|
|||||||
| ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#2
|
||||
|
||||
|
الأصيل والدخيل من التفسير في قصة أيوب عليه السلام د. عدنان عبد الكريم خليفات [·] المبحث الثالث: استخلاص الموضوعات التي أصابها الدخل في القصة. واستخلاصا لما جاء في القسمين السابقين فإنه يمكن تقسيم ما ورد من دخيل في التفسير في قصة أيوب بمختلف رواياتها ورواتها وتأويلاتها إلى الأقسام التالية: أولا: سبب ما أصابه من بلاء. ثانيا: طبيعة البلاء الذي أصابه. ثالثا: مدة البلاء. رابعا: ما نسب إلى أيوب من الشكوى. خامسا: كيف شفي من مرضه. سادسا: كيف عوض الله عليه أهله وماله. وهذا تفصيل لما أجمل: أولا: ما ورد في ذكر سبب ما أصابه من بلاء قد وردت روايات عديدة ذكرت سبب ما أصاب أيوب عليه السلام من بلاء، واغلبها يعود إلى الإسرائيليات، منها: "أن الله تعالى أثني على أيوب في الملأ الأعلى، وتجاوبت الملائكة بذكره والصلاة عليه، وذاع صيته في الملأ الأعلى، وسمع بذلك إبليس فحسده على مكانته عند الله، وسأل الله أن يسلطه عليه؛ ليفتنه عن دينه؛ فسلطه الله..." ([42]) بل ذكر بعضهم اسم الشيطان الذي سلط على أيوب -في زعمهم -؛ فعن نوف البكالي ([43]) قال: كان (الشيطان) الذي سلط على أيوب اسمه مسوط. ([44]) الرواية الأخرى في سبب بلائه: انه كان بسبب سكوته عما كان يصنع فرعون من المنكرات؛ فقد اخرج ابن الأثير وابن عساكر عن أبي إدريس الخولاني ([45]) ؛ قال: "أجدب الشام، فكتب فرعون إلى أيوب: أن هلم إلينا؛ فإن لك عندنا سعة، فأقبل بخيله وماشيته، فأقطعهم، فدخل شعيب على فرعون، ووعظه وخوفه، وأيوب ساكت لا يتكلم، فلما خرج شعيب وأيوب، أوحى الله إلى ايوب: سكت عن فرعون لذهابك إلى أرضه؛ استعد للبلاء. وفي رواية قال ايوب: فديني؟ ([46]) قال (اي الله): أسلمه لك. قال: لا ابالي". ([47]) واخرج ابن عساكر من طريق جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس -رضي الله عنه-قال: "إنما كان ذنب ايوب انه استعان به مسكين على ظالم يدرؤه عنه، فلم يعنه، ولم يأمر بمعروف وينه الظالم عن ظلم المسكين؛ فابتلاه الله" ([48]) . وهذه الرواية أحد رواتها هو جويبر، وهو ضعيف؛ ذكره البخاري في الضعفاء ([49]) ؛ فهي إذا رواية مردودة. واخرج ابن عساكر عن الليث بن سعد ([50]) قال: " كان السبب الذي ابتلي فيه ايوب انه دخل أهل قريته على ملكهم، -وهو جبار من الجبابرة -، وذكر بعض ما كان من ظلمه الناس، فكلموه فأبلغوا في كلامه، ورفق ايوب في كلامه له؛ مخافة منه لزرعه، فقال الله: "اتقيت عبدا من عبادي من اجل زرعك"؟ فأنزل الله به ما انزل من البلاء". وقد اختار هذه الرواية ابن عطية والقرطبي، وذكرها السيوطي في تفسيره ([51]). وروي الإمام احمد بسنده، عن سفيان بن عيينة ([52]) قال: "لما أصاب ايوب عليه السلام الذي أصابه أرسل إلى أصحابه؛ فقال: تدرون لأي شيء أصابني هذا؟ قالوا: أما نحن فلم يكن يظهر لنا منك شيء نعرفه إلا إن تكون أسررت شيئا ليس لنا به علم، فقاموا من عنده، وذهبوا، فلقوا إنسانا دونهم في العلم، فقال: لأي شيء دعاكم نبي الله عليه السلام؟، فأخبروه، قال: فأنا أخبره بما أصابه هذا، فأتاه فسأله، فقال: لأنك شربت شربة لم تحمد الله عليها، ولم تشكر النعمة، ولعلك استظللت في ظل لم تشكر النعمة!"([53]) هذه الروايات مردودة؛ فالرواية الأولى -رواية ابن الأثير -ليس لها دليل من الكتاب او السنة على أن إبليس تكلم مع الله تعالى. .. .؟! وأما الروايات الباقية فلا شك ببطلانها؛ فكيف ينسب إلى نبي الله ايوب انه سكت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، "والسكوت على ذلك غير مقبول من القادرين عليه، فكيف إذا كان السكوت من العلماء؟ بل كيف إذا كان من أحد الأنبياء؟" ([54]). وأما الرواية الأخيرة عن سفيان بن عيينة: "لأنك شربت شربة لم تحمد الله عليها . . ."، فلا شك ببطلانها؛ فكيف ينسب لنبي الله انه لم يشكر النعمة ؟! ومن يشكر الله إذا لم يشكره اعلم الناس به تعالى وادراهم بواجبه؟. وهل نبي الله بحاجة إلى من يعرفه بخطئه من أمته -إن أخطأ؟! ثانيا: طبيعة البلاء الذي أصابه: وهنا وجدنا بعض المؤرخين والمفسرين قد نقلوا روايات عجيبة وغريبة في طبيعة المرض الذي أصاب ايوب عليه السلام، وكلها من الإسرائيليات، حتى زعم بعضهم انه كان مكتوبا على جبينه: المبتلى الصابر !؟([55]) من هذه الروايات: "أن الدود كان يتناول بدنه فصبر، حتى تناولت دودة قلبه، وأخرى لسانه، فقال: (مسني الضر)" ([56]) . وقد روي عن الحسن قال: ما كان بقي من ايوب إلا عيناه، وقلبه ولسانه، فكانت الدواب تختلف في جسده، قال: ومكث في الكناسة سبع سنين وأياما، او قال وأشهرا. وروي عن سليمان التيمي مثل ذلك ([57]). وبالغ بعض المفسرين فزعم أن الله سلط على جسده اثنتي عشر ألف دودة؛ وذلك "لأنها عدد الجند الكامل، كما قال الرسول عليه السلام: (اثنا عشر ألف لن يغلب عن قلة أبدا)، وزعم صاحبنا أن "الدود أكل جميع جسده حتى بقي العظام والقلب، واللسان والأذنان والعينان" ([58]) ومنها: "انه أصابته أكله في بدنه، فلما عظمت وتقطع بدنه أخرجه الناس من بينهم، ولم يبق معه غير زوجته". ([59]) وروى ابن جرير عن وهب بن منبه قال: "لم يكن بأيوب الآكلة، إنما كان يخرج منه مثل ثدي النساء، ثم يتفقأ"([60]) ومن هذه الروايات: انه انقطع الوحي عنه أربعين صباحا، وخاف هجران ربه؛ فقال: (مسني الضر) ([61]) ومنها: أن الضر الذي أصابه هو شماتة الأعداء. ([62]) ومنها "أن ضره قول إبليس لزوجه: اسجدي له، فخاف ذهاب الإيمان عنها، فتهلك، ويبقى بغير كافل"([63]) ومن هذه الروايات: انه وثب ليصلي فلم يقدر على النهوض. ([64]) ورجح هذا الالوسي ([65]) وزعم بعض المفسرين أن ما أصاب ايوب هو مرض في جلده -لكنه ليس منفرا، ولعله يستند في هذا إلى ما نسب إلى مجاهد من أن ايوب عليه السلام كان أول من أصابه الجدري. ([66]) ورأى بعض العلماء أن ما أصاب ايوب من الابتلاء -على الوجه الذي ذكره المفسرون وعلماء التاريخ من مرض منفر-إنما كان قبل النبوة، وان منحة النبوة إنما كانت لما بدا منه من الصبر والرضا بما أصابه من مكروه. وبهذا قال عبد الوهاب النجار، وتابعه عليه محمد الوكيل. ([67]) وبين أن الروايات الثلاث الأولى فيها الادعاء بأن الدود أصابه -وبغض النظر عن عدده -، وهذا مما يتنافى مع عصمة الأنبياء وسلامتهم من الأمراض المنفرة التي لا تليق بمنصب النبوة، كما نص على ذلك العلماء ([68]) ؟! فكيف يدعى أن ايوب بسبب هذا المرض اخرج إلى خارج البلدة وألقي على مزبلة؟ سبحانك هذا بهتان عظيم. قال القاسمي: "وقد روى المفسرون ههنا في بلاء ايوب روايات مختلفات، بأسانيد واهيات، لا يقام لها عند أئمة الأثر وزن، ولا تعار من الثقة أدني نظر. نعم، يوجد في التوراة سفر لأيوب، فيه من شرح ضره، بفقد كل مقتنياته ومواشيه وآل بيته، وبنزول مرض شديد به، عدم بعدها الراحة ولذة الحياة، غرائب. إلا أنها مما لا يوثق بها جميعها؛ لما داخلها من المزيج، وتوسع بها في الدخيل، حتى اختلط الحابل بالنابل...." ([69]) ثم قال: "ولو علم الله خيرا في أكثر مما أجمله في تنزيله الحكيم، لتفضل علينا بتفصيله، ولذا يوقف عند إجماله فيما أجمل، وتفصيله فيما فصل". ([70]) قال الصابوني: "وقد ذكر بعضهم أمورا لا يجوز اعتقادها بالنسبة لبلاء ايوب عليه السلام، وهي منقولة عن إسرائيليات لم تصح؛ منها: أن ايوب حين اشتد به المرض، وطال به البلاء عافه الجليس، وأوحش منه الأنيس، وانقطع عنه الناس، وتعفن جسده حتى كاد الدود يخرج منه، فأخرج من البلد وألقي على مزبلة خارجها. .، إلى غير ذلك من الحكايات المنقولة عن التوراة المحرفة، او هي من أقوال أهل الكتاب.."([71]) وأما الروايات الأربع الأخرى في وصف ضر ايوب وهي: انقطاع الوحي، وشماتة الأعداء، وقول إبليس لزوجة ايوب ما قال ...، وكونه مرضا جلديا...، فليس عليها دليل صحيح من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هذه الأمور الثلاثة او أي واحد منها -عدا المرض الجلدي -لا يطلق على الضر -كما هو معلوم في اللغة، وكما فسره المفسرون. وأما الرواية الأخيرة من أن ايوب عليه السلام وثب ليصلي فلم يقدر على النهوض، فهي تدل على مظهر من مظاهر المرض الذي أصابه عليه السلام، وليس بالضرورة أن يكون ذا مرضه! وأما قول النجار ومن معه: بأن الابتلاء الذي أصاب ايوب عليه السلام إنما أصابه قبل النبوة، فليس بقول مقبول؛ وذلك لأننا لا نسلم أولا أن ما أصاب ايوب هو مرض منفر، فليس هناك دليل صحيح عليه. كما أن الأنبياء عموما أوحي إليهم بالنبوة من غير أن يسبق ذلك أمراض تصيبهم فتنهكهم! وكيف يصاب نبي الله بمرض منفر مدة طويلة، تبلغ ثماني عشرة سنة -كما في بعض الروايات -؟ وكيف سيبلغ النبي دعوته للناس إذا أصيب بمرض منفر طول تلك المدة؟ هذا محال. ورابعا: إن سياق الآيات التي تحدثت عن ايوب عليه السلام، وهي آيات الأنبياء وسورة ص-، يثبت ان الابتلاء حصل خلال النبوة؛ ذلك أنها ذكرت إيحاء الله تعالى لأيوب خلال الابتلاء وبعده مباشرة {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ....}، والجملة بدئت بفاء التعقيب التي تفيد العطف من غير تراخ. كما ان الله تعالى أثني عليه بقوله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}، فصار قدوة لكل المسلمين على مر الزمان في الصبر على البلاء، فهل كان مديح الله له قبل النبوة؟ هذا بعيد جدا. ومن ناحية أخرى: فإنه لم يثبت عن الله، ولا عن رسوله -صلي الله عليه وسلم -تحديد نوع البلاء الذي أصيب به ايوب عليه السلام في جسمه، إلا أن بعض المفسرين قد فهم من الآية الكريمة {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ...} انه أصيب بنوع من الحمى الشديدة؛ إذ جعل الله سبحانه وتعالى علاجه من مرضه أن يغتسل بماء بارد، وان يشرب منه، ومستدلين ([72]) بحديث (الحمى من فيح جهنم فأطفئوها بالماء) ([73]) ، والصحيح: ما ذكرناه من عدم وجود ما يدل على طبيعة مرضه، والله اعلم. ثالثا: مدة البلاء: اختلف في المدة التي مكث فيها ايوب مريضا: فقيل ثلاث سنين؛ وروي هذا عن وهب بن منبه؛ إذ قال: إنه-أي ايوب -ابتلي ثلاث سنين لا تزيد ولا تنقص، وفي رواية أخرى عنه قال: سبع سنين. وروي عن انس قال: ابتلي سبع سنين وأشهرا، وألقى على مزبلة لبني إسرائيل ... كما روي عن ابن عباس -رضي الله عنه -قوله: "سبع سنين، وسبعة أشهر، وسبعة أيام، وسبع ساعات. وقيل عشر سنين، وقيل كذلك أربعين سنة. ([74]) وقال طائفة من المحققين : أن ايوب - عليه السلام - مكث في البلاء ثماني عشرة سنة ؛ وقد نسب هذا القول إلى أبي حيان في تفسيره ([75]) ، ومن المعاصرين : الشعراوي والجزائري في تفسيريهما ([76]) ؛ فقد ذكرا ما رواه ابن أبي حاتم بسنده ، عن الزهري ، عن انس بن مالك - رضي الله عنه - إن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قال :"إن نبي الله ايوب كان في بلائه ثماني عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلان من إخوانه ، كانا من اخص إخوانه ، كانا يغدوان إليه ويروحان ، فقال احدهما لصاحبه : تعلم والله - لقد أذنب ايوب ذنبا ما أذنبه احد من العالمين . فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله، فيكشف ما به. فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له ، فقال ايوب -عليه السلام-: ما ادري ما تقول ، غير أن الله - عز وجل - يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان ، فيذكران الله ، فأرجع إلى بيتي ، فكفر عنهما، كراهية أن يذكرا الله إلا في حق ([77]) ، قال : وكان يخرج في حاجته ، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده ، حتى يبلغ ، فلما كان ذات يوم أبطأت عليه ، فأوحى الله إلى ايوب في مكانه : اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب"، فاستبطأته ، فتلقته بنظر، واقبل عليها قد اذهب الله ما به من البلاء، وهو أحسن ما كان ، فلما رأته قالت : أي بارك الله فيك ، هل رأيت نبي الله هذا المبتلى ؟، والله على ذلك ما رأيت أشبه به منك إذ كان صحيحا. قال: فإني أنا هو، وكان له اندران ([78])؛ أندر القمح، واندر للشعير. فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على اندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وافرغت الأخرى في اندر الشعير الورق حتى فاض". أخرجه ابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وأخرجه أبو يعلى، وقال الضياء: إسناده صحيح، وقال الهيثمي في مجمعه: رواه أبو يعلى والبزار، ورجال البزار رجال الصحيح، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة، وصححه. ([79]) ونفى أبو بكر ابن العربي صحة الأحاديث الواردة في شأن ايوب -عليه السلام-على وجه العموم، وتبعه على ذلك القرطبي. فقال ابن العربي: "وأما النبي -صلي الله عليه وسلم-فلم يصح عنه انه ذكره بحرف واحد، إلا قوله؛ بينا ايوب يغتسل إذ خر عليه رجل جراد من ذهب "الحديث" ([80]) وقال ابن كثير: رفع هذا الحديث غريب جدا، وقال ابن حجر: واصح ما ورد في قصته: ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير، وصححه ابن حبان والحاكم بسند عن انس: أن ايوب .... ثم ذكر مثل ذلك. وقال محمد أبو شهبة: والمحققون من العلماء على أن نسبة هذا إلى المعصوم -صلي الله عليه وسلم-إما من عمل بعض الوضاعين الذين يركبون الأسانيد للمتون، او من غلط بعض الرواة، وان ذلك من إسرائيليات بني إسرائيل وافتراءاتهم على الأنبياء، والأصحية هنا نسبية، على أن صحة السند لا تنافي أن أصله من الإسرائيليات .. والإمام ابن حجر على جلالته ربما يوافق على تصحيح ما يخالف الأدلة العقلية والنقلية" ([81]) وأقول: إن حديث انس المرفوع ([82]) هو نص في المسألة إذا ما صح، ولكن فيه ما يخالف الأدلة القطعية على عصمة الأنبياء من كل ما من شأنه التنفير منهم، كالمرض المنفر.، كما أن أبا بكر ابن العربي والقرطبي قد ضعفا الحديث. وشكك المفسر المحدث ابن كثير في رفع الحديث، وتبعه أبو شهبة على تضعيفه. وبناء على ذلك فإن مدة البلاء والمرض التي تعرض لها ايوب عليه السلام ليست محددة، بل مبهمة -كما تركها القرآن الكريم ولم تحددها أحاديث نبوية صحيحة -، كما لم يحدد نوع المرض الذي أصابه عليه السلام. رابعا: ما نسب إلى أيوب من الشكوى: نسبت الروايات الإسرائيلية إلى نبي الله ايوب -عليه السلام -بعض الأفعال والأقوال، التي تدل على جزعه، وعدم صبره على ما أصابه من بلاء، وذلك مما يتنافى مع منصب النبوة، ومع وصف القرآن له! من هذه الروايات رواية الطبري السابقة ([83]) -، التي تناقلها بعد ذلك القصاص في القديم والحديث، وفيها: أن ايوب وضع التراب على رأسه لما جاءه خبر مقتل أولاده. وفي كتاب "صبر أيوب" لمؤلف معاصر نقل عن ايوب قوله: "لماذا كل ذلك يا ربي؟ لماذا جئت بي إلى هذه الحياة؟". لماذا لم أمت وانا جنين في رحم أمي؟ او لماذا لم تزهق روحي بعد خروجي من بطنها؟ لماذا يا ربي لم تجعل مصيري القبر؟ ([84]) . وقال على لسان نبي الله ايوب: "ولكنني لم أخطئ! أريد أن يخبرني الله بما اقترفته من الآثام والخطايا! " ([85]) وقال على لسانه كذلك: "لماذا يعيش المنافقون في بسطة من العيش، وتطول أعمارهم، ويعظم اقتدارهم؟ بينما يتمرغ الطيبون والمؤمنون في الشقاق والعذاب! لماذا يا ربي؟ لماذا؟" ([86]) أنا لا أدرى من أين جاء هذا الكاتب بمثل هذا الكلام، ونسبه إلى نبي الله ايوب عليه السلام ؟! فلا ريب ان هذا كله مما يتنافى -كما أسلفت -مع ما ثبت للأنبياء من العصمة من الذنوب -باتفاق العلماء-، ومع ثناء الله على ايوب بصبره على البلاء، ولا سيما ان هذا الكلام المنسوب لأيوب -عليه السلام -يتضمن تسخطا لأقدار الله، واتهاما للحق تعالى بمجانبة العدل ؟! فكيف ينسب مثل هذا الكلام لمؤمن فضلا ان يكون نبيا يضرب به المثل في الصبر ؟! قال ابو القاسم الأنصاري في تعليقه على ما نسب إلى ايوب من الشكوى: "ولو كان ذلك صحيحا لاغتنمه إبليس، فإن قصده ان يحمله على الشكوى، وان يخرجه عن حلية الصابرين، والله تعالى لم يخبر عنه إلا قوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ([87]) وقد روى البيهقي في (الشعب) عن سفيان الثوري ([88]) قال : "ما أصاب إبليس من ايوب في مرضه إلا الأنين". ([89]) والله اعلم. خامسا: كيفية شفائه من مرضه: ذكر القرآن كيف شفي ايوب عليه السلام من مرضه بقوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} (ص: 43)، ولأنه حلف على بعض أهله، وحتى لا يحنث جاء التوجيه القرآني: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ}. هذا النص مجمل، ومع ذلك وجدنا روايات عديدة في تفسيره وتوضيحه: منها: ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما -قال: اتخذ إبليس تابوتا، فوقف على الطريق يداوي الناس، فأتته امرأة ايوب، فقالت: يا عبد الله؛ إن ها هنا إنسانا مبتلى، من أمره كذا وكذا، فهل لك ان تداويه؟ قال لها: نعم، على إني إن شفيته يقول كلمة واحدة: أنت شفيتني، لا أريد منه غيرها. فأخبرت بذلك ايوب، فقال: "ويحك! ذلك الشيطان، لله علي إن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة، فلما شفاه الله أمره ان يأخذ ضغثا فيضربها به، فأخذ شماريخ قدر مائة، فضربها ضربة واحدة". ([90]) وروى وهب بن منبه قال: إن إبليس لقيها، فقال: إني أنا الذي فعلت بأيوب ما به، وانا إله الأرض، وما أخذته منه فهو بيدي، فانطلقي أريك، فمشى بها غير بعيد، ثم سحر بصرها، فأراها واديا عميقا، فيه أهلها وولدها ومالها، فأتت أيوب فأخبرته؛ فقال: ذاك الشيطان، ويحك كيف وعى قوله سمعك؟ والله لئن شفاني الله عز وجل لأجلدنك مائة .. ومن الروايات كذلك: ما روي عن الحسن ان إبليس جاء إلى زوجة ايوب بسخلة، فقال: ليذبح لي هذه وقد برأ، فأخبرته، فحلف ليجلدنه ([91]). وروى سعيد بن المسيب ([92]) : أنها (أي امرأة ايوب) جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه به من الخبز، فخاف خيانتها، فحلف ليضربنها. ([93]) ومنها: "ان الشيطان ظهر للسيدة رحمة (يقصد زوجة ايوب) على شكل رجل، وانه حدثها عن ايوب، ولكنهم اختلفوا (أي المفسرون والمؤرخون) في الشكل الذي ظهر به الشيطان على شكل ملاك ([94]) ، وسبب عزمه على ضرب زوجته -كما يروون -. فروى بعضهم: انه طلب منها ان تسجد له فيشفي زوجها ..." ([95]). هذه الروايات ليس عليها دليل، بل إن القرآن يردها، فالله تعالى يقول عن الشيطان: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} (النحل: 99-100). وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} (سبأ: 21) وقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (الحجر: 42)، فالشيطان ليس له سلطة على الإنسان عموما إلا بالوسوسة كما ذكر المفسرون. والآية الكريمة بينت لنا كيف تم علاج ايوب عليه السلام؛ قال تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}، والظاهر ان المرض الذي أصاب ايوب عليه السلام كان في غاية الشدة والألم، وليس ذلك بغريب؛ فإن اشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل. والقرآن ذكر ان ايوب أمر ان يضرب برجله عين الماء فيغتسل ويشرب منه، ولم يبين لنا طبيعة المرض الذي أصابه، فنسكت عما سكت عنه القرآن -كما سبق ان ذكرنا. سادسا: تعويض الله على أيوب أهله وماله ذكر الله تعالى انه رد على ايوب أهله، فقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ}. وقد اختلف المفسرون، ومن كتب في قصص الأنبياء كيف رد الله على ايوب عليه السلام أهله وماله، وذلك تبعا لرأيهم وروايتهم فيما أصاب أبناء ايوب وأهله. أقوال العلماء في مسألة رد الله عز وجل على أيوب أهله القول الأول: رأى بعضهم ان أبناءه مرضوا، ومن ثم فإتيانه أولاده كان بأن شفاهم الله من مرضهم. القول الثاني: أنهم غابوا عنه فردهم الله عليه؛ أي أعادهم من غيبتهم، روى هذين القولين ابن بحر ([96]) . القول الثالث: يرى أنهم ماتوا، وان الله تعالى ردهم إليه. ومن ثم كان هناك خلاف بين المفسرين في كيفية هذا الرد. أقوال العلماء في كيفية رد الله تعالى عليه أولاده بناء على القول بموتهم القول الأول: رأى بعضهم: انه رد عليه ثوابهم في الجنة، ووهب له مثلهم في الدنيا، ونسب هذا القول إلى السدي. القول الثاني: قيل: إنه رد عليه أهله في الجنة، وأصاب امرأته فجاءته بمثلهم في الدنيا ([97]) القول الثالث: روى الإمام الطبري وغيره: ان الله تعالى أحيا له أبناءه وبناته الذين ماتوا، وارجع لزوجته جمالها وشبابها، ووهب له ضعف ما كان يملك من قبل. وبه قال البقاعي والنيسابوري والسعدي في تفاسيرهم، وغيرهم ([98]) . روي عن ابن مسعود -رضي الله عنه -في قوله تعالى: {وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} قال: أهله بأعيانهم. وروي مثله عن مجاهد والحسن وقتادة، حيث قالوا: أحياهم بأعيانهم، ورد إليه مثلهم. ومن عجب ان إمامين من أصحاب المدرسة العقلية قالا بهذا القول، وهما الرازي والزمخشري ([99]) ، كما قال به النسفي (710 هـ)، ([100]) والقرطبي؛ حيث نفل هذا الأثر عن الضحاك ([101]) ، عن ابن مسعود قال: مات أولاده؛ وهم سبعة من الذكور وسبعة من الإناث، فلما عوفي نشروا له، وولدت امرأته سبعة بنين وسبع بنات ...ثم قال: وهذا القول أشبه بظاهر الآية" ([102]). وارى ان هذا الأثر دخيل ضعيف؛ لأنه يخالف أصلا ثابتا من أصولنا، وهو إن الإنسان إذا مات لا يرجع إلى الدنيا، إلا ما كان من معجزة المسيح عليه السلام؛ قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (المؤمنون: 99-100). ومن ناحية أخرى فإن هذا الأثر ضعيف سندا؛ قال الهيثمي في مجمع الزوائد: "إسناده منقطع" ([103]) ، وقال الحافظ ابن حجر: عن الضحاك: "وقيل لم يثبت له سماع عن أحد من الصحابة" ([104]) ولو أراد تعالى ما قاله أولئك لقال: وأحيينا له أهله، ووهبنا له مثلهم، والله اعلم. وفي الحقيقة انه لم يتقدم في هذه الآية، ولا في آية سورة الأنبياء، ولم يرد حديث صحيح يدل على ان ايوب رزئ أهله، ومن ثم يكون معنى الآية {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ}: ان الله تعالى أبقي له أهله فلم يصب فيهم بما يكره، وزاده بنين وحفدة. أو يكون المعنى: وجمعنا شمله بأهله الذين تفرقوا عنه أيام محنته، وزدنا عليهم مثلهم، بأن قواه الله ومتعه بالصحة والمال حتى كثر نسله، وصار أهله ضعف ما كانوا وأضعاف ذلك، ولا مانع ان يكون من هبة الله له ان حببه إلى الناس من غير أهله فتقربوا منه، وصاروا كأهله ([105]). وروى بعض المفسرين ([106]) : "ان الله تعالى لما اذهب عن ايوب ما كان به من الأذى انزل عليه ثوبين أبيضين من السماء، فاتزر بأحدهما، وارتدى بالآخر، ثم مشى إلى منزله ...." وهذا الخبر لم يسند من قبل المفسر؛ فلا نستطيع قبوله. يتبع
__________________
|
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |