أو نَظْرَةِ عاشقٍ، وهنا نبيٌّ يوحى إليه، فلا موضع للخيال في أمره إلا ما كان تمثيلاً يراد به تقويةُ الشعور الإنسانيِّ بحقيقة ما في بعض ما يَعْرِضُ من باب الإرشاد والموعظة، كما مر بك من أمثلته، وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذُبَابٍ مرَّ على أنفه))، وهذا كلام أبلغ ما أنت واجدٌ من تفسيره تلك النفس المؤمنة بإحساسها الرقيق، كأنه حاسَّةٌ منَ النور كُبَّت في شعورها، وتلك النفس الفاجرة بإحساسها الغليظ، كأنه حاسة من التراب...
ويكاد المؤمن الذي يسمع هذا الوصف يُذَكِّرُهُ ذنوبَهُ أن يُحِسَّ بحركة جبل يهم أن ينقلع فيميل عليه أما الفاجر فيسمعه يُذَكِّرُهُ ذُنُوبه فإذا هي في خياله نُقَطٌ سُودٌ تَمُرُّ مرورَ الذباب ليس منه الحسُّ به كما يُحِسُّ مَن يُضْرَبُ على أنفه برِجْلِ ذُبابة... وجَعَلَ الذبابُ يمر على أنفه دون عينه أو فمه، وذلك منتهى الجمال في التصوير؛ لأن الذباب إذا وقع على الفم أو العين ثبت وألحَّ فإذا وقع على قَصَبَةِ الأنف لم يكد يقف ومر مروره.
الكون في نظر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - آية الحكمة لا آية الفنِّ، ومنظر المستيقِنِ لا منظر المتخيِّلِ، ومادَّة العُبودية لله لا مادَّة التألُّهِ للإنسان، وبذلك حَرَّمَ الإسلامُ أشياءَ، وكره أشياء لا يكون الفنُّ بغيرها فَنًّا، في ضروب من الشِّعر، والتصوير، والموسيقى، والحب؛ لأنه إنما ينظر للإنسان واحدًا وجمعًا وحاضرًا وآتيًا؛ وواجبًا ومنفعةً، ولذةً وألمًا؛ وهذه كلُّها لا إطلاق فيها إلا من أجل القيد، على حينِ أن الفنَّ لا قيد فيه إلا من أجل الإطلاق، وأساس الدين حظُّ الجماعة وقيودها، وأساس الفن الفردُ وحريَّتُهُ، وهذه الحياة لا تبدو في حالة تركيب وانتظام إلا إذا كانت للكلِّ، فإذا كانت لفرد ظهرت في هيئة انحلال وانتفاض، وأصبحت في الكون كلِّه كأنَّها عمر إنسان واحد.
ثُمَّ إنَّ للفَنّ ألوانًا لا بد منها لتصويره الجميل الذي تَعْجَبُ به النفس، والشيطان هو اللون الأحمر فيها... أي هو أَشَدُّها زهْوًا وإشراقًا وجمالاً في التصوير الفنيِّ لكل ما في المرأة، والحب، والجمال، وشهوات النفس، ولسنا نُنْكِرُ أن الحياة القوية حين تُمازجها هذه الفنونُ تَكْسِبُ مَرَحًا ونشاطًا، ويكون لها رَوْنَقٌ، وفيها متاع؛ ولكن الحياة لا تكون بها كذلك إلا من أنها تَحْتَسِي[46] خَمْرَهَا... فلها بعدُ - من عاقبة هذه الفنون - شبيهٌ بما يكون للجسم القوي من عاقبة الخمر إذا تغلغلت الخمر في شعاب كَبِدِهِ، وأحاطت رطوبتها يابسة، كما وقع في أطوارٍ كثيرة من تاريخ الأمم؛ فليس الاعتبار في هذا التشبيه بما يَعْرِضُ من تأثير الساعة الزائلة بأفراحها، وفنِّ حياتها؛ بلِ الشأن للعاقبة المحتومة متى جاءت ساعتُها الباقيةُ بأحزانها، وفن هلاكها؛ فالإسلام فيما حرَّم وكَرِهَ من ذلك لم يزد على أن أراد للحياة أن تحيا؛ لأنه لا يقر صورة من صور انتحارها.
ومَنْ كان أكبرُ عَمَلِه إنشاءَ الحقائق الإنسانية، وتقريرَها شريعةً، وعاطفةً، وأعمالاً، فلا جرم كان فنُّهُ غيرَ الذي أكبرُ عملِهِ تَمْوِيهُ تلك الحقائق، وزخرفتها ليقع الإحساس بها على غير وجهها، فتَخِفَّ بالواقع منها على النفس خِفَّةَ الكذب في ساعة تصديقه، وهذا هو أكبر عمل الشِّعر.
وهاهنا سِرٌّ دقيقٌ لا يتمُّ كلامنا إلا بشرحه؛ لنقطع القول في هذا المعنى، فيظهر حقُّهُ من باطله:
قلنا آنفًا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس كغيره من بُلغاء الناس: يتصل بالطبيعة يستملي منها، بل هو نبيٌّ مرسَل متَّصِل بمصدرها الأزليِّ؛ ليملي فيها.
ومعنى هذا أنه لا يَعْرِضُ له من زَيْغِ النفس ما يَعْرِضُ لغيره منَ الناس، فأَحْكَمُ حُكَمَاءِ الدنيا لا يستطيع أن يَتَبَيَّنَ جزءًا صغيرًا منَ الكون على حقيقته؛ إذ كانت حواس الجسم غيرَ مُهَيَّأَةٍ لذلك، فَفَهْمُ جزء مِنَ الكون فهمًا صادقًا جزمًا لا يتم إلا بفهم الكون بأجمعه، فهو كله ذَرَّةٌ مكبَّرَةٌ إلى ما لا ينتهي ولا يُحَدُّ، وليستِ النبوةُ شيئًا غير الاتصال بالسرِّ.
والحاضرُ الذي يكون في إنسان من الناس، هو حاضر ليس غيرُ؛ لأنه يتحوَّل ويَفْنَى؛ فهو منَ الزيغ الذي يَعْتَرِي النفسَ، ومنه كل أغراض الحياة البشرية الفانية؛ ولهذا كان طابع الله على نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - هو تجريدَهُ من زيغ الهوى[47] وسَرَفِ الطبيعة، فهو من الناس، ولكنه متخلِّق بأخلاق الله - سبحانه -، وله في هذا الباب ما ليس لأحد، ولا يُطِيقُهُ أحدٌ، ويجب على مَنْ يَقْرَأُ سِيرته، وشمائله، وحديثه أن يبحث دائمًا عن طابع الله في كل شيء منها، فإنَّه سَيَرَى حينئِذٍ كأنَّهُ يَدْرُسُها مع الملائكة لا مع الناس، وسيظهر له من تفسيرها أن الدنيا لم تستطِعْ تحقيق غايتها الأخلاقيةِ العُليا إلا فيها، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان إنسانًا وكان أيضًا حركة في تقدم الإنسانية؛ وأن من معجزاته أنه أطاق في تاريخه ما عجزت عنه البشرية في تاريخها، وأن كل أموره - صلى الله عليه وسلم - موضوعةٌ وَضْعًا إلهيًا كأنها صفاتٌ كوَّنها الله، وعلَّقَها في التاريخ لمعاني الحياة، تعليق الشمس في السماء لمواد الحياة.
إن الشهواتِ والمصالحَ إنما هي حَصْر النفس في جانب من الشعور محدودٍ بلذاتٍ، وهُموم، وأحاسيسَ تجعل غَرَضَ الإنسان في الإنسان نفسِهِ، فهو كما يملأ مَعِدَتِهِ، ويتأنَّقُ في الاختيار لها، يُريدُ من كل ذلك أن يملأ شَخْصَهُ على هذه الطريقة بعينها، طريقة إشباع مَعِدَتِهِ... وبهذا تسخر منه حقائق الكون؛ لأنها لا تُحَدُّ بشخص، ولا تنحصر في أحد، وكلُّ مَن كانت حُدُودُهُ الإنسانيةُ، جسمَهُ، ولذاتِ جسمِهِ -: فهو في مقدار هذا الكون كالميِّت المحدود من الأرض كلِّها بقَبْرِه، وتُرابِ قَبْرِهِ؛ وإنه لَيَجِدُ جِسْمَهُ، وأكاذيب الطبيعة عليه، ولكنه لن يجد الروح وحقائقها؛ وإذا لم يجد هذه فَلَنْ يَعْرِفَ الكَوْنَ وأسراره، وإذا فَقَدَ هذا فهو الحاضر الضيِّقُ المُشَوَّهُ المكذوب، ومن ثَمَّ فَفَنُّهُ شهوة إحساسه وإن كان مخدوعًا، وشهوة نظره وإن كان مُلَبَّسًا عليه، وشهوة خياله وإن كان التمويه، والمزوَّر، والحاضر الضيق المشوَّه المكذوب الخادع هو المسمى في لغة القرآن والحديث "بالدينا" فإذا اتَّسع الإنسان لروحه، وأدرك حقيقتها، ووعى ما بينها وبين الكون، وأخذ يحقق هذه الروح السماويةَ في أعماله، وتَخَطَّى حدودَ جسمه إلى فِكْرَةِ الخلود، فهذا كلُّه هو المسمَّى في لغة القرآن والحديث "بالآخرة" فهما كلمتان في منتهى الإبداع من الفَنِّ، والفلسفة وعلى ذلك يُؤَوَّلُ قوله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته: ((من كان هَمُّهُ الآخرةَ جَمَعَ الله شَمْلَهُ، وجعل غِناهُ في قَلْبِه، وأَتَتْهُ الدُّنيا وَهِيَ راغمةٌ[48] ومن كان هَمُّهُ الدنيا فَرَّقَ الله أمره، وجعل فَقْرَهُ بين عينيه، ولم يأته من الدينا إلا ما كُتِبَ له)).
وأنت إذا فَسَّرْتَ هذه الكلمات بما وَصَفْنا لك ووَجَّهْتَهَا على ذلك التأويل، رأيت عجائبَ معانِيها لا تنقضي، وأدركتَ سرَّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني على علم من الله عَلَمَنِيهِ))، فاتساع الذات الإنسانية، ومادَّتها لحقائق الكون يجعل الإنسان كالكون نفسه، مجتمِعًا غيرَ مُفَرَّقٍ على هُموم الحياة، ويجعل الغِنَى معنًى لا مادَّة، ولو امتلك إنسانٌ منَ الناس كلَّ ما طلعت عليه الشمس، وكان له كَنْزٌ في المشرق، وكنز في المغرب لما بلغ شيئًا قليلاً من لَذَّةِ هذا المعنى في قلبه، وفي هذه الحالة تصبح الدنيا العريضةُ التي يَهْلِكُ الناس في تحصيلها، وليست إلا ضرورة صغيرة قد تكون في ثوب، ولُقَيْمَاتٍ، ونحوها مما لا خطر له، وهذا هو إرغامها وهي مالكةُ الملوك، فإذا ضاق الإنسان عن روحه أصبحت النفس كالمنخل يوضع الدقيق الناعم فيه ليخرج منه فيُمْسِكُهُ كلَّه ولا يُمْسِكُ منه شيئًا، وُضِعَ بين عينيها معنى الفقر، فهي تعمل أبدًا لتمتلئ، ولا تمتلئ أبدًا، وإذا كان المنخل متَّخَذًا على الطريقة التي صُنع بها ففَقْرُهُ - ولا جَرَمَ - مُعَلَّقٌ عليه من ذات تركيبه "أَفَهِمْتَ"؟
ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - متساوقًا[49] مع الحقيقة، متَّصِلاً بها محدودًا بربَّهِ لا بنفسه كان لذلك خارجًا من حاضر ما نحن فيه، ممتدًا بمعناه الإنساني الكامل إلى المستقبل الذي وراء الحياة، فما نحصره نحن بطبيعتنا في بعض الأسماء لا يلتفت هو إليه بطبيعته، ومن ذلك أوصاف الغنى، والحِلْيَةِ، والنعيم، والمتاع، والجمال، والمَطْعَمِ، والمَشْرَبِ، وما داخَلَ الطبيعة من مثل معانيها، وما جرى هذا المَجرى فهذا كله يراه الناس من جهة الحاجة إليه والمطمع فيه؛ إذ كان ضعف إدراكهم، وضِيق وَعْيِهم، مما يُبْدِعُ لهم أكاذيبَ الخيال، فتجيء من ذلك أوصافهم وفنون أوصافهم، أما النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فيرى ذلك من ناحية الغِنى عنه والسمُوِّ عليه إذ كان لا ينظر بطبيعة روحه العظيمة إلا أعلى النظرين، وأَطْهَرَهُما فآخِر إدراكنا للحقيقة والطبيعة أوَّلُ إدراكه هو الطبيعة، والحقيقة وما تَعْجِزُ عنه الإنسانية تبدأ منه النبوَّة.
وعلى هذا: فإن من أقوى البراهين على كماله - صلى الله عليه وسلم - ونُبُوَّتِهِ، واتساع روحه، ونفاذِ إدراكه لحقائق الكون، أنه لم يتبسط في تلك الفنون كما يصنع البُلغاء، ولم يأخذ مأخذهم فيها؛ إذ كانت كلها من أكاذيب القلب، والفِكر، والعين.
وفي قانون الحقيقة أن الأشياء هي كلُّ الأشياء، وهي كما هي، أما في قانون الكذب، فالأشياء كلها هي ما تختاره أنت منها، وكما تختاره.
بحَسْبِ الدنيا من جمالِ فنِّهِ - صلى الله عليه وسلم - ما يضيف إلى الحياة عَظَمَةَ الأشياء العظيمة، ويدفع الإنسانية في طريقها الواحد الذي هو - بين الأب والأم - طريقُ الأخ إلى أخيه يكون في الدنيا بين الرجلين كما هو في الدمِ بين القلبين رحمةً ومَوَدَّةً، وبِحَسْبِنَا من جمال هذا الفَنِّ ما يَهْدِي الإنسانَ إلى حقيقةِ نَفْسِه فيُقِرُّهُ في الحقيقيِّ من وجوده الإنسانيِّ، ويجعل الفضائل كلَّها تربيةً للقلب يَكْبُرُ بها، ثم يَكْبُرُ، ثم لا يزال يَكْبُرُ حتى يَتَّسِعَ لحقيقة هذه الكلمة الكبرى: ((اللهُ أكبرُ)).
___________________
[1] يخطر لي: يطرأ علي بالي
[2] انكشف الخاطر: ظهر وبان
[3] السليقة: الموهبة اللغوية
[4] استنباط: استخراج
[5] خاض البحر: ركب متنه مغامرا
[6] تأدى: وصل إلى الغاية المرجوة منه
[7] تجترم: تقع في الجريمة
[8] متسقة: متجانسة
[9] رهط: أفراد
[10] يقصد أنه كان لا يسقي أحدا من عائلته قبل والديه، والغبوق ما يشرب في العشي
[11] نأى: بعد
[12] برق الفجر: انبلج وأشرقت الشمس
[13] فرج عنا: اكشف عنا
[14] أردتها عن نفسها: راودتها
[15] تفض: تفتح
[16] تحرج: احترس وخشي
[17] ثمرت: جعلته ينمو
[18] تطابقوا: توافقوا
[19] سبغت: اتسعت
[20] بنانه: أصبعه
[21] ألزم: أجبر
[22] راضها: مرنها وعودها
[23] الشح: البخل
[24] يبسط الكريم: يمد يد المساعدة
[25] تنافرهم: تنابذهم واختلافهم.
[26] عبثهم: لعبهم.
[27] استبرأت: خلصت.
[28] تدبرته: تدارسته.
[29] انخلعوا: خرجوا.
[30] يفصم البرد: يقلع.
[31] يتفصد عرقا: يجري عرقه.
[32] برحاء الحمى: شدتها.
[33] يتحدر: ينهمر
[34] الجمان: اللؤلؤ
[35] ترض: تحطم.
[36] يغط: يغيب عن عالم المحسوسات.
[37] هاجس: فكر طارئ.
[38] تنسرح: تنفلت
[39] الملهم: الموهوب.
[40] يؤول: يفسر ويتحول.
[41] التنقيح: التصحيح.
[42] ضرب من الأردية المصرية.
[43] الرفث: هو ما بذؤ من الكلام.
[44] رقي: صعد.
[45] يستجفيه: يجده قاسيا جافيا.
[46] تحتسي: تشرب قليلا قليلا.
[47] زيغ الهوى: ميله.
[48] راغمة: ذليلة، خاضعة.
[49] متساوقا: منسجما.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 136.63 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 134.91 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.26%)]