ثنائيات رباعية في العلوم النقلية والعقلية - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         عيد أضحى مبارك ، كل عام وانتم بخير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          سفرة إفطار عيد الأضحى.. كبدة مشوية بخطوات سهلة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          9 نصائح لمطبخ نظيف خلال عزومات عيد الأضحى.. التهوية أساسية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          فتياتنا وبناء الذات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          إضاءات سلفية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          ابن أبي الدنيا وكتابه “العيال” (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          خطبة عيد الأضحى المبارك 1445هـ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          خطبة عيد الأضحى المبارك الخلاف بين القدر والشرع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          خطبة عيد الأضحى المبارك ﴿وكان أمر الله قدرا مقدورا﴾ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          خطبة عيد الأضحى 1441هـ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > الملتقى العلمي والثقافي
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 14-12-2019, 11:44 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,503
الدولة : Egypt
افتراضي ثنائيات رباعية في العلوم النقلية والعقلية

ثنائيات رباعية في العلوم النقلية والعقلية(1)









(العقل والشهوة)

عادل عبدالوهاب عبدالماجد















المخلوقات التي خلَقها الله تعالى من التنوُّع والكثرة، بحيث لا يُحصيها حساب، ولا يَجمعها كتاب؛ كما قال الله - عز وجل - عن نفسه: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ [الحجر: 86]، و(الخلاَّق) صيغة مبالغة تُفيد كثرة الخلق، فهو - عز وجل - يَخلق ما يشاء متى شاء وكيف شاء، ومع ذلك فهو (العليم) بخلْقه، لا تَخفى عليه خافية، والعليم بما تفرَّق من أبدانهم، وتحلَّل من أجسادهم بعد موتهم، وهذا فيه تقريرٌ للمعاد.



ومخلوقات الله - عز وجل - منها المرئي، ومنها الخفي؛ لذلك أقسم الله بها، فقال: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الحاقة: 38، 39]، ومنها: المعلوم، ومنها: المجهول؛ كما قال الله - عز وجل -: ﴿ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 8].



وكل مخلوقات ثنائية العدد، فإن لها أنواعًا أربعة، لا خامسَ لها من حيث القسمةُ المنطقية، وسأتناول في هذه السلسلة مجموعة من هذه الثنائيات بحول الله وقوَّته.



فمن حيث العقل والشهوة، تنوَّع خلْق الله تعالى إلى أنواع أربعة:

النوع الأول: له عقل وليس له شهوة، وهم الملائكة، فهي مخلوقات كريمة عاقلة مُدركة، لكنها لا تأكل ولا تَشرب، ولا تلهو ولا تلعب، ولا تتكاثر ولا تتناسَل، ولا تنام، وهم مفطورون على العبادة، خلَقهم الله من النور، ولهم وظائف مختلفة في هذا العالم، ومن الآيات المتكلمة عنهم قوله تعالى:﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 26 - 28].



النوع الثاني: له شهوة وليس له عقل، وهي الدوابُّ والأنعام التي تأكل وتَشرب، وتلهو وتلعب، وتتكاثَر وتتناسل، ولكن ليس لها عقول مُدركة تَحجزها عن القبائح، أو تدعوها إلى الفضائل، وإنما لها غرائزُ تحرِّكها لجلْب ما ينفعها، ودفْع ما يضرها؛ لذلك فهي غير مُكلَّفة، ولا تَدخل جنة ولا نارًا، بل يقول لها الله تعالى يوم القيامة: "كوني ترابًا"، وعندها يقول الكافر: ﴿ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ﴾ [النبأ: 40]، ويَلحق بها النباتات التي تتغذَّى وتَشرب وتتكاثر، وكلٌّ من الحيوانات والنباتات لها من الأنواع والفصائل، والوظائف والطبائع، ما يَبْهَر العقول، ويُحيِّر الألباب، وفي كل يوم يتمُّ اكتشاف المزيد منها، وهي مخلوقة للإنسان؛ ليستعين بها على طاعة الله، ويُسخِّرَها لمصالحه في هذه الحياة، ومن الآيات الموضِّحة لجانب من حكمة خَلْقها قوله تعالى: ﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 5 - 8].



وهي مع ذلك تصلي لله وتُسبِّحه وتعبده؛ كما قال الله - عز وجل -: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ [النور: 41]، وكما قال - جل في علاه -: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [الحج: 18].



النوع الثالث: ليس له عقل ولا شهوة، وهي الجمادات، ومنها: الأرض والسماء، والكواكب والنجوم، والبحار والأنهار، وهي كذلك مسخَّرة للإنسان؛ كما قال الله - عز وجل -: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحج: 65].



وهي أيضًا تعبد الله وتُسبِّحه؛ كما قال تعالى: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44]، وأخبر الله تعالى بسجودها له، فقال: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [الحج: 18].



ونسَب الله لها الخشوع، فقال: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21].



وهي تَغضب على أعداء الله تعالى، حتى تكاد تَنشَق وتَنفطر؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ﴾ [مريم: 88 - 92].



وهي تبكي لفِراق الطائعين، ولا تبكي لفراق العاصين؛ كما قال - جل وعلا - عن فرعون وقومه: ﴿ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ﴾ [الدخان: 25 - 29].



وهي تدعو لأهل الخير، وتصلي عليهم؛ كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أبي الدرداء، قال: سمِعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنه ليَستغفر للعالِم مَن في السموات ومَن في الأرض، حتى الحِيتان في البحر))؛ رواه ابن ماجه وغيره، وعن أبي أُمامة الباهلي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله وملائكته وأهل السموات وأهل الأرض، حتى النملة في جُحرها - يُصلون على معلِّم الخير))؛ رواه الترمذي وغيره.



وهي أُمم وأجناس وفصائل مثل البشر؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنعام: 38].



النوع الرابع: له عقل وشهوة، وهم الإنس والجن الذين قال الله عنهم: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، وهم المخاطبون بقوله: ﴿ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ ﴾ [الرحمن: 31]، وسُمُّوا بالثَّقَلين؛ لأن لهما ثِقَلٌ ووزن أحياءً وأمواتًا، أو لأنهما مُثقلان بالذنوب، فقد ركَّب الله فيهم العقل، وامتَحنهم بالشهوات؛ كما قال - عز وجل -: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14].



العقل يدعو إلى الرشاد والفضائل، وهو القائد والمتحكم في البدن، عن طريق الفكر والنظر، واتخاذ القرارات، وتوجيه الأعضاء والجوارح، ومن القواعد المهمة في السيطرة عليه: مراقبة الخواطر والهواجس، وتوجيهها إلى المسار الصحيح؛ كما قال الحكماء في قواعد البرمجة الذاتية: "راقِب أفكارك؛ لأنها ستُصبح أفعالاً، وراقِب أفعالك؛ لأنها ستُصبح عادات، وراقب عاداتك؛ لأنها ستُصبح طباعًا، وراقِب طباعك؛ لأنها ستُحدِّد مصيرك".



والشهوات تجر إلى الغي والرذائل، وكل شهوة لها طريق محرَّم لإشباعها، وآخر مُباح؛ مثل: شهوة البطن والفرْج، والنظر والسمع واللسان، وغيرها، فمن سلَك الطريق المحرَّم أثِم، ومَن سلَك الطريق المباح، سلِم.



والشهوات المباحة هي أساس الاستقرار واستمرار الحياة؛ مثل: شهوة الزواج، والأكل والشرب من الطيِّبات، وأما الشهوات المحرَّمة، فهي سبب الاضطراب والخراب؛ مثل: شهوة الزنا، وشرب المُسكرات، وأكْل الربا، ونحوها.



والصراع مستمر بين العقول والشهوات، فمَن حكَّم العقل، كان شبيهًا بالملائكة، ومَن حكَّم الشهوة، كان شبيهًا بالدوابِّ والأنعام، أو دونها.



قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: كما قال أبو بكر عبدالعزيز من أصحابنا وغيره: خُلِقَ للملائكة عقولٌ بلا شهوة، وخُلِق للبهائم شهوة بلا عقل، وخُلِق للإنسان عقل وشهوة، فمَن غلَب عقلُه شهوتَه، فهو خيرٌ من الملائكة، ومَن غلَبت شهوتُه عقلَه، فالبهائم خيرٌ منه"؛ مجموع الفتاوى، (15 / 428 - 429).



ونواصل حديثنا في ثنائية أخرى بمشيئة الله، وهو الموفِّق.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 14-12-2019, 11:44 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,503
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ثنائيات رباعية في العلوم النقلية والعقلية

ثنائيات رباعية في العلوم النقلية والعقلية(2)
عادل عبدالوهاب عبدالماجد


الذكر والأنثى



انقسم البشر من حيث الأصل إلى أنواع أربعة:
النوع الأول:
بلا أنثى ولا ذكر، وهو آدم عليه السلام؛ حيث خلقه الله - تعالى - من العدم؛ كما قال - عز وجل -: ï´؟ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ï´¾ [الإنسان: 1]، وتكريمًا لآدم خلقه الله بيده؛ كما قال لإبليس: ï´؟ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ï´¾ [ص: 75]، والمادة التي خُلق منها آدم هي التراب؛ كما قال الله - عز وجل -: ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ï´¾ [الحج: 5]، وذكرت الآيات أنه خُلق أيضًا من طين، ومن صلصال، وهذه مراحل خَلْقه؛ قال الشنقيطي في دفع إيهام الاضطراب: قوله - تعالى -: ï´؟ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ ï´¾ [الحجر: 26]: ظاهر هذه الآية أن آدم خُلق من صلصال؛ أي: طين يابس، وقد جاء في آيات أُخر ما يدل على خلاف ذلك؛ كقوله - تعالى -: ï´؟ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ ï´¾ [الصافات: 11]، وكقوله: ï´؟ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ï´¾ [آل عمران: 59].

والجواب: أنه ذكر أطوار ذلك التراب، فذكر طَوْره الأول بقوله: "مِنْ تُرَابٍ"، ثم بُلَّ فصار "طينًا لازبًا"، ثم خمر فصار "حمأً مسنونًا"، ثم يبس فصار "صلصالاً كالفخَّار"، وهذا واضح، والعلم عند الله تعالى؛ اهـ.

وقد جاء في حديث أبي موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله - تعالى - خلق آدم - عليه السلام - من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمرُ والأبيض والأسود، وبين ذلك، والسهل والخشن، والخبيث والطيب، وبين ذلك"؛ أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه ابن حبان.

وهذا الحدث الكبير - وهو وجود الإنسان الأول - لم يشهده البشر؛ كما قال - تعالى -: ï´؟ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ï´¾ [الكهف: 51].

لكن العلم الحديث جاء ليؤكد لنا علاقة الإنسان بالأرض، والتي هي مثل علاقة الجنين بالأم، وتتمثل في الآتي:
1- اللون: فألوان البشر هي ألوان التربة؛ فمنهم الأبيض والأسود والأحمر والأسمر، وبين ذلك من الألوان.

2- العناصر: فجميع العناصر المكونة لجسم الإنسان - وهي تقريبًا اثنان وعشرون عنصرًا - كلها موجودة في التربة، أو القشرة الأرضية، ومنها الحديد والكربون والهيدروجين والأكسجين والكبريت والفوسفات والفوسفور والصوديوم والبوتاسيوم والمنجنيز والكالسيوم، وبعضهم حصرها في المقادير التالية: في جسم الإنسان كمية من الحديد تكفي لصناعة مسمار متوسط الحجم من الصلب، وكمية من الكربون تكفي لصناعة سبعة أقلام رصاص، وكمية من الفسفور تكفي لصناعة بعض أعواد الثقاب، وكمية من الشحوم والدهون تكفي لصناعة 7 ألواح من صابون الغسيل، وحفنة من الملح، وبعض المواد الاستهلاكية البسيطة، وهذه الأرقام تدل على أن قيمة الإنسان ليست بجسده ولا مادته، وإنما بروحه وعقله، وصدق الشاعر حين قال:
يا خادمَ الجسم، كم تشقى بخدمته
أتطلب الرِّبح مما فيه خسران

أقبلْ على النفس واستكمل فضائلَها
فأنت بالرُّوح لا بالجسم إنسان


3- الطبائع والصفات: فالأرض منها الأرض الخبيثة والأرض الطيبة، وكذلك البشر، ومنها الأرض القاسية والأرض اللينة، وكذلك بنو آدم، والأرض المنتجة النافعة والأرض الجرداء التي لا نفع منها، وكذلك الإنسان.

4- المصير والمآل: فيدفن الإنسان في الأرض، ويتحلل إلى عناصره الأولية ليعود من حيث أتى؛ كما قال الله - تعالى -: ï´؟مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىï´¾ [طه: 55].

النوع الثاني:
من ذكر بلا أنثى، وهي حواء - عليها السلام - خلقها الله من ضلع آدم الأيسر؛ قال - تعالى -: ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ï´¾ [النساء: 1]، جاء في تفسير ابن كثير من سورة النساء في قوله - تعالى -: ï´؟ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ï´¾، وهي حواء - عليها السلام - خُلقت من ضلعه الأيسر من خلفه وهو نائم، فاستيقظ فرآها، فأعجبته، فأنس إليها وأنست إليه"؛ اهـ.

كما جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "استوصوا بالنساءِ خيرًا؛ فإنَّ المرأةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَع أعوجَ، وإنَّ أعوجَ شيءٍ في الضِّلعِ أعلاه، فإنْ ذهبتَ تقيمه كسرتَه، وإنْ تركتَه لم يزلْ أعوجَ؛ فاستوصوا بالنساءِ خيرًا"؛ البخاري، ومسلم.

والمعنى أن المرأة بها عيوب لا تفارقها، وليس هذا من باب التنقيص للنساء؛ لأن الرجال كذلك لهم عيوب لا تفارقهم؛ كما في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ, وخيرُ الخطَّائينَ التوَّابون"؛ أخرجه الترمذي وابن ماجه.

والله - جل وعلا - جعل من بعض النساء قدوة للمؤمنين رجالاً ونساء في الشجاعة والإيمان فقال: ï´؟ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ï´¾ [التحريم: 11، 12]، فكثير من النساء يَفُقْن الرجال كرمًا وتقوى؛ كما قال الشاعر - وهو المتنبي يرثي والدة سيف الدولة -:
ولو كان النِّساء كمَن فَقَدنا
لفُضِّلت النساءُ على الرجال

فما التأنيث لاسمِ الشمس عيبٌ
ولا التذكير فخرٌ للهلال


جاء في أضواء البيان: "قد دلَّت هذه الآيات القرآنية المذكورة على أن المرأة الأولى كان وجودُها الأول مستندًا إلى وجود الرجل وفرعًا عنه، وهذا أمر كوني قدري من الله، أنشأ المرأة في إيجادها الأول عليه، وقد جاء الشرع الكريم المنزل من الله ليُعمَل به في أرضه بمراعاة هذا الأمر الكوني القدري في حياة المرأة في جميع النواحي، فجعل الرجل قائمًا عليها، وجعلها مستندة إليه في جميع شؤونها؛ كما قال - تعالى -: ï´؟ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ï´¾ [النساء: 34]، فمحاولة استواء المرأة مع الرجل في جميع نواحي الحياة لا يمكن أن تتحقق؛ لأن الفوارق بين النوعين كونًا وقدرًا أولاً، وشرعًا منزَّلاً ثانيًا - تمنع من ذلك منعًا باتًّا.

ولقوة الفوارق الكونية والقدرية والشرعية بين الذكر والأنثى، صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لعن المتشبه من النوعين بالآخر، ولا شك أن سبب هذا اللعن هو محاولة من أراد التشبه منهم بالآخر؛ لتحطيم هذه الفوارق التي لا يمكن أن تتحطم، وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "لعن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال".

وقد قدمنا هذا الحديث بسنده في سورة بني إسرائيل، وبيّنا هناك أن مَن لعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو ملعون في كتاب الله؛ فلو كانت الفوارق بين الذكر والأنثى يمكن تحطيمها وإزالتها لم يستوجب من أراد ذلك اللعن من الله ورسوله.

ولأجل تلك الفوارق العظيمة الكونية القدرية بين الذكر والأنثى، فرَّق الله - جل وعلا - بينهما في الطلاق، فجعله بيد الرجل دون المرأة، وفي الميراث، وفي نسبة الأولاد إليه.

وفي تعدد الزوجات دون الأزواج: صرح بأن شهادة امرأتين بمنزلة شهادة رجل واحد في قوله - تعالى -: ï´؟ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ï´¾ [البقرة: 282]، فالله الذي خلقهما لا شك أنه أعلم بحقيقتهما، وقد صرح في كتابه بقيام الرجل مقام امرأتين في الشهادة"؛ اهـ ج7 ص415.

النوع الثالث:
من أنثى بلا ذكر، وهو عيسى - عليه السلام - حيث كان ميلاده خارقًا للعادة، وآية من آيات الله - عز وجل - فجبريل - عليه السلام - بشَّر مريمَ - عليها السلام - بميلاد عيسى - عليه السلام - بعد أن تمثل لها بشرًا سويًّا، فسألته متعجبة: ï´؟ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ï´¾ [مريم: 20، 21]، وقد ضل النصارى في اعتقادهم أنه ابن الله، تعالى الله عما يزعمون، وقد رد عليهم القرآن هذا الافتراء؛ فقال - عز وجل -: ï´؟ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ï´¾ [التوبة: 30].

وأخبرهم القرآن أن خَلْقه كخَلْق أبيه آدم فقال: ï´؟ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ï´¾ [آل عمران: 59].

وبعض النصارى نظروا إلى معجزاته، وأنه يحيي الموتى، ويحوّل الجمادات إلى أحياء فزعموا أنه الله، ولم يستوعبوا أن هذه معجزات أيده الله بها، فكفَّرهم الله بذلك فقال: ï´؟ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ï´¾ [المائدة: 72].

ويوم القيامة يتبرأ منهم عيسى - عليه السلام - كما قال الله - عز وجل -: ï´؟ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ï´¾ [المائدة: 116، 117].

النوع الرابع:
من ذكر وأنثى، وهم سائر الخلق؛ كما قال الله - تعالى -: ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ï´¾ [الحجرات: 13].

وهذه الآية إعلان لمبدأ الإخاء الانساني؛ فالبشر كلهم لآدم، وآدم من تراب، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، والعلة من هذا التباين العرقي، والتنوع الإنساني، هي التعارف والتعاون والتكامل، لا التباهي والتفاخر والتخاصم؛ كما قال الله - عز وجل -: ï´؟ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ï´¾ [الزخرف: 32]، وصدق الشاعر حين قال:
والناسُ للناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض، وإن لم يشعروا خدم


أما الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب، فهو من عادات الجاهلية، وصفات الجاهلين، ولله در القائل:
الناس من جهة التمثال أكْفاء
أبوهمُ آدم والأم حواء

فإن يكنْ لهم في أصلهم نسب
يفاخرون به، فالطين والماء

ما الفضل إلا لأهل العلم إنهمُ
على الهدى لمن استهدى أدلاَّء

ففُزْ بعلم تعشْ حيًّا به أبدًا
الناس موتى وأهل العلم أحياء

وقدرُ كل امرئ ما كان يُحسنه
والجاهلون لأهل العلم أعداء


فالبشر في هذا العالم كإخوة في بيت كبير، آدم أبوهم، وحواء أمهم، والأرض مسكنهم، والسماء سقفهم، والشمس سراجهم، والقمر نورهم، والمطر شرابهم، والنبات غذاؤهم، والدواب مراكبهم.

ويمكن تشبيه القارات بالمجمعات السكنية، والدول هي الأحياء، والمدن هي الحجرات.

أما أخوّتهم الدينية فتتمثل في أن إلههم الحق واحد، والرسول المبعوث إلى العالمين جميعًا واحد، والكتاب واحد، والقِبلة واحدة، والمصير والجزاء واحد؛ ï´؟ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ï´¾ [النحل: 97].

وما أروع قول الشاعر:
وما المرءُ إلا بإخوانه
كما تقبض الكفُّ بالمِعْصم

ولا خير في الكفِّ مقطوعةً
ولا خيرَ في الساعد الأجذمِ


ونواصل حديثنا في ثنائية أخرى، والله الموفق.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 14-12-2019, 11:46 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,503
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ثنائيات رباعية في العلوم النقلية والعقلية

ثنائيات رباعية في العلوم النقلية والعقلية(3)
عادل عبدالوهاب عبدالماجد








(القوة والأمانة)

















الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى، وآله وأصحابه أهل الأمانة والوفا، وبعد:


فالقوة والأمانة صفتان محبوبتان بين الناس، مرغوبتان عند البشر، والقوة تشمل القوةَ البدنية، والشجاعةَ القلبية، والفصاحة اللِّسانية، والحصيلة العلمية، والمكانة الاجتماعية المتمثلة في الشُّهرة والمال والأتباع، وكذلك الهمة العالية، والعزيمة الماضية، والمبادرة الفاعلة، فكل واحدة من هذه الصفات تمثل مظهرًا من مظاهر القوة، وهي متفاوتة بين البشر.





أما الأمانة، فجوهرها الصدق، وحُسن الخُلق، ونقاء السريرة، والمروءة، وكل ما جاءت به الرسالات من مكارم الأخلاق، ومحاسن الصفات، والناس فيها كذلك منازلُ متباينة، ومراتبُ شتَّى، وقد انقسموا باعتبارهما إلى أقسام أربعة:


الأول: من له أمانة وليس له قوة:


وهذا أوسطهم حالاً، اجتمع فيه خير وشر، وخيره غالب على شرِّه، فيكون أمينًا صادقًا، تقيًّا ورِعًا، مخلصًا، حسَنَ الخُلق، لكنه ضعيف في بدنه، أو فقير لا يملِك شيئًا من حطام الدنيا، أو سلبي ليس له أثر فيما حوله، أو قليل العلم، أو عاجز عن التعبير السليم عن نفسه أو عن غيره.





وهذا النوع هو الذي استعاذ منه عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - حين قال: "اللهم إني أشكو إليك جَلَد الفاجر، وعجزَ التَّقي".





والضَّعف قد يكون عارضًا يزول بزوال أسبابه كما كان حال النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين في بداية الدعوة، ودعاؤه مشهور بعد حادثة الطائف وتطاول السفهاء عليه حين قال: ((اللهم إليك أشكو ضَعْف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين...))؛ فيض القدير ج2 ص150.





فالضَّعف يكون ابتلاء من الله دون تقصير، وصاحبه مخفوض عند الناس، لكنه مرفوع عند رب الناس، كما قال الرسول-صلى الله عليه وسلم -: ((ربَّ أشعثَ أغبَرَ ذي طمرين، مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسَم على الله لأبرَّه))؛ أخرجه الحاكم وغيره، وقال الشاعر:




رُبَّ ذي طمرين نِضْوٍ

يأمَنُ العَالَمُ شَرَّهْ




لا يُرى إلا غنيًّا

وهو لا يملِكُ ذَرَّهْ




ثم لو أقسمَ في

شيءٍ على اللهِ أَبَرَّهْ








ومن صور ذلك:


الدعاة والمصلحون الذين يعانون من محدودية العلم، أو الضَّعف البدني، أو ضعف اللغة، أو قلة الإمكانيات، أو غيرها من مظاهر النقص والتقصير، وقد يكون ذلك بسبب سوء الفهم، أو وهن العزيمة، وفتور الهمة، وهنا يظهر القصورُ الذاتي، والنقص الشخصي، فيصدُق قول المتنبِّي:




ولم أرَ في عيوب الناسِ شيئًا

كنقصِ القادرين على التَّمامِ








وهذا من عجائب الأمور؛ قربُ الدواء، واستفحال الداء، واستحكام المرض مع تيسر اللقاح والعلاج، وصدَق من قال:




ومن العجائبِ والعجائبُ جمَّةٌ

قُرْبُ الشفاءِ وما إليه وُصُولُ




كالعِيسِ في البَيْداءِ يقتُلُها الظَّما

والماءُ فوق ظهورِها محمولُ








الأمة الإسلامية منهاجُها خيرُ مِنهاج، ورسالتها أسمى رسالة، لكنها ضعيفة بين الأمم، لا قوة لها ولا كلمة، بل أصبحت تَبعًا لغيرها، تتلقى المعونات، وتستقبل الضربات، وترضى بالفتات من خيراتها المسلوبة، وثرواتها المغصوبة، وما دامت على هذه الحال، فلن تزداد إلا ضعفًا وتبعيَّة؛ لأن ما أُخِذ بالقوة لا يستردُّ إلا بالقوة، ولا يفُلُّ الحديدَ إلا الحديدُ، ولا يُغني الشجب والتنديد، ومن كان الضعيف فإن حجَّتَه ضعيفة، ولا يُطاع لقصيرٍ أمرٌ، (وهذا هو عجزُ الثِّقة).





هذا الواقع المرير يمكن تغييرُه، وتلك الصورة المشوَّهة يمكن تحسينها؛ فالقوة كامنة في رسالتنا، متغلغلة في مبادئنا التي سُدْنا بها العالم زمنًا ليس بالقصير، وحكمنا بها الدنيا:




والليثُ ليثٌ ولو كَلَّتْ مخالبُه

والقردُ قردٌ وإن لبِس العمامة












يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 14-12-2019, 11:47 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,503
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ثنائيات رباعية في العلوم النقلية والعقلية


الثاني: من له قوة وليس له أمانة:


وهذا شرُّهم وأخبَثُهم، وضرره غالب على نفعه، وخطره كبير؛ حيث يكون قويًّا في بدنه، أو كثير المال، أو عظيم الجاه، كثير الأتباع، أو فصيح اللسان، أو واسع الثقافة والاطِّلاع، لكنه لا يعرف الأمانة، ولا يدري ما الصدق والوفاء، قبيح الخُلق، سيِّئ النية، خبيث الطوية، سخَّر ما عنده لنصر الباطل ونشره، وحرب الحق وأهله، ومن صور ذلك:


المنافقون من أجمل الناس منظرًا، وأحلاهم لسانًا، وأقواهم أبدانًا، وأكثرهم أتباعًا وجمهورًا، لكنهم مرضَى القلوب، ضعافُ النفوس، يقولون ما لا يفعلون، ويُظهِرون ما لا يُبطِنون؛ فمظاهرهم خادعة، وبواطنهم مظلمة، وصدق الشاعر حين قال:




وهل ينفَعُ الفتيانَ حُسنُ وجوهِهم

إذا كانت الأخلاقُ غيرَ حسانِ




فلا تجعَلِ الحُسنَ الدليلَ على الفتى

فما كلُّ مصقولِ الحديدِ يَماني








قال الله عنهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة: 204]، وقال عنهم: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون: 4]، قال السعدي في تفسيره:


وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ من رُوَائِها ونضارتها، وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ؛ أي: من حُسْن منطقِهم تستلذ لاستماعه، فأجسامهم وأقوالهم معجبة، ولكن ليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة والهدي الصالح شيء؛ ولهذا قال: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ لا منفعة فيها، ولا ينال منها إلا الضرر المحض، يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ؛ وذلك لجُبنهم وفزعهم وضعف قلوبهم، والريب الذي في قلوبهم يخافون أن يطلع عليهم؛ فهؤلاء هُمُ الْعَدُوُّ على الحقيقة؛ لأن العدو البارز المتميز أهونُ من العدو الذي لا يُشعَر به، وهو مخادع ماكر، يزعم أنه ولي، وهو العدو المبين، فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ؛ أي: كيف يُصرَفون عن الدين الإسلامي بعدما تبينت أدلته، واتضحت معالِمُه، إلى الكفر الذي لا يُفيدُهم إلا الخسار والشقاء؟!".


وهؤلاء تحرِّكُهم مصالُحهم، وتقودهم شهواتهم، وحكايتهم مع المجتمع كحكاية الثعلب المكار مع الديك الصداح، والتي صورها الشاعر أحمد شوقي في القصيدة الرمزية التالية:




برَز الثعلب يومًا

في شعار الواعظينا




فمشى في الأرض يهدي

ويسُبُّ الماكرينا




ويقول: الحمد للـ

ـه إلهِ العالَمينا




يا عبادَ الله، توبوا

فهو كهف التَّائبينا




وازهَدوا في الطير إنَّ ال

عيشَ عيشُ الزاهدينا




واطلُبوا الديكَ يؤذِّن

لصلاةِ الصُّبحِ فينا




فأتى الديكَ رسولٌ

من إمامِ النَّاسكينا




عرَض الأمرَ عليه

وهو يرجو أن يَلينا




فأجاب الدِّيكُ عذرًا

يا أضلَّ المهتدينا




بلِّغِ الثعلبَ عنِّي

عن جدودي الصَّالحينا








يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 14-12-2019, 11:48 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,503
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ثنائيات رباعية في العلوم النقلية والعقلية










ومن صور ذلك: الكفَّار الذين يملِكون القوة والسلاح، والمال والأنصار، وأصبحت بيدهم مقاليدُ الأمور، لكنهم حربٌ على الإسلام وأهله، وهذا من مصائب الدهر، ومِحَن الزمان، وعلامات الساعة؛ أن يتقدم السفهاءُ، ويتأخَّر الفضلاء؛ كما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة أنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا ضُيِّعت الأمانة، فانتظر الساعة))، قيل: كيف إضاعتُها يا رسول الله؟ قال: ((إذا أُسند الأمرُ إلى غير أهله، فانتظر الساعةَ))، ولله در القائل:




رأيتُ الدهرَ يرفَعُ كلَّ وغدٍ

ويخفض كلَّ ذي رُتَب شريفةْ




كمِثل البحرِ يأخُذ كل حي

ولا ينفَكُّ تطفو فيه جيفةْ




وكالميزان يخفِضُ كلَّ وافٍ

ويرفعُ كلَّ ذي زِنَةٍ خفيفةْ








وقد قال الله عنهم مبينًا عداءهم المستحكم وحقدهم الدفين: ï´؟ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ï´¾ [البقرة: 217]، ومع ذلك نهى الله - عز وجل - عن الاستسلام لهذا الواقع العابر، أو الانهزام أمام هذا الطغيان الغاشم؛ فقال لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: ï´؟ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ï´¾ [آل عمران: 196، 197]؛ لأنه مهما طال الليل فلا بد من طلوع الفجر، وصدَق الشافعيُّ حين قال:




تموت الأُسدُ في الغابات جوعًا

ولحمُ الضَّأنِ تأكُلُه الكلابُ




وذو سَفَهٍ ينام على حريرٍ

وذو فضلٍ مفارشُه الترابُ








ومن الأمانة أن نقول: إن بعض هؤلاء قد نجد فيهم أمانة، ورحمة، وحُسْنَ خُلق، ورفقًا بالحيوان أكثر مما عند كثير من المسلمين، وهي التي فتنتْ كثيرًا ممن ينتسبون إلى الإسلام، فاغترُّوا بما عندهم من فتات الأخلاق، وسراب القِيم، لكن الفرق بيننا وبينهم أنهم يفعلونها عادة وإنسانية، والمسلمون يفعلونها طاعة وعبودية، وهي حسنات مغمورة في بحار سيئاتهم، وأعمالهم يوم القيامة ï´؟ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ï´¾ [النور: 39، 40].





ومِن صور ذلك: الفجار والسفهاء من أبناء المسلمين الذين يتجلَّدون في الباطل، ويتحمَّلون الصعاب ليصلوا إلى إرواء شهواتهم، وإشباع نزواتهم، من الظلم والبطش والاحتيال، واستضعاف الفضلاء، وأكل المال بالباطل، بلا حياءٍ ولا تردد، وكأنهم صمٌّ عن قول الشاعر:




لا تظلمَنَّ إذا ما كنتَ مقتدرًا

فالظلمُ مصدرُه يُفضي إلى الندمِ




تنامُ عيناك والمظلومُ منتبهٌ

يدْعو عليك وعينُ اللهِ لم تَنَمِ








ومن صور ذلك أيضًا: الظَّلَمة من حكام المسلمين، وأعوانهم المتجبِّرون، الذين يشددون على الرعية، ويبطشون بالضعفاء، وينهبون ويسلبون قريبًا أو بعيدًا عن أعين الرقباء، فهؤلاء ويلٌ لهم؛ كما قال الشاعر:




إذا خان الأميرُ وكاتباهُ

وقاضي الأرضِ داهَنَ في القضاءِ




فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويل

لقاضي الأرضِ مِن قاضي السماءِ








فالدول تبقى مع العدل وإن كانت كافرةً، وتزولُ مع الظُّلم وإن كانت مسلمةً.






يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 14-12-2019, 11:56 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,503
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ثنائيات رباعية في العلوم النقلية والعقلية

ثنائيات رباعية في العلوم النقلية والعقلية(3)
عادل عبدالوهاب عبدالماجد


الثالث: من ليس له قوة وليس له أمانة:


فيكون ضعيف البدن، عليل الجسد، قليل الحيلة، أو فقيرًا معدِمًا، ومع ذلك يكون بذيئًا، سيئَ الأخلاق، لا دينَ له ولا أمانة، وهذا أتعسهم، فلم يُفلِح في دين، ولم ينجَحْ في دنيا، لا يألَف ولا يؤلف، ويصدُقُ عليه المثل القائل: (لا في العِير ولا في النَّفير)، وحاله كلحمِ جمل غثٍّ، على رأس جبل وعْرٍ، لا سهلٌ فيُرتقَى، ولا سمينٌ فيُنتقَى، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى.





ومن صور ذلك:


الشيخ السفيه، والأشيمط الزاني، والعائل المستكبر؛ كما جاء في حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة لا ينظر اللهُ إليهم يوم القيامة، ولهم عذاب أليم: أشيمط زانٍ، وعائل مستكبر، ورجُلٌ جعَل اللهَ بضاعته؛ لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيعُ إلا بيمينه))؛ فيض القدير ج3 ص436، والعائل هو الفقير الذي ينبغي أن يكون هيِّنًا ليِّنًا، والأشيمط هو الشيخ الكبير الذي ينبغي أن يكون بعيدًا عن الزنا لضعفِ شهوته، وانحراف الشيخ صعبُ العلاج؛ لأن مَن شبَّ على شيء شاب عليه، ومن شاب على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعِث عليه، هذا على التغليب وليس على الدوام؛ كما قال الشاعر:




وإنَّ سفاهَ الشيخِ لا حِلمَ بعده

وإن الفتى بعد السفاهةِ يحلُمُ








الشباب الفاشل العاطل، البعيد عن معاني الرجولة، المتصف بالميوعة والتخنُّث الذي تعجَّب الشاعر من حاله فقال:




وما عجبٌ أن النساءَ ترجَّلتْ

ولكنَّ تأنيثَ الرِّجالِ عجيبُ








ومن أسباب ذلك: الترفُ، والدلال الزائد داخل الأسرة، وغفلة الآباء، وضعف التربية.





ويلحق بهؤلاء المسترجلاتُ من النساء، فهم سواء، هذا أضاع رجولتَه فتحوَّل إلى نكرة، وتلك فقَدتْ أنوثتها فأصبحت لا شيء، ورحم الله القائل:




تلقى فتاةً في ثيابِ ترجُّل

فتخالها من جملةِ الفتيانِ




نفسُ الملابس والمجالس والخطى

لم يبقَ إلا الشَّعرُ في الأذقانِ














الرابع: مَن جمَع بين القوة والأمانة:


فيكون قويًّا في بدنه، أو غزيرًا في عِلمه، أو كثيرًا في ماله، أو فصيحًا في قوله، أمينًا تقيًّا رفيقًا، حَسَن الخلق، وهذا خيرهم وأفضلهم وأنفعهم؛ كما جاء في القرآن: ï´؟ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ï´¾ [القصص: 26]، وكما جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفى كلٍّ خيرٌ، احرِصْ على ما ينفعك، واستعِنْ بالله ولا تَعجِزْ، وإن أصابك شيء فلا تقُلْ: لو أني فعَلْتُ، كان كذا وكذا، ولكن قُلْ: قدَرُ اللهِ وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان))؛ رواه مسلم.





ومن صور ذلك:


الشاب المستقيم، الورِعُ المتعفِّف، والحاكم العادل، المنصف لرعيته، فهؤلاء أقوياء، ومع ذلك أمناء، وهم من السبعة أصحابِ الظِّل يوم القيامة؛ فقد روى أبو سعيد الخدريُّ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سبعة يُظِلُّهم اللهُ في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله))، وذكر منهم: ((إمام عادل، وشابٌّ نشأ في عبادة الله))، وساق الحديث إلى آخره.





الداعية المتمكِّن، غزير العلم، واسع الاطِّلاع، قويُّ الحجة، حَسَن الخلق، بليغ الخطاب، قوي البدن، المتفاعل مع مجتمعه، هو الداعية الحي، والمربي القدوة، الذي سيُغيِّر وجه الأرض.





الأمة الإسلامية حين تتسلَّح بالإيمان، وتتحصَّن بالعلم، وتقوم صفًّا واحدًا في مواجهة أعدائها كالبنيان المرصوص، وحين تحقِّقُ قولَه - تعالى -: ï´؟ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ï´¾ [الأنفال: 60]، تعُود صاحبةَ الرِّيادة والقيادة، والكلمة والسيادة، ويتحقق فيها قولُه - تعالى -: ï´؟ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ï´¾ [آل عمران: 110]، ولن يقف في وجهها عدو، وتكون هي المعنيَّة بقول الشاعر العشماوي متفائلاً:




صُبْحٌ تنفَّسَ بالضِّياءِ وأشرقا

الصَّحوةُ الكبرى تهزُّ البيرقا




وشبيبةُ الإسلام هذا فَيْلقٌ

في ساحةِ الأمجاد يتبَعُ فَيْلقا




وقوافلُ الإيمان تتَّخذ المَدى

دربًا وتصنَعُ للمُحيط الزَّورقا




وحروفُ شِعري لا تمَلُّ توثُّبًا

فوق الشِّفاهِ، وغيبُ شعري أبرقا




وأنا أقول وقد شرِقْتُ بأدمُعي

فرحًا وحُقَّ لِمَن بكى أن يشرَقا




ما أمرُ هذي الصَّحوة الكبرى سوى

وعدٍ مِن الله الجليل تحقَّقا




هي نخلةٌ طاب الثرى فنَمَا لها

جذعٌ قويٌّ في التراب وأعذقا





















ونواصل حديثنا مع ثنائية أخرى بمشيئة الله، والله الموفق
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 14-12-2019, 11:56 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,503
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ثنائيات رباعية في العلوم النقلية والعقلية

ثنائيات رباعية في العلوم النقلية والعقلية(4)
عادل عبدالوهاب عبدالماجد


(الكتاب والحديد)


بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فتقوم الدولة في الشريعة على ركيزتينِ:
الأولى: الكتاب الهادي، الثانية: الحديد الناصر؛ قال تعالى: ï´؟ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ï´¾ [الحديد: 25]، قال ابن تيمية: (فذكَر تعالى أنه أنزَل الكتاب والميزان، وأنه أنزل الحديد لأجلِ القيام بالقسط، وليعلمَ اللهُ من ينصره ورسله؛ ولهذا كان قِوامُ الدِّين بكتاب يَهدي، وسيف يَنصر، وكفى بربِّك هاديًا ونصيرًا)؛ أمراض القلوب، ج1 ص40.

فالكتاب: يرمزُ إلى الوحي المعصوم، والمنهج الشامل، والرِّسالة القيمة، والمبادئ السامية، وبه يكونُ جهاد الحجَّة والبرهان، وهو أكبرُ أنواع الجهادينِ؛ كما قال الله تعالى: ï´؟ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ï´¾ [الفرقان: 52].

والحديد: يرمُز إلى القوةِ الواعية، والهيبة البنَّاءة، والنفوذ الواسع، وبه يكون جهادُ السَّيف والسنان، وهذه وسائلُ الإصلاح المتوازن، والتربية القويمة، والقيادة الرشيدة، وإلى ذلك أشار الشاعرُ بقوله:
فما هو إلا الوحيُ أو حدُّ مُرْهفٍ
تُميلُ ظُبَاهُ أَخْدَعَيْ كلِّ مائلِ

فهذا شفاءُ الداءِ مِن كل عاقلٍ
وهذا دواءُ الداءِ مِن كلِ جاهلِ


احتمالات العلاقة بين هذين العنصرين لا تخرج عن أربعةِ احتمالات:
الاحتمال الأول: اجتماع الكتابِ مع الحديد؛ فالكتاب يشيرُ إلى المبادئ، والأخلاق، والعدالة الاجتماعية، والإنصاف في قسمة السلطة والثروة، والحديد يرمُز للقوة والهيبة، وبسط الأمن، وإقامة الحدود، ورَدْع المجرمين، وفي هذا الوضع يكون الاستقرارُ والبِناء والتعمير، ويتبادل الرَّاعي مع الرعية شعورَ الحبِّ والودِّ والإيثار، كما جاء في الحديثِ عن عوفِ بنِ مالِكٍ الأشجعِيِّ، عن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((خِيار أئمَّتِكم الذين تحبُّونهم ويحبُّونكم، وتُصلُّون عليهم، ويُصلُّون عليكم))؛ رواه مسلِمٌ، والصلاة: هنا الدعاء؛ أي: تدعون لهم، ويدعون لكم، وقيل: يحبونَكم في حياتكم، ويصلُّون عليكم بعد مماتكم.
عندها تأوي الكلاب
إلى متاهات الهضاب
وتهيم في البيداء
قطعان الذئاب
حتى الثعالب تَنْزوي
لا تستطيع المكر
أو ترجو الخراب
وتطير أسراب الحَمام
تظلل الأجواءَ تمحو
كل وهم أو سراب
والأرض خضراء
تزينها الفراشات الجميلة
ماؤها عذب يغطيها السحاب
فالعدل مبسوط
بحُكم الشرع
من وحي الكتاب
والأمن محفوظ
وسيف الحق
في الأرجاء هادر

وفي ظل هذه الأوضاع الراقية تستقر الدولةُ وتستمر، وقد كان ذلك واقعًا حيًّا في خيرِ العصور، مع خير القادةِ وخير الشعوب؛ فقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم أعظمَ قائدٍ، وكان مجتمعُ الصحابة أطهرَ مجتمع.

الاحتمال الثاني: أن يوجد الكتابُ، ويغيب الحديد، وهنا يحضُر العدل وتغيبُ القوة، تظهر الأخلاقُ وتتلاشى الهيبة، فتكون الدولةُ ذاتَ قيم بلا حماية، ولها مبادئ بلا وقاية، ولها قانون محنَّط لا يقوى على الحركة، فيدبُّ الضعفُ في أوصالها، وتسري الآفاتُ في مفاصلِها، فتتآكل ثم تتهاوى وتنهار؛ لأنه لا يطاع لقصيرٍ أمرٌ، ومن كان الضعيفَ فإن حجتَه ضعيفة.
ومَن لم يذُدْ عن حوضِه بسلاحِه
يُهدَّمْ، ومَن لا يتَّقي الشَّتْمَ يُشتَمِ


الاحتمال الثالث: أن يوجدَ الحديد ويختفي الكتاب، وهنا يقعقع السلاح، وتُباد الأخلاق، وتظهر مخالب الظُّلم، وتقطع شرايين الفضائل، فيقهر الشعب، وتئنُّ الرعية، وتحتقن القلوب، وتطفح الضغائنُ، ثم تنفجر براكين الثورات؛ لتهلك الحرث والنَّسل، وتزهق الأرواح، ويظهر في الأرض الفساد، ويطل برؤوسهم دعاة الإفساد؛ ليصِلوا إلى ما يريدون من شهواتٍ ونزوات، وهذا ما حذَّر منه الحديث الذي ذكرنا طرَفًا منه سابقًا عن عوف بن مالك الأشجعي: ((وشِرار أئمتِكم الذين تُبغضونهم ويُبغضونكم، وتَلعنونهم ويلعنونكم))، قالوا: قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذُهم عند ذلك؟ قال: ((لا، ما أقاموا فيكم الصلاةَ، لا، ما أقاموا فيكم الصلاةَ، ألا مَن وَلِيَ عليه والٍ، فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فليكرَهْ ما يأتي من معصيةِ الله، ولا ينزِعَنَّ يدًا من طاعة))؛ رواه مسلمٌ.


وهناك تنتحر العدالة
بل يواري جسمها
وحلُ التراب
يَسوَدُّ وجه الأرض
ينعِق في نواحيها الغراب
وتجول في الأرجاء تنبِح
كل قطعان الكلاب
وهناك ينتحب العفاف
فأهله قتلوا
وقد فقد المُوَاسي
والمُعَزِّي والصحاب
وهناك تغدو
كل حملان القطيع
وحوش غاب
تتطاول الجرذان
في سفه
على الأسد الجريح
تذيقُه من كل أنواع العذاب
والحاكم السفاح يبطش
ليس يذكر حين يلقى الله
أو يخشى العقاب
يؤيده بخُبث
كل فاجرة وفاجر
وتصول في الميدان
دون تحرُّج
كل المخالب والأظافر

الاحتمال الرابع: ألاَّ يوجدَ كتاب ولا حديد، لا أخلاق ولا قوة، لا دين ولا دنيا، فهنا يتحولُ المجتمع إلى غابة؛ القوي فيها يأكلُ الضعيف، وسرعان ما تتآكلُ الدولة، وتتلاشى إلى زوالٍ وانهيار، وهنا يكون الحشَف وسوء الكيلة، ومن لم ينتفِعْ بعينه لم ينتفع بأُذنِه.
ولا خيرَ في اليد مقطوعةً
ولا خيرَ في الساعدِ الأجذَمِ


والله المستعان!
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 14-12-2019, 11:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,503
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ثنائيات رباعية في العلوم النقلية والعقلية

ثنائيات رباعية في العلوم النقلية والعقلية(5)
عادل عبدالوهاب عبدالماجد



صحة الفهم وحسن القصد


الحمد لله القائل: ï´؟ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ï´¾ [الكهف: 17]، والصلاة والسلام على سيد ولدِ آدم أجمعين، القائل في سنته المطهرة: ((من يُرد الله به خيرًا يفقِّهه في الدين))، وعلى آله وأصحابه الغرِّ الميامين، وبعد:
فقال ابن القيم في كتابه القيم "إعلام الموقِّعين"، وهو يشرح كتابَ عمر في القضاء:
"صحَّة الفهم وحسن القصد مِن أعظم نِعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أُعطي عبدٌ عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجلَّ منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامُه عليهما، وبهما يأمنُ العبدُ طريقَ المغضوب عليهم الذين فسد قصدُهم، وطريقَ الضالِّين الذين فسدَت فهومُهم، ويصير مِن المنعَم عليهم الذين حسُنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهلُ الصِّراط المستقيم، الذين أُمرنا أن نسأل اللهَ أن يهدينا صراطهم في كلِّ صلاةٍ.

وصحَّة الفهم: نورٌ يقذفه اللهُ في قلب العبد، يميِّز به بين الصحيح والفاسد، والحقِّ والباطل، والهدى والضلال، والغيِّ والرشاد، ويمدُّه: حسن القصد، وتحرِّي الحق، وتقوى الربِّ في السرِّ والعلانية، ويقطع مادَّته: اتباعُ الهوى، وإيثار الدنيا، وطلب محمَدة الخلق، وترك التقوى".

وكثيرٌ من شباب المسلمين اليوم آفتُهم سوءُ الفهم والجهل وقلَّة العلم، وقد يجتمع مع ذلك الحماس والغيرة والاندفاع التي توقعهم في الظلم والعدوان، ï´؟ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ï´¾ [الكهف: 104]، وبعضهم قد يكون لديه مع الحماس والاندفاع سوءُ القصد وخبث النية، والله ï´؟ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ï´¾ [البقرة: 77].

وبناء على ذلك؛ فإن الناسَ من حيث الفَهم والقصد قد انقسموا إلى أقسامٍ أربعة:
الأول: من صحَّ فهمُه وساء قصدُه: وهم: علماءُ الضلال، وتجَّار الدين، الذين يعرفون الحقَّ ويكتمونه، ويلبسون الحق بالباطل وهم يعلمون، وهؤلاء أشبه باليهود (المغضوب عليهم)، ويصدُق فيهم قولُ الشاعر:
ذئبٌ تراه مصلِّيًا
فإذا مررتَ به ركعْ

يدعو وكلُّ دعائه
ما للفريسةِ لا تَقعْ

عجِّلْ بها عجلْ بها
إن الفؤاد قَد انصدعْ

فإذا الفريسةُ أُوقعَتْ
ذهب التنسُّك والوَرعْ


الثاني: من ساء فهمُه وصحَّ قصده: وهم المتَّصفون بالحماس والغيرة والصدق، مع جهلٍ وقلَّة علمٍ، مثل الخوارج وإخوانهم، وهؤلاء أشبهُ بالنصارى الضالِّين الذين عبدوا اللهَ بالجهل فضَلُّوا وأضَلوا، ويصدق فيهم قولُ القائل:
وكم مِن عائبٍ قولاً صحيحًا
وآفتُه من الفَهمِ السَّقيم


هؤلاء ï´؟ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ï´¾ [الكهف: 104]، يُفسدون أكثر ممَّا يصلحون، ويضرون أكثر مما ينفعون، ومن العسير تصويب أخطائهم، وتصحيح مفاهيمهم، وينطبِق عليهم قولُ القائل:
وإن عناءً أن تُفهِّم جاهلاً
فيحسب جهلاً أنه منك أَفهَمُ

متى يبلغ البُنيان يومًا تمامَه
إذا كنتَ تبنيه وغيرُك يهدِمُ

متى يرعوي عن سيِّئٍ من أَتى به
إذا لم يكن منه عليه تندُّمُ


وهذا الصنف مغرَّر به، مفتقر إلى العلم وسلامة الفهم، قليلُ المعرفة بأصول الدين وقواعد الشريعة، منخدعٌ بالشعارات البرَّاقة، ومِن السهل التَّلاعب به، وهو لا يعرف حقيقةَ من يقودُه ولا إلى أين يقوده، وأكثرهم غير مستعدين للتراجع، طبقًا لقول القائل:
ومن البليَّة عذلُ مَن لا يرعوي
عن غيِّه وخطابُ مَن لا يفهمُ


ومن النماذج الواضحة لهذا النوع الذي يعاني من التشوُّهات الفكرية، والخَلل المنهجي بسبب قلة العلم وضعف الفهم: شخصية عبدالرحمن بن ملجِم المرادِي الخارجي، وهو من زُعماء الخوارج، فقد كان ابنُ ملجم فارسًا شجاعًا، شارك في فتح مصر، وكان من العبَّاد المتألِّهين، ومن قرَّاء القرآن المشهورين، قرأه على معاذ بن جبل رضي الله عنه، وبلغ من إتقانه حروفَ القرآن أنَّ عمر رضي الله عنه كتب إلى عمرو بن العاص: "أنْ قرِّب دارَ عبدالرحمن بن ملجم من المسجد ليعلِّم الناس القرآن والفقه"، فوسع له مكانَ داره.

قال ابنُ حبان رحمه الله تعالى: فخرج عبدالرحمن بن ملجم ومعه سيفٌ مَسلول حتى أتى مسجدَ الكوفة، وخرج عليٌّ من داره وأتى المسجد وهو يقول: "أيها الناس، الصلاةَ الصلاةَ، أيها الناس: الصلاة الصلاة"، وكانت تلك ليلة الجمعة لسبع عشرة خلَت من رمضان، فصادفه عبدُالرحمن بن مُلجم من خلفه، ثم ضربَه بالسيف ضربة من قَرنه إلى جبهته...، فقال عليٌّ رضي الله عنه: "احبسوه وأطيبوا طعامه، وألينوا فراشَه، فإن أَعش فعفوٌ أو قصاص، وإن أمُت فألحقوه بي أخاصمُه عند ربِّ العالمين، فمات عليُّ بن أبي طالب غداةَ يوم الجمعة.

وصدق أبو حيان الأندلسي حين قال:
يظنُّ الغُمْرُ أنَّ الكُتْب تهدي
أخا فهمٍ لإدراك العلومِ

وما يدري الجَهول بأنَّ فيها
غوامضَ حيَّرت عَقل الفهيمِ

إذا رُمتَ العلومَ بغير شيخٍ
ضلَلْتَ عن الصراط المستقيمِ




ضُرب بتوما الحكيم المَثَل في الجهل، قرأَ حديث: ((الحبة السوداء فيها شفاءٌ من كلِّ داء))، فقرأها بالتصحيف: "الحيَّة السوداء"، وكان يداوي بذلك؛ فهلك على يديه نفرٌ كثير.

وأهل البدع والمحدَثات يندرجون تحتَ هذه الطبقة؛ لذا تجدهم متعصِّبين لبدعهم مع مخالفتها لشرع الله، وكلُّ مجتهد مخطئ يدخلُ تحت هذا النوع من البشر، لكنَّ أهل الاجتهاد خُلُقهم التواضع، وسَمتهم الأدب، ودَيْدنهم الرجوع إلى الحقِّ متى ما اتضحَت معالمه.

الثالث: من ساء فهمُه وساء قصدُه: وهؤلاء هم المنافقون الذين جمعوا بين قلَّة العلم ومرضِ القلب، ونزل فيهم وفي أشباهِهم قولُه تعالى: ï´؟ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ï´¾ [محمد: 16]، ويلحق بهؤلاء العلمانيُّون والليبراليون والماسونيون والعصرانيون والحداثيون، وسائر إخوانهم، الذين جمعوا بين الجهلِ وخُبث المقصد، فهم يستغلُّون أخطاءَ الإسلاميين، ويتصيَّدون عثرات المسلمين ويتاجرون بها، ويطيرون بها كلَّ مطار، ويستثمرونها لتشويه الدِّين والطعن فيه وفي رسوله صلى الله عليه وسلم، وينشرونها في كلِّ المواقع والمحافل.

الرابع: من صحَّ فهمُه وحسن قصده: وهؤلاء خير الناس، وهم الذين ï´؟ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ï´¾ [النساء: 69]، الذين تعلَّموا قبل أن يعملوا، فساروا على هدًى وبصيرة، وجمعوا بين العلمِ والعمل، وهم المذكورون في قوله تعالى: ï´؟ فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ï´¾ [الزمر: 17، 18]، وهذا الوصف ينطبق على أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، خير جيل عرفَه التاريخُ، ويشاركهم في هذا المدح مَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، فهم الذين عرفوا الحقَّ واتبعوه ï´؟ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ï´¾ [البقرة: 285].

فعلى كلِّ مسلم أن يعرف موقعَه من الإعراب بين هذه الأنواع المختلفة من البشر.

وقد قال الخليل بن أحمد الفراهيدي: "الرجالُ أربعة: رجلٌ يدري ويدري أنه يدري، فذلك العالِم فاسألوه، ورجلٌ يدري ولا يدري أنه يدري، فذلك غافل فنبِّهوه، ورجل لا يدري، ويدري أنه لا يدري، فذلك جاهلٌ فعلِّموه، ورجلٌ لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فذلك أحمقُ فاجتنبوه".



هذه الأقسام يشترك فيها الرجالُ والنساء، و"رحم الله امرأً عرف قَدْر نفسه".

نسأل اللهَ أن يهدينا الصراط المستقيم؛ صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 167.77 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 162.88 كيلو بايت... تم توفير 4.90 كيلو بايت...بمعدل (2.92%)]