«عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله - الصفحة 35 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 5079 - عددالزوار : 2318549 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4665 - عددالزوار : 1602975 )           »          تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 39 - عددالزوار : 427 )           »          الوقفات الإيمانية مع الأسماء والصفات الإلهية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 145 )           »          مناقشة شبهات التكفيريين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 86 )           »          تكنولوجيا النانو ما لها وما عليها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 531 )           »          الألباني.. إمام الحديث في العصر الحديث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11 - عددالزوار : 5445 )           »          تجديد الإيمان بآيات الرحمن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 2890 )           »          نور الفطرة ونار الشهوة! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 101 )           »          نصائح وضوابط إصلاحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 65 - عددالزوار : 42548 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 01-01-2024, 05:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,207
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»





الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله الله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ... ﴾ [البقرة: 172 - 176]


قوله الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ [البقرة: 172 - 176].


قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾.

أمر الله عز وجل في الآيات السابقة الناس عمومًا بالأكل مما في الأرض حلالًا طيبًا، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم، ثم امتن على المؤمنين خاصة بأمرهم بالأكل من طيبات ما رزقهم الله مبينًا لهم ما حرم عليهم؛ لأنهم هم الذين يمتثلون أمر الله ويجتنبون نهيه شكرًا له، ولهذا قال: ﴿ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾.

قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ سبق الكلام عليه.

﴿ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ الأمر للامتنان والإباحة، وقد يستحب في بعض الأحوال، وقد يجب حفاظًا على بقاء النفس.

«من»: لبيان الجنس، وقيل: للتبعيض.

والمراد بالطيبات: الحلال في ذاته وعينه، بحيث لا يكون نجسًا ولا مستخبثًا ضارًّا بالبدن أو العقل، والحلال في كسبه بحيث لا يكون مسروقًا أو مغصوبًا أو من كسب حرام، كالربا والقمار والغش، ونحو ذلك.

والطيبات أيضًا ما يستطاب ويستلذ وينفع، كما قال تعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ﴾ [الأعراف: 157].

﴿ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ «ما»: موصولة، أي: من طيبات الذي رزقناكم، أي الذي أعطيناكم وأمددناكم.

﴿ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ ﴾ معطوف على ﴿ كُلُوا ﴾، وفيه التفات في التكلم إلى الغيبة، فلم يقل: «واشكرونا».

كما أن فيه إظهارًا مقام الإضمار، للإشعار بعظمة الله عز وجل، وأنه الإله المستحق للشكر وحده دون سواه.

والأمر هنا للوجوب؛ لأن شكر الله عز وجل واجب، بل هو أعظم الواجبات وأهمها وأوجبها.

والشكر الاعتراف بنعمة المنعم، والثناء عليه بها، والاستعانة بها على رضاه، قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة
يدي ولساني والضمير المحجبا[1]




وشكر الله تعالى يكون بالقلب، بالاعتراف بنعم الله باطنًا، ويكون باللسان بالاعتراف بها ظاهرًا والثناء عليه بها ونسبتها إليه، والتحدث بها، قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ [الضحى: 11].

ويكون بالجوارح بالاستعانة بها على طاعة الله تعالى والعمل الصالح، كما قال تعالى: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ﴾ [سبأ: 13].

وقام صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، وقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»[2].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله عز وجل أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾»[3].

وأمر عز وجل بالشكر بعد الأمر بالأكل من الطيبات؛ لأن الشكر يحفظ النعم الموجودة، ويجلب النعم المفقودة، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].

وقد أحسن القائل:
إذا كنت في نعمة فارعها
فإن المعاصي تزيل النعم
وحافظ عليها بشكر الإله
فإن الإله سريع النقم[4]


﴿ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾.
قدم المفعول «إياه» للحصر والاختصاص، أي: إن كنتم إياه تعبدون، وتعتقدون حقًّا تفرده بالعبادة وحده، فاشكروا له وحده؛ لأن عبادتكم له عز وجل تستلزم شكره، بل هي الشكر نفسه.

قال ابن القيم[5]: «الذي حسن مجيء «إن» ههنا الاحتجاج والإلزام، فإن المعنى: إن عبادتكم لله تستلزم شكركم له، بل هي الشكر نفسه، فإن كنتم ملتزمين لعبادته داخلين في جملتها، فكلوا من رزقه واشكروه على نعمه».

قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.

ذكر عز وجل في الآية السابقة إباحة الطيبات، ثم ذكر تحريم الخبائث، فقال: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ﴾ الآية.

كما قال تعالى في سورة النحل: ﴿ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 115].

وقال تعالى في سورة المائدة: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 3].

وقال تعالى في سورة الأنعام: ﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 145].

قوله: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ﴾ قرأ أبو جعفر «حُرِّم» بالبناء للمفعول، وقرأ الباقون ﴿ حَرَّمَ ﴾ بالبناء للفاعل، أي: إنما حرم الله عليكم الميتة، و«إنما»: أداة حصر.

والحصر: إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه؛ أي: ما حرم الله عليكم إلا هذه الأشياء المذكورة.

وذكرها بطريق الحصر وعدَّها ليدل على قلة المحرمات، وليدلل بمفهوم ذلك على كثرة الطيبات.

كما أن في ذلك تعريضًا بالمشركين الذين حرموا على أنفسهم كثيرًا من الطيبات، وأحلوا الميتة والدم، وما ذبح لغير الله.

ومعنى: ﴿ حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ﴾: أي منع، وحظر عليكم، والتحريم: الحظر والمنع.

﴿ الميتة ﴾ قرأ أبو جعفر «الميتة» بتشديد الياء، وقرأ الباقون بتخفيفها، وهما لغتان كما قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميْت ميِّت الأحياء[6]




و«الميتة» مفعول «حَرَّم»، والمعنى: إنما حرم عليكم أكل الميتة، يدل على هذا قوله في الآية قبلها: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة: 172]، ثم قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة ﴾ الآية، فهذا أشبه بالاستثناء من قوله: ﴿ كلوا ﴾؛ أي: إلا هذه الأشياء فلا تأكلوها، وفي الحديث: «إنما حرم من الميتة أكلها»[7].

و«أل» في «الميتة» تفيد العموم، فكل ميتة حرام، يحرم أكل أي جزء منها.

والميتة في اللغة: ما مات حتف أنفه.

وفي الشرع: ما مات بغير ذكاة شرعية ولا اصطياد، سواء مات حتف أنفه، أو ذبح على غير اسم الله، أو ذبح ولم يذكر اسم الله عليه، أو ذكاه من لا تحل ذبيحته كالمجوسي والمشرك والمرتد، ونحو ذلك.

﴿ والدم ﴾: معطوف هو وما بعده على الميتة، أي: وحرم عليكم الدم، أي: أكل الدم، والمراد به الدم المسفوح، وهو الذي يُسفح عند التذكية دون ما يتبقى في اللحم والعروق، ودون دم الكبد والطحال والقلب، فليس محرم.

وإنما نص عز وجل على تحريم الدم؛ لأن بعض العرب كانوا يجعلون الدم في الأمعاء، ثم يشوونها بالنار ويأكلونها، ويسمون ذلك الفصد.

وحكمة تحريم أكل الدم أو شربه أنه يورث ضراوة في الإنسان فتغلظ طباعه فيصير كالحيوان المفترس.

قال ابن تيمية[8]: «وحرم الدم المسفوح؛ لأنه مجمع قوى النفس الشهوية الغضبية وزيادته توجب طغيان هذه القوى، وهو مجرى الشيطان من البدن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»[9]».

﴿ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ﴾؛ أي: وحرم عليكم أكل لحم الخنزير، سواء ذكي أو مات حتف أنفه، وهذا يشمل لحمه وشحمه وجميع أجزائه، إما تغليبًا أو إن اللحم يشمل ذلك كله.

وحكمة تحريمه - والله أعلم - تناوله القاذورات بإفراط وقذارته، وما فيه من الأوصاف الذميمة التي تضر بالنفس والبدن، قال الأطباء: إنه يورث الدودة الوحيدة التي تؤدي إلى أعراض وأمراض كثيرة.

﴿ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ﴾: معطوف على ما قبله، و«ما»: موصولة، أي: وحرم عليكم الذي ﴿ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وهو ما ذكر عليه عند تذكيته اسم غير الله، من الأنصاب والأصنام والأوثان، أو قصد به التقرب لغير الله، حتى ولو ذكر اسم الله عليه.

و﴿ أُهِلَّ ﴾: مبني للمفعول، أي: وما أَهل عليه المهلُ لغير الله، وضمن «أُهل» معنى: «تُقرب»، فتعدى إلى المتعلق بالباء وباللام مثل: «تُقرب».

وفائدة هذا التضمين تحريم ما تقرب به لغير الله سواء ذكر اسم المتقرب إليه أم لا.

والإهلال في الأصل: رفع الصوت، قيل: مأخوذ من رفع الصوت عند رؤية الهلال، وقيل غير ذلك، ومنه الحديث: «إذا استهل المولود ورث»[10].

ومنه الإهلال بالتلبية، أي: رفع الصوت بها.

قيل: كان العرب في الجاهلية إذا ذبحوا أو نحروا للصنم صاحوا باسمه عند ذلك، فقالوا باسم اللات أو باسم العزى، ونحو ذلك.

قال السعدي[11]: «وهذا المذكور غير خاص للمحرمات، وجيء به لبيان أجناس الخبائث المدلول عليها بمفهوم قوله: ﴿ طَيِّبَاتِ ﴾، فعموم المحرمات تستفاد من الآية السابقة، من قوله: ﴿ حلالًا طيبًا ﴾ كما تقدم».

﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ ﴾ قرأ عاصم وحمزة بكسر النون لالتقاء الساكنين، وقرأ الباقون بضمها، وقرأ أبو جعفر «اضطِرَّ» بكسر الطاء، وقرأ الباقون بضمها.

و«من»: شرطية، و«اضطر» فعل الشرط، أي: فمن ألجأته الضرورة إلى الأكل من هذه المحرمات، كأن خاف على نفسه التلف بسبب جوع، أو أكره.
﴿ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ؛ أي: حال كونه غير باغ ولا عاد، أي: ﴿ غَيْرَ بَاغٍ ﴾؛ أي غير طالب لأكل المحرم، بلا ضرورة، ﴿ وَلَا عَادٍ؛ أي: ولا متجاوز حد الضرورة في الأكل، كما قال تعالى: ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 3]، وقال تعالى: ﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ [المؤمنون: 7].

﴿ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ: جواب الشرط «مَنْ»، قرن بالفاء؛ لأنه جملة اسمية، و«الإثم»: الذنب، أي: فلا ذنب عليه ولا عقوبة.

﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: تعليل للحكم قبله، فنفى عز وجل الإثم عمن ألجأته الضرورة إلى الأكل من هذه المحرمات من غير بغي ولا عدوان؛ لأنه عز وجل غفور رحيم.

و﴿ غَفُورٌ ﴾ على وزن «فعول» صفة مشبهة أو صيغة مبالغة يدل على سعة مغفرته عز وجل وكثرتها، فهو عز وجل يغفر لكثير من عباده، ويغفر الذنوب الكثيرة، بل يغفر الذنوب جميعًا، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ [النجم: 32]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].

و«المغفرة»: ستر الذنب في الدنيا عن الخلق، والتجاوز عن العقوبة عليه في الآخرة، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدني الله العبد المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه وستره، فيقرره بذنوبه، فيقول: أتعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: أي رب، فيقول الله تعالى: أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»[12].

ومنه سمي «المغفر» وهو البيضة التي توضع على الرأس؛ لأنه يستر الرأس ويقيه السهام.

﴿ رحيم؛ أي: ذو الرحمة الواسعة التي وسعت كل شيء وعمت كل حي.

والمعنى: إن الله غفور لمن أكل من هذه المحرمات حال الضرورة ﴿ رحيم؛ حيث رخَّص له الأكل في هذه الحال إبقاءً على نفسه.

قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.

قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ «إنَّ»: حرف توكيد ونصب، «يكتمون»: يخفون، و«ما»: موصولة.

و«أل» في «الكتاب» يحتمل أن تكون للجنس، فيشمل جميع ما أنزله الله من الكتب؛ التوراة والإنجيل وغيرهما، ويشمل ذلك اليهود والنصارى وغيرهم، فيكون المعنى: إن الذين يخفون الذي أنزل الله على رسله من الكتب، كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحديد: 25].

ويحتمل أن تكون «ال» للعهد، فيكون المراد بـ«الكتاب»: التوراة؛ لأنه أعظم الكتب قبل نزول القرآن، فيكون المراد بـ﴿ الذين يكتمون ﴾، أهل الكتاب، وبخاصة اليهود، والأول أعم، لكن أهل الكتاب لا شك هم أول من يدخل في هذا لكتمانهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم وما في كتبهم من الشهادة بصدق رسالته، وما جاء به من الحق.

﴿ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾: معطوف على ﴿ يكتمون ﴾؛ أي: ويأخذون ويعتاضون ﴿ به ﴾، أي: بما أنزل الله من الكتاب وبكتمانهم له.

﴿ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾، أي: عوضًا زهيدًا حقيرًا من المال والرشوة والرياسة والجاه، ونحو ذلك، فكل ذلك قليل وحقير زهيد بالنسبة لما في الآخرة، ولو كان ذلك الدنيا كلها بحذافيرها.

وفي قوله: ﴿ قليلًا ﴾ إشعار بدناءة نفوسهم حيث رضيت بالقليل.

﴿ أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ﴾ الإشارة للذين ﴿ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾، وأشار إليهم بإشارة البعيد: ﴿ أُولَئِكَ ﴾: إشارة لانحطاط منزلتهم وتحقيرًا لهم، وتشهيرًا بهم.

و«ما»: نافية، وتخصيص الأكل من بين سائر الانتفاعات؛ لأنه المقصود الأهم من جمع المال.

وقوله: ﴿ فِي بُطُونِهِمْ ﴾ للتأكيد والمبالغة؛ لأن الأكل لا يكون إلا في البطون، وهذا كقوله تعالى: ﴿ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ ﴾ [الأحزاب: 4]، وقوله تعالى: ﴿ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [النور: 15] وقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].

وكقول القائل: «سمعت بأذني، وأبصرت بعيني».

وفي قوله: ﴿ فِي بُطُونِهِمْ ﴾ تنبيه على شرهم وتقبيح لصنعهم، حيث كتموا ما أنزل الله واعتاضوا عنه بالثمن القليل من أجل بطونهم.

﴿ إلا النار ﴾ «إلا»: أداة حصر.

﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ النفي هنا ليس نفيًا لمطلق الكلام، بل نفي للكلام المطلق، أي: لا يكلمهم تكليم تكريم، ورضا ورحمة؛ لغضبه وسخطه عليهم، وهذا عذاب معنوي ينصب على قلوبهم، لا يقل عن العذاب الحسي بالنار.

ولا ينافي هذا تكليمه لهم تكليم مساءلة، وتوبيخ وتقريع وغضب؛ كقوله تعالى: ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الحجر: 92، 93]، وقوله تعالى: ﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الأعراف: 6]، وقوله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ﴾ [الكهف: 52]، وقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴾ [المؤمنون: 107، 108].

﴿ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ﴾، أي: ولا يطهرهم، ولا يثني عليهم، وهذا فيه كناية عن ذمهم.

﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي: عقاب ونكال.

﴿ أَلِيمٌ ﴾ على وزن فعيل، بمعنى «(مفْعِل»، أي: مؤلم موجع، حسيًا للأبدان، ومعنويًا للقلوب.

فقابل اشتراءهم بما أنزل الله الثمن القليل وطمَعهم بالوعيد والإخبار أنهم ﴿ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ﴾.

وقابل كتمانهم الحق وعدم نطقهم وتكلمهم به بالوعيد والإخبار بنفي تكليمه لهم يوم القيامة، فقال تعالى: ﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾.

وقابل ذلك كله بعدم تزكيتهم، وبالعذاب الأليم، فقال تعالى: ﴿ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.

قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾.

ذكر الله عز وجل في الآية السابقة الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنًا قليلًا من الدنيا، وذكر ما أعد لهم من النار والعذاب الأليم، ثم أتبع ذلك بيان أنهم بهذا العمل اختاروا الضلالة بدل الهدى، والعذاب بدل المغفرة، فما أصبرهم على النار.

﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ﴾ الإشارة للذين ﴿ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾، وأشار إليهم بإشارة البعيد- كما سبق- تحقيرًا لهم.

﴿ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ﴾؛ أي الذين اختاروا الضلالة لأنفسهم ولغيرهم، واعتاضوا بها وأخذوها بدل الهدى في الدنيا، بسبب كتمانهم الحق، للمطامع الدنية والأغراض الدنيوية، فضلوا بأنفسهم وأضلوا غيرهم.

﴿ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ﴾، أي: واختاروا العذاب واعتاضوا به، وأخذوه بدل المغفرة والستر والتجاوز عنهم في الآخرة، بما تعاطوه من أسباب العذاب، فخسروا بسبب ذلك الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال:
﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾، الفاء: استئنافية، و«ما»: نكرة تامة، ومعناها التعجب، والتقدير، أي شيء عظيم أصبرهم، كما قال تعالى: ﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ﴾ [عبس: 17].

وقال بعضهم: «ما» استفهامية فيها معنى التعجب، والتقدير: فما الذي أصبرهم على النار؟! قال أبوبكر بن عياش: «هذا استفهام ولو كانت من الصبر قال: (فما أصبرُهم) رفعًا قال: يقال للرجل: ما أصبرك؟ ما الذي فعل بك هذا؟»[13].

والآية إرشاد منه عز وجل للمخاطبين أن يتعجبوا من صبر هؤلاء على النار، وهي تعجب من ارتكابهم ما يوجب لهم النار من كتمان ما أنزل الله، فكأنهم صبروا عليها أو يدَّعون الصبر عليها.

قال قتادة: ﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾، يقول: فما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار»، وقال: «والله ما لهم عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على النار»[14].

ويحتمل أن يكون العجب من الله عز وجل يعجب من ارتكابهم ما يوجب لهم النار، كما في قوله تعالى: ﴿ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ﴾ [الصافات: 12].

على قراءة حمزة والكسائي وخلف بضم التاء.

وفي حديث أبي رزين: «عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره»[15].

والعجب من الله هو بالنظر إلى حال المتعجب منه في خروجه عن نظائره، وعما ينبغي أن يكون عليه، وليس لخفاء أسباب الشيء المتعجب منه عليه جل وعلا، فهذا مستحيل في حقه سبحانه لأنه عز وجل لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

وعلى كل فليس في الآية ما يقتضي أنهم يصبرون على النار، وقد ذكر الله عز وجل عن أصحاب النار قولهم: ﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ [المؤمنون: 107]، وقولهم: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 49]، وقولهم: ﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ﴾ [الزخرف: 77]، وغير ذلك.

قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾.

توعد الله عز وجل في الآيات السابقة الذين يكتمون ما أنزله من الكتاب ويشترون به ثمنًا قليلًا بالنار وحرمانهم من تكليم الله وتزكيته لهم، وبالعذاب الأليم، ثم أتبع ذلك ببيان سبب ذلك وهو كتمانهم الحق الذي أنزله الله عز وجل واختلافهم فيه ومشاقتهم لله تعالى.

قوله: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾ المشار إليه- كما تقدم- هو ما توعد الله به المذكورين من النار والعذاب، وحرمانهم من تكليم الله لهم وتزكيته لهم.

وجيء بالإشارة ﴿ ذَلِكَ ﴾ لربط الكلام اللاحق بالكلام السابق.

﴿ بِأَنَّ اللَّهَ ﴾ الباء: للسببية، أي: بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق الذي يجب اتباعه، وبيانه، وعدم كتمانه، فلما كتموه واشتروا به ثمنًا قليلًا استحقوا هذا الوعيد، وهذا مقتضى ما أنزل الله به الكتاب من الحق والعدل.

و(أل) في «الكتاب» للجنس، فيشمل جميع كتب الله عز وجل التوراة والإنجيل والقرآن وغير ذلك.

﴿ بالحق ﴾ الباء للملابسة، أي: متلبسًا بالحق، والحق: الأمر الثابت البين، فهو حق، وطريق وصوله حق، وهو مشتمل على الحق، أخباره صدق، وأحكامه عدل، كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾ [الأنعام: 115].

﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ ﴾، أي: الذين اختلفوا في الكتاب الذي أنزله الله بالحق فلم يتبعوا ما أنزله الله في كتبه، بل آمنوا ببعض كتب الله تعالى وكفروا ببعض، والواجب الإيمان بجميع كتب الله تعالى إجمالًا، والإيمان بالقرآن واتباعه تفصيلًا.

﴿ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾، الشقاق: الخلاف والمنازعة، مأخوذ من الشق، وهو الجانب؛ لأن كل واحد من المتنازعين يكون في شق وجانب غير شق وجانب صاحبه، والمعنى: وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي جانب بعيد عن الحق والصواب وعن الوفاق، كما قال تعالى: ﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 137].


[1] البيت لبشر؛ انظر: «المفضليات» ص (344).

[2] أخرجه البخاري في الجمعة (1130)، ومسلم في صفة القيامة (2819)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار (1644)، والترمذي في الصلاة (412)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1419) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري أيضاً من حديث عائشة رضي الله عنها، في التفسير (4837)، ومسلم في صفة القيامة (2820).

[3] أخرجه مسلم في الزكاة (1015،) والترمذي في التفسير (2989)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[4] انظر: «الدر الفريد وبيت القصيد» (2/ 395).

[5] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 380).

[6] البيت لعدي ابن الرعلاء الغساني، وهو في «الأصمعيات» ص (152)، «معجم الشعراء» ص(86).

[7] سيأتي تخريجه.

[8] انظر: «مجموع الفتاوى» (7/ 179- 180).

[9] أخرجه البخاري في الاعتكاف (2038)، ومسلم في السلام (2175)، وأبو داود في الصوم (2470)، وابن ماجه في الصيام (1779)، من حديث علي بن الحسين رضي الله عنه.

[10] أخرجه أبو داود في الفرائض (2920)، وابن ماجه في الفرائض (2751)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[11] في «تيسير الكريم الرحمن» (1/ 205).

[12] أخرجه البخاري في المظالم والغصب (2441)، ومسلم في التوبة (2768)، وابن ماجه في المقدمة (183) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

[13] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 70).

[14] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 68).

[15] ذكره ابن تيمية في «العقيدة الواسطية»، وابن كثير في «تفسيره» (1/ 367) من حديث أبي رزين، وقال ابن تيمية: «إسناده حسن»، انظر: «العقيدة الواسطية» مع شرح العثيمين (2/ 26)، وحسنه الألباني في «السلسلة الصحيحة» حديث (2810).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 01-01-2024, 09:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,207
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»





الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ... ﴾ [البقرة: 172 - 176]


قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ [البقرة: 172 - 176].

1- تصدير الخطاب بالنداء للتنبيه والعناية والانتباه؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا ﴾.

2- في نداء المؤمنين بوصف الإيمان تشريف وتكريم لهم وحث على الاتصاف بهذا الوصف، وأن امتثال ما بعده من مقتضيات الإيمان، وعدم امتثاله يعد نقصًا في الإيمان؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾.

3- الأمر بالأكل من طيبات ما رزقنا الله، وهو للامتنان والإباحة من حيث العموم، وللوجوب فيما إذا خيف الضرر أو الهلاك بتركه؛ لقوله تعالى: ﴿ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾.

4- أن كل ما يتمتع به الخلق من رزق وعطاء هو من الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 58]، وقال تعالى: ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ [الإسراء: 20].

5- أن من امتنع من الأكل من الطيبات فقد عصى أمر الله، ومن حرمها فقد كفر؛ لأن الله تعالى أمر بالأكل من الطيبات.

6- عدم جواز الأكل من الخبائث لمفهوم قوله تعالى: ﴿ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾؛ لأنها محرمة، كما قال تعالى: ﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ﴾ [الأعراف: 157].

7- وجوب الشكر لله تعالى بالعمل الصالح؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ ﴾.

8- أن القيام بشكر الله عز وجل شرط في تحقيق العبودية له- سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾.

9- أن الشكر سبب لدوام النعم وزيادتها؛ لأن الله تعالى أعقب الأمر بالأكل من طيبات رزقه ونعمه بالأمر بشكره، وفي الحديث: «إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها»[1].

10- وجوب إخلاص العبادة لله عز وجل وحده؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾، وتقديم المعمول يفيد الحصر والاختصاص.

11- أن التحليل والتحريم إلى الله عز وجل وحده؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ﴾، أي: إنما حرم الله عليكم، وسواء جاء ذلك في الكتاب أو السنة؛ لأن ذلك كله وحي من عند الله عز وجل.

12- تحريم أكل الميتة؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ﴾، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما حرم من الميتة أكلها»[2].

وتشمل الميتة ما ماتت حتف أنفها، وما لم يذكر اسم الله عليه.

ويستثنى من الميتة ميتة البحر والجراد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته»[3].

وعن ابن عمر رضي الله عنهما: «أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال»[4].

وفي حديث جابر رضي الله عنه في قصة العنبر الذي قذفه البحر فأكلوا منه نصف شهر[5].

وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد»[6].

وأما ما يعيش في البر والبحر فيعطى حكم ميتة البر، تغليبًا لجانب الحظر[7].

13- تحريم أكل الدم؛ لقوله تعالى: ﴿ والدمَ ﴾، والمراد بذلك الدم المسفوح، لقوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 145].

14- تحريم أكل لحم الخنزير؛ لقوله تعالى: ﴿ ولحمَ الخنزير ﴾، وهذا يشمل لحمه وشحمه وجميع أجزائه.

15- تحريم ما أهل به لغير الله، أي: ما ذكر اسم غير الله عليه عند تذكيته، حتى ولو ذكر معه اسم الله، كأن يقول المذكي: بسم الله واللات، أو بسم الله والولي فلان، ونحو ذلك؛ لأن هذا شرك، وقد قال الله عز وجل في الحديث القدسي: «من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه»[8].

16- تحريم ما ذبح لغير الله، كالذي يذبح تعظيمًا لصنم وتقربًا إليه، حتى ولو ذكر اسم الله عليه عند الذبح؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ﴾، وقوله تعالى في سورة المائدة: ﴿ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ﴾ [المائدة: 3].

17- حكمة الله عز وجل في تحريم هذه المذكورات لما فيها من الضرر على الأبدان والعقول وخبثها حسيًا ومعنويًا.

18- عناية الله عز وجل بالمؤمنين ورحمته بهم في منعهم عما يضرهم وحظره عليهم.

19- إباحة الأكل من الميتة وغيرها من المحرمات عند الضرورة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ ﴾، وهذا يتضمن شروطًا أربعة.

أولًا: أن يضطر إلى الأكل منها ضرورة محققة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ ﴾.

ثانيًا: أن تندفع الضرورة وتزول بذلك، فإن كانت لا تندفع بذلك أو ربما أدى تناول المحرم إلى الهلاك كأن يتناول المضطر سمًا فهذا لا يجوز.

ثالثًا: أن يكون ﴿ غير باغٍ ﴾ أي: غير طالب للأكل من هذه المحرمات بلا ضرورة؛ لقوله تعالى: ﴿ غير باغٍ ﴾.

رابعًا: أن يكون غير عاد، أي: غير متجاوز في الأكل حد الضرورة؛ لقوله تعالى: ﴿ ولا عادٍ ﴾، وقد اختلف في هذا، فذهب بعض أهل العلم إلى أنه يأكل ما يدفع الضرورة ويسد رمقه، وقيل: له أن يشبع، وظاهر الآية يدل على الأول- لكن إن غلب على ظنه أنه لا يجد غيرها فقال بعضهم: له أن يشبع أو يحمل معه شيئًا منها إن اضطر إليه أكله وإلا تركه.

واختلف في حكم الأكل من ميتة الآدمي عند الاضطرار على قولين، الأظهر منهما جواز ذلك إبقاء على النفس وحفاظًا عليها.

20- أن الضرورات تبيح المحظورات، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده وتيسيره عليهم، ولا يقف الأمر عند إباحة المحرم حال الضرورة، بل يكون أكله واجبًا في هذه الحال حفاظًا على النفس، ويأثم إن ترك الأكل حتى مات ويكون قاتلًا لنفسه.

21- أن من أكل من هذه المحرمات من غير ضرورة فهو آثم؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾.

22- إثبات صفة المغفرة الواسعة لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ﴾.

23- إثبات صفة الرحمة الواسعة لله عز وجل رحمة ذاتية ثابتة لله عز وجل، ورحمة فعلية يوصلها من يشاء من خلقه، رحمة عامة، ورحمة خاصة؛ لقوله تعالى: ﴿ رَحِيمٌ ﴾.

24- أن من مغفرة الله عز وجل ورحمته بعباده أن وسع عليهم في الأكل من المحرمات عند الاضطرار.

25- الوعيد الشديد للذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنًا قليلًا من المال والرياسة والجاه ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ﴾ الآية.

26- تحريم كتمان العلم ووجوب نشره وبذله لمن يحتاجه؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ الآية، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [البقرة: 159].

27- إثبات نزول الكتب من عند الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ ﴾، أي: من الكتب، ولقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾.

28- إثبات علو الله عز وجل بذاته وصفاته على خلقه؛ لقوله تعالى: ﴿ ما أنزل الله ﴾، وقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾، والإنزال يكون من الأعلى.

29- حقارة الدنيا بما فيها من المال والرياسة والجاه وغير ذلك بالنسبة للآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾.

30- أكل المعذبين النار في بطونهم بسبب كتمانهم ما أنزل الله في كتابه واشترائهم به ثمنًا قليلًا من الدنيا؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ﴾.

كما قال تعالى في أكلة أموال اليتامى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10].

وفي الحديث: «الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم»[9].

31- أن الجزاء من جنس العمل، فالذين يكتمون ما أنزل الله ويشترون به ثمنًا قليلًا يأكلونه ويتمتعون به في هذه الدنيا يعذبون بأكل النار في بطونهم يوم القيامة.

32- حرمان الذين يكتمون ما أنزل الله ويشترون به ثمنًا قليلًا من تكليم الله عز وجل لهم يوم القيامة كلام رضا، ومن تزكيتهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.

33- إثبات الكلام لله عز وجل وأنه عز وجل يكلم المؤمنين؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ﴾، فمفهوم هذا أنه عز وجل يكلم يوم القيامة الذين لا يكتمون ما أنزله تعالى بل يؤمنون به ويظهرونه، ولا يعتاضون به ثمنًا قليلًا من الدنيا، ويزكيهم.

34- إثبات القيامة؛ لقوله تعالى: ﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾.

35- شدة عذاب الذين يكتمون ما أنزل الله ويعتاضون به ثمنًا قليلًا من الدنيا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾، أي: مؤلم موجع حسيًا للأبدان ومعنويًا للقلوب.

36- في عطف قوله: ﴿ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ على قوله: ﴿ يكتمون ﴾، إشارة إلى أن من أعظم أسباب كتمان العلم طلب المال والرياسة والجاه، وهذا واقع مشاهد.

37- تحقير هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله تعالى ويعتاضون به ثمنًا قليلًا، وبيان سوء مسلكهم وما اختاروه لأنفسهم، حيث اختاروا الضلالة بدل الهدى، والعذاب بدل المغفرة، وتأكد وتحقق ضلالهم وعذابهم؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ﴾.

38- في تحقير المذكورين وبيان سوء ما اختاروه لأنفسهم تحذير من مسلكهم في كتمانهم ما أنزل الله والاشتراء به ثمنًا قليلًا من الدنيا، وأنه سبب ضلالهم وعذابهم.

39- إثبات الاختيار للإنسان، وأنه ليس مجبورًا على فعله؛ لقوله تعالى: ﴿ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ﴾، فهم الذين اختاروا هذا المسلك، وفي هذا رد على الجبرية.

40- أن الهدى والمغفرة في بيان ما أنزل الله من العلم والحق وإظهاره والأخذ به وعدم استبداله بغيره؛ لمفهوم قوله تعالى في الذين يكتمون ما أنزل الله: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ﴾.

41- إرشاد المخاطبين إلى التعجب من صبر هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله ويشترون به ثمنًا قليلًا على النار؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾.

42- إثبات العجب لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾، وهذا على الاحتمال الثاني في معنى الآية كما قال تعالى: ﴿ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ﴾ [الصافات: 12]، على القراءة بضم التاء، وهي قراءة سبعية، وفي حديث أبي رزين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيره»[10].

43- الإشارة إلى شدة وعظم عذاب النار؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾.

44- أن الله عز وجل إنما عذب هؤلاء بسبب كتمانهم الكتاب الذي نزله تعالى بالحق؛ لقوله عز وجل: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾.

45- إثبات الحكمة والعلة في أفعال الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾، أي: بسبب أن الله عز وجل نزل الكتاب بالحق، وفي هذا رد على الجبرية الذين ينفون الحكمة عن الله عز وجل ويقولون: إنه يفعل لمجرد المشيئة.

46- تعظيم الله عز وجل لكتبه وثناؤه عليها؛ لأنها جاءت بالحق ومن طريق الحق ومشتملة على الحق؛ لقوله تعالى: ﴿ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾.

47- شدة مشاقة المختلفين بالكتاب لله عز وجل، وشدة وبعد ما بينهم من الاختلاف؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾.

48- أن الاختلاف في كتاب الله وعدم الاهتداء بهديه سبب للشقاق البعيد.

[1] أخرجه مسلم في «الذكر والدعاء» (2734، والترمذي في الأطعمة (1816) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

[2] أخرجه مسلم في الحيض (363)، وأبو داود في الصيد (2858)، والنسائي في الفرع والعتيرة (4235)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

[3] أخرجه أبو داود في الطهارة (83)، والنسائي في المياه (332)، والترمذي في الطهارة (69)، وابن ماجه في الطهارة (386)، وأحمد (2/237، 267)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.

[4] أخرجه الشافعي في «الأم» (6/258)، وأحمد (2/97) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما موقوفًا وله حكم المرفوع.

[5] أخرجه البخاري في المغازي (436)، ومسلم في الصيد والذبائح (1935).

[6] أخرجه البخاري في الذبائح والصيد (549)، ومسلم في الصيد والذبائح (1952)، والنسائي في الصيد والذبائح (4356)، والترمذي في الأطعمة (1821).

[7] سيأتي ذكر الخلاف في حكم الانتفاع بأجزاء الميتة في غير الأكل عند تفسير قوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ﴾ [المائدة: 3].

[8] أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[9] أخرجه البخاري في الأشربة (5634)، ومسلم في اللباس في الزينة (2065)، وابن ماجه في الأشربة (3413)، من حديث أم سلمة رضي الله عنها.

[10] سبق تخريجه.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 14-01-2024, 12:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,207
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»





الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله تعالى:﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ...



قال الله تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة: 187].

سبب النزول:
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها، وأن قيس بن صِرْمَةَ الأنصاري كان صائمًا، وكان يومه ذلك يعمل في أرضه، فلما حضر الإفطار أتى امرأته، فقال: هل عندكم طعام؟ قالت: لا، ولكن أَنْطَلِقُ فأَطْلُبُ لك، فغلبته عينه فنام، وجاءت امرأته، فلما رأته نائمًا قالت: خَيْبَةً لك أنمت؟ فلما انتصف النهار غُشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم- فنزلت هذه الآية: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ إلى قوله: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾، ففرحوا بها فرحًا شديدًا»[1].

وفي رواية عن البراء: «لما نزل صوم رمضان، كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله: ﴿ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ﴾»[2].

وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن ناسًا من المسلمين أصابوا من النساء والطعام، في شهر رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: ﴿ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ﴾»[3].

قوله تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ ﴾ أي: أبيح لكم، والتحليل: ضد التحريم، وجاء «أحل» بالبناء لما لم يسم فاعله؛ لأن المُحل والمبيح معلوم، وهو الله عز وجل.

﴿ لَيْلَةَ الصِّيَامِ ﴾ ليلة: ظرف زمان، والمعنى: أحل لكم جميع ليالي الصيام، أي: جميع ليالي شهر رمضان، والليل يشمل ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر.

﴿ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ الرفث: الجماع، ﴿ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ أي: إلى زوجاتكم، أي: أحل لكم ليالي الصيام جماع زوجاتكم، سواء كان ذلك بعد صلاة العشاء أو قبلها، بعد النوم أو قبله.

وكان الأمر في ابتداء الإسلام، وفي أول مشروعية الصيام أنه إذا صلى أحدهم العشاء أو نام حرم عليه الأكل والشرب والجماع إلى الليلة القابلة- كما جاء في روايات سبب النزول- فشق عليهم ذلك، فرخص الله لهم بالأكل والشرب والجماع الليل كله مطلقًا.

﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ﴾ هذه الجملة تعليل لإحلال الجماع ليالي الصيام، أي: أحللنا لكم جماع زوجاتكم ليالي الصيام؛ لأنهن ﴿ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ﴾، واللباس في الأصل ما يلبس ويستتر به، أي: لأنهن ستر لكم كاللباس، لا تستغنون عنهن، وأنتم ستر لهن كاللباس، لا يستغنين عنكم، قال الشاعر:
إذا ما الضجيع ثنى جيدها
تثنت عليه فكانت لباسا[4]




فكل من الزوجين ستر للآخر، ظاهرًا وباطنًا، وسبب لتحصينه وإعفافه، أشبه باللباس الذي تستر به العورات، وينكشف عوار كل منهما بدون الآخر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج»[5].

وكل منهما سكن للآخر؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 189].

ولهذا جعل الله - عز وجل - الزواج سُنَّة من السُّنن الكونية، ورغَّب فيه بالكتاب والسنة، وجعل الرغبة عنه من الرغبة عن السنة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لعثمان بن مظعون لما أراد التبتل، وتحريم النساء: «يا عثمان، أرغبت عن سنتي؟» قال: لا والله، يا رسول الله، ولكن سنتك أطلب، قال: «فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليك حقًّا، وإن لضيفك عليك حقًّا، وإن لنفسك عليك حقًّا، فصم وأفطر، وصل، ونم»[6].

وما حال الإنسان بلا زوج، رجلًا كان أو امرأة، إذا دخل منزله، كما يقال: «طارت العصافير في وجهه».

وهذا كناية عن الوحشة، وفقدان الأنس والسكن. وفي الحديث: «مسكين مسكين رجل ليست له امرأة, وإن كان غنيًّا من المال، ومسكينة مسكينة امرأة ليس لها زوج وإن كانت غنية من المال»[7].

﴿ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ أي: تخونون أنفسكم، بارتكابكم ما لا يجوز من الجماع، والأكل والشرب بعد النوم، أو بعد صلاة العشاء- كما حصل من بعض الصحابة رضي الله عنهم.

وفي التعبير بقوله: ﴿ تَخْتَانُونَ ﴾ ما قد يشير إلى أن البعض قد يتساهلون في هذا الأمر، ويخادعون أنفسهم في هذا، أو يبررون لها.

والوقوع في المخالفة والمعصية خيانة للنفس؛ لأن نفس الإنسان وديعة عنده يجب أن يحملها على ما فيه صلاحها وسعادتها، في دينها ودنياها وأخراها، كما قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10].

﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾ توبة الله - عز وجل- على العباد توفيقه لهم للتوبة، وقبولها منهم، أي: فتاب الله عليكم مما وقع منكم من الخيانة لأنفسكم.

وتاب عليكم أيضًا بالتوسعة لكم، والتخفيف عنكم بنسخ المنع من الجماع، والأكل والشرب بعد النوم، أو بعد صلاة العشاء، ليالي الصيام، بإباحة ذلك.

والنسخ إلى أخف توبة من الله - عز وجل - على عباده، كما قال تعالى في نسخ وجوب الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ﴾ [المجادلة: 13].

وكما قال تعالى في نسخ وجوب قيام الليل إلى استحبابه: ﴿ علِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ﴾ [المزمل: 20].

﴿ وَعَفَا عَنْكُمْ ﴾ أي: تجاوز عن عقوبتكم.

﴿ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ﴾ الفاء: استئنافية، أي: فالآن بعد هذه الرخصة جامعوا نساءكم ليالي الصيام، وتمتعوا بما أباح الله لكم منهن، ويفهم من هذا أنه قبل ذلك لم يكن مباحًا، وهو ما دلت عليه الأحاديث في سبب النزول.

والقرآن الكريم يكني عن الجماع بالمباشرة، كما يكني عن ذلك بالملامسة والمس والإفضاء.

والأمر في الآية للإباحة؛ لأنه أمر بعد حظر، وفيه إشارة إلى أن الإنسان يؤجر في إتيان أهله.

﴿ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لكم ﴾ أي: اطلبوا ﴿ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لكم ﴾ «ما» موصولة، و«كتب» بمعنى: قدر، وبمعنى «شرع»، أي: اطلبوا في جماعكم لنسائكم ما قدر الله لكم من الولد، وما شرع لكم من قضاء الوطر وإعفاف أنفسكم ونسائكم، والتقرب إلى الله- عز وجل- بذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقة» قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام، أيكون عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر»[8].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فولد بينهما ولد، لم يضره الشيطان»[9].

والمصيبة أن كثيرًا من الناس في هذا الأمر بهيمي ينزو على زوجته، كما تنزو ذكور الحيوانات على إناثها من غير استشعار لهذه المعاني.

وأيضًا: ابتغوا ما شرع الله لكم من قيام ليالي هذا الشهر، وتحري ليلة القدر، التي خصكم الله بها، والتي هي خير من ألف شهر.

﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ﴾ معطوف على قوله: ﴿ بَاشِرُوهُنَّ ﴾ والأمر فيه للإباحة- كما سبق؛ لأنه أمر بعد حظر.

﴿ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ «حتى» لانتهاء الغاية. أي: إلى غاية أن يظهر ويتميز لكم ﴿ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ ﴾ أي: بياض النهار، ﴿ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ﴾ أي: من سواد الليل.

﴿ مِنَ الْفَجْرِ ﴾.

سبب النزول:
عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: «أنزلت: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾، ولم ينزل: ﴿ مِنَ الْفَجْرِ ﴾، وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد: ﴿ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ فعلموا أنما يعني: الليل والنهار»[10].

فقوله تعالى: ﴿ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ بيان للمراد بقوله تعالى: ﴿ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾، وأن المراد به تبيُّن بياض النهار وضيائه من سواد الليل وظلمته.

كما في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: «لما نزلت هذه الآية: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ﴾ عمدت إلى عقالين، أحدهما أسود، والآخر أبيض، قال: فجعلتهما تحت وسادتي، قال: فجعلت أنظر إليهما، فلا يتبين لي الأسود من الأبيض، ولا الأبيض من الأسود، فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت. فقال: «إن وسادك إذًا لعريض، إنما ذلك بياض النهار، من سواد الليل»[11].

ومعنى قوله: ﴿ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ أي: حتى طلوع الفجر- كما في حديث عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنعنكم أذان بلال عن سحوركم، فإنه يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر»[12].

والفجر فجران: الأول الفجر الممتد في الأفق طولًا من الشرق إلى الغرب، يسطع في الأفق كأنه ذنب السرحان[13]، وبينه وبين الأفق ظلمة، ثم يزول نوره ويظلم وهو الفجر الكاذب.

والفجر الثاني: المعترض الأحمر المستطير، الممتد في الأفق من الجنوب إلى الشمال، الذي يظهر نوره ويزداد، وهو الفجر الصادق، وهو الذي يدخل بطلوعه وقت الصلاة، ويجب الإمساك. عن قيس بن طلق عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الفجر المستطيل في الأفق، ولكنه المعترض الأحمر»[14].

وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال، ولا بياض الأفق المستطيل هكذا، حتى يستطير هكذا»[15].

فأباح عز وجل الجماع ليالي الصوم والأكل والشرب حتى طلوع الفجر، وفي ذلك إشارة إلى استحباب السحور، وتأخيره، وهو ما صرحت به السنة.

فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسحروا، فإن في السحور بركة»[16].

وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر»[17].

وعن أبي ذر- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار، وأخروا السحور»[18].

ومقتضى إباحة الجماع والأكل والشرب إلى طلوع الفجر صحة صوم من أدركه الفجر وهو جنب، كما صرحت بذلك الأحاديث الصحيحة.

فعن أبي بكر بن عبدالرحمن، قال: كنت أنا وأبي، فذهبت معه، حتى دخلنا على عائشة رضي الله عنها قالت: «أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان ليصبح جنبًا من جماع غير احتلام، ثم يصومه. ثم دخلنا على أم سلمة، فقالت مثل ذلك»[19].

وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا قال: يا رسول الله، تدركني الصلاة وأنا جنب، فأصوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب، فأصوم» فقال: لست مثلنا يا رسول الله- قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: «والله، إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي»[20].

ومثل الجنب الحائض، إذا طهرت قبل الفجر فصيامها صحيح وإن لم تغتسل إلا بعد الفجر.

﴿ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ﴾ أي: ثم أكملوا الصيام إلى دخول الليل، وذلك بغروب الشمس، فالصيام الواجب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، أي: مغيب قرصها. فإذا غاب قرصها، حل الفطر، وأفطر الصائم حكمًا.

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم»[21].

وفي قوله تعالى: ﴿ إِلَى اللَّيْلِ ﴾ إشارة إلى تعجيل الفطور، كما رغبت بذلك السنة، فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر»[22].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله- عز وجل: أحب عبادي إليَّ أعجلهم فطرًا»[23].

كما أن في قوله: ﴿ إِلَى اللَّيْلِ ﴾ ما يدل على عدم مشروعية الوصال، كما صرحت بذلك السنة، فعن بشير بن الخصاصية رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، وقال: يفعل ذلك النصارى، ولكن صوموا كما أمركم الله، وأتموا الصيام إلى الليل، فإذا كان الليل فأفطروا»[24].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تواصلوا، قالوا: إنك تواصل. قال: إني لست مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني. فلم ينتهوا عن الوصال، فواصل النبي صلى الله عليه وسلم بهم يومين، أو ليلتين، ثم رأوا الهلال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو تأخر الهلال لزدتكم، كالمنكِّل لهم»[25].

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل، فليواصل إلى السحر...» الحديث[26].

﴿ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾ الآية.
ذكر ﷲ - عز وجل - حل مباشرة النساء ليالي الصيام، ثم أتبع ذلك بالنهي عنها حال الاعتكاف في المساجد، احترازًا من أن يظن جوازها مطلقًا حتى للمعتكف، فهذا أشبه بالاستثناء من قوله تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾.

قوله: ﴿ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾ الواو: عاطفة، و«لا» ناهية، والضمير «هن» يعود إلى النساء، أي: الزوجات، أي: ولا تجامعوهن.

﴿ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾ الواو: حالية، أي: حال كونكم عاكفين في المساجد.

وقوله: ﴿ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾ لبيان الواقع، فالاعتكاف الشرعي لا يكون إلا في المساجد. فلا يجوز للمعتكف في المسجد في رمضان ولا في غيره جماع زوجته، ولا فعل مقدمات الجماع، لا ليلًا ولا نهارًا، ولو خرج لحاجة فليس له فعل شيء من ذلك.

أما المباشرة بمعنى لمس البشرة البشرة لمعاطاة شيء ونحو ذلك فلا حرج فيها؛ لما روته عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إليَّ رأسه، وهو معتكف، فأرجله وأنا حائض»[27].

والاعتكاف والعكوف: ملازمة الشيء، والمداومة عليه، كما قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 52]؛ أي: ملازمون لعبادتها، مديمون على ذلك.

والاعتكاف شرعًا: لزوم مسجد لطاعة الله عز وجل والتعبد له والانقطاع إليه.

ولا يصح إلا في مسجد تقام فيه صلاة الجماعة، والأفضل أن يكون مما تقام فيه الجمعة والجماعة؛ حتى لا يحتاج للخروج لصلاة الجمعة.

وفي النهي عن مباشرة النساء حال الاعتكاف في المساجد في نهاية أحكام الصيام إشارة إلى فضل الاعتكاف في رمضان، وبخاصة في العشر الأواخر منه، اقتداءً بفعله صلى الله عليه وسلم.

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله- عز وجل- ثم اعتكف أزواجه من بعده»[28].

كما أن في ذلك إشارة أيضًا إلى أن مما يستحب للمعتكف في غير رمضان الصيام.

﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ﴾ الإشارة إلى ما سبق في الآية من إحلال الجماع والأكل والشرب ليالي الصيام، حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، بطلوع الفجر الثاني، ومن ثم إتمام الصيام إلى الليل، بغروب الشمس، والنهي عن المباشرة حال الاعتكاف في المساجد.

وأشار إلى هذه الأحكام بإشارة البعيد تعظيمًا لها.

و«حدود» جمع «حد» والحد لغة: الفاصل بين شيئين، ومنه حدود الأرض، وهي مراسيمها التي تحددها وتفصل بينها.

وحدود الله تنقسم إلى قسمين: حدود أوامر وواجبات يجب فعلها، وعدم تركها، وتعديها، كما قال تعالى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ﴾ [البقرة: 229].

والقسم الثاني: حدود نواه ومحرمات وممنوعات يجب تركها والبعد عنها، وعدم قربها، كما قال تعالى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ﴾.

قوله: ﴿ فَلَا تَقْرَبُوهَا ﴾ الفاء: للتفريع، و«لا» ناهية، أي: فلا تقربوا حدود الله، ومحرماته، بل ابتعدوا عنها واجتنبوها، كما قال عز وجل: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 32]، وذلك لأن الوسائل لها أحكام الغايات والمقاصد، فالوسيلة المؤدية إلى المحرم محرمة، فالزنا محرم، وكذا ما يؤدي إليه من الخلوة بالأجنبية، والسفور، ونحو ذلك.

فجماع المعتكف لزوجته محرم، وكذا ما يؤدي إليه من تقبيل المعتكف لزوجته، وضمه لها، ومعانقتها ونحو ذلك.

وذلك لأن من حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان ابن بشير رضي الله عنه: «إن الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه»[29].

ولهذا فإن من غير الجائز شرعًا أن يخلو الرجل بامرأة أجنبية، وقد رُوي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما»[30].

وإن من المؤسف حقًّا أن يستبيح الكثيرون الخلوة بالخادمات في بيوتهم هم وأولادهم، والخلوة بالمرأة في أماكن العمل متجاهلين حرمة هذا الأمر، وما يترتب عليه من أمور لا تحمد عقباها، وما حال هؤلاء إلا كما قيل:
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له
إياك إياك أن تبتل بالماء[31]




﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ ﴾ الكاف: اسم يفيد التشبيه بمعنى «مثل» في محل نصب صفة لموصوف محذوف وقع مفعولًا مطلقًا للفعل ﴿ يُبَيِّنُ ﴾.

أي: مثل ذلك البيان للآيات، في الصيام وأحكامه، وحكم الجماع والأكل والشرب ليالي الصيام، وحكم المباشرة للمعتكف وغير ذلك يبين الله - عز وجل - آياته الشرعية في سائر الأحكام للناس.

﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ «لعل» للتعليل، أي: لأجل أن يتقوا الله، بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، عن علم ومعرفة وبصيرة، بأحكام الله - عز وجل - وحدوده.

أي: إن الله- عز وجل- أقام الحجة على الخلق، وأوضح المحجة بما أنزل من الآيات البينات في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ليتقوه، قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 9]، وقال تعالى: ﴿ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44].

[1] أخرجه البخاري في الصوم- قوله تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ ﴾ (1915)، وأبو داود في الصوم- مبدأ فرض الصيام (2314)، والنسائي في الصيام- تأويل قوله تعالى: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ﴾ (2168)، والترمذي في التفسير (2968)، وأحمد (4/295).

[2] أخرجها البخاري في التفسير، ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ ﴾ (4508).

[3] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/236)، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/317).

[4] البيت للنابغة الجعدي: انظر «شعره» ص(81)، «جامع البيان» (3/231)، «الشعر والشعراء» (1/296).

[5] سبق تخريجه.

[6] أخرجه أبو داود في الصلاة (1369)، وأحمد (6/268)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[7] أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (1/163 رقم448) مرسلاً من حديث ابن أبي نجيح قال: قال رسول الله ﷺ، وكذا أخرجه الطبراني في «الأوسط» (6/348 رقم6589), والبيهقي في «شعب الإيمان» (7/337 رقم5097).

[8] أخرجه مسلم في الزكاة (1006)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

[9] أخرجه البخاري في الوضوء (141)، ومسلم في النكاح (1434)، وأبو داود في النكاح (2161)، والترمذي في النكاح (1092)، وابن ماجه في النكاح (1919).

[10] أخرجه البخاري في الصوم- قول الله: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِمِنَ الْفَجْرِ ﴾ (1917)، ومسلم في الصيام- بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (1091).

[11] أخرجه البخاري في التفسير (4509)، ومسلم في الصيام- في الباب السابق (1090)، وأبو داود في الصوم (2349)، والنسائي في الصيام (2169)، والترمذي في «تفسير القرآن» (2971).

[12] أخرجه البخاري في الصوم (1919)، ومسلم في الصيام (1092)، والنسائي في الأذان (637)، والترمذي في الصلاة (203).

[13] السرحان: الذئب.

[14] أخرجه أحمد (4/22) وأخرجه بمعناه أبو داود في الصوم (2348)، والترمذي في الصوم (705).

[15] أخرجه مسلم في الصيام (1094)، وأبو داود في الصوم (2346)، والنسائي في الصيام (2171)، وأحمد (5/7، 18).

[16] أخرجه البخاري في الصوم (2923)، ومسلم في الصيام (1095)، والنسائي في الصيام (2146)، والترمذي في الصوم (708)، وابن ماجه في الصيام (1692).

[17] أخرجه مسلم في الصيام (1096)، وأبو داود في الصوم (2343)، والنسائي في الصيام (2166)، والترمذي في الصوم (709).

[18] أخرجه أحمد (5/147).

[19] أخرجه البخاري في الصوم (1932)، ومسلم في الصيام (1109)، وأبو داود في الصوم (2388).

[20] أخرجه مسلم في الصيام (1110).

[21] أخرجه البخاري في الصوم- متى يحل فطر الصائم (1954)، ومسلم في الصيام- وقت انقضاء الصيام، وخروج النهار (1100)، وأبو داود في الصوم (2351)، والترمذي في الصوم (698).

[22] أخرجه البخاري في الصوم (1957)، ومسلم في الصيام (1098)، والترمذي في الصوم (699)، وابن ماجه في الصيام (1697).

[23] أخرجه الترمذي في الصوم (700)- وقال: «حديث حسن غريب».

[24] أخرجه أحمد (5/225).

[25] أخرجه البخاري في الاعتصام (7299)، ومسلم في الصيام (1103).

[26] أخرجه البخاري في الصوم (1963)، وأبو داود في الصوم (2361).

[27] أخرجه البخاري في الحيض (295)، ومسلم في الحيض (297)، وأبو داود في الصوم (2467)، والنسائي في الحيض (387)، والترمذي في الصوم (804)، وابن ماجه في الطهارة وسننها (633).

[28] أخرجه البخاري في الاعتكاف (2026)، ومسلم في الاعتكاف (1172)، وأبو داود في الصوم (2462)، والترمذي في الصوم (590).

[29] أخرجه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599)، وأبو داود في البيوع (3329)، والنسائي في البيوع (4453)، والترمذي في البيوع (1205)، وابن ماجه في الفتن (3984).

[30] ذكره الترمذي في الرضاع (1171).

[31] البيت للحلاج. انظر: «نفح الطيب» (5/292).







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 17-02-2024, 04:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,207
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



فوائد والأحكام من قوله تعالى:﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ...﴾


قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188].

1- تحريم أكل الأموال بالباطل، من أي طريق كان، سواء كان من طريق البيوع والمعاملات المحرمة، كالربا، أو من طريق الغصب والسرقة، أو غير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾.

2- وجوب حفظ المال؛ لأن به قوام الحياة والمعاش، وهو أحد الضروريات التي جاء الدين بحفظها، وذلك بكسبه من حلال، وصرفه في وجوهه المشروعة باعتدال.

3- التنديد بمن يحتالون لأكل أموال الناس بالباطل، بالإدلاء والرفع بها إلى الحكام؛ ليجعلوهم وسيلة لأكلها، بالأيمان الفاجرة، والتلبيس عليهم، ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ ﴾.

4- تحريم الرشوة؛ لما فيها من إبطال الحق، وإظهار الباطل، والتوصل إلى أكل الأموال بغير حق.

5- أن حكم الحاكم والقاضي لا يغير الشيء في الواقع ونفس الأمر، فلا يُـحل حرامًا ولا يُـحرم حلالًا.

6- الوعيد والتهديد لمن يُقدمون على أكل أموال الناس بالباطل، بأي وسيلة، وهم يعلمون حرمتها عليهم؛ لقوله تعالى: ﴿ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.

7- أن من أخذ شيئًا أو حُكم له به، وهو يعتقد أنه له، فلا إثم عليه، لكن لو علم بعد ذلك أنه ليس له؛ حرم عليه أخذه ووجب عليه رده؛ لقوله تعالى: ﴿ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.

8- تحريم الوكالة والمحاماة عن شخص مبطل في دعواه؛ لأن هذا من التعاون على الإثم وأكل الأموال بالباطل، مع العلم بذلك، وهذا يحصل كثيرًا اليوم مِن بعض مَن جعلوا المحاماة وسيلة للرزق، وصار هَمُّ الواحد منهم أن يكسب القضية؛ ليأخذ ما جعل له من جعل، غير مبالٍ بما ارتكبه من الحيَل والأسباب غير المشروعة للحصول على ذلك.

9- وجوب الحذر من فتنة الدنيا والمال، ومن الوقوع في الإثم والمحرم بسبب ذلك.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 04-03-2024, 06:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,207
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



فوائـد وأحكــام من قوله تعالى:﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ... ﴾


فوائـد وأحكــام من قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ*وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

1- وجوب قتال الكفار الذين يقاتلون المؤمنين؛ صيانة للدين، وحماية لحرمات المسلمين، ودفاعًا عنها، وقد يكون ذلك وجوبًا عينيًّا أو على الكفاية؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾.

2- يجب أن يكون القتال لإعلاء كلمة الله - عز وجل - ووفق شرعه؛ لقوله تعالى: ﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾.

3- تهييج المسلمين وتحريضهم على قتال الكفار؛ لقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾.

4- أن الجزاء من جنس العمل، وكما يدين المرء يدان؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ﴾.

5- النهي عن الاعتداء بقتل من لم يقاتل، أو بقتل النساء والصبيان ونحوهم، أو أخذ أموالهم أو غير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَعْتَدُوا ﴾.

6- عدل الدين الإسلامي حتى مع غير المسلمين في حال السلم والحرب.

7- نفي محبة الله - عز وجل - للمعتدين؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾، ويفهم من هذا إثبات محبة الله - عز وجل - لغير المعتدين على ما يليق بجلاله وعظمته.

8- وجوب قتل الكفار الذين يقاتلوننا في أي مكان وزمان وجدناهم وظفرنا بهم باستثناء المسجد الحرام، فلا يجوز قتالهم فيه، واستثناء الأشهر الحرم ذي القعدة، وذي الحجة، ومحرم، ورجب، فلا يجوز قتلهم ولا قتالهم فيها إلا إن قاتلوا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾ الآية.

9- تحريض المسلمين على إخراج الكفار كما أخرجوهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ﴾.

وفي هذا إشارة إلى أن الأحق في الخلافة في الأرض هم المسلمون، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء: 105]، وقال تعالى: ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128].

وقال تعالى: ﴿ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴾ [الأحزاب: 27]، وقال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55].

10- أن الفتنة في الدين بالكفر والشرك، والصد عن سبيل الله أشد وأعظم من القتل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾.

وهذا يؤكد وجوب قتال الكفار وقتلهم حتى لا تكون فتنة، كما قال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 193]، وقال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 39].

وقال صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله- عز وجل»[1].

11- تحريم ابتداء القتال عند المسجد الحرام، وداخل الحرم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وذلك تعظيم لحرمة الحرم، قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا البلد حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة...» الحديث[2].

12- جواز قتل الكفار وقتالهم في الحرم إذا ابتدؤوا هم بالقتال، دفعًا لشرهم، وحفاظًا على الدين وحرمات المسلمين؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ﴾، ولمنطوق قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾.

13- أن جزاء الكافرين المقاتلين للمسلمين في الحرم وغيره قتلهم في الدنيا مع ما لهم في الآخرة من العذاب الأليم في النار؛ لقوله تعالى: ﴿ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾.

14- وجوب الكف عن قتال الكفار إذا انتهوا عما هم عليه من الكفر وقتال المؤمنين والصد عن دين الله؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ وهذا يدل على كمال عدل الإسلام.

15- مغفرة الله - عز وجل - ورحمته لمن تابوا من الكفر والصد عن دينه وقتال أوليائه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.

وهذا يدل على عظيم فضل الله - عز وجل - وأنه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره.

16- إثبات صفة المغفرة الواسعة لله - عز وجل - وصفة الرحمة الواسعة له سبحانه وتعالى.

17- أن التخلية قبل التحلية، فبالتخلية زوال المرهوب، وبالتحلية حصول المطلوب، لهذا قدم المغفرة على الرحمة.

18- وجوب مقاتلة الكفار حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله وحده؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾، كما قال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 39].

والقتال في الأصل فرض كفاية، ويتعين في حالات، منها ما يلي:
الحالة الأولى: إذا حضر صف القتال، فإنه يكون في حقه فرض عين، ولا يجوز له أن ينصرف؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [الأنفال: 15، 16].

قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45].

الحالة الثانية: إذا استنفر الإمام المسلمين، فإنه يجب ويتعين الخروج على كل أحد؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التوبة: 38، 39].

الحالة الثالثة: إذا حاصر العدو البلد، فإنه يتعين القتال على جميع أهل البلد، لفك الحصار عنه، والحفاظ على حرمات المسلمين، والدفاع عنها.

19- أن الهدف والغاية من قتال الكفار حتى لا توجد فتنة بالكفر والشرك والصد عن دين الله، وأن يكون دين الله غالبًا ظاهرًا على جميع الأديان بدخول الناس فيه، وأداء الجزية ممن امتنع عن الدخول في الإسلام؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾.

20- يجب أن يكون الدين كله لله - عز وجل - وحده- عبادة وطاعة وانقيادًا له، وتحكيمًا لشرعه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾.

21- إذا انتهى الكفار عما هم عليه من الكفر والصد عن دين الله وقتال المسلمين والظلم وجب الكف عنهم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، وقتالهم في هذه الحال من العدوان عليهم، والظلم لهم.

22- أن المقاتلة لا تجوز إلا للمعتدين الظالمين مجازاة لهم على ظلمهم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾.

23- وجوب احترام الأشهر الحرم وتعظيمها؛ لقوله تعالى: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾.

24- جواز القتال في الأشهر الحرم إذا ابتدأ المشركون القتال للمسلمين فيها؛ لقوله تعالى: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾.

وقيل: بجواز القتال في الأشهر الحرم مطلقًا، وأن المنع من ذلك منسوخ بآيات القتال. وسيأتي تفصيل القول في هذا عند قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ ﴾ [البقرة: 217].

25- تطييب قلوب الصحابة رضي الله عنهم لما صدهم المشركون عام الحديبية، سنة ست من الهجرة في ذي القعدة بتمكينهم من دخول مكة، وأداء العمرة سنة سبع في شهر ذي القعدة مقاضاة لهم، ولهذا سميت عمرة القضاء.

26- أن الحرمات قصاص فمن انتهك حرمة من الحرمات، في الوقت أو المكان، أو في الأنفس والأعراض والأموال، أو غير ذلك، انتهكت حرمته واقتص منه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾.

27- يجب أن يكون القصاص من المعتدي بمثل اعتدائه، من غير زيادة؛ لقوله تعالى: ﴿ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾.

28- وجوب تقوى الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، ومن ذلك العدل مع المسلمين وغيرهم في السلم والحرب؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾.

29- إثبات معية الله - عز وجل - الخاصة للمتقين بتوفيقهم ونصرهم وحفظهم وتأييدهم وغير ذلك، ووجوب العلم بذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾.

30- شرف التقوى وفضلها، وأن فيها، وفي العلم أنه - عز وجل - مع المتقين- أعظم معين على كمال التوكل عليه - عز وجل - والثقة بوعده ونصره.

31- وجوب الإنفاق في سبيل الله، في الجهاد، وغير ذلك من وجوه الإنفاق الواجبة، من الزكاة وغيرها من النفقات، والترغيب في الصدقات والنفقات المستحبة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾.

32- وجوب الإخلاص في الإنفاق، وفي غير ذلك من الأعمال لله تعالى، وأن تكون وفق شرعه - عز وجل - لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾.

33- تحريم الإلقاء بالنفس إلى التهلكة في أمر دينها ودنياها؛ لأن النفس وديعة عند الإنسان يجب أن يحملها على ما فيه صلاحها في دينها ودنياها، فلا يعرضها لعذاب الله تعالى، وعقوبته، ولا لما فيه ضرر عليها في دنياها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾.

34- أن الانشغال بالأموال والأولاد والحروث والزروع وترك الجهاد في سبيل الله هو عين التهلكة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾.

35- أن الهلاك الحقيقي هو الهلاك في الدين، بالوقوع بالشرك والمعاصي.

36- وجوب الإحسان في عبادة الله عز وجل؛ إخلاصًا لله - عز وجل - ومتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، والإحسان إلى عباد الله بأداء حقوقهم الواجبة واستحباب الإحسان بفعل النوافل والصدقات وغير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَحْسِنُوا ﴾.

37- محبة الله - عز وجل - للمحسنين؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾، وفي هذا إثبات صفة المحبة لله - عز وجل - والترغيب في الإحسان.

38- عدم محبة الله - عز وجل - للمسيئين وغير المحسنين؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾.

39- الترغيب في الجمع بين أداء الواجبات، من العبادات والنفقات وغير ذلك، وبين فعل المستحبات من ذلك وغيره؛ لأن الله - عز وجل - أمر بالإنفاق، وأتبعه بالأمر بالإحسان.

[1] سبق تخريجه.

[2] سبق تخريجه بتمامه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 21-04-2024, 03:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,207
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

تفسير قوله تعالى:﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ... ﴾


قال الله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [البقرة: 197- 203].


قوله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾.

قوله: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾؛ أي: الحج وقته أشهر معلومات، أو وقت الحج أشهر معلومات، أو الحج ذو أشهر معلومات.

ومعنى ﴿ مَعْلُومَاتٌ ﴾ أي: معروفات مشهورات، وهي ثلاثة أشهر: شوال وذو القعدة وذو الحجة؛ لأن «أشهر» جمع، وأقل الجمع ثلاثة، وأيضًا فإن أعمال الحج لا تنتهي إلا في اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، وما بعد ذلك من الشهر وقت لأعمال الحج التي لا يفوت وقتها كالطواف والسعي والحلق، ونحو ذلك، لكن لا يجوز تأخيرها عن ذي الحجة إلا بعذر.

وقال كثير من السلف ومن بعدهم: أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، قالوا: لأن الشهرين وبعض الثالث تسمى «أشهرًا»، لاسيما إذا كانت بالأهلة. يقال: أمضى ثلاثة أشهر، وإن كان لم يمض سوى شهرين وبعض الثالث، بل إن أقل الجمع يطلق على اثنين، كما قال تعالى: ﴿ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 78]، يعني: داود وسليمان- عليهما السلام- وقال تعالى: ﴿ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ [التحريم: 4]، فجمع القلوب مع أن الخطاب لاثنتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

كما استدلوا بقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ ﴾ [البقرة: 197] قالوا: وفرض الحج، وهو الإحرام به لا يكون إلا في شوال وذي القعدة، وما قبل فجر يوم العاشر من ذي الحجة.

ولا خلاف بين أهل العلم أن الإحرام بالحج لا يصح بعد فجر يوم النحر، كما لا خلاف بينهم أن أعمال الحج لا تنتهي في اليوم العاشر، بل لا تنتهي إلا بعده، كما أن بقية الشهر كله محل لأعمال الحج، التي لا يفوت وقتها كالطواف والسعي والحلق، ونحو ذلك.

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج، إلا في شهور الحج، من أجل قول الله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾»[1].

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: «لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن من السنة، أو من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج»[2].

وعن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله، يسأل: أيهل بالحج قبل أشهر الحج؟ فقال: لا»[3].

﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾ الفاء: عاطفة، و«من» شرطية، و«فرض» فعل الشرط، وجوابه جملة: ﴿ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ ﴾، واقترن بالفاء لأنه جملة اسمية.

والضمير «فيهن» يعود إلى أشهر الحج، والمراد بعضها، أي: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة؛ لأن ما بعد طلوع الفجر يوم النحر ليس محلًا للإحرام، لانتهاء وقت الوقوف بعرفة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل الفجر فقد أدرك»[4].

فمن فاته الوقوف بعرفة فاته الحج، كما جاء في حديث عروة بن مُضَرِّس- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من شهد صلاتنا هذه- يعني صلاة الفجر بجمع- وقد وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه، وقضى تفثه»[5].

والفرض: القطع والإيجاب والإلزام، وفرض الحج يكون بنية الدخول فيه، وكذلك العمرة فرضها يكون بنية الدخول فيها، والنية محلها القلب، ولا يجوز التلفظ بها عند أي عبادة.

ومعنى ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾ أي: فمن أحرم فيهن بالحج؛ لأن الإحرام والشروع به يصيره فرضًا، حتى ولو كان حج نفل.

وقوله: ﴿ فِيهِنَّ﴾ أي: في أشهر الحج، وهي: شوال، وذو القعدة، والعشر الأول من ذي الحجة.

﴿ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ﴾ قرأ أبو جعفر وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: «فلا رفثٌ ولا فسوقٌ» بالرفع والتنوين، وكذلك قرأ أبو جعفر: «ولا جدالٌ»، وقرأ الباقون الجميع: بالفتح بلا تنوين.

والفاء في قوله: ﴿ فَلَا رَفَثَ ﴾ رابطة لجواب الشرط، و«لا» نافية، والنفي- هنا- بمعنى النهي، أي: فلا يرفث ولا يفسق ولا يجادل في الحج.

و«الرفث»: الجماع ومقدماته الفعلية والقولية، كما قال تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ [البقرة: 187]؛ أي: الجماع ومقدماته.

﴿ وَلَا فُسُوقَ ﴾: الفسوق: الخروج عن طاعة الله- عز وجل- بترك المأمورات، وارتكاب المحظورات، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ﴾ [الكهف: 50]، وقال تعالى: ﴿ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ﴾ [الحجرات: 7]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ﴾ [المائدة: 3]، وقال تعالى: ﴿ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ﴾ [الحجرات: 11].

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»[6].

ووقوع الفسوق في الحج في الحرم أشد وأعظم، ولاسيما الإخلال بواجبات الحج، وارتكاب محظوراته؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25].

فالواجب على الحاج اجتناب جميع المعاصي، قال صلى الله عليه وسلم: «من حج ولم يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه»[7].

وقال صلى الله عليه وسلم: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»[8].

﴿ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ الجدال: الخصام والمنازعة والمماراة والمغاضبة، ونحو ذلك، أي: ولا جدال ولا خصام في الحج؛ لا في أحكامه ومسائله، ولا في غير ذلك من المخاصمات والمنازعات في أمور الدين والدنيا وقت الحج؛ لأن ذلك يؤدي إلى المشاجرة والعداوة، كما يحصل من كثير من الحجاج في مخيماتهم، حول بعض مسائل الحج، أو بسبب المشاحنة على أماكن النزول، وعلى الخدمات كالماء ونحوه، وعند رمي الجمار، والطواف والسعي، وغير ذلك.

وذلك مناف لما يجب أن يكون عليه الحاج، من الذل والخضوع والانكسار لله- عز وجل- والتقرب إليه.

وسبحان العليم الخبير، عالم الغيب والشهادة، وعالم السر وأخفى، فما نهى الله- عز وجل- عنه من الجدال هو من أكثر ما يشغل الناس في حجهم.

أما الجدال بالتي هي أحسن لبيان الحق، ورد الباطل فهو واجب على الدوام، في كل زمان ومكان، وفي كل حال، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125].

﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾، لما نهاهم عن الرفث والفسوق والجدال في الحج، وما يؤدي إلى الشر، رغبهم في فعل الخير، بامتثال الأوامر.
قوله ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ ﴾ الواو: عاطفة، و«ما» شرطية، و«تفعلوا» فعل الشرط، وجوابه ﴿ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾.

و«من» في قوله: ﴿ مِنْ خَيْرٍ ﴾ بيانية، و«خير» نكرة في سياق الشرط، فتعم كل خير قليلًا كان أو كثيرًا، صغيرًا كان أو كبيرًا، واجبًا كان أو مندوبًا، ومن ذلك فعل ما أمر الله به من أحكام الحج.

﴿ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾؛ أي: يحيط به- عز وجل- علمًا، ويحصيه عددًا ويجازيكم عليه.

وفي هذا ترغيب وحث على الإكثار من أفعال الخير، من أنواع القربات، من صلاة وطواف وصيام، وصدقة وإحسان فعلي وقولي، وأنه لن يضيع عند الله عز وجل.

كما قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7]، وقال تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ﴾ [طه: 112].

﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾:
ســبب النــزول:
عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان أهل اليمن يحجون، ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة، سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾».

وفي رواية عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: «كان ناس يحجون بغير زاد، فأنزل الله: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾»[9].

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كانوا إذا أحرموا- ومعهم أزودتهم- رموا بها، واستأنفوا زادًا آخر، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾، فنُهوا عن ذلك، وأمروا بأن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق»[10].

قوله: ﴿ وَتَزَوَّدُوا ﴾ الزاد: ما يتزود به المسافر في سفره، أي: تزودوا في سفركم إلى الحج بما تحتاجونه من مال ومأكل ومشرب وأثاث وغير ذلك؛ لأن الواجب على الإنسان أن يستغني بما آتاه الله، عما في أيدي الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ويحرم عليه أن يكون عالة وكلًا على الآخرين.

بل إنه يندب للحاج إكثار الزاد والكرم، والمنافسة في إطعام الرفقة في السفر وخدمتهم، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: «إن من كرم الرجل طيب زاده في السفر»[11].

﴿ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ هذا كما قال عز وجل لما ذكر اللباس الحسي: ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ ﴾ [الأعراف: 26].

والمعنى: فإن خير الزاد، وأنفعه للعباد، في الحال والمآل والمعاد، وأبلغه وأوصله إلى المقصود: تقوى الله- عز وجل- بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، فهي خير الزادين في الدنيا والآخرة، وهي الزاد الذي لا ينقطع نفعه، للدار التي لا تزول، ولا تحول، في جنات الخلود. قال الشاعر[12]:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
وشاهدت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله
وأنك لم ترصد لما كان أرصدا


﴿ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾: رغب عز وجل بالتقوى، ببيان أنها خير الزاد، ثم أمر بها، لإدراك هذا الخير.

﴿ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ أي: يا أصحاب العقول والأفهام النيرة، التي تهدي أصحابها وترشدهم إلى ما ينفعهم، وتمنعهم عما يضرهم، والتي هي مناط المدح، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 17، 18].

قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾.

ســبب النــزول:
عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان متجر الناس في الجاهلية عكاظ وذو المجاز، فلما جاء الإسلام تأثموا من ذلك، أو كأنهم كرهوا ذلك، حتى أنزل الله: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾»[13].

وعن أبي أمية التيمي، قال: قلت لابن عمر: «إنا قوم نُكْرِي، فهل لنا من حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون المُعَرَّف، وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم؟ قال: قلنا: بلى، فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني، فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أنتم حجاج»[14].

قوله: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ﴾ أي: ليس عليكم حرج، ولا إثم.

﴿ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ «أن», والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف, والتقدير: في أن تبتغوا, أي: أن تطلبوا زيادة الرزق من ربكم بالتجارة في موسم الحج، بالبيع والشراء والكرى، وغير ذلك، كما قال تعالى: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة: 10]، وقال تعالى: ﴿ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [المزمل: 20].

فذلك جائز، ما لم يشغل عن فعل الواجبات، وكان كسبًا حلالًا، وما لم يكن هو المقصود من الخروج للحج.

فإن شغل عن الواجبات، أو كان كسبًا حرامًا فلا يجوز، وإن كان هو المقصود بالسفر للحج، فليس لصاحبه سواه؛ لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئٍ ما نوى[15].

﴿ ﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ ﴾ الفاء: عاطفة، و«إذا ظرفية شرطية، غير عاملة و«أفضتم» فعل الشرط، والإفاضة: الاندفاع، يقال: أفاض الماء، أي: اندفع، وأفاض في الكلام، أي: استمر فيه وأطال. والإفاضة من عرفات: الدفع والانصراف منها إلى المزدلفة.

و«عرفات» علم على مكان وقوف الحجاج يوم التاسع من ذي الحجة، وهو معروف.

قيل: سميت هذه البقعة «عرفات» لارتفاعها الذي عرفت به عما حولها، ومنه تسمية «الأعراف» كما في قوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ ﴾ [الأعراف: 46].

وقيل: لأن الناس يعترفون فيها بذنوبهم، ويسألون الله مغفرتها.

وقيل: لأن آدم لما أهبط هو وزوجته «حواء» تعارفا في هذا المكان.

وقيل: لأن الله بعث جبريل- عليه السلام- إلى إبراهيم، فحج به، حتى إذا أتى عرفة قال: عرفت، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك، فلذلك سميت عرفة[16].

وقيل غير ذلك.

وهي خارج الحرم، وبقية المشاعر داخل الحرم كالمزدلفة ومنى، والحكمة في ذلك- والله أعلم- ليجمع الحاج بين الحل والحرم.

والوقوف بـ«عرفات» أهم وأعظم أعمال الحج وأركانه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة»[17].

وقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة بعد الزوال[18]، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث عروة بن مضرِّس رضي الله عنه: «من شهد صلاتنا هذه- يعني صلاة الفجر في المزدلفة- وقد وقف بعرفة قبل ذلك ساعة من ليل أو نهار، فقد تم حجه، وقضى تفثه»[19].

والإفاضة من عرفات والدفع والانصراف منها إنما يكون بعد غروب الشمس، ولا يجوز الدفع قبل غروبها، كما كان يفعله أهل الجاهلية، لما ثبت في حديث جابر رضي الله عنه الطويل في صفة حجته صلى الله عليه وسلم، قال جابر: «فلم يزل واقفًا- يعني بعرفة، حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلًا، حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شنق[20] للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس، السكينة السكينة، كلما أتى جبلًا من الجبال أرخى لها قليلًا، حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء، بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئًا، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر، حين تبين له الصبح، بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًّا، فدفع قبل أن تطلع الشمس»[21].

وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه سئل: كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم حين الدفع؟ قال: «كان يسير العنق، فإذا وجد فرجة نَصّ»[22].

والعنق هو انبساط السير، والنص فوقه[23].

وعن المعرور بن سويد قال: رأيت عمر رضي الله عنه حين دفع من عرفة، كأني أنظر إليه رجلًا أصلع على بعير له، يوضع[24]، وهو يقول: «إنا وجدنا الإفاضة هي الإيضاع»[25].

قوله: ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ جواب الشرط، والفاء واقعة في جواب الشرط؛ لأنه جملة طلبية.

﴿ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾ المشعر: على وزن «مَفْعَل» اسم مكان، وهو مكان أداء الشعيرة من شعائر الله- عز وجل- والمراد به هنا المزدلفة كلها، أي: فاذكروا الله بألسنتكم وقلوبكم وجوارحكم، بصلاة المغرب والعشاء والفجر، ودعائه- عز وجل- وتكبيره وتهليله وتوحيده- كما جاء في حديث جابر في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم[26].

﴿ الْحَرَامِ ﴾ أي: ذو الحرمة؛ لأنه داخل الحرم، فعرفة مشعر حلال؛ لأنها خارج الحرم، والمزدلفة المشعر الحرام لأنها داخل الحرم، وهي كلها موقف.

عن علي رضي الله عنه قال: «لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالمزدلفة، غدا فوقف على «قُزَحَ»، وأردف الفضل، ثم قال: «هذا الموقف، وكل مزدلفة موقف»[27].

وعن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل عرفات موقف، وارفعوا عن بطن عرنة، وكل مزدلفة موقف، وارفعوا عن محسر، وكل فجاج مكة منحر، وكل أيام التشريق ذبح»[28].

﴿ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾ أمر الله -عز وجل- بذكره عند المشعر الحرام، ثم أكد الأمر بذلك مقرونًا بتنبيههم بما أنعم به عليهم من هدايتهم، وتوفيقهم للطريق المستقيم، ولمعرفة مشاعر الحج ومناسكه وأحكامه خاصة، والامتنان عليهم بذلك وهذا مما يوجب ذكره- عز وجل- وشكره.

فقوله: ﴿ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾ تأكيد وتعليل للأمر في قوله تعالى: ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾.

والكاف في قوله: ﴿ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾: للتعليل، و«ما» مصدرية، والتقدير: واذكروه لهدايته لكم.

وهداية الله تنقسم إلى قسمين: هداية الدلالة والبيان والإرشاد للطريق المستقيم، وهداية التوفيق منه- عز وجل- لسلوكه.

أي: واذكروه - عز وجل- بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم، بأنواع الذكر كلها، في مشاعر الحج وغيرها، شكرًا له على هدايته لكم بإرشادكم وتوفيقكم للطريق المستقيم، ولمعرفة مشاعر الحج ومناسكه وأحكامه، وغير ذلك من أمور دينكم.

ويحتمل أن تكون الكاف في قوله تعالى: ﴿ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾ للتشبيه، أي: واذكروه على الصفة التي هداكم وأرشدكم إليها، أي: وفق شرعه عز وجل.

﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾ هذا كما قال صلى الله عليه وسلم للأنصار: «ألم أجدكم ضلالًا فهداكم الله بي»[29].

الواو حالية، أو استئنافية و«إن» مخففة من الثقيلة، تفيد التوكيد. أي: وإنكم كنتم من قبل هداه لكم، أو قد كنتم من قبل هداه لكم بما أنزل عليكم من القرآن وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم.

﴿ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾ اللام للتوكيد، و«الضالين»: جمع ضال، أي: لمن التائهين البعيدين عن طريق الحق، وعن معرفة مشاعر الحج، ومناسكه وأحكامه، فاقدي الرشاد، وفاقدي الرشد، فأرشدكم ورشّدكم ووفقكم.

وهذا يوجب على المؤمن تذكر نعمة الله عليه بالهداية، فيشكره عليها بملازمة طاعته، وذكره وشكره، ويسأل الله الثبات على ذلك حتى الممات.

قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.

ســبب النــزول:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كانت قريش ومن يدينون دينها، يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾»[30].

قوله: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ هذا تأكيد لقوله- تعالى- قبل هذا: ﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ ﴾ أي: ثم ادفعوا ﴿ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ أي: من المكان الذي وقف فيه الناس، ودفعوا منه، وهو «عرفات».

وقد كانت قريش في الجاهلية- كما جاء في سبب النزول- لا يقفون مع الناس في عرفات» بدعوى أنهم أهل الحرم، ويقولون: لا نقف خارج الحرم. وإنما يقفون بمزدلفة؛ ولهذا جاء التوكيد بقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾.

ويحتمل أن المراد بالإفاضة في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ الدفع من المشعر الحرام، أي: من مزدلفة إلى منى لرمي جمرة العقبة وذبح الهدي والطواف والسعي، والمبيت بمنى ليالي أيام التشريق، ورمي الجمار وإكمال بقية المناسك، وقد ثبت عن ابن عباس ما يدل على هذا[31].

ويؤيد هذا الأمر بعده بالاستغفار والإكثار من الذكر بعد قضاء المناسك.

﴿ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ﴾ الاستغفار طلب مغفرة الذنوب من الله- عز وجل- وهو ختام الأعمال والأعمار؛ لما فيه من الاعتراف بالتقصير، والبعد عن المن بالعمل والإدلال به على الله، ولما فيه من جبر للنقص، وسد للخلل الذي يقع في العبادة.

شرع بعد انتهاء أعمال الحج، كما شرع بعد الفراغ من الصلاة أن يقول: «أستغفر الله» ثلاث مرات[32].

وشرع في نهاية الأعمار، كما قال الله- عز وجل- لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 1 - 3].

ومعنى الآية: اطلبوا من الله - عز وجل - مغفرة الذنوب.

عن شداد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها في ليلة فمات من ليلته دخل الجنة، ومن قالها في يومه فمات دخل الجنة»[33].

وعن عبدالله بن عمرو: أن أبابكر قال: يا رسول الله، علمني، دعاءً أدعو به في صلاتي؟ فقال: قل: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم»[34].

﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾؛ أي: ذو مغفرة واسعة، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ [النجم: 32]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ ﴾ [فصلت: 43]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ﴾ [الرعد: 6].

والمغفرة: ستر الذنب عن الخلق، والتجاوز عن عقوبته.


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 16-05-2024, 03:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,207
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾


قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾[البقرة: 204 - 207].

1- أن من الناس من يعجبك قوله بإظهاره بلسانه الإيمان والخير وحسن القصد ونحو ذلك، وحقيقته خلاف ذلك، وهم المنافقون؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ الآيات.

2- أن المنافق باستمراره على النفاق يشهد الله على ما في قلبه؛ لأن الله تعالى يعلم ما في قلبه من هذا النفاق؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ﴾.

3- علم الله عز وجل بما في القلوب والصدور؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ﴾، كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [الحديد: 6].

4- أن المنافق يشهد الله على ما في قلبه بحلفه أن ما في قلبه موافقًا لقوله، أي: أن باطنه موافقًا لظاهره، وهو كاذب.

5- عدم الاغترار بمن يُظهرون بأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم خلاف ما يبطنون.

6- أن خصام المنافق أشد الخصام، وهو أشد الخصوم وأعندهم وأكذبهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾.

7- ذم الخصام والجدال بالباطل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾.

وفي الحديث: «أبغض الرجال الألد الخصم»[1].

وعن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾[الزخرف: 58]»[2].

وهذا بخلاف المجادلة بالتي هي أحسن؛ لإثبات الحق وإبطال الباطل، فإن هذا مأمور به، كما قال تعالى ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125].

7- سعي المنافقين للإفساد في الأرض بما هم عليه من النفاق والكفر والمعاصي؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ﴾، كما قال تعالى عن المنافقين: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 11، 12].

8- أن المعاصي والذنوب سبب لهلاك الحرث والنسل وخراب الديار؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ﴾.

9- جبن المنافقين، ومخادعتهم فلا يجرؤون على إظهار ما هم عليه في فساد إلا إذا غابوا عن الأنظار والأسماع؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ﴾.

10- صيانة الشرع وحفظه للأموال والأنفس ومقومات الحياة، وذمه، بل وتحريمه التعدي عليها.

11- نفي محبة الله عز وجل للفساد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾، وفي هذا إثبات بغضه وكراهيته عز وجل للفساد والمفسدين.

12- إثبات محبة الله عز وجل للصلاح؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾.

13- ذم الفساد في الأرض والتحذير منه؛ لأن الله تعالى لا يحبه، بل يكرهه ويبغضه.

14- أَنَفَةُ أهل النفاق والإفساد في الأرض وتعاظمهم من أن يقال لأحدهم: اتق الله، ومن قول الحق؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ﴾.
15- أن الأَنَفَةَ والكبر والتعاظم قد يحمل على رد الحق والوقوع في الإثم؛ لقوله تعالى: ﴿ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ﴾.

16- الوعيد لمن رد الحق وأَنِفَ من قبوله بالنار؛ لقوله تعالى: ﴿ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ﴾.

17- شدة حر النار وظلمتها وبعد قعرها؛ ولهذا سميت: «جهنم».

18- ذم النار وتقبيحها فإنها بئس المهاد والمستقر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾.

19- وجوب قبول الحق، والحذر من رده، أيًّا كان قائله؛ لأن الله عز وجل توعد على ذلك بالنار.

20- أن من الناس من هو موفق ساع في خلاصه، يبيع نفسه؛ طلبًا لرضوان الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾، بخلاف من قال الله فيهم: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ﴾ الآيات.

21- جمع القرآن الكريم بين الترغيب والترهيب، بذكر أهل الحق وأهل الباطل وما أعد لكل منهم؛ ليجمع المؤمن في طريقه إلى الله تعالى بين الخوف والرجاء، والرهبة والرغبة.

22- ثناء الله عز وجل وامتداحه لمن باع نفسه طلبًا لمرضاة الله عز وجل، وقدم رضى الله على النفس؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾.

23- لا بد لصحة العمل وقبوله من إخلاص النية؛ لقوله تعالى: ﴿ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾.

24- إثبات صفة الرضا لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾.

25- إثبات صفة الرأفة لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾.

رأفة الله عز وجل العامة بجميع العباد، ورأفته الخاصة بعباده المؤمنين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾، وهذا يشمل الرأفة العامة والخاصة، ويعم جميع العباد.

[1] أخرجه البخاري في المظالم والغصب قول الله تعالى: ﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ (2457)، ومسلم في العلم – الألد الخصم (2668)، والنسائي في آداب القضاة (5423)، والترمذي في التفسير (2976) من حديث عائشة رضي الله عنها.

[2] أخرجه الترمذي في تفسير القرآن (3253)، وابن ماجه في المقدمة (48)، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 09-06-2024, 08:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,207
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله تعالى: ﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 211 - 214].

قوله تعالى: ﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.

قوله: ﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ «سل»: أمر من سأل يسأل، أصله «اسأل» فحذفت الهمزة تخفيفًا بعد نقل حركتها إلى السين الساكنة قبلها، ثم حذفت همزة الوصل لعدم الحاجة إليها.

والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، والسؤال لتوبيخ وتقريع بني إسرائيل على طغيانهم وجحودهم الحق بعد وضوح الآيات، وفي ذلك أيضًا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم تجاه تكذيب قومه.

والمراد بـ﴿ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ الموجودون في عهده صلى الله عليه وسلم.

و«بنو إسرائيل» هم ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، و«إسرائيل» هو يعقوب عليه السلام، والمراد بهم في الآية الموجودون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

﴿ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ﴾ «كم»: استفهامية تفيد التكثير، أي: كم أعطيناهم من آيات كثيرة.

و«آتينا» تنصب مفعولين، الأول هنا الضمير «هم»، والمفعول الثاني محذوف، والتقدير: كم من آية بينة آتيناهموها.

وقوله: ﴿ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ﴾: تمييز «كم».

أي: كم أعطيناهم من علامة ظاهرة، وحجة قاطعة، ودلالة واضحة على عظمة الله عز وجل، وكمال ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، ووجوب عبادته وحده، وعلى صدق رسله عليهم الصلاة والسلام فيما جاؤوا به من الآيات الشرعية في التوراة والإنجيل وغيرهما من كتبهم والتي من أعظم ما جاء فيها الشهادة بصدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

وكذا الآيات الكونية كما في الآيات التسع التي أعطيها موسى عليه الصلاة والسلام وغيرها، كالعصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، والسنين، ونقص الثمرات، وانفلاق البحر وإنجائهم وإغراق آل فرعون وهم ينظرون، وتظليل الغمام عليهم، وإنزال المن والسلوى عليهم وغير ذلك.

قال تعالى: ﴿ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ [النمل: 10 - 12]، وقال تعالى: ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴾ [الأعراف: 133].

وكذا الآيات الكونية التي أعطيها عيسى - عليه الصلاة والسلام - كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله عز وجل وغير ذلك؛ كما قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ﴾ [المائدة: 110، 111].

وقال تعالى: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 48، 49]، إلى غير ذلك من الآيات التي أعطاها الله لبني إسرائيل.

والمعنى: سل بني إسرائيل توبيخًا وتقريعًا وتبكيتًا لهم: ﴿ كَمْ آتَيْنَاهُمْ ﴾؛ أي: كم أعطينا أسلافهم وتناقلوه عنهم جيلًا بعد جيلٍ من الآيات والدلالات والحجج الكثيرة البينة الواضحة الكونية والشرعية، والتي هي أعظم نعم الله تعالى عليهم؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُون ﴾ [البقرة: 40]، وقال تعالى: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 47].

ومع ما آتاهم الله من الآيات البينات لم ينجع ذلك فيهم، بل كفروا بالله فبدلوا شكر نعمته عليهم بهذه الآيات كفرًا، ولهذا قال بعد ذلك:
﴿ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾، بعد ما ذكر عز وجل كثرة ما آتاه لبني إسرائيل من الآيات البينات، والتي هي أعظم نعمة من الله عليهم، أتبع ذلك بقوله: ﴿ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ ﴾ الآية، في إشارة واضحة إلى كفرهم بنعمة الله عليهم، وعدم شكرهم لها.

قوله: ﴿ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ ﴾؛ أي: ومن يبدل نعمة الله عليه بالآيات البينات وهي النعمة الدينية التي هي أعظم نعمة من الله على العباد، والتي بها سعادتهم وفوزهم في دينهم ودنياهم وأخراهم، ويبدل نعمته الدنيوية، بالكفر بها وعدم شكرها، أي: يجعل بدلها وبدل شكرها الكفر بها، وسُمي ذلك تبديلًا؛ لأن النعم إذا كُفْرِت فرّت وتبدلت، وإذا شُكرت قرّت واستمرت وزادت.

﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ ﴾، أي: من بعد وصول هذه النعمة إليه ومعرفته إياها.

والتصريح بهذا مع أن التبديل لا يتصور قبل المجيء للإشعار بأنهم قد بدلوها بعد ما وقفوا على تفاصيلها، وفي هذا تقبيح لفعلهم، وإظهار لشناعة حالهم، واستدلال على استحقاقهم العذاب الشديد حيث بدلوا بعد المعرفة.

﴿ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ تعليل لجواب الشرط أقيم مقامه، أي: ومن يبدل نعمة الله يعاقبه أشد عقوبة؛ لأنه شديد العقاب، ويجوز كونه هو الجواب بتقدير الضمير، أي: فإن الله شديد العقاب له.

والمعنى: فإن الله قوي الجزاء بالعقوبة والعذاب؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]، وقال تعالى عن قريش: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ﴾ [إبراهيم: 28، 29].

والعقاب: الجزاء المؤلم عن خيانة وجرم وذنب، وسمي عقابًا لأنه يعقب الخيانة والجرم والذنب.

وأظهر اسم الجلالة في مقام الإضمار، فلم يقل: فإنه شديد العقاب، بل قال: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ للتعظيم وتربية المهابة في النفوس، ولتكون هذه الجملة مستقلة بنفسها.

قوله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾.

قوله: ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ «زين»: مبني لما لم يسم فاعله، وجيء به ماضيًا للدلالة على أن ذلك قد وقع وفرغ منه، والتزيين معناه التحسين والتجميل، أي: جعل الشيء حسنًا جميلًا محببًا إلى النفس.

ويجوز أن يكون الذي زين لهم ذلك هو الله تعالى كونًا وقدرًا، أي: زين الله كونًا وقدرًا للذين كفروا الحياة الدنيا، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [النمل: 4]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 108].

ويجوز أن يكون الذي زين لهم ذلك هو الشيطان، كما قال تعالى: ﴿ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ [النمل: 24]، وقال تعالى عن الشيطان أنه قال: ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الحجر: 39]، ولا مانع من حمل الآية على المعنيين إذ لا تنافي بينهما؛ أي: زين وحسن وحبب للذين كفروا من مشركي مكة كأبي جهل وأمثاله من صناديد قريش وغيرهم من أهل الكفر الحياة الدنيا، وما فيها من المتاع والشهوات والملذات؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].

﴿ وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ الواو: عاطفة، فالجملة معطوفة على ﴿ زُيِّنَ ﴾، ويصح كون الواو للحال؛ أي: وهم يسخرون من الذين آمنوا، كما كان المشركون يسخرون من عمار وبلال وصهيب رضي الله عنهما، وفي التعبير بالمضارع دلالة على تكرار ذلك منهم واستمراره، أي: ويجعلون الذين آمنوا محل سخرية وازدراء واستهزاء بسبب إيمانهم وإقبالهم على الآخرة وإعراضهم عن اللذات وقلة ذات يدهم، وهذا يدل على إغراق هؤلاء الكفار بالافتتان في زهرة الحياة الدنيا، وتناهيهم في الغرور؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ﴾ [المطففين: 29 - 32]، وكما قال تعالى عنهم: ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 53].

﴿ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ الواو: عاطفة، أي: والذين اتقوا ربهم وعقابه، بفعل ما أمرهم الله به، وترك ما نهاهم عنه، وهم الذين آمنوا.

وعدل عن الإضمار إلى الإظهار، فلم يقل: وهم فوقهم، بل قال: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ ﴾؛ لئلا يُتوهم أن الضمير يرجع إلى الذين كفروا، ولبيان فضل التقوى والحض عليها، وأنها سبب فوقيتهم.

﴿ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ «فوقهم»؛ أي: أعلى منهم في المنازل والدرجات يوم القيامة، فالذين اتقوا في الغرفات في أعلى الجنة في جنات النعيم، والذين كفروا في أسفل الدركات في سواء الجحيم، المتقون في أعلى عليين، والكفار في أسفل سافلين.

كما أن المتقين فوق الكفار في الدنيا والآخرة مطلقًا في الشرف والكرامة.

﴿ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ الرزق: العطاء، أي: والله يعطي ﴿ مَنْ يَشَاءُ ﴾ أي: من يرد كونًا إعطاءهم من فضله من الدرجات والمنازل العالية الرفيعة، التي لا نهاية لها في الدين والدنيا والآخرة.

﴿ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾؛ أي: أنه عز وجل يعطي من يشاء العطاء الجزيل بلا محاسبة منه لهم، وأكثر مما يستحقون ولا حدَّ ولا حصر لعطائه سبحانه، فهو أكرمُ الأكرمين، وخزائنه لا تنفد؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، وقال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [غافر: 40]، وقال تعالى: ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 96]، وقال صلى الله عليه وسلم: «أنفق يا بن آدم يُنفق عليك»[1]؛ قوله تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾.

قوله: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾؛ أي: كان الناس فيما مضى قبل بعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام إليهم.

﴿ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ أي: طائفة وجماعة واحدة على دين واحد، وهو التوحيد والإسلام والفطرة التي فطر الله الناس عليها، ملة أبيهم آدم، وملة إبراهيم عليهما الصلاة والسلام.

وقيل: كان الناس أمة واحدة على الكفر والضلال والشقاء، ليس لهم نور ولا هدى ولا إيمان.

﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ﴾ الفاء: عاطفة، والمعطوف عليه محذوف معلوم من السياق اللاحق، أي: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا في دينهم فبعث الله النبيين، كما جاء في قراءة عبد الله بن مسعود وأُبي بن كعب رضي الله عنهما: «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا...»[2]، وعليه يدل قوله تعالى في الآية: ﴿ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ﴾، وقوله تعالى في سورة يونس: ﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [يونس: 19].

ومثل هذا في حذف المعطوف عليه، ودلالة السياق عليه قوله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185]، «فعدة» معطوف على محذوف، والتقدير: فأفطر فعدة، أي: فأفطر فعليه عدة.

قال ابن القيم[3] في كلامه عن الآية ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾: «والمقصود أن العدو كادهم، وتلاعب بهم حتى انقسموا قسمين، كفارًا ومؤمنين، فكادهم بعبادة الأصنام، وإنكار البعث».

ومعنى ﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ﴾ أي: فأرسل الله النبيين، وأولهم نوح عليه السلام، أرسلهم عز وجل رحمة منه، بالوحي من عنده إلى الناس، كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحديد: 25].

و﴿ النَّبِيِّينَ ﴾ جمع نبي، وأصله نبيئ، أبدلت الهمزة ياءً تخفيفًا، مشتق من «النبأ» وهو الخبر الهام، كما قال تعالى: ﴿ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ﴾ [النبأ: 1، 2]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ﴾ [ص: 67، 68].

وذلك لأن النبي منبأ ومخبر من الله، ومنبئ ومخبر للناس، فهو «فعيل» بمعنى «فاعل» وبمعنى «مفعول».

وهو أيضًا مشتق من النبوة، وهو المكان المرتفع؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذوو شرف ومكانة عالية عند الله وعند المؤمنين.

و«النبي» من أوحي إليه، فإن أُمر بالتبليغ فهو نبي رسول، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولًا.

وعدد من ذكر من الأنبياء في القرآن الكريم خمسة وعشرون، وكلهم رسل.

وعدد الرسل فيما قيل: ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولًا، وعدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي، كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا». قلت: يا رسول الله! كم الرسل؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير»[4].

﴿ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ﴾ حالان، أي: بعث الله النبيين حال كونهم مبشرين ومنذرين، أي: مبشرين لمن أطاعهم فاتقى الله بالسعادة في الدنيا والآخرة والجنة، ومنذرين لمن عصاهم وخالف أمر الله تعالى بالشقاء في الدنيا والآخرة والنار، كما قال تعالى: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 165]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ﴾ [الكهف: 56].
يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 01-01-2024, 09:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,207
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»





الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله تعالى: ﴿ يْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].

قال ابن كثير[1]: «فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولًا بالتوجه إلى بيت المقدس، ثم حولهم إلى الكعبة شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل، وامتثال أوامره، والتوجه حيثما وجه، واتباع ما شرع لهم، فهذا هو البر والتقوى، والإيمان الكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق إلى المغرب بر ولا طاعة، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه؛ ولهذا قال: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ الآية، كما قال في الأضاحي والهدايا: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِي ﴾ [الحج: 37]؛ وكما قال تعالى: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة: 19]، وكقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»[2].

قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾.

قرأ حمزة وحفص عن عاصم بنصب ﴿ البر ﴾ على أنه خبر «ليس» مقدم، والمصدر المؤوّل ﴿ أَنْ تُوَلُّوا ﴾ في محل رفع اسمها مؤخر؛ أي: ليس البرَّ توليتُكم، كما في قول الشاعر:
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم
فليس سواءً عالمٌ وجهولُ[3]




وقرأ الباقون برفع «البرُّ» على أنه اسم «ليس»، و﴿ أَنْ تُوَلُّوا ﴾: خبرها، أي: ليس البرُّ توليتكم.

و﴿ البر ﴾ كلمة جامعة لكل خصال الخير، الظاهرة والباطنة، وهو الذي تسكن إليه النفس، ويطمئن إليه القلب؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «البر ما سكنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب»[4]، وهو حسن الخلق؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «البر حسن الخلق»[5].

وهو ضد الإثم، كما قال تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2]، وهو ضد الفجور كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾ [الانفطار: 13، 14].

أي: ليس البر وكثرة الخير ﴿ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ﴾؛ أي: أن توجهوا وجوهكم ﴿ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾؛ أي: جهة المشرق والمغرب، أي: أن توجهوا في صلاتكم إلى جهة المشرق أو المغرب، والخطاب للمؤمنين ولغيرهم من أهل الكتاب ونحوهم.

واقتصر على ذكر المشرق والمغرب؛ لأنهما أشهر الجهات، أو للإشارة إلى قبلة اليهود وقبلة النصارى، ولإبطال تهويل الفريقين على المسلمين حين استقبلوا الكعبة، ففيه تعريض بأهل الكتاب في لمزهم المسلمين وتلقين المسلمين الحجة عليهم.

﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ ﴾ قرأ نافع وابن عامر: «البرُّ» بالرفع وتخفيف «لكِن»، وقرأ الباقون: ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ ﴾، أي: ولكن البر حقًا، أو حقيقة البر.

﴿ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ﴾: خبر لمبتدأ ﴿ الْبِرَّ﴾، ولكن على تقدير مضاف، أي: ولكن البر بر من آمن بالله.

والإيمان في اللغة: التصديق، وإذا عُدي بالباء تضمن مع التصديق الطُمأنينة والثبات والاستقرار.

والإيمان بالله هو الإيمان بوجوده وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.

والإيمان بالله هو أصل أركان الإيمان الستة وأولها وأعظمها، كما قال صلى الله عليه وسلم: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره»[6].

﴿ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ هذا وما بعده مجرور عطفًا على لفظ الجلالة (الله) أي: وآمن باليوم الآخر، وهو يوم القيامة وما فيه من البعث والمعاد والحساب والجزاء على الأعمال، وما فيه من المواقف والأهوال والجنة والنار، كما جاء في الكتاب والسنة، وهو أحد أركان الإيمان.

وسمي يوم القيامة بـ«اليوم الآخر»؛ لأنه ليس بعده يوم، فأخر ليلة من الدنيا صبيحتها يوم القيامة.

وكثيرًا ما يُقرن بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر في القرآن والسنة؛ لأن الإيمان باليوم الآخر من أعظم أركان الإيمان، لأنه هو الذي يحمل على العمل؛ لأن فيه الحساب والجزاء على الأعمال.

وقد رُويَ أن عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- قال: «لولا الإيمان باليوم الآخر لرأيت من الناس غير ما ترى».

أي: لتنكر الناس بعضهم لبعض، واقتحموا الموبقات.

ويدخل في اليوم الآخر كل ما يكون بعد الموت؛ لأن الإنسان إذا مات قامت قيامته.

﴿ وَالْمَلَائِكَةِ﴾؛ أي: وآمن وصدق بـ«الملائكة»، والملائكة: جمع «مَلك» وهم عالم غيبي خلقهم الله عز وجل من نور، كما قال صلى الله عليه وسلم: «خلق الله الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما ذكر لكم»[7].

والإيمان بالملائكة على وجه الإجمال واجب، بل ركن من أركان الإيمان، كما يجب الإيمان بما ذكر في الكتاب والسنة من أسمائهم وأوصافهم وأعمالهم، وغير ذلك على وجه التفصيل[8].

﴿ وَالْكِتَابِ﴾ «أل» في «الكتاب» للجنس، فـ«الكتاب» اسم جنس يشمل جميع كتب الله عز وجل، أي: وآمن وصدق بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء على وجه الإجمال والتفصيل، من أولها إلى خاتمها وأشرفها القرآن الكريم المهيمن عليها كلها.

﴿ وَالنَّبِيِّينَ﴾، النبيين جمع «نبي»، ويدخل فيهم الرسول؛ لأن كل رسول نبي، ولا عكس، قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾ [النساء: 163].

أي: وآمن بجميع النبيين والرسل من لدن آدم عليه السلام إلى نبينا محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، كما جاء ذكرهم في الكتاب والسنة على وجه الإجمال والتفصيل.

﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى ﴾ معطوف على ﴿ آمَن ﴾.

و«آتى» بمعنى «أعطى» تنصب مفعولين، الأول هنا: «المال»، والثاني: «ذوي القربى»، ويحتمل كون المفعول الثاني «المال»، والمفعول الأول «ذوي القربى».

﴿ على حبِّه ﴾؛ أي: وأعطى المال حال كونه محبًا له، راغبًا فيه؛ لحاجته إليه، أو تعلق نفسه به، لجودته أو نفاسته، أو حسنه وجماله، ونحو ذلك، وهذا أفضل الإنفاق، وأدل على الإخلاص، كما قال تعالى: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 8، 9]، وقال تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر»[9].

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾ أن تعطيه وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر»[10].

﴿ ذَوِي الْقُرْبَى﴾ أصحاب القرابة، وقدمهم؛ لأن حقهم آكد، فهم أولى من غيرهم بالصدقة والهدية إحسانًا إليهم، وتأليفًا بينهم، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذوي الرحم اثنتان: صدقة وصلة»[11].

وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنها وامرأة أخرى سألتا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما، وعلى أيتام في حجورهما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لهما أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة»[12].

ولما نزل قوله تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، قال أبو طلحة رضي الله عنه: يا رسول الله إن الله أنزل هذه الآية: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، وإن أحب مالي إليَّ (بيرحاء)، وإني أضعها صدقة لله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: «بخٍ بخٍ ذاك مال رابح، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» ففعل ذلك أبو طلحة[13].

والأولى من القرابة بالإحسان والنفقة والصدقة الأقرب فالأقرب، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال: أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك أدناك»[14].

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك»[15].

وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول»[16].

﴿ واليتامى ﴾، أي: وآتى المال اليتامى، و«اليتامى»: جمع يتيم، ويتيمة؛ مأخوذ من اليتم وهو الانفراد، وهو من مات أبوه قبل بلوغه ذكرًا كان أو أنثى، فإذا بلغ زال عنه اليتم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يتم بعد احتلام»[17].

﴿ وَالْمَسَاكِينَ﴾ جمع «مسكين» وهو الفقير الذي لا يجد شيئًا أو لا يجد كفايته في قوته ومسكنه وملبسه ونحو ذلك، سمي بذلك أخذًا من السكون واللصوق في الأرض وعدم الحركة؛ لأن الفقر أسكنه وأذله، كما قال تعالى: ﴿ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ﴾ [البلد: 16].

قال صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه»[18].

وقال صلى الله عليه وسلم: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالقائم الذي لا يفتر، وكالصائم الذي لا يفطر»[19].

﴿ وابن السبيل ﴾ «السبيل»: الطريق، و﴿ وابن السبيل ﴾ المسافر، وسمي المسافر بابن السبيل لملازمته الطريق، كما يقال لطير الماء: «ابن الماء» لملازمته إياه.

فابن السبيل وهو المسافر المجتاز من بلد إلى بلد المنقطع في سفره، الذي نفذت نفقته، يُعطى ما يحتاجه من المال في سفره، وما يوصله إلى بلده، ولو كان غنيًا في بلده.
إن الغريب له حق لغربته
على المقيمين في الأوطان والسكن
لا تنهرن غريبًا حال غربته
الدهر ينهره بالذل والمحن[20]


وهؤلاء الأصناف الأربعة من أهم ما ينبغي الإحسان إليهم، كما قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 215].

﴿ والسائلين ﴾: جمع سائل، وهو المستجدي الذي يتعرض لسؤال الناس من المال بلسان المقال، وقد يكون بلسان الحال والتعريض دون التصريح، كأن يظهر ذلك على هيئته وملبسه ونحو ذلك، كما قيل:
حال المقل ناطق
عما خفى من عيبه
فإن رأيت عاريًا
فلا تسأل عن ثوبه[21]

﴿ وفي الرقاب ﴾، أي: وفي إعتاق الرقاب من الرق، والإعانة على ذلك وعون المكاتبين لوفاء ما كوتبوا عليه، وفداء الرقاب من الأسر والقتل.

ورتب من يعطون المال على هذا النحو، فبدأ بذي القربى؛ لأنهم أولى بالمعروف، ثم اليتامى لشدة حاجتهم، ثم المساكين الذين لا مال لهم حاضرًا ولا غائبًا، ثم ابن السبيل الذي قد يكون له مال غائب، ثم السائلين الذين منهم صادق وكاذب، ثم في الرقاب الذين لهم أرباب يعولونهم، فكل صنف أشد مما بعده.

﴿ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾، معطوف على ﴿ آمَنَ ﴾، أي: ومن ﴿ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ﴾؛ أي: ﴿ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ ﴾: فرضها ونفلها إقامة تامة، بشروطها وأركانها، وواجباتها وسننها.

﴿ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾؛ أي: وأعطى الزكاة المفروضة لمستحقيها[22].

﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ معطوف على «من» الموصولة في قوله: ﴿ مَن آمَن ﴾.

و«إذا»: ظرف للزمن المستقبل مجرد من الشرط، وفي قوله: ﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ ﴾ دلالة على استمرارهم على الوفاء بعدهم، أي: الموفون بعهدهم وقت العهد، أي: في الحال التي يعاهدون فيها، فإذا عاهدوا وفوا، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ﴾ [الرعد: 20].

و«العهد» يشمل العهد فيما بينهم وبين الله عز وجل، والعهد بينهم وبين الخلق من المسلمين وغيرهم.

﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ﴾ «الصابرين»: منصوب على المدح بفعل مقدر، أي: وأخص الصابرين.

﴿ وَالصَّابِرِينَ﴾ معطوف من حيث المعنى على قوله: ﴿ مَن آمَن ﴾، ولكن لما تكررت الصفات خولف بين وجوه الإعراب، وهو أبلغ؛ لأن الكلام يصير على جمل متعددة، بخلاف اتفاق الإعراب فإنه يكون جملة واحدة.

وتغير أسلوب الكلام وسياقه أدعى للانتباه، بخلاف ما إذا كان الكلام على نسق واحد ووتيرة واحدة.

ومثل هذا قوله تعالى: ﴿ والمقيمين الصلاة ﴾ في الآية: ﴿ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 162]، فقوله: ﴿ والمقيمين الصلاة ﴾، منصوب على الاختصاص؛ أي: وأخص «المقيمين الصلاة».

ومثل هذا قول الشاعرة:
لا يبعدن قومي الذين همو
سُم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك
والطيبون معاقد الأزر[23]

بنصب «النازلين» على الاختصاص.

﴿ في البأساء ﴾، أي: في حال البأساء، وهي البؤس وشدة الفقر، فلا يحملهم ذلك على التسخط والجزع، أو البحث عن المال بطريق الحرام من السرقة والغصب ونحو ذلك.

﴿ والضراء ﴾، أي: والصابرين في حال الضراء، وفي حال المرض والسقم والضر، كما قال أيوب عليه السلام: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 83]، فلا يحملهم الضر والمرض على الجزع والتسخط من قضاء الله وقدره.

﴿ وحين البأس ﴾، أي: والصابرين حين البأس، أي: وقت القتال لأعداء الله على ما سيصبيهم من القتل والجراح، ومن هذا الصبر على الأذى في سبيل الله مما لا يستطيع الإنسان دفعه، كما في الحديث: «صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة»[24].

وترقى في ذكر هذه الأحوال من الشديد إلى الأشد، فالصبر على المرض فوق الصبر على الفقر، والصبر على القتال فوق الصبر على المرض.

وعدي الصبر على البأساء والضراء بـ«في» لكثرة وطول الابتلاء بهذين الأمرين، وأتى بـ﴿ وحين ﴾ مع «البأس»؛ لأن البأس وهو القتال حالة لا تكاد تطول غالبًا.

وخص بالثناء في الآية الصابرين في هذه الأحوال الثلاث؛ لشدة حاجتهم إلى الصبر فيها؛ لعظم ما فيها من الآلام القلبية والمعنوية، والآلام البدنية والحسية، ولأن الصبر في هذه الأحوال ينتظم أنواع الصبر كلها، الصبر على أقدار الله، وعلى طاعة الله، وعن معصية الله تعالى.

﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾، الإشارة في الموضعين تعود إلى المتصفين بالبر والأعمال والصفات المذكورة في الآية، وأشار إليهم بإشارة البعيد « أُولَئِكَ »، وأكد الجملة بكونها اسمية معرفة الطرفين تنبيهًا على عظم شأنهم ورفعة منزلتهم، وعلو مرتبتهم.

أي: أولئك المتصفون بهذه الصفات المذكورة الذين صدقوا في اتصافهم بالبر والإيمان باطنًا بالإخلاص بقلوبهم، وظاهرًا بالمتابعة بأقوالهم وأفعالهم، وصدقوا بالوفاء بالعهد مع الله عز وجل، ومع الخلق، مصداق هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا»[25].

وهذه شهادة من الله - عز وجل خير الشاهدين- بصدقهم، فأنعم وأكرم بها من شهادة، فهي أعلى وأعظم شهادة؛ لأنها شهادة العلي العظيم- سبحانه وتعالى.

﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾، الإشارة مرة ثانية تأكيدًا لمدحهم والثناء عليهم، وأكد وصفهم بالتقوى بكون الجملة اسمية معرفة الطرفين، وبضمير الفصل «هم»، أي: وأولئك الذين اتقوا الله تعالى حقًّا باجتناب ما ينافي البر.

فجمعوا بين كونهم أهل الصدق، بفعل المأمورات، وأهل التقوى بترك المحظورات المنافية للبر، وبهذا جمعوا بين البر والتقوى، كما قال عز وجل: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 2]، وفي وصفهم بالمتقين دلالة على أن القيام بالبر من التقوى، وأن التقوى من البر، وأن بينهما تداخلًا، وإذا انفرد أحدهما دل على معنى الآخر، وإذا اجتمعا فُسر «البر» بمعنى فعل المأمورات، وفسرت «التقوى» بترك المحظورات.

[1] في تفسيره (1/ 296- 297).

[2] أخرجه البخاري في الأدب (6114)، ومسلم في البر والصلة (2609) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[3] البيت للسمَوْءَل، انظر: «ديوانه» ص (92).

[4] أخرجه أحمد (4/ 694)، والدارمي في الأضاحي (2533)، من حديث أبي ثعلبة الخُشني- رضي الله تعالى عنه.

[5] أخرجه مسلم في البر والصلاة (2553)، والترمذي في الزهد (2389)، وأحمد (4/ 182) من حديث النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنه.

[6] سبق تخريجه.

[7] أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2996)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[8] انظر الكلام على قوله تعالى في آخر السورة: ﴿ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ﴾ [البقرة: 285]، والكلام على قوله تعالى في سورة النساء: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ [النساء: 97].

[9] أخرجه البخاري في الزكاة – أي الصدقة أفضل (1419)، ومسلم في الزكاة (1032)، وأبو داود في الوصايا (2865)، والنسائي في الزكاة (2542).

[10] أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (1/ 66)، وفي مصنفه – الأثر (16324)، والطبري في «جامع البيان» (3/ 71- 79)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 288)، وقد روي مرفوعاً، والصحيح وقفه.

[11] أخرجه النسائي في الزكاة- الصدقة على الأقارب (2583)، وابن ماجه في الزكاة (1844)، من حديث سلمان بن عامر رضي الله عنه.

[12] أخرجه البخاري في الزكاة – الزكاة على الأقارب (1466)، ومسلم في الزكاة (1000)، والنسائي في الزكاة (2583)، وابن ماجه في الزكاة (1834).

[13] أخرجه البخاري في الزكاة (1461)، ومسلم في الزكاة (998)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

[14] أخرجه مسلم في البر والصلاة (2548)، وابن ماجه في الوصايا (3658).

[15] أخرجه مسلم في الزكاة (995).

[16] أخرجه البخاري في الزكاة (1428)، ومسلم في الزكاة (1034، والنسائي في الزكاة (2531)، والترمذي في صفة القيامة (2463).

[17] أخرجه أبو داود في الوصايا (2873) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وله شاهد من حديث جابر وأنس رضي الله عنهما.

[18] أخرجه البخاري في تفسير قوله تعالى: ﴿ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ﴾ [البقرة: 273] (4539)، ومسلم في الزكاة – المسكين الذي لا يجد غنى ولا يفطن له فيتصدق عليه (1039)، وأبو داود في الزكاة (1631)، والنسائي في الزكاة (2571)، وأحمد (2/ 260، 393)، وانظر في تفصيل الكلام في معنى الفقير والمسكين في حال انفرادهما أو اجتماعهما عند الكلام على قول الله تعالى في سورة النساء: ﴿ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [النساء: 8]، وقوله تعالى في سورة التوبة: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60].

[19] أخرجه البخاري في النفقات (5353)، ومسلم في الزهد والرقائق (2982)، والنسائي في الزكاة (2577)، والترمذي في البر والصلاة (1969)، وابن ماجه في التجارات (2140)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[20] البيتان من قصيدة تنسب لزين العابدين، وقيل لغيره. وقد ذكر بعضها بلا نسبة في «المنازل والديار» (ص50)، «تاج العروس» (14/ 316).

[21] البيتان لبدر الدين الشافعي. انظر: «شذرات الذهب» (10/ 487).

[22] انظر ما سبق في الكلام على قوله تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 110].

[23] البيتان للخرنق بنت بدر؛ انظر: «ديوانها» ص (12).

[24] أخرجه الحاكم في «المستدرك» (3/ 432) (5646)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (3/ 172) (1515) عن ابن إسحاق.

[25] أخرجه البخاري في الأدب (6094)، ومسلم في البر والصلاة (2607)، وأبو داود في الأدب (4989)، والترمذي في البر (1971)، وابن ماجه في المقدمة (460)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 01-01-2024, 09:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,207
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»





الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ

1- أن البر ليس في تولية الوجوه قبل المشرق والمغرب؛ لقوله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾.

2- أن البر حقًّا هو الإيمان بأصول الإيمان، من الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، مع القيام بالشرائع الظاهرة، من إعطاء المال وبذله للمحتاجين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهد، والصبر.

وذلك ينتظم أعمال القلوب والجوارح، والباطن والظاهر، والإحسان في عبادة الله تعالى والإحسان إلى عباد الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ الآية.

3- أهمية صلاح القلب والأعمال الباطنة؛ لأن الله تعالى قدم ذكر الإيمان بأصول الإيمان، والإيمان بأركانه على الأعمال الظاهرة.

4- أن الإيمان بالله هو أصل الإيمان وأساسه، وأعظم أركان الإيمان وأولها؛ لأن الله تعالى بدأ به.

5- عظم وأهمية الإيمان باليوم الآخر، يوم القيامة وما فيه من الأهوال، والمواقف والحساب، والجزاء والجنة والنار لقرنه في الآية، بل في كثير من آيات القرآن الكريم بالإيمان بالله عز وجل؛ لأنه من أعظم ما يحمل على العمل.

6- إثبات وجود الملائكة ووجوب الإيمان بهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْمَلَائِكَةِ ﴾.

7- إثبات نزول الكتب السماوية من عند الله عز وجل، ووجوب الإيمان بها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْكِتَابِ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 213]، وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحديد: 25].

8- إثبات النبوات ووجوب الإيمان بالنبيين على وجه الإجمال مطلقًا، وعلى وجه التفصيل والتحديد بمن ذكر منهم في القرآن الكريم.

9- الترغيب في الصدقات وإعطاء المال للمحتاجين، من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين، وأن ذلك من أعظم البر؛ لأن الله عز وجل ذكر ذلك بعد أركان الإيمان، فقال تعالى: ﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ ﴾، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده.

10- فضل بذل المال والتصدق به مع محبته لحاجة ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ عَلَى حُبِّهِ ﴾.

11- الإشارة لحب النفوس للمال؛ لقوله تعالى: ﴿ عَلَى حُبِّهِ ؛ كما قال في سورة الفجر: ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾[الفجر: 20].

12- أن ذوي القربى أولى بالصدقة من غيرهم؛ لأن الله تعالى بدأ بهم، والأولى منهم الأقرب فالأقرب.

13- عناية الشرع الحنيف باليتامى والإنفاق عليهم لفقدهم من يعولهم وينفق عليهم؛ لقوله تعالى: ﴿ واليتامى ﴾.

14- مراعاة الإسلام حقوق ذوي الحاجات من المساكين وابن السبيل والسائلين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ ﴾.

15- أن ابن السبيل يعطى من المال والصدقة حتى ولو كان غنيًا في بلده؛ لقوله تعالى: ﴿ وَابْنَ السَّبِيلِ ﴾.

16- أن السائل يعطى من الصدقة حتى ولو كان غنيًا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالسَّائِلِينَ ﴾، وهذا مطلق عام في كل سائل، «وكان صلى الله عليه وسلم لا يرد سائلًا»[1]، «ولا يسأل على الإسلام شيئًا إلا أعطاه»[2]، وفي الحديث: «للسائل حق وإن جاء على فرس»[3]، وفيه: «ردوا السائل ولو بظلف محرق»[4].

17- حرص الإسلام على عتق الرقاب وتحريرها من الرق، وفدائها من القتل والأسر؛ لقوله تعالى: ﴿ وفي الرقاب ﴾.

18- عظم مكانة الصلاة والزكاة في الإسلام، وأن من أعظم البر إقام الصلاة كما شرعها الله تعالى بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها، وإعطاء الزكاة لمستحقيها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ﴾.

19- الثناء على الموفين بالعهد فيما بينهم وبين الله تعالى، وفي عهودهم مع الخلق، وأن ذلك من البر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾.

20- عناية الإسلام بالوفاء بالعهد، وأن ذلك من البر وتأكيد وجوب ذلك بقرنه بأركان الإيمان وبإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.

21- الترغيب في الصبر على أقدار الله تعالى وعلى طاعته عز وجل والصبر عن معصية الله تعالى، وامتداح أهله الصابرين في حال البؤس والفقر وحال المرض والضر، وحين القتال لأعداء الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ﴾.

22- شدة حاجة من أصابته البأساء والفقر، ومن أصابته الضراء والمرض، والمقاتل في سبيل الله إلى الصبر على ما يلاقيه، كل منهم من الآلام القلبية والمعنوية، من الآلام البدنية والحسية، ولهذا خص الله تعالى بالذكر الصابرين في هذه الأحوال.

23- في ختم أعمال البر التي ذكرت في الآية من الإيمان بالله واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين، وبذل المال للمحتاجين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهد بالثناء على الصابرين وامتداحهم إشارة؛ لعظم مكانة الصبر، فهو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد؛ لأنه لا يمكن القيام بما ذكر من أعمال البر وغيرها إلا بالصبر.

24- ثناء الله عز وجل على المتصفين بالبر القائمين بأعماله ظاهرًا وباطنًا، الموفين بالعهد، بوصفه لهم بالصدق والتقوى وتأكيد ذلك، والإشارة إلى علو مرتبتهم ورفعة منزلتهم؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾.

25- أن خصال البر وأعماله هي خصال التقوى بعينها؛ لقوله تعالى بعد أن ذكر خصال البر: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾.

26- فضل الصدق في الأقوال والأفعال مع الخالق عز وجل، ومع الخلق، وفضل التقوى بفعل الأوامر واجتناب النواهي؛ لأن الله تعالى مدح بهذين الوصفين أهل البر، فقال: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾.

[1] أخرجه البخاري في البيوع (2093)، وابن ماجه في اللباس (3555)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.

[2] أخرجه مسلم في الفضائل (2312) من حديث موسى بن أنس عن أبيه رضي الله عنه.

[3] أخرجه أبو داود في الزكاة – حق السائل – (1665)، من حديث حسين بن علي رضي الله عنه.

[4] أخرجه النسائي في الزكاة (2565)، وأخرجه بمعناه أبو داود في الزكاة (1667)، والترمذي في الزكاة (665) من حديث ابن بجيد الأنصاري عن جدته رضي الله عنها.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 386.62 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 380.77 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (1.51%)]