|
هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: «التهلكة عذاب الله»[23]. قال صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم»[24]. وهذا هو الهلاك الحقيقي؛ لما في ذلك من التعرض لعذاب الله- عز وجل- ودخول النار، والحرمان من ثوابه وجنته، وذلك حسب كبر الذنب وصغره، وكون صاحبه يخلد في النار أو لا يخلد. كما قال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3]. وهذا الهلاك هو الذي عناه الصحابي الجليل سلمة بن صخر رضي الله عنه لما وقع على امرأته في نهار رمضان، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فزعًا مرعوبًا يقول: «يا رسول الله، هلكت وأهلكت». قال صلى الله عليه وسلم: «وما أهلكك؟» قال: «يا رسول الله، وقعت على امرأتي، وأنا صائم»[25]. ولا يمتنع أن يشمل النهي في الآية أيضًا: المعنى الأول وهو التسبب لإهلاك النفس بالموت، بقتل الإنسان نفسه، بأي سبب من الأسباب؛ لأن النفس وديعة عند الإنسان، يجب عليه المحافظة عليها، وحملها على ما فيه سلامتها في دينها ودنياها، والنَّأيُ بها عن مواقع الزلل والخطر. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسى سُمًّا، فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا»[26]. ومن أسباب قتل النفس المحقق: استعمال المخدرات والدخان، كما ثبت ذلك من خلال الطب والإحصائيات المتزايدة للوفيات بسبب ذلك. ولا يدخل في قتل النفس المبارزة في جهاد الكفار، ولا ما فيه إظهار شجاعة المسلمين وقوتهم، كأن ينغمر المجاهد في صفوف الكفار، ويحمل عليهم؛ ليريهم قوة المسلمين وشجاعتهم، وليرهبهم ويرعبهم، كما حصل هذا من أحد الصحابة المهاجرين في القسطنطينية- كما جاء في سبب النزول. وعن أبي إسحاق السبيعي قال: قال رجل للبراء بن عازب: «إن حملت على العدو وحدي فقتلوني أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة؟ قال: لا. قال الله لرسوله: ﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ﴾ [النساء: 84]، إنما هذا في النفقة». وفي رواية: «ولكن التهلكة أن يذنب الرجل الذنب، فيلقي بيده إلى التهلكة، ولا يتوب». وفي رواية عنه: «التهلكة: أن يذنب الرجل الذنب فيقول: لا يغفر الله لي»[27]. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾: «ليس في القتال، ولكن حبسك النفقة في سبيل الله؛ لأنه عرضة تهلكة»[28]. وإذا كان دخول المجاهد بين صفوف الكفار، وحمله عليهم جائزًا؛ لإظهار قوة المسلمين وشجاعتهم وإرهاب الكفار وإرعابهم، فليس من الجائز أن يفجر الإنسان نفسه ليقتل غيره، وربما من غير المقاتلين ومن النساء والصبيان، كما هو واقع من يفعلون هذا، فهذا من الانتحار وقتل النفس بغير حق. وفرقٌ بين من يدخل في صفوف الكفار، فيَقْتُلُ من استطاع منهم- مع احتمال أن ينجو بنفسه، وبين من يقتل نفسه لعل أحدًا منهم أن يموت معه، فهذا ليس من الجهاد في شيء، بل من قتل النفس والانتحار، وقد قال الله- عز وجل: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [النساء: 29]. وهذا تشويه لمفهوم الجهاد في الإسلام، بل تشويه للإسلام وأحكامه، وخروج عما كلف الله به، وعلى تحريم هذا عامة أهل العلم سلفًا وخلفًا، وليس مع من يرى جواز ذلك دليل ولا تعليل صحيح؛ ولهذا لا يجوز أن يُفتى الناس بذلك ويُغرر بهم. قوله: ﴿ وَأَحْسِنُوا ﴾ من عطف العام على الخاص؛ لأن الأمر بالإحسان أعم من الأمر بالإنفاق؛ لأن الإحسان يشمل الإنفاق وغيره، كما يشمل الإحسان بفعل الواجب والمستحب. وقد يحمل الأمر بالإنفاق على الواجب، ويحمل الأمر بالإحسان على المستحب، والأول أعم وأولى. أي: وأحسنوا في عبادة الله- عز وجل- إخلاصًا لله- عز وجل- ومتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال- عز وجل: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125]، وقال تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 112]؛ أي: أخلص العمل لله- عز وجل- وهو محسن باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»[29]. فالذي عبَد الله كأنه يراه قد غلّب جانب الرجاء والرغبة فيما عند الله. والذي عبَد الله لأن الله يراه، قد غلّب جانب الخوف من الله. والمرتبة الأولى أكمل من المرتبة الثانية. وأَحْسِنوا أيضًا: إلى خلق الله بأداء حقوقهم الواجبة والمستحبة، وبذل المعروف، وكف الأذى، ومعاملتكم للناس بما تحبون أن تعاملوا به. ولا يطلب من العبد غير هذين الأمرين: الإحسان في عبادة الله، والإحسان إلى عباد الله. ولهذا قال- عز وجل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ هذا تعليل للأمر بالإحسان، أي: إن ﷲ يحب المحسنين بنوعي الإحسان: الإحسان في عبادته - عز وجل - والإحسان إلى عباده. وفي هذا إثبات صفة المحبة لله - عز وجل - والحض على الإحسان بنوعيه، والترغيب فيه، ويفهم من هذا أنه- عز وجل- لا يحب الذين لا يحسنون بل يبغضهم. [1] أخرجه البخاري في التوحيد (7458)، ومسلم في الإمارة (1904)، وأبو داود في الجهاد (2517)، والنسائي في الجهاد (3136)، والترمذي في فضائل الجهاد (1646)، وابن ماجه في الجهاد (2783)، من حديث أبي موسى رضي الله عنه. [2] أخرجه مسلم في الجهاد والسير (1731)، وأبو داود في الجهاد (2613)، والترمذي في السير (1617)، وابن ماجه في الجهاد (2858). [3] أخرجه أحمد (1/ 300). [4] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (3014)، ومسلم في الجهاد والسير (1744)، وأبو داود في الجهاد (2668)، والترمذي في السير (1569)، وابن ماجه في الجهاد (2841). [5] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 291)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 325). [6] أخرجه البخاري في الفتن (7084)، ومسلم في الإمارة (1847)، وابن ماجه في الفتن (3979)، من حديث حذيفة رضي الله عنه. [7] أخرجه البخاري في الحج (1834)، ومسلم في الحج (1353)، وأبو داود في المناسك (2017)، والنسائي في مناسك الحج (2892)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. [8] أخرجه مسلم في الإيمان (121). [9] أخرجه البخاري في التفسير- قوله: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ (4515). [10] أخرجه البخاري في التفسير- قوله: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ (4515). [11] أخرجه البخاري في الإيمان (25)، ومسلم في الإيمان (22). [12] سبق تخريجه. [13] انظر: «جامع البيان» (3/ 304- 309). [14] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3197)، وفي التفسير (4662)، ومسلم في القسامة (1679)، وأبو داود في المناسك (1947)، وابن ماجه في المقدمة (233)، وأحمد (5/ 37). [15] أخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» رقم (388)، وأحمد (2/ 334)، والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (1/ 535- الأثر 93) وإسناده صحيح. [16] أخرجه أبو داود في الجهاد (2512)، والترمذي في تفسير سورة البقرة (2972)، والطبري في «جامع البيان» (3/ 322- 323)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 330)، والحاكم (2/ 84، 275)، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح غريب»، وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه». [17] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2843)، ومسلم في الإمارة (1895)، وأبو داود في الجهاد (2509)، والنسائي في الجهاد (3180)، والترمذي في فضائل الجهاد (1628)، وابن ماجه في الجهاد (2759)، من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه. [18] أخرجه أحمد (5/ 63)، والترمذي في المناقب (3701)، من حديث عبدالرحمن بن سمرة رضي الله عنه، وقال: «حديث حسن غريب». [19] أخرجه مسلم في الطهارة (223)، من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه. [20] البيت مجهول النسبة. انظر: «الدر الفريد» (2/ 367). [21] البيت للمتنبي. انظر: «ديوانه» (4/ 94). [22] سيأتي تخريجه بتمامه. [23] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 325). [24] أخرجه أبو داود في البيوع (3462)، من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما. [25] أخرجه البخاري في الصوم (1936)، ومسلم في الصيام (1111)، وأبو داود في الصوم (2390)، والترمذي في الصوم (724)، وابن ماجه في الصيام (1671)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [26] أخرجه البخاري في الطب (5778)، ومسلم في الإيمان (109)، وأبو داود في الطب (3872)، والنسائي في الجنائز (1965)، والترمذي في الطب (2043)، وابن ماجه في الطب (3460). [27] أخرج هذا الأثر برواياته الطبري في «جامع البيان» (3/ 319- 320)، وانظر: «تفسير ابن أبي حاتم» (1/ 332). [28] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 318). [29] أخرجه البخاري في الإيمان (50)، ومسلم في الإيمان (9)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (4991)، وابن ماجه في المقدمة (64)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى:﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ.... ﴾ قوله تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [البقرة: 196]. ذكر الله - عز وجل - الجهاد، ثم أتبع ذلك بأحكام الحج والعمرة؛ لأن الحج كما جاء في الحديث «جهاد لا قتال فيه»[1]. قوله تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾؛ أي: وأكملوا الحج والعمرة لله بأركانهما وواجباتهما وسننهما - بعد الإحرام بهما، على الصفة التي شرع الله - عز وجل - كما قال صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم»[2]. فمن أحرم بنسك حج أو عمرة، وجَب عليه إتمام ذلك النسك، حتى ولو كان نفلًا، يدل على هذا قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾، فأوجب الهدي عند الإحصار- مطلقًا. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ يقول: «من أحرم بالحج أو بالعمرة، فليس له أن يحلَّ حتى يتمهما، تمام الحج يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة، وزار البيت، فقد حلَّ من إحرامه كله، وتمام العمرة إذا طاف بالبيت والصفا والمروة، فقد حل»[3]. ﴿ لله ﴾؛ أي: مخلصين لله - عز وجل - فيهما، فاشتملت هذه الآية: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ على شرطي صلاح العمل، وهما: الإخلاص لله - عز وجل - ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125]؛ أي: أخلص العمل لله - عز وجل - وهو متبع ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليس من تمام العمرة أن لا تكون في أشهر الحج، كما قيل، فقد اعتمر صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهنَّ في أشهر الحج، بل في ذي القعدة خاصة، آخرهن مع حجته صلى الله عليه وسلم، حيث قرن بين الحج والعمرة، وأمر أصحابه رضي الله عنهم بالتمتع، وقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة»[4]. ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾ الفاء: عاطفة، و«إن» شرطية. «أحصرتم» فعل الشرط ﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾ جواب الشرط. والحصر لغة: المنع، أي: وإن منعتم من إتمام الحج والعمرة، أو أحدهما، بأي مانع كان، من عدو، أو مرض أو ضياع نفقة، أو ضللتم الطريق، أو غير ذلك. عن عكرمة بن الحجاج بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من عرج أو كسر أو مرض فقد حل وعليه حجة أخرى» قال عكرمة: فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا: «صدق»[5]. وقد ذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أن الإحصار لا يكون إلا من عدو. فقد روى عمرو بن دينار وطاوس وابن أبي نجيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «لا حصر إلا حصر العدو، فأما من أصابه مرض، أو وجع، أو ضلال, فليس عليه شيء، إنما قال الله تعالى: ﴿ فَإِذَا أَمِنْتُمْ ﴾ فليس الأمن حصرًا»[6]. والصحيح العموم؛ لإطلاق الآية. ﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾: الفاء رابطة لجواب الشرط؛ لأنه جملة اسمية و«ما» موصولة، و«استيسر» أبلغ من «تيسر»؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى غالبًا، أي: فاذبحوا الذي تيسر من الهدي، أو فعليكم للخروج من النسك والتحلل من الإحرام ذبح أو نحر الذي تيسر من الهدي، من حيث وجوده وقيمته. فإذا أهدى المحصر حلق وتحلل من إحرامه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين صدهم المشركون عام الحديبية. ففي حديث المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، قالا: «لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب القضية بينه وبين مشركي قريش، وذلك بالحديبية عام الحديبية، قال لأصحابه: «قوموا فانحروا واحلقوا» قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مراتٍ، فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة، فذكر ذلك لها، فقالت أم سلمة: يا نبي الله، أتحب ذلك؟! اخرج، ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج، فلم يكلم أحدًا منهم، حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه، فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا»[7]. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «لما كان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثنية؛ عرض له المشركون فردوا وجهه، قال: فنحر النبي صلى الله عليه وسلم الهدي حيث حبسوه، وهي الحديبية، وتأسى به أناس، فحلقوا، حين رأوه حلق، وتربص آخرون، فقالوا: لعلنا نطوف بالبيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله المحلقين» قيل: والمقصرين، قال: «رحم الله المحلقين» قيل: والمقصرين، قال: «والمقصرين»[8]. لكن إن اشترط عند إحرامه، ثم حصر فإنه يتحلل من إحرامه، وليس عليه هدي، لما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبدالمطلب، فقالت: يا رسول الله، إني أريد الحج، وأنا شاكية. فقال: «حجي واشترطي أنَّ محلي حيث حبستني»[9]. و«أل» في «الهدي» للعهد الذهني، أي الهدي الشرعي المعلوم، وهو شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة، بأوصافه المعتبرة شرعًا، بكونه جذعًا من الضأن، أو ثنيًا مما عداه، سالمًا من العيوب التي تمنع الإجزاء. عن جابر رضي الله عنه قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة»[10]. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مرة غنمًا»[11]. وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تذبحوا إلا مسنة- أي ثنية- إلا أن تعسر عليكم، فتذبحوا جذعة من الضأن»[12]. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما يتقى من الضحايا؟ فقال: «أربعًا، وأشار بأصابعه: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والعجفاء التي لا تنقي»[13]. وما لا يجزئ في الأضحية لا يجزئ في الهدي، كما أن ما أجزأ في الأضحية أجزأ في الهدي. وقد رُوي عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما: «أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلا من الإبل والبقر»[14]. وظاهر قوله تعالى: ﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾ إجزاء كل ما تيسر مما يسمى هديًا من بهيمة الأنعام- الإبل والبقر والضأن والمعز، وتخصيص ذلك بالبدن والبقر مناف لمعنى التيسير الذي أراده الله- عز وجل- بقوله: ﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾؛ لأن معنى ذلك: فليذبح ما تيسر من الهدي. وهذا ما دلت عليه السنة، وبه قال جماهير السلف وفقهاء الأمة. فإن أهديت البدنة كاملة عن شخص واحد فهي أفضل من البقرة، وكذا البقرة أفضل من الغنم، والشاة أفضل من سبع البدنة وسبع البقرة. وظاهر الآية أنه إذا تعسر الهدي على المحصر، لعدم وجوده، أو عدم وجود ثمنه فلا شيء عليه. كما يؤخذ من الآية أنه لا قضاء على المحصر، سواء كان النسك الذي أحصر عنه واجبًا أو نفلًا؛ لأن الله- عز وجل- لم يذكر القضاء، لكن من لم يحج حجة الإسلام ولم يعتمر فوجوب الحج والعمرة باق في ذمته. وإنما وجب على المحصر الحلق، مع عدم ذكره في الآية؛ لأنه ثبت بالسنة، كما في حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، وحديث ابن عمر رضي الله عنهم[15]. ويجوز للمحصر الأكل من هديه، كالمتمتع والقارن، بخلاف جزاء الصيد، وفدية الأذى، ونحو ذلك، فلا يجوز الأكل منه؛ لأنها من الكفارات. قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾ يحتمل عطفه على قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾، ويقوي هذا أنه أقرب مذكور. ويحتمل أنه معطوف على قوله تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾. والحلق إزالة شعر الرأس بالموسى ونحوه، والمعنى: ولا تزيلوا شعر رؤوسكم؛ لأن ذلك من محظورات الإحرام. وقاس عليه جمهور أهل العلم بقية شعور البدن، كالشارب والإبط والعانة وغير ذلك، كما قاسوا عليه تقليم الأظافر- بجامع أن ذلك كله من الترفه المنافي للشعث، الذي ينبغي أن يكون عليه المحرم. ﴿ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾؛ أي: إلى غاية وصول الهدي إلى محله، و«محل» يطلق على اسم الزمان واسم المكان، واختلف في المراد به، بناء على الاختلاف فيما عطف عليه قوله: ﴿ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ ﴾. فمن قال هو معطوف على قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾، قال: المراد بـ«محله»: ذبحه مكان الإحصار، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما منعه المشركون من دخول مكة، نحر هديه مكانه في الحديبية، ثم حلق رأسه، وفعل أصحابه كذلك. وقيل: محله أن يصل إلى الحرم، فيذبح فيه. ومن قال: هو معطوف على قوله تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾، قال: المراد بـ«محله» زمان حلوله، وهو يوم العيد، ومكان حلوله، وهو الحرم، سواء كان هدي تمتع وقران، أو مما ساقه الحاج أو المعتمر من بلده. والمعنى: حتى يذبح الهدي يوم العيد في الحرم، كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ [الحج: 33]، وقال تعالى: ﴿ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ﴾ [المائدة: 95]. وظاهر الآية أنه لا يجوز الحلق قبل النحر، ويتأكد هذا في حق من ساق الهدي لحديث حفصة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، ما بال الناس حلوا ولم تحل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر»[16]. أما بالنسبة للمتمتع والقارن، إذا لم يسق الهدي، فيجوز في حقهما تقديم الحلق على النحر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ذلك: «افعل ولا حرج»[17]. ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾. ســبب النــزول: عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: «حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي. فقال: «ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا، أما تجد شاة؟» قلت: لا. قال: «صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك» فنزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة». وفي رواية عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، ونحن محرمون، وقد حصره المشركون، وكانت لي وفرة، فجعلتْ الهوام تساقط على وجهي، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أيؤذيك هوام رأسك»؟ فأمره أن يحلق، قال: ونزلت هذه الآية: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾»[18]. قوله: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا ﴾ الفاء: عاطفة، و«من» شرطية, و«كان» فعل الشرط، وجوابه جملة ﴿ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾، وربط الجواب بالفاء؛ لأنه جملة اسمية. ومعنى قوله: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا ﴾ أي: به مرض، يحتاج بسببه إلى حلق رأسه، سواء كان المرض بالجسد أو بالرأس. ﴿ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ ﴾ بسبب القمل ونحو ذلك، واحتاج إلى حلقه. ﴿ فَفِدْيَةٌ ﴾ أي: فليحلق رأسه، وعليه فدية، أو فحلق رأسه فعليه فدية، أو فله أن يحلق رأسه وعليه فدية، مقابل فعل المحظور، يفدي بها نفسه من العذاب، ونسكه صحيح. فكل محظورات الإحرام لا تُفسد النسك، حجًا كان أو عمرة، ما عدا الجماع في الحج قبل التحلل الأول، وفي العمرة قبل طوافها. وهذا بخلاف سائر العبادات، فإنها تبطل بفعل المحظورات فيها، فالصلاة تبطل بالأكل، والكلام فيها ونحو ذلك، والصيام يبطل بالأكل والشرب والجماع ونحو ذلك. والفدية في الأصل: مال أو عرض يدفع مقابل الخلاص، والخروج من تبعة ما وقع فيه الإنسان؛ قال تعالى مخاطبًا المنافقين: ﴿ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [الحديد: 15]. ﴿ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ أي: تكون هذه الفدية ﴿ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾. والصيام ثلاثة أيام، والصدقة إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، والنسك: الذبح، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]؛ أي: ذبحي. والمراد بقوله تعالى: ﴿ أَوْ نُسُكٍ ﴾ ذبح شاة، أو سبع بدنة، أو سبع بقرة، مما يجزئ في الهدي والأضحية. ومجيء العطف بـ«أو» للدلالة على التخيير، أي: أنه مخير بين صيام ثلاثة أيام، أو الصدقة بإطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، أو ذبح شاة كما في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، أو انسك نسيكة»[19]. ومثل حلق الرأس حلق الشارب والإبط والعانة ونحو ذلك، وكذا غيره من محظورات الإحرام- مما فيه ترفه- كتقليم الأظافر، وتغطية الرأس، ولبس المخيط، والطيب- ونحو ذلك. فيجوز للمحرم فعله عند الضرورة، وعليه الفدية المذكورة، عدا قتل الصيد، ففيه جزاء مثله، أو كفارة طعام مساكين، أو عدل ذلك صيامًا؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ [المائدة: 95]. وعدا الجماع قبل التحلل الأول في الحج، وفي العمرة قبل طوافها فإنه أغلظ المحظورات وأشدها تحريمًا؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَا رَفَثَ ﴾ [البقرة: 197]، ويُفسد النسك، وعليه المضي فيه وإتمامه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾، وعليه قضاء الحج من قابل ونحر بدنة، وعليه قضاء العمرة على الفور وذبح شاة، وعليه التوبة إلى الله- عز وجل- مما حصل منه. وعدا عقد النكاح فإنه من محظورات الإحرام، لكن لا فدية فيه. وفي التخيير في الفدية بين الصيام والصدقة والنسك تيسير على من احتاج إلى حلق الرأس، ونحوه من المحظورات، كما قال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]. كما أن في جعل إحدى خصال الكفارة صدقة وإطعامًا، والأخرى ذبح شاة دلالة على اهتمام الإسلام بالأعمال التي يتعدى نفعها إلى الآخرين، وفضلها على غيرها، ولهذا قال كثير من أهل العلم: الأفضل النسك، ثم الصدقة، ثم الصيام- مع أن الأصل فيها التخيير. كما أن في عدم ذكر وقت الفدية، وهل هو قبل الحلق، أو بعده دليلًا على جواز ذلك كله. وفي عدم ذكر مكان الفدية ما قد يدل على أنها مكان حصول المرض والأذى، وبهذا قال بعض العلماء- وبخاصة النسك والإطعام؛ لأن الأصل فعل الواجبات على الفور. وعامة أهل العلم على أن النسك محله الحرم، وحكي عليه الإجماع، وكذا محل الإطعام عند أكثرهم، وأما الصيام فحيث شاء. وإذا فدى بذبح النسك فليس له الأكل منه؛ لأنه من الكفارات. قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا أَمِنْتُمْ ﴾ الفاء: عاطفة، والجملة معطوفة على قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾، و«إذا» ظرفية شرطية غير عاملة، أي: فإذا أمنتم من العدو، وقدرتم على البيت، وعلى أداء المناسك من غير مانع أيًّا كان- وهذا- كما قال عز وجل بعد أن ذكر جواز قصر صلاة الخوف وصفتها: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103]. ﴿ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ﴾ الفاء: واقعة في جواب «إذا»، و«من» شرطية، و«تمتع» فعل الشرط، أي: فمن توصل بالعمرة إلى الحج، وانتفع بتمتعه بعد الفراغ منها، وهو الذي يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويؤدي مناسكها، ثم يتحلل منها الحل كله، ويتمتع بما كان محظورًا عليه حال الإحرام، ثم يحرم بالحج. وقد كان أهل الجاهلية يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، ويقولون: «إذا انسلخ صفر، وبرأ الدبر، وعفا الأثر حلت العمرة لمن اعتمر»[20]. فبين الله- عز وجل- جواز التمتع في هذه الآية، وهو أفضل الأنساك عند كثير من أهل العلم، بل أوجبه بعضهم؛ لما رواه جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر من لم يسق الهدي من أصحابه بالتحلل من العمرة، وقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولحللت معكم»[21]. ﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾ جواب الشرط. وقد سبق الكلام على هذا. والمعنى: فعليه ذبح الذي تيسر وقدر عليه من الهدي: شاة، أو سبع بدنة، أو سبع بقرة، شكرًا لله- عز وجل- على نعمة التحلل والتمتع بين النسكين، وحصولهما في سفر واحد. عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح بقرة عن نسائه وكن متمتعات» [22]. ومثل المتمتع في وجوب الهدي، أو بديله الصيام للقارن بين الحج والعمرة شكرًا لله- تعالى- على الجمع بين النسكين في سفر واحد. وقد حج النبي صلى الله عليه وسلم قارنًا، وساق الهدي، ولم يحل من إحرامه حتى نحر هديه. لكن بعض رواة حجته صلى الله عليه وسلم من الصحابة قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطلق التمتع على القران، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى...» الحديث[23]. ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ﴾ الفاء: عاطفة، و«من» شرطية. أي: فمن لم يجد الهدي، أو ثمنه. ﴿ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ﴾ أي: فعليه صيام ثلاثة أيام ﴿ فِي الْحَجِّ ﴾ أي: في أثناء الحج وأيامه، وأشهره، أول وقتها منذ إحرامه إلى آخر أيام التشريق، عدا يوم العيد فيحرم صومه لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يومي العيدين[24]. والأفضل أن لا يصوم يوم عرفة كغيره من الحجاج؛ ليكون أقوى له وأنشط على العبادة والدعاء. فإن لم يصمها قبل يوم العيد صامها في أيام التشريق- عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما قالا: «لم يُرخص في أيام التشريق أن يُصمن إلا لمن لم يجد الهدي»[25]. ﴿ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾ أي: وسبعة أيام إذا رجعتم إلى أوطانكم وأهلكم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عمر رضي الله عنهما: «فمن لم يجد هديًا فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله»[26]. فإن صامها في الطريق أجزأه ذلك؛ لأن المقصود- والله أعلم- من كونها إذا رجع إلى أهله أن لا تكون في الحج، مع أن صيامها في الطريق قد ينافي حكمة التيسير المقصودة للشارع؛ لأن الصيام في السفر مظنة المشقة، والأولى أن لا يصومها حتى يصل إلى بلده وأهله. ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ تأكيد لقوله تعالى: ﴿ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾، كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ﴾ [الأنعام: 38]، وقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46]، وقوله تعالى: ﴿ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ ﴾ [الأحزاب: 4]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ﴾ [العنكبوت: 48]، وقوله تعالى: ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ [الأعراف: 142]، وكما يقال: رأيت بعيني، وسمعت بأذني، فهذا تأكيد على وجوب إتمام صيام هذه الأيام العشرة وتكميلها، وأنها- وإن كانت مفرقة- فهي في حكم المتتابعة. ﴿ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾: الإشارة يحتمل أن ترجع إلى أقرب مذكور، وهو قوله تعالى: ﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾. والمعنى على هذا أن من كان أهله حاضري المسجد الحرام إذا تمتع بالعمرة إلى الحج فليس عليه هدي ولا بديله- وهو الصيام. ويحتمل أن تعود الإشارة إلى قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ﴾ وما بعده، والمعنى على هذا: أن التمتع بالعمرة إلى الحج الموجب للهدي أو بديله الصيام، خاص بمن ﴿ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾. وهذا هو الأظهر- والله أعلم- أن من كان أهله حاضري المسجد الحرام، فلا يشرع في حقه التمتع، ولا ما يوجبه من هدي أو صيام. ومعنى: ﴿ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾؛ أي: ﴿ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ ﴾؛ أي: سكنه الذي يسكن إليه، من زوج، ووالدين وأولاد ونحوهم. ﴿ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾؛ أي: سكان الحرم وأهله، وقيل: هم أهل الحرم ومن دون المواقيت، وقيل: هم أهل الحرم ومن بينه وبين الحرم دون مسافة قصر. والأظهر- والله أعلم- أن حاضري المسجد الحرام هم أهل الحرم وسكانه، أي: أهل مكة، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما[27]. ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ بفعل أوامره وترك نواهيه، ومن ذلك ما ذكر في هذه الآية، من المأمورات والمحظورات. ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ أي: واعلموا أن الله شديد العقوبة والمؤاخذة لمن خالف أمره وارتكب نهيه؛ لأن العلم بذلك- مع توفيق الله - عز وجل - يحمل الإنسان على تقوى الله - عز وجل - بامتثال أمره واجتناب نهيه. [1] أخرجه ابن ماجه في المناسك (2901)، من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، على النساء جهاد؟ قال: «نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج، والعمرة». [2] سبق تخريجه. [3] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 328)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 334، 335). [4] أخرجه مسلم في الحج (1216، 1217، 1218)، وأبوداود في المناسك (1789)، والنسائي في مناسك الحج (2712)، من حديث جابر رضي الله عنه. [5] أخرجه أبوداود في المناسك (1862)، والنسائي في مناسك الحج (2860)، والترمذي في الحج (940)، وابن ماجه في المناسك (3077)، وأحمد (3/ 450)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 335). وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح». [6] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 336). [7] أخرجه البخاري في الشروط (1731، 1732)، وأحمد (4/ 331)، والطبري في «جامع البيان» (3/ 362). [8] أخرجه أحمد (2/ 124)، والطبري في «جامع البيان» (3/ 362). [9] أخرجه البخاري في النكاح، الأكفاء في الدين (5089)، ومسلم في الحج- جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه (1207)، وأحمد (6/ 164، 202). وأخرج مسلم نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما (1208)، وكذا أبوداود في المناسك (1776)، والترمذي في الحج (941)، وابن ماجه في المناسك (2938)، وأحمد (1/ 337، 352). [10] أخرجه مسلم في الحج (1213). [11] أخرجه البخاري في الحج (1701)، ومسلم في الحج (1321)، وابن ماجه في المناسك (2096). [12] أخرجه مسلم في الأضاحي- سن الأضحية (1963). [13] أخرجه أبوداود في الضحايا (2802)، والنسائي في الضحايا (4369)، والترمذي في الأضاحي (1497)، وابن ماجه في الأضاحي (3144)، وأحمد (4/ 284). [14] أخرجه عنهما ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 336). [15] سبق تخريجهما قريباً. [16] أخرجه البخاري في الحج- التمتع والإفراد والقران (1566)، ومسلم في الحج- بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحاج المفرد (1229)، وأبوداود في المناسك (1806)، والنسائي في مناسك الحج (2682). [17] أخرجه البخاري في الحج (1738)، ومسلم في الحج (1306)، وأبو داود في المناسك (2014)، والترمذي في الحج (916)، وابن ماجه في المناسك (3051)، من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. [18] أخرجه البخاري في كتاب المحصر (1816)، ومسلم في الحج- جواز حلق الرأس للمحرم (1201)، وأبو داود في المناسك- الفدية للمحرم (1856- 1860) والترمذي في التفسير- سورة البقرة (2973، 2974)، وابن ماجه في المناسك- فدية المحصر (3079، 3080). [19] سبق تخريجه. [20] أخرجه البخاري في الحج- التمتع والقران والإفراد في الحج (1564)، ومسلم في العمرة- جواز العمرة في أشهر الحج (1240)، وأحمد (1/ 252، 261)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. [21] سبق تخريجه. [22] أخرجه أبوداود في المناسك (1756)، وابن ماجه في الأضاحي (3133). [23] أخرجه البخاري في الحج- من ساق البدن معه (1691)، ومسلم في الحج- وجوب الدم على المتمتع (1227)، وأبو داود في المناسك- باب في الإقران (1805)، والنسائي في المناسك- باب التمتع (2732)، وأخرج البخاري (1692) عن عائشة نحوه، وكذا مسلم (1228). [24] كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم العيد» أخرجه البخاري في الصوم (1994)، ومسلم في الصيام (1139). [25] أخرجه البخاري في الصوم (1998). [26] هذا جزء من حديث ابن عمر- المتقدم- «تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم...»؛ الحديث، وقد سبق تخريجه. [27] أخرجه البخاري في الحج (1572).
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائــد وأحكــام من قوله تعالى:﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ... ﴾ قوله تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [البقرة: 196]. 1- وجوب إتمام الحج والعمرة بعد الإحرام بهما، حتى ولو وكانا نفلًا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾. وهذا بخلاف غيرهما من العبادات، فلا يجب إتمام نفلها، لكن يستحب. ويكره قطعها لغير حاجة. وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها ذات يوم: «هل عندكم شيء؟ فقلت: يا رسول الله، ما عندنا شيء، قال: فإني صائم. قالت: فخرج، فأهديت لنا هدية، فلما رجع، قلت: يا رسول الله، أهديت لنا هدية، وقد خبأت لك شيئًا، قال: ما هو؟ قلت: حيس قال: هاتيه. فجئت به، فأكل، ثم قال: قد كنت أصبحت صائمًا»[1]. 2- استدل بعض أهل العلم بهذه الآية ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ على وجوب الحج، وأكثر أهل العلم على أن الحج إنما فرض وأوجب بقوله- تعالى- في سورة آل عمران: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97]، وذلك في السنة التاسعة من الهجرة سنة الوفود. 3- وجوب إخلاص الحج والعمرة لله، والحذر من الرياء والسمعة فيهما؛ لقوله تعالى: ﴿ لله ﴾ وكذا سائر العبادات. 4- إذا أحصر من أحرم بحج أو عمرة بأي سبب كان، من عدو أو مرض أو فقدان نفقة، أو تضييع الطريق، أو غير ذلك، أهدى حيث أحصر، وحلق، وتحلل من إحرامه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، ولفعله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لما صدهم المشركون عام الحديبية، وهذا عام في كل إحصار، من عدو، وغيره؛ لأن العلة واحدة، وهي عدم القدرة على إتمام النسك. وقيل: لا إحصار إلا من عدو. والصحيح العموم، وكون الآية نزلت في شأن قصة الحديبية- كما تقدم- لا يمنع من عموم الحكم؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. 5- يجب أن يكون الهدي من الهدي الشرعي المعهود والمعلوم الصفات، بكونه من بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم، جذعًا من الضأن، أو ثنيًا من غيره، سليمًا من العيوب المانعة من الإجزاء، لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾؛ أي: من الهدي الشرعي، شاة، أو سبع بدنة أو سبع بقرة. 6- تيسير الله - عز وجل - لأحكام هذه الشريعة المطهرة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾. 7- أن المحصر إذا تعسر عليه الهدي أو ثمنه فلا شيء عليه؛ لأن الله - عز وجل - لم يذكر بديلًا عنه. وقيل: عليه صيام عشرة أيام، قياسًا على هدي التمتع- وهذا مع مخالفته لظاهر الآية- هو أيضًا قياس مع الفارق، فلا يصح؛ لأن تحلل المتمتع تحلل اختياري، بينما تحلل المحصر تحلل اضطراري. 8- أن المحصر لا يجب عليه القضاء؛ لأن الله - عز وجل - لم يذكره، ولأن عدم إتمامه النسك بأمر خارج عنه، وليس بسببه هو. وقيل: عليه القضاء. وهذا ضعيف. لكن إن كان لم يحج ولم يعتمر- بعد- فالفرض باق في ذمته. 9- ظاهر الآية عدم وجوب الحلق على المحصر، عند التحلل لعدم ذكره، لكن دلت السنة على وجوبه، كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها[2]. 10- تحريم حلق الرأس على المحرم بحج أو عمرة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ ﴾، وأَلحق به العلماء سائر شعور البدن، كالشارب والإبط والعانة، وكذا تقليم الأظافر. 11- أنه لا يجوز الحلق إلا بعد النحر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾، وهذا على ظاهره بالنسبة للمحصر، ولمن ساق الهدي، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر»[3]. أما المتمتع والقارن فالأفضل في حقهما تقديم النحر على الحلق، كما هو ظاهر الآية، ويجوز لهما تقديم الحلق على النحر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن ذلك: «افعل ولا حرج»(1). 12- جواز حلق الرأس لمن كان مريضًا أو به أذى من رأسه، من قمل ونحوه، وعليه فدية؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾، وهي كما قال صلى الله عليه وسلم: «صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، أو ذبح شاة»(1). وهي على التخيير، كما هو ظاهر الآية والحديث. 13- ظاهر الآية أن محل الفدية حيث كان المرض والأذى والحلق؛ لقوله تعالى: ﴿ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾، ولم يذكر مكان الفدية، والأصل فعل الواجبات على الفور. وقد ذهب أهل العلم إلى أن النسك محله الحرم، وحكي الإجماع على هذا، وكذا مكان الإطعام الحرم عند أكثرهم، وأما الصيام فحيث شاء. 14- جواز إخراج الفدية قبل الحلق وبعده؛ لقوله تعالى: ﴿ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾، وهذا محتمل. 15- في التخيير بين خصال الكفارة تيسير على العباد، وفي جعل الصدقة والنسك من بينها دلالة على حرص الشرع المطهر على الأعمال التي يتعدى نفعها إلى الآخرين، ونفع المحتاجين. 16- أن حلق الرأس لا يفسد النسك؛ لأن الله - عز وجل - لم يوجب فيه إلا الفدية، وهكذا بقية محظورات الإحرام لا تفسد النسك- عدا الجماع قبل التحلل الأول في الحج، وفي العمرة قبل طوافها- وهذا بخلاف سائر العبادات، كالصلاة والصيام، فإنها تفسد بفعل محظوراتها. 17- جواز التمتع بالعمرة إلى الحج؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ﴾، وهو أن يأتي بالعمرة في أشهر الحج، ثم يتحلل منها تحللًا كاملًا، ويتمتع بما كان محظورًا عليه بالإحرام، إلى أن يحرم بالحج، وهو أفضل الأنساك، لأمره صلى الله عليه وسلم من لم يسق الهدي من أصحابه بالتحلل من عمرتهم، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولحللت معكم»[4]. وفي هذا رد على أهل الجاهلية الذين لا يرون العمرة في أشهر الحج. 18- وجوب الهدي على المتمتع بالعمرة إلى الحج؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾؛ أي من الهدي الشرعي؛ شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة- شكرًا لله - عز وجل - على نعمة التحلل والتمتع بين النسكين، وحصولهما في سفر واحد، ومثله القارن في وجوب الهدي عليه، لحصول النسكين له في سفر واحد. أما المفرد فلا هدي عليه. 19- في إيجاب الهدي على المتمتع دلالة على فضل إهراق الدم، وحرص الشرع على ما يتعدى نفعه إلى الآخرين من المحتاجين وغيرهم. 20- أن على من لم يجد الهدي أو ثمنه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾. ووقت صيام الأيام الثلاثة منذ أحرم إلى يوم عرفة، فإن لم يصمها قبل العيد صامها أيام التشريق الثلاثة، لحديث عائشة وابن عمر رضي الله عنهما قالا: «لم يرخص في صيام أيام التشريق إلا لمن لم يجد الهدي»(1). ووقت صيام الأيام السبعة إذا رجع إلى أهله، وإن صامها بعد أن أنهى أعمال الحج، في مكة، أو في الطريق أجزأه ذلك. 21- تأكيد وجوب إكمال صيام هذه الأيام، وإتمامها عشرة؛ لقوله تعالى: ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾. 22- عدم وجوب التتابع في صيام الأيام الثلاثة في الحج، ولا في صيام الأيام السبعة بعد الرجوع؛ لقوله تعالى: ﴿ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾، وهذا مطلق، ويؤكد عدم وجوب التتابع قوله – تعالى - بعد ذلك: ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾. 23- التيسير بعد التيسير في أحكام هذه الشريعة المطهرة، فالهدي الواجب على المتمتع مما يتيسر له، فإن لم يجده أجزأ عنه صيام عشرة أيام، وفي هذا تيسير من وجوه عدة: الأول: من حيث جعل الصيام بديلًا عن الهدي عند تعذره. والثاني: جعل بعض هذه الأيام في الحج، وبعضها إذا رجع إلى أهله. والثالث: كون الأقل من هذه الأيام، وهي ثلاثة في الحج، والأكثر منها، وهي سبعة إذا فرغ من الحج ورجع إلى أهله. والرابع: عدم إيجاب التتابع بين هذه الأيام. 24- عدم وجوب الهدي، أو الصيام على حاضري المسجد الحرام؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾. وهل يشرع في حقهم التمتع والقران؟! اختلف أهل العلم في هذا على قولين: فمن قال: الإشارة في قوله ﴿ ذَلِكَ ﴾ ترجع إلى وجوب الهدي وبديله الصيام، قال: يشرع التمتع والقران في حقهم، لكن لا هدي عليهم، ولا صيام. ومن قال: الإشارة ترجع إلى ما ذكر، وإلى ما قبله، وهو قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ﴾، قال: لا يشرع التمتع ولا القران في حقهم، وهو الأقرب. 25- عظم حرمة المسجد الحرام؛ لقوله تعالى: ﴿ الْحَرَامِ ﴾؛ أي: ذي الحرمة العظيمة. 26- وجوب تقوى الله - عز وجل - بفعل أوامره، واجتناب نواهيه؛ لقوله عز وجل: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾. 27- شدة عقاب الله - عز وجل - لمن خالف أمره، وارتكب نهيه، ووجوب العلم بذلك، وفي هذا وعيد وتهديد لمن لم يتق الله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾. [1] أخرجه مسلم في الصيام- جواز قطع صوم النافلة (1154)، وأبو داود في الصوم (2455)، والنسائي في الصيام (2322). [2] سبق تخريجه. [3] سبق تخريجه. [4] سبق تخريجه.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() ﴿ رَحِيمٌ ﴾ أي: ذو رحمة واسعة، وسعت كل شيء، وعمت كل حي، كما قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156]، وقال تعالى: ﴿ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ﴾ [الأنعام: 147]، وقال تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ﴾ [الأنعام: 133]، وقال تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ﴾ [الكهف: 58]. ورحمته- عز وجل- تنقسم إلى قسمين: رحمة ذاتية ثابتة له- عز وجل- ورحمة فعلية يوصلها من شاء من خلقه، رحمة عامة لجميع خلقه، ورحمة خاصة بالمؤمنين. وهذه الجملة ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ تعليل للأمر بالاستغفار، أي: استغفروا الله؛ لأنه أهل أن يُستغفر، وأهل أن يَغفر ويَرحم، كما قال تعالى في سورة المزمل: ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 199]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 135]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه: 82]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ [المدثر: 56]. قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾. ذكر الله- عز وجل- مناسك الحج وأحكامه، ثم أتبع ذلك بالأمر بذكره بعد قضاء المناسك، كما أمر به بعد قضاء الصلاة، وبعد الجهاد. ســبب النــزول: عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان أهل الجاهلية يقفون في المواسم، فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل الله- تعالى- على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾؛ يعني: ذكر آبائهم في الجاهلية»[35]. قوله: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ ﴾؛ أي: إذا فرغتم وانتهيتم من أداء مناسك الحج والعمرة وتحللتم منهما. والمنسك والنسك: العبادة، وكثر استعماله في الحج والعمرة، والذبح، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162] أي: وذبحي. ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ الفاء رابطة لجواب الشرط، أي: فأتْبِعوا ذلك بذكر الله- عز وجل- بألسنتكم وقلوبكم وجوارحكم، بأنواع الذكر، من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، وقراءة القرآن، والصلاة، وغير ذلك، شكرًا لله- عز وجل- على أن مكنكم من أداء المناسك، وإعلانًا لدوام عبوديتكم لله- عز وجل- ورغبتكم في الزيادة من الخير، وتفاديًا للغفلة، أو الاغترار بما عملتم. ﴿ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ ﴾ الكاف للتشبيه، أي: مثل ذكركم آباءكم، أو كما تذكرون آباءكم وأجدادكم، حيث كانوا في الجاهلية إذا انتهوا من المناسك، وفي غير ذلك من المواسم يذكرون آباءهم وأجدادهم، ويفتخرون بفعالهم ومآثرهم. ﴿ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾ «أو» بمعنى «بل» أي: بل أشد ذكرا، من حيث كثرة ذكره- عز وجل- باللسان، ومن حيث الإخلاص له بالقلب وحضوره ومواطأته للسان، ومن حيث استعمال الجوارح في ذلك. فأمر الله- عز وجل- العباد بالإكثار من ذكره، وأكد ذلك؛ لأن الذكر غذاء الأرواح، وهو أهم من غذاء الأبدان، فيه الطمأنينة والسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة. قال ابن القيم[36]: «ففيه الأمر بالذكر بالكثرة والشدة لشدة حاجة العبد إليه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فأي لحظة خلا فيها العبد عن ذكر الله- عز وجل- كانت عليه، لا له، وكان خسرانه فيها أعظم مما ربح في غفلته عن الله. وقال بعض العارفين: لو أقبل عبد على الله- تعالى- كذا وكذا سنة، ثم أعرض عنه لحظة لكان ما فاته أعظم مما حصله» قوله تعالى: ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾. ذكر الله- عز وجل- مناسك الحج وأمر بذكره بعد قضائها، ثم ذكر انقسام الناس إلى فريقين في سؤالهم له- عز وجل: فريق همهم الدنيا لا يسألون غيرها، وما لهم في الآخرة من نصيب، ذكرهم- عز وجل- في هذه الآية، وفريق يسألون الله من خيري الدنيا والآخرة، والوقاية من النار، وهم أهل النصيب الأوفر في الدنيا والآخرة، وذكرهم بقوله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾. ســبب النــزول: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف، فيقولون: اللهم اجعله عام غيث، وعام خصب، وعام ولاد حسن. لا يذكرون من أمر الآخرة شيئًا، فأنزل الله فيهم: ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾، وكان يجيء بعدهم آخرون من المؤمنين، فيقولون: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾، فأنزل الله فيهم: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾»[37]. قوله: ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ﴾ الفاء: استئنافية، و«من» تبعيضية أي: فبعض الناس ﴿ مَنْ يَقُولُ ﴾ «من» موصولة، بمعنى الذي، أي: الذي يقول، بلسان حاله ومقاله ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ﴾ أي: يا ربنا أعطنا نصيبًا في الحياة الدنيا وزدنا فيها، فهؤلاء قد ملكت الدنيا أحاسيسهم ومشاعرهم، وأعمت قلوبهم، فلا يفكرون إلا فيها، ولا يشبعون منها غايتهم تحقيق شهواتهم البهيمية، فما أتعس حظهم. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش»[38]. و«الدنيا» هي هذه الدار التي نحن فيها، سميت دنيا؛ لأنها قبل الآخرة من حيث الزمن، ولأنها دنيئة حقيرة، لا قيمة لها بالنسبة للآخرة. ﴿ وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾ الواو: حالية، و«ما» نافية، ﴿ لَهُ﴾ يعني- هذا القسم من الناس. ﴿ فِي الْآخِرَةِ ﴾ أي: في الدار الآخرة التي هي الدار الحقيقية، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64]، وإنما سميت الآخرة لتأخرها في الزمن بعد الدنيا. ﴿ من خلاق ﴾ «من» لتوكيد العموم، و﴿ من خلاق ﴾ نكرة في سياق النفي تفيد العموم. والخلاق: النصيب. أي: وما لهذا القسم من الناس في الآخرة التي هي الدار الحقيقية، لا في سؤالها، ولا في ثوابها أي نصيب، فلا يسألون الله فيها خيرًا، بل هم معرضون عنها غاية الإعراض، وليس لهم فيها أيّ نصيب من الخير، بل ليس لهم فيها إلا النار وبئس القرار. قوله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾. قوله: ﴿ وَمِنْهُمْ﴾ أي: ومن الناس قسم موفقون يدعون ربهم، ويسألونه من خيري الدارين، في أمور دينهم ودنياهم، وهم المؤمنون، فيقولون: ﴿ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ﴾، والحسنة في الدنيا تشمل كل خير الدنيا من التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح، اللذان هما رأس مال الإنسان في هذه الحياة، ومن المتاع الحسن في هذه الحياة، من صحة في البدن، وفسحة في السكن، وسعة في الرزق، وزوجة صالحة، وأولاد تقر بهم العين، وغير ذلك. والحسنة في الآخرة الجنة وما فيها من ألوان وأنواع النعيم، وأعلاها النظر إلى وجه الله الكريم، كما قال تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، فالحسنى الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم[39]. ﴿ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ أي: اجعل لنا وقاية من عذاب النار، واكفنا إياه، بحفظنا من الذنوب الموجبة له، ومغفرتها، وزحزحنا عن النار، وأدخلنا الجنة، كما قال عز وجل: ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾ [آل عمران: 185]. وهذا الدعاء من أعظم وأجمع الأدعية وأكملها، وأولاها بالإيثار، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يكثر الدعاء به ويحث عليه، كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار»[40]. وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلًا من المسلمين، قد خَفَتَ[41]، فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله، لا تطيقه- أو لا تستطيعه، أفلا قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار» قال: فدعا الله له، فشفاه»[42]. وعن عبدالله بن السائب رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين الركن اليماني والركن الأسود: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار»[43]. فمن أوتي في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ووقي عذاب النار، فقد أوتي خيري الدنيا والآخرة، وكفي شرهما. عن عبدالسلام بن شداد، قال: كنت عند أنس بن مالك، فقال له ثابت: إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم، فقال: «اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار»، وتحدثوا ساعة، حتى إذا أرادوا القيام، قال: يا أبا حمزة، إن إخوانك يريدون القيام فادع لهم، فقال: «تريدون أن أشقق لكم الأمور، إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ووقاكم عذاب النار فقد آتاكم الخير كله»[44]. ويا ليت من يغلون في الدعاء، بل ويبتدعون فيه ينتبهون لهذا، ففي أدعية الكتاب والسنة الجامعة المانعة ما فيه غنية عما سواها، لمن صدق مع الله، وتحرى القبول والسنة، ونصح لمن خلفه من المصلين، وراقب الله فيهم، وخاف من مغبة مسؤوليته أمام الله -تعالى- عنهم. قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾. قوله: ﴿ أُولَئِكَ ﴾ الإشارة لأقرب مذكور، وهم الذين يقولون: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾. ﴿ ﯩ ﯪ ﴾ أي: لهم حظ ﴿ مِمَّا كَسَبُوا ﴾ «ما» موصولة، أو مصدرية، أي: من الذي كسبوه، أو من كسبهم، كما قال تعالى: ﴿ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا ﴾ [النساء: 85]. ويحتمل كون الإشارة ﴿ أُولَئِكَ﴾ لهؤلاء ولمن قبلهم وهم الذين يقولون: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ﴾ وما لهم في الآخرة من خلاق، فلكل من هؤلاء وهؤلاء نصيب من كسبهم وجزاء أعمالهم، كما قال تعالى: ﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾ [الأنعام: 132]، ويؤيد هذا قوله: ﴿ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾؛ لأنه يشمل القسمين. ﴿ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾؛ أي: قريب الحساب، قال تعالى: ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 1]، وقال تعالى: ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ [القمر: 1]. وأجله عز وجل آت، وكل آت قريب، قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا ﴾ [الكهف: 21]. وأيضًا فإن عمر الإنسان قصير، والموت قريب، قال تعالى: ﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾ [النساء: 77]. وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام النبي صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثّر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاءً. فقال صلى الله عليه وسلم: «مالي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها»[45]. كما أنه- عز وجل- يحاسب الخلائق على وجه السرعة؛ لأنه أعلم بهم وبأعمالهم، فلا يحتاج إلى طول وقت لمحاسبتهم، قال تعالى: ﴿ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ [الأنعام: 62]. ولهذا قال بعض أهل العلم: إنه عز وجل يحاسب الخلائق في نصف يوم، وفي نصفه الآخر يكون أهل الجنة في مقيلهم فيها؛ لقوله تعالى: ﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ﴾ [الفرقان: 24]. كما أن من سرعة حسابه- عز وجل- أن يجد الإنسان في حياته شيئًا من آثار وجزاء أعماله. قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾. قوله: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ ذكر الله -عز وجل- مناسك الحج، وأمر بذكره بعد قضائها، ثم أكد ذلك بالأمر بذكره في هذه الأيام المعدودات، والتي تلي الحج، وفيها بعض أعماله، وهي أيام التشريق الثلاثة. قوله: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ أي: بألسنتكم وقلوبكم وجوارحكم، بتكبيره وتهليله وتحميده، بالتكبير المطلق في هذه الأيام في جميع الأوقات، والتكبير المقيد من صلاة فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، ونحر الهدي والأضاحي، وذكر اسم الله عليها، والمبيت بمنى والطواف والسعي والصلاة، وذكر الله عند رمي الجمار، وغير ذلك. عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما جعل الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله»[46]. ﴿ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ وهي أيام التشريق الثلاثة؛ الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر؛ لمزيتها وفضلها. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «الأيام المعدودات: أيام التشريق»[47]. فهذه الأيام الثلاثة لها مزية وفضل وشرف. عن نبيشة الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر لله»[48]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيام التشريق أيام طعم وذكر لله، وقال مرة: أيام أكل وشرب»[49]. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم أيام التشريق، قال: هي أيام أكل وشرب وذكر لله»[50]. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم عرفة ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهن أيام أكل وشرب»[51]. ﴿ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ بأن خرج من منى بعد رمي جمار اليوم الثاني، وقبل غروب الشمس. ﴿ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ أي: فلا حرج عليه، ولا يأثم بذلك لجواز الخروج بعد ذلك. ﴿ وَمَنْ تَأَخَّرَ ﴾ بأن بات ليلة الثالث في منى، ورمى الجمار اليوم الثالث بعد الزوال ﴿ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾، فكل ذلك جائز، التعجل في يومين، والتأخر، وهذا من التخفيف والتيسير على الأمة، لكن لمن تأخر زيادة أجر عمله في اليوم الثالث. ﴿ لمن اتقى ﴾ أي: للذي اتقى الله في أعمال الحج ومناسكه وغيرها، فعلًا لما أمر الله به، وانتهاء عما نهى الله عنه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»[52]، وقال صلى الله عليه وسلم: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»(2). ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ بفعل أوامره، واجتناب نواهيه عامة، وفي جميع الأوقات، لاسيما في هذه الأيام المعدودات. ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي: واعلموا أنكم إليه تُرجعون، ولديه تجمعون، وعليه تعرضون يوم القيامة، وتحاسبون. كما قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ [البقرة: 281]، وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ﴾ [الأنعام: 62]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ [الغاشية: 25، 26]. وأَمر الله - عز وجل - بالعلم بأن إليه حشرهم؛ لأن العلم بذلك، والإيمان به واجب، وهو أعظم واعظ يحمل على تقوى الله عز وجل. [1] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 345)، وأخرجه الشافعي- فيما ذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 342). [2] أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (4/ 162) (2596). وقال ابن كثير في «تفسيره» (1/ 342): «وهذا إسناد صحيح، وقول الصحابي: «من السنة كذا» في حكم المرفوع عند الأكثرين، ولاسيما قول ابن عباس تفسيرًا للقرآن، وهو ترجمانه». [3] أخرجه الشافعي والبيهقي فيما ذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 342). [4] أخرجه أبوداود في المناسك (1949)، والنسائي في مناسك الحج (3044)، والترمذي في الحج (889)، وابن ماجه في المناسك (3015)، من حديث عبدالرحمن بن يعمر رضي الله عنه. [5] سيأتي تخريجه قريبًا. [6] أخرجه البخاري في الإيمان (48)، ومسلم في الإيمان (64)، والنسائي في تحريم الدم (4105)، والترمذي في البر والصلة (1983) وابن ماجه في المقدمة (69). [7] أخرجه البخاري في الحج (1521)، ومسلم في الحج (1350)، والنسائي في مناسك الحج (2627)، والترمذي في الحج (811)، وابن ماجه في المناسك (2889)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [8] أخرجه البخاري في الحج (1773)، ومسلم في الحج (1349)، والنسائي في مناسك الحج (2622)، والترمذي في الحج (933)، وابن ماجه في المناسك (2888)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [9] أخرجه البخاري في الحج- قول الله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ (1523)، وأبو داود في المناسك- التزود في الحج (1730)، والطبري في «جامع البيان» (3/ 494)، والواحدي في «أسباب النزول» ص(37). [10] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 494). [11] ذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 348). [12] هذان البيتان للأعشى- في «ديوانه» (ص185- 187)- من قصيدته المشهورة التي مطلعها: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وبت كما بات السليم مسهدا [13] أخرجه البخاري في الحج- التجارة أيام الموسم (1770)، وفي التفسير ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ (4519)، وأبو داود في المناسك (1731)، والطبري في «جامع البيان» (3/ 504، 507، 510)، والواحدي في «أسباب النزول» ص(38). [14] أخرجه أبوداود في المناسك- باب الكرى (1733)، وأحمد (2/ 155)، وابن خزيمة في صحيحه (3052)، والطبري في «جامع البيان» (3/ 503، 509)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 351)، والواحدي في «أسباب النزول» ص(37). [15] كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخرجه البخاري في بدء الوحي (1)، ومسلم في الإمارة (1907)، وأبو داود في الطلاق (2201)، والنسائي في الطهارة (75)، وابن ماجه في الزهد (4227). [16] انظر: «جامع البيان» (3/ 512)، «تفسير ابن كثير» (1/ 351). [17] سبق تخريجه. [18] كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه قال: «فلما زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس. قال جابر: ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، لم يصل بينهما شيئًا، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الموقف» الحديث، وسيأتي تخريجه قريبًا. [19] أخرجه أبوداود في المناسك (1950)، والنسائي في مناسك الحج (3039)، والترمذي في الحج (891)، وابن ماجه في المناسك (3016)- وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح». [20] شنق: أي: ضم وضيق- انظر: «النهاية»، «لسان العرب» مادة «شنق». [21] أخرجه مسلم في الحج- حجة النبي صلى الله عليه وسلم (1218)، وأبو داود في المناسك- إفراد الحج (1905)، وابن ماجه في المناسك (3074). [22] أخرجه البخاري في الحج (1666)، ومسلم في الحج (1286)، وأبو داود في المناسك (1923)، والنسائي في مناسك الحج (3023)، وابن ماجه في المناسك (3017). [23] أي: السير السريع. انظر: «النهاية»، «لسان العرب» مادتي: «عنق»، «نصص». [24] الإيضاع: حمل الدابة على سرعة السير. انظر: «النهاية»، «لسان العرب» مادة «وضع». [25] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 352). [26] سبق تخريجه قريبًا. [27] أخرجه أبوداود في المناسك (1935)، والترمذي في الحج (885)، وأحمد (2/ 5، 454)، والبيهقي في «سننه» (5/ 122)- وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح». [28] أخرجه أحمد (4/ 82)، وقال ابن كثير في «تفسيره» (1/ 354): «وهذا منقطع» ثم ذكر أنه روي من طريق متصل. [29] أخرجه البخاري في المغازي (4330)، ومسلم في الزكاة (1061)، من حديث عبدالله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه. [30] أخرجه البخاري في الحج- الوقوف بعرفة (1582)، وفي تفسير سورة البقرة (4520)، ومسلم في الحج (1219)، وأبو داود في المناسك (1910)، والنسائي في المناسك- رفع اليدين في الدعاء بعرفة (3012)، والترمذي في أبواب الحج- ما جاء في الوقوف بعرفات (884)، وابن ماجه في المناسك- الدفع من عرفة (3018). [31] أخرجه البخاري في التفسير- باب ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ (4521). [32] أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (591)، والترمذي في الصلاة (300)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (928)، من حديث ثوبان رضي الله عنه. [33] أخرجه البخاري في الدعوات (6306)، والنسائي في الاستعاذة (5522)، والترمذي في الدعوات (3393). [34] أخرجه البخاري في الأذان (834)، ومسلم في الذكر والدعاء (2705)، والنسائي في السهو (1302)، والترمذي في الدعوات (3531)، وابن ماجه في الدعاء (3835). [35] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 355- 356). [36] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 389). [37] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 357). [38] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2887)، والترمذي في الزهد (2375)، وابن ماجه في الزهد (4136). [39] أخرجه مسلم في الإيمان (181)، والترمذي في صفة الجنة (2552)، وابن ماجه في المقدمة (187)، من حديث صهيب رضي الله عنه. [40] أخرجه البخاري في الدعوات (6389)، وأبو داود في الصلاة (1519)، وأحمد (3/ 10). [41] أي: ضعف. [42] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2688)، والترمذي في الدعوات (3487)، وأحمد (3/ 107). [43] أخرجه الشافعي في «مسنده» ص(127)، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 356). [44] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 359). [45] أخرجه الترمذي في الزهد (2377)، وابن ماجه في الزهد (4109)- وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح». [46] أخرجه أبوداود في المناسك- في الرمل (1888)، والترمذي في الحج- ما جاء كيف ترمى الجمار (902)، وأحمد (6/ 64)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 459). وقال: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي. [47] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 550)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 360). [48] أخرجه مسلم في الصيام- تحريم صوم أيام التشريق (1141)، وأبو داود في الأضاحي (2830)، والنسائي في الفرع والعتيرة (4230)، وابن ماجه في الذبائح (3167)، وأحمد (5/ 76). [49] أخرجه ابن ماجه في الصيام (1719)، والطبري في «جامع البيان» (3/ 553). [50] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 554)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/ 244). [51] أخرجه أحمد (4/ 153). [52] سبق تخريجه.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ... ﴾ قوله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ*وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾[البقرة: 197- 203]. 1- أن للحج أشهرًا معلومات؛ لقوله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة، وقال كثير من أهل العلم: هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. ولا خلاف بين أهل العلم أن الإحرام بالحج لا يصح بعد فجر يوم النحر، كما لا خلاف بينهم أن أعمال الحج لا تنتهي في اليوم العاشر، بل لا تنتهي إلا بعده؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ [البقرة: 203]. كما أن بقية الشهر كله محل لأعمال الحج التي لا يفوت وقتها كالطواف والسعي ونحو ذلك. ففرض الحج والإحرام به في شهرين وعشرة أيام، وأعماله في ثلاثة أشهر. 2- أن الإحرام بالحج لا يصح إلا في أشهره؛ لقوله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ وقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾، وبهذا قال كثير من السلف من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، منهم ابن عباس، وجابر بن عبدالله رضي الله عنهما [1]. وعلى هذا فمن أحرم بالحج في غير أشهره لم يصح إحرامه ولم ينعقد. وقال بعض أهل العلم ينعقد ويتحول عمرة. وذهب جمهور أهل العلم، إلى أن الإحرام بالحج يصح في جميع أشهر السنة، وينعقد مع الكراهة. وقالوا: معنى الآية ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾؛ أي: الحج الأفضل والأكمل حج أشهر معلومات. أي: أن الإحرام به في هذه الأشهر أفضل من غيرها. واستدلوا بقوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾ [البقرة: 189]، قالوا: فهذا يعم جميع أشهر السنة. كما احتجوا بأنه أحد النسكين، فيصح الإحرام به في جميع السنة كالعمرة. وهذا القول ضعيف؛ لأن قوله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ يدل على أن للحج أشهرًا معلومة محدودة، ولو كان الإحرام به مشروعًا طوال السنة، ما كان لهذا التحديد فائدة. ومثل هذا استدلالهم بالآية: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾، فإن هذا الدليل عليهم، لا لهم، إذ لو كان الإحرام بالحج جائزًا في جميع السنة لم يوقت بالأهلة. وأما قولهم: إنه أحد النسكين فيصح الإحرام به في جميع السنة كالعمرة. فهذا تعليل في مقابلة الدليل فلا يصح. فالحج جاء تحديده بأشهر معلومة، بخلاف العمرة، وعلى هذا فلا يلزم من صحة الإحرام بالعمرة في جميع السنة صحة الإحرام بالحج كذلك. 3- ظاهر قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾ جواز فرض الحج في جميع الأشهر الثلاثة، لكن دلت السنة على أن الإحرام بالحج لا يصح بعد فجر يوم النحر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عروة بن مُضَرِّس رضي الله عنه: «من شهد صلاتنا هذه- يعني صلاة الفجر في مزدلفة- وقد وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار، فقد تم حجه، وقضى تفثه»[2]، وعلى هذا أجمع أهل العلم. 4- أن الإحرام بالحج، أو العمرة ينعقد بمجرد نية الدخول في النسك؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾؛ أي: نوى الدخول فيه. 5- أن من أحرم بالحج وجب عليه إتمامه، حتى ولو كان نفلًا؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾، وكذلك العمرة، كما قال تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 196]. 6- تحريم الجماع ومقدماته، والفسوق والجدال والخصام والنزاع على المحرم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾، وهكذا سائر محظورات الإحرام. 7- توكيد حرمة الفسوق والجدال في الحج؛ لحرمة الإحرام والزمان والمكان، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25]. 8- الترغيب في فعل الخير، وأنه لن يضيع عند الله- عز وجل- قل أو كثر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 197]؛ أي: يعلمه - عز وجل - ويحصيه ويجازي عليه. 9- علم الله - عز وجل- بجميع أفعال العباد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾ وهو - عز وجل - بكل شيء عليم. 10- وجوب الاستعداد بالزاد لسفر الحج والعمرة، والاستغناء عن الناس، فلا يجوز كون الإنسان عالة وكلًا على الآخرين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا﴾. 11- الحث على التزود بتقوى الله- عز وجل- وأنها خير زاد في الحال والمآل والمعاد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾. 12- أن أصحاب العقول هم الذين يتقون الله تعالى؛ لهذا خصهم بالأمر والنداء في قوله: ﴿ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾، وفي هذا امتداح لهم، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 18]. 13- جواز الاتجار في الحج وطلب الرزق في البيع والشراء والتأجير، ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾. 14- إثبات ربوبية الله - عز وجل- الخاصة للمتقين، وأن ما يحصل عليه الإنسان في تجارته من كسب وربح- هو من فضل الله- عز وجل- وزيادته؛ لقوله تعالى: ﴿ فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾. 15- امتنان الله- عز وجل- على عباده، والتوسعة عليهم، ودفع الحرج عنهم في طلب الفضل منه والرزق في الحج. وفي هذا ما يظهر بجلاء سماحة الإسلام وسمو مبادئه وأحكامه، وموازنته بين متطلبات الروح والجسد. 16- مشروعية الوقوف بـ«عرفات»، وأنها من مشاعر الحج؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ ﴾، وهو أعظم أركان الحج؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة»[3]. ولم يصفها عز وجل بالحرمة؛ لأنها خارج الحرم. 17- وجوب المبيت بمزدلفة، وأنه بعد الوقوف بـ«عرفات»؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾. 18- مشروعية ذكر الله عند المشعر الحرام، بصلاة المغرب والعشاء والفجر، ودعاء الله وتكبيره وتهليله وحمده وتوحيده- كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه. 19- حرمة مزدلفة وأنها من مشاعر الحج، وكلها موقف؛ لقوله تعالى: ﴿ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾. 20- وجوب ذكر الله- عز وجل- وشكره- على العباد على هدايته لهم، وأن يكون ذلك وفق شرعه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾. 21- إثبات الهداية لله- عز وجل- بقسميها هداية البيان والدلالة والإرشاد، وهداية التوفيق؛ لقوله تعالى: ﴿ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾. 22- تذكير الله- عز وجل- لعباده- بحالهم في الضلال، قبل هدايته لهم، ليعرفوا قدر نعمة الله- عز وجل- وفضله عليهم، وعلى سائر الخلق، بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وبيان الحق من الباطل، والهدى من الضلال، فيشكروه على ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾. 23- تأكيد أمر الوقوف بعرفة والإفاضة منها، والمبيت بمزدلفة؛ لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾. 24- استواء الناس أمام أحكام الله الشرعية؛ لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾. 25- مشروعية الاستغفار بعد الإفاضة من عرفات، والانتهاء من أعمال الحج ومناسكه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ﴾ وهو ختام الأعمال والأعمار. 26- إثبات صفة المغفرة التامة لله- عز وجل- والرحمة الواسعة؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾. 27- مشروعية ذكر الله- عز وجل- بأنواع الذكر كلها- بعد قضاء المناسك شكرًا لله- عز وجل- على ذلك، وإتباعًا للحسنة الحسنة بعدها، وبعدًا عن الغفلة، أو الاغترار بالعمل؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾. 28- وجوب ذكر الله- عز وجل- وتعظيمه أكثر وأشد من تعظيم أي مخلوق من الآباء وغيرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾. 29- تنزل القرآن في مخاطبة العرب على نحو ما هم عليه من العادات تقريبًا للمعاني لهم، وتأليفًا لقلوبهم، إذ ليس المقصود بقوله: ﴿ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾ المساواة بين ذكر الله وذكر الآباء، ولا المقارنة بينهما فحق الله أعظم وأعظم، وذكره- عز وجل- أوجب وألزم. 30- انقسام الناس إلى فريقين: فريق همهم الدنيا، لا يسألون ربهم سواها، معرضين عن الآخرة، والعمل لها، وعن سؤال الله الفوز فيها- وهم عبّاد المادة والدرهم والدينار، فليس لهم في الآخرة من نصيب، إلا النار وبئس القرار؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾. وفريق وفِّقوا للعمل للدنيا والآخرة، وسؤال ربهم من خيري الدنيا والآخرة، والوقاية من عذاب النار، فلهم جزاء كسبهم، وهو الفوز والسعادة في الدنيا والآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ﴾. 31- الإشارة إلى حقارة الدنيا وعظم مكانة الآخرة. 32- حاجة الإنسان إلى سؤال ربه عز وجل حسنة الدنيا والآخرة، وأن يقيه عذاب النار. 33- أن من أجمع الأدعية وأعظمها، وأحراها بالقبول قول الداعي: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾. 34- إثبات الدار الآخرة، وما فيها من الجنة والنعيم، وعذاب النار والجحيم. 35- أن الله- عز وجل- قد يجيب دعوة كل داع، مسلمًا كان أو كافرًا أو فاسقًا؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ﴾. لكن ليست إجابته دعاء من دعاه دليلًا على محبته له، وخاصة إذا كان ذلك في أمور الدنيا؛ لأن الله- عز وجل- يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، لكنه لا يعطي الدين إلا من يحب كما قال صلى الله عليه وسلم[4]. 36- أن لكل من الناس نصيبًا من كسبه ثوابًا كان أو عقابًا؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ﴾. 37- إثبات الكسب للعبد؛ لقوله تعالى: ﴿ مِمَّا كَسَبُوا ﴾ وفي هذا رد على الجبرية. 38- إثبات قرب القيامة، وسرعة حساب الله- عز وجل- للخلائق؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾؛ أي: أن حسابه- عز وجل- سريع لقرب القيامة، كما أنه- عز وجل- يحاسب الخلق على وجه السرعة؛ لعلمه بهم وبأعمالهم، وكمال قدرته. وقد قال بعض أهل العلم: إنه يحاسبهم في نصف يوم، ويقيل أهل الجنة فيها ذلك اليوم؛ لقوله تعالى: ﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ﴾ [الفرقان: 24]. 39- فضل ذكر الله- عز وجل- في أيام التشريق؛ لقوله- عز وجل: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾، وهذا تخصيص لها بعد التعميم بالأمر بالذكر قبلها في قوله: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾. 40- فضل بعض الأزمنة على بعض وكذا الأمكنة. 41- جواز التعجل في اليوم الثاني عشر من أيام التشريق بعد رمي الجمار، وجواز التأخر إلى اليوم الثالث عشر؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾، وهذا من تيسير الله- عز وجل- على عباده. 42- أن على من أراد التعجل في يومين أن يخرج من مِنى قبل غروب الشمس من اليوم الثاني عشر؛ ليكون تعجله في اليومين؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ ﴾؛ لأن «في» للظرفية. 43- عدم جواز التعجل في يوم واحد، أي في اليوم الحادي عشر، وأن من فعل ذلك فهو آثم؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾؛ إذ مفهوم هذا أن من تعجل بأقل منهما فهو آثم لفعله ما لا يجوز. وهذا بيِّن اللهم إلا على قول من قال: المراد باليومين: يوم العيد واليوم الحادي عشر، وهذا لا يصح إلا على قول من قال المراد بالأيام المعدودات أربعة أيام: يوم العيد، وأيام التشريق الثلاثة. وهذا القول ضعيف. والصحيح أن المراد بالأيام المعدودات أيام التشريق الثلاثة، الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة. 44- أن المعوّل عليه- هو تقوى الله- عز وجل- سواء تعجل الإنسان في يومين، أو تأخر؛ لقوله تعالى: ﴿ لِمَنِ اتَّقَى ﴾. 45- وجوب تقوى الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾. 46- وجوب الإيمان بالبعث والمعاد والحساب؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾. 47- أن الإيمان بالحشر إلى الله والحساب أعظم واعظ يحمل على تقوى الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾. [1] سبق تخريجه عنهما. [2] سبق تخريجه. [3] سبق تخريجه. [4] أخرجه أحمد (1/377)، من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى:﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ... ﴾ قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 204 - 207]. ذكر الله عز وجل في الآيات السابقة انقسام الناس في دعائهم في الحج إلى قسمين، منهم من يريد الدنيا دون الآخرة، وهم المشركون والكفار الصرحاء، ومنهم من يريدهما معًا وهم عامة المؤمنين، وذلك في قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [البقرة: 200 - 202]. ثم قسمهم الله في هذه الآيات إلى قسمين، كفار غير صرحاء قد بلغوا في الكفر والخصام والسعي في الأرض بالفساد وإهلاك الحرث والنسل غايته، وهم المنافقون، وإلى مؤمن مخلص ظاهرًا وباطنًا يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى. قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآيات نزلت في أناس من المنافقين قالوا لما أصيب خبيب بن عدي رضي الله عنه وأصحابه بالرجيع: يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا هكذا لا هم قعدوا في بيوتهم ولا هم أدوا رسالة صاحبهم، فأنزل الله في ذلك من قول المنافقين، وما أصاب أولئك النفر من الشهادة والخير من الله»[1]. وقيل: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة، أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فأظهر له الإسلام، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه، وقال: إنما جئت أريد الإسلام، والله يعلم إني صادق، فخرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر بزرع لقوم من المسلمين وحُـمُر، فأحرَق الزرع وعقر الحمر، فأنزل الله تعالى هذه الآيات»[2]. والصحيح أن الآيات عامة في المنافقين كلهم، وفي المؤمنين كلهم. قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾. قوله: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ﴾، و«من» للتبعيض، كما في قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8]؛ أي: وبعض الناس. ﴿ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ﴾ «من»: اسم موصول بمعنى «الذي»، أي: الذي يعجبك قوله، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل من يصلح له الخطاب. ومعنى ﴿ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ﴾؛ أي: من تستحسن قوله، مما يُظهر به الإيمان، وحب الخير؛ نفاقًا منه، كما قال تعالى في وصف المنافقين: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ﴾ [المنافقون: 4]، من حسنه وفصاحته مع ما في بواطنهم من الكفر والنفاق والخداع والغرور والكذب؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14]. وكما قيل: يعطيك من أدنى اللسان حلاوة ![]() ويروغ عنك كما يروغ الثعلب ![]() يلقاك يحلف إنه بك واثق ![]() وإذا توارى عنك فهو العقرب[3] ![]() وقال الآخر: إن الأفاعي وإن لانت ملامسها عند التقلب في أنيابها العطب[4] وقال المعري[5]: وقد يُخلفُ الإنسانُ ظَنَّ عشيرةٍ ![]() وإن راق منه منظر ورُوَاء ![]() ![]() ![]() ﴿ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ متعلق بقوله: ﴿ يُعْجِبُكَ ﴾؛ أي: إعجابك بقوله حاصل في هذه الحياة الدنيا، فالحياة الدنيا ظرف لهذا الإعجاب. وقد يكون: ﴿ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾، متعلق بكلمة ﴿ قوله ﴾، أي: كلامه في أمور الدنيا، أي: عن أمور الدنيا التي هي أكبر همه ومبلغ علمه. ﴿ وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ يُعْجِبُكَ﴾، و«ما» موصولة، أي: ويشهد الله على الذي في قلبه، وذلك بحلفه بالله أنه مؤمن مصدق، وأن ما في قلبه موافق لقوله، وهو في ذلك كاذب، كما قال تعالى: ﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 1، 2]. وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ﴾ [النساء: 62]، وقال تعالى: ﴿ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 96]. وأيضًا: ﴿ وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ أي: ويبارز الله تعالى بالاستمرار على ما في قلبه من الكفر والنفاق؛ لأن الله تعالى يعلم ما في قلبه من ذلك، ولا تخفى عليه منه خافية، كما قال تعالى: ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴾ [النساء: 108]. وأيضًا ربما قال: «والله على ما أقول شهيد»، كما يردد هذا بعضهم وهو كاذب. ﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ الضمير «هو» يعود إلى «من» في قوله: ﴿ ومن الناس ﴾، وإضافة «ألد» إلى «الخصام» من إضافة الصفة إلى الموصوف، و«الخصام» يحتمل أن يكون مصدر خاصم يخاصم خصامًا ومخاصمة وخصومة. و«الألد»: الأعوج الشديد الخصام، قال تعالى: ﴿ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ﴾ [مريم: 97]، و﴿ الْخِصَامِ ﴾: الخصومة والجدال. والمعنى: وهو شديد الخصومة والمجادلة بالباطل، يكذِّب ويزوِّر الحق، ولا يستقيم معه، كما يفتري ويفجر قال صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»[6]. ويجوز أن يكون الخصام، جمع مفرده «خَصِم» والمعنى: وهو ألد الخصوم، أي: ألد الناس المخاصمين، أي: أعوجهم وأشدهم خصومة وجدلًا بالباطل. قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾. قوله: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى ﴾ أي: وإذا تولى هذا الذي يعجبك قوله، أي: وإذا ذهب وابتعد عنك وعن من ينكر عليه. ﴿ سَعَى فِي الْأَرْضِ﴾ أي: سار ومشى في الأرض وعمل فيها جاهدًا، كما قال تعالى: ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ﴾ [يس: 20]؛ أي: يسير ويمشي، وكما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا ﴾ [الإسراء: 19]؛ أي: عمل لها عملها. ﴿ لِيُفْسِدَ فِيهَا ﴾ اللام للتعليل، أي: لأجل أن يفسد فيها فسادًا معنويًا بالكفر والنفاق والمعاصي، وتشكيك الناس في دينهم، مما يحصل بسببه الفساد الحسي، وهو ما ذكره تعالى بقوله: ﴿ وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ﴾ أي: يُتلف الحرث والنسل بسبب فساده، كما قال الله تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]. والمراد بـ﴿ الْحَرْثَ﴾ الزرع والنباتات والثمار، و﴿ وَالنَّسْلَ﴾ نتاج ومواليد الإنسان والحيوان؛ أي والمعنى: فيتسبب في هلاك الحرث والنسل، وخراب البلاد، وهلاك العباد، والقضاء على مقومات الحياة، وبهذا جمع بين عوج وسيء المقال، وبين قبيح وسوء الفعال. قال السعدي[7]: «ففي هذه الآية دليل على أن الأقوال التي تصدر من الأشخاص ليست دليلًا على صدق ولا كذب، ولا بر ولا فجور حتى يوجد العمل المصدق لها، المزكي لها، وأنه ينبغي اختبار أحوال الشهود، والمحق والمبطل من الناس، والنظر لقرائن أحوالهم، وأن لا يغتر بتمويههم وتزكيتهم أنفسهم». ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ في هذا تحذير من الفساد، وتوبيخ وتهديد للمفسدين، ونفي محبته عز وجل للفساد يدل على بغضه للفساد وكراهيته له وعلى بغضه وكراهيته للمفسدين، وعدم محبته لهم، كما قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [المائدة: 64]. قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾. قوله: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ ﴾ أي: وإذا قيل لهذا المفسد في الأرض المهلك للحرث والنسل: ﴿ اتَّقِ اللَّهَ ﴾ أي: اتخذ وقاية من عذاب الله بالإيمان وترك النفاق والكفر والعناد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل. وفي قوله: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ ﴾ بالبناء للمفعول وحذف الفاعل دلالة على رده الحق أيًّا كان قائله لكراهته للحق. ﴿ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ ﴾، أي: حملته وأحاطت به العزة. والمراد بـ﴿ الْعِزَّةُ ﴾ هنا العزة المذمومة عزة الجاهلية، وهي الأنفة والترفع والتكبر عن قبول الحق وامتثاله، وترك الباطل، وليس المراد بها العزة المحمودة، وهي العزة بحق التي قال الله عنها: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون: 8]. ﴿ بِالْإِثْمِ ﴾ الباء: للمصاحبة والملابسة، و(الإثم): الذنب، أي: احتوته العزة المصاحبة والملابسة للإثم. والمعنى: احتوته وأحاطت به العزة والأنفة والحمية الجاهلية، وحملته على الإثم، وهو عدم الإصغاء للناصحين، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [الحج: 72]. وقد قال الله عز وجل لصفوة خلقه وسيد رسله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [الأحزاب: 1]، وقال تعالى له: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ [الأحزاب: 37]. وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: «اتق الله» فأنكر عليه رجل من الحاضرين، فقال عمر رضي الله عنه: «دعه، فلا خير فيكم إن لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إن لم نسمعها منكم»[8]. ﴿ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾، وعيد شديد له وتهديد أكيد، لقوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [المجادلة: 8]. والحسب بمعنى الكافي، أي: فكافيته جهنم يدخلها ويعذب فيها مجازاة له على كفره وعدم قبوله الحق. والحسب بمعنى «الكافي»، أي: كافيه جهنم عقوبة له، و«جهنم»: اسم من أسماء النار، ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وقيل: للعلمية والتأنيث. وسميت به لجهمتها وظلمتها وبعد قعرها وشدة حرها، نسأل الله تعالى السلامة منها. قال الشاعر: رَشَدْتَ وأَنعمتَ ابنَ عمرو وإنما ![]() تَجنَّبْتَ تنورًا من النَّار مظلمًا[9] ![]() ﴿ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ الواو: عاطفة، واللام واقعة في جواب قسم محذوف، أي: والله لبئس المهاد. و﴿ بِئس ﴾: فعل جامد لإنشاء الذم، وفاعلها ﴿ الْمِهَادُ ﴾، والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: ولبئس المهاد، هي، أي: جهنم، و﴿ الْمِهَادُ ﴾ في الأصل الفراش والوطاء، والمعنى: ولبئس الفراش والوطاء والمسكن والمستقر جهنم، عذاب أبدي سرمدي، معنوي للقلوب، وحسي للأبدان. قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾. ذكر الله عز وجل في الآيات السابقة حال المنافق، ألد الخصام، المفسد في الأرض، المعرض، المتكبر عن تقوى الله، ثم أتبع ذلك بذكر حال المؤمن الذي يشري نفسه طلب مرضاة الله تعالى، كما هي طريقة القرآن الكريم الجمع بين الترغيب والترهيب؛ ليجمع المؤمن في طريقه إلى الله بين الخوف والرجاء، فلا يأمن من مكر الله، ولا ييأس ويقنط من رحمة الله تعالى. وقد روي عن صهيب الرومي رضي الله عنه قال: «لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلمقالت لي قريش: يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك، وتخرج أنت ومالك، والله لا يكون ذلك أبدًا، فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تُخَلّون عني؟ قالوا: نعم. فدفعت إليهم مالي، فخلَّوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: «ربح صهيب، ربح صهيب، مرتين». وفي رواية عن سعيد بن المسيب، قال: «أقبل صهيب مهاجرًا نحو النبي صلى الله عليه وسلمفأتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته، وانتثل ما في كنانته، ثم قال: يا معشر قريش، قد علمتم أني من أرماكم رجلًا، وأنتم والله لا تصلون إليَّ حتى أرمي كل سهم في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي وقنيتي بمكة وخليتم سبيلي؟ قالوا: نعم نعم، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلمقال: «ربح البيع، ربح البيع»، قال: ونزلت: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾، وفي بعض الروايات، قال صلى الله عليه وسلم: «ربح البيع أبا يحيى». وفي رواية: «فأنزل الله فيه هذه الآية، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة، فقالوا: ربح البيع، فقال: وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم وما ذاك؟ فأخبروه أن الله تعالى أنزل فيه هذه الآية». وهكذا قال ابن عباس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة، وجماعة: إنها نزلت في صهيب رضي الله عنه، وقيل: نزلت هذه الآية في مدح خبيب بن عدي- رضي الله تعالى عنه- وأصحابه الذين قتلوا في الرجيع. وذهب أكثر المفسرين إلى أن الآية عامة في كل مجاهد في سبيل الله، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ ﴾ [التوبة: 111]، ولهذا لما تقدم رجل من بين الصفين، وفي بعض الروايات أنه هشام بن عامر، أنكر عليه بعض الناس، فرد عليهم عمر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما وتلوا هذه الآية: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾[10]. وهذا كله لا ينافي عموم الآية في كل من باع نفسه في طاعة الله تعالى هجرة أو جهادًا في سبيل الله، أو دعوة إلى الله تعالى وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر وغير ذلك. قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾. هذا قسيم قوله تعالى فيما سبق: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ﴾ الآيات، أي: ومن الناس من يكون كذا، ومنهم من يكون كذا. و«من» في قوله: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ ﴾: تبعيضية، وفي قوله: ﴿ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ﴾: موصولة، و«يشري» بمعنى «يبيع»، كما قال تعالى: ﴿ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 74]؛ أي: الذين يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة. كما أن «شرى» بمعنى «باع»، ومن هذا قوله تعالى: ﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ﴾ [يوسف: 20]؛ أي: باعوه، وقوله تعالى: ﴿ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ﴾ [البقرة: 102]؛ أي: ولبئس ما باعوا به أنفسهم. وأما اشترى فهي بمعنى (ابتاع) كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111]؛ أي: ابتاعها منهم، وقال تعالى: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 102]؛ أي: لمن ابتاعه. وكذا «يشتري»، بمعنى «يبتاع»، كما قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [لقمان: 6]. ﴿ نفسَه ﴾، أي: ذاته. ﴿ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾ مفعول لأجله، أي: طلبًا لرضوان الله عز وجل، وإخلاصًا له سبحانه وتعالى. والمعنى: ومن الناس من يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله عز وجل، أي: يبيعها لله عز وجل، ويبذلها للقيام بطاعته عز وجل والجهاد، والاستشهاد في سبيله، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111]. ﴿ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾، أي: والله ذو رأفة بالعباد، والرأفة: شدة الرحمة وألطفها وأرقها، وهي قسمان رأفة عامة، ورأفة خاصة. ﴿ بِالْعِبَادِ﴾ أي: بالعباد جميعهم؛ لأن عبودية الله عز وجل تنقسم إلى قسمين: عبودية الانقياد لأمر الله تعالى الشرعي، فهذه خاصة بالمؤمنين، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 17، 18]، فهؤلاء لهم رأفة الله تعالى الخاصة. والقسم الثاني: عبودية الانقياد لأمر الله تعالى الكوني، وهذه عامة، فكل الخلق عباد لله تعالى بهذا المعنى، كما قال تعالى: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ [مريم: 93]، وهؤلاء لهم رأفة الله العامة. [1] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 573)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 363- 369)، وانظر: «سيرة ابن هشام» (2/ 174، 175). [2] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 572)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 364- 367)، عن السدي. [3] ينسب هذان البيتان لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. انظر: «حياة الحيوان الكبرى» (1/ 51). [4] البيت لعنترة بن شداد. انظر: «ديوانه» (ص11). [5] انظر: «اللزوميات» (1/ 56). [6] أخرجه البخاري في الإيمان (34)، ومسلم في الإيمان (58)، وأبو داود في السنة (4688)، والنسائي في الإيمان (5020)، والترمذي في الإيمان (2632)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. [7] في «تيسير الكريم الرحمن» (1/ 251- 252). [8] أخرجه ابن الجوزي في «مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه», انظر: «الفقه الإسلامي وأدلته» (8/ 332). [9] البيت لورقة بن نوفل أو أمية بن أبي الصلت يرثي زيد بن عمرو بن نفيل، وكانا معًا ممن تركا عبادة الأوثان في الجاهلية؛ انظر: «السيرة النبوية» (164). [10] انظر: «جامع البيان» (3/ 571 – 576)، (590- 594)، و«أسباب النزول» للواحدي، ص (39)، و«تفسير ابن كثير» (1/ 360- 361)، و«الصحيح المسند من أسباب النزول» ص(33).
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [البقرة: 208 - 210]. قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾. قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «إذا سمعت الله يقول ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ فأرعها سمعك فهو خير يأمر به أو شر ينهى عنه»[1]. ﴿ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾ قرأ ابن عامر وأبو جعفر وابن كثير والكسائي (السَّلم) بفتح السين، وقرأ الباقون ﴿ السِّلْمِ ﴾ بكسرها. ومعنى القراءتين واحد، والمعنى: ادخلوا في الإسلام كافة. قال الشاعر: وعدت عشيرتي للسَّلم لما ![]() رأيتهموا تولّوا مدبرينا ![]() فلست مبدِّلًا بالله ربًّا ![]() ولا مستبدلًا بالسَّلم دينًا[2] ![]() والإسلام هو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، أي: الاستسلام لله ظاهرًا وباطنًا. ﴿ كَافَّةً ﴾: حال من «السلم»، أي: ادخلوا في الإسلام جميعًا، أي: التزموا وامتثلوا جميع شرائع الإسلام وأحكامه الظاهرة والباطنة، فعلًا للمأمورات واجتنابًا للمنهيات. وهذا هو مقتضى الإيمان الذي وصفهم الله تعالى وشرفهم به، وفي هذا حض وحث لهم على الاستقامة حقًّا على الإيمان والإسلام والثبات على ذلك والاستزادة منه؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [النساء: 136]. ويحتمل أن تكون ﴿ كَافَّةً ﴾ حالًا من الواو في قوله: ﴿ ادْخُلُوا ﴾، أي: ادخلوا جميعًا في الإسلام، أي: ككلم. ولا مانع من حمل الآية على الاحتمالين معًا، إذ لا تنافي بينهما، فهم مأمورون بتطبيق أحكام الإسلام كلها، ومأمورون بالدخول في الإسلام كلهم. ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ أمرهم بالدخول بالإسلام كافة، ثم نهاهم عما يصدهم عن ذلك، وهو اتباع خطوات الشيطان. قرأ نافع وأبو عمرو وحمزة وخلف وأبو بكر عن عاصم بإسكان الطاء: ﴿ خُطْوَات ﴾، وقرأ الباقون بضم الطاء: ﴿ خُطُوَاتِ ﴾. و﴿ خُطُوَاتِ ﴾: جمع «خطوة»، وهي في الأصل: ما بين قدمي الماشي. و﴿ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾: طرقه ومسالكه وما هو عليه وما يأمر به من الكفر والاستكبار والخروج عن طاعة الله والفحشاء والمنكر. كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [النور: 21]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ ﴾ [البقرة: 169]. ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ الجملة تعليل للنهي السابق، و«إنَّ» للتوكيد، فيها توكيد شدة عداوة الشيطان للمؤمنين. و«العدو»: ضد الولي، وهو من يحب لك الشر، و«مبين»: بيِّن العداوة ظاهرها ومظهرها، ولهذا يجب الحذر منه، واتخاذه عدوًا، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6]. قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾. نهى الله عز وجل عن اتباع خطوات الشيطان لعداوته البينة للمؤمنين، ثم أتبع ذلك بالتحذير عن الميل والعدول عن الحق بعد بيانه، والوعيد لمن فعل ذلك في إشارة واضحة إلى أن ذلك من أعظم الاتباع لخطوات الشيطان. قوله: ﴿ فَإِنْ زَلَلْتُمْ ﴾ الفاء: عاطفة، و«إن»: شرطية، و﴿ زَلَلْتُمْ ﴾ فعل الشرط، وجوابه: ﴿ فَاعْلَمُوا ﴾. ﴿ زَلَلْتُمْ ﴾: وقعتم في الزلل، وهو الخطأ والميل والعدول عن الحق. فمعنى ﴿ زَلَلْتُمْ ﴾ أخطأتم وعدلتم وملتم عن الحق، وسمي العدول والميل عن الحق زللًا؛ لأن فيه الهلكة، نسأل الله تعالى العافية. ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ «ما»: مصدرية، و﴿ الْبَيِّنَاتُ ﴾: صفة لموصوف محذوف، أي: الآيات البينات، أي: الواضحات في ألفاظها ومعانيها وأحكامها، والمعجزات والدلائل على الحق. والمعنى: فإن عدلتم عن الحق من بعد مجيء البينات إليكم، أي: عن علم ويقين منكم. ﴿ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾: جواب الشرط، وفيه تحذير وتهديد ووعيد لمن مال وعدل عن الحق، كما قال تعالى: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ [آل عمران: 30]؛ أي: فاعلموا أن الله عزيز القهر والغلبة والقوة والامتناع، لا يُعجزه شيء من الانتقام ممن عصاه، ولا يفوته هارب، ولا يغلبه غالب، لا تضره معصية العاصي، كما لا تنفعه طاعة المطيع. ﴿ حكيمٌ ﴾ أي: ذو الحكم التام في كل ما قدره من أحكام كونية؛ من إضلال من ضل من الخلق من هؤلاء وغيرهم، وهداية من اهتدى، وغير ذلك، وهو ذو الحكم التام في كل ما شرعه، وذو الحكم العدل في جزائه ومعاقبة من عصاه، وإثابة من أطاعه، وذو الحكمة البالغة في قدره وشرعه وجزائه. قوله تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾. نهى الله عز وجل في الآيتين السابقتين من اتباع خطوات الشيطان، وحذر من الميل والعدول عن الحق، وتوعد من فعل ذلك، ثم أكد حصول هذا الوعيد وقربه، فقال: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ﴾ الآية. قوله: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ ﴾ (هل): للاستفهام الإنكاري، ويفيد النفي المحقق، أي: ما ينظرون، وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة للتنبيه. و﴿ يَنْظُرُونَ ﴾ بمعنى «ينتظرون»، أي: ما ينتظر هؤلاء الذين عدلوا عن الحق ﴿ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ﴾ الآية؛ لأن «نظر» إذا عديت بـ«إلى» فهي بمعنى النظر بالعين، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [آل عمران: 77]، وإذا لم تعدّ فهي بمعنى الانتظار، كما في قوله هنا: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ ﴾. ﴿ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ ﴾ «إلا»: أداة حصر، و«أن» والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول ﴿ يَنْظُرُ ﴾ أي: إلا إتيان الله يعني: يوم القيامة؛ لفصل القضاء بين العباد، كما قال تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ﴾ [الأنعام: 158]، والإتيان بمعنى المجيء، كما قال: ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [الفجر: 22]، وهو إتيان ومجيء حقيقي يليق بجلاله وعظمته عز وجل. ﴿ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ﴾ «في» هنا بمعنى «مع»، والمعنى: إلا أن يأتيهم الله مع ظلل من الغمام، أي: مصاحبًا لهذه الظلل، ولا يصح أن تكون «في» للظرفية؛ لأن الله- سبحانه وتعالى- أجل وأعظم وأعلى وأكبر من أن يحيط به شيء من مخلوقاته؛ كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255]، وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [سبأ: 23] ،وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [الحج: 62]، وقال تعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ﴾ [الرعد: 9]. وقوله: ﴿ ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ﴾ «ظلل» جمع (ظلة)، أي: ظلة داخل ظلة، وهي ما يستر من الشمس، فهي في غاية الإظلام والهول والمهابة. و«الغمام» جمع «غمامة» وهو السحاب، أو السحاب الأبيض الرقيق، قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا ﴾ [الفرقان: 25]. ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ ﴾ قرأ أبو جعفر «والملائكةِ» بالجر عطفًا على ظلل، وقرأ الباقون «والملائكةُ» بالضم عطفًا على لفظ الجلالة «الله»، أي: وتأتيهم الملائكةُ. كما قال تعالى في سورة الفجر: ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [الفجر: 22]، «الملك» جنس الملائكة، أي: والملائكة ﴿ صَفًّا صَفًّا ﴾، أي: صفًا بعد صفٍ. ﴿ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ﴾: يحتمل أن تكون الواو: عاطفة، والجملة في محل نصب معطوف على قوله: ﴿ أَنْ يَأْتِيَهُمُ ﴾، فيكون قوله: ﴿ قُضِيَ الْأَمْرُ ﴾ مما ينتظر، أي: هل ينتظرون إلا إتيان الله في ظلل من الغمام، وإتيان الملائكة، وقضاء الأمر. ويحتمل أن تكون الواو استئنافية فالجملة مستأنفة وجاء التعبير بصيغة الماضي؛ لقربه وتحقق وقوعه، وجاء بصيغة ما لم يسم فاعله؛ تعظيمًا للأمر، كما في قوله تعالى: ﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 44]. وانقضاء الأمر: انتهاؤه، والأمر هو الشأن، أي: وانتهى شأن الخلائق وحسابهم، وفصل بينهم، وانتهى كل شيء، فلا اعتذار ولا استعتاب، وجوزي كلٌ بعمله، وصار كلٌّ إلى مصيره، ومأواه، أهل الجنة إلى الجنة، نسأل الله من فضله، وأهل النار إلى النار، نسأل الله السلامة. كما قال تعالى في سورة الزمر: ﴿ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الزمر: 69- 75]. ﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾. قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب: «تَرجِعُ الأمور» بفتح التاء وكسر الجيم، وقرأ الباقون: ﴿ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ بضم التاء وفتح الجيم. «إلى الله» متعلق بـ «ترجع»، وقدم عليه؛ لإفادة الحصر والاختصاص، أي: وإلى الله وحده، لا إلى غيره ترد الأمور كلها أمور الدنيا والآخرة الدينية والدنيوية، الكونية والشرعية والجزائية، وإليه سبحانه يرد الخلائق كلهم وعليه حسابهم وغير ذلك، كما قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [هود: 123]، وقال تعالى: ﴿ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 53]، وقال تعالى: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 40] ،وقال تعالى: ﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ [الغاشية: 25، 26]. [1] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (3 /902)- الأثر (9027). [2] البيتان لامرئ القيس الكندي يدعو بها قومه كندة إلى الرجوع إلى الإسلام لما ارتدوا مع الأشعث بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، انظر: «جامع البيان» (3 /597)، «الوحشيات» ص (75).
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً... ﴾ قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [البقرة: 208 - 210]. 1- تصدير الخطاب بالنداء للتنبيه والعناية والاهتمام، وتشريف المؤمنين وتكريمهم بندائهم بوصف الإيمان والحث على الاتصاف بهذا الوصف؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾. 2- أن من مقتضى الإيمان الدخول في السلم كافة وعدم اتباع خطوات الشيطان. 3- وجوب الدخول في الإسلام وتطبيق أحكامه الشرعية كلها جملة وتفصيلًا، ظاهرًا وباطنًا؛ لقوله تعالى: ﴿ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾. وفي هذا تحذير من مسالك أهل الكتاب في الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ [النساء: 150، 151]، وقال تعالى: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ [البقرة: 85]. وفيه تحذير من اتباع الهوى، واتخاذه إلهًا، كما هو حال كثير من الناس إن وافق الشرع هواه أخذ به، وإن خالف الشرع هواه تركه، كما قال تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 50]. 4- في أمر المؤمنين بالدخول في السلم كافة حض وحث على الاستقامة حقًّا على الإيمان والإسلام والثبات على ذلك والاستزادة منه، كما أُمر المؤمنون أن يقولوا في صلاتهم: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]؛ أي: وفقنا وثبتنا عليه وزدنا هداية. 5- النهي عن اتباع خطوات الشيطان وعمله ومسالكه، وتحريم ذلك؛ لقوله: ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾. 6- أن عدم الدخول في الإسلام وتطبيق أحكامه هو بسبب اتباع خطوات الشيطان. 7- عداوة الشيطان الشديدة والبينة لبني آدم وبخاصة المؤمنين، ووجوب الحذر منه؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6]. 8- إثبات الحكمة لله عز وجل في أمره ونهيه وشرعه؛ لأن الله عز وجل نهى عن اتباع خطوات الشيطان، ثم أتبع ذلك ببيان علة النهي وهو عداوته للمؤمنين. 9- قرن الحكم بعلته؛ لأن ذلك أدعى للقبول وأقوم للحجة. 10- التحذير من الزلل والميل عن الحق والعدول عنه، بعد بيانه وقيام الحجة عليه، والوعيد لمن فعل ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾. 11- قيام الحجة على الخلق بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وإقامة الحجج وبيان الآيات، بما لا عذر معه لأحد من الخلق؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾، كما قال تعالى: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 165]. 12- أن العقاب لا يستحقه إلا من عدل عن الحق بعد بيانه له وإقامة الحجة عليه، وهذا من كمال عدل الله عز وجل. 13- إثبات صفة العزة التامة لله عز وجل بأقسامها الثلاثة: عزة الامتناع، وعزة القهر والغلبة، وعزة القوة؛ لقوله تعالى: ﴿ عَزِيزٌ ﴾. 14- أن من عدل ومال عن الحق بعد بيانه لا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئًا لكمال عزته. 15- إثبات صفة الحكم التام لله عز وجل بأقسامه الثلاثة: الحكم الكوني، والحكم الشرعي، والحكم الجزائي، وإثبات صفة الحكمة البالغة لله عز وجل؛ الحكمة الغائية، والحكمة الصورية؛ لقوله تعالى: ﴿ حَكِيمٌ ﴾. 16- أن لله عز وجل الحكم التام والحكمة البالغة في إضلال من ضل من الخلق، وفي هداية من اهتدى منهم. 17- وجوب العلم بأن الله عز وجل عزيز حكيم، والحذر من عقابه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾. 18- فضل العلم بالله عز وجل وصفاته وما يجب له؛ لأن ذلك سبب لتقواه والحذر من عقابه، كما قال عز وجل: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28]. 19- في اجتماع كمال العزة، وكمال الحكم، وكمال الحكمة في حق الله عز وجل زيادة كماله إلى كمال، وإثبات أن له المثل الأعلى، والكمال المطلق من جميع الوجوه. وهذا بخلاف المخلوق الضعيف الذي إن حصل له شيء من العزة والقوة غرّه ذلك غالبًا وحمله على الغشم والطيش والسفه والجهل إلا من رحم الله تعالى، وإن كان لديه شيء من الحكمة صاحب ذلك غالبًا الضعف، وقلّ أن تجتمع عند أحد من البشر هاتان الصفتان. 20- تأكيد الوعيد للذين عدلوا عن الحق بعد معرفته وتخويفهم بقرب عذابهم؛ لقوله تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾. 21- إنظار المكذبين، وأن الله عز وجل يمهل ولا يهمل؛ لقوله تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ﴾ الآية. 22- إثبات إتيان الله عز وجل يوم القيامة للفصل والقضاء بين عباده، وهو من الأفعال الاختيارية؛ لقوله تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ ﴾، كما قال تعالى: ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [الفجر: 22]. وهو إتيان ومجيء حقيقي يليق بجلاله وعظمته، ويجب إثباته بلا تكييف ولا تعطيل، ولا تحريف ولا تمثيل. وفي هذا رد على من ينفي ثبوت الأفعال الاختيارية لله عز وجل من أهل التعطيل وغيرهم. 23- التنبيه على عظمة الله عز وجل وعظمة إتيانه ومجيئه؛ لقوله تعالى: ﴿ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ﴾. 24- إثبات وجود الملائكة وإتيانهم يوم القيامة يوم الفصل بين العباد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ ﴾. 25- انقضاء وانتهاء كل شيء يوم القيامة، فلا اعتذار ولا استعتاب، ومصير كل إلى مأواه، إما إلى الجنة، وإما إلى النار؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ﴾. 26- أن مرجع الأمور كلها ومردها ومصيرها إلى الله عز وجل وحده دون غيره، أمور الدنيا والآخرة، أمور الكون والشرع، والجزاء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾. 27- عظمة الله عز وجل، وتمام سلطانه، وكمال ملكه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾.
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() والتبشير والإنذار يستلزمان بيان الحق من الباطل والدعوة إلى الحق والتحذير من الباطل، كما قال عز وجل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45، 46]، وقال تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ﴾ [الكهف: 1 - 4]. ﴿ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ ﴾ أي: مع النبيين، أي: بصحبتهم. ﴿ الْكِتَابَ ﴾ «أل»: «للجنس» فيعم كل كتاب، أي: وأنزل معهم الكتب، فمع كل رسول كتاب، كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحديد: 25]. ﴿ بالحق ﴾ الباء للملابسة، أي: متلبسًا بالحق، فهو حق، ومشتمل على الحق، وطريق وصوله حق. والحق: الأمر الثابت. ﴿ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ قرأ أبو جعفر بضم الياء وفتح الكاف «ليُحكَم»، وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الكاف ﴿ لِيَحْكُمَ ﴾. واللام للتعليل، أي: لأجل أن يحكم بين الناس، والضمير في ﴿ لِيَحْكُمَ ﴾ على قراءة الجمهور يعود إلى ﴿ الْكِتَابَ ﴾ أو إلى الله، وقيل: يعود إلى النبيين باعتبار كل فرد منهم. ﴿ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ﴾ «ما»: اسم موصول يفيد العموم، أي: في جميع الذي تنازعوا فيه من الحق في أمور الدين والدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [النمل: 64]. ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ ﴾ الواو: اعتراضية، و«ما» نافية، والضمير في «فيه» وفي «أوتوه» يعود إلى الكتاب كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾ [هود: 110]. ﴿ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ ﴾ «إلا» أداة حصر، أي: إلا الذين أعطوه من الأمم، ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ متعلق بقوله: ﴿ اختَلف ﴾؛ أي: وما اختلف فيه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا إلا الذين أوتوه. و«ما»: مصدرية، و«البينات»: صفة لمصدر محذوف، أي: من بعد مجيء الآيات والحجج البينات، أي: الواضحات القاطعات في الدلالة على أصل الشريعة ومقاصدها التي تقتضي الاجتماع والائتلاف، ولا تحتمل التفرق ولا الاختلاف، وقيام الحجة عليهم بذلك. وفي هذا تشنيع عليهم، فهم أسوأ حالًا من المختلفين في الحق قبل مجيء البينات، كما قال تعالى: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾ [القدر: 4]، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [يونس: 93]. ﴿ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ «بغيًا»: مفعول لأجله، أي: لأجل البغي، وهو الحسد والظلم والعدوان فيما بينهم، ومن بعضهم على بعض، لا من غيرهم، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [آل عمران: 19]، وقال تعالى: ﴿ وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [الجاثية: 17]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾ [الشورى: 14]. ﴿ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ الفاء هي الفصيحة، وقيل: عاطفة. وهداية الله تعالى تنقسم إلى قسمين: هداية البيان والإرشاد، وهذه عامة لجميع الخلق، ولا تقوم عليهم الحجة إلا بها. وهداية التوفيق وهذه للمؤمنين خاصة، وهي خاصة بالله تعالى، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القصص: 56]. ﴿ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ﴾ «ما»: اسم موصول يفيد العموم، وضمير الواو في ﴿ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ﴾ يعود إلى الذين أوتوا الكتاب، كما في قوله: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ ﴾، أو يعود إليهم وإلى الذين اختلفوا قبل بعثة النبيين، وقبل إنزال الكتاب، أي: فهدى الله الذين آمنوا لجميع الذي اختلف فيه المختلفون من الحق. قال ابن القيم[5]: «فأخبر سبحانه أن الذين آمنوا هدوا لما اختلف فيه أهل التأويل الباطل الذي أوقعهم في الاختلاف والتفرق». ﴿ مِنَ الْحَقِّ ﴾ بيان لـ«ما» الموصولة، أي: فهدى الذين آمنوا للحق الذي اختلفوا فيه. ﴿ بِإِذْنِهِ ﴾، أي: بأمره الكوني ومشيئته. أي: فوفق الله الذين آمنوا لما اختُلف فيه قبل بعث النبيين وبعد بعثهم، من الحق، بإذنه الكوني والشرعي، بما جاء في القرآن والإسلام. عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله: ﴿ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ﴾، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولًا الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، فغدًا لليهود وبعد غد للنصارى»[6]. ﴿ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ الجملة مقررة لمضمون ما قبلها. قوله: ﴿ وَاللَّهُ يَهْدِي ﴾؛ أي: يوفق، ﴿ مَنْ يَشَاءُ ﴾ أي: من يريد كونًا هدايته ممن هو أهل للهداية. ﴿ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾؛ أي: إلى طريق معتدل واضح لا اعوجاج فيه ولا التواء، وهو صراط الله، وطريق الحق والإيمان والإسلام، الذي فيه السعادة في الدنيا والآخرة، ودخول الجنة والنجاة من النار، كما قال تعالى: ﴿ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 53]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153]. وهو طريق الإيمان والإسلام، وطريق الهدى ودين الحق، كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33]؛ أي: بالعلم النافع والعمل الصالح. فمن أعظم نعم الله تعالى على هذه الأمة أن هداها للصراط المستقيم الذي ضل عنه كثير من الأمم، كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الجمعة: 4]. وفي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قومًا يعملون له عملًا يومًا إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا له إلى نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا، وما عملنا باطل، فقال لهم: لا تفعلوا أكملوا بقية عملكم، وخذوا أجركم كاملًا، فأبوا وتركوا. واستأجر آخرين بعدهم، فقال لهم: أكملوا بقية يومكم هذا، ولكم الذي شرطت لهم من الأجر فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر، قالوا: لك ما عملنا باطل، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه. فقال لهم: أكملوا بقية عملكم، فإنما بقي من النهار شيء يسير، فأبوا. واستأجر قومًا أن يعملوا له بقية يومهم، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور. فقالت اليهود والنصارى: ما لنا أكثر عملًا وأقل عطاء؟ قال: هل ظلمتكم من حقكم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء»[7]. وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: نحن أكثر عملًا وأقل عطاءً؟ فقال: هل ظلمتكم من حقكم شيئًا؟ قالوا: لا، قال فذلك فضلي أوتيه من أشاء»[8]. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»[9]. قوله تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾. قوله: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ ﴾ «أم» هي المنقطعة التي بمعنى «بل» التي هي للإضراب الانتقالي، وهمزة الاستفهام الإنكاري، والتقدير: بل، أحسبتم. والخطاب للمؤمنين وقيل: لكل من يصلح خطابه، و﴿ حَسِبْتُمْ ﴾ بمعنى ظننتم تنصب مفعولين. ﴿ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ﴾ «أن»: مصدرية، وهي والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي «حسب»، أي: أم حسبتم دخول الجنة، أو سد مسد مفعولها الأول، والثاني: محذوف، والتقدير: أم حسبتم دخول الجنة حاصلًا. والجنة في اللغة: البستان كثير الأشجار والثمار، سميت بذلك لأنها تجن وتستر من بداخلها. وهي في الشرع الدار التي أعدها الله تعالى للمؤمنين والمتقين، كما قال تعالى: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الحديد: 21]، وقال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]. وهي جنات عدن، كما قال تعالى: ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ﴾ [الرعد: 23]، وهي دار السلام، كما قال تعالى: ﴿ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 127]، فيها من ألوان النعيم ما لا يعلمه إلا الله؛ كما قال تعالى: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فاقرؤوا إن شئتم: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17] »[10]. ﴿ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ ﴾ الواو للحال، أي: والحال أنه لما يأتكم، و«لما»: حرف نفي وجزم وقلب، مثل: «لم». والفرق بينهما أن «لم» للنفي مع عدم ترقب السامع حصول الفعل المنفي، و«لما» للنفي مع ترقب السامع حصول الفعل المنفي، فيكون النفي بها نفيًا لحصول قريب، كما قال النابغة الذبياني[11]: أَزِفَ الترحّل غير أن ركابنا ![]() لما تزُل برحالنا وكأن قد ![]() ![]() ![]() أي: وكأنه قد زالت، فقولك: «لم ينزل المطر» نفي لنزول المطر دون توقع نزوله، وقولك: «لما ينزل المطر» نفي لنزول المطر مع توقع نزوله. ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ «مثل» فاعل «يأتكم»، ومعنى «مثل» أي: صفة وشبه وسنن. ﴿ خَلَوْا ﴾؛ أي: مضوا ﴿ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ تأكيد لـ«خلوا»، أي: ولما يأتكم صفة وشبه الذين مضوا من قبلكم من الرسل وأممهم، أي: صفة ما حصل لهم من الابتلاء في الدين، كما قال تعالى: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 3]. وقال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142]، وقال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 16]. ﴿ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ﴾ استئناف، فيه بيان وتفسير لقوله: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾. ومعنى ﴿ مَسَّتْهُمُ ﴾: أصابتهم إصابة مباشرة، وحلت بهم. ﴿ الْبَأْسَاءُ ﴾ البؤس والفقر الشديد، وهذه مصيبة في الأموال، ﴿ وَالضَّرَّاءُ ﴾ الضر والمرض والسقم والألم، ونحو ذلك، وهذه مصيبة في الأبدان. ﴿ وَزُلْزِلُوا ﴾ الزلزلة والزلزال: الاضطراب وعدم الثبات، وهو نوعان: زلزال حسي يقع على الأرض فيجعلها تتحرك وتضطرب فيدمر كل ما عليها. وزلزال معنوي يقع على القلوب وهو أشد وأنكى. وهو المراد هنا، أي: وزلزلوا في قلوبهم، أي: أزعجوا بالمخاوف والفتن، من القتل والنفي وسلب الأموال ونحو ذلك، وهذه مصيبة في الأنفس والقلوب. وهكذا لقي المسلمون في صدر الإسلام في مكة من أذى المشركين البأساء والضراء وأخرجوا من ديارهم ولقوا أذى اليهود لهم في المدينة بعد هجرتهم. عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: «إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفْرَق رأسه، فيخلص إلى قدميه، لا يصرفه ذلك عن دينه»، ثم قال: «والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون»[12]. وهكذا حصل لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، كما قال تعالى: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 10، 11]. ولهذا روي أن هذه الآية: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ ﴾ نزلت يوم الأحزاب[13]. ﴿ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ﴾ «حتى»: للغاية، أي: بلغت بهم البأساء والضراء والزلزلة إلى غاية يقول عندها الرسول والذين آمنوا معه: ﴿ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ﴾. قرأ نافع «يقولُ» بالرفع على إلغاء عمل «حتى»، وقرأ الباقون ﴿ يَقُولَ ﴾ بالنصب على إعمال «حتى»، وإنما عملت هنا مع أنه حكاية عن شيء مضى، وهي لا تعمل إلا في المستقبل على حكاية الحال الماضية فصار «يقول» مستقبلًا بالنسبة لقوله: ﴿ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا ﴾. وجاء التعبير بالمضارع مع أن الآية تخبر عن حال من قد مضوا؛ لإنذار المخاطبين أن يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم. ﴿ الرَّسُولُ ﴾ «ال» يحتمل أن تكون للعهد، أي: رسول الذين مستهم البأساء والضراء وزلزلوا، ويحتمل أن تكون للاستغراق، أي: رسول كل أمة حصل لهم ذلك، وهذا أقرب. أي: حتى يقول الرسول، والذي هو أعرف الناس بالله، وأوثقهم بنصره وأعظمهم صبرًا. ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾ «الذين»: معطوف على «الرسول»؛ أي: ويقول الذين آمنوا. ﴿ مَعَهُ ﴾ أي: معه في هذه المقالة، ومعه في الإيمان بالله والثقة بوعده ونصره، وأكرم بها من معية. ﴿ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ﴾ جملة مقول القول، و«متى» للاستفهام، استبطاءً للنصر واستعجالًا، وطلبًا له واستفتاحًا، أي: متى يأتي نصر الله، كما في حديث خباب رضي الله عنه: «قلنا يا رسول الله: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا». ﴿ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾: الجملة خبرية مؤكدة بأداة التنبيه: «ألا»، و«إنَّ»، يحتمل أن تكون جوابًا لقول الرسول والذين آمنوا معه: ﴿ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ﴾، ويحتمل كون الجملة استئنافية، يخبر الله عز وجل بها عن قرب نصره لأوليائه عند كل شدة وضيق. وكلا الاحتمالين صحيح، فنصر الله قريب من المؤمنين، مما يوجب التعلق به عز وجل والثقة بوعده ونصره، كما قال تعالى: ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 5، 6]. [1] أخرجه البخاري في النفقات (5352)، ومسلم في الزكاة (993)، والترمذي في التفسير (3045)، وابن ماجه في المقدمة (197) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [2] أخرجهما عنهما الطبري في «جامع البيان» (3/ 624)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 376). [3] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 390). [4] ذكره ابن كثير في «تفسيره» (2/ 422 – 426) من رواية ابن مردويه ومن رواية الآجري، وأخرجه أحمد (265 – 266) من حديث طويل عن أبي أمامة رضي الله عنه، وفيه: «عدد الرسل ثلاثمائة وخمسة عشر جمًا غفيرًا»، والحديث ضعيف عند عامة أهل العلم من حديث أبي ذر وأبي أمامة رضي الله عنهما. [5] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 39). [6] أخرجه بهذا اللفظ عبد الرزاق فيما ذكر ابن كثير في «تفسيره» (1/ 365)، والحديث بدون ذكر الآية، أخرجه مرفوعًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه البخاري في الجمعة (876)، ومسلم في الجمعة (855)، والنسائي في الجمعة (1367). [7] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (558). [8] أخرجه البخاري في الإجارة، الإجارة إلى نصف النهار (2269)، والترمذي في الأمثال (2871)، وأحمد (2/ 6، 11). [9] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (770)، وأبو داود في الصلاة (767)، والنسائي في قيام الليل (1625)، والترمذي في الدعوات (3420)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1357). [10] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3244)، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2824)، والترمذي في التفسير (3197)، وابن ماجه في الزهد (4328). [11] انظر: «ديوانه» (ص89). [12] أخرجه البخاري في المناقب (3852)، وأبو داود في الجهاد (2649). [13] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 637).
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ قوله تعالى: ﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 211 - 214]. 1- كثرة ما أعطاه الله تعالى لبني إسرائيل من الآيات البينات الشرعية والكونية الدالة على عظمته وكمال ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وصدق رسله، إقامةً للحجة عليهم؛ لقوله تعالى: ﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ﴾، وأن النعمة على السابقين منهم نعمة على اللاحقين. 2- تقريع وتوبيخ وتبكيت بني إسرائيل الموجودين في عهده صلى الله عليه وسلم بسؤالهم كم آتاهم الله هم وأسلافهم من الآيات البينة والنعم العظيمة، فلم ينجع ذلك فيهم، بل كفروا وبدلوا نعمة الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾. 3- تحذير بني إسرائيل في عهده صلى الله عليه وسلم وغيرهم من تبديل نعمة الله تعالى بما أعطاهم من الآيات البينات بالكفر بها وعدم شكرها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾. 4- تسلية النبي صلى الله عليه وسلم تجاه تكذيب قومه مع ما جاءهم به من الآيات البينات. 5- أن أعظم نعمة أنعم الله تعالى بها على الخلق إعطاؤهم الآيات البينة في نفسها المبينة للحق من الباطل، والهدى من الضلال، والحلال من الحرام؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ ﴾. 6- شدة عقاب الله والوعيد بذلك لمن بدل نعمة الله وكفر بآياته؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾. 7- تمام عدل الله عز وجل وحكته، فلا يعاقب أحدًا من الخلق إلا بعد بيان الحق له بالآيات البينات وكفره بها، وتبديل نعمة الله بعد ما جاءته؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾. 8- تزيين الحياة الدنيا للكفار واغترارهم بزخرفها، وانشغالهم بها عن الآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾، وهذا يحتمل أن الله تعالى زين لهم ذلك كونًا وقدرًا، إذ لا شيء يحصل في الكون بلا تقديره، وليس في هذا حجة؛ لأنه لا يحتج بالقدر على المعاصي. ويحتمل أن الذي زين لهم ذلك هو الشيطان بوسوسته، وتسويله لهم، وفي هذا ما يوجب الحذر منه، ومن الاغترار بالدنيا. 9- عدم اغترار المؤمنين بالحياة الدنيا وزخرفها لمفهوم قوله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾، وذلك لعلم المؤمنين بدناءتها وحقارتها، كما أخبر الله عنها في كتابه، ووصفها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته. 10- دأب الذين كفروا واستمرارهم على السخرية والاستهزاء بالمؤمنين والازدراء لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾، وفي هذا مع بيان أذيتهم للمؤمنين تثبيت قلوب المؤمنين تجاه ذلك. 11- تسلية المؤمنين تجاه سخرية الكفار منهم في الدنيا، ببيان فوقيتهم على الكفار يوم القيامة، فهم في أعلى الدرجات، والكفار في أسفل الدركات، والعاقبة للمتقين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾، وفي هذا تبكيت للكافرين. 12- أن الجزاء من جنس العمل، فحيث يسخر الكفار من المؤمنين ويتعاظمون عليهم في الدنيا يجعل الله عز وجل الذين اتقوا فوقهم يوم القيامة؛ مجازاةً وإرغامًا لهم، كما أنهم فوقهم في الشرف والكرامة في الدنيا والآخرة، وقد قال الله عز وجل للمؤمنين: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ﴾ [الحجرات: 11]. 13- في الإظهار مكان الإضمار، وفي التعبير بالتقوى بدل الإيمان في قوله: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ﴾ تنبيه على فضل التقوى ومكانتها، وأنها سبب فوقية المؤمنين ورفعة منازلهم وعلو درجاتهم. 14- أن الله عز وجل يرزق بفضله من يشاء من عباده، ويعطيهم العطاء الجزيل من المنازل والدرجات والخير الكثير الذي لا نهاية له في الدين والدنيا والآخرة بلا حساب ولا عد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261]، وقال تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245]. وقال صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ابن آدم يضاعف له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»[1]. 15- إثبات الأفعال الاختيارية لله عز وجل المتعلقة بمشيئته، كالرزق والإحياء والإماتة، وغير ذلك، وكل ما يقع في الكون من حركة وسكون وغير ذلك إنما هو بمشيئة الله تعالى، أي: بإرادته الكونية. 16- أن الناس في أول الأمر كانوا أمة واحدة على الفطرة ودين الإسلام الذي دان به أبوهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لقوله تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾. 17- أن الاختلاف أمر طرأ على الناس، بعد أن كانوا أمة واحدة على دين واحد؛ لقوله تعالى: ﴿ اخْتَلَفُوا﴾، ولا يزال ذلك إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [هود: 118، 119]. 18- أن سبب بعث النبيين ما وقع بين الناس من اختلاف في الدين؛ لقوله تعالى: ﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ رحمةً منه تعالى للناس وإعذارًا لهم. 19- أن الحكمة من بعث الأنبياء والرسل هي التبشير والإنذار؛ لقوله تعالى: ﴿ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ﴾، وهذا يستلزم بيان الحق والدعوة إليه، وبيان الباطل والتحذير منه. 20- إثبات علو الله عز وجل على خلقه بذاته وصفاته؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾، والإنزال يكون من أعلى إلى أسفل. 21- أن الكتب السماوية منزلة من عند الله عز وجل غير مخلوقة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ ﴾. 22- نزول كتب الله عز وجل بالحق، ووصولها بالحق، واشتمالها على الحق؛ لقوله تعالى: ﴿ بالحق ﴾. 23- أن الله عز وجل إنما أنزل الكتب ليُحْكم بها ويتحاكم إليها عند الاختلاف والنزاع؛ لقوله تعالى: ﴿ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ﴾، أي: ليحكم الكتاب أو الرسول بهذا الكتاب بين الناس فيما اختلفوا فيه، إلى أن صار الحكم على جميع الكتب السماوية وبين الناس كلهم لخاتم كتب الله عز وجل القرآن الكريم المهيمن عليها، والناسخ لها، فبالرجوع إلى القرآن والسنة يحصل الاجتماع والائتلاف، وتزول الفرقة والاختلاف. 24- أن الذين اختلفوا في الكتاب هم الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾. 25- التوبيخ لهؤلاء الذين اختلفوا في الكتاب؛ لأنهم اختلفوا فيه بعد إيتائه لهم ومجيء البينات إليهم بسبب البغي والظلم والحسد بينهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾. 26- وجوب الحذر من البغي والظلم والحسد؛ لأن ذلك سبب للاختلاف في الحق، وعدم قبوله بعد بيانه. 27- أن الاختلاف شر يجيب الحذر منه، وخاصة الاختلاف في الدين، لما له من أثر في تفريق وحدة الأمة وبعدها عن الحق، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 105]. 28- توفيق الله عز وجل للمؤمنين وهدايته لهم لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بإذنه ﴾. 29- أن الإيمان سبب للهداية للحق، وذلك لما يتضمنه الإيمان من صدق صاحبه في طلب الحق، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [محمد: 17]. 30- أن هداية التوفيق بيد الله عز وجل وبإذنه الكوني، ولعباده المؤمنين خاصة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾. ولهذا ينبغي سؤال الله عز وجل وحده الهداية إلى الحق وإلى الصراط المستقيم. 31- إثبات إذن الله عز وجل الكوني والشرعي؛ لقوله تعالى: ﴿ بِإِذْنِهِ ﴾ أي: بإذنه وأمره الكوني والشرعي. 32- إثبات أفعال الله الاختيارية لقوله تعالى: ﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ﴾، وقوله: ﴿ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾، وقوله: ﴿ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾. 33- إثبات المشيئة لله عز وجل، وهي الإرادة الكونية المتعلقة بأفعاله الاختيارية؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾. 34- أن ما جاء به الشرع هو الحق والصراط المستقيم، وما سواه فباطل معوج؛ لقوله تعالى: ﴿ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾. 35- أن الابتلاء في الدين سنة من سنن الله عز وجل يختبر الله به العباد ليتبين الصادق الصابر من غيره؛ لقوله تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31]، وقال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155]. 36- تقوية قلوب المؤمنين أمام الابتلاء في الدين وتسليتهم بذكر ما وقع لغيرهم من الأمم الخالية، كما قال تعالى: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120]. 37- إثبات الجنة وأنها غالية الثمن، تحتاج إلى مجاهدة وصبر على ما يصيب المؤمن من الابتلاء في ذات الله تعالى. ولهذا لما سأل هرقل أبا سفيان: «هل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال: فكيف كانت الحرب بينكم؟ قال: سجالًا، يدال علينا وندال عليه، قال: كذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لهم العاقبة»[2]. 38- أن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما صدقته الأعمال، وطريق الجنة ليس مفروشًا بالورود والرياحين، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «وحفت الجنة بالمكاره»[3]. وقال صلى الله عليه وسلم: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة»[4]، وقال صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاءً الأمثل فالأمثل»[5]. وقد أحسن القائل: فدرب الصاعدين كما علمتم ![]() به الأشواك تكثر لا الورود[6] ![]() ![]() ![]() وقال الآخر: ومن يتهيب صعود الجبال ![]() يعش أبد الدهر بين الحفر ![]() ![]() ![]() 39- أن النصر بيد الله عز وجل يجب أن يطلب منه وحده، كما هو دأب الرسل والمؤمنين معهم؛ لقوله تعالى: ﴿ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ﴾. 40- جواز استعجال النصر إذا كان ذلك على سبيل الدعاء بتعجيل النصر مع الثقة بوعد الله عز وجل وترقبه والتطلع إليه، لا على سبيل الشك، أو اليأس من نصر الله. 41-البشارة للمؤمنين بقرب نصر الله عز وجل لهم مما يقوي عزائمهم، ويثبت قلوبهم، ويجعلهم يترقبون النصر ولا يستبطئونه؛ لقوله تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾. وفي هذا بشارة لهم بفتح مكة ونصرهم على أعدائهم. 42- حسن عاقبة الصبر، وأن النصر مع الصبر وأن مع العسر يسرًا، وأن العاقبة للتقوى. 43- قدرة الله عز وجل التامة على نصر أوليائه وعلى كل شيء، وحكمته البالغة في عدم مبادرتهم بالنصر ليتطلعوا إليه ويصدقوا في بذل أسبابه. [1] أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151)، وأبو داود في الصوم (2363)، والنسائي في الصيام (2215)، والترمذي في الصوم (764)، وابن ماجه في الصيام (1638) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [2] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2804)، ومسلم في الجهاد والسير (1773) من حديث عبد الله بن عباس عن أبي سفيان رضي الله عنهم. [3] أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2823)، والترمذي في صفة الجنة (2559) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. [4] أخرجه الترمذي في الزهد (2399)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: «حديث حسن صحيح». [5] أخرجه الترمذي في الزهد (2398)، وابن ماجه في الفتن (4023) من حديث مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح». [6] هذا البيت للشاعر العراقي وليد الأعظمي في «ديوان الزوابع». انظر «الأعمال الشعرية الكاملة» (ص85).
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |