|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (11) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة" تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386) [يضل من يشاء فيخذله بعدله]. يُضِلُّ الله جل وعلا من يشاء، فيبتليه بعدله، كما قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته: "يضل من يشاء فيخذل ويبتلي عدلًا، ويهدي من يشاء ويعطي فضلًا"، فالذين أضلهم الله، هل ظلمهم الله بذلك؟ لم يظلمهم؛ لأنهم في ملكه، والمالك يفعل في ملكه ما يشاء، فهو سبحانه لما أضلهم، أضلهم وهو عادل لهم، ليس جائرًا عليهم ولا ظالمًا لهم، ويهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلًا منه، يتفضل عليهم بالهداية، يتفضل عليهم بالعصمة، يتفضل عليهم بالتوفيق سبحانه وتعالى، وهذا من خصائصه سبحانه في نفسه؛ ولهذا من وفق، فليعلم أنه نال التوفيق بفضل الله، لا بجهده؛ ولهذا في الحديث في الصحيحين: ((واعلموا أنه لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله))؛ أي: بعوض عمله، مقابل عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته))؛ لأنه سبقت له من الله الحسنى، وتفضل الله عليه، ولهذا يا إخواني، الهداية يسألها المؤمن دائمًا من الله؛ لأن الله هو المتفضل بها، والهداية هدايتان، إحداهما خاصة بالله جل وعلا، وهي هداية التوفيق والإلهام، ليست لأحد، وهي المَعنيَّة في قوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [القصص: 56]؛ أي: هداية توفيق له لهذا الدين، بتوحيده والإيمان به، وإلهام له بأن يتبع الحق، ويترك الباطل، النوع الثاني: هداية الدلالة والإرشاد، وهي وظيفة الأنبياء والمرسلين، وظيفة الدعاة، وظيفة العلماء، الآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر، وظيفتهم الدلالة والإرشاد، والنصح؛ ولهذا هذه الهداية مثبتة للعالمين، وهداية التوفيق والإلهام منفية، الله جل وعلا ييسر كلًّا لِما خُلق له، وهذا هو تقديره الذي قدره على عباده قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة، لما أمر القلم أن يكتب في حديث عبادة رضي الله عنه: ((أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتُبْ، قال: ربِّ، وما أكتب؟ قال: اكتُبْ مقادير كل شيء إلى قيام الساعة))، فجرى القلم بتعليم الله له، بما هو كائن إلى قيام الساعة، أخرج الحديث الإمام مسلم في صحيحه؛ ولهذا العباد المكلفون على نوعين، إما شقي بشقاوته بقدَر الله، أو سعيد بإسعاد الله له؛ ولهذا إذا كتب للإنسان تقديره العمري، والتقادير أربعة أنواع، التقدير الشامل، بالقلم الذي جرى بما هو كائن، هذا في اللوح المحفوظ، التقدير الثاني: التقدير العمري، وهو الذي يؤخذ من الشامل، بعمر كل إنسان وحده، إذا مضى عليه في رحم أمه أربعة أشهر، مائة وعشرون يومًا، بعث إليه ملك، وأمر بكتب أربع كلمات، بكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد، كما دل عليه حديث ابن مسعود في الصحيحين،فيكتب: شقي أو سعيد؛ أي: بما قدر عليه كونًا وأزلًا في القدر الشامل، النوع الثالث: التقدير الحولي، السنوي، وهذا الذي يكون في ليلة القدر؛ كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة الدخان في أولها: ﴿ حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا ﴾ [الدخان: 1 - 4]؛ أي: في هذه الليلة، ﴿ يُفْرَقُ ﴾ [الدخان: 4]؛ أي: يفصل من اللوح المحفوظ، ﴿ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا ﴾ [الدخان: 4، 5]، وهو التقدير الحولي السنوي؛ فإن الله تعالى ينزل في ليلة القدر ما يكون في السنة التي بعدها؛ ولهذا يدعو المؤمنون في هذه الليلة: "اللهم ما قسمت في هذه الليلة من خير، فاجعل لنا منه أوفر الحظ والنصيب"، هذا التقدير الحولي، النوع الرابع: التقدير اليومي، وهو الذي نوه عنه الله تعالى في آية الرحمن: ﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29]، معنى ذلك...من حديث ابن عباس: (إن الله خلق لوحًا محفوظًا من درة بيضاء، صفحاتها من ياقوتة حمراء، يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، ويفعل سبحانه فيه ما يشاؤه، كل يوم هو في شأن)، والآية رد على اليهود الذين قالوا: إن يوم السبت فيه استراح الله جل وعلا، فأكذبهم الله ورد عليهم وأبطل قولهم بقوله: ﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29]، وهذا هو التقدير اليومي، يُعز فيه سبحانه في كل يوم من شاء، ويُذل من شاء، ويخلق من شاء، يميت من شاء، يحيي من شاء، يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، سبحانه وتعالى. ويهدي من يشاء، فيوفقه بفضله، فكل ميسَّر إلى ما سبق من علمه وقدره، من شقي أو سعيد. [تعالى الله أن يكون في ملكه ما لا يريد، أو يكون لأحد عنه غنًى، أو يكون خالق لشيء إلا هو، رب العباد، ورب أعمالهم، والمقدر لحركاتهم وآجالهم،الباعث الرسل إليهم لإقامة الحجة عليهم]. هذا كلام محرر وجميل من المؤلف رحمه الله في القضاء والقدر. قال: [تعالى]؛ أي: تنزه وتعاظم سبحانه، [أن يكون في ملكه ما لا يريد] كما تقوله القدرية، تقول: إن كفر الكافر ومعصية العاصي ما أرادها الله، إذًا هل يعقل أن يكون في ملك الله ما لا يريد، هذا دل على عجزه، تعالى ربي عن قولهم، ودل على ضعف ملكه، أن يقع في ملكه ما لا يريد، بل لا يكون في ملكه إلا ما أراده، إما كونًا، أو أراده شرعًا؛ ولهذا القدرية نفاة القدر عندهم هذا المبدأ، من أسلاف القدرية عمرو بن عُبيد المعتزلي البصري، قالوا: إن أعرابيًّا دخل عليه المسجد في البصرة، أعرابي جاهل بفطرته غلب الدعي في علمه، مع أن عمرو بن عبيد معروف بالعبادة، ولكن على غير هدى؛ لأنه انتحل هذا المذهب الخبيث، مذهب المعتزلة، الذي هو مذهب القدرية في باب القضاء والقدر، دخل هذا الأعرابي، وقد سرقت ناقته، فرأى الحلقة في المسجد، والشيخ شيخهم عمرو بن عبيد يدرسهم فيها، فأحسن به الظن، وقال: يا شيخ، ناقتي سرقت، فادعُ الله أن يرجعها إلي، يوم بحث عنها وعجز عن تحصيلها، اتجه إلى الصالحين، وظن فيه الصلاح؛ لأنه يدرس في المسجد، لعل الله أن يستجيب دعاءهم، فيعيدها إليه، عمرو بن عبيد حي أم ميت لما طلب منه الأعرابي هذا الدعاء؟ حي، إذا هذا ما هو بشرك، كما يفعله بعض الناس الآن، يذهبون إلى الأموات أو يقصدونهم، يا بدوي، يا مرسي، يا دسوقي، يا حسين، يا عباس، يا عبدالقادر، يا رسول الله، يا عيدروس، رد لي ضالتي، هنا دعا ميتًا، ودعا من لا يسمع، فكان في دعائه مشركًا، أما إذا سأل الدعاء من حي يظن فيه الصلاح، فليس هذا بشرك، قال: يا شيخ، إن ناقتي سرقت، فادع الله أن يعيدها إلي، أو أن ترجع إلي، فرفع عمرو بن عبيد يده، قال: اللهم إنك لم تقدر أن تسرق ناقته فسرقت، اللهم فأعدها عليه، فقال الأعرابي: صه، اسكت، بلسان أهل زماننا، "كُلْ تِبْن"، اسكت، أخشى أنه يقدر أن ترجع إلي ناقتي فلا ترجع؛ لأنه لم يقدر أن تسرق فسرقت، يقول: إذا الله لم يقدر أن تسرق ناقتي فسرقت، أخشى أن يقدر أن ترجع إلي فلا ترجع إلي؛ لأنه يقع في ملكه - على قولك - ما لا يريد! فكان هذا الأعرابي بفطرته أثبت وأصح إيمانًا واعتقادًا بالقدر من هذا الدعي الجاهل المبتدع في بدعته. [أو يكون لأحد عنه غنًى]، ولا أحد مستغنٍ عن الله بفعله، ولا يمكن أن يفعل العبد فعلًا خارجًا عن تقدير الله، ولا بحاجته هو أن يكون مستغنيًا عن الله جل وعلا. [أو يكون خالق لشيء إلا هو، رب العباد]، الرب هنا: الخالق، رب العباد؛ أي: خالق العباد، [ورب أعمالهم]؛ أي: خالق أعمالهم، وتأتي الرب في اللغة بمعنى الصاحب، كما قاله عبدالمطلب، لما أخذ أبرهة الحبشي إبل أهل مكة، قال: أنا رب الإبل؛ أي: أنا صاحبها، وللبيت رب يحميه، وكذلك حال الإنسان مع رقيقه، هو ربهم؛ أي: صاحبهم، أما الرب فغالبًا ما تأتي بمعنى الخالق. [والمقدر لحركاتهم وآجالهم، الباعث الرسل]، هذا من إعمال اسم الفاعل على ما بعده، فاسم الفاعل كأننا أعملناه عمل فعله، بعث الرسل، [الباعث الرسل إليهم؛ لإقامة الحجة عليهم]، وهذا كما قال الله جل وعلا في آية النساء في آخرها: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [النساء: 165]، فهؤلاء الرسل بعثهم الله جل وعلا بالنِّذارة، بالبيان، بالهدى والدعوة، فمن أجابهم سلم ونجا، ومن كفر بهم ورد دعوتهم، هلك، فهؤلاء الرسل لإتمام إقامة الحجة من الله على عبيده بعدما قدر عليهم سبحانه أن الشياطين، شياطين الإنس وشياطين الجن، تضل هؤلاء العباد عن طريق هدى الله جل وعلا؛ ولذلك في الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: خلقتُ عبادي حنفاءَ، فاجتالتهم الشياطين))؛ ولهذا بعث الله النبيين والمرسلين مبشرين ومنذرين، بالبشارة والنِّذارة؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (12) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل [ثم ختم الرسالة والنِّذارة والنبوة بمحمد نبيه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم]. آخر الرسل وآخر الأنبياء الذين بعثهم الله برسالة منه ونِذارةٍ؛ لينذروا عباد الله إنسهم وجنهم، وبالنبوة: هو محمد عليه الصلاة والسلام، والأنبياء كثيرون، أولهم آدم، وأول الرسل نوح عليهما وعلى نبينا أكمل الصلاة والسلام، وآخرهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم. ما الفرق بين النبي والرسول؟ هل هناك فرق بينهما، الله عز وجل يقول: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ﴾ [الحج: 52]، فعطف النبي على الرسول، وهذا العطف يدل على أن بينهما فرقًا، ويستأنس لهذا بما روي في أحاديث، حديث أبي ذر وغيره، عند ابن حبان وأحمد وغيرهم: ((الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفًا، والرسل ثلاثمائة وبضعة عشر))، الحديث هذا فيه ضعف، ولكن يستأنس له بما جاء في القرآن، فثمة فرق بين الأنبياء والرسل، ولهذا أول الأنبياء آدم، وأول الرسل نوح عليهم الصلاة والسلام، إذًا ما الفرق بين النبي والرسول؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على ثمانية أقوال، أرجحها: أن النبي هو من بعث إلى قوم مؤمنين، بشريعة جديدة، أو بشريعة من كان قبله، آدم نبي أو رسول؟ نبي؛ لحديث رواه مسلم وغيره، لما سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن آدم قال: ((آدم نبي مكلَّم))؛ أي: كلمه الله جل وعلا، بعث إلى زوجته وأبنائه وهم مؤمنون، بشريعة جديدة، إذن يحيى وزكريا أنبياء بشريعة موسى عليهم الصلاة والسلام، الرسول من بعث إلى قوم مخالفين ومؤمنين، إما بشريعة جديدة مثل نوح وإبراهيم ومحمد، أو بشريعة من قبلهم، مثل إسماعيل، ولوط وإسحاق ويوسف، فهؤلاء بعثوا بشريعة أبيهم إبراهيم، إذًا الرسول مَن بعث إلى قوم مخالفين وإلى مؤمنين أيضًا، إما بشريعة جديدة أو بشريعة من قبلهم، هذا هو أرجح ما يقال في الفرق بين النبي والرسول، الأنبياء في الجملة أفضلهم أولو العزم الخمسة الذين نوه الله عنهم في آيتين في الشورى وفي الأحزاب: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾ هو محمد عليه الصلاة والسلام، ﴿ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13]، هؤلاء الخمسة، وهم الذين نوه الله عنهم في سورة الأحزاب: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [الأحزاب: 7]، فهؤلاء الخمسة هم أولو العزم، وسموا بأولي العزم، كما قال الله جل وعلا: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35]، أولو القوة والتحمُّل والصبر الشديد على ما لاقوا من أقوامهم، وهم نوح وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليهم جميعًا وآلهم وسلم، أولو العزم هم أفضل الأنبياء والرسل بإطلاق، أفضل أولي العزم الخليلان، وهما: إبراهيم وابنه محمد عليهما وآلهما الصلاة والسلام، وأفضل الخليلين: محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ فهو أفضل العالمين، أفضل ولد آدم، سيد الناس، عليه الصلاة والسلام، بعثه الله جل وعلا فجعله خاتم النبيين، آخرهم، كما جاء في آية الأحزاب: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ [الأحزاب: 40]، جعله الله بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وهذا تضمين من آية في القرآن، ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾ [الصف: 9]، وبعثه بشيرًا ونذيرًا، بالبشارة والنِّذارة، [وداعيا إلى الله بإذنه]، بإذن الله وأمره، [وسراجًا منيرًا]، وجعله سراجًا منيرًا للناس يدلّهم، فما هُدِيَ أحد بعد النبي إلا بسبب هذا النبي؛ ولهذا له عليه الصلاة والسلام أجر من تبعه واهتدى بهديه إلى يوم القيامة، وله علينا معروف، ومن معروفه علينا ومن حقه علينا أن نؤمن به، ومن ذلك أن نصلي ونسلم عليه؛ لأن صلاتنا وسلامنا عليه أداء لبعض حقه علينا، هو الداعي والدال لنا، والسراج الذي جعله الله جل وعلا لنا سراجًا منيرًا، يهدينا في دياجير الظلم، ظلم الشبهات والشكوك والكفر والمعاصي، سراج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو طريقه وسنته، وبيانه ودينه، هو السراج المنير لمن اتبع هديه واقتفى أثره عليه الصلاة والسلام، وهو آخر الأنبياء بالإجماع، وختم النبوة به عليه الصلاة والسلام دل عليه القرآن، في آية الأحزاب، ودل عليه السنَّة: ((أنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي))، من حديث أنس وحديث ثوبان وأبي هريرة في الصحيحين: ((فضلت على الأنبياء بخمس))، وفي حديث ثوبان: ((فضلت على الأنبياء بست، كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة، وختم بي النبيون، ونصرت بالرعب، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطَهُورًا، فأي رجل من أمتي أدركته الصلاة، فمعه مسجده وطَهُوره، وأوتيت جوامع الكلم، وأُحلَّت لي الغنائم)) صلوات الله وسلامه عليه. [وأنزل عليه كتابه الحكيم]. وهذا مما خص به النبي عليه الصلاة والسلام عن العالمين، أنزل الله عليه كتابه الحكيم، وهذا الكتاب الحكيم أنزل من الله جل وعلا على رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد دل على إنزاله آيات كثيرة: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ﴾ [الزمر: 23]، في آية الفرقان: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1]، ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ [الكهف: 1]، في سورة الشعراء في آخرها: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 193 – 195]، هذا المنزل هو القرآن الذي أنزله الله على رسوله. [وشرح به دينه القويم]. شرح الله بالرسول صلى الله عليه وسلم، بسنته، بقوله، بهديه، بدلِّه، ودَلُّه هو فعله وأحواله وسيرته، شرح الله به دينه القويم؛ ولهذا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير فهو من دين الله جل وعلا، وهو القائل: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه))، والله جل وعلا يقول: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ ﴾ [الحشر: 7]، وما هنا عامة، موصولة، ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]. [وهدى به الصراط المستقيم]. وهدى الله بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم، والباء هنا باء السببية؛ أي: بسبب الرسول صلى الله عليه وسلم هدى الله جل وعلا الناس إلى صراطه المستقيم، الصراط المستقيم ينوه عنه بآية الفاتحة: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]، والصراط المستقيم: صراط الله جل وعلا، هدى الله إليه بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه إلى الناس بشيرًا ونذيرًا، وبعثه إليهم داعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا، فلا هدى ولا استقامة إلا من جهة هذا الرسول وبطريق اتباعه صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كما في حديث ابن مسعود: خط خطًّا طويلًا مستقيمًا، قال: ((هذا صراط الله))، وخط عن جنباته خطوطًا، وقال: ((هذه سُبُلٌ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه))، من أجابهم إليه قذفوه في النار، الصراط المستقيم الداعي إليه نبينا عليه الصلاة والسلام، وتلك السبل عليها دعاة من شياطين الإنس والجن، وهم المحدِثون المبتدعون، المخالفون لصراط النبي عليه الصلاة والسلام وطريقه ومنهاجه وسنته وهديه عليه الصلاة والسلام. •••• إجابة أسئلة اليوم الثالث: ما هي الثمرة من هذا السؤال؟ هل هناك ثمرة وفائدة؟ ومن أجل هذا يا إخوان، طالب العلم لا يسأل سؤالًا إلا يعرف له فائدته، فإن خفيت عنه فائدته فلا يسأل، وليس كل ما ذكره العلماء من المسائل والبحوث يناسب أن يبحثها ويعتني بها طالب العلم، فطالب العلم لا يسأل إلا عما يفيده هو، وهذا السؤال عند التأمل لا فائدة منه ولا طائل تحته، هب أن القلم خلق قبل، أو اللوح خلق قبل، ما الذي يفيدنا؟ لكن نعرف ونوقن أن الله أجرى بما هو كائن في اللوح المحفوظ. التقادير الأربعة، الشامل، وأخذ منه ثلاثة، العمري والحولي واليومي، هذه الثلاثة مأخوذة من الشامل، وحديث: ((من أحب أن ينسأ له في أجله، أو في أثره، ويبارك له في رزقه، أو يوسع له في رزقه، فليصل رحمه))، هذا في كلها، في الشامل وفي العمري وفي الحولي وفي اليومي؛ لأنه مرتب بعين هذا الإنسان، لكن سبق في علم الله، هل يصل أو لا يصل؟ حتى يتحقق له موعوده بذلك، أنت لا تدري، هل هذا ثابت لك أو ليس بثابت لك؛ ولهذا مأمور بأن تتخذ الأسباب، وفعلك مهما فعلته ومهما اخترته، فلن تخرج بحال من الأحوال عما كتبه الله عليك، وقدره وقضاه عليك. ليس بمطلق، هذا قول ما هو بسديد؛ لأن الذي يجحد بأن الله يراه، حتى ولو لم يعصِ، يكون بهذا كافرًا. هذا الكلام ما هو بدقيق؛ لأن العاصي إذا عصى الله لا يعصيه على أنه لا يراه، أو أنه لا يطلع عليه، ولكن لغلبة الهوى والشهوة في نفسه، أما إذا كان يعتقد بأن الله لا يراه، حتى لو لم يعص الله، ولو أنه في عبادة دائمة، كفر بذلك، لكن من أثر الإيمان بأسماء الله وصفاته أنها تحجز المؤمن عن المعاصي والذنوب، وإذا عصى اللهَ مؤمنٌ، فقد عصاه، لا لأن الله لا يطلع عليه، أو لا يسمع كلامه، أو لا يرى مكانه، ولكن لغلبة هواه ونفسه. والله هذا جيد، ولكن أنا أحب أن يرجأ هذا الكلام حتى يأتي موضعه؛ لأن باب التكفير فيه مسائل أريد أن تنتبهوا لها بامتثال القواعد في هذا الباب، ومن ذلك إجابة على السؤال لأنك عجلت به، ولأن إكرام ذي الشيبة المسلم من صفات أهل الإيمان. من كفرهم الله جل وعلا أو كفَّرهم رسوله على ثلاث مراحل، أو ثلاثة أحوال، هناك من كفرهم الله ورسوله عينًا، فهؤلاء نكفرهم عينًا ولا كرامة، أحد منكم يشك في كفر إبليس؟! أو فرعون أو أمية بن خلف؟ أو أبي جهل؟ أو عبدالعزى؟ أو أروى بنت حرب؟ من هي أروى بنت حرب؟ أم جميل، حمالة الحطب، هؤلاء نكفرهم ولا كرامة، لماذا؟ لأن الله في كتابه القرآن ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته سيد البيان، قد كفروهم وخلّدوهم في النار، إذًا من كفرهم الله ورسوله عينًا نكفره عينًا ولا كرامة، واضح هذا؟ ننتقل إلى مرحلة أخرى: من كفرهم الله ورسوله جنسًا، فكفر الله ورسوله جنس المشركين، جنس المجوس، جنس النصارى، جنس اليهود، هل نحكم بإسلامهم وقد كفرهم الله جنسًا؟ هل يقول مسلم عاقل: إن اليهود مسلمون؟ أو: إن النصارى مسلمون؟ أو: إن المجوس أو: إن المشركين مسلمون؟ هذا يرد على الله جل وعلا؛ لهذا من نواقض الإسلام، لمن حفظ منكم نواقض الإسلام، الناقض الثالث هو: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم؛ لأنه يعترض على الله الذي كفرهم جنسًا، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم الذي كفرهم جنسًا، المرحلة الثالثة أو النوع الثالث: من كفرهم الله ورسوله وصفًا، مثل المستهزئ بالله، وبرسوله وبدينه، من قام به وصف الاستهزاء، من كفره الله ورسوله وصفًا، لوصف الكفر الذي قام به، فهؤلاء نكفرهم، ولكن من يكفرهم؟ آحاد الناس؟ لا، لا يكفرهم إلا صنفان، إما القضاة الشرعيون الذين عندهم العلم، فيحكمون على هؤلاء أنهم كفار، بعدما يجتمع فيهم شروط التكفير... ولهذا في كتاب الحدود: باب حكم المرتد، باب حد المرتد، وهذا من يعرفه ويدريه؟ القاضي الشرعي الذي درس الفقه، فهذا هو الذي يقيم تكفير المعين بالوصف الذي كفره الله جل وعلا به، أو كفره رسوله صلى الله عليه وسلم، النوع الثاني: العلماء، المتحققون في علمهم، الذين عندهم علم بالتكفير وشروطه وموانعه وضوابطه وأحواله، هم الذين ينزلونه على المُعينين، أما المبتدئ أو الجاهل أو المتعالم أو المدعي العلم فليس هذا ميدانه؛ ولهذا يغلط في هذا الباب أكثر الناس يفسد ولا يصلح، وهذا تفسير قول أهل السنة: إن التكفير حكم محض، مرده إلى الله ورسوله، حكم خالص، مرده إلى الله ورسوله، ما مرده إلى أهوائنا وإلى شهواتنا وإلى كل من خالفنا، المبتدعة من مناهجهم أنهم يكفرون من خالفهم، أهل السنة: لا، عندهم عدل وإنصاف، لا يكفرون إلا من كفره الله ورسوله، إما عينًا، أو جنسًا، أو وصفًا، هذا خلاصة الموضوع، ولعل التتمة تأتي إن شاء الله في موضعها. هذا فيما يتعلق بالتقدير العمري أو الحولي أو اليومي؛ لأن الله ذكر عن نفسه أنه يمحو ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب، فهذا من الإلحاح على الله بالدعاء، "اللهم إن كنت كتبتني شقيًّا، فاكتبني سعيدًا"، وهذا من الدعاء، مع بذل الوسائل والأسباب؛ لأن عمر رضي الله عنه وغير عمر لا يدري ما كتب الله له، لكن نحن نوقن الآن أن عمر كتبه الله مع السعداء، كما أخبرنا الله عن ذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. لا، لا يقال: إن الله كلم هؤلاء؛ لأن الله كلم هؤلاء في غير حال الدنيا، فأما ملك الموت وملائكة الله، فحالهم وحياتهم غير حياتنا، كلم الله جبريل، كلم الله إسرافيل، كلم الله ملك الموت، يكلم من يشاء ممن لا ندري من خلقه، ولكن بالنسبة للعالمين المكلفين في الدنيا، فإن المكلمين منهم هم آدم وموسى ومحمد عليه الصلاة والسلام، عبدالله بن حرام رضي الله عنه كلمه الله في حال موته، في حال الموت، وهذا يغاير حالة الحياة. الذي يقول: إني أخاف الله، ويعصي الله، فهو كاذب في قوله: إنه يخاف، عنده نوع خوف، وعنده كذب في هذا الخوف؛ لأنه لو خاف الله حقًّا ما عصاه، فأما أن يسكت لئلا يخالف قوله فعله فهذا له وجه حق، وهناك وجوه باطلة، فمسائل التكفير أنا ما أرى أن بابها الحكم عليها في الإطلاق فيما يقول هذا الخائف، ما كل خوف من المخلوق شركًا، أنت ما تخاف من الأسد؟ لو ندخل عليكم أسدًا في المسجد تخافون أم ما تخافون! ربما تطيرون في السماء، الخوف أنواع، وهذا يبدو أن قائله لم يدرِ التوحيد، لم يدرسه، هناك خوف طبيعي، هناك خوف جِبِلي، الإنسان يخاف من الظلام، يخاف من الحية، من العقرب، يخاف من السبع، يخاف من الظالم، هذا خوف طبيعي، إنما الخوف الذي هو شرك خوف السر، خوف القلب، أن تخاف من غير الله أن يضرك، كأن تخاف من مقبور، تخاف من أن يضرك في رزقك، هذا خوف الشرك، هو خوف السر، أما الخوف الطبيعي فقد وقع فيه أنبياء الله جل وعلا. لا، هو مسير في القدر الكوني العام، لكن في إرادة الإنسان في نفسه: هو مخير، مخير في أن يحضر الدرس أو لا يحضر، مخير أن يعتمر اليوم أو لا يعتمر، فهو بالنسبة إلى فعله مخير، بالنسبة إلى قضاء الله وقدره العام هو مسير. أعطني مثالًا على هذا وهذا، يعني يحتج بالقدر على المعايب، على معصية، حال عصيانه... لأن رجلًا في عهد عمر رضي الله عنه سرق، فجيء به إلى عمر، قال: (لم سرقت؟)، قال: قدر الله علي السرقة، قال: (وأنا أقطع يدك بقدر الله)، الاحتجاج بالقدر أثناء المعايب، أو على المعايب، هذا مذموم؛ لأن هذا هو فعل المشركين، ﴿ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ﴾ [الأنعام: 148]، ﴿ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [النحل: 35]، وهذا هو قول الجبرية، والعجيب أن هؤلاء يستدلون بالقدر عند المعايب، دون المصالح، لو أن جبريًّا أو هذا الذي قال: "أنا قدر الله علي السرقة وشرب الخمر"صكه كف على وجهه، قل: "يا أخي، الله قدر علي أني أرفع يديَّ وأصفق"، هل يقبل؟ لا يقبل، أو أتاه أحد فأخذ ماله، سرق ماله وهو يرى، هل يقبل؟ لا يقبل، هذا تناقضه هو في نفسه، إذًا لا يصح الاستدلال بالقدر على المعايب، إذن إنسان عمل معصية، مثل أنه كان يشرب الدخان مثلًا، أو متهاونًا في الصلاة، أو كان يحلق لحيته، أو كان يؤذي النساء في الأسواق، ثم من الله عليه وتاب، وإذا ذكر بالمعصية، أو تذكرها هو قال: "هذا أمر قضاه الله، والحمد لله تبت"، الاستدلال بالقدر على أمر كان منه، وأقلع منه أمر سائغ؛ لأن آدم عليه الصلاة والسلام لما قال له موسى: (يا أبانا آدم، أنت أخرجتنا من الجنة بمعصيتك، قال: يا موسى، أتلومني على شيء قد قدره الله علي؟)، آدم تاب أم لم يتب من المعصية، تاب وانقضى، وموسى لامه على أمر وقع منه وتاب منه، قال صلى الله عليه وسلم: ((فحجَّ آدم موسى))؛ لأنه استدل بالقدر على مصيبة، ولم يستدل به على معيبة، والحديث في الصحيحين. لا الأربع توقيفية، لكن ليست بالترتيب، ولكن رتبناها لنعرف من انحرف فيها عن الترتيب. لا، الله ما كتب إلا بما علم، لما علم سبحانه كتب، أمر القلم بأن يكتب في الكتاب، وكتب القلم بما شاءه الله، وما شاءه الله هو الذي خلقه. لا، لا، لا، ما يقال هذا، هذا ما له في الحقيقة معنى. القرآن من صفات الله، ألسنا نعتقد أن القرآن كلام الله؟ إذًا هو من صفاته، يقسم به، أقسم بآيات الله، يقسم بالقرآن ويحلف بالقرآن، والذي لا يُقسَمُ به المخلوق، أما الله وأسماؤه وصفاته فيحلف به، ويقسم به. تم بحمد الله تفريغ الشريط الثالث من الشرح في الثاني من شهر الله الحرام المحرم عام 1428 من هجرة سيد الخلق، محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (13) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل فوائد قبل الدرس من الشريط الرابع: العلماء قسموا القدرية إلى غلاة وعوام، من هم الغلاة وما حكمهم؟ هل أنكروا شيئًا غير العلم؟ الكتابة، هل أنكروا شيئًا غير الكتابة؟ أنكروا الأربعة كلها أيها الإخوان، غلاة القدرية أنكروا الأربعة كلها؛ ولهذا ناقشهم العلماء بمسألة العلم، إن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا. عوام القدرية، ماذا أنكروا؟ يستطرد الشيخ: أنتم مخيرون بين أمرين، إما أن تحفظوا المتن ونعفيكم من السؤال، وإلا نسألكم ولا نعفيكم عن حفظ المتن، يعني فيكم فيكم، بهذا يبقى العلم، وإلا المعلومات مجرد ما نخرج من المسجد تطير عنكم، مجرد ما يأتي الأسبوع القادم نسيتم ما في هذا الأسبوع، العلم لا بد أن يحفظ، ولا بد يذاكر، وإلا ترى ما هو بباقي، أقولها نذارة يعني، العلم ما حواه الصدر، لا ما حواه القمطر، هذا أمر مهم، إذا أردت يا طالب العلم أن يبقى علمك، فاحفظ أصوله، وإذا حفظت أصوله، أتتك الأصول بتفاصيلها؛ ولهذا من أسباب بقاء العلم: حفظ المتن. ومن أسباب بقاء العلم: المذاكرة والمراجعة، قد ييسر الله جل وعلا لنا بكم لقاءً آخر أو لا ييسر ذلك، ولكن هذه المعلومات التي حصلتموها، وهذا العلم إن لم يذاكر ويتعاهد، وإلا يزول، والمذاكرة لها صور ولها أحوال، منها أن يراجع الإنسان بنفسه، منها أن يتباحث مع أخيه وزميله، كما جلسوا في هذا المسجد عدة ساعات، يجعلون لهم ساعة في الأسبوع يتذاكرون هذا المتن، حتى بعضهم يستفيد من بعض، تتلاقح أفهامهم، قد يكون فات هذا معلومة وأدركها الثاني. من ذلك: استخدام القلم في تسجيل أهم الأمور، وليس كل شيء، المقام مقام درس، ما هو بمقام إملاء، بعض الطلبة يخطئ في تعلم العلم، يظن أن ما يسمعه من أستاذه وشيخه إملاءً يمليه عليه، الإملاء هذا انتهى وقته لما دونت الأحاديث، تلك التي كانت تملى، أما هذه، فطالب العلم يكون منظمًا، يكتب في كتابه، أو في دفتر، عبارة عن كشكول أو كذا، ما يحتاج إليه، ثم ينقله إلى كتابه، ولأجل ذلك تلاحظون كتب أهل العلم، حواشيها منظمة مرتبة، دالة على تنظيم أفكارهم، أما الطلبة تجد حواشيهم في الكتاب متداخلة، تدل على أن فكره وذهنه غير مرتب. هذا الأمر يبحثه العلماء في آداب الطلب، ولا سيما أهل الحديث في علم المصطلح، يبحثونه فيما يسمى بأدب كتابة الحديث، حديث النبي عليه الصلاة والسلام، مقصودي يا إخوان أن المذاكرة لا بد منها، والمراجعة والمباحثة، وإلا فالمعلومات تطير، تشرد؛ لأن الذهن ما يستوعب، بعضكم أو أكثركم مشغول، بأهله وأولاده ومساهماته وتجارته، إلى آخره، والذهن ما يستوعب، الهاردسك في الكمبيوتر ينسي آخره أوله! إذا لم تحفظ ملفاته، وإلا لا؟!.... وقد وعدتكم أن أنوه تحذيرًا وإنذارًا من فرقة ثانية من فرق القدرية، وهم الجبرية، القضاء والقدر انحرفت فيه طائفتان، القضاء والقدر كالأسماء والصفات، انحرفت فيه طوائف، أشهرهم طائفتان، القدرية، وقد مضى التحذير منهم والتعريف بهم، الطائفة الثانية على الضد منهم، ضدهم تمامًا وهم الجبرية، والقدرية اهتم العلماء بالتحذير منهم أصالة؛ لأنهم أول الفرق وجودًا، وقد وجدوا في آخر عهد الصحابة، كما جاء في حديث مسلم، لما انطلق حميد بن عبدالرحمن ويحيى بن يعمر حاجين أو معتمرين، فمرا بالمدينة، فقالا: لو لقينا أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيا ابن عمر، فأخبروه أنه وجد قبلهم بالبصرة قوم يقولون: إنه لا قدر، وإن الأمر أنف، هؤلاء هم نفاة القدر، وهم غلاة القدرية، الجبرية هم أتباع الجهم بن صفوان، السمرقندي، أبو محرز، الخبيث العنيد، والجبرية هم الجهمية، قد جمعوا مثالب عظيمة، فهم في الصفات معطلة، بل غلاة المعطلة؛ لأنهم ينفون الأسماء والصفات، وهم في باب القدر جبرية، وسيأتي بيان مذهبهم في الجبر، وهم في باب الإيمان غلاة المرجئة، وسلسلة وسند الجهم بن صفوان سند مظلم، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نورًا، فما له من نور، الجهم بن صفوان أخذ عن الجعد بن درهم، والجعد بن درهم هو الذي قتله خالد بن عبدالله القسري، في سنة مائة وثلاث وعشرين، والجهم بن صفوان قتله سلم بن أحوز والي سمرقند، قتله في سنة مائة وثمان وعشرين، شيخ الجهم الجعد، والجعد أول من أظهر مقالة نفي الصفات: "أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا"، فحكم عليه العلماء بالردة، فقبض عليه خالد بن عبدالله القسري، وقتله مضحيًا به في يوم عيد الأضحى، في سنة مائة وثلاث وعشرين، حيث قال لما خطب الناس: "أيها الناس، ضحوا، تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم؛ حيث زعم أن الله لم يكلم موسى تكليمًا، ولم يتخذ إبراهيم خليلًا"، أنكر صفتي الكلام والخُلَّة، أهل السنة شكروا لخالد هذا الفعل، ومدحوه به؛ ولهذا يقول ابن القيم في نونيته: إن كنتِ كاذبةَ الذي حدثتِني ![]() فعليك إثمُ الكاذبِ الفتانِ ![]() جهمِ بن صفوانٍ وشيعته الأُلى ![]() جحدوا صفاتِ الواحد الديان ![]() إلى أن قال: ولأجل ذا ضحَّى بجعدٍ خالدُ الْ ![]() قسريُّ يومَ ذبائح القربان ![]() إذ قال: إبراهيمُ ليس خليلَه ![]() كلا ولا موسى الكليم الداني ![]() شكَر الضحيةَ كلُّ صاحب سنَّة ![]() لله درُّك مِن أخي قربان ![]() ومن الأشياء المستغربة: أن بعض طلبة العلم أعملوا موازين نقد الحديث ومتون السنة على هذه المرويات التاريخية، وهذا لا يتأتى، لا عند العلماء، ولا في ميزان طلبة العلم، هذه القصة رواها العلماء متلقين لها بالقبول، فرواها شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع، وابن القيم تلميذه في مواضع، وابن رجب، وذكرها ابن كثير، وما زال علماء السنة ينقلونها مقرين لها، وإعمال موازين الحديث ومتونه على الروايات الحديثية، بل وعلى آثار التابعين وآثار الصحابة غير متأتٍّ، وهذا ما عرف عند المتقدمين، خذ مثلًا على هذا لما قال الحافظ ابن حجر في محمد بن عمر الواقدي، المؤرخ المشهور، قال: محمد بن عمر الواقدي ضعيف في الحديث، حجة في التاريخ، باب التاريخ بابه أوسع؛ لأنه ما يترتب على التاريخ معرفة حلال أو حرام، أو بناء عقائد، أو شرائع، وإنما أشياء يرد نظيرها إلى نظيرها، ظهر لكم هذا؟ إسناده أيضًا، شيخ الجعد بن درهم: بيان بن سمعان التميمي المشبه الباطني الرافضي، وشيخ البيان بن سمعان: طالوت اليهودي، وهو ابن أخت لبيد بن الأعصم، الذي سَحَرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، إذًا إسناد الجهمية والمعطلة عمن؟ ينتهي إلى اليهود، وهم كفء لهم، فاليهود معطلة، وصفوا الله جل وعلا بالنقائص، وهؤلاء كذلك، الجهمية في باب القدر جبرية، ومعنى الجبرية قالوا: إن العبد مُجبَر على فعله، وهذا مذهب من أيضًا؟ مذهب المشركين، بل مذهب إبليس أعاذنا الله منه، المشركون قالوا: ﴿ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ﴾ [الأنعام: 148]، ﴿ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [النحل: 35]، أي: إنهم مُجبَرون! وكذلك الجبرية، قالوا: إن العبد مجبَر على فعله، وإن فعله مع القدر كريشة مع الهواء، لا قدرة، ولا إرادة، كالميت بين يدي مغسله، ليس له قدرة، ولا إرادة، ولا اختيار، فهو مجبر، ومذهبهم قبيح، من قبح مذهبهم إبطال الشرائع كلها، فإذا كان الإنسان مجبرًا، ما معنى أن يكلف بصلاة أو بعبادة أو بتوحيد، أو بصيام، أو ينهى عن القبائح من الشرك والظلم وشرب الخمر والزنا وما إلى ذلك؟! فيكون تكليفه إذا كان مجبرًا عبثًا، هذا قدح في أسماء الله، وقدح في صفاته، بل وقدح في ربوبية الله، بل أعظم من ذلك، إذا كلف الله عبده وقد أجبره على الكفر ثم عذبه عليه، كان الله ظالمًا لعبده! تعالى ربي عن قولهم علوًّا عظيمًا؛ ولهذا الجبرية مذهبهم قبيح، وأقبح منه مذهب القدرية، وكلاهما في القبح مشتركان؛ ولهذا أهل السنة مذهبهم وسط بين هؤلاء وهؤلاء، الجبرية تأثر بهم متأخرو المتكلمين، الذين قالوا بعقيدة: القدر هو الكسب، كسب الآدمي، كسب المكلف، ما هو الكسب؟ هم في أنفسهم مضطربون فيه اضطرابًا عظيمًا، ولكن معنى الكسب هو: وقوع القدر عند فعل المقدور، فالإنسان أشبه بالمجبر، ولكن ما صرحوا بالجبر، لكن قالوا: وقوع القدر عند فعل المقدور، فالسكين يقع القطع عندها، لا بها! السكين عندهم ما تقطع، ولكن إذا حززتها وقع عندها القطع، كذلك الكسب عندهم، الكسب وقوع القدر عند فعل المقدور؛ ولهذا قول أولئك المتكلمين يعود في الحقيقة إلى الجبر، لكنهم لبسوه ودلسوه؛ ولهذا يفشو في هؤلاء من آثار قومهم انتهاك الحرمات، وتعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الإنسان [على مذهبهم]، هذا كسبه، أو هذا ما قدر عليه، وهؤلاء يكفي من قبح مذهبهم بداهة العقل السليم في رده، لو أن إنسانًا جاء إلى هذا الذي يعتقد الجبر، ثم ضربه وأخذ ماله، هل يستسلم له بأنه مجبر؟! يقول: مسكين اتركوه، هذا مجبر، هل يستسلم له أو ينتصر لنفسه؟ ينتصر لنفسه؛ لأن هؤلاء استدلالهم بالجبر عند المعائب لا عند المصائب، هذا هو خلاصة مذهب الجبرية في هذا الباب، ومن تأثر بهم ممن قالوا بالكسب. [وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من يموت، كما بدأهم يعودون]، لما انتهى من موضوع الإيمان بالقضاء والقدر، بدأ بمسألة تتعلق باليوم الآخر. [وأن الساعة]، وهذا تضمين من قول الله جل وعلا: ﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ [الحج: 7]؛ أي: مما نؤمن به: أن الساعة آتية، الساعة من أسماء يوم القيامة، ويوم القيامة تعددت وتنوعت أسماؤه في القرآن، حتى جاوزت الثلاثين، من أسماء يوم القيامة: الساعة، والطامة، والصاخة، والآزفة، ويوم القيامة، ويوم الدين، ويوم الجزاء، ويوم الحساب، فأسماؤها كثيرة، لماذا كثرت وتعددت أسماؤه في القرآن؟ ماذا يفيدكم تعدد وتنوع أسمائه في القرآن، نعم؛ لعظم شأنها تعددت وتنوعت أسماؤها، وكل شيء ذي بال وذي عظم تجد أن أسماءه متعددة، وأوصافه متنوعة، النبي عليه الصلاة والسلام، أليس هو أفضل العالمين؟ وأفضل ولد آدم أجمعين؟ تعددت أسماؤه وأوصافه، فهو محمد، وأحمد، ومحمود، وهو الماحي، والعاقب، والحاشر، هذه من أسمائه عليه الصلاة والسلام. [لا ريب]؛ أي: لا شك. [وأن الله يبعث من يموت]؛ أي: يبعث من في القبور. [كما بدأهم يعودون]، يعودون كما بدأهم، الإنسان عدم، ثم يخلقه الله جل وعلا، ثم يلحقه الفَناء، فسبق الإنسان عدم، ويلحقه فَناء، أنتم قبل مائة سنة، ماذا كنتم؟ عدم، لا شيء، ما كنتم شيئًا مذكورًا، وبعد مائة سنة أو مائتي سنة قد تكونون كذلك لا يبقى منكم شيء، لا يبقى شيء مذكورًا إلا العصعص، عَجْب الذَّنَب، وهو رأس عصعص الإنسان، ولا يرى بالعين المجردة، من هذا الجزء يركَّب الإنسان يوم القيامة إذا أرسل الله جل وعلا بعد النفخة الأولى، يبقى أربعين يومًا، قال أبو هريرة: "أبيت"، أربعين شهرًا، قال: "أبيت"، أربعين عامًا، قال: "أبيت"، يبعث الله مطرًا كماء الرجال، فينبت الناس بأجسادهم من عَجْب الذَّنَب؛ ولهذا عَجْب الذَّنَب لا يلحقه الفَناء؛ ولهذا يقول الأول: ثمانيةٌ حُكْم البقاء يعمُّها ![]() مِن الخَلْق، والباقون في حيز العدَمْ ![]() هي: العرشُ والكرسي ونارٌ وجنةٌ ![]() وعَجْبٌ وأرواح كذا اللوح والقلَمْ ![]() فهذه لا يلحقها الفَناء، فيركب منه، ثم يأمر إسرافيل فينفخ في الصور، فتتطاير أرواح العالمين حتى تنزل كأنها جراد منتشر، فينزل كل روح على الجسم الذي منه خرج، كما بدأهم يعودون، كما بدأهم خلَقهم يعودون، ولهذا أصل خلق الإنسان من اجتماع نطفة الرجل بماء المرأة في البويضة، لا شيء يرى، حتى يتكون شيئًا فشيئًا حتى يكون الإنسان مخلوقًا سويًّا، وأدلة البعث دل عليها القرآن بآيات عظيمة؛ ولذلك أعظم عقيدتين بسطتا وثني الكلام فيهما وكثر عليهما الاستدلال من القرآن: عقيدة إفراد الله بالتوحيد، وعقيدة البعث، بل في القرآن ما في البعث من أوجه كثيرة، حتى قال صلى الله عليه وسلم: ((مَن أحب أن يرى القيامة رأي عين، فليقرأ: إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت))، من أعظم ما دل في القرآن على البعث آية عظيمة: ﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [التغابن: 7]، فآية واحدة دلت على الإيمان بالبعث من ستة أوجه، (قل بلى)، (وربي)، هذا حلف، (لتبعثن)، اللام الموطئة للقسم، فعل مضارع مؤكد بنون التوكيد (ثم لتنبئن)، (بما عملتم، وذلك على الله يسير)، في السنة أحاديث كثيرة، من ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان في مكة جالسًا في البيت، مسندًا ظهره إلى الكعبة، فجاءه أمية بن خلف، صنديد من صناديد الكفر، ومع أمية عظم قد يبس، قد أرم، مضى عليه مدة طويلة، فقال: يا محمد، فرفع إليه النبي رأسه، أتزعم أن الله يعيد هذا العظم لحمًا يوم القيامة، ثم فت هذا العظم بيده، الدال على أنه شديد، لو أعطيت واحدًا منكم عظمًا يابسًا، أيقوى أن يفته بيده؟ لا أظنه، إلا إن كان شديدًا، أمية فته بيده، ثم نفخه في وجه النبي عليه الصلاة والسلام، استحقارًا واستنكارًا لعقيدة البعث، قال صلى الله عليه وسلم: ((نعم))؛ أي: أزعم ذلك، ((وسيدخلك الله النار))، وأنزل الله على نبينا عليه الصلاة والسلام قرآنًا يتلى في آخر سورة "يس"، اشتمل هذا القرآن على أدلة البعث العقلية، التي يعرفها العقلاء غير المكابرين، ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ﴾ [يس: 77]، يخاصمنا، ويظهر الخصومة ويبينها، ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا ﴾ [يس: 78] بهذا العظم اليابس، ﴿ وَنَسِيَ خَلْقَهُ ﴾ هو، وهذا معنى قول الشيخ: [كما بدأهم يعودون]، ﴿ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [يس: 78، 79]، الذي أنشأ هذا الإنسان أول مرة لن يعجزه أن يعيده ثانية وثالثة، إنما الإبلاغ في الإعجاز هو إنشاؤه أول مرة، انظروا، ولله المثل الأعلى، لو أن مهندسًا أنشأ بناية فأبدعها، هل يعجزه أن يجعل لها أنموذجًا ثانيًا وثالثًا ورابعًا، لا، الإعجاز والإبداع في أولها، الله جل وعلا، وله المثل الأعلى، قال: ﴿ الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ﴾ [يس: 79، 80]، الذي أخرج الشيء من ضده، النار حارة، يابسة، أخرجها من شيء بارد رطب، أخرج شيئًا من ضده، لن يعجزه أن يخرج شيئًا من غير ضده، ﴿ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ [يس: 81]، إذا كان عنده مكابرة، فلينظر إلى خلق أعظم منه، السموات والأرض ، به وهو حقير صغير، ﴿ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ [يس: 81] ، ثم أخذ بالأمر الجامع: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، ثم نزَّه نفسه وسبحها عن وصف كل جاهل معطل مشرك كافر، ﴿ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يس: 83]، فختمها بالبعث مرة ثانية، والبعث عليه الفِطَر كلها، السوية على البعث، بل إجماع العقلاء، لا نقول: أهل الكتب وأهل الديانات، كل العقلاء يؤمنون بالبعث، انظروا إلى الهنادكة، البوذيين، الكونفوشوسيين، المجوس، وغيرهم، كلهم يعتقدون بالبعث، لكن يتفاوت بعضهم في صوره؛ ولهذا من البوذية والمجوسية من عندهم عقيدة التناسخ، التناسخ صورة من صور البعث، لكن هذا باطل، حتى الهنادكة نفاة الخالق قالوا بأن البعث للأرواح دون الأجساد، كما قاله أبو علي ابن سينا، وأمثاله من الفلاسفة الملاحدة، إذًا أمر البعث متفق عليه، إلا عند من كابر، والمكابر هذا يكابر ظاهرًا، أما باطنًا فإنه عنده وميض الإيمان بالبعث؛ لأنه أمر فطري. [وأن الله سبحانه وتعالى ضاعف لعباده المؤمنين الحسنات، وصفح لهم بالتوبة عن كبائر السيئات، وغفر لهم الصغائر باجتناب الكبائر، وجعل من لم يتب من الكبائر صائرًا إلى مشيئته ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]. ومن عاقبه الله بناره، أخرجه منها بإيمانه، فأدخله به جنته، ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7]، ويخرج منها بشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم من شفع له من أهل الكبائر من أمته]. هذه الجملة اشتملت على مسائل عظيمة، لعلي أمر عليها سريعًا.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (14) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة" تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386) شرح: فضيلة الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل [وأن الله سبحانه وتعالى ضاعف لعباده المؤمنين الحسنات]، يعملون الحسنة الواحدة له سبحانه فيضاعفها إلى عشرة أضعاف، إلى أضعاف كثيرة، فضلًا منه سبحانه ورحمة وتمننًا وتلطفًا بعباده، أنهم يعملون الحسنة فيضاعفها لهم، والسيئة لا يضاعفها، بل يبقيها كذا، ولهذا الويل، ثم الويل، لمن غلبت آحاده عشراته، من قدم يوم القيامة وقد غلبت آحادُه سيئاتِه، غلبت حسناته المضاعفة، دل على كثرة سيئاته وقلة حسناته؛ قال الله جل وعلا: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأتبِعِ السيئةَ الحسنة تمحُها، وخالِقِ الناسَ بخُلق حسن)). [وصفح لهم بالتوبة] إذا تاب الإنسان عن كل ذنب، من أكبر الذنوب، أكبر الذنوب الشرك والكفر، إلى أصغرها، تاب توبة نصوحًا، قبل الله توبته، التوبة النصوح ما اجتمع فيها أربعة شروط، الأول: أن يكون مخلصًا لله وحده لا شريك له، ثانيًا: أن يقلع عن هذا الذنب الذي تاب لله منه، ثالثًا: أن يعزم على ألا يرجع إليه، رابعًا: أن يندم على وقوعه وفعله منه، هذه شروط التوبة النصوح، يزاد شرط خامس إذا كانت التوبة تتعلق بذنب يتعلق بحق محفوظ فلا بد أن تستبيح منه، إن كان مالًا ترده إليه، وإن كان من عرضه، واسمع يا طالب العلم، إذا كانت المظلمة تتعلق بعرضه، سببته، شتمته، ذممته، وصفته بالبدعة، تتحلل منه في الدنيا، وإلا فالموعد غدًا، الموعد غدًا، إذا نلت من عرضه، ونلت؟ من دينه بمحض هواك، أو لحزبك أو لجماعتك، وهذا فعل من قل بالله خوفه وإيمانه، وإن صبغه بصابغ الغيرة على دين الله، وهذه المظلمة تتعلق بهذا المخلوق، تستبيحها منه في الدنيا، حتى يبيحك، وإلا فالموعد غدًا، إلى يوم الديان نمضي، وعند الله تجتمع الخصوم، التوبة لا بد منها؛ ليعفو الله عز وجل عن هذا الإنسان. [عن كبائر السيئات] السيئات نوعان، صغائر وكبائر، والعلماء رحمهم الله تباينت أقوالهم في الفَرق بين الصغيرة والكبيرة، حتى ذكر شارح الطحاوية رحمه الله في شرحه أربعة عشر قولًا، في الفرق بين الصغيرة والكبيرة، أرجحها وأصحها ما ذهب إليه الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، ومن قبله ابن عباس، وسفيان بن عيينة، والسلف، أن الكبيرة: ما جمعت وصفًا من أوصاف ستة، أو أكثر من وصف؛ فهي كل ذنب رتب الله عليه حدًّا في الدنيا، فالسرقة كبيرة؛ لأن لها حدًّا في الدنيا، القذف كبيرة، الزنا كبيرة، لأن له حدًّا، إن كان محصنًا الرجم، وإن كان غير محصن بالجلد والتغريب، الوصف الثاني: أو رتب الله عليه في الآخرة وعيدًا بالنار، مثاله: ((ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار))، فإذا أسبل إزاره خيلاء أو غير خيلاء، فهو متوعد بالنار، فإذا أسبله خيلاء، فمتوعد بالنار، ومتوعد بوعيد آخر، أن الله لا ينظر إليه، ولا يكلمه، وله عذاب أليم، أو يتوعده باللعنة، فالرشوة كبيرة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لعن الله الراشي والمرتشي والرائش))، التشبُّه بالنساء كبيرة، تشبُّه النساء بالرجال كبيرة، (لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتخنثين من الرجال، المتشبهين بالنساء، ولعن المسترجلات من النساء)، كما في الصحيح، الضابط الرابع: أو رتب عليه الغضب، كل ذنب رتب الله عليه الغضب فهو كبيرة، ومن أمثلته ما جاء في آية النور، في آية الملاعنة، قال الله جل وعلا في آخرها: ﴿ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [النور: 9]، من يأتيني بذنب رتبت عليه هذه كلها؟ نعم، من قتل مؤمنًا متعمدًا، نوع الله عليه أنواع الوعيد؛ كما في آية سورة النساء: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ﴾ [النساء: 93]، عدوا معي، ﴿ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93]، خمسة أنواع من الوعيد، ما معنى قوله تعالى: ﴿ خَالِدًا فِيهَا ﴾؟ معنى خالدًا فيها: ماكثًا فيها مكثًا طويلًا؛ ولهذا لاحظوا لم يقل: "خالدًا فيها أبدًا"، كما جاء في وصف أهل الجنة، أنهم خالدون فيها، ووصف أهل النار خالدين فيها، ابن عباس رضي الله عنهما له في هذه الآية اختيار لطيف، وأصر عليه حتى مات، وهو أن قاتل النفس المؤمنة بغير وجه حق إذا مات وهو لم يتب، فهذا الذنب لا يدخل تحت مشيئة الله، بل لا بد أن يعذبه الله، تأمل وافهم قول ابن عباس، أصول أهل السنة: أن أهل الكبائر حالهم أنهم تحت مشيئة الله، إن شاء عفا الله عنه برحمته، أو إن شاء عذبه بذنبه وكبيرته، ابن عباس يقول: إن قتل النفس المؤمنة بغير وجه حق لا يدخل تحت الذنوب التي هي تحت المشيئة، بل لا بد أن ينفذ الله فيها وعيده، يقول مجاهد بن جبر، وهو من خواص أصحاب وطلاب ابن عباس، يقول: ناظرته وراجعته في هذه المسألة شهرًا كاملًا، وهو مصرٌّ عليها، أن قاتل النفس بغير وجه حق لا بد أن يعذب، إذا مات وهو غير تائب، أو مستباح، الوصف الخامس: إذا نفي الإيمان عنه، كل ذنب نفي الإيمان عن صاحبه بسببه فهو كبيرة، حديث أبي شريح في الصحيحين: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن))، قالوا: مَن يا رسول الله خاب وخسر؟! قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه))، من آذى جاره في نفسه، في عِرضه، في ماله، فهذا موعد بنفي الإيمان عنه، دل على أنه كبيرة، ومنه ما في الصحيحين: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نُهْبة ذات شرف فيرفع إليه الناس فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن))، دل على أن هذه كبائر؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نفى الإيمان عن صاحبها؛ ولهذا في أذية الجار، الزنا في حد ذاته كبيرة، لكن الزنا بحليلة الجار أشد؛ ولهذا جاء في الحديث عند الحاكم وأحمد وغيرهما: ((لأن يزني الرجل بعشر نسوة، خير له من أن يزني بحليلة جاره))، الوصف السادس من وصف الكبائر: أنه كل ذنب تُبُرِّئَ من صاحبه، مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((مَن غش، فليس منا))، ((من حمل علينا السلاح، فليس منا))، ((ليس منا مَن خبَّب امرأة على زوجها))؛ أي: أفسدها، أو خبب زوجًا على زوجته، فهذه كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام تبرأ من صاحبها، هذه القيود الستة، إذا اتصف الذنب بأحدها فهو كبيرة، وما دونها فهو صغيرة، لكن لا بد من مراعاة ضابط، أنه لا كبيرة مع الاستغفار، إذا فعل الإنسان كبيرة ثم استغفر الله منها، كأنه لم يفعل الكبيرة؛ لأنه عاد بعد توبته من هذا الكبيرة كما لم يفعلها، إذا تاب توبة نصوحًا، أيضًا: لا صغيرة مع الإصرار، إذا أصر على الصغيرة، أصبحت بإصراره عليها كبيرة؛ لأن فيها استهانة بالمعصية، مثل ماذا؟ قالوا: الصغائر كالحبة الواحدة يأكلها من مال اليتيم بغير وجه حق، أما أكل مال اليتيم حكمه أنه كبيرة، من ذلك: حلق اللحية، لو حلقها مرة، هذه صغيرة، لكن لو حلقها وما زال يحلقها، أضحت في حقه كبيرة. [وغفر لهم الصغائر باجتناب الكبائر]، ﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ﴾ [النجم: 32]، يعني أنه إذا اجتنب الكبائر، تجاوز الله عنه بسبب اجتناب الكبائر عن الصغائر، وفيه أدلة كثيرة، منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر))، يبقى من هذا مسألة تتعلق بالحج، ((من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع مِن ذنوبه كيومَ ولدته أمه))، هل الحج المبرور السالم من الرفث واللغو، هل يكفر الكبائر أو لا يكفرها؟ للعلماء في هذا خلاف طويل، راجحه، لأن المقام مقام اختصار، وإلا بسط الأدلة في هذه المسألة مما يفتق الذهن، لكن راجح ذلك أن الحج المبرور، إذا صدق عليه أنه مبرور، ولم يرفث ولم يفسق، أنه يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ويكفر الكبائر، وهذا للحج خصوصًا؛ لشرفه ومزيته، أن الحج المبرور يكفر كبائر الذنوب، قد يقول قائل: إذا كانت كبيرة متعلقة بحقوق آدمي، إما بقتله، أو سفك دمه، أو عرضه، هذا إذا قبل الله حجه المبرور، كان يوم القيامة يرضي خصمه منه، فيعفو عنه، خذوا مثالًا على ذلك، القتل، القتل بغير وجه حق يترتب عليه ثلاثة حقوق، حق لله جل وعلا، وحق للمقتول، وحق لأولياء الدم، نفرض أن إنسانًا قتل آخر ظلمًا وعدوانًا، في مضاربة أو مخاصمة أو غيرها، ترافعوا إلى المحكمة، إذا سمح أولياء الدم بالقصاص والحد، ينتقلون إلى العوض المالي، وهو الدية، تنازلوا عن حقهم، يبقى حقان، حق الله جل وعلا، وحق المقتول، حق الله مبني على المسامحة إذا تاب توبة نصوحًا، يبقى حق المقتول؛ ولهذا جاء في الحديث: ((يأتي المقتول يوم القيامة ورأسه في يده يشخب دمًا، وفي اليد الأخرى قاتله، يقول: يا رب، سل قاتلي، فيم قتلني؟))، هذا إذا تاب توبة نصوحًا، قال العلماء: إن الله جل وعلا يرضي المقتول من قاتله؛ ولهذا أول ما يقضى بين العباد يوم القيامة في الدماء، والدماء شأنها عظيم، جد عظيم؛ روى ابن ماجه بإسناد لا بأس به: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة))، تأملوا يا إخوان هذه المسألة التي استهان بها كثير ممن يظهرون الاستقامة، ((من أعان على قتل مسلم، ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله))، بشَطر كلمة، كيف لو أعانه بسلاح، أو بفعل، أو بتدبير، أو بتغطية، أو بتستر، ((بشَطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيِسٌ من رحمة الله))؛ أخرجه ابن ماجه، وأخرجه غيره.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (15) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة" تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386) شرح: فضيلة الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل [وجعل من لم يتب من الكبائر صائرًا إلى مشيئته]، هذا يماثل تمامًا ما ذكره الطحاوي في عقيدته، لما قال: "وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم غير تائبين"، التائب من الذنب كمن لا ذنب له؛ ولهذا انظروا إلى فطنة وذكاء عمرو بن العاص رضي الله عنه، لما جاء يبايع النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله، امدد يدك أبايعك، فمد النبي صلى الله عليه وسلم يده، فقبض عمرو يده! قال: أشترط يا رسول الله، قال: ((مه يا عمرو))، قال: على أن يغفر الله كل ما كان لي قبل الإسلام، قال: ((يا عمرو، أما علمت أن الإسلام يجبُّ ما قبله، وأن التوبة تجبُّ ما قبلها))، فكان بهذا الفعل الذكي من عمرو بن العاص بشرى لنا هذه الأمة، أن التوبة تجبُّ ما قبلها، بشرط أن تكون توبة نصوحًا، وأن الإسلام يجب ما قبله، يجبُّ: يهدم ما قبله؛ ولهذا وضع النبي صلى الله عليه وسلم ربا الجاهلية، وضعه تحت قدمه، وأول ربًا وضعه تحت قدمه ربا عمه العباس رضي الله عنه. [وجعل من لم يتب من الكبائر]، إذا مات وهو غير تائب، [صائرًا إلى مشيئته]، صائرًا إلى مشيئة الله، والدليل آيتا سورة البقرة وسورة النساء: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]، فمن مات على كبيرة لم يتب منها، فهو تحت مشيئة الله جل وعلا، إن شاء رحمه برحمته وإحسانه ولطفه، وإن شاء عذبه على قدر كبيرته من دون أن يخلده في النار. ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]، الآية، إن وما دخلت عليه تؤول عند العلماء بتأويل مصدر، إن الله لا يغفر إشراكًا به، وإشراكًا هذه كلمة مفردة، وهي نكرة جاءت في سياق النفي، فدلت على العموم، إن الله لا يغفر إشراكًا به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، بشرط أن يكون ذلك لمن يشاء، بقيت مسألة مهمة في هذا المقام، الله جل وعلا وعد المسلمين بالجنة، ووعد الله لا يتخلف، لا بد أن يتحقق، أيضًا توعد الله أصحاب الكبائر والمعاصي بالنار، هل يتخلف وعيده؟ وعيده لا يتخلف، هنا ذكر العلماء مسألة مهمة في هذا المقام، وهي مسألة تحقق الوعيد المجمل، ما معناها؟ تحقق الوعيد المجمل: أن من توعدهم الله جل وعلا بالعذاب على كبائرهم مجملًا، يتحقق فيهم أن تصيب منهم النار من أفرادهم، من هم؟ الله أعلم، مجموعهم تحت المشيئة، لكن من أفرادهم لا بد أن يعذب بالنار، تحقيقًا لوعيد الله المجمل؛ لأن الله لا يتخلف وعده، كما لا يتخلف وعيده، وهذه ذكرها أبو العباس رحمه الله في الطحاوية، قال: "مع تحقق الوعيد المجمل"؛ أي: لا يعرف عين صاحب الكبيرة الذي يعذب، لكن من مجموعهم من يعذبهم الله في النار، تحقيقًا لوعيده؛ لأنه لا يتخلف وعيده؛ ولهذا قال الشيخ: [ومن عاقبه الله بناره، أخرجه منها بإيمانه، فأدخله به جنته]، يعني من دخل النار من أصحاب الكبائر، فإنه لا يخلد فيها، بل لا بد أن يخرج منها بعد أن يعذب على قدر معصيته. [أخرجه منها بإيمانه، فأدخله به جنته]، ما معنى "بإيمانه"، و"به جنته"، [أخرجه منها]؛ أي: النار، [بإيمانه]؛ أي: بسبب إيمانه، [فأدخله به جنته]؛ أي: بإيمانه، والباء هنا باء السببية ولا بد، فإن قال قائل: الباء باء العوض، يعني: مقابل إيمانه أدخله الله الجنة، يصح أم لا يصح؟ لا يصح؛ لأنه لن يدخل أحد منا الجنة بعمله؛ قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ((واعلموا أنه لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله))؛ أي: بمقابل وعوض عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)، إذًا دخول الجنة سببه الإيمان، لا عوضه الإيمان، وهذا من المواضع المهمة التي يستفاد منها بيان دلالات الحروف، فإن الحرف قد يكون معناه السببية، وقد يكون معناه العوضية، والدليل: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7]؛ أي: يرَ هذا الخير، وإن كان مثقال ذرة. [ويخرج منها]، الضمير عائد على النار، [بشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم من شفع له من أهل الكبائر من أمته]، النبي عليه الصلاة والسلام له شفاعات خاصة به، وهي أربع أو خمس، وبقيتها عامة له، وللأنبياء، وللصالحين، والشهداء، والملائكة، والعمل الصالح. الشفاعات الخاصة به عليه الصلاة والسلام أعظمها وأهمها وأعمها: الشفاعة العظمى عند الله جل وعلا لابتداء فصل القضاء، هذه شفاعة خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام، من الشفاعات الخاصة به شفاعته في عمه أبي طالب؛ ولهذا في مسلم، لما سأل العباس رضي الله عنه، قال: يا رسول الله، أبو طالب فعل معك وفعل، هل تنفعه بشيء؟ قال: ((نعم، يخرجه الله بي من قعر جهنم، فيوضع في ضحضاح من نار))، وفي رواية: ((يلبس نعلين من نار، يبلغان كعبيه، يغلي منهما دماغه، ولولاي لكان في جهنم))، هذه شفاعة خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم في عمه،النوع الثالث من أنواع الشفاعات الخاصة به عليه الصلاة والسلام أنه أول من يشفع في دخول الجنة، أول من يشفع في دخول الجنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه خاصة به، نوع رابع من أنواع الشفاعة الخاصة: شفاعته في السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وقد شفع في عكاشة وغيره، وهذه خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومما قالوا أيضًا وهذه خاصة به: شفاعته في أهل الأعراف، من تساوت حسناتهم وسيئاتهم، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع فيهم إلى الجنة، وهذه فيها آثار ضعيفة، والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم،الشفاعات المشتركة، شفاعته في أهل كبائرَ أُمِر بهم إلى النار، ألا يدخلوها، نوع ثانٍ شفاعته في أناس من أهل الكبائر دخلوا النار أن يخرجوا منها، هذه يأتي إن شاء الله تفصيلها، نوع ثالث: شفاعته في قوم في درجات دنيا، أن ترفع درجاتهم، وهذه يشترك مع النبي صلى الله عليه وسلم فيها الأنبياء والصالحون؛ كما قال الله جل وعلا: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الطور: 21]. [ويخرج منها بشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم من شفع له من أهل الكبائر من أمته]، وفي هذا الحديث، الذي ينكره الوعيدية من الخوارج والمعتزلة، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((شفاعتي في أهل الكبائر من أمتي))، وهذه شفاعتان، شفاعة في قوم أمر بهم، سحبوا إلى النار ألا يدخلوها، فيشفع فيهم، فلا يدخلون النار، فمباشرة إلى الجنة، والصنف الثاني في قوم دخلوا النار أن يخرجوا منها، وهذه تكاثرت فيها الأحاديث حتى تواترت، وأشهرها حديث أنس رضي الله عنه في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أهل النار أربع خرجات، أربع شفاعات، (يشفع في قوم فيحد الله له حدًّا، فيخرجهم من النار إلى الجنة، ثم يشفع فيهم شفاعة أخرى، حدًّا ثانيًا، وحدًّا ثالثًا، وحدًّا رابعًا، ثم يحثو سبحانه بيده من أهل النار، فيلقيهم في الجنة برحمته سبحانه). [وأن الله سبحانه قد خلق الجنة]. نعم هذه مسألة مهمة، وهي مسألة خلق الجنة، الجنة هل هي مخلوقة الآن أو تخلق يوم القيامة؟ مخلوقة الآن، وقبل الآن! أما الجهمية والمعتزلة فقالوا: إن الجنة لم تخلق بعد، كما قال ابن القيم عنهم: وأن الجنة والنار لم تخلقا بعد، فإذا هما خلقا ليوم قيامنا، فهما على الأيام فانيتان. قول الله جل وعلا عن الجنة: ﴿ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]، وعن النار: ﴿ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 24]، "أعدت"، الفعل ماضٍ، ما معناه؟! هذا من أفضل ما يرد عليهم، وهذه الجنة كما يشير الشيخ الآن هي التي أهبط الله منها آدم وزوجه. الجنة خلقها الله بيده، وغرسها بيده، تكرمة لأولياءه؛ ولهذا جاء في الحديث أن الله مس ثلاثًا بيده، الجنة خلقها بيده، وآدم خلقه بيده، والتوراة لموسى كتبها بيده، وهذا جاء في حديث عند الإمام أحمد. [فأعدها دار خلود لأوليائه]. فهي دار خلود، أبدًا مؤبدين فيها لا يخرجون منها؛ ولهذا أهل النار وأهل الجنة خالدون فيها مخلدون؛ كما جاء في مواضع في القرآن أن الله إذا ذكر أهل الجنة قال: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾، وإذا ذكر أهل النار من الكافرين، يذكر مرة أنهم خالدون فيها، ومرة أنهم خالدون فيها أبدًا، ونص على التأبيد في الكافرين من أهل النار في ثلاثة مواضع، في آخر النساء، وآخر الأحزاب، وآخر: (قل أوحي إلي)، آخذ أوسطها، قال الله جل وعلا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾ [الأحزاب: 64، 65]، فهذا نص على التأبيد، ومما دل على ذلك من السنة أحاديث كثيرة، منها: أنه إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، حديث الكبش المشهور، نودي: يا أهل الجنة، فيشرئبون بأعناقهم، ونودي يا أهل النار، فيفرحون يظنون أنه فرج جاءهم من الله، (فيؤتى بالموت على هيئة كبش عظيم، ثم يذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت)، فأهل الجنة وأهل النار فيها خالدون مخلدون أبد الآباد، وانحرف في هذا الباب الجهمية والمعتزلة فقالوا: إن أهل الجنة وأهل النار يلحقهم الفناء، وخلودهم ليس مؤبدًا، هذا قول الجهمية، وقول المعتزلة، رجل من المعتزلة اسمه أبو هذيل العلاف، قال كما ذكر عنه ابن القيم: وتلطَّف العلافُ من أتباعه ![]() فأتى بضِحْكةِ جاهلٍ مجان ![]() قال: الفَناء يكون في الحركات لا ![]() في الذاتِ واعجَبا لذا الهذيان ![]() قال: الذي يفنى في الجنة وفي النار حركاتهم، عاب عليه العلماء، قالوا: إذًا إذا رفعوا اللقمة إلى أفواههم، توقفوا! تفنى حركاتهم، هذا قول كذب وهذيان، فاعجب لذا الهذيان؛ ولهذا قال: فأتى بضحكة جاهل مجان. وما ينسب، وانتبه يا طالب العلم، ما ينسب لشيخ الإسلام أو ابن القيم أنهما قالا بفناء النار، فقول باطل، يبطل ذلك نصوص كلامهما المحكمة الواضحة، الذي نص ابن القيم أنها تفنى: نار الموحدين، أهل الكبائر إذا أخرجوا منها فنيت نارهم، وبقيت النار للكفار، بل جاء في الأثر، في الحديث أن نار الموحدين يقلبها الله جل وعلا عذابًا آخر على أهلها الكافرين، إذًا لا تفنى النار، ولو على مدى الأزمان، وابن القيم كلامه محكم، وإن شئتم فارجعوا إليه في حادي الأرواح، وفي الوابل الصيب، وهو من آخر كتبه رحمه الله. [وأكرمهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم]. أعظم نعيم وألذه وأنعمه وأطيبه لأهل الجنة يوم المزيد، يوم يتجلى لهم ربهم جل وعلا، فيزيل عن وجهه رداء الكبرياء، فينظرون إلى وجهه، فلم يروا نعيمًا ألذ ولا أكمل ولا أنعم من رؤيتهم لوجهه سبحانه، وأصرح آية في القرآن دلت على ذلك: آية القيامة، ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22]، بلغت من النَّضرة والحسن والجمال والكمال والبهاء أمرًا عظيمًا، لم؟ ﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 23]، وهنا أقول: لماذا هذه الآية أصرح آية في القرآن دلت على رؤية الله، مع أن الأدلة في القرآن كثيرة، ستة أو سبعة أدلة كلها دلت على رؤية الله جل وعلا؟! الجواب: لأنه عداها بـ "إلى"، والنظر إذا عدي بـ "إلى"، لا يعني إلا النظر والمعاينة والمشاهدة بالبصر، انظر إلى المسجد، معناه: شاهده وعاينه، إذا عداها بـ "إلى"، وأضاف النظر إلى الوجه الذي محله العينان، الوجه الثالث: أنه أخلى الآية من قرينة صارفة عن المعاينة، ودل على رؤية الله أدلة كثيرة، تواترت في السنة أدلة رؤية الله جل وعلا، حتى رواها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من ثلاثين صحابيًّا، رووا أحاديث الرؤية، جرير بن عبدالله البجلي، أبو سعيد الخدري، أبو هريرة، صهيب، أبو موسى الأشعري، أبو ذر، عبدالله بن عمر، عبدالله بن عباس، رووا أحاديث الرؤية؛ ولهذا أهل السنة أفردوها في تصانيف، منها رؤية الله لابن الأعرابي، لابن النحاس، أفردوا رؤية الله جل وعلا، والأدلة التي دلت عليها السنة في تصانيف؛ لأنها بلغت مبلغ التواتر. بقي في النظر مسألتان، أولهما: أن أهل الجنة جميعًا ينظرون إلى الله جل وعلا جميعًا في يوم الجمعة يوم المزيد، كما دل عليه قول الله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، الحسنى: هي الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله، فسَّرها بذلك النبي عليه الصلاة والسلام من حديث أبي بكر رضي الله عنه عند مسلم، أن الزيادة هي النظر إلى وجه الله، وقال سبحانه وتعالى في آية ق: ﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾ [ق: 35]، المزيد هو الزيادة، وهو النظر إلى وجه الله جل وعلا، ثم إن أهل الجنة متفاوتون في قربهم من الله جل وعلا في يوم المزيد، حسب قربهم من الإمام يوم الجمعة، في تبكيرهم إلى الصلاة، جزاءً وفاقًا، فمن كان إلى الإمام أقرب في تبكيره، فهو من الله جل وعلا يوم القيامة في الجنة أقرب. المسألة الثانية: أن أكمل أهل الجنة ينظر إلى الله جل وعلا في اليوم مرتين، غداة وعشيًّا، وهذا من مقاماتهم عند الله جل وعلا، ومعلوم أن المقامات عند الله متفاوتة؛ ولهذا جاء في الحديث: ((أن من عباد الله من هو على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، يغبطهم الأنبياء والصالحون والشهداء، هم المتحابُّون في جلال الله جل وعلا))، أكرمهم الله جل وعلا بأن جعلهم على منابر من نور عن يمينه، وكلتا يديه يمين.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (16) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة" تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386) [وهي التي أهبط منها آدم نبيه وخليفته إلى أرضه، بما سبق في سابق علمه]. هذا فيه التنبيه على مسائل، الأولى: أن إهباط آدم إلى الأرض قد سبق به علم الله، وفيه تنويه على المرتبة الأولى من مراتب القدر، فيها أيضًا أن الجنة التي أعدها الله دار كرامة لأولياءه خلودًا فيها هي التي أخرج منها آدم. [آدم نبيه]، والدليل كما جاء في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن آدم: أنبي هو؟ قال: ((نبيٌّ مكلَّم)). [وخليفته إلى أرضه]. كما قال في آية البقرة: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]؛ فآدم وذريته خلفاء الله في أرضه، يقيمون فيها دينه وتوحيده، ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41]. مر التنبيه على مسألة الخلود في النار، وذكر مذهب أهل السنة، وأدلته، وخلق النار، وأدلته، وذكر أيضًا أن المخالفين في هذا هم الجهمية والمعتزلة، الذين قالوا: إن النار تفنى، وإن الجنة تفنى، وكان مذهب العلاف أبو الهذيل، من معتزلة بغداد، المعتزلة المتأخرون ينقسمون إلى ثلاثة أقسام، معتزلة البصرة، وهم الأوائل، هؤلاء فيهم دين، فيهم علم، من كبارهم واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد البصري، والقسم الثاني معتزلة بغداد، هؤلاء فيهم فسوق وفجور، بل فيهم إلحاد، وهم طوائف، الجبائية، والعلافية، والخشابية، وهؤلاء الذين كان معهم أبو الحسن الأشعري قبل أن يتركهم إلى مذهب الكُلَّابية، ثم ترك مذهب الكُلَّابية إلى طريقة أهل الحديث وإلى طريقة الإمام أحمد بن حنبل، الصنف الثالث من أصناف المعتزلة: المعتزلة الفلاسفة، الذين تأثروا بالفلاسفة، وهؤلاء متأخرو المعتزلة، من أعيان متأخري المعتزلة في هذا الكندي المشهور، وعبدالجبار المعتزلي، وبعض المشتهرين بالأصول والمشتغلين بالنحو، ابن خروف، وابن جني، وأمثالهم. [وخلق النار فأعدها دار خلود لمن كفر به وألحد في آياته وكتبه ورسله]. وقبل ذلك النار، هي لمن كفر بالله، وألحد في آياته وكتبه ورسله، ولمن جعلهم محجوبين عن رؤيته، الذين يخلدون في النار هم ثلاثة أصناف، المنافقون نفاقًا اعتقاديًّا، وهؤلاء في الدرك الأسفل من النار؛ كما في آية النساء: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 145]، الصنف الثاني: المشركون شركًا أكبر، مَن عبدوا مع الله غيره، أو صرفوا حق الله لغيره، ولو في عبادة واحدة، هم من أهل النار، الصنف الثالث: الكافرون كفرًا أكبر؛ كالملاحدة، كالمدعين علم الغيب، كالمنازعين لله جل وعلا في نفعه، في ضره، في تدبيره للعالم، كالمستهزئين بالله وبآياته وبدينه وبرسوله، هؤلاء كفار، وهم في النار، ويصدق عليهم أنهم ألحدوا في آيات الله الشرعية، وكتبه ورسله. [وجعلهم محجوبين عن رؤيته]؛ لأنهم أهل سِجِّين، في آية المطففين يقول الله جل وعلا: ﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ﴾ [المطففين: 7]، ثم قال عن هؤلاء: ﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾ [المطففين: 15]، لما حجب هؤلاء بسخط من الله، دلَّ على أن أولياءه يرونه بحال الرضا منه، كما ذكر ذلك الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، وذكرنا لكم إجابة على سؤال عن مقامات الرؤية، وأنها ست مقامات، رؤية الله في الدنيا، وهذه غير واقعة، المنام، في العرصات، رؤية أهل الجنة لله، رؤية أهل النار، وأنهم لا يرونه، رؤية النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لربه في المعراج، هل رآه أو ما رآه؟ والكلام فيها يطول. [وأن الله تبارك وتعالى يجيء يوم القيامة؛ ﴿ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [الفجر: 22] لعرض الأمم وحسابها، وعقوبتها وثوابها، وتوضع الموازين لوزن أعمال العباد، ﴿ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 8، والمؤمنون: 102]، ويؤتون صحائفهم بأعمالهم، فمَن أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا، ومن أوتي كتابه وراء ظهره فأولئك يصلون سعيرًا]. سبحان الله العظيم، الماتن رحمه الله يستقي مضامين هذه العقيدة من القرآن، فهي تضمين من الآيات، قال: [وأن الله تبارك وتعالى يجيء يوم القيامة ﴿ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [الفجر: 22]] أخذه من قول الله تعالى في الفجر: ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [الفجر: 22]، يوم القيامة يجيء الله، والمجيء صفة من صفاته سبحانه، فهي صفة فعلية يفعلها سبحانه إذا شاء، كيف يجيء؟ الله أعلم، ومعنى المجيء نعرفه في لغة العرب، أنه يأتي سبحانه لفصل القضاء، لماذا يجيء؟ [لعرض الأمم]، تعرض عليه الأمم، ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 18]، [وحسابها، وعقوبتها، وثوابها]، ليحاسبهم عليها، الحساب للجميع، ومعنى الحساب أن يعرف العبدُ مقادير عمله، قليلًا كان أو كثيرًا، صالحًا كان أو فاجرًا، تعريف العباد مقادير أعمالهم من ناحية الثواب والجزاء، والمثوبة والعقاب؛ولهذا مراحل الآخرة، أيها الإخوة، يمكن أن نرتبها على هذا الترتيب إجمالًا، وإلا فالتفصيل يطول، من مراحل القيامة: المرحلة الأولى من مراحل القيامة: أشراط الساعة، الكبرى والصغرى، المرحلة الثانية: النفخ في الصور، كم ينفخ في الصور من نفخة؟ الصحيح أنهما نفختان، نفخة صعق وفزع، هذه الأولى، ينفخ في الصور نفخة طويلة، فيفزع من في السموات والأرض؛ كما جاء في آية سورة النمل في آخرها: ﴿ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ﴾ [النمل: 87]، فأولها فزع، يفزعون، وفي آخرها صعق، يصعقون؛ كما جاء في آية الزمر في آخرها: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ﴾ [الزمر: 68]؛ ولهذا جاء في الحديث أنه ينفخ في الصور، والنفخة تبدأ يسيرًا، ثم ترتفع شيئًا فشيئًا، (فأحدهم يلوط حوضه، أو يسوق غنمه، فيصغي ليتًا ويرفع ليتًا)، يتسمع لهذا الصوت وهو يزداد شيئًا فشيئًا، وفي آخره يصعق، حتى إن الرجل يرفع اللقمة إلى فيه لا يتمها، ثم يبقى بين النفختين مدة أربعين، هل تكون أربعين يومًا، أربعين شهرًا، أربعين عامًا؟ في كل لفظ يقول أبو هريرة: (أبيت)، لكن جاء عند البزار أنه قال: (أربعين عامًا)، بين النفختين، وذلك إذا نفخ النفخة الأولى، نفخة الفزع والصعق، فمات من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، يقول الله جل وعلا لإسرافيل، وإسرافيل ما له وظيفة إلا أن البوق في فيه، وعين على البوق، وعين ثانية على عرش الرحمن، ينظر متى يؤمر، وهو بوق عظيم، صور عظيم، لا نعلم قدره، فيقول الله لإسرافيل - وهو أعلم -: من بقي، يقول: بقيت أنا، وجبريل، وميكال، وملائكتك المقربون، الكروبيون، فيأمرهم، فيموتون، فلا يبقى إلا إسرافيل، ثم يأمره فيموت، فينادي سبحانه عندئذ: ﴿ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ﴾ [غافر: 16]، فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه: ﴿ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [غافر: 16]، ثم يحيي إسرافيل، فيأمره بالنفخ في الصور، فعندئذ يرسل الله جل وعلا ماءً كماء الرجال، فينزل على الأرض، فتنبت منه أجساد البشر من عَجْبِ الذَّنَب، فينفخ إسرافيل النفخة الثانية، نفخة البعث، يقول الله تعالى في آية سورة الزمر: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ﴾ [الزمر: 68]، فدل على أن النفخة نفختان، ثم تتطاير أرواحهم إلى أجسادهم كأنهم جراد منتشر، وهو البعث، وعندئذ يأتي المقام الثالث، وهو الحشر، وهو قيام الناس من قبورهم، من الأجداث، كأنهم جراد منتشر، ثم المقام الرابع مقام الحشر، ثم المقام الخامس مقام الشفاعة العظمى، وما يتلوها، ثم المقام السادس مقام تطاير الصحف، كما قال رحمه الله: فمن أخذ كتابه بيمينه [فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا]، ومن أخذ [كتابه وراء ظهره]، ثم بعد التطاير: المقام السادس الحساب، وهو تعريف الناس مقادير أعمالهم، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر، ثم مقام الحوض، حوض النبي عليه الصلاة والسلام، وحوضه عظيم، طوله كعرضه، مربع، يصب فيه ميزابان من السماء، من نهر أعطاه الله نبيه عليه الصلاة والسلام، هو نهر الكوثر؛ ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ [الكوثر: 1]، وهذا الحوض عظيم، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وحلاوة من العسل، وبردًا من الثلج من غير ضرر، عليه كيزان بعدد نجوم السماء، لكن لن يرد الحوض كل أحد من أمته؛ فالملائكة تقف دون الحوض وتمنع أقوامًا من أن يردوا حوضه، والنبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يقول: ((أمتي أمتي))، وهذا اللفظ هو الثابت، وما جاء من لفظ: (أصحابي، أصحابي)، فعلى ثبوته المراد به مطلق الأمة، وفيه رد على من قال: إن الصحابة ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وهو قول مبغضة الصحابة، قبَّحهم الله، وأنزل عليهم ما يستحقون، يقول: ((أمتي أمتي))، فيقال: ((لا تدري ماذا أحدثوا بعدك))، قال النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ((فأقول: بُعْدًا، بُعْدًا))، أو: ((سُحْقًا سُحْقًا لمن أحدث بعدي))؛ أي: بدل وابتدع، وأتى بدين استحسنه واستساغه ضد دين النبي عليه الصلاة والسلام، من البدع والأهواء والمحدَثات،مما يكون يوم القيامة أيضًا الميزان، وهذا مقام ثامن، سيأتي الكلام عليه إجمالًا،مما يكون يوم القيامة أيضًا الصراط، وهو مقام تاسع، ومنها أيضًا القنطرة بعد الصراط، التي يقتص للمؤمنين فيها بعضهم من بعض، ثم المقام الأخير، إما جنة وإما نار، هذه أيها الإخوة هي مقامات اليوم الآخر، والكلام عليها تفصيلًا يطول. أشار الماتن رحمه الله إلى الموازين، قال: [وتوضع الموازين لوزن أعمال العباد، ﴿ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 8]]، ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [الأنبياء: 47]، ﴿ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾ [الأعراف: 8، 9]، فدل على أن الموازين عدة، والميزان جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما وصفه، أنه ميزان ذو كفتين ولسان، كما دل عليه حديث صاحب البطاقة، حديث عبدالله بن عمرو بن العاص عند أحمد بإسناد صحيح، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((ينشر على رؤوس الخلائق يوم القيامة رجل قد أسرف على نفسه، فتخرج له سجلات كمد البصر، فيها سيئاته، ثم يقال له: هل لك من حسنة؟ فإذا رأى سيئاته قد أحصيت وعدت عليه، قال: ليس لي من حسنة، فيقول الله عز وجل: إنك اليوم لدينا لا تظلم، فتخرج له بطاقة، قال: فيها مكتوب لا إله إلا الله، قالها موقنًا من قلبه، قال: رب، وما تصنع هذه البطاقة مع هذه السجلات مد البصر؟ فتوضع السجلات في كفة، وتوضع لا إله إلا الله البطاقة في كفة، فتطيش البطاقة بالسجلات))، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ((ولا يثقل مع اسم الله شيء))؛ لأنه قال: لا إله إلا الله مخلصًا بها من قلبه، موحدًا، صادقًا بها، وهذا الحديث عند أهل العلم يسمى بحديث البطاقة، دل على أن الميزان له كفتان، والموازين كثيرة، لكنها موازين حساسة، للعمل الصالح والإيمان. ما الذي يوزن فيها؟ يوزن فيها أمران، جاء أنه يوزن فيها العمل الصالح، ﴿ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 8]، بأي شيء ثقلت؟ بالعمل الصالح، وجاء أيضًا أن الذي يوزن العامل مع عمله، ودل على ذلك القرآن والسنة، في السنة حديث رواه البخاري: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((وإنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، فلا يزن عند الله جَناح بعوضة، فاقرؤوا إن شئتم: ﴿ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ [الكهف: 105]))، دل على أنه يوزن فلا يبلغ وزنه شيئًا، دليل آخر: ما جاء في الصحيح أن ابن مسعود رضي الله عنه، عبدالله بن مسعود بن غافل الهذلي، رقي يومًا على شجرة من أراك، ليجني مسواكًا، عودًا من أراك، فكشفت الريح عن ساقيه، فإذا هما ساقان دقيقتان، فضحك الصحابة رضي الله عنهم، تعجبًا من دقة ساقَيْ عبدالله، فسأل النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ((لم تضحكون؟))، فأخبروه، قال: ((أتعجبون من دقة ساقَيْ عبدالله؛ إنهما لأثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أُحد))، فدل على أن العامل يوزن يوم القيامة مع عمله، فيثقل بما معه من الإيمان والتوحيد، وتعظيم الله، وتعظيم رسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم اتباعًا له،هذا ما يتعلق بالميزان، وانحرف في الميزان المعتزلة والجهمية فقالوا بإنكار الميزان، قالوا: الميزان لا يحتاجه إلا البقال والفوال، وهذا من قبح عقولهم، ومن رداءة دينهم وعقائدهم أن ردوا ما جاء في القرآن والأحاديث، ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ [الزلزلة: 7]، مثقال الذرة من خير أو شر إنما يعرف بالميزان، بتعريف الله جل وعلا له، والله وضع الميزان ليظهر في ذلك المقام للعباد كمال عدله، وإلا فإن الله يأتي يوم القيامة بالشاة الجلحاء فيقتص لها من الشاة القرناء. هل البهائم مكلفة؟ غير مكلفة، لكن لماذا يكون هذا؟ ليظهر الله جل وعلا للعالمين كمال عدله، حتى البهائم غير المكلفة، يقتص للمظلومة من ظالمتها، ثم يأمر البهائم فتكون ترابًا. هنا انتهى الشريط الرابع، وتم تفريغه في يوم الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول عام 1428هـ. ♦♦♦ الشريط الخامس، وتم البدء في تفريغه مباشرة بعد الانتهاء من الذي قبله. مضى في مجالسنا السابقة الكلام على مراحل القيامة، بدءًا من أشراط الساعة، فالبرزخ، فنفخة الصعق والفزع، ثم نفخة البعث، ثم قيام الناس من قبورهم كأنهم جراد منتشر، فالحشر، فالشفاعة العظمى، فتطاير الصحف، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره، ثم الحساب، وهو تعريف الناس مقادير أعمالهم، ثم الميزان، حوض النبي عليه الصلاة والسلام، ثم بعد هذا الصراط، الصراط المستقيم، وبعد الصراط: القنطرة، ثم الجنة أو النار. (يتبع).
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (17) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة" تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386) والصراط المستقيم هو الذي عناه الشيخ بقوله: [وأن الصراط حق]؛ أي: نؤمن بالصراط المستقيم، وهو جسر ممدود على متن جهنم، جاء ذكره في القرآن إجمالًا في قوله تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]، فإن من هداه الله صراطه المستقيم في الدنيا، جاز على الصراط المنصوب على جهنم يوم القيامة، وجاء ذكره تحديدًا في آية مريم، في قوله سبحانه: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 71، 72]، فإن ورود جهنم، كما جاء بيانه في السنة، هو ورودها من على هذا الصراط، الجسر المنصوب على متن جهنم، في السنة تواترت الأحاديث في هذا الصراط، كثرة وبيانًا، تواترًا معنويًّا، فمما جاء في وصف هذا الصراط: أنه جسر دقيق، وأنه أحدُّ من السيف، وأدق من الشعر، وأنه معوج، وأنه مظلم، وأنه دحض؛ أي: زلق، وأن عليه كلاليب قد أمرت بخطف أناس بأعيانهم، ومما جاء فيه أيضًا مما أشار إليه الماتن رحمه الله بقوله: [يجوزه العباد بقدر أعمالهم]، يجُوزه؛ أي: يجتازون عليه، يعبرون عليه بقدر أعمالهم، فمنهم من يمر على الصراط بسرعة البرق، وهؤلاء كُمَّل المؤمنين، ومنهم من يجوز على الصراط بسرعة الريح، ومنهم من يجوز على الصراط بسرعة أجاويد الخيل؛ أي: الخيل السريعة، ومنهم من هو أقل، بسرعة أجاويد الرِّكاب، الركاب: جمع ركوب، وهي الإبل، ومنهم من يجوز على الصراط يشتد اشتدادًا؛ أي: يركض، يسعى سعيًا، ومنهم من يجوز على الصراط يمشي مشيًا، ومنهم من يجوز بسرعة، من يحبو حبوًا، وأقل أهل الإيمان من يجوز على الصراط؛ حيث أخبر صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أنه يكون في إبهامه نور، فإذا أضاء له قدم رجله، وإذا أخفت وقف، وقبل الصراط تكون مفاصلة أهل الإيمان بأهل النفاق؛ وذلك أن المنافقين يتبعون المؤمنين في العرصات، حتى يأتوا دون الصراط، فيتفاصلون، فيتقدم المؤمنون، ويتأخر عنهم المنافقون، فيناديهم المنافقون: ﴿ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحديد: 13]، وقوله: (انْظُرُونَا)، النظر، مر معنا أنه إذا عدي بـ "إلى"، فمعناه المعاينة بالبصر، ولكن إذا عدي النظر بنفسه، يعني احتاج إلى مفعوله مع فاعله، فمعناه التوقف والانتظار، ﴿ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ﴾ [الحديد: 13]؛ أي: انتظرونا، هنا فعل: نظر، ينظر، تعدى بنفسه، ومن ذلك قول الله جل وعلا في آخر سورة البقرة: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ [البقرة: 280]؛ أي: انتظار إلى ميسرة، كأن تقول لأحد إخوانك: انظرني حتى آتيك، أو تقول: انظرني حتى أوفي دَينك، أو: انظرني أتفكر في هذه القضية؛ أي: انتظرني، النظر له مقام ثالث في تعدياته وصلاته، إذا تعدى بحرف الجر: "في"، فمعناه التفكر والاعتبار؛ وذلك كقول الله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 185]؛ أي: يتفكروا ويعتبروا، كأن تقول أنت للشيخ، أو يقول لك شيخك أو أحد من الناس: انظر يا أخي في هذه المسألة، يعني تأمل فيها، تفكر واعتبر، إذًا صح من هذا أن النظر له ثلاثة اعتبارات بتعدياته في لغة العرب، إما أن يتعدى بحرف الجر "إلى"، فلا يعني إلا المعاينة بالبصر، انظر إلى المسجد؛ أي: عايِنْه، ومنه قول الله جل وعلا: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23]، المقام الثاني: أن يتعدى النظر بنفسه، فمعناه التوقف والانتظار؛ كقول المنافقين قبل الصراط للمؤمنين: ﴿ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ﴾ [الحديد: 13]؛ أي: انتظرونا، المقام الثالث أن يتعدى بحرف الجر "في"، ومعناها التفكر والتأمل والاعتبار، ومنه قوله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 185]. أضعف أهل الإيمان من يجوز على الصراط وقد أضاء إبهامه، فإذا أضاء قدم رجله، وإذا خفت النور وقف، دل هذا على أن الصراط مظلم، وأسفله نار جهنم، ونار جهنم سوداء مظلمة، جاء في الحديث عند أحمد وغيره: أن الله جل وعلا أحمى على نار جهنم ألف عام حتى احمرت، ثم ألف عام حتى ابيضت، ثم ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة، الصراط أيضًا عليه كلاليب، خطاطيف، شبهها عليه الصلاة والسلام بشوك السعدان، الإخوان الذين يطلعون للبر يعرفون شوك السعدان، الهدب، هدب الشوك من جميع أطرافه، إذا يبس يعلق بالثياب، ويعلق بالمتاع، ويعلق بالفراش، ويصعب إزالته، هذه الكلاليب التي على الصراط شبهها النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بشوك السعدان، لكنها أُمِرت بخطف أقوام، فمن خطفته أخذته فألقته في نار جهنم، النبي عليه الصلاة والسلام عند أدنى الصراط من جهة الجنة، رافعًا يديه إلى السماء، قائلًا: ((اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم))، قال النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ((فناجٍ مسلَّم))، وهذا كما قال الماتن: [فناجون متفاوتون في سرعة النجاة عليه من نار جهنم]؛ لأن من لم ينجُ يكب على وجهه في نار جهنم. [وقوم أوبقتهم فيها أعمالهم]؛ أي: أعمالهم الفاسدة، ((اللهم سلم سلم، فناج مسلَّم، ومكدوس مكردس على وجهه في نار جهنم))، قد يكون من أهل الكبائر، وقد يكون من أهل الكفر، هذا وارد، وهذا وارد، والغالب أنهم من أهل الكبائر؛ لأن الناس من أهل المحشر منهم من يساق مباشرة إلى النار، ومنهم من يساق بعد الوزن إلى النار، ومنهم من ينتظر حتى تخطفه الكلاليب التي أمرت به، فيبقى كالمتوجس خيفة من آثار ذنوبه، ومنهم من سبقت له من الله الحسنى، فقبله ربه، أو قبل فيه شفاعة الشافعين من النبيين والصالحين والملائكة والشهداء، ومقدمهم محمد عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا من أعظم ما يكردس المرء على وجهه في نار جهنم حصائد لسانه؛ أي: ثمرة هذا اللسان؛ ولهذا كان الصالحون الذين عرَفوا الله وأيقنت قلوبهم إيمانًا بالله، كانوا أشد الناس خوفًا من آثار اللسان، حتى صح عن الصِّديق رضي الله عنه أنه كان يأخذ بلسانه، معلوم من هو الصديق، الذي سبق الناس كلهم بصدق الإيمان ويقينه، وكمال التوحيد وعظمه، كان يأخذ بلسانه ويقول: "هذا الذي أوردني الموارد"، أو قال: "سيوردني الموارد"، ولأن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث معاذ الطويل، وهو من أحاديث الأربعين، معاذ في آخر الحديث استوصى النبي عليه الصلاة والسلام، قال: أوصني يا رسول الله، قال: ((كف عنك هذا))، وأخذ عليه الصلاة والسلام إما بلسانه أو بلسان معاذ، قال: يا رسول الله، أوئنا لمؤاخذون؟! قال: ((ثكلتك أمك يا معاذ!))، هذه الكلمة معناها: فقدتك أمك، لكن العرب جرت على ألسنتهم هذه الكلمة من غير إرادة لمعناها، كقولهم: "شلت يمينك"، كلمة تأنيب وتأديب، لا يراد منها حقيقة معناها، فلا يتصور أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يدعو على معاذ أن تفقده أمه، ولكنها كلمة تأنيب، ولفت انتباه وتأديب، قال: ((ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!))، وأعظم ما يكون في هذا، أي: حصائد الألسنة، ما يكون من الكلام في دين الله جل وعلا؛ ولهذا جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال: (وإن الرجل)، وفي رواية: ((إن المرءَ ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها))؛ أي: ما ينتبه لما تبلغه من سخط الله جل وعلا، ((يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب))، جاء أيضًا تفسير هذا الحديث من وجه آخر في السنن، عند ابن ماجه وغيره: ((وإن المرء ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا، يهوي بها في النار سبعين خريفًا))، يهوي بها؛ أي: بسبب هذه الكلمة التي صارت عند الله سخطًا ومقتًا، إلى أن يبلغ قعر جهنم؛ دليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم كان جالسًا مع أصحابه فسمعوا وجبة، صوتًا ارتطم في الأرض، فقال صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم: ((أتدرون ما هذا؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((هذا حجر ألقي من على شفير جهنم منذ سبعين خريفًا، الآن بلغ إلى قعره!)) قد يهوي العبد بسبب كلمة ألقاها من غير ما يلقي لها بالًا أو يتبين فيها، أو يظن أنها تبلغ مبلغها، فيسخط الله عليه بهذه الكلمة حتى يجعله في الدرك الأسفل من النار! ومن صور ذلك ما يتحدث به الناس على سبيل السخرية والاستهزاء والاستهتار بالله أو بأسمائه أو بصفاته أو برسوله أو بدينه، وهذا ما أكثر وقوعه في هذه الأزمان المتأخرة لما ضعف وازع الإيمان ومخافة الرحمن، وخف شأن الإيمان والعقيدة في القلوب. إذًا أعظم ما يسبب الهويَّ في النار: حصائد الألسنة؛ كما دلت عليه الأحاديث، وهذا الصراط ينجو عليه من سمعتم من أهل الإيمان، ومرور المؤمنين على الصراط مع هذا الهول العظيم والخوف ينقي الله به جل وعلا الذنوب؛ ولهذا من قرأ منكم شرح الطحاوية يجد أن شارح الطحاوية ذكر أن الأسباب المكفرة للذنوب عشرة، والحادي عشر رحمة أرحم الراحمين،من أسباب تكفير الذنوب ما يجده المؤمن في دنياه من هم وغم ومصائب؛ فإنه ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا مصيبة إلا كفر الله جل وعلا عنه بها من الخطايا،أيضًا توبته تكفر الخطايا، واستغفاره، والفرق بين التوبة والاستغفار أن التوبة على ما مضى، والاستغفار على ما يأتي، هذا إذا جُمعا في موضع واحد، وإذا لم يجمعا فالتوبة تشمل الاستغفار؛ فإن لفظ التوبة والاستغفار كلفظ الفقير والمسكين، وكلفظ الإيمان والإسلام، وكلفظ الفسوق والعصيان، إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، كما نص على هذا أبو العباس رحمه الله في الإيمان الكبير، وغيره من العلماء. من أسباب تكفير الذنوب: ما يصيب المؤمن عند سكرات الموت، من الهول والهم، هذا من تكفير الذنوب، أيضًا ما يكون معه في قبره، في أهوال يوم القيامة، ومن ذلك عبوره على الصراط، يكفر الله جل وعلا به من الذنوب، حتى آخر ذلك يكون في القنطرة التي هي دون الجنة، يقتص فيها لأهل الإيمان بعضهم من بعض. المؤمن في هذا يشبه الذهب، المذهبة، الذهب كلما زاد صليًّا في النار تخلفت عنه الشوائب من المعادن الأخرى، كلما زاد صليًّا في النار نقي، كذلك المؤمن، كلما زادت عليه البلايا والمحن والأهوال تمحص وتنقى من آثار وأدران الخطايا والذنوب، فلا يدخل الجنة إلا وهو منقًى ليس عليه شائبة؛ ولذلك لاحظوا يا إخواني كيف أن الأنبياء والأولياء والصالحين أشد الناس بلاءً، لهذا المعنى، هذا كما جاء في قوله تعالى: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 3]، ومن فقه الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى أن ترجم على هذه الآية في سورة العنكبوت بما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال: ((أشد الناس بلاءً))، والبلاء مطلق، لفظة عامة، ((الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل))، كلما زاد الإيمان، زِيد في البلاء. قبل هذا، الصحابة رضي الله عنهم، وهذا كما قلت لكم: "من كان بالله أعرف، كان منه أوجل، وله أخوف"، كانوا إذا مروا على آية مريم: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 71]، يمرون وهم في حال وجل عظيم، بل يبكون، كما جاء ذلك عن عبدالرحمن بن صخر، أبي هريرة، وعن جابر وغيرهم، قالوا: "من يضمن لنا في الصدور بعد الورود، وأنى لنا بالصدور بعد الورود؟!"، هذا حال من كان بالله أعرف يا إخوان، أيها الإخوة، إن منا من جعل على قلبه من الران أو الغشاوة أو القساوة، فيمر على مثل هذه المقارع، مقارع القلوب في قراءته فلا يقف عندها، هذا بسبب الغشاوة التي على القلب، وأعظمها بقسوته، وذلك بما أتى مما أتى من المعاصي، فإن المعاصي أشد ما تكون قسوة للقلب وغفلة له، نسأل الله أن يعفو وأن يسامح.
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (18) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة" تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386) [والإيمان بحوض رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم]، لماذا ذكر المؤلف ويذكر أهل السنة الإيمان بالحوض والميزان والصراط؟ أليس أمور الآخرة كلها نؤمن بها على التفصيل؟ لماذا ينص على هذه؟ لأن هناك من المسلمين من أنكرها، أو أوَّلها، أو حرفها، وأشهر هؤلاء المعتزلة والجهمية، وأيضًا الفلاسفة، الفلاسفة أنكروا مسائل البعث، الفلاسفة المنتسبون للإسلام أنكروا مسائل البعث؛ لأن الفلاسفة نوعان، فلاسفة ملاحدة وفلاسفة اليونان، كأرسطو، والفلاسفة المشائين، والأبيقورية، والنسطورية، الفلسفة في الحقيقة، وهذا استطراد له مناسبته، أنواع، هناك فلسفة رياضية وأشهرها فلسفة فيثاغورس، هذه لا بأس بها، هناك فلسفة أخلاقية، كفلسفة أفلاطون، صاحب المدينة الفاضلة، وهناك فلسفة طبيعية، في أمور الطبيعيات، وهناك فلسفة إلهية، في مسائل الإلهيات، وهذا هو مزلة القدم، وحامل رايتها عند اليونان هو أرسطو، تلقاها من المسلمين أبو نصر الفارابي، وعلي بن سينا الرئيس، والكندي، وابن رشد الحفيد، وأمثالهم، أبو علي بن سينا، المعلم الثاني، وأبو نصر الفارابي، المعلم الأول، حاولوا أن يجمعوا بين فلسفة اليونان والإسلام، فكان من ذلك بأن قالوا بأن البعث بعث الأرواح فقط دون الأجسام، فأثَّر هؤلاء الفلاسفة بوجه أو بآخر من خلال الترجمات وغيرها على الجهمية والمعتزلة الذين أنكروا تفاصيل ما يكون في البعث، من الميزان، قالوا: ما يحتاج للميزان إلا البقال! أنكروا الصراط، أنكروا حوضه عليه الصلاة والسلام، والحوض ما جاء ذكره صراحة في القرآن إلا تنويهًا وإشارة في آية الكوثر: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ [الكوثر: 1]، والكوثر نهر في الجنة، أوتيه رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، يصب منه ميزابان في حوضه العظيم، وقد مضى التنويه بحوضه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قبلًا بأنه مربع، طوله كعرضه، وهذا تفاوتت فيه الروايات، جاء فيها أن طوله من المدينة إلى بصرى، وفي بعض الروايات من المدينة إلى عمان، طوله كعرضه، والمراد بعمان: بلادكم هذه، وما وراءها؛ لأنها تسمى عمان في تاريخ المسلمين، حتى هذا الساحل يسمى بساحل عمان في التاريخ. بقيت مسألة ما ذكرناها، وهي: هل لكل نبي حوض؟ أم أن الحوض فقط لمحمد عليه الصلاة والسلام، وراجح هذه المسألة أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم حوضه أكبر الأحواض وأعظمها، ولكل نبي حوض يرده المؤمنون من أمته، وحوض صالح عليه السلام هو حوض ناقته التي هي آية أيده الله بها، وأن هذا الحوض يذاد عنه من بدل وغير وزاد في دينه عليه الصلاة والسلام؛ أي المبتدعة المحدِثون في دين الرسول ما لم يشرعه رسول الله، والإبدال هو الابتداع، وأيضًا يطلق الإبدال على إبدال الطاعة بالمعصية، كما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((المدينة حرمٌ ما بين عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين))، إحداث الحدث فيها يشمل أمرين، البدعة، الأمور المحدثات، ويشمل أيضًا الأحداث العظيمة بالمعاصي والكبائر وإيواء أهلها، وهذا هو الذي اختاره سماحة شيخنا رحمه الله الشيخ ابن باز بأن الإحداث يشمل هذين الأمرين، وذهب بعض العلماء إلى أن الإحداث هو البدع، لكن المعنى أشمل، من أحدث فيها حدثًا، والحدث حتى ما يتعلق بأمور المسلمين العامة، كمن يؤوي المخربين، الخارجين عن طاعة ولي الأمر، الذي له في أعناق الناس بيعة توجب السمع والطاعة، هؤلاء محدثون، وفي حديث علي عند مسلم قال: حدثني النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بأربع كلمات: ((لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوَى محدِثًا - أي: تستَّرَ عليه - ولعن الله من غيَّر منار الأرض))، وهذا الحديث لعله مر عليكم في كتاب التوحيد، في باب ما جاء في الذبح لغير الله. ترِدُه أمته لا يظمأ من شرب منه، ويذاد عنه من بدَّل وغيَّر. وأن الإيمان: قول باللسان، وإخلاص بالقلب، وعمل بالجوارح، يزيد بزيادة الأعمال، وينقص بنقصها. لاحظوا قول ابن أبي زيد رحمه الله، موافق لقول السلف جميعًا من أولهم إلى آخرهم، الإيمان عند السلف قول وعمل، هذا بالإطلاق، وبالتفصيل على هذه الأمور الخمسة أنه: [قول باللسان] فلا يصح إيمان من يؤمن حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وهذا أعظم ما يكون بالقول، التسبيح، التهليل، الدعاء، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلها من أفراد هذا الإيمان،وقال: [وإخلاص بالقلب]، يعني: اعتقاد بالجَنان، هذا لا بد منه،الثالث: [وعمل بالجوارح]، وهو الذي يعبر عند بعضهم: عمل بالأركان، فإماطة الأذى من الإيمان، الصلاة التي فيها ركوع وسجود وخشوع وقيام من الإيمان، الجهاد من الإيمان، العبادات البدنية المحضة كالحج من الإيمان، قال - وهذا الرابع -: [يزيد بزيادة الأعمال]، والأعمال هنا تشمل عملين: عمل الجوارح، وعمل القلب، إذا زاد خشوعه، أو زادت خشيته، أو رجاؤه أو توكله، أو مخافته، زاد إيمانه، وهي عمل قلب، أو زاد بعمل الجوارح، كمن صلى ألف صلاة أكمل ممن صلى مائة صلاة. [وينقص بنقصها]، ينقص الإيمان بنقص الأعمال؛ ولهذا يا أيها الإخوة لا يزال الإيمان يزداد بأسباب زيادته من الأقوال والأعمال حتى يكمل، ولا يزال الإيمان ينقص بنقص الأعمال والأقوال حتى يضعف أو يضمحل؛ ولهذا تفاوت أهل الإيمان في الإيمان تفاوتًا عظيمًا، منهم من بلغ إيمانهم الثريا، ومنهم من ما زال إيمانهم في حضيضهم؛ ولهذا من الأصول المقررة في مسائل الإيمان: أن الإيمان له شُعَب، يزداد الإيمان بها، كما أن الكفر له دركات يتفاوت الناس بها، فأهل الإيمان هل هم على درجة واحدة؟ هل إيمان أبي بكر كإيمان الفساق؟! لا! ولهذا انحرف المرجئة لما قالوا: إن إيمان أصلح الناس كإيمان أفسقهم، بل قال قائلهم: إيماني كإيمان جبريل والملائكة وأبي بكر وعمر؛ لأن الإيمان عندهم لا يتفاوت زيادة ونقصًا، وهذا من أعظم المسائل التي اختلف فيها أهل السنة مع هؤلاء المرجئة، وهي مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، وهي ثمرة الخلاف مع هؤلاء المرجئة. إذًا الإيمان عند الإجمال في مسماه: قول وعمل، وعند التفصيل ينبني على هذه الخمس، أنه قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بطاعة الرحمن، وينقص بطاعة الشيطان، هذا عند التفصيل، والأدلة على الزيادة والنقصان كثيرة، من القرآن: ﴿ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ﴾ [المدثر: 31]، ﴿ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]، من السنة: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن))، من الآثار السلفية: قول عمرَ رضي الله عنه لمعاذ وغيره: "تعال بنا نؤمن ساعة"، "اجلس بنا نؤمن ساعة"، لاحظوا الأدلة في القرآن جاء فيها لفظ الزيادة، ولم يأتِ فيها التصريح بلفظ النقصان، ومن العلماء من قال - كابن المبارك والإمام مالك -: إن الإيمان يزيد، وسكتوا عن النقصان تأدبًا مع القرآن، بل قال ابن المبارك: إن الإيمان يتفاضل، النقصان وجهه أن كل شيء زاد لا بد أنه قبل الزيادة أنقص منه بعد الزيادة؛ ولهذا من لم يقل بالنقصان من أهل السنة فإن قوله لا يخالف قول من قال بالنقصان، لا يخالف إلا لفظه، وإلا في الحقيقة فهو معه، والإمام مالك في الرواية المشهورة عنه، ما رواه عنه يحيى بن أبي كثير، ورواه القاسم، وابن وهب، وأكثر أصحابه رووا عنه بالروايات الثابتة عنه أنه قال بالنقصان، وفي رواية أنه قال بالزيادة وسكت، وهذا مأخذه عند مالك وغيره التأدب مع لفظ القرآن. [فيكون فيها النقص، وبها الزيادة]، بالأعمال، أعمال الجوارح، وأعمال القلوب، يكون النقص فيها، لا في أصل المعرفة، أو أصل العلم، النقص والزيادة في هذه الأعمال، ومعلوم أن القلب له قول وله عمل، فقول القلب هو اعتقاده، اعتقاده بالله وبأسمائه وبصفاته، وعمل القلب هو خشيته، وتوكله، ورجاؤه، وخوفه، هذه هي أعمال القلوب الكثيرة، الزيادة تكون في هذه الأعمال، لا بمجرد القول، قول القلب، وإنما بالأعمال التي تنبني على هذا القول، كذلك بأعمال الجوارح، يكون فيها النقص وبها الزيادة. [ولا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل]، ما معنى قوله: [ولا يكمل]؟ قوله رحمه الله: [ولا يكمل] يراد به معنيان بحسب حاله، فيراد بقوله لا يكمل: أي: لا يصح، وهذه الحالة الأولى، لا يصح قول الإيمان إلا بالعمل، إذا قال الإنسان: لا إله إلا الله ولم يعمل، هذا لا يصح إيمانه؛ لأنه ما أتى بمباني الإسلام وأركانه العظام، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ((بُني الإسلام على خمس))، وإلا لو كان يصح إيمانه بمجرد القول، لقالها المشركون وسَلِموا من تبعاتها، لو قال: لا إله إلا الله، وصدَّق بالسِّحر، هل تنفعه لا إله إلا الله؟ ما تنفعه، لو قال: لا إله إلا الله، وذبح لغير الله، هل تنفعه؟ لا تنفعه، إذًا لا بد مع القول من عمل، إذًا الحالة الأولى: لا يصح قول الإيمان إلا بعمل، المقام الثاني: قوله: لا يصح؛ أي: لا يتم، وهذا في الأعمال الواجبة، أنه لا يتم الإيمان إلا بالعمل الواجب، إذًا نستفيد من هذا أن العمل عملان: عمل لا يصح الإيمان إلا معه، ومن ذلك أعمال القلوب؛ كإفراد الله جل وعلا بالخشية، إفراده بالخوف، إفراده بالتوكل، إفراده بالرجاء، بالاستعانة، بمسائل العقيدة المشهورة، ومن ذلك العمل؛ أي: القيام لله بالصلاة في أصح أقوال أهل العلم، فإن من لم يصلِّ، في أظهر أقوال أهل العلم، الذي حكاه شيخ الإسلام ومحمد بن نصر اتفاقًا، اتفاق السلف، كما حكاه الإمام محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة، وحكاه شيخ الإسلام في مواضع، أن السلف متفقون على أن من لم يصلِّ فليس بمؤمن، أخذًا من آيتين، آيتي براءة في أولها، ﴿ فَإِنْ تَابُوا ﴾؛ أي: عن الشرك، ﴿ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ﴾ [التوبة: 5]، وفي الآية الأخرى: ﴿ فَإِنْ تَابُوا ﴾؛ أي: عن الشرك، ﴿ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾ [التوبة: 11]، يدل عليه حديث جابر عند مسلم: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر: تركُ الصلاة))، وفي حديث بريدة: ((العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر))، وهذا عند مسلم، حديث بريدة بن حصيب رضي الله عنه: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر))، ينضاف إلى هذا ما جاء عن عبدالله بن شقيق رحمه الله، من التابعين، أنه قال: أدركتُ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة، الصلاة عمل، من لم يأتِ به مع الإيمان، مع قدرته عليه، وعنده فسحة، فإنه لا يصح إيمانه، أما من آمن في الضحى ثم مات قبل الظهر، ما قام عليه فرض الصلاة؛ ولهذا صح أنه دخل أحدٌ الجنة ولم يسجد لله سجدة؛ لأنه لم يدرك فرض الصلاة، ومعنى القول الثاني أنه لا يكمل قول الإيمان إلا مع عمل؛ أي: لا يتم الإيمان إلا مع عمل، وهذا يشمل الأعمال الواجبة، أو الأعمال المستحبة، كل بحسَبه.
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (19) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة" تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386) جواب الأسئلة: • لا يكمل: بمعنى لا يصح، وهذه دلالة اصطلاحية، في أصول الإيمان، وفي أصول العمل، وأيضًا لا يكمل؛ أي: لا يستتم، في شرائع الإيمان وخصاله، في حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام ذكرها أبو عبيد القاسم بن سلام في رسالته الإيمان أنه قال: ((لا يزال المؤمن بعمله حتى يستتم إيمانه))، ومعنى يستتم؛ أي: لا يزال يكمل الإيمان حتى يبلغ به الكمال؛ ولهذا من عباد الله من كمل إيمانه؛ كالخليلين عليهما الصلاة والسلام، وفي الحديث: ((كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا قليل، منهن امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم))، فالكمال هنا يا أخي في المعنى الاصطلاحي، لا في الدلالة اللغوية. • حوض ناقة، جاء فيها حديث أو أثر يروى، ولا أستحضر الآن الكلام على تخريجه، إنما خرجته في كتابي "الرسالة الواضحة"، من رجع منكم إلى هذا الموضع في آخرها، فيها تخريج لهذا الأثر، ومن قال به من العلماء، في آخر الرسالة الواضحة. • المحاسبة معناها: تعريف الناس مقادير أعمالهم، الحساب هو تعريف الناس مقادير العمل؛ ولهذا من الناس إذا عرف اعترف، ومنهم إذا عرف كابر، فمن كابر تشهد عليه دواوينه، فإذا قال: يا رب، ظلمتني ملائكتك، هنا يختم على فمه، وعلى لسانه، وتتكلم جوارحه بما عمل، المؤمنون غالبهم إذا قرروا بأعمالهم، أقروا بها، ولم يكابروا أو يعاندوا أو يجادلوا، هؤلاء خليقون بأن تسبق لهم من الله الرحمة، ويعطف عليهم سبحانه، ويحن عليهم، فيتجاوز عنهم، ولهذا هذا الذي كابر إذا ختم على فمه، على لسانه، نطقت جوارحه، قالت العين: أنا نظرت، وقال السمع: أنا سمعت، وقالت الرِّجْل: أنا مشيت، وقال الفرج: أنا فعلت، وقال الفخذ: أنا فعلت، ورأيت، فعندئذ يقول: تبًّا لكن! فعنكن كنت أدافع، وتأوليه هو قول الله جل وعلا: ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يس: 65]. • لا، ما هي بمحمودة، ولكن هذا من تقسيم الواقع، هناك فلسفة طبيعية، وفلسفة رياضية تدرسونها هي نظرية فيثاغورس، في الرياضيات، تدرسونها في الجبر، هناك فلسفة أخلاقية، عند أفلاطون، صاحب المدينة الفاضلة، شيخ الإسلام، في الرد على الفلاسفة والمنطقيين، قال: إن سقراط وأفلاطون لم يحصل منهما انحراف في الربوبية وفي الأسماء والصفات، بل ذكر أن سقراط كان معاصرًا لنبي الله داود، وبسط هذا عنه أيضًا ابن القيم في إغاثة اللهفان، أما الفيلسوف الذي أثر عنه عبادة الأصنام والشرك هو: أرسطوطاليس، الذي كان وزير الإسكندر المقدوني، والإسكندر المقدوني غير "ذي القرنين"، الملك الصالح الجوال، الذي طاف الدنيا، ونوه الله عنه في آخر الكهف. • الفلسفة الطبيعية في مسائل الطبيعة، في الفلك، في الأحياء، القانون قبل أن يكون قانونًا يكون نظرية، تعرفون أن هذه العلوم تبدأ نظرية، فإذا دعمت، وكثرت أدلتها أضحت مسلَّمة، والمسلَّمة هي القانون، والقانون منه ما يكون نظريًّا، ومنه ما يكون موقنًا به لا يشق ولا يخالف، وبعض قوانينهم كانت قوانين ثم هدمت، وأبدلت هذه القوانين بنظريات أُخَرَ. • نحن عددنا خمسًا؟ ما قصدت الحصر أنا، بل هي عشر، يقول: ومكفرات الذنوب عشرة، التي هي من فعل الآدمي، الحادي عشر: هي رحمة أرحم الراحمين، منها ما يصيب المؤمن من الهم والغم والمرض والنصب، حتى ما يرى في منامه من الكوابيس وأمثالها أثناء النوم، هذه مكفرات؛ لأنها داخلة في الهم، من المكفرات الموت، ما يلاقيه في قبره، ما يكون في أرض المحشر من الهول العظيم، المرور على الصراط، القنطرة، التوبة والاستغفار من المكفرات، شفاعة الشافعين، من مكفرات الذنوب، هذي تسع، الحسنات تكفر الذنوب؛ لأن الله يقول: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114]، في الحديث: ((وأتبِعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُها))، هذي عشرة، وأعظم من ذلك وأجلُّ رحمةُ أرحم الراحمين جل وعلا. • اللسان هو ما يبين ارتفاع إحدى الكفتين على الأخرى، هذا اللسان الذي في الوسط، حتى لا تطيش هذه على هذه؛ أي: تميل إحدى الكفتين، فيعرف أن هذا ماز على هذا، لكن لا يشبه ألسنة موازين الدنيا. ابن عباس هو الذي أخبر أن الميزان له كفتان ولسان. • لا، بعد الميزان. لأن هذا مما سبق في علم الله أنه يمر على الصراط، ويجازى به. • إي نعم، فيه أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه معوج.
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (20) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة" تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت386) [ولا قول وعمل إلا بنية]، اللام هنا هي: لام النفي، التي يسميها أهل العربية بالنافية للجنس، وعلامة اللام النافية للجنس أن يكون ما بعدها نكرة، فيكون منفيًّا بلا، وقد عملت فيه لا حتى أضحى منصوبًا بعدها، ومعناها أي: لا يصح القول والعمل إلا إذا انبنى على اعتقاد، والاعتقاد هو النية، ونية القلب هي عمل القلب، القلب له قول وله عمل، قول القلب هو الاعتقاد، كاعتقاده بالله، بأسمائه وصفاته، يعني معرفته بأسماء الله وصفاته وما يجب له، هذا هو قول القلب الذي هو اعتقاده، وعمل القلب، كالنية، ولا تصح العبادات إلا بها، ومن عمل القلب: الخشية، والتوكل، والإنابة، والخوف؛ ولهذا قلنا: إن الخوف يكون شركًا إذا كان خوف السر، خوف القلب، التعظيم، الاستغاثة، الاستعانة، هذه هي أعمال القلوب، ومن أشهر صور أعمال القلوب: النية والنوايا والمقاصد؛ إذ العمل قد يبدو في صورته صورة واحدة، لكن يختلف في حقيقته بالنية؛ ولهذا في حديث عمر الذي في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه))، صورة العمل واحدة، كلهم هاجر من مكة إلى المدينة، فمنهم من هاجر من مكة إلى المدينة لله، وطاعة واتباعًا لرسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ومنهم من هاجر لينكح المرأة، كمهاجر أم قيس، الذي خالف وغاير صورة العمل هو النية، الصيام، منهم من يصوم لله عبادة، ومنهم من يصوم عادة، ومنهم من يصوم حمية، ومنهم من يصوم لأن قومه صاموا، صام أهله وقومه، وهو معهم، إمعة، إن أحسن الناس أحسن، وإن أساء الناس أساؤوا، ولهذا أذكر، على ذكر الإمعة، قول أبي إسماعيل الأنصاري الهروي، صاحب المنازل، له قصيدة نونية عظيمة، يقول في قصيدته التي فيها ذكر مناقب أهل السنة، وعطف عليها بمناقب الإمام أحمد، يقول لما ذكر الإمام أحمد: أنا حنبليٌّ ما حييتُ فإن أمُتْ ![]() فوصيَّتي ذاكم إلى إخواني ![]() إذ دِينُه دِيني، ودِيني دِينُه ![]() ما كنتُ إمَّعةً له دِينانِ ![]() إذًا العمل والقول لا يصحان إلا بنية، والنية هي عمل القلب، الأقوال نوعان، والأعمال نوعان، القول قول اللسان، أعظمه وأجله بالنطق بالتوحيد، أشهد أن لا إله إلا الله، من قول اللسان الأذان، من قول اللسان قراءة القرآن، التسبيح التهليل، هذه كلها أعمال صالحة بقول اللسان، النوع الثاني قول القلب، وهو الاعتقاد، اعتقاده بالله، بربوبيته، بأسمائه، بصفاته، اعتقاده بالنبي، بأنه عبد الله ورسوله، هذا اعتقاد القلب، وهو قول القلب، والعمل عملان، عمل القلب، وعمل الجوارح، عمل القلب أظهر صوره: النية، ومن عمل القلب: أعمال القلوب، وهي عظيمة جليلة، بل ينبغي لطالب العلم أن ينتبه لها؛ لأنه بعمل القلب إذا صلح عظم درجاته عند الله جل وعلا، كالتوكل، والتوكل عمل قلب؛ ولهذا لا يصح أن يقول: توكلت على الله، ثم على فلان؛ لأن القلب لا يسع إلا واحدًا، ونص أئمة الدعوة على أن هذه العبارة: توكلت على الله ثم على فلان، أنها من قبيل الشرك الأصغر؛ لأن القلب لا يسع إلا واحدًا، أما إذا قال: توكلت على الله وعلى فلان، فهذا شرك التسوية، من ذلك أيضًا الخشية، والإنابة، والرجاء، والإجلال والتعظيم، والاستغاثة والاستعانة، والعياذة، هذه كلها من أعمال القلوب، أعمال الجوارح كثيرة، من أعمال الجوارح الطواف، والوقوف بعرفة، ورمي الجمار، الصلاة فيها قول وعمل واعتقاد، فيها الأعمال كلها؛ ولهذا عظمت الصلاة في العبادة؛ لأنها اشتملت على مناحي الإيمان، إذًا لا قول ولا عمل يصح إلا بنية، وهناك أيضًا مقام آخر، أنه لا يكمل هذا القول والعمل إلا بكمال هذه النية، إذًا لا قول، في صحته أصلًا، وأيضًا في كماله. [ولا قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة]، قد يكون الإنسان عنده قول صحيح، وعمل كثير، ونية صالحة، لكن هذا العمل على غير سنة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، عنده قول، ذكر، ومخلص في الذكر لله جل وعلا، ولكنه يقول: الله حي، الله هو، وخذ من هذا الرقص، يهز يمينًا ويسارًا! هل هذا العمل يقبل عند الله؟ لا يقبل؛ لأنه لم يوافق سنة النبي عليه الصلاة والسلام، نعم، قال قولًا في ظاهره أنه عبادة، وظاهره عنده أنه طاعة، وعنده فيه نية، مخلص في النية، لكن إخلاص النية لا يبرر سلامة العمل حتى يكون موافقًا؛ ولهذا ابن مسعود لما دخل جامع الكوفة ورآهم حلقًا، قالوا: يا أبا عبدالرحمن، ما أردنا إلا الخير؛ أي: نيتنا نية صالحة، لكن ما سوغت النية لهم العمل، الغاية ما بررت لهم العمل، ولهذا قال: كم من مريد للخير لم يدركه، وفي بعض الروايات، كم من مريد للخير لم يصبه، ما أدري من سألني منكم عن أثر ابن مسعود هذا، أين يجده؟ هذا الأثر رواه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله، ورواه أيضًا اللالكائي رحمه الله في شرح أصول اعتقاد أهل السنة،إذًا النية وحدها ما تكفي، والعمل أجمع العلماء على أن له شرطين، لا يصح العمل إلا بهما، أن يكون مخلصًا لله، وأن يكون على سنَّة رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وقوله تعالى: ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2]، فسَّرها الفضيل وغيره بأنه أصوبه، ولا يكون قائمًا إلا على سنة النبي عليه الصلاة والسلام. المقصود أن هذا السطر لخص فيه ابن أبي زيد رحمه الله ألفاظ وعبارات السلف في مسائل الإيمان، ومن أراد لها بسطًا فليراجع لها مظان كتب السلف، وأهل السنة في الإيمان، تجد أن أقوال الأئمة تناثرت على هذا المعنى، ككتاب الإيمان والسنة للخلال، الذي تضمن الإيمان للإمام أحمد، وكتاب السنة لعبدالله ابنه، وكتاب الشريعة للآجري، والسنة لابن أبي عاصم، الإبانة الكبير لابن بطة العكبري، كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي، وكتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام انبنى على هذا الأمر، ومنها: الإيمان لابن أبي شيبة، كتب الإيمان في صحيح البخاري، ومسلم، فيها مقاطيع عن التابعين وعن الصحابة بهذا المعنى، وكتاب السنة أيضًا للإمام محمد بن نصر المروزي، وتعظيم قدر الصلاة له، فإن تعظيم قدر الصلاة له يسميه شيخ الإسلام بكتاب الإيمان؛ لأنه قام على مسألة الإيمان، قام على تحقيق مسألة الإيمان، أيضًا كتاب السنة للحافظ الطبراني، وهذا كتاب لا أعرف أنه طبع بعد، لعل الله أن ييسر العثور عليه؛ لأنه كتاب جليل، ولهذا ابن القيم ذكر هذا الكتاب في النونية لما ذكر الجهمية، قال رحمه الله: ولقد تقلَّد كفرَهم خمسون في ♦♦♦ عَشْرٍ مِن العلماء في البلدان كم خمسون في عشر؟ خمسمائة، وأنا قائل لكم أيها الإخوان: دققوا الحساب، تطول العشرة، تراكم إذا خسرتم الحساب، خسرتم العشرة، حتى في أمور حساباتكم أنتم، خمسون في عشر من العلماء في البلدان، ولقد حكاه اللالكائي ومن قبله الحافظ الطبراني، يشير إلى كتابه، كتاب السنة، وهو من مصادر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه، ومصادر ابن القيم.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |