فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 38 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         السَّدَاد فيما اتفقا عليه البخاري ومسلم في المتن والإسناد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 90 - عددالزوار : 16271 )           »          وقفات مع آية خسوف القمر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          الألباني.. إمام الحديث في العصر الحديث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 1818 )           »          الأمل عبادة والثبات موقف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          مختصر تاريخ تطور مدينة القاهرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 120 )           »          نصائح وضوابط إصلاحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 58 - عددالزوار : 27232 )           »          خطورة قول: ما رأيك في هذا الحكم الشرعي؟!! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          خطورة الظن السيء بالعلماء الراسخين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          كيف تحمي الأسر العريقة أجيالها من الرفاهية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          نزيف الإيمان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #371  
قديم 02-08-2025, 09:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ هُودٍ
المجلد العاشر
الحلقة( 371)

من صــ 256 الى صـ 270





فصل:
في قوله تعالى {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه} الآية وما بعدها إلى قوله: {أفلا تذكرون} ذكر سبحانه الفرق بين أهل الحق والباطل وما بينهما من التباين والاختلاف مرة بعد مرة ترغيبا في السعادة وترهيبا من الشقاوة. وقد افتتح السورة بذلك فقال: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير} فذكر أنه نذير وبشير؛ نذير ينذر بالعذاب لأهل النار وبشير يبشر بالسعادة لأهل الحق. ثم ذكر حال الفريقين في السراء والضراء فقال: {ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور} {ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور} {إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير}.

ثم ذكر بعد هذا قصص الأنبياء وحال من اتبعهم ومن كذبهم كيف سعد هؤلاء في الدنيا والآخرة وشقي هؤلاء في الدنيا والآخرة فذكر ما جرى لهم إلى قوله: {ذلك من أنباء القرى نقصه عليك} إلى قوله: {وذلك يوم مشهود}. ثم ذكر حال الذين سعدوا والذين شقوا. ثم قال: {إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة} فإنه قد يقال: غاية ما أصاب هؤلاء أنهم ماتوا والناس كلهم يموتون وأما كونهم أهلكوا كلهم وصارت بيوتهم خاوية وصاروا عبرة يذكرون بالشر ويلعنون إنما يخاف ذلك من آمن بالآخرة فإن لعنة المؤمنين لهم بالآخرة وبغضهم لهم كما جرى لآل فرعون هو مما يزيدهم عذابا كما أن لسان الصدق وثناء الناس ودعاءهم للأنبياء واتباعهم لهم هو مما يزيدهم ثوابا.
فمن استدل بما أصاب هؤلاء على صدق الأنبياء فآمن بالآخرة خاف عذاب الآخرة وكان ذلك له آية وأما من لم يؤمن بالآخرة ويظن أن من مات لم يبعث فقد لا يبالي بمثل هذا وإن كان يخاف هذا من لا يخاف الآخرة؛ لكن كل من خاف الآخرة كان هذا حاله وذلك له آية.
وقد ختم السورة بقوله: {وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون} إلى آخرها كما افتتحها بقوله: {ألا تعبدوا إلا الله} فذكر التوحيد والإيمان بالرسل فهذا دين الله في الأولين والآخرين قال أبو العالية: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين. ولهذا قال: {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} و {أين شركائي الذين كنتم تزعمون} هو الشرك في العبادة وهذان هما الإيمان والإسلام وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ تارة في ركعتي الفجر سورتي الإخلاص وتارة بآيتي الإيمان والإسلام فيقرأ قوله: {آمنا بالله وما أنزل إلينا} الآية فأولها الإيمان وآخرها الإسلام ويقرأ في الثانية: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله} فأولها إخلاص العبادة لله وآخرها الإسلام له.
وقال: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} ففيها الإيمان والإسلام في آخرها وقال: {الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين} {ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون}.
(وقيل ياأرض ابلعي ماءك وياسماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين (44)
قيل: أراد بالسماء المطر أي: يا مطر انقطع وليس كذلك بل الإقلاع الإمساك أي: يا سماء امسكي عن الإمطار.

(تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين (49)
[فصل: براهين قرآنية مستقلة على نبوته صلى الله عليه وسلم]
والقرآن - نفسه - قد بين من آيات نبوته وبراهين رسالته أنواعا متعددة مع اشتمال كل نوع على عدد من الآيات والبراهين، مثال ذلك: إخباره لقومه بالغيب الماضي الذي لا يمكن بشرا أن يعلمه إلا أن يكون نبيا، أو يكون ممن تلقاه عن نبي، وقومه يعلمون أنه لم يتعلم ذلك من بشر، ولا من أهل الكتاب، ولا غيرهم. وهذا نوعان:
منه: ما كان يسأله عنه المشركون وأهل الكتاب ; لينظر هل هو نبي أم لا؟
وكان قومه يرسلون إلى أهل الكتاب، البعيدين عنهم، مثل من كان بالمدينة، وغيرها من أهل الكتاب، يطلبون منهم ما يسألونه عنه، فيرسلون إليهم ليسألوه عن ذلك، ويمتحنون بذلك هل هو نبي أم لا؟

ومنه: ما كان الله يخبره به ابتداء، ويجعله علما وآية لنبوته، وبرهانا لرسالته، مع ما في ذكر هذه القصص من الاعتبار لأمور أخرى، فكان كل من هذين النوعين دليلا وعبرة على نبوته، من طريقين، فكان دليلا وعبرة على نبوته من جهة إخباره بالغيب، الذي لا يعلمه إلا نبي، وكانت عبرة بما فيها من أحوال المؤمنين والكافرين التي توجب اتباع سبيل المؤمنين الذين اتبعوا مثله، وتجنب سبيل الكافرين الذين خالفوا مثله، وحكم الشيء حكم
نظيره. فإذا كان من كان مثله ومثل من اتبعه سعيدا، وحال من خالف مثله ومثل من اتبعه شقيا، كان في هذا دلالة وعبرة توجب اتباعه، وتنهى عن مخالفته، وهذا - أيضا - دليل على نبوة من قبله من الأنبياء من وجهين: من جهة أنه أخبر بمثل ما أخبروا به، من غير مواطأة بينهم وبينه، ولا تشاعر، لم يأخذوا عنه، ولم يأخذ عنهم.

وكل منهما أخبر عن الله بأخبار مفصلة، يمتنع الاتفاق عليها عادة إلا بتواطؤ، فإذا لم يكن تواطؤ وتشاعر، وامتنع اتفاق ذلك من غير مواطأة، علم أن كلا من المخبرين صادق، قال تعالى:
{لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين} [يوسف: 7].
وقص قصته في السورة، إلى أن قال:

{ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون - وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين - وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين - وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون - وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [يوسف: 102 - 106].
إلى قوله:
{قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين - وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون - حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين - لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} [يوسف: 108 - 111].
وقال تعالى: {ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا} [الكهف: 83].
وقال:
{ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء: 85].
وقال:

{أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا} [الكهف: 9].
وقال تعالى لما قص قصة نوح من سورة هود، وهي أطول
ما قصه في قصة نوح:
{تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين} [هود: 49].

فذكر سبحانه أن هذا الذي أوحاه إليه من أنباء الغيب، ما كان يعلمه هو ولا قومه من قبل هذا. فإذا لم يكن قومه يعلمون ذلك لا من أهل الكتاب، ولا من غيرهم، وهو لم يعاشر إلا قومه، وقومه يعلمون ذلك منه، ويعلمون أنهم لم يكونوا يعلمون ذلك، ويعلمون - أيضا - أنه هو لم يكن تعلم ذلك، وأنه لم يكن يعاشر غيرهم، وهم لا يعلمون ذلك، صار هذا حجة على قومه، وعلى من بلغه خبر قومه، ومثل ما أخبرهم عن قصة آدم، وسجود الملائكة له، وتزيين إبليس له حتى أكل من الشجرة، وهبط هو وزوجه.
وأخبرهم عن قصة نوح ومكثه فيهم ألف سنة إلا خمسين
عاما، وهذا في التوراة الموجودة بأيدي أهل الكتاب: مقدار لبثه في قومه قبل الغرق وبعده.

وأخبرهم عن قصة الخليل، وما جرى له مع قومه، وإلقائه في النار، وذبح ولده، ومجيء الملائكة إليه في صورة ضيفان، وتبشيره بإسحاق ويعقوب، وذهاب الملائكة إلى لوط، وما جرى للوط مع قومه، وإهلاك الله مدائن قوم لوط، وقصة إسرائيل مع بنيه ; كقصة يوسف، وما جرى له بمصر، وقصة موسى مع فرعون، وتكليم الله إياه مرة بعد مرة، وآياته كالعصا، واليد البيضاء، والقمل، والضفادع، والدم، وفلق البحر، وتظليل الغمام على بني إسرائيل، وإطعامهم المن والسلوى، وانفجار الماء من الحجر اثنتي عشرة عينا لسقيهم وعبادتهم العجل، وقتل بعضهم بعضا لما تاب الله عليهم، وقصة البقرة، ونتق الجبل فوقهم، وقصة داود، وقتله لجالوت، وقصة الذين خرجوا
من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم، وقصة الذي أماته الله مائة عام، ثم بعثه، وغير ذلك من أحوال بني إسرائيل.

إلى أن ذكر قصة زكريا وابنه يحيى، وعيسى ابن مريم، وأحوال المسيح وآياته، ودعائه لقومه، والآيات التي بعث بها، وتفاصيل ذلك، وذكر قصة أصحاب الكهف، وقصة ذي القرنين، وغير ذلك من قصص الأنبياء والصالحين والكفار مفصلة مبينة بأحسن بيان وأتم معرفة، مع علم قومه الذين يعرفون أحواله من صغره إلى أن ادعى النبوة: أنه لم يتعلم هذا من بشر، بل لم يجتمع هو بأحد من البشر يعرف ذلك، ولا كان عندهم بمكة من يعرف ذلك، لا يهودي ولا نصراني، ولا غيرهم.
فكان هذا من أعظم الآيات والبراهين لقومه بأن هذا إنما أعلمه به وأنبأه به الله، ومثل هذا الغيب لا يعلمه إلا نبي، أو من أخذ عن نبي، فإذا لم يكن هو أخذه عن نبي، تعين أن يكون نبيا.

، ثم سائر أهل الأرض يعلمون أنه لم يتعلم ذلك من بشر، من طرق:
أحدها: أن قومه المعادين له، الذين هم من أحرص الناس على
القدح في نبوته، مع كمال علمهم - لو علموا أنه تعلم ذلك من بشر - لطعنوا عليه بذلك وأظهروه، فإنهم - مع علمهم - بحاله يمتنع أن لا يعلموا ذلك لو كان، ومع حرصهم على القدح فيه، يمتنع أن لا يقدحوا فيه، ويمتنع أن لا يظهر ذلك.

الثاني: أنه قد تواتر عن قومه أنهم كانوا يقولون: إنه لم يكن يجتمع به من يعلمه ذلك.
الثالث: أنه لو كانت هذه القصص المتنوعة قد تعلمها من أهل الكتاب - مع عداوته لهم - لكانوا يخبرون بذلك، ويظهرونه، ولو أظهروا ذلك لنقل ذلك وعرف، فإن هذا من الحوادث التي تتوفر الهمم والدواعي على نقله.
الرابع: أنه حيث بعث كان الناس إما مشركا وإما كتابيا، فلم يكن هناك أحد على الدين الذي دعا إليه، وقد علم الناس بالتواتر أن المشركين - من قريش وغيرهم - لم يكونوا يعرفون هذه القصص، ولو قدر أنهم كانوا يعرفونها فهم أول من دعاهم إلى دينه فعادوه وكذبوه، فلو كان فيهم من علمه، أو يعلم أنه تعلم من غيره لأظهر ذلك.
الخامس: أن مثل هذا لو كان، فلا بد أن يعرفه - ولو خواص الناس - وكان في أصحابه الذين آمنوا به من يعرف ذلك، وكان ذلك
يشيع، ولو تواصوا بكتمانه كما شاع ما كتم من أمر الدول الباطنية، ولكان خواصه في الباطن يعلمون كذبه، وكان علمهم بذلك يناقض تصديقه في الباطن كما عرف في مثل ذلك.

فكيف، وكان أخص أصحابه وأعلمهم بحاله أعظمهم محبة وموالاة؟ بخلاف حال من يبطن خلاف ما يظهر، فإن خواص أصحابه لا يعظمونه في الباطن.
فإنه علم الناس أن قومه الذين كانوا معادين له غاية العداوة، وكانوا يطلبون القدح في نبوته بكل طريق، يعلمون أنه لم يكن عندهم بشر يعلمه مثل هذا، وأنه لم يكن في قومه ولا بلده من يعرف هذا.
علم الناس ما علمه قومه أن هذا أنبأه به الله، وكان هذا من أعلامه وآياته وبراهينه، وهذا مما يبين الله في القرآن أنه من آياته، وأنه حين أخبر قومه بهذا - مع تكذيبهم وفرط عداوتهم له - لم يمكن أحدا منهم أن يقول له: بل فينا من كان يعلم ذلك، وأنت كنت تعلم ذلك، وقد تعلمته منا أو من غيرنا. فكان إقرارهم بعدم علمه وعلمهم،
ومع فرط عداوتهم له، آية بينة لجميع الأمم أنه لم يكن هو ولا هم يعلمون ذلك.

ولهذا لما كان بعضهم يفتري عليه فرية ظاهرة، كانوا كلهم يعلمون كذبه، وإذا اجتمعوا وتشاوروا في أمره يعرفون أن هذا كذب ظاهر عليه كما كان بعضهم يقول: إنه مجنون، وبعضهم يقول: إنه كاهن، وبعضهم يقول: إنه ساحر، وبعضهم يقول: إنه تعلمه من بشر، وبعضهم يقول: أضغاث أحلام.
فحكى الله أقوالهم، مبينا لظهور كذب من قال ذلك، وأنه قول ضال حائر، قد بهره حال الرسول، فحار، فلم يدر ما يقول، كما قال تعالى:
{تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا - الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا - واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا - وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا - وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا - قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما} [الفرقان: 1 - 6].

فأخبر عمن قال ذلك، وهم يعلمون أن هذا من أظهر الكذب، فإن هذه القصص المذكورة في القرآن، لم يكن بمكة من يعرفها، فضلا عن أن يمليها كما قال:
{وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك} [العنكبوت: 48].
وقال:
{ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} [هود: 49].
ولهذا قال:

{أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض} [الفرقان: 6].
فأخبر أن هذا من علم من يعلم السر، إذ كان البشر لا يعلمون ذلك إلا من جهة أخبار الأنبياء، وليس بمكة من يعلم ما أخبرت به الأنبياء.
، ثم ذكر ما اقترحوه فقال:

{وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا - أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا - انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا} [الفرقان: 7 - 9].
أمر بالنظر في كيفية ما ضربوه من الأمثال، حيث شبهوه بمن يظهر الفرق بينه وبينه ظهورا لا يخفى على الناظر ; ولهذا قال:
{فضلوا فلا يستطيعون سبيلا} [الفرقان: 9].
إذ كان ظاهرا أن هذا ضلال عن طريق الحق، فلا يستطيع الضال عن طريق الحق إليه سبيلا.

وقال تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم - إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون - إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون - وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون - قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين - ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} [النحل: 98 - 103].
فأخبر عما افتراه بعضهم، من قوله: إنما يعلمه هذا القرآن بشر.

وكان بمكة مولى أعجمي لبعض قريش، قيل: إنه مولى لبني الحضرمي، والنبي لا يحسن أن يتكلم بلسان العجمي، وذاك لا يحسن أن يتكلم بهذا الكلام العربي. فلما قالوا: إنه افترى
هذا القرآن، وأنه علمه إياه بشر قال تعالى:
{لسان الذي يلحدون} [النحل: 103].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #372  
قديم 02-08-2025, 09:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ هُودٍ
المجلد العاشر
الحلقة( 372)

من صــ 271 الى صـ 285








أي يضيفون إليه هذا التعليم، وينسبونه إليه، وعبر عنه بلفظ الإلحاد ; لما فيه من الميل، فقال: لسان هذا الشخص الذي قالوا إنه يعلمه القرآن، لسان أعجمي، وهم لم يمكنهم أن يضيفوا هذا التعليم إلى رجل عربي، بل إلى هذا الأعجمي ; لكونه كان يجلس - أحيانا - إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك الأعجمي لا يمكنه التكلم بهذا الكلام العربي، بل هو أعجمي، ومحمد لا يعرف بالعجمية، لكن غاية ذلك الأعجمي كعبد بني الحضرمي أن يعرف قليلا من كلام العرب الذي يحتاج إليه في العادة، مثل الألفاظ التي يحتاج إليها في غالب الأوقات ; كلفظ الخبز والماء والسماء والأرض، ولا يعرف أن يقرأ سورة واحدة من القرآن.
فبين سبحانه ظهور كذبهم فيما افتروه، ولم يقل أحد منهم ما يمكن أن يكون شبهة من تعلمه أنباء الغيب، من علماء أهل الكتاب ونحو ذلك، وإنما قالوا ما ظهر بطلانه لكل أحد، ولم ينقل عن
أحد منهم أنه قال قولا يخفى بطلانه، بل ما يظهر كذبه لكل أحد.

فتبين أنه لم يمكنهم أن يقولوا: إنه تعلم أخبار الغيوب من أحد. وهذه القصة: قصة نوح - لا سيما قصته في سورة هود كما تقدم - لا يعلمها إلا نبي، أو من تلقاها عن نبي، فإذا عرف أنه لم يتلقاها عن أحد، علم أنه نبي ; ولهذا قال تعالى في آخرها:
{تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين} [هود: 49].
والقول في سائر القصص، كالقول فيها.
وكما قال - في سورة يوسف -:
{ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون} [يوسف: 102].
وقال - في سورة آل عمران، لما ذكر قصة زكريا ومريم -:
{ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون} [آل عمران: 44].
وقال: - في قصة موسى -:
{وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين - ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين - وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك} [القصص: 44 - 46] الآية.

والإنسان إنما يعلم مثل هذا بمشاهدة أو خبر، فنبه بقوله: (وما كنت لديهم) على أنه إنما علمت ذلك بإخبارنا وإيحائنا إليك وإعلامنا لك بذلك، إذ كان معلوما عند كل من عرفه: أنه لم يسمع ذلك من بشر، وأنه لم يكن هو ولا قومه يعلمون ذلك.
وقد قال تعالى:
{قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون} [يونس: 16].
بين بذلك أن تلاوته عليهم هذا الكتاب، وإدراءهم ; أي إعلامهم به، هو بمشيئة الله وقدرته لا من تلقاء نفسه، كما قال تعالى:
{وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم - قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به} [يونس: 15 - 16].

فبين أنه لبث فيهم عمرا من قبله، وهو لا يتلو شيئا من ذلك، ولا يعلمه، ولا يعلمهم به، فليس الأمر من جهته، ولكن من جهة الله الذي لو شاء ما تلاه عليهم ولا أدراهم به، وتلاوته عليهم وإدراؤهم به هو من الإعلام بالغيوب الذي لا يعلمها إلا نبي، وبين أن ذلك من الإرسال الذي يحبه الله ويرضاه، لا من الكوني الذي قدره، وهو لا يحبه، ولا يرضاه؛ كإرسال الشياطين، ولهذا كانوا يعرضون عليه أن يصير ملكا عليهم، وأن يعطوه حتى يكون من أغناهم، وأن يزوجوه ما شاء من نسائهم، فيقول: " "لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أدع هذا الأمر لم أستطع أن أدعه" "، وهذه الثلاث هي
مطلوب النفوس من الدنيا (السلطان والمال والنساء)، فيعرض عن قبول الدنيا التي هي غاية أماني طالبها، ويبين أنه لا يقدر على أن يدع ما أمر به من تبليغ الرسالة.

وقال تعالى: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا - ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا - إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا - وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا - سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا} [الإسراء: 73 - 77].
بين سبحانه أنهم كادوا أن يمنعوه بكل طريق، فإن الإنسان إنما يتم عمله بإرادته وقدرته. فمع الإدارة الجازمة والقدرة التامة يجب وجود المقدور، وإذا تعذر أحدهما امتنع، فطلبوا تغيير إرادته ليركن إليهم فيغير ما أوحي إليه، فعصمه الله وثبته.
، ثم طلبوا تعجيزه بأن يستفزوه ويخرجوه، حتى يعجز عن تبليغ رسالة ربه، ولو كان ذلك لعاجلهم الله بالعقوبة، أسوة بمن تقدمه من الرسل، فإن الله كان إذا أراد إهلاك أمة، أخرج نبيها منها ثم أهلكها، لا يهلكها وهو بين أظهرها، كما قال تعالى:
{وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [الأنفال: 33].

وهذا بعد قوله:

{وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32].
قال تعالى:
{وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [الأنفال: 33].
فلما خرج من بينهم بالهجرة أتاهم الله بعذاب أليم يوم (بدر) وغيره، فقوله:
{وإن كادوا ليفتنونك} [الإسراء: 73].
إشارة إلى سعيهم في إفساد إرادته.
وقوله:
{وإن كادوا ليستفزونك من الأرض} [الإسراء: 76].
إشارة إلى سعيهم في تعجيزه.

وقال تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون} [العنكبوت: 48].
بين سبحانه من حاله ما يعلمه العامة والخاصة، وهو معلوم لجميع قومه الذين شاهدوه، متواتر عند من غاب عنه، وبلغته أخباره من جميع الناس: أنه كان أميا لا يقرأ كتابا، ولا يحفظ كتابا من الكتب، لا المنزلة ولا غيرها، ولا يقرأ شيئا مكتوبا، لا كتابا منزلا ولا غيره، ولا يكتب بيمينه كتابا، ولا ينسخ شيئا من كتب الناس المنزلة ولا غيرها.
ومعلوم أن من يعلم من غيره إما أن يأخذ تلقينا وحفظا، وإما أن يأخذ من كتابه، وهو لم يكن يقرأ شيئا من الكتب من حفظه، ولا يقرأ مكتوبا، والذي يأخذ من كتاب غيره إما أن يقرأه وإما أن ينسخه، وهو لم يكن يقرأ ولا ينسخ.
وقال تعالى: {وإنه لتنزيل رب العالمين - نزل به الروح الأمين - على قلبك لتكون من المنذرين - بلسان عربي مبين - وإنه لفي زبر الأولين - أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} [الشعراء: 192 - 197].
إلى قوله.
{وما تنزلت به الشياطين - وما ينبغي لهم وما يستطيعون - إنهم عن السمع لمعزولون - فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين - وأنذر عشيرتك الأقربين - واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين - فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون - وتوكل على العزيز الرحيم - الذي يراك حين تقوم - وتقلبك في الساجدين - إنه هو السميع العليم - هل أنبئكم على من تنزل الشياطين - تنزل على كل أفاك أثيم - يلقون السمع وأكثرهم كاذبون - والشعراء يتبعهم الغاوون - ألم تر أنهم في كل واد يهيمون - وأنهم يقولون ما لا يفعلون - إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} [الشعراء: 210 - 227].
فقال تعالى:

{وإنه لفي زبر الأولين} [الشعراء: 196].
وقال:
{أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} [الشعراء: 197].
وعلماء بني إسرائيل يعلمون ذكر إرسال محمد ونزول الوحي عليه، كما قال تعالى:
{الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157].
وقال:
{والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين} [الأنعام: 114].
وقال:

{الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون} [القصص: 52].
وقال:
{وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين} [القصص: 53].
ويعلمون المعاني التي فيه أنها موافقة لأقوال الرسل قبله في الخبر والأمر.
فإنه أخبر عن توحيد الله وصفاته، وعرشه وملائكته، وخلقه السماوات والأرض، وغير ذلك بمثل ما أخبرت به الرسل قبله. وأمر بتوحيد الله وعبادته وحده لا شريك له وبالعدل والصدق والصلاة والزكاة، ونهى عن الشرك والظلم والفواحش كما أمرت ونهت الرسل قبله.
والسور المكية نزلت بالأصول الكلية المشتركة، التي اتفقت عليها الرسل، التي لا بد منها، وهي الإسلام العام الذي لا يقبل الله من أحد من الأولين والآخرين دينا غيره.

وأما السور المدنية ففيها هذا، وفيها ما يختص به محمد صلى الله عليه وسلم من الشرعة والمنهاج. فإن دين الأنبياء واحد كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إنا - معشر الأنبياء - ديننا واحد"، قال الله تعالى:
{شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: 13].
وقال تعالى: {ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم - وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون - فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: 51 - 53].

وقال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون - منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين - من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون} [الروم: 30 - 32].
وأما الشرعة والمنهاج، فقد قال عن أهل التوراة والإنجيل والقرآن:
{لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} [المائدة: 48].
وقال:

{ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين - الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون - والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون - لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} [الحج: 34 - 37].
إلى قوله:
{لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه} [الحج: 67].
وأما القبلة: فلم يجعل ما ابتدعه أهل الكتاب من القبلة، فلذلك قال:
{ولكل وجهة هو موليها} [البقرة: 148].
لم يقل: إنا جعلنا لكل وجهة، كما قال في المنسك والشرعة والمنهاج. وقال تعالى:
{وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} [طه: 133].
فإنه إذا أتاهم ببيان ما في الصحف الأولى - مع علمهم بأنه لم يعاشر أحدا من أهل الصحف الأولى، ولا استفاد منهم علما - كان هذا من أعظم الآيات من الله.

وكما أن إخباره عن أمور الغيب يدل على نبوته، فإنه يدل على أن النبوة إنباء من الله، ليس ذلك كما يقوله بعض المتفلسفة كابن سينا وأمثاله: (إنه فيض فاض عليه من النفس الفلكية أو العقل الفعال)، ويقولون: (إن النفس أو العقل هو اللوح المحفوظ، وأن من اتصلت نفسه به علم ما علمته الأنبياء)، ويقولون: (النبوة مكتسبة؛ لأن هذه صفتها)، ويقولون: (إن سبب علمه بالغيب هو اتصال نفسه بالنفس الفلكية)، وزعموا أنها اللوح المحفوظ، وأن تحريكها للفلك هو سبب حدوث الحوادث في الأرض، فتكون عالمة بما يحدث في الأرض؛ لأن العلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب. فإن هذا مبني على مقدمات باطلة، قد بسط الكلام على بطلانها في مواضع أخرى:
منها: إثبات العقل الفعال.
ومنها: دعواهم أنه لا سبب للحوادث إلا حركة الفلك.
ومنها: أن المحرك له هو النفس.

ومنها: اتصال نفوسنا بتلك النفس.

والمقصود - هنا - أن هذا لو كان حقا فإنما يفيد علما بالمستقبل الذي تكون الحركة الحاضرة سببا له، أما ما قد مضى بمئين أو ألوف من السنين فليس شيء من حركات الفلك - حين مبعث الرسول - كان سببا له، وإنما تكون الحركة الموجودة في زمانه سببا للمستقبل لا للماضي، وحينئذ فلا يكون تحريك النفس للفلك سببا للعلم بهذه الأمور، ولا يكون ذلك هو اللوح المحفوظ، بل القرآن المجيد في لوح محفوظ، وهو في أم الكتاب، وهو:
{في كتاب مكنون - لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة: 78 - 79].
وأخبر سبحانه أنه:
{نزل به الروح الأمين} [الشعراء: 193].
وقال في آية أخرى:
{قل نزله روح القدس من ربك بالحق} [النحل: 102].
وقال: في موضع آخر:

{قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} [البقرة: 97].
وقال:
{إنه لقول رسول كريم - ذي قوة عند ذي العرش مكين - مطاع ثم أمين - وما صاحبكم بمجنون - ولقد رآه بالأفق المبين - وما هو على الغيب بضنين - وما هو بقول شيطان رجيم - فأين تذهبون - إن هو إلا ذكر للعالمين - لمن شاء منكم أن يستقيم} [التكوير: 19 - 28].
وقال تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس} [الحج: 75].

فذكر أنه قول رسول اصطفاه من الملائكة، نزله به على رسول اصطفاه من البشر، فقال:
{إنه لقول رسول كريم - وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون - ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون - تنزيل من رب العالمين - ولو تقول علينا بعض الأقاويل - لأخذنا منه باليمين - ثم لقطعنا منه الوتين - فما منكم من أحد عنه حاجزين - وإنه لتذكرة للمتقين - وإنا لنعلم أن منكم مكذبين - وإنه لحسرة على الكافرين - وإنه لحق اليقين - فسبح باسم ربك العظيم} [الحاقة: 19 - 52].
فنزه كلا من الرسولين عما قد يشتبه به.
نزه الملك أن يكون شيطانا، ونزه البشر أن يكون شاعرا أو كاهنا، وبين برهان ذلك وآيته، فقال:
{وما تنزلت به الشياطين - وما ينبغي لهم وما يستطيعون - إنهم عن السمع لمعزولون} [الشعراء: 210 - 212].
فبين أنه ما يصلح لهم النزول به، بل هم منهيون عن ذلك، وهم ممتنعون عن ذلك لا يريدونه لمنافاته لمقصودهم، وأنهم لو أرادوا لعجزوا عن ذلك فلم يستطيعوه ; إذ كانوا معزولين عن أن يسمعوه من الملأ الأعلى، وهم إنما يقدرون على أن ينزلوا بما سمعوه لا بما لم يسمعوه، وذلك أن الفاعل للفعل إنما يفعله إذا كان مريدا له قادرا عليه.

فبين قوله:
{وما ينبغي لهم} [الشعراء: 211].
أنهم لا يريدون تنزيله.
وبقوله:
{وما يستطيعون} [الشعراء: 211].
أنهم عاجزون عن تنزيله.
أما كونهم لا يريدون ; فلأنه لا ينبغي لهم، (وينبغي) مضارع بغى يبغي: أي طلب وأراد. فالذي لا ينبغي للفاعل هو الذي لا يطلبه ولا يريده، إما لكونه ممتنعا من ذلك، أو لكونه ممنوعا منه. والشيطان إنما يريد الكذب والفجور، لا يريد الصدق والصلاح.
وما جاء به الرسول مناقض لمراد الشياطين غاية المناقضة، فلم يحدث في الأرض أمر أعظم مناقضة لمراد الشياطين من إرسال محمد، فنزول القرآن عليه، فيمتنع أن تفعل الشياطين ما لا يريدون إلا نقيضه، وهم - أيضا - ممنوعون من ذلك بحيث لا يصلح لهم ذلك ولا يتأتى منهم كما أن الساحر لا ينبغي له أن يكون نبيا. والمعروف بالكذب والفجور لا ينبغي له - مع ذلك - أن يكون نبيا، ولا أن يكون حاكما، ولا شاهدا، ولا مفتيا ; إذ الكذب والفجور يناقض مقصود الحكم والشهادة والفتيا، فكذلك ما في طبع الشياطين من إرادة الكذب والفجور يناقض أن تتنزل بهذا الكلام الذي هو في غاية الصدق والعدل، لم يشتمل على كذبة واحدة ولا ظلم لأحد.
، ثم قال:
{وما يستطيعون} [الشعراء: 211].

فإنهم عن سمع هذا الكلام لمعزولون، بما حرست به السماء من الشهب كما قال - عن الجن -:
{وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا - وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا} [الجن: 8 - 9].

وقد ذكرنا تواتر هذا الخبر وأن السماء حرست حرسا لم يعهده الناس قبل ذلك، ورأى الناس ذلك بأبصارهم فكانوا قد عاينوا ما أخبرهم به من الرمي بالشهب التي يرمى بها لطرد الشياطين، فعزلوا بذلك عن سمع الملأ الأعلى، وكان ما عاينه الكفار - من الرمي الشديد العام - الذي انتقضت به العادة المعروفة من رمي الشهب، دليلا على سبب خارق للعادة، ولم يحدث - إذ ذاك - في الأرض أمر لم تجر به العادة إلا ادعاءه للرسالة، فلم يعرف قبله من نزل عليه الكلام كنزوله عليه؛ إذ كان موسى عليه السلام إنما أنزلت عليه التوراة مكتوبة، لم تنزل عليه منجمة مفرقة ملقاة إليه
حفظا، حتى تحتاج السماء إلى حراستها عن استراق سمعها. والزبور تابع لشرع التوراة، وكذلك الإنجيل فرع على التوراة

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #373  
قديم 02-08-2025, 09:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ هُودٍ
المجلد العاشر
الحلقة( 373)

من صــ 286 الى صـ 300







لم ينزل كتاب مستقل إلا التوراة والقرآن، كما قال تعالى:
{قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} [القصص: 49].
ولهذا يقرن سبحانه بين التوراة والقرآن كثيرا كما في قوله:
{وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس} [الأنعام: 91].
إلى قوله:
{وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه} [الأنعام: 92].
وقال:
{أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} [هود: 17].
قال سعيد بن جبير وغيره: " والأحزاب هي الملل كلها "، قال: وهذا تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار"، وقرأ هذه الآية:
{ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} [هود: 17].
وقالت الجن:
{إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى} [الأحقاف: 30].
وقال النجاشي - لما سمع القرآن -: (إن هذا والذي جاء به
موسى ليخرج من مشكاة واحدة).

وأيضا، فكان معروفا عندهم إخبار الكهان عن الشياطين التي تسترق السمع، فلما رأوا أن السماء قد حرست حرسا شديدا خلاف العادة، علموا أن الشياطين منعوا استراق السمع، وعلمت الجن ذلك كما تقدم، وقد قالت الجن:
{وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا - وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا} [الجن: 8 - 9].
وقد تواترت الأخبار بأنه حين المبعث كثر الرمي بالشهب، وهذا أمر خارق للعادة، حتى خاف بعض الناس أن يكون ذلك لخراب العالم، حتى نظروا هل الرمي بالكواكب التي في الفلك أم الرمي بالشهب؟ فلما رأوا أنه بالشهب، علموا أنه لأمر حدث. وأرسلت
الجن تطلب سبب ذلك، حتى سمعت القرآن، فعلموا أنه كان لأجل ذلك.
وهذا من أعلام النبوة ودلائلها.
وقبل زمان البعث وبعده، كان الرمي خفيفا، لم تمتلئ به السماء كما ملئت حين نزول القرآن، وقال تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين - تنزل على كل أفاك أثيم - يلقون السمع وأكثرهم كاذبون} [الشعراء: 221 - 223].
والأفاك الكذاب، والأثيم الفاجر، كما قال:
{لنسفعا بالناصية - ناصية كاذبة خاطئة} [العلق: 15 - 16].

قال في الحديث المتفق على صحته: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يدعو إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا".
فالشياطين تنزل على من يحصل مقصودها بنزولها عليه، وهو المناسب لها في الكذب والفجور. فأما الصادق البار، فلا يحصل به مقصود الشياطين، فإن الشيطان لا يطلب الصدق والبر، وإنما يطلب الكذب والفجور.
ومحمد صلى الله عليه وسلم ما زال قومه يعرفونه بينهم بالصادق الأمين، لم تجرب عليه كذبة واحدة. ولما جاءه الروح بالوحي لم يخبر بخبر واحد كذب، لا عمدا ولا خطأ.

ومن تنزلت عليه الشياطين لا بد أن يخبر بالكذب، فإن الشياطين يلقون إليهم السمع، ولا يلقون إليهم ما سمعوه على وجهه، بل يكذبون فيه كثيرا ; إذ كان أكثر الشياطين الذين ينزلون عليهم كاذبين فيما ينزلون به عليهم. والشياطين وإن كان كلهم كاذبا - فليس كل من ألقى السمع يكذب فيما يلقيه، بل قد يصدق أحدهم فيما يلقيه من السمع ويسترقه، ولكن أكثرهم يكذبون، والذي يصدق منهم مرة يكذب مرات، والذي ينزل عليه الشياطين أفاك أثيم.
فالفرق بين الصادق البار الذي يأتيه الملك، والكاذب الأثيم الذي يأتيه الشيطان الرجيم، فرق بين، يعرف بأدنى معرفة بحال الاثنين، ولما كان الكاهن الذي يأتيه شيطان قد يخبر ببعض الأمور الغائبة بين سبحانه أن هذا يكون - وإن صدق في بعض الأخبار - كاذبا فاجرا، والذي يأتيه بالكذب، فلا يشتبه بمن لا يكذب ولا يفجر، وهذا مما يبين أن النبي لا يكون إلا بارا معصوما أن يصر على ذنب.

(وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد (59)
فأطلق معصيتهم للرسل بأنهم عصوا هودا معصية تكذيب لجنس الرسل فكانت المعصية لجنس الرسل كمعصية من قال: {فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء}. ومعصية من كذب وتولى قال تعالى: {لا يصلاها إلا الأشقى} {الذي كذب وتولى} أي كذب بالخير وتولى عن طاعة الأمر، وإنما على الخلق أن يصدقوا الرسل فيما أخبروا ويطيعوهم فيما أمروا.

(وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب (101)
فصل:
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
ومن هذا الباب " ظلم النفس ": فإنه إذا أطلق تناول جميع الذنوب فإنها ظلم العبد نفسه قال تعالى: {ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد} {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب}. وقال تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم}. وقال في قتل النفس: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي}. وقالت بلقيس: {رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين}. وقال آدم عليه السلام {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}. ثم قد يقرن ببعض الذنوب كقوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم}. وقوله: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما}. وأما لفظ " الظلم المطلق " فيدخل فيه الكفر وسائر الذنوب.

(وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ (108)
وسئل - رحمه الله -:
عن قوله تعالى {وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض} وقوله تعالى {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب}.
فأجاب:
الحمد لله، قال طوائف من العلماء إن قوله: {ما دامت السماوات والأرض} أراد بها سماء الجنة وأرض الجنة كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة وسقفه عرش الرحمن} وقال بعض العلماء في قوله تعالى {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} هي أرض الجنة. وعلى هذا فلا منافاة بين انطواء هذه السماء وبقاء السماء التي هي سقف الجنة؛ إذ كل ما علا فإنه يسمى في اللغة سماء كما يسمى السحاب سماء والسقف سماء.

و " أيضا " فإن السموات وإن طويت وكانت كالمهل واستحالت عن صورتها فإن ذلك لا يوجب عدمها وفسادها بل أصلها باق؛ بتحويلها من حال إلى حال كما قال تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} وإذا بدلت فإنه لا يزال سماء دائمة وأرض دائمة والله أعلم.

مسألة في الرد على من قال: بفناء الجنة والنار، وعلى من قال بفناء كالفارابية وذكر اختلاف الناس في دار الجزاء بالعقاب، ودار الثواب بالإنعام، وللناس في ذلك ثلاثة أقوال:
قوم قالوا بفنائهما جميعا، وقوم قالوا ببقائهما جميعا، وقوم قالوا: بفناء دار الجزاء، وبقاء دار الإفضال، والإنعام، والإكرام.
رد شيخ الإسلام على مذهب الجهمية
وقد تكلم الشيخ رحمه الله - على الجهمية، والهذيلية، الفارابية، ورجح أدلة أهل السنة، وهدم شبه أهل البدعة، وأشار إلى بعض أدلة غلبة الرضا على الغضب، فقال - رحمه الله:
وقد تنازع الناس في ذلك على ثلاثة أقوال:
قيل: ببقائهما، وقيل: بفنائهما، وقيل: ببقاء الجنة، دون النار.
أما القول بفنائها: فما رأينا أحدا حكاه عن أحد من السلف، من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وإنما حكوه عن الجهم بن صفوان، وأتباعه الجهمية.
وهذا مما أنكر عليه أئمة الإسلام، بل ذلك مما أكفروهم به، كما ذكره
عبد الله بن أحمد في كتاب "السنة" والأثرم في: كتاب "السنة"، وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في كتاب "خلق أفعال العباد"، وغيرهم عن خارجة بن مصعب، أنه قال:
كفرت الجهمية بآيات من كتاب الله - عز وجل -، في غير موضع بأربع آيات من كتاب الله:
بقوله تعالى: {أكلها دائم}، وهم يقولون: لا يدوم.
ويقول الله تعالى: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد}، وهم يقولون ينفد.
وبقوله تعالى: {لا مقطوعة ولا ممنوعة}، فمن قال: إنها تنقطع، فقد كفر.
وبقوله تعالى: {عطاء غير مجذوذ}. أي: غير مقطوع. فمن قال: إنه ينقطع، فقد كفر.

"وهذا قاله جهم، لأصله الذي اعتقده، وهو: امتناع وجود ما يتناهى من الحوادث كما بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع - وهو عمدة أهل الكلام الذين استدلوا على حدوث الأجسام وحدوث ما لم يخل من الحوادث بها، وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم، فرأى الجهم: أن ما يمنع من وجود ما لا يتناهى بمنعه في المستقبل، كما يمنعه في الماضي، فيلزم أن يكون الفعل الدائم ممتنعا على الرب في المستقبل كما كان ممتنعا عليه في الماضي وأبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة وافقه على هذا الأصل، لكن قال: هذا إنما يقتضي
فناء الحركات، فقال: إنه تفنى حركات أهل الجنة، والنار حتى يبقوا في سكون دائم لا يقدر أحد منهم على حركة".
وزعم طائفة ممن وافقهم على امتناع حوادث لا نهاية لها، كأبي الحسن بن الزاغواني، أن هذا القول هو المقتضى القياس العقلي، لكن السمع لما جاء ببقاء الجنة، والنار، قلنا به، ولم يعلم أن ما كان ممتنعا في العقل لا يجيء السمع بوقوعه، فإن السمع لا يخبر بوجود ما كان ممتنعا في العقل.
والأكثرون الذين وافقوا جهما، وأبا الهذيل على أصلها، فرقوا بين الماضي، والمستقبل من جهة العقل، بأن الماضي قد دخل في الوجود بخلاف المستقبل، والممتنع إنما هو أن يدخل في الوجود ما لا يتناهى.
وقد بسط الكلام على هذه الأقوال في غير هذا الموضع، وبين غلط أصحابها، وأن الماضي إذا قيل: لا يتناهى، فإنما المراد أنه لا ابتداء له، فلم ينته من طرف الابتداء، وإلا فإذا قدر ماضيا منتقضا، فقد تناهى.
ففرض مالا يتناهى مطلقا، وجعله قاضيا منقضيا جمع بين النقيضين.
ولهذا كانت أدلتهم عليه جامعة بين النقيضين، مثل قولهم: يلزم أن يكون اليوم، وما سواه من الحوادث متوقفا على انقضاء ما نهاية له، وانقضاء ما لا نهاية له محال.
فإنه يقال لهم نعم، ما لا يتناهى لا في الابتداء، ولا في الانتهاء، فانقضاؤه محال، أما إذا قدرتموه حتى مضى، وانتهى إلى حد.

فقولهم بعد ذلك:
أن انقضاءه محال، كلام متناقض، فإنكم فرضتموه قد انقضى وانتهى من هذا الجانب، جانب النهاية، دون جانب البداية، ومثل قولهم في دليل ذلك التطبيق، إذا فرضنا الحوادث إلى حين الطوفان، والحوادث إلى حين الهجرة، ثم طبقنا بينهما: فإما أن يتماثلا، وإما أن يتفاضلا، والتماثل ممتنع، والتفاضل يقتضي وقوع التفاضل فيما لا يتناهى، وهو محال، فإنه يقال لهم:
هذه الحوادث، هي بعينها لكنها زادت بما بين الوقتين: وقت الطوفان، ووقت الهجرة، وسواء قدر أنها هي، أو أنها غيرها، فهذه أكثر من هذه، وهذا تفاضل فيما انتهى، وهو الماضي، فهو تفاضل فيما تناهى من أحد طرفيه من الطرف المتناهي، فإن كان تناهى ما لا ابتداء له في المستقبل ممكنا، فالتفاضل وقع من جهة كونه متناهيا، لا من جهة كونه غير متناه - أي - لا بداية له. وإن كان تناهى ما لا ابتداء له غير ممكن، فقولكم: تناهى الحوادث إلى زمان الطوفان، أو الهجرة، باطل، وذلك أنه إذا قيل: إنه لم يزل الرب متكلما
بمشيئته، وقدرته، أو لم يزل فعالا لما يشاء، نحو ذلك مما يقتضي كونه فاعلها، كان هذا النوع قديما، وما وجب قدمه، امتنع عدمه، وذلك يقتضي امتناع انقضاء فعل الرب، نقيض قول الجهم، فإن عنده يجب انقضاء فعله وانقطاعه، ويمتنع عنده دوامه أبدا كما امتنع دوامه أزلا، ويجب عنده أن يكون لم يزل غير فاعل في الماضي، ولا في الأبد إذا فنيت الجنة والنار.
وحقيقة قوله: أنه لم يزل غير قادر، ثم صار قادرا، ثم يصير غير قادر وهو يقول: ما كان له بداية، وجب أن يكون له نهاية.
فأما إذا قدر أن الرب لم يزل قادرا على الفعل، والكلام بمشيئته، وأنه لم يزل متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء، فهنا وجب وجود ما لا ابتداء له، ولا نهاية لابتدائه، فإذا قدر انتهاء هذا النوع كان باطلا، فإذا قيل: إن الحوادث انتهت إلى الطوفان أو الهجرة.

فإن قيل: يقدر الرب ما بقي بفعل شيئا، فهذا تقدير خلاف الواقع، بل هو ممتنع. وإن قيل: يقدر فضلا في الذهن بين ما مضى وبين ما يستقبل، فهذا التقدير الذهني لا يغير الحقائق، بل الفعل الدائم في نفسه، ثم إذا قدر هذا في الذهن، فقد قدرت الحوادث الماضية انتهت إلى هذا الحد.
وإذا انتهت قبلت الزيادة والنقصان، فإن ما ينتهي من الحوادث يقبل الزيادة والنقصان، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع، ولكن نبهنا هنا على أصل قول الجهم الذي أوجب له أن يقول بفناء الجنة والنار، حتى أنكر ذلك
عليه أئمة الإسلام، وجمهورهم كفروه. والذين وافقوه على الأصل خالفوه في لوازمه فتناقضوا.
وفرق من فرق بين الماضي والمستقبل، بأن الماضي دخل في الوجود بخلاف المستقبل، فرق ضعيف "3 أ" لوجوه:
أحدها: إن الماضي قد جعله متناهيا، فلم يقع التفاضل إلا فيما تناهى دون ما لا تناهى كما تقدم، وحينئذ فما دخل في الوجوه إلا ما يتناهى من هذا الجانب، فهو تقدير يتناهى فما قدر متناهيا، ثم هذا إذا قدر أن تنهايه ممكن، فكيف إذا كان ممتنعا؟.

الثاني: أن الدليل شامل للنوعين، فإنه يمكن أن يقال: الحوادث من الهجرة، ومن الطوفان إلى ما لا يتناهى، هل هما متفاضلان؟ أم متماثلان. فإن تماثلا فهو محال، لأن أحدهما أزيد من الآخر، وإن تفاضلا فهو محال، لأن التفاضل في ما لا يتناهى محال.
فإن قيل: هذا تقدير التفاضل، والتماثل في ما لم يكن بعد.
قيل: نعم، لكنه تقدير التفاضل والتماثل، بتقدير وجوده لا في حال كونه معدوما، كما أن الماضي قدرتهم فيه التماثل، والتفاضل بعد عدمه بعد عدمه لا في حال وجوده، لكن قدرتهم تلك الحوادث الماضية التي عدمت كأنها موجودة.
ففي كلا الموضعين إنما هو تقدير التفاضل، والتماثل فيما هو معدوم.
فإن صح في أحد الموضعين صح في الآخر، وإن امتنع في أحدهما امتنع في الآخر.

الوجه الثالث: أن يقال: كون الشيء ماضيا، ومستقبلا أمرا إضافي بالنسبة إلى المتكلم المخبر، فيما مضى قبل كلامه، كان ماضيا، وما يكون بعده يكون مستقبلا، وبنسبة أحدهما إلى الآخر، فالماضي ماض على ما يستقبل، والمستقبل مستقبل لما قد مضى، وما من ماض إلا وقد كان مستقبلا، وما من مستقبل إلا وسيصير ماضيا، فليس ذلك فرقا يعود إلى صفات النوعين، حتى يقال: إن أحدهما ممكن، والآخر ممتنع، بل هذا الماضي كان مستقبلا، وهذا المستقبل يصير ماضيا، فتتصف كل الحوادث بالمضي والاستقبال، فلم يكن في ذلك ما هو لازم للنوعين يوجب الفرق بينهما.
وبسط الكلام على ذلك له موضع آخر.
"والمقصود هنا: أن هذا القول "هو القول بفناء الجنة، والنار قول لم يعرف عن أحد من السلف: من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، والذين قالوه لم يقولوه تلقيا له من خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم. وإعلامه وبيانه، ولا من قياس معقول دل عليه الرسول، وإنما قالوه عن قياس قاسوه بعقولهم، وهو خطأ في نفس الأمر"، وإن كان قد اشتبه على كثير من أهل الكلام فاعتقدوه حقا، حتى بنوا عليه وجوب حدوث ما لم يخل من الحوادث، بل وجوب حدوث ما تقوم به الحوادث.
ومن هذا قالوا: إن القرآن مخلوق هو، وغيره من كلام الله، وإن الله يمتنع أن يكون لم يزل متكلما إذا شاء، وعليه - أيضا - بنوا نفي الصفات، لأنها أعراض لا تقوم بإلا بجسم، ثم منهم من قال: إنه صار يتكلم بمشيئته، بعد أن لم يكن يتكلم بمشيئته، وهؤلاء منهم من قال: الكلام لا يقوم به، فيكون مخلوقا بائنا عنه، ومنهم من قال: بل يقوم بذاته، فيكون جنس كلامه حادثا، والذين وافقوا السلف على أنه لم يزل متكلما وافقوا الجهم على أصله، قالوا: إن كلامه قديم العين، وهو لا يتكلم بمشيئته وقدرته، بل هو لازم لذاته كالحياة، ثم من هؤلاء من قال: إنه معنى واحد، هو الأمر بكل مأمور، والنهي عن كل منهي، وهو معنى التوراة. والإنجيل، والزبور وكل كلام يكلم به عبادة المؤمنين، ملائكته وغيرهم.
ومنهم من قال: بل هو حروف، أو حروف وأصوات أزلية، لم تزل ولا تزال لازمة لذاته، لا تتعلق بمشيئته وقدرته فهذه الطوائف الأربعة قد دخل في كل طائفة كثير من أهل النظر المعدودين من أكابر النظار، وأهل العلم، الناصرين للإسلام، أو للإسلام، والسنة وأصل أمرهم موافقتهم لجهم على قوله بامتناع دوام الحوادث، وأن الله يمتنع أن يكون لم يزل متكلما إذا شاء، فعالا لما يشاء، فوافقوه على أن كلام الرب وفعله يمتنع أن يكون دائما بقدرته، ومشيئته، وعلى أن يمتنع أن يكون كلمات الله لا نهاية لها، وقد قال تعالى: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} إلى قوله: {ولو جئنا بمثله مددا}.
وقال تعالى: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم}.

روى ابن أبي حاتم في "تفسيره" عن سليمان بن عامر، قال: سمعت البيع بن أنس يقول: "إن مثل علم العباد كلهم في علم الله ربهم، كقطرة من هذه البحور كلها، وقد أنزل في ذلك: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم}.
وقوله: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا}.
ذلك الذي عني في هذا الحديث، يقول: لو كان البحر مدادا لكلمات ربي، والشجر كلها أقلام، لانكسرت الأقلام، وفني ماء البحر، وبقيت كلمات الله قائمة دائمة لا يفنيها شيء، لأن أحدا لا يستطيع أن يقدر قدره، ولا يثني عليه كما ينبغي، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه، إن ربنا كما نقول، وفوق ما نقول، ثم إن مثل نعيم الدنيا أوله وآخره في نعيم الآخرة، كحبة من خردل في خلال الأرض كلها.
قلت: ومثل هذا الكلام يقصد به التعبير عن عدم النهاية والنفاد والانقضاء.
والمراد: أن كلمات الله لا انتهاء لها، فلا تنفد، ولا تنقضي، وقد ذكر الربيع مع ذلك نعيم الجنة، فإن الله تعالى - قال: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد}.
فاخبر أنه: لا ينفد، فلا يكون له انقضاء، ولا فراغ وآخر ينتهي عنده.
وهذه الأقوال، والكلام عليها مبسوطة في غير هذا الموضع، والمقصود هنا في فناء الجنة والنار، فقد تبين أن القول بفناء الجنة لم يعرف عن أحد من السلف، ولا الأئمة، وإنما هو قول جهم، ونحوه، وقد عرف فساده عقلا، ونقلا.
وأما القول بفناء النار: ففيها قولان معروفان عن السلف والخلف والنزاع في ذلك معروف عن التابعين، ومن بعدهم.

وهذا أحد المأخذين في دوام عذاب من يدخلها، فإن الذين يقولون: إن عذابهم له حد ينتهي إليه ليس بدائم، كدوام نعيم الجنة قد يقولون: إنها قد تفنى، وقد يقولون: إنهم يخرجون منها، فلا يبقى فيها أحد، لكن قد يقال: إنهم لم يريدوا بذلك أنهم يخرجون مع بقاء العذاب فيها على غير أحد، بل يفنى عذابها، وهذا هو معنى فنائها.
"وقد نقل هذا القول عن عمر، ابن مسعود، وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وغيرهم".
وقد روى عبد بن حميد - وهو من أجل علماء الحديث - في تفسيره المشهور، قال: أنا سليمان بن حرب، أنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن الحسن البصري، قال: قال عمر: "لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج، لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه".
وقال: أنبأ حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، أن عمر بن الخطاب قال: "لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج، لكان لهم يوم يخرجون فيه".
ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: {لابثين فيها أحقابا}.

وهذا يبين أن مثل الشيخ الكبير من علماء الحديث والسنة يروي عن مثل هؤلاء الأئمة في الحديث، والسنة مثل سليمان بن حرب والذي هو من أجل علماء السنة والحديث، ومثل حجاج بن منهال في كلامهما عن حماد بن سلمة مع جلالته في العلم، والسنة، والذي يروي من وجهين: من طريق سلمة مع جلالته في العلم، والسنة، والذي يروى من وجهين: من طريق ثابت، ومن طريق حميد هذا عن الحسن من بعض التابعين فسواء كان هذا قد حفظ هذا عن عمر، أو لم يحفظ، كان مثل
هذا الحديث متداولا بين هؤلاء العلماء الأئمة لا ينكرونه، وهؤلاء كانوا ينكرون على من خرج عن السنة من الخوارج، والمعتزلة، والمرجئة، والجهمية.
وكان أحمد بن حنبل يقول: "أحاديث حماد بن سلمة هي الشجا في حلوق المبتدعة".


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #374  
قديم 02-08-2025, 09:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ هُودٍ
المجلد العاشر
الحلقة( 374)

من صــ 301 الى صـ 315






فهؤلاء من أعظم أعلام السنة الذين ينكرون من البدع ما هو دون هذا لو كان هذا القول عندهم من البدع المخالفة للكتاب والسنة، والإجماع، كما يظنه طائفة من الناس.
وعبد بن حميد ذكر هذا في تفسير قوله تعالى: {لابثين فيها أحقابا}.
ليبين قول من قال: الأحقاب لها أمد ينفذ، ليست كالرزق الذي ماله من نفاذ، ولا ريب أنه من قال هذا القول، قول عمر، ومن نقله عنه، إنما أرادوا بذاك جنس أهل النار الذين هم أهلها.
فأما قوم أصيبوا بذنوب، فأولئك قد علم هؤلاء، وغيرهم، بخروجهم منه، وأنهم لا يلبثون فيها قدر رمل عالج، ولا قريبا من ذلك.
والحسن كان يروي حديث الشفاعة في أهل التوحيد، وقد ذكره
البخاري، ومسلم عنه، وكذلك حماد بن سلمة كان يجمعها، ويحدث بها، وكذلك سليمان بن حرب، وأمثاله، فهذا عندهم لا يقال فيه مثل هذا، ولفظ أهل النار لا يختص بالموحدين، بل يختص بمن عداهم، كما قاتل النبي صلى الله عيه وسلم: "أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها، ولا يحيون". وقوله: يخرجون منها، أي يخرجون من جهنم بعد أن يفنى عذابها، وينفذ وينقطع.
فهم لا يخرجون منها يعني جهنم، بل هم خالدون في جهنم كما أخبر الله سبحانه وتعالى.
لكن إذا انقضى أجلها، وفنيت كما تفنى الدنيا، لم يبق فيها عذاب، وذلك أن العالم لا يعدم، وجهنم في الأرض، والأرض لا تعدم بالكلية ولكن فناؤها بتغير حالها، واستحالتها من حال إلى حال كما قال تعالى: {كل من عليها فان}، وهم لا يعدمون بل يموتون، ويهلكون، كما قال تعالى: {ما عندكم ينفد وما عند الله باق}.
فإذا أنفذه الرجل فقد نفذ ما عنده، إن كان لم يعدم، بل يعدم، بل انتقل من حال إلى حال.

وفي "تفسير علي بن أبي طلحة الوالبي، عن ابن عباس - وهو معروف مشهور، ينقل منه عامة المفسرين الذين يسندون كابن جرير الطبري، وابن أبي حاتم، وعثمان بن سعيد الدارمي، والبيهقي والذين يذكرون الإسناد مجملا، كالثعلبي، والبغوي، والذين لا يسندون كالماوردي، وابن الجوزي، قال: قوله: {النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم}.
قال: "وفي هذه الآية إنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا نارا".
قال الطبري: "وروي عن ابن عباس أنه كان يتأول في هذا الاستثناء:
أن الله تعالى جعل أمر هؤلاء القوم في مبلغ عذابه إياهم إلى مشيئته ثنا عبد الله ثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: {النار مثواكم خالدين فيها}.
قال في هذه الآية: "إنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا نارا".
وهذا الوعيد في هذه الآية ليس مختصا بأهل القبلة فإنه قال: {ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الأنس وقال أولياؤهم من الأنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم، وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون}. "فأولياؤهم من الإنس" لفظ يدخل فيه الكفار قطعا، فإنهم أحق بموالاتهم من عصاة المسلمين.
وقال تعالى: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون}.
وقال تعالى: {جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون}.

وقال تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون، وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون}.
وقال تعالى: {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون}.
وقال تعالى: {فتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا}.
وقال تعالى: {فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا}.
فأمر بقتال أولياء الشيطان، وهم الكفار، وقال: {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}.
وقال تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون}.
فأخبر أنهم يوحون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوكم، فهذه وأمثالها تبين أن الكفار أولياء الشياطين، فهم أحق الناس بدخول في قوله: {وقال أولياؤهم من الأنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم}.

وقد قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: "إن هذه الآية تقتضي أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا نارا".

فدل على أن هذا الاستثناء عنده دفع العذاب عنهم، وهذا مدلول الآية، وأنه لأجل هذه الآية يجب أن يتوقف، فلا يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ونارا، وهذا يناقض قول من يقول سوى ما شاء الله من أنواع العذاب، وإلا مدة مقامهم قبل الدخول من حين بعثوا إلى أن دخلوا، فإن ذلك معلوم أنه قبل الدخول لم يكونوا فيها، وقول من يقول في أهل الجنة فإنها صريحة في تناول الكفار.
لكن ذكر البغوي، أن ابن عباس قال: "الاستثناء يرجع إلى قوم سبق فيهم علم الله وأنهم يسلمون فيخرجون من النار". ولم يذكر من نقل هذا عن ابن
عباس، فإن أريد بذلك من أسلم في الدنيا فليس كذلك، فإن الخطاب إنما هو لمن كان من أولياء الشيطان والجن الذين استمتع بعضهم ببعض وهؤلاء من جملة المسلمين، وجميع من أسلم سبق فيه علم الله، وأنه يسلم، وكأن قائل هذا القول ظن أن هذا خطاب للأحياء، وليس كذلك، بل هذا خطاب لهم يوم القيامة، وإن أراد أنهم يسلمون في جهنم فيخرجون منها، وهذا خلاف ما دل عليه القرآن في غير موضع، فعن عبد الله بن مسعود قال: "ليأتين على جهنم زمان، ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا، وهؤلاء هم الكفار، وعن أبي هريرة ومثله" قال البغوي: "ومعناه عند أهل السنة - إن ثبت - ألا يبقى فيها أحد من؟ أهل الإيمان".
فيقال: إنهما لم يريدا ذلك، فإنهما بعد ما يلبثون فيها أحقابا وهؤلاء هم الكفار المذكورون في قوله تعالى: {إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا لابثين فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا جزاء وفاقا إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا}.

وهذا الوصف الذين كذبوا بآيات الله {كذابا} أي تكذيبا، فهو تكذيب مؤكد بالمصدر، ولم أجد نقلا مشهورا عن أحد من الصحابة يخالف ذلك، بل أبو سعيد وأبو هريرة هما رويا حديث ذبح الموت، وأحاديث الشفاعة، وخروج
أهل التوحيد وغيرهما، قالا في فناء النار ما قالا، وقد نقل البغوي: روى السدي، عن مرة، عن عبد الله، قال: "لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا".
وقد استفاض عن غير واحد من السلف تقدير الحقب بحد محدود، والأحقاب، جمع حقب، فروى ابن أبي حاتم عن عطية، عن ابن عباس قال في قوله تعالى: {لابثين فيها أحقابا}. قال: "سنين".
وعن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة قال: {لابثين فيها أحقابا}.
قال: الحقب: ثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوما، واليوم كألف سنة، اليوم منها كالدنيا كلها.
قال ابن أبي حاتم، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهلال الهجري والضحاك، وذكوان، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعمرو بن ميمون أنهم قالوا: الحقب: ثمانون سنة.
وعن هشام، عن الحسن البصري أنه سئل عن قوله تعالى: {لابثين فيها أحقابا} فقال: الله أعلم بالأحقاب فليس فيها عدد إلا الخلود، ولكنه بلغنا أن
الحقب الواحد: سبعون ألف سنة، كل يوم من تلك الأيام كألف سنة مما تعدون.
وعن هشام، عن الحسن قال: "الأحقاب" لا يدري أحد ما هي؟ ولكن الحقب الواحد: سبعون ألف سنة، اليوم منها كألف سنة مما تعدون وقوله: الله أعلم ما الأحقاب، ولا يدري ما هي؟ يقتضي أن لها عددا الله أعلم، ولو كانت لا عدد لها لعلم كل أحد أنه لا عدد لها، ويؤيد ما نقله الحسن، عن عمر بن الخطاب كما تقدم، قول الحسن: "ليس فيها عدد إلا الخلود" حق أيضا، فإنهم خالدون فيها، لا يخرجون منها ما دامت باقية، فأقوال الحسن يصدق بعضها بعضا.
وأما خلودهم في النار فهو حق كما أخبر الله.

وعن السدي: {لابثين فيها أحقابا} قال: "سبعمائة حقب، كل حقب سبعون سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم كألف سنة مما تعدون".
وعن عبد الله بن عمرو قال: "الحقب: أربعون سنة".
وقد تنازع الناس في الأحقاب، هل هي مقدرة محدودة؟ على قولين: فعلى قول السدي وغيره: هي محدودة، مقدرة، وهو قول الزجاج، وغيره، لكن قال الزجاج: "المعنى أنهم يلبثون فيها أحقابا، لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا".
قال الزجاج: "وبيانه: أن الأحقاب حد لعذابهم بالحميم والغساق، فإذا انقضت الأحقاب عذبوا بغير ذلك من العذاب".
وهذا الذي قاله الزجاج شاذ، خلاف ما عليه الأولون والآخرون، وهو خلاف ما دل عليه القرآن، فإن هذا يقتضي أنهم يبقون بعد الأحقاب فيها، ولكن لا يذوقون البرد والشارب حينئذ، وهذا باطل قطعا، ثم إذا ذاقوا البرد والشارب فهذا نعيم، فكيف يكونون معذبين فيها ذلك؟
وقال بعضهم: هذه الآية منسوخة، وقيل: "هي في أهل التوحيد".
قال عبد الحق بن عطية في "تفسيره".
"ومن الناس من ظن لذكر الأحقاب أن مدة العذاب تنحصر وتتم، فطلبوا التأويل لذلك، فقال مقاتل بن حيان: الحقب سبع عشرة ألف سنة وهي منسوخة بقوله تعالى: {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا}. قال: وقد ذكرنا فساد هذا القول.
وقال آخرون: الموصوف باللبث أحقابا عصاة المؤمنين قال: وهذا أيضا ضعيف فما بعده من السورة يرد عليه.
وقال آخرون: إنما المعنى: {لابثين فيها أحقابا} غير ذائقين بردا ولا شرابا، فهذه الحال: يلبثون أحقابا، ثم يبقى العذاب سرمدا وهم يشربون أشربة جهنم.
والقول الثاني: إنها غير مقدرة، وقال هؤلاء: هذا لا يدل على غاية، لأنه كلما مضى حقب تبعه حقب، ولو أنه قال: لابثين فيها عشرة أحقاب، أو خمسة أحقاب دل على غاية، هذا قول ابن قتيبة وغيره.

قال أبو الفرج بن الجوزي: وهذا قول ابن قتيبة والجمهور وبيانه: إن زمان أهل الجنة والنار يتصور دخوله تحت العدد كقوله تعالى: {بكرة وعشيا}، ومثل هذا، أن كلمات الله داخلة تحت العدد وإن لم يكن لها نهاية، فيقال: هذا ممنوع، فما لا نهاية يمتنع أن يدخل تحت العدد، وإنما يدخل تحت العدد ما له مقدار محدود وهو المعدود، لكن إذا أخذ بعض من أبعاضه دخل تحت العدد كالبكرة والعشي، وهو مقدار يوم من أيام الجنة، ويعرف ذلك بنور يظهر لهم يزيد على
النور المعتاد، يعرفون به البكرة والعشي، كما تظهر الشمس لأهل الدنيا، لكن الجنة ليس فيها ظلمة.
وقوله: كلمات الله داخلة تحت العدد ممنوع إنما يدخل منها تحت العدد بعض من أبعاضها مثل الآيات المنزلة، وإلا فيما لا نهاية له كيف يكون معدودا وكلما عد بقدر معدود فهو ما حد، وما يقدره الإنسان بلسانه وذهنه من العدد فله حد، والذي لا يتناهى ليس له مقدار لا في ذهنه ولا في لسانه.
وقوله تعالى: {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض}، {إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد}.
قال ابن أبي حاتم: ذكر عن جعفر بن سليمان، عن الجريري قال: سمعت أبا نضرة يقول: ينتهي القرآن إلى هذه الآية: {إن ربك فعال لما يريد}.
وقد روى حرب الكرماني، وأبو بكر البيهقي عن أبي سعيد الخدري، وعن قتادة في قوله: {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك}. والله أعلم بتثنيته على ما وقعت.

وروى الطبري، عن يونس، نا ابن وهب، نا ابن زيد. في قوله: {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك} فقرأ حتى بلغ: {عطاء غير مجذوذ} فأخبرنا الذي شاء لأهل الجنة، فقال: {عطاء غير مجذوذ} ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.
وعن السدي: {إلا ما شاء ربك}. عن هذه الآية يوم نزلت كانوا يطعمون في الخروج.

قوله: {خالدين فيها أبدا}، ذكر البغوي عن عبد الرحمن بن زيد أنه قال: قد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بالذي لأهل الجنة، فقال: {عطاء غير مجذوذ} ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.
وقد روى علماء السنة والحديث في ذلك آثارا عن الصحابة والتابعين مثل ما روى حرب الكرماني، وأبو بكر البيهقي، وأبو جعفر الطبري وغيرهم عن الصحابة في ذلك.
وفي المسند للطبراني: ذكر فيه "أنه ينبت فيها الجرجير"، وحينئذ فيحتج على فنائها بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة - مع أن القائلين ببقائها ليس معهم كتاب، ولا سنة ولا أقوال الصحابة -.
منها ما رواه حرب، والبيهقي قال حرب الكرماني: "سألت إسحاق عن
قول الله تعالى: {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك}. قال: أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن.
قال إسحاق: ثنا عبيد الله بن معاذ، ثنا معتمر بن سليمان، قال: قال لي أبي: ثنا أبو نضرة، عن جابر، أو أبي سعيد، أو بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذه الآية تأتي على القرآن كله {إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد}.
قال المعتمر: قال أبي: عنى كل وعيد في القرآن.

رواه أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسيره قال: ثنا الحسن بن يحيى، أنا عبد الرزاق، أنا ابن التيمي، عن أبيه أبي نضرة، عن جابر، أو أبي سعيد، أو عن رجل من؟ أصحاب النبي صلى لله عليه وسلم في قوله سبحانه: {إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد}. قال: هذه الآية تأتي على القرآن كله، فيقول: حيث كان في القرآن: {خالدين فيها} تأتي عليه.
وقال ابن جرير، حدثت عن ابن المسيب، عمن ذكره عن ابن عباس: {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك}. قال: استثنى الله عز وجل قال: يأمر النار أن تأكلهم.
قال: وقال ابن مسعود: "ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا".
وقال ثنا محمد بن حميد الرازي، ثنا جرير، عن بيان، عن الشعبي قال: "جهنم أسرع الدارين عمرانا، وأسرعهما خرابا".
وقال حرب الكرماني، عن إسحاق بن راهوية، ثنا عبيد الله بن معاذ ثنا أبي، ثنا شعبة، عن أبي بلج، سمع عمرو بن ميمون يحدث عن عبد الله بن عمرو قال: "ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها، ليس أحد"، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا.
وقال إسحاق، ثنا عبيد الله بن معاذ، ثنا أبي، ثنا شعبة، عن يحيى بن أيوب عن أبي زرعة وعن أبي هريرة، قال: أما الذي أقول: "إنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرأ: {فأما الذين شقوا ففي النار} الآية.
طرق القائلين بدوام النار أربع
الذين قطعوا بدوام النار
قلت: والذين قطعوا بدوام النار، لهم أربع طرق.
أحدها: ظن الإجماع فإن كثيرا من الناس يعتقد أن هذا مجمع عليه، ولا خلاف فيه بين السلف، وإن كان فيه خلاف حادث، فهو من أقوال أهل البدع.
والثاني: أن القرآن قد دل على ذلك دلالة قطعية، فإنه أخبر بخلودهم في النار أبدا في غير موضع من القرآن.

والثالث: أن السنة المستفيضة أخبرت بخروج من في قلبه مثال ذرة من إيمان من النار دون الكفار، فإنهم لم يخرجوا.
والرابع: قول من يقول: الرسول وقفنا على ذلك، وعلمناه من بعده ضرورة ولا يحتجون بنص معين، وعامة الناس يقولون: هذا لا نعلمه إلا من الخبر وشذ بعضهم فزعم أن العقل دل على خلود الكفار.
فأما الإجماع فهو أولا: غير معلوم، فإن هذه المسائل لا يقطع فيها بإجماع، نعم قد يظن فيها الإجماع وذلك قبل أن يعرف النزاع، وقد عرف النزاع قديما
وحديثا، بل إلى الساعة لم أعلم أحدا من الصحابة قال: إنها لا تفنى، وإنما المنقول عنهم ضد ذلك ولكن التابعون نقل عنهم هذا وهذا.
أدلة خلود النار من الكتاب
وأما القرآن، فالذي دل عليه وليس في القرآن ما يدل على أنها لا تفنى، بل الذي يدل عليه ظاهر القرآن أنهم خالدون فيها أبدا، كما أخبر الله - عز وجل - في غير موضع، وأخبر أنهم يطلبون الموت، والخروج منها ويطلبون تخفيف العذاب، فلا يجابون: لا إلى هذا ولا على هذا، وأخبر أنهم ماكثون فيها، وأخبر أنهم {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها}.
وقال تعالى: {وهم يصطرخون فيها}، {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسأوا فيها ولا تكلمون}.
وقال تعالى: {إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون}.
وقوله: {ليقض علينا ربك} أي: يميتنا، وهكذا قال المفسرون مثل: السدي وابن زيد وغيرهما.

قال السدي: يقضي علينا بالموت، وقال ابن زيد: القضاء هاهنا: الموت. وكذلك قال سائر المفسرون، وهذا كقوله تعالى: {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها}.
وعن الفراء في قوله تعالى: {وأما من أوتي كتابه بشماله} إلى قوله تعالى. {يا ليتها كانت القاضية}. وذلك أن القضاء هو الإكمال والإتمام، والأمر المقتضى هو الذي قد مضى وفرغ.
وبالموت تنقضي حياة الإنسان، فقال تعالى: {وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}.
وقال تعالى: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون}.
وقال تعالى: {والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير}.
وقال تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون}.

فهذه النصوص وأمثالها في القرآن تبين أنهم خالدون في جهنم لا يموتون ولا يحيون، وأنهم يسألون هذا وهذا فلا يجابون.
وهذا يقتضي خلودهم في جهنم - دار العذاب - مادام ذلك العذاب باقيا ولا يخرجون منها مع بقائها وبقاء عذابها، كما يخرج أهل التوحيد، فإن هؤلاء يخرجون منها بالشفاعة، وغير الشفاعة مع بقائها، كما يخرج ناس من الحبس الذي فيه العذاب مع بقاء الحبس والعذاب لذي فيه على من لم يخرج.
أحاديث الشفاعة
وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "صحيح مسلم":
عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم، فأماتهم الله
إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر، ضمائر فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل".

وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة في الحديث الطويل الذي فيه المرور على الصراط، والشفاعة، وقال فيه: "حتى إذا فرغ الله من القصاص بين العباد، فأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله ممن أراد الله أن يرحمه، ممن يقول: لا إله إلا الله فيعرفونهم بأثر السجود، وتأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يفرغ الله من القصاص بين العباد ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار"، وذكر صرفه عن النار، ثم تقدمه إلى الجنة، ثم إلى بابها، ثم إدخاله الجنة، وانه يعطيه ما تناه، مثله معه.
ورواه أبو سعيد، وقال: "وعشرة أمثاله".

وكذلك في "الصحيحين" من حديث أبي سعيد قال: "حتى إذا خلص المؤمن من النار، فو الذي نفي بيده، من أحد بأشد منا شدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون: ربنا كانوا يصمون معنا، ويصلون ويحجون، فيقول: أخرجوا من عرفتوهم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا، وقد أخذت النار إلى نصف ساقيه، وإلى ركبتيه، فيقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا، فمن وجدتهم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، إلى أن قال: ثم يقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا".
وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث، فاقرءوا إن شئتم: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما}.
فيقول الله: شفعت الملائكة، وشفعت النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له: نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السبيل، قال: فيخرجون كالؤلؤ في قاربهم الخواتيم، يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله، الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه، ثم يقدموه، ثم يقول: ادخلوا الجنة، فما رأيتموه فهو لكم، فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا،
فيقولون: يا ربنا، وأي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي، فلا أسخط عليكم بعده أبدا".
وفي رواية: "من إيمان" بدل قوله: "من خير"، قال فيه: "فيقول الجبار: قد بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار، فيخرج أقواما قد امتشحوا فليقيهم في نهر بأفواه الجنة ... " الحديث.
ولم يقل: "لم يعملوا خيرا قط".

وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها، وآخر الجنة دخولا الجنة: رجل يخرج من النار حبوا، فيقول الله له: اذهب: فادخل الجنة، فيأتيها، فتخيل إليه أنها ملآى - إلى أن قال -: فيقول الله له: اذهب، فإن لك عشرة أمثال الدنيا - أو - إن لك الدنيا، وعشرة أمثالها".
وفي رواية لمسلم: فيقول له: "تمن، فتمنى، فيقال له: لك الذي تمنيت، وعشرة أضعافه".
وهذا يوافق حديث أبي سعيد من وجهين:
وكذلك لمسلم من حديث جابر: "مثل الدنيا وعشرة أمثالها"، كما في اللفظ الأول في حديث ابن مسعود.
وفي حديث جابر في "الصحيحين" أن رسول الله صلى لله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى يخرج ناسا من النار، فيدخلهم الجنة".
وفي رواية: "إن الله يخرج قوما من النار بالشفاعة"، ولمسلم من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قوما يخرجون من النار يحترقون فيها إلا دارات وجوههم، حتى يدخلون الجنة".
وللبخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج قوم النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة، فيسمون الجهنميين".
وللبخاري، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج قوم من النار بعد ما "مسهم" منها سفع، فيدخلون الجنة، فيسمون الجهنميين".
وأحاديث الشفاعة فيمن يخرج من النار كثيرة فيخرج من النار كثير منها عدة أحاديث في "الصحيحين".
وفي حديث أنس: ذكر فيه الشفاعة مرة بعد مرة، وأنه صلى لله عليه وسلم قال في الآخرة، "فأقول: أي رب، ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله فيقول الله - عز وجل - وعزني وجلالي، وعظمتي وكبريائي، لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله".
وفي رواية لمسلم: "ليس ذلك لك، أو إليك".
الفرق بين بقاء الجنة والنار:
"الفرق بين بقاء الجنة، والنار، شرعا، وعقلا" فأما شرعا، فمن وجوه:

أحدها: أن الله أخبر ببقاء نعيم الجنة ودوامه، وأنه لا نفاد له ولا انقطاع في غير موضع من كتابه، كما أخبر أن أهل الجنة لا يخرجون منها، وأما النار وعذابها فلم يخبر ببقاء ذلك، بل أخبر أن أهلها لا يخرجون منها، وأما النار وعذابها فلم يخبر ببقاء ذلك، بل أخبر أن أهلها لا يخرجون منها.
الثاني: أنه أخبر بما يدل على أنه ليس بمؤيد في عدة آيات.
الثالث: أن النار لم يذكره فيها شيء يدل على الدوام.
الرابع: إن النار قيدها بقوله: {لابثين فيها أحقابا}، وقوله: {خالدين فيها إلا ما شاء الله} وقوله: {ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك}، فهذه ثلاث آيات تقتضي قضية مؤقتة، أو معلقة على شرط، وذاك دائم مطلق، ليس بمؤقت ولا معلق.
الخامس: أنه قد ثبت أنه يدخل الجنة من ينشأه في الآخرة لها ويدخلها من دخل النار أولا، ويدخلها الأولاد بعمل الآباء، فثبت أن الجنة يدخلها من لم يعمل خيرا، وأما النار فلا يعذب أحد بذنوبه، فلا تقاس هذه بهذه.
السادس: أن الجنة من مقتضى رحمته ومغفرته، والنار من عذابه، وقد قال: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم}.
وقال: {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم}.
وقال: {ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم}.
فالنعيم من موجب أسمائه التي هي من لوازم ذاته فيجب داومه بدوام معاني أسمائه وصفاته.
وأما العذاب فإنما هو من مخلوقاته، والمخلوق قد يكون له انتهاء مثل الدنيا وغيرها، لاسيما مخلوق خلق تتعلق بغيره.
السابع: أنه قد أخبر أن رحمته وسعت كل شيء، وأنه {كتب على نفسه الرحمة}، وقال: "سبقت رحمتي غضبي" "وغلبت رحمتي غضبي".
وهذا عموم، وإطلاق، فإذا قدر عذاب لا آخر له، لم يكن هناك رحمة البتة.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #375  
قديم 02-08-2025, 10:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ هُودٍ
المجلد العاشر
الحلقة( 375)

من صــ 316 الى صـ 330




الثامن: أنه قد ثبت مع رحمته الواسعة أنه حكيم، والحكيم إنما يخلق لحكمته العامة، كما ذكر حكمته في غير موضع "10 - أ" فإذا قدر أنه يعذب من يعذب لحكمة كان هذا ممكنا، توجد في الدنيا العقوبات الشرعية فيها حكمة، وكذلك ما يقدره من المصائب فيها حكم عظيمة، فيها تطهير من الذنوب، وتزكية للنفوس، وزجر عنها في المستقبل للفاعل ولغيره، ففيها عبرة، والجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب، ولهذا قال في الحديث الصحيح: "إنهم يحسبون بعد خلاصهم من الصراط على قنطرة بين الجنة والنار، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة".
والنفوس الشريرة الظالمة التي ردت إلى الدنيا قبل العذاب لعادات لما نهيت عنه لا يصلح أن تسكن دار السلام التي تنافي الكذب والظلم والشر، فإذا عذبوا بالنار عذابا يخلص نفوسهم من ذلك الشر كان هذا معقولا في الحكمة كما
يوجد في تعذيب الدنيا، وخلق من فيه شر يزول بالتعذيب من تمام الحكمة، وأما خلق نفوس تعمل الشر في الدنيا وفي الآخرة لا تكون إلا في العذاب، فهذا تناقض يظهر فيه من مناقضة الحكمة والرحمة ما لا يظهر في غيره.
ولهذا كان الجهم لما رأى ذلك ينكر أن يكون الله أرحم الراحمين، وقال: بل يفعل ما يشاء، والذين سلكوا طريقته كالأشعري وغيره، ليس عندهم في الحقيقة حكمة ورحمة، ولكن له علم وقدرة وإرادة لا ترجح أحد الجانبين، ولهذا لما طلب منهم أن يقروا بكونه حكيما، فسروه بأنه عليم أو قدير أو مؤيد، وليس من الثلاثة ما يقتضي الحكمة، وإذا ثبت أنه رحيم حكيم، وعلم بطلان قول الجهم تعين إثبات ما تقتضيه الرحمة والحكمة.
وما قاله المعتزلة - أيضا - باطل، فقول القدرية المجبرة والنفاة في حكمته ورحمته باطل، ومن أعظم ما غلظهم اعتقادهم تأييد جهم، فإن ذلك يستلزم ما قالوه، وفساد اللازم يستلزم فساد الملزوم، والله سبحانه أعلم.
وأما آيات بقاء الجنة.

فالأول: مثل قوله تعالى: {أكلها دائم وظلها}. فأخبر أنه دائم والمنقطع ليس بدائم.
والثاني: مثل قوله: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد}، والمنقطع ينفد
والثالث: قوله تعالى: {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} فأخبر أن ما في الدنيا من الخير ينفد وما عند الله باق لا ينفد، فلو كان لما عند الله من النعيم آخر لكان ينفد نعيم الدنيا، ولم يكن باقيا لا ينفد.
والرابع: مثل قوله تعالى في آيتين: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون}.
{إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون}.
كما قال: {وإن لك لأجرا غير ممنون}.
قال عامة المفسرين: غير مقطوع، ولا منقوص.
وذكروا عن ابن عباس أنه قال: غير مقطوع.
وعن مقاتل: غير منقوص - أيضا -.
قال عامة المفسرين: غير مقطوع ولا منقوص، كما قال: {وإن لك لأجرا غير ممنون}.
قالوا - ومنه المنون، لأنه يقطع عمر الإنسان.
وعن مجاهد "غير مسحوب" وهذا يوافق ذلك، لأن ما ينتهي مقدر محسوب، بخلاف ما لا نهاية له فإنه غير مسحوب.
وقد شذ بعض الناس فقال: غير ممنون عليهم من جنس قوله: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان}.
وهذا القول مع مخالفته لأقوال السلف والجمهور هو خطأ لوجوه:
أحدها: أن الله يمن علينا بكل نعمة أنعم بها علينا، حتى بالإيمان والعمل الصالح قال تعالى: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين}.

وقال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم}.
وقال أهل الجنة ما أخبر الله تعالى به في قوله: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم}.
وهذا قولهم: {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}.
وقوله: {ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين}، وقد ثبت في الصحيح
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن يدخل أحد منكم بعمله الجنة" قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل".
والله تعالى في غير موضع يذكر آلاءه وإحسانه ونعمه على عباده، ويأمرهم أن يذكروها، ويأمرهم أن يشكروها.
والعبد قد نهي أن يمن بصدقته بقوله تعالى: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} لأن المتصدق في الحقيقة إنما أحسن إلى نفسه لا إلى المتصدق عليه، فإنه لولا أن له في ذلك منفعة وأجرا وعوضا لم يتصدق عليه، فصار كالذي يخدم المماليك بأجرة يأخذها من سيدهم ليس بمحسن إليهم.
وأيضا فإن المصدق الله هو المنعم عليه بما يسره الله للإحسان إلى نفسه وعليه أن يشكر الله تعالى ويرى أن الله هو المحسن إليه، فإن نظر إلى الفعل فالله خالقه، وإن نظر إلى غايته فهو يطلب جزاءه وعوضه من الله، وإن نظر إلى المحسن إليه فهو المحسن إلى نفسه، والله أحسن إليه أن جعله محسنا إلى نفسه لا ظالما لها.

فلهذا كان منه على المخلوق ظلما أبطل به صدقته، والله هو المنعم على عباده حقيقة بالنعمة، والشكر عليها إذا أعانهم على شكره وجعلهم شاكرين بنعمته، بثواب الشكر، فكل ذلك تفضل منه وإحسان من غير أن يكون له على ذلك عوض يأخذه من غيره، لا من المحسن إليه ولا من غيره فهو المنعم حقيقة، وإن كان له في الإنعام حكمة يحبها ويرضاها، فتلك الحكمة منه، فما لأحد عليه منة وهو الجواد المحض وهو سبحانه ليس كمثله شيء.
وللناس كلام في الجود والإحسان ومن يفعل لحكمة ومقصود هل هو جواد
أم ليس بجواد؟ يفرق بين من يطلب عوضا من غيره فيحتاج إلى غيره فيكون جوده من باب المعاوضة، وبين من لا يحتاج إلى غيره بل هو الجواد بالنعم وبالحكم كما قد بسط في غير هذا الموضع.
ولأنه لما قال تعالى: {لقد خلقنا الأنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات}، وبين أن غير المؤمنين تزول عنه النعمة، فلو كان المؤمن كذلك لم يكن بينهما فرق.
الخامس: مثل قوله تعالى في نعيم الجنة: {عطاء غير مجذوذ} وفي عذاب أهل النار: {إن ربك فعال لما يريد} قال غير واحد: غير مقطوع - أيضا -.

السادس: أنه قدر أخبر أن أهل الجنة والنار لا يموتون كما في الحديث الصحيح "يؤتى بالموت في صورة كبش، فيذبح بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل الجنة، خلود ولا موت فيها ويا أهل النار خلود ولا موت فيها" كل خالد فيما هو فيه، فإذا كانوا لا يموتون فلا بد لهم من دار يكونون فيها، ومحال أن يعذبوا بعد دخول الجنة فلم يبق إلا دار النعيم، والحي لا يخلو من لذة أو ألم، فإذا انتفى الألم تعينت اللذة الدائمة هـ.
آخرها ... والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه، حسبنا الله ونعم الوكيل.

(ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (119)
أخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون، وأهل الرحمة هم أتباع الأنبياء قولا وفعلا وهم أهل القرآن والحديث من هذه الأمة فمن خالفهم في شيء فاته من الرحمة بقدر ذلك. ولهذا لما كانت الفلاسفة أبعد عن اتباع الأنبياء كانوا أعظم اختلافا والخوارج والمعتزلة والروافض لما كانوا أيضا أبعد عن السنة والحديث كانوا أعظم افتراقا في هذه لا سيما الرافضة فإنه يقال: إنهم أعظم الطوائف اختلافا وذلك لأنهم أبعد الطوائف عن السنة والجماعة بخلاف المعتزلة فإنهم أقرب إلى ذلك منهم.
(فصل)
والاختلاف في كتاب الله على وجهين: أحدهما: أن يكون كله مذموما، كقوله: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} [سورة البقرة: 176].
والثاني: أن يكون بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل، كقوله: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} [سورة البقرة: 253]. لكن إذا أطلق الاختلاف فالجميع مذموم كقوله: {ولا يزالون مختلفين - إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} [سورة هود: 118 - 119]. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم: " «إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم» ".
ولهذا فسروا الاختلاف في هذا الموضع بأنه كله مذموم. قال الفراء: في اختلافهم وجهان: أحدهما: كفر بعضهم بكتاب بعض، والثاني: تبديل ما بدلوا. وهو كما قال ; فإن المختلفين كل منهم يكون معه حق وباطل، فيكفر بالحق الذي مع الآخر، ويصدق بالباطل الذي معه، وهو تبديل ما بدل.
فالاختلاف لا بد أن يجمع النوعين. ولهذا ذكر كل من السلف أنواعا من هذا: أحدها: الاختلاف في اليوم الذي يكون فيه الاجتماع، فاليوم الذي أمروا به يوم الجمعة، فعدلت عنه الطائفتان ; فهذه أخذت السبت، وهذه أخذت الأحد.

وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، الناس لنا فيه تبع، اليوم لنا، وغدا لليهود، وبعد غد للنصارى» ".
وهذا الحديث يطابق قوله تعالى: {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} [سورة البقرة: 203].
وفي صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «كان إذا قام من الليل يصلي يقول: " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلفوا فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» "
والحديث الأول يبين أن الله - تعالى - هدى المؤمنين لغير ما كان فيه المختلفون ; فلا كانوا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، وهو مما يبين أن الاختلاف كله مذموم.
والنوع الثاني: القبلة. فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى المغرب. وكلاهما مذموم لم يشرعه الله.

والثالث: إبراهيم. قالت اليهود كان يهوديا، وقالت النصارى كان نصرانيا. وكلاهما كان من الاختلاف المذموم: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين} [سورة آل عمران: 67].
والرابع: عيسى. جعلته اليهود لغية، وجعلته النصارى إلها.

والخامس: الكتب المنزلة. آمن هؤلاء ببعض، وهؤلاء ببعض.
والسادس: الدين. أخذ هؤلاء بدين، وهؤلاء بدين. ومن هذا الباب قوله تعالى: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} [سورة البقرة: 113]. وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - «أنه قال: اختصمت يهود المدينة ونصارى نجران عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت اليهود: ليست النصارى على شيء، ولا يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وكفروا بالإنجيل وعيسى. وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء، وكفروا بالتوراة وموسى، فأنزل الله هذه الآية والتي قبلها».
واختلاف أهل البدع هو من هذا النمط ; فالخارجي يقول: ليس الشيعي على شيء. والشيعي يقول: ليس الخارجي على شيء. والقدري النافي يقول: ليس المثبت على شيء. والقدري الجبري المثبت يقول: ليس النافي على شيء. والوعيدية تقول: ليست المرجئة على شيء. والمرجئة تقول: ليست الوعيدية على شيء.
بل ويوجد شيء من هذا بين أهل المذاهب الأصولية والفروعية المنتسبين إلى السنة. فالكلابي يقول: ليس الكرامي على شيء. والكرامي يقول: ليس الكلابي على شيء. والأشعري يقول: ليس السالمي على شيء. والسالمي يقول: ليس الأشعري على شيء.
ويصنف السالمي كأبي علي الأهوازي كتابا في مثالب الأشعري ويصنف الأشعري كابن عساكر كتابا يناقض ذلك من كل وجه، وذكر فيه مثالب السالمية.

وقد تدبرت كتب الاختلاف التي يذكر فيها مقالات الناس إما نقلا مجردا، مثل كتاب المقالات لأبي الحسن الأشعري، وكتاب الملل والنحل للشهرستاني، ولأبي عيسى الوراق، أو مع انتصار لبعض الأقوال، كسائر ما صنفه أهل الكلام على اختلاف طبقاتهم فرأيت عامة الاختلاف الذي فيها من الاختلاف المذموم. وأما الحق الذي بعث الله به رسوله، وأنزل به كتابه، وكان عليه سلف الأمة فلا يوجد فيها في جميع مسائل الاختلاف، بل يذكر أحدهم في المسألة عدة أقوال، والقول الذي جاء به الكتاب والسنة لا يذكرونه، وليس ذلك لأنهم يعرفونه ولا يذكرونه، بل لا يعرفونه.
ولهذا كان السلف والأئمة يذمون هذا الكلام.
ولهذا يوجد الحاذق منهم المنصف الذي غرضه الحق في آخر عمره يصرح بالحيرة والشك، إذ لم يجد في الاختلافات التي نظر فيها وناظر ما هو حق محض. وكثير منهم يترك الجميع ويرجع إلى دين العامة الذي عليه العجائز والأعراب.
كما قال أبو المعالي وقت السياق: " لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه. والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي ".
وكذلك أبو حامد في آخر عمره استقر أمره على الوقف والحيرة، بعد أن نظر فيما كان عنده من طرق النظار: أهل الكلام والفلسفة، وسلك ما تبين له من طرق العبادة والرياضة والزهد، وفي آخر عمره اشتغل بالحديث: بالبخاري ومسلم.
وكذلك الشهرستاني، مع أنه كان من أخبر هؤلاء المتكلمين بالمقالات والاختلاف، وصنف فيها كتابه المعروف بنهاية الإقدام في علم الكلام، وقال: " قد أشار علي من إشارته غنم، وطاعته حتم، أن أذكر له من مشكلات الأصول ما أشكل على ذوي العقول، ولعله استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم، لعمري:
لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم
فأخبر أنه لم يجد إلا حائرا شاكا ومرتابا، أو من اعتقد ثم ندم لما تبين له خطؤه. فالأول في الجهل البسيط: كظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها، وهذا دخل في الجهل المركب، ثم تبين له أنه جهل فندم، ولهذا تجده في المسائل يذكر أقوال الفرق وحججهم، ولا يكاد يرجح شيئا للحيرة.

(ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون (123)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
فصل:
قال " الشيخ عبد القادر " قدس الله روحه: " افن عن الخلق بحكم الله وعن هواك بأمره وعن إرادتك بفعله لحينئذ يصلح أن تكون وعاء لعلم الله ". قلت: فحكمه يتناول خلقه وأمره أي: افن عن عبادة الخلق والتوكل عليهم بعبادة الله والتوكل عليه فلا تطعهم في معصية الله تعالى ولا تتعلق بهم في جلب منفعة ولا دفع مضرة. وأما الفناء عن الهوى بالأمر وعن الإرادة بالفعل بأن يكون فعله موافقا للأمر الشرعي لا لهواه وأن تكون إرادته لما يخلق تابعة لفعل الله لا لإرادة نفسه. فالإرادة تارة تتعلق بفعل نفسه وتارة بالمخلوقات. فالأول " يكون بالأمر و " الثاني " لا تكون له إرادة. ولا بد في هذا أن يقيد بأن لا تكون له إرادة لم يؤمر بها وإلا فإذا أمر بأن يريد من المقدورات شيئا دون شيء فليرد ما أمر بإرادته سواء كان موافقا للقدر أم لا. وهذا الموضع قد يغلط فيه طائفة من السالكين والغالب على الصادقين منهم أنهم لم يعرفوا الإرادة الشرعية في ذلك المعين وهم ليس لهم إرادة نفسانية فتركوا إرادتهم لغير المقدور. قال الشيخ: " فعلامة فنائك عن خلق الله انقطاعك عنهم، وعن التردد إليهم، واليأس مما في أيديهم ". وهو كما قال. فإذا كان القلب لا يرجوهم ولا يخافهم لم يتردد إليهم لطلب شيء منهم وهذا يشبه بما يكون مأمورا به من المشي إليهم لأمرهم بما أمر الله به ونهيهم عما نهاهم الله عنه كذهاب الرسل وأتباع الرسل إلى من يبلغون رسالات الله فإن التوكل إنما يصح مع القيام بما أمر به العبد. ليكون عابدا لله متوكلا عليه وإلا فمن توكل عليه ولم يفعل ما أمر به؛ فقد يكون ما أضاعه من الأمر أولى به مما قام به من التوكل أو مثله أو دونه كما أن من قام بأمر ولم يتوكل عليه ولم يستعن به فلم يقم بالواجب؛ بل قد يكون ما تركه من التوكل والاستعانة أولى به مما فعله من الأمر أو مثله أو دونه. قال الشيخ: " وعلامة فنائك عنك وعن هواك: ترك التكسب، والتعلق بالسبب في جلب النفع، ودفع الضر فلا تتحرك فيك بك، ولا تعتمد عليك لك ولا تنصر نفسك ولا تذب عنك لكن تكل ذلك كله إلى من تولاه أولا فيتولاه آخرا. كما كان ذلك موكولا إليه في حال كونك مغيبا في الرحم وكونك رضيعا طفلا في مهدك ".
قلت: وهذا لأن النفس تهوى وجود ما تحبه وينفعها، ودفع ما تبغضه ويضرها فإذا فني عن ذاك بالأمر فعل ما يحبه الله، وترك ما يبغضه الله فاعتاض بفعل محبوب الله عن محبوبه وبترك ما يبغضه الله عما يبغضه، وحينئذ فالنفس لا بد لها من جلب المنفعة ودفع المضرة فيكون في ذلك متوكلا على الله. و " الشيخ رحمه الله " ذكر هنا التوكل دون الطاعة؛ لأن النفس لا بد لها من جلب المنفعة، ودفع المضرة فإن لم تكن متوكلة على الله في ذلك واثقة به لم يمكن أن تنصرف عن ذلك فتمتثل الأمر مطلقا؛ بل لا بد أن تعصي الأمر في جلب المنفعة ودفع المضرة فلا تصح العبادة لله، وطاعة أمره بدون التوكل عليه كما أن التوكل عليه لا يصح بدون عبادته وطاعته. قال تعالى: {فاعبده وتوكل عليه} وقال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} {ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه} وقال تعالى: {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا} {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا}.
و (المقصود) أن امتثال الأمر على الإطلاق لا يصح بدون التوكل والاستعانة ومن كان واثقا بالله أن يجلب له ما ينفعه ويدفع عنه ما يضره أمكن أن يدع هواه ويطيع أمره وإلا فنفسه لا تدعه أن يترك ما يقول إنه محتاج فيه إلى غيره.
قال الشيخ - رضي الله عنه -: " وعلامة فناء إرادتك بفعل الله أنك لا تريد مرادا قط فلا يكن لك غرض ولا تقف لك حاجة ولا مرام؛ لأنك لا تريد مع إرادة الله سواها بل يجري فعله فيك فتكون أنت إرادة الله تعالى وفعله، ساكن الجوارح، مطمئن الجنان، مشروح الصدر، منور الوجه، عامر الباطن، غنيا عن الأشياء بخالقها تقلبك يد القدرة، ويدعوك لسان الأزل، ويعلمك رب الملك ويكسوك نورا منه والحلل، وينزلك منازل من سلف من أولي العلم الأول فتكون منكسرا أبدا. فلا تثبت فيك شهوة ولا إرادة.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
هذا المقام هو آخر ما يشير إليه الشيخ عبد القادر - رضي الله عنه - وحقيقته أنه لا يريد كون شيء إلا أن يكون مأمورا بإرادته فقوله: علامة فناء إرادتك بفعل الله أنك لا تريد مرادا قط. أي لا تريد مرادا لم تؤمر بإرادته فأما ما أمرك الله ورسوله بإرادتك إياه فإرادته إما واجب وإما مستحب وترك إرادة هذا إما معصية وإما نقص. وهذا الموضع يلتبس على كثير من السالكين فيظنون أن الطريقة الكاملة ألا يكون للعبد إرادة أصلا وأن قول أبي يزيد: " أريد ألا أريد " - لما قيل له: ماذا تريد؟ - نقص وتناقض؛ لأنه قد أراد، ويحملون كلام المشايخ الذين يمدحون بترك الإرادة على ترك الإرادة مطلقا وهذا غلط منهم على الشيوخ المستقيمين وإن كان من الشيوخ من يأمر بترك الإرادة مطلقا فإن هذا غلط ممن قاله فإن ذلك ليس بمقدور ولا مأمور فإن الحي لا بد له من إرادة فلا يمكن حيا ألا تكون له إرادة فإن الإرادة التي يحبها الله ورسوله ويأمر بها أمر إيجاب أو أمر استحباب لا يدعها إلا كافر أو فاسق أو عاص إن كانت واجبة وإن كانت مستحبة كان تاركها تاركا لما هو خير له. والله تعالى قد وصف الأنبياء والصديقين بهذه " الإرادة " فقال تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} وقال تعالى: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى} {إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} وقال تعالى: {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} وقال تعالى: {وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما} وقال تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا} وقال تعالى: {فاعبد الله مخلصا له الدين} {ألا لله الدين الخالص} وقال تعالى: {قل الله أعبد مخلصا له ديني} وقال تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} وقال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
ولا عبادة إلا بإرادة الله ولما أمر به. وقال تعالى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن} أي أخلص قصده لله. وقال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} وإخلاص الدين له هو إرادته وحده بالعبادة. وقال تعالى: {يحبهم ويحبونه} وقال تعالى: {والذين آمنوا أشد حبا لله} وقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}. وكل محب فهو مريد. وقال الخليل عليه السلام {لا أحب الآفلين} ثم قال: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض}. ومثل هذا كثير في القرآن؛ يأمر الله بإرادته وإرادة ما يأمر به وينهى عن إرادة غيره وإرادة ما نهى عنه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه} " فهما " إرادتان ": إرادة يحبها الله ويرضاها وإرادة لا يحبها الله ولا يرضاها بل إما نهى عنها وإما لم يأمر بها ولا ينهى عنها.

سورة يوسف
(الر تلك آيات الكتاب المبين (1) إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (2)
[فصل: رد دعوى النصارى خصوصية الإسلام لكون كتابه باللسان العربي]
وأما كون القرآن أنزل باللسان العربي وحده فعنه أجوبة: أحدها: أن يقال والتوراة إنما أنزلت باللسان العبري وحده وموسى - عليه السلام - لم يكن يتكلم إلا بالعبرية وكذلك المسيح لم يكن يتكلم بالتوراة والإنجيل وغيرهما إلا بالعبرية وكذلك سائر الكتب لا ينزلها الله إلا بلسان واحد بلسان الذي أنزلت عليه ولسان قومه الذين يخاطبهم أولا، ثم بعد ذلك تبلغ الكتب وكلام الأنبياء لسائر الأمم إما بأن يترجم لمن لا يعرف لسان ذلك الكتاب وإما بأن يتعلم الناس لسان ذلك الكتاب فيعرفون معانيه وإما بأن يبين للمرسل إليه معاني ما أرسل به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليه بلسانه وإن لم يعرف سائر ما أرسل به.
وقد أخبر الله في القرآن ما قالته الرسل لقومهم وما قالوا: لهم - وأكثرهم لم يكونوا عربا - وأنزله الله باللسان العربي وحينئذ، فإن شرط التكليف تمكن العباد من فهم ما أرسل به الرسول إليهم وذلك يحصل بأن يرسل بلسان يعرف به مراده ثم جميع الناس متمكنون من معرفة مراده بأن يعرفوا ذلك اللسان أو يعرفوا معنى الكتاب بترجمة من يترجم معناه وهذا مقدور للعباد ومن لم يمكنه فهم كلام الرسول إلا بتعلم اللغة التي أرسل بها وجب عليه ذلك، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بخلاف ما لا يتم الوجوب إلا به، فإنه ليس بواجب ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها لا في الأصل ولا في التمام فلا نحتاج أن نقول ما لا يتم الواجب إلا به - وكان مقدورا للمكلف - فهو واجب، فإن ما ليس مقدورا عليه لا يكلف به العباد بل وقد يكون مقدورا عليه ولا يكلفون به.
فلما كانت الاستطاعة شرطا في وجوب الحج لم يجب تحصيل الاستطاعة بخلاف قطع المسافات، فإنه ليس شرطا في الوجوب فلهذا يجب الحج على الإنسان من المسافة البعيدة والقريبة إذا كان مستطيعا.
وجمهور الناس لا يعرفون معاني الكتب الإلهية: التوراة والإنجيل والقرآن إلا بمن يبينها ويفسرها لهم وإن كانوا يعرفون اللغة فهؤلاء يجب عليهم طلب علم ما يعرفون به ما أمرهم الله به ونهاهم عنه وهذا هو طلب العلم المفروض على الخلق وكذلك ما بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من معاني الكتاب الذي أنزله الله عليه يجب على الخلق طلب علم ذلك ممن يعرفه إذا كان معرفة ذلك لا تحصل بمجرد اللسان.

كما يروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله - تبارك وتعالى - فمن ادعى علمه فهو كاذب.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #376  
قديم 09-08-2025, 09:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ هُودٍ
المجلد العاشر
الحلقة( 376)

من صــ 331 الى صـ 345





والله تعالى قال {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} [إبراهيم: 4] لم يقل: وما أرسلنا من رسول إلا إلى قومه لكن لم يرسله إلا بلسان قومه الذين خاطبهم أولا، ليبين لقومه فإذا بين لقومه ما أراده حصل بذلك المقصود لهم ولغيرهم، فإن قومه الذين بلغ إليهم أولا يمكنهم أن يبلغوا عنه اللفظ ويمكنهم أن ينقلوا عنه المعنى لمن لا يعرف اللغة ويمكن لغيرهم أن يتعلم منهم لسانه فيعرف مراده فالحجة تقوم على الخلق ويحصل لهم الهدى بمن ينقل عن الرسول: تارة المعنى وتارة اللفظ؛ ولهذا يجوز نقل حديثه بالمعنى، والقرآن يجوز ترجمة معانيه لمن لا يعرف العربية باتفاق العلماء.
وجوز بعضهم أن يقرأ بغير العربية عند العجز عن قراءته بالعربية وبعضهم جوزه مطلقا وجمهور العلماء منعوا أن يقرأ بغير العربية وإن جاز أن يترجم للتفهم بغير العربية كما يجوز تفسيره وبيان معانيه وإن كان التفسير ليس قرآنا متلوا وكذلك الترجمة وقد قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - «نضر الله امرءا سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه».

وقال أيضا في الحديث الصحيح «ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أمسكت الماء فنفع الله به الناس فزرعوا وسقوا وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من تفقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به».
فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن يبلغ حديثه وإن لم يتفقه فيه وقال: «رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه».
وقد كان العارفون باللغة العربية حين بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - إنما يوجدون في جزيرة العرب وما والاها كأرض الحجاز واليمن وبعض الشام والعراق ثم انتشر فصار أكثر الساكنين في وسط المعمورة العربية، حتى اليهود والنصارى الموجودون في وسط الأرض يتكلمون بالعربية كما يتكلم بها أكثر المسلمين بل كثير من اليهود والنصارى يتكلمون بالعربية أجود مما يتكلم بها كثير من المسلمين.

وقد انتشرت هذه اللغة أكثر مما انتشرت سائر اللغات حتى أن الكتب القديمة من كتب أهل الكتاب ومن كتب الفرس والهند واليونان والقبط وغيرهم عربت بهذه اللغة.
ومعرفة الكتب المصنفة بالعربية والكلام العربي أيسر على جمهور الناس من معرفة الكتب المصنفة بغير العربية، فإن اللسان العبري والسرياني والرومي والقبطي وغيرها وإن عرفه طائفة من الناس فالذين يعرفون اللسان العربي أكثر ممن يعرف لسانا من هذه الألسنة.
وأيضا فمعرفة ما أمر الله عباده أمرا عاما هو مما نقله الأمة عن نبيها - صلى الله عليه وسلم - نقلا متواترا وأجمعت عليه مثل الأمر بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنه أرسل إلى جميع الناس أميهم وغير أميهم، وإقام الصلوات الخمس وإيتاء الزكاة وصيام شهر رمضان وحج البيت العتيق من استطاع إليه سبيلا وإيجاب الصدق وتحريم الفواحش والظلم والأمر بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت هو ما يعرفه المسلمون معرفة عامة ولا يحتاج الإنسان في معرفة ذلك إلى أن يحفظ القرآن بل يمكن الإنسان معرفة ما أمر الله به على لسان رسوله وإن لم يعرف اللغة العربية ويكفيه أن يقرأ فاتحة الكتاب وسورا معها يصلي بهن وكثير من الفرس والروم والترك والهند والحبشة والبربر وغيرهم لا يعرفون أن يتكلموا بالعربية الكلام المعتاد وقد أسلموا وصاروا من أولياء الله المتقين ومنهم من يحفظ القرآن كله وإذا كلم الناس لا يستطيع أن يكلمهم إلا بلسانه لا بالعربية وإذا خوطب بالعربية لم يفقه ما قيل له.
الوجه الثاني: أن المسيح - عليه السلام - كان لسانه عبريا وكذلك ألسنة الحواريين الذين اتبعوه أولا ثم أنه أرسلهم إلى الأمم يخاطبونهم ويترجمون لهم ما قاله المسيح - عليه السلام - فإن قالوا: إن رسل المسيح حولت ألسنتهم إلى ألسنة من أرسل إليهم.
قيل هذا منقول في رسل المسيح وفي رسل محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين أرسلهم إلى الأمم ولا ريب أن رسل رسل الله كرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - والمسيح - عليه السلام - إلى الأمم لا بد أن يعرفوا لسان من أرسلهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليهم أو أن يكون عند أولئك من يفهم لسانهم ولسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليترجم لهم فإذا لم يكن عند من أرسل المسيح إليهم من يعرف بالعربية فلا بد أن يكون رسوله ينطق بلسانهم.
وكذلك رسل النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين أرسلهم إلى الأمم، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من الحديبية أرسل رسله إلى أهل الأرض فبعث إلى ملوك العرب باليمن والحجاز والشام والعراق وأرسل إلى ملوك النصارى بالشام ومصر قبطهم ورومهم وعربهم وغيرهم، وأرسل إلى الفرس المجوس ملوك العراق وخراسان.
قال محمد بن سعد في الطبقات ذكر بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرسل بكتبه إلى الملوك وغيرهم يدعوهم وذكر ما كتب به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لناس من العرب وغيرهم ثم قال: أخبرنا محمد بن عمر الأسلمي قال: حدثني معمر بن راشد ومحمد بن عبد الله عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: وعن الواقدي حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة عن المسور بن رفاعة وحدثنا عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن جدته
الشفاء وحدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد عن العلاء بن الحضرمي وحدثنا ابن محمد الأنصاري عن جعفر بن عمرو (بن جعفر بن عمرو) بن أمية الضمري عن أهله عن عمرو بن أمية الضمري دخل حديث بعضهم في حديث بعض قالوا «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست أرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وكتب إليهم كتبا فقيل يا رسول الله إن الملوك لا يقرءون كتابا إلا مختوما فاتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ خاتما من فضة فصه منه نقشه ثلاثة أسطر محمد رسول الله وختم به الكتب فخرج ستة نفر منهم في يوم واحد وذلك في المحرم سنة سبع وأصبح كل واحد منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه إليهم».

أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل دحية بن خليفة الكلبي وإلى المقوقس صاحب مصر والإسكندرية حاطب بن أبي بلتعة وإلى كسرى عبد الله بن حذافة السهمي وأرسل إلى الحارث بن أبي شمر الغساني وكان نصرانيا بظاهر دمشق فبعث إليه شجاع بن وهب الأسدي وأرسل إلى غير هؤلاء.
وقال أيضا: أخبرنا الهيثم بن عدي قال: أخبرنا دلهم بن صالح وأبو بكر الهذلي عن عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي قال: وحدثنا محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان والزهري وحدثنا الحسن بن عمارة عن فراس عن الشعبي دخل حديث بعضهم في حديث بعض: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: " «ائتوني بأجمعكم بالغداة وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الفجر يجلس في مصلاه قليلا يسبح ويدعو ثم التفت إليهم فبعث عدة إلى عدة وقال:

- صلى الله عليه وسلم - انصحوا لله في أمر عباده، فإن من أخبر عن شيء من أمور المسلمين ثم لم ينصح حرم الله عليه الجنة انطلقوا ولا تصنعوا كما صنعت رسل عيسى بن مريم، فإنهم أتوا القريب وتركوا البعيد فأصبحوا يعني الرسل وكل منهم يعرف بلسان القوم الذين أرسل إليهم وذكر ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هذا أعظم ما كان من حق الله - عز وجل - عليهم في أمر عباده».
الوجه الثالث: أن النصارى فيهم عرب كثير من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل من يفهم اللسان العربي، فإنه يمكن فهمه للقرآن وإن كان أصل لسانه فارسيا أو روميا أو تركيا أو هنديا أو قبطيا وهؤلاء الذين أرسلوا هذا الكتاب من علماء النصارى قد قرءوا المصحف وفهموا منه ما فهموا وهم يفهمونه بالعربية واحتجوا بآيات من القرآن فكيف يسوغ لهم مع هذا أن يقولوا كيف تقوم الحجة علينا بكتاب لم نفهمه؟.
الوجه الرابع: أن حكم أهل الكتاب في ذلك حكم المشركين ومعلوم أن المشركين فيهم عرب وفيهم عجم - ترك وهند وغيرهما -

فكما أن جميع المشركين كمشركي العرب وكذلك جميع أهل الكتاب كأهل الكتاب من العرب وفي اليهود والنصارى ممن يعرف بلسان العرب من لا يحصيه إلا الله - عز وجل.
الوجه الخامس: أنه ليس فهم كل آية من القرآن فرضا على كل مسلم وإنما يجب على المسلم أن يعلم ما أمره الله به وما نهاه عنه بأي عبارة كانت وهذا ممكن لجميع الأمم ولهذا دخل في الإسلام جميع أصناف العجم من الفرس والترك والهند والصقالبة والبربر ومن هؤلاء من يعلم اللسان العربي ومنهم من يعلم ما فرض الله عليه الترجمة وقد قدمنا أنه يجوز ترجمة القرآن في غير الصلاة والتعبير كما يجوز تفسيره باتفاق المسلمين وإنما تنازعوا هل يقرأ بغير العربية تلاوة كما يقرأ في الصلاة فجمهور العلماء منعوا من ذلك وحينئذ فإذا قرأ الأعجمي فاتحة الكتاب وسورتين معها بالعربية أجزأه وكذلك التشهد وغيره من الذكر المأمور به وهذا أمر يسير أيسر من أكثر الواجبات فكيف يمتنع أن يأمر الله - تبارك وتعالى - عباده بذلك.

وأما جمل ما أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة والزكاة والصوم والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وما حرمه الله من الشرك والفواحش والظلم وغير ذلك فهذا مما يمكن أن يعرفه كل واحد بتعريف من يعرفه إما باللسان العربي وإما بلسان آخر لا يتوقف تعريف ذلك على لسان العرب.

[فصل: دفع ما يوهم الخصوصية لكون القرآن عربيا]
وأما قوله - تعالى -: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} [يوسف: 2] وقوله: {ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي} [فصلت: 44] وقوله: {إنا جعلناه قرآنا عربيا} [الزخرف: 3] فهذا يتضمن إنعام الله على عباده ; لأن اللسان العربي أكمل الألسنة وأحسنها بيانا للمعاني فنزول الكتاب به أعظم نعمة على الخلق من نزوله بغيره وهو إنما خوطب به أولا العرب ليفهموه ثم من يعلم لغتهم يفهمه كما فهموه ثم من لم يعلم لغتهم ترجمه له من عرف لغتهم وكان إقامة الحجة به على العرب أولا والإنعام به عليهم أولا لمعرفتهم بمعانيه قبل أن يعرفه غيرهم.
قال - تعالى -: {فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون} [الدخان: 58]

وقال: {فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا} [مريم: 97] واللد جمع الألد وهو الأعوج في المناظرة الذي يروغ عن الحق كما قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» وأما قوله - تعالى -:
{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} [إبراهيم: 4] فهو كما قال - تعالى - وقوم محمد - صلى الله عليه وسلم - هم قريش وبلسانهم أرسل وهو سبحانه لم يقل: وما أرسلنا من رسول إلا إلى قومه بل الرسول يبعثه الله إلى قومه وغير قومه كما تقول النصارى: أنه بعث المسيح - عليه السلام - والحواريين إلى غير بني إسرائيل وليسوا من قومه، فكذلك بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه وغير قومه، ولكن إنما يبعث بلسان قومه ليبين لهم ثم يحصل البيان لغيرهم بتوسط البيان لهم إما بلغتهم ولسانهم وإما بالترجمة لهم ولو لم يتبين لقومه أولا لم يحصل مقصود الرسالة لا لهم ولا لغيرهم وإذا تبين لقومه أولا حصل البيان لهم ولغيرهم بتوسطهم وقومه إليهم بعث أولا ولهم دعا أولا وأنذر أولا وليس في هذا أنه لم يرسل إلى غيرهم لكن إذا تبين لقومه لكونه بلسانهم أمكن بعد هذا أن يعرفه غير قومه إما بتعلمه بلسانهم وإما بتعريف بلسان يفهم به والرجل يكتب كتاب علم في طب أو نحو أو حساب بلسان قومه ثم يترجم ذلك الكتاب وينقل إلى لغات أخر وينتفع به أقوام آخرون كما ترجمت كتب الطب والحساب التي صنفت بغير العربي وانتفع بها العرب وعرفوا مراد أصحابها وإن كان المصنف لها أولا إنما صنفها بلسان قومه وإذا كان هذا في بيان الأمور التي لا يتعلق بها سعادة الآخرة والنجاة من عذاب الله فكيف يمتنع في العلوم التي يتعلق بها سعادة الآخرة والنجاة من العذاب أن ينقل من لسان إلى لسان حتى يفهم أهل اللسان الثاني بها ما أراده بها المتكلم بها أولا باللسان الأول.
وأبناء فارس المسلمون لما كان لهم من عناية بهذا ترجموا مصاحف كثيرة فيكتبونها بالعربي ويكتبون الترجمة بالفارسية وكانوا قبل الإسلام أبعد عن المسلمين من الروم والنصارى فإذا كان الفرس المجوس قد وصل إليهم معاني القرآن بالعربي وترجمته فكيف لا يصل إلى أهل الكتاب وهم أقرب إلى المسلمين منهم وعامة الأصول التي يذكرها القرآن عندهم شواهدها ونظائرها في التوراة والإنجيل والزبور وغير ذلك من النبوات بل كل من تدبر نبوات الأنبياء وتدبر القرآن جزم يقينا بأن محمدا رسول الله حقا وأن موسى رسول الله صدقا لما يرى من تصادق الكتابين التوراة والقرآن مع العلم بأن موسى - عليه السلام - لم يأخذ عن محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذ عن موسى، فإن محمدا - صلى الله عليه وسلم - باتفاق أهل المعرفة بحاله كان أميا من قوم أميين مقيما بمكة ولم يكن عندهم من يحفظ التوراة والإنجيل ولا الزبور ومحمد لم يخرج من بين ظهرانيهم ولم يسافر قط إلا سفرتين إلى الشام خرج مرة مع عمه أبي طالب قبل الاحتلام ولم يكن يفارقه ومرة أخرى مع ميسرة في تجارته وكان ابن بضع وعشرين سنة مع رفقة كانوا يعرفون جميع أحواله ولم يجتمع قط بعالم أخذ عنه شيئا لا من علماء اليهود ولا النصارى ولا من غيرهم لا بحيرى ولا غيره، ولكن كان بحيرى الراهب لما رآه عرفه لما كان عنده من ذكره ونعته فأخبر أهله بذلك وأمرهم بحفظه من اليهود ولم يتعلم لا من بحيرى ولا من غيره كلمة واحدة وسنبين - إن شاء الله - الدلائل الكثيرة على أنه لم يأخذ عن أحد من أهل الكتاب كلمة واحدة وقصة بحيرى مذكورة ذكرها أرباب السير وأصحاب المسانيد والسنن.
قال الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي في جامعه حدثنا الفضل أبو العباس البغدادي قال: حدثنا عبد الرحمن بن غزوان أبو نوح أنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري عن أبيه قال: خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أشياخ من قريش فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت قال: فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هذا سيد العالمين هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين فقال: له أشياخ من قريش ما علمك فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا ولا يسجدن إلا لنبي وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غرضوف كتفه مثل التفاحة ثم رجع فصنع لهم طعاما فلما أتاهم به - وكان هو في رعية الإبل - فقال: أرسلوا إليه فأقبل وعليه غمامة تظله فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة فلما جلس مال فيء الشجرة عليه فقال:
انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه قال: فبينما هو قائم عليهم يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه فالتفت فإذا بسبعة قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم الراهب فقال: ما جاء بكم قالوا: جئنا ; لأن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس وإنا قد أخبرنا خبره بطريقك هذا.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #377  
قديم 09-08-2025, 09:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ هُودٍ
المجلد العاشر
الحلقة( 377)

من صــ 346 الى صـ 360





فقال أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا. قال: فتابعوه وأقاموا معه. قال: أنشدكم الله يا معشر العرب أيكم وليه فقال: أبو طالب أنا فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب وزوده الراهب من الكعك والزيت.
قال الترمذي هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ورواه البيهقي في كتاب دلائل النبوة من حديث العباس بن محمد عن قراد بن نوح وقال: العباس لم يحدث به يعني بهذا الإسناد غير قراد وسمعه يحيى وأحمد من قراد.
قال البيهقي أراد أنه لم يحدث بهذا الإسناد سوى هؤلاء فأما القصة فهي عند أهل المغازي مشهورة.

وقال ابن سعد في الطبقات: حدثنا محمد بن عمر قال: حدثني محمد بن صالح وعبد الله بن جعفر وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين قال: لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثني عشرة سنة خرج به أبو طالب إلى الشام في العير التي خرج فيها للتجارة فنزلوا بالراهب بحيرى فقال: بحيرى لأبي طالب في النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال، وأمره أن يحتفظ به فرده أبو طالب معه إلى مكة وشب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أبي طالب يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أمور الجاهلية ومعايبها لما يريده به من كرامته حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا وأكرمهم مخالطة وأعظمهم حلما وأمانة وأصدقهم حديثا وأبعدهم من الفحش والأذى فما رئي ملاحيا ولا مماريا أحدا حتى سماه قومه الأمين لما جمع فيه من الأمور الصالحة.
وقال: ابن الجوزي خرج أبو طالب إلى الشام ومعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن اثنتي عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام فنزل الركب ببصرى وبها راهب - يقال له بحيرى - في صومعة له وكان ذا علم بالنصرانية ولم يزل في تلك الصومعة راهب تنتهي إليه علم النصرانية صاغرا عن كابر وفيها كتب يدرسونها وكان كثيرا ما يمر الركب فلا يكلمهم حتى إذا كان في ذلك العام نزلوا منزلا قريبا من الصومعة فصنع لهم الراهب طعاما ودعاهم وإنما حمله على ذلك لشيء رآه فلما رأى بحيرى ذلك نزل من صومعته وأمر بذلك الطعام فحضر وأرسل إلى القوم فقال: يا معشر قريش أحب أن تحضروا طعامي ولا يتخلف منكم أحد فقال: وهذا شيء تكرموني فلما حضروا عنده جعل يلاحظ النبي - صلى الله عليه وسلم - لحظا شديدا وينظر إلى جسده وجعل أبو طالب يخاف عليه من الراهب ثم قال الراهب لأبي طالب ارجع بابن أخيك، فإنه كائن له شأن عظيم، فإنا نجد صفته في كتبنا ويروونه عن آبائنا فلما فرغوا من التجارة رجع أبو طالب سريعا إلى مكة فما خرج بعدها به أبو طالب خوفا عليه.
هذا مع أن في القرآن من الرد على أهل الكتاب في بعض ما حرفوه مثل دعواهم أن المسيح - عليه السلام - صلب وقول بعضهم: أنه إله وقول بعضهم: أنه ساحر. وطعنهم على سليمان - عليه السلام - وقولهم أنه كان ساحرا. وأمثال ذلك ما يبين أنه لم يأخذ عنهم.
وفي القرآن من قصص الأنبياء - عليهم السلام - ما لا يوجد في التوراة والإنجيل مثل قصة هود وصالح وشعيب وغير ذلك.

وفي القرآن من ذكر المعاد وتفصيله وصفة الجنة والنار والنعيم والعذاب ما لا يوجد مثله في التوراة والإنجيل بل التوراة ليس فيها تصريح بذكر المعاد وعامة ما فيها من الوعد والوعيد فهو في الدنيا كالوعد بالرزق والنصر والعاقبة والوعيد بالقحط والأمراض والأعداء. وإن كان ذكر المعاد موجودا في غير التوراة من النبوات ولهذا كان أهل الكتاب يقرون بالمعاد وقيام القيامة الكبرى وقد قيل إن ذلك مذكور في التوراة أيضا لكن لم يبسط كما بسط في غير التوراة.
(نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين (3)
وقوله تعالى: {نحن نقص عليك أحسن القصص} [سورة يوسف: 3]، سواء كان القصص مصدر قص يقص قصصا، أو كان مفعولا: أي أحسن المقصوص، فذاك لا يختص بقصة يوسف، بل قصة موسى أعظم منها قدرا وأحسن، ولهذا [كرر] ذكرها في القرآن وبسطها، قال تعالى: {فلما جاءه وقص عليه القصص} [سورة القصص: 25] ولهذا قال: {بما أوحينا إليك هذا القرآن} [سورة يوسف: 3] وقد قرئ: {أحسن القصص} بالكسر، ولا تختص بقصة يوسف، بل كل ما قصه الله فهو أحسن القصص، فهو أحسن مقصوص، وقد قصه الله أحسن قصص.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " «إن الله جميل يحب الجمال» " قاله جوابا للسائل في بيان ما يحبه الله من الأفعال وما يكرهه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان» ". ومعلوم أن هذا الكبر من كسب العبد الداخل تحت قدرته ومشيئته، وهو منهي عنه ومأمور بضده، فخاف السائل أن يكون ما يتجمل به الإنسان، فيكون أجمل به ممن لم يعمل مثله من الكبر المذموم، فقال: إني أحب أن يكون ثوبي حسنا ونعلي حسنا، أفمن الكبر ذاك؟
وحسن ثوبه ونعله هو مما حصل بفعله وقصده، ليس هو شيئا مخلوقا فيه بغير كسبه كصورته، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " «إن الله جميل يحب الجمال» " ففرق بين الكبر الذي يمقته الله، وبين الجمال الذي يحبه الله.

ومعلوم أن الله إذا خلق شخصا أعظم من شخص، وأكبر منه في بعض الصفات: إما في جسمه، وإما في قوته، وإما في عقله، وذكائه ونحو ذلك، لم يكن هذا مبغضا، فإن هذا ليس باختيار العبد، بل هذا خلق فيه بغير اختياره، بخلاف ما إذا كان هو متكبرا على غيره، بذلك أو بغيره، فيكون هذا من عمله الذي يمقته الله عليه، كما قال لإبليس: {فما يكون لك أن تتكبر فيها} [سورة الأعراف: 13].
كذلك من خلقه الله حسن اللون معتدل القامة جميل الصورة، فهذا ليس من عمله الذي يحمد عليه أو يذم، أو يثاب أو يعاقب ويحبه الله ورسوله عليه أو يبغضه عليه، كما أنه إذا كان أسود أو قصيرا، أو طويلا ونحو ذلك، لم يكن هذا من عمله الذي يحمد عليه أو يذم، ويثاب أو يعاقب، ويحبه الله ورسوله عليه أو يبغضه ; ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى» ".

(وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين (17)
فصل:
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
ومما ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم؛ ولهذا قال الفقهاء: " الأسماء ثلاثة أنواع " نوع يعرف حده بالشرع كالصلاة والزكاة؛ ونوع يعرف حده باللغة كالشمس والقمر؛ ونوع يعرف حده بالعرف كلفظ القبض ولفظ المعروف في قوله: {وعاشروهن بالمعروف} ونحو ذلك. وروي عن ابن عباس أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله من ادعى علمه فهو كاذب. فاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك قد بين الرسول صلى الله عليه وسلم ما يراد بها في كلام الله ورسوله وكذلك لفظ الخمر وغيرها ومن هناك يعرف معناها فلو أراد أحد أن يفسرها بغير ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه وأما الكلام في اشتقاقها ووجه دلالتها فذاك من جنس علم البيان. وتعليل الأحكام هو زيادة في العلم وبيان حكمة ألفاظ القرآن؛ لكن معرفة المراد بها لا يتوقف على هذا. واسم الإيمان والإسلام والنفاق والكفر هي أعظم من هذا كله؛فالنبي صلى الله عليه وسلم قد بين المراد بهذه الألفاظ بيانا لا يحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق وشواهد استعمال العرب ونحو ذلك؛ فلهذا يجب الرجوع في مسميات هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله فإنه شاف كاف؛ بل معاني هذه الأسماء معلومة من حيث الجملة للخاصة والعامة بل كل من تأمل ما تقوله الخوارج والمرجئة في معنى الإيمان علم بالاضطرار أنه مخالف للرسول ويعلم بالاضطرار أن طاعة الله ورسوله من تمام الإيمان وأنه لم يكن يجعل كل من أذنب ذنبا كافرا ويعلم أنه لو قدر أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك؛ ونقر بألسنتنا بالشهادتين إلا أنا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه فلا نصلي ولا نصوم ولا نحج ولا نصدق الحديث ولا نؤدي الأمانة ولا نفي بالعهد ولا نصل الرحم ولا نفعل شيئا من الخير الذي أمرت به ونشرب الخمر؛ وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك ونأخذ أموالهم بل نقتلك أيضا ونقاتلك مع أعدائك؛ هل كان يتوهم عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملو الإيمان وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة ويرجى لكم ألا يدخل أحد منكم النار بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك.

وكذلك كل مسلم يعلم أن شارب الخمر والزاني والقاذف والسارق لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يجعلهم مرتدين يجب قتلهم بل القرآن والنقل المتواتر عنه يبين أن هؤلاء لهم عقوبات غير عقوبة المرتد عن الإسلام كما ذكر الله في القرآن جلد القاذف والزاني وقطع السارق وهذا متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو كانوا مرتدين لقتلهم. فكلا القولين مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم. وأهل البدع إنما دخل عليهم الداخل لأنهم أعرضوا عن هذه الطريق وصاروا يبنون دين الإسلام على مقدمات يظنون صحتها. إما في دلالة الألفاظ.
وإما في المعاني المعقولة. ولا يتأملون بيان الله ورسوله وكل مقدمات تخالف بيان الله ورسوله فإنها تكون ضلالا ولهذا تكلم أحمد في رسالته المعروفة في الرد على من يتمسك بما يظهر له من القرآن من غير استدلال ببيان الرسول والصحابة والتابعين؛ وكذلك ذكر في رسالته إلى أبي عبد الرحمن الجرجاني في الرد على المرجئة وهذه طريقة سائر أئمة المسلمين.
لا يعدلون عن بيان الرسول إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا؛ ومن عدل عن سبيلهم وقع في البدع التي مضمونها أنه يقول على الله ورسوله ما لا يعلم أو غير الحق وهذا مما حرمه الله ورسوله. وقال تعالى في الشيطان: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} وقال تعالى: {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق} وهذا من تفسير القرآن بالرأي الذي جاء فيه الحديث: {من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار}.
مثال ذلك أن " المرجئة " لما عدلوا عن معرفة كلام الله ورسوله أخذوا يتكلمون في مسمى " الإيمان " و " الإسلام " وغيرهما بطرق ابتدعوها مثل أن يقولوا: " الإيمان في اللغة " هو التصديق والرسول إنما خاطب الناس بلغة العرب لم يغيرها فيكون مراده بالإيمان التصديق؛ ثم قالوا: والتصديق إنما يكون بالقلب واللسان أو بالقلب فالأعمال ليست من الإيمان ثم عمدتهم في أن الإيمان هو التصديق قوله: {وما أنت بمؤمن لنا} أي بمصدق لنا. فيقال لهم: " اسم الإيمان " قد تكرر ذكره في القرآن والحديث أكثر من ذكر سائر الألفاظ وهو أصل الدين وبه يخرج الناس من الظلمات إلى النور؛ ويفرق بين السعداء والأشقياء ومن يوالي ومن يعادي والدين كله تابع لهذا؛ وكل مسلم محتاج إلى معرفة ذلك؛ أفيجوز أن يكون الرسول قد أهمل بيان هذا كله. ووكله إلى هاتين المقدمتين؟. ومعلوم أن الشاهد الذي استشهدوا به على أن الإيمان هو التصديق أنه من القرآن. ونقل معنى الإيمان متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من تواتر لفظ الكلمة فإن الإيمان يحتاج إلى معرفة جميع الأمة فينقلونه بخلاف كلمة من سورة.
فأكثر المؤمنين لم يكونوا يحفظون هذه السورة فلا يجوز أن يجعل بيان أصل الدين مبنيا على مثل هذه المقدمات ولهذا كثر النزاع والاضطراب بين الذين عدلوا عن صراط الله المستقيم وسلكوا السبل وصاروا من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ومن الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات فهذا كلام عام مطلق. ثم يقال: " هاتان المقدمتان " كلاهما ممنوعة فمن الذي قال: إن لفظ الإيمان مرادف للفظ التصديق؟ وهب أن المعنى يصح إذا استعمل في هذا الموضع فلم قلت: إنه يوجب الترادف؟ ولو قلت: ما أنت بمسلم لنا ما أنت بمؤمن لنا صح المعنى لكن لم قلت: إن هذا هو المراد بلفظ مؤمن؟ وإذا قال الله: {وأقيموا الصلاة}. ولو قال القائل: أتموا الصلاة ولازموا الصلاة التزموا الصلاة افعلوا الصلاة كان المعنى صحيحا.
لكن لا يدل هذا على معنى: أقيموا. فكون اللفظ يرادف اللفظ؛ يراد دلالته على ذلك. ثم يقال: ليس هو مرادفا له وذلك من وجوه: (أحدها: أن يقال للمخبر إذا صدقته: صدقه ولا يقال: آمنه وآمن به. بل يقال: آمن له كما قال: {فآمن له لوط} وقال: {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه} وقال فرعون: {آمنتم له قبل أن آذن لكم} وقالوا لنوح: {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون} وقال تعالى: {قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين}. فقالوا: {أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون} وقال: {وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون}.
فإن قيل: فقد يقال: ما أنت بمصدق لنا. قيل: اللام تدخل على ما يتعدى بنفسه إذا ضعف عمله إما بتأخيره أو بكونه اسم فاعل أو مصدرا أو باجتماعهما فيقال: فلان يعبد الله ويخافه ويتقيه ثم إذا ذكر باسم الفاعل قيل: هو عابد لربه متق لربه خائف لربه وكذلك تقول: فلان يرهب الله ثم تقول: هو راهب لربه وإذا ذكرت الفعل وأخرته تقويه باللام كقوله: {وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} وقد قال: {فإياي فارهبون} فعداه بنفسه وهناك ذكر اللام فإن هنا قوله: {فإياي} أتم من قوله: فلي. وقوله هنالك {لربهم} أتم من قوله: ربهم فإن الضمير المنفصل المنصوب أكمل من ضمير الجر بالياء وهناك اسم ظاهر فتقويته باللام أولى وأتم من تجريده؛ ومن هذا قوله: {إن كنتم للرؤيا تعبرون} ويقال: عبرت رؤياه وكذلك قوله: {وإنهم لنا لغائظون} وإنما يقال: غظته لا يقال: غظت له ومثله كثير فيقول القائل: ما أنت بمصدق لنا أدخل فيه اللام لكونه اسم فاعل وإلا فإنما يقال: صدقته لا يقال: صدقت له ولو ذكروا الفعل لقالوا: ما صدقتنا وهذا بخلاف لفظ الإيمان فإنه تعدى إلى الضمير باللام دائما؛ لا يقال: آمنته قط وإنما يقال: آمنت له كما يقال: أقررت له فكان تفسيره بلفظ الإقرار أقرب من تفسيره بلفظ التصديق مع أن بينهما فرقا.

(الثاني: أنه ليس مرادفا للفظ التصديق في المعنى فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت كما يقال: كذبت. فمن قال: السماء فوقنا قيل له: صدق كما يقال: كذب وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن غائب لم يوجد في الكلام أن من أخبر عن مشاهدة؛ كقوله: طلعت الشمس وغربت أنه يقال: آمناه كما يقال: صدقناه ولهذا؛ المحدثون والشهود ونحوهم؛ يقال: صدقناهم؛ وما يقال آمنا لهم؛ فإن الإيمان مشتق من الأمن. فإنما يستعمل في خبر يؤتمن عليه المخبر كالأمر الغائب الذي يؤتمن عليه المخبر؛ ولهذا لم يوجد قط في القرآن وغيره لفظ آمن له إلا في هذا النوع؛ والاثنان إذا اشتركا في معرفة الشيء يقال: صدق أحدهما صاحبه ولا يقال: آمن له لأنه لم يكن غائبا عنه ائتمنه عليه ولهذا قال: {فآمن له لوط} {أنؤمن لبشرين مثلنا}. {آمنتم له}. {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين} فيصدقهم فيما أخبروا به. مما غاب عنه وهو مأمون عنده على ذلك فاللفظ متضمن مع التصديق ومعنى الائتمان والأمانة؛ كما يدل عليه الاستعمال والاشتقاق ولهذا قالوا: {وما أنت بمؤمن لنا} أي لا تقر بخبرنا ولا تثق به ولا تطمئن إليه ولو كنا صادقين؛ لأنهم لم يكونوا عنده ممن يؤتمن على ذلك. فلو صدقوا لم يأمن لهم.

(الثالث: أن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب كلفظ التصديق فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له: صدقت أو كذبت ويقال: صدقناه أو كذبناه ولا يقال لكل مخبر: آمنا له أو كذبناه؛ ولا يقال أنت مؤمن له أو مكذب له؛ بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر. يقال: هو مؤمن أو كافر والكفر لا يختص بالتكذيب؛ بل لو قال: أنا أعلم إنك صادق لكن لا أتبعك بل أعاديك وأبغضك وأخالفك ولا أوافقك لكان كفره أعظم؛ فلما كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط علم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط بل إذا كان الكفر يكون تكذيبا ويكون مخالفة ومعاداة وامتناعا بلا تكذيب؛ فلا بد أن يكون الإيمان تصديقا مع موافقة وموالاة وانقياد لا يكفي مجرد التصديق؛ فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان كما كان الامتناع من الانقياد مع التصديق جزء مسمى الكفر فيجب أن يكون كل مؤمن مسلما منقادا للأمر وهذا هو العمل.

فإن قيل: فالرسول صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان بما يؤمن به. قيل: فالرسول ذكر ما يؤمن به لم يذكر ما يؤمن له وهو نفسه يجب أن يؤمن به ويؤمن له فالإيمان به من حيث ثبوته غيب عنا أخبرنا به وليس كل غيب آمنا به علينا أن نطيعه وأما ما يجب من الإيمان له فهو الذي يوجب طاعته والرسول يجب الإيمان به وله فينبغي أن يعرف هذا وأيضا فإن طاعته طاعة لله وطاعة الله من تمام الإيمان به.
الرابع: أن من الناس من يقول: الإيمان أصله في اللغة من الأمن الذي هو ضد الخوف؛ فآمن أي صار داخلا في الأمن وأنشدوا. . . (1).
وأما " المقدمة الثانية " فيقال: إنه إذا فرض أنه مرادف للتصديق فقولهم: إن التصديق لا يكون إلا بالقلب أو اللسان؛ عنه جوابان. " أحدهما ": المنع بل الأفعال تسمى تصديقا كما ثبت في " الصحيح " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {العينان تزنيان وزناهما النظر؛ والأذن تزني وزناها السمع؛ واليد تزني وزناها البطش؛ والرجل تزني وزناها المشي والقلب يتمنى ذلك ويشتهي؛ والفرج يصدق ذلك أو يكذبه}. وكذلك قال أهل اللغة وطوائف من السلف والخلف.

قال الجوهري: والصديق مثال الفسيق: الدائم التصديق. ويكون الذي يصدق قوله بالعمل. وقال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال وهذا مشهور عن الحسن يروى عنه من غير وجه كما رواه عباس الدوري: حدثنا حجاج؛ حدثنا أبو عبيدة الناجي عن الحسن قال: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني؛ ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال. من قال حسنا وعمل غير صالح رد الله عليه قوله ومن قال حسنا وعمل صالحا رفعه العمل ذلك بأن الله يقول: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} ورواه ابن بطة من الوجهين.
وقوله: ليس الإيمان بالتمني - يعني الكلام - وقوله: بالتحلي. يعني أن يصير حلية ظاهرة له فيظهره من غير حقيقة من قلبه ومعناه ليس هو ما يظهر من القول ولا من الحلية الظاهرة ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال فالعمل يصدق أن في القلب إيمانا وإذا لم يكن عمل كذب أن في قلبه إيمانا لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر. وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم. وقد روى محمد بن نصر المروزي بإسناده أن عبد الملك بن مروان كتب إلى سعيد بن جبير يسأله عن هذه المسائل. فأجابه عنها: سألت عن الإيمان فالإيمان هو التصديق أن يصدق العبد بالله وملائكته وما أنزل الله من كتاب وما أرسل من رسول وباليوم الآخر. وسألت عن التصديق. والتصديق: أن يعمل العبد بما صدق به من القرآن وما ضعف عن شيء منه وفرط فيه عرف أنه ذنب واستغفر الله وتاب منه ولم يصر عليه فذلك هو التصديق. وتسأل عن الدين فالدين هو العبادة فإنك لن تجد رجلا من أهل الدين ترك عبادة أهل دين ثم لا يدخل في دين آخر إلا صار لا دين له. وتسأل عن العبادة والعبادة هي الطاعة ذلك أنه من أطاع الله فيما أمره به وفيما نهاه عنه فقد آثر عبادة الله ومن أطاع الشيطان في دينه وعمله فقد عبد الشيطان ألا ترى أن الله قال للذين فرطوا: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان} وإنما كانت عبادتهم الشيطان أنهم أطاعوه في دينهم. وقال أسد بن موسى: حدثنا الوليد بن مسلم الأوزاعي حدثنا حسان بن عطية قال: الإيمان في كتاب الله صار إلى العمل. قال الله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} الآية. ثم صيرهم إلى العمل فقال: {الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} قال: وسمعت الأوزاعي يقول: قال الله تعالى:

{فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} والإيمان بالله باللسان والتصديق به العمل. وقال معمر عن الزهري: كنا نقول الإسلام بالإقرار والإيمان بالعمل والإيمان: قول وعمل قرينان لا ينفع أحدهما إلا بالآخر وما من أحد إلا يوزن قوله وعمله؛ فإن كان عمله أوزن من قوله: صعد إلى الله؛ وإن كان كلامه أوزن من عمله لم يصعد إلى الله.
ورواه أبو عمرو الطلمنكي بإسناده المعروف. وقال معاوية بن عمرو: عن أبي إسحاق الفزاري عن الأوزاعي قال: لا يستقيم الإيمان إلا بالقول ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة.
__________
Q (1) بياض بالأصل


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #378  
قديم 09-08-2025, 09:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ يوسف
المجلد العاشر
الحلقة( 378)

من صــ 361 الى صـ 375




وكان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل؛ العمل من الإيمان والإيمان من العمل؛ وإنما الإيمان اسم يجمع كما يجمع هذه الأديان اسمها ويصدقه العمل. فمن آمن بلسانه وعرف بقلبه وصدق بعمله فتلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها. ومن قال بلسانه ولم يعرف بقلبه ولم يصدق بعمله كان في الآخرة من الخاسرين. وهذا معروف عن غير واحد من السلف والخلف؛ أنهم يجعلون العمل مصدقا للقول؛ ورووا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه معاذ بن أسد: حدثنا الفضيل بن عياض عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد: {أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان. فقال: الإيمان: الإقرار والتصديق بالعمل؛ ثم تلا {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} إلى قوله {وأولئك هم المتقون}. قلت حديث أبي ذر هذا مروي من غير وجه؛ فإن كان هذا اللفظ هو لفظ الرسول فلا كلام وإن كانوا رووه بالمعنى دل على أنه من المعروف في لغتهم أنه يقال: صدق قوله بعمله؛ وكذلك قال شيخ الإسلام الهروي: الإيمان تصديق كله. وكذلك " الجواب الثاني " أنه إذا كان أصله التصديق فهو تصديق مخصوص كما أن الصلاة دعاء مخصوص والحج قصد مخصوص والصيام إمساك مخصوص؛ وهذا التصديق له لوازم صارت لوازمه داخلة في مسماه عند الإطلاق؛ فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم ويبقى النزاع لفظيا: هل الإيمان دال على العمل بالتضمن أو باللزوم؟.
ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي وإلا فالقائلون بأن الإيمان قول من الفقهاء - كحماد بن أبي سليمان وهو أول من قال ذلك ومن اتبعه من أهل الكوفة وغيرهم - متفقون مع جميع علماء السنة على أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد وإن قالوا: إن إيمانهم كامل كإيمان جبريل فهم يقولون: إن الإيمان بدون العمل المفروض ومع فعل المحرمات يكون صاحبه مستحقا للذم والعقاب كما تقوله الجماعة.

ويقولون أيضا بأن من أهل الكبائر من يدخل النار كما تقوله الجماعة، والذين ينفون عن الفاسق اسم الإيمان من أهل السنة متفقون على أنه لا يخلد في النار. فليس بين فقهاء الملة نزاع في أصحاب الذنوب إذا كانوا مقرين باطنا وظاهرا بما جاء به الرسول وما تواتر عنه أنهم من أهل الوعيد وأنه يدخل النار منهم من أخبر الله ورسوله بدخوله إليها ولا يخلد منهم فيها أحد ولا يكونون مرتدين مباحي الدماء ولكن " الأقوال المنحرفة " قول من يقول بتخليدهم في النار كالخوارج والمعتزلة. وقول غلاة المرجئة الذين يقولون: ما نعلم أن أحدا منهم يدخل النار؛ بل نقف في هذا كله. وحكي عن بعض غلاة المرجئة الجزم بالنفي العام.
ويقال للخوارج: الذي نفى عن السارق والزاني والشارب وغيرهم الإيمان؛ هو لم يجعلهم مرتدين عن الإسلام؛ بل عاقب هذا بالجلد وهذا بالقطع ولم يقتل أحدا إلا الزاني المحصن ولم يقتله قتل المرتد؛ فإن المرتد يقتل بالسيف بعد الاستتابة وهذا يرجم بالحجارة بلا استتابة. فدل ذلك على أنه وإن نفى عنهم الإيمان فليسوا عنده مرتدين عن الإسلام مع ظهور ذنوبهم وليسوا كالمنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر فأولئك لم يعاقبهم إلا على ذنب ظاهر.

(فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون (18)
وسئل الشيخ الإمام العالم العامل الحبر الكامل شيخ الإسلام ومفتي الأنام تقي الدين ابن تيمية - أيده الله وزاده من فضله العظيم -:
عن (الصبر الجميل و (الصفح الجميل) و (الهجر الجميل) وما أقسام التقوى والصبر الذي عليه الناس؟
فأجاب - رحمه الله -:
الحمد لله، أما بعد: فإن الله أمر نبيه بالهجر الجميل والصفح الجميل والصبر الجميل
" فالهجر الجميل " هجر بلا أذى و " الصفح الجميل " صفح بلا عتاب و " الصبر الجميل " صبر بلا شكوى قال يعقوب عليه الصلاة والسلام {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} مع قوله: {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر الجميل ويروى عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: " اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان " ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم {اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي اللهم إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك أو يحل علي غضبك لك العتبى حتى ترضى}. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ في صلاة الفجر: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله} ويبكي حتى يسمع نشيجه من آخر الصفوف؛ بخلاف الشكوى إلى المخلوق.

قرئ على الإمام أحمد في مرض موته أن طاوسا كره أنين المريض. وقال: إنه شكوى. فما أن حتى مات. وذلك أن المشتكي طالب بلسان الحال إما إزالة ما يضره أو حصول ما ينفعه والعبد مأمور أن يسأل ربه دون خلقه كما قال تعالى: {فإذا فرغت فانصب} {وإلى ربك فارغب} {وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس: إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله}. ولا بد للإنسان من شيئين: طاعته بفعل المأمور وترك المحظور وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور. فالأول هو التقوى والثاني هو الصبر.
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا} إلى قوله: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط} وقال تعالى: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} وقال تعالى: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} وقد قال يوسف: {أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}.
ولهذا كان الشيخ عبد القادر ونحوه من المشايخ المستقيمين يوصون في عامة كلامهم بهذين الأصلين: المسارعة إلى فعل المأمور والتقاعد عن فعل المحظور والصبر والرضا بالأمر المقدور.

(وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون (23)
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:

فصل:
قول يوسف صلى الله عليه وسلم لما قالت له امرأة العزيز: {هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون} المراد بربه في أصح القولين هنا سيده وهو زوجها الذي اشتراه من مصر الذي قال لامرأته: {أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا} قال الله تعالى: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}. فلما وصى به امرأته فقال لها {أكرمي مثواه} قال يوسف {إنه ربي أحسن مثواي} ولهذا قال: {إنه لا يفلح الظالمون} والضمير في: {إنه} معلوم بينهما وهو سيدها.

وأما قوله تعالى {لولا أن رأى برهان ربه} فهذا خبر من الله تعالى أنه رأى برهان ربه وربه هو الله كما قال لصاحبي السجن: {ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله} وقوله: {ربي} مثل قوله لصاحب الرؤيا: {اذكرني عند ربك} قال تعالى: {فأنساه الشيطان ذكر ربه} قيل أنسي يوسف ذكر ربه لما قال: {اذكرني عند ربك}. وقيل: بل الشيطان أنسى الذي نجا منهما ذكر ربه وهذا هو الصواب فإنه مطابق لقوله: {اذكرني عند ربك} قال تعالى: {فأنساه الشيطان ذكر ربه} والضمير يعود إلى القريب إذا لم يكن هناك دليل على خلاف ذلك؛ ولأن يوسف لم ينس ذكر ربه؛ بل كان ذاكرا لربه.
وقد دعاهما قبل تعبير الرؤيا إلى الإيمان بربه وقال لهما: {يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}. وقال لهما قبل ذلك {لا يأتيكما طعام ترزقانه} أي في الرؤيا {إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما} يعني التأويل {ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون} {واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون} فبذا يذكر ربه عز وجل فإن هذا مما علمه ربه؛ لأنه ترك ملة قوم مشركين لا يؤمنون بالله وإن كانوا مقرين بالصانع ولا يؤمنون بالآخرة واتبع ملة آبائه أئمة المؤمنين - الذين جعلهم الله أئمة يدعون بأمره - إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ فذكر ربه ثم دعاهما إلى الإيمان بربه. ثم بعد هذا عبر الرؤيا فقال:
{يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا} الآية ثم لما قضى تأويل الرؤيا: {وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك} فكيف يكون قد أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه؟ وإنما أنسى الشيطان الناجي ذكر ربه أي الذكر المضاف إلى ربه والمنسوب إليه وهو أن يذكر عنده يوسف. والذين قالوا ذلك القول قالوا: كان الأولى أن يتوكل على الله ولا يقول اذكرني عند ربك. فلما نسي أن يتوكل على ربه جوزي بلبثه في السجن بضع سنين.
فيقال: ليس في قوله: {اذكرني عند ربك} ما يناقض التوكل؛ بل قد قال يوسف: {إن الحكم إلا لله} كما أن قول أبيه: {لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة} لم يناقض توكله؛ بل قال:
{وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون}. و " أيضا " فيوسف قد شهد الله له أنه من عباده المخلصين والمخلص لا يكون مخلصا مع توكله على غير الله؛ فإن ذلك شرك ويوسف لم يكن مشركا لا في عبادته ولا توكله بل قد توكل على ربه في فعل نفسه بقوله: {وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين} فكيف لا يتوكل عليه في أفعال عباده.
وقوله: {اذكرني عند ربك} مثل قوله لربه: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} فلما سأل الولاية للمصلحة الدينية لم يكن هذا مناقضا للتوكل ولا هو من سؤال الإمارة المنهي عنه فكيف يكون قوله للفتى: {اذكرني عند ربك} مناقضا للتوكل وليس فيه إلا مجرد إخبار الملك به؛ ليعلم حاله ليتبين الحق ويوسف كان من أثبت الناس. ولهذا بعد أن طلب {وقال الملك ائتوني به} قال {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم} فيوسف يذكر ربه في هذه الحال كما ذكره في تلك. ويقول: {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة} فلم يكن في قوله له: {اذكرني عند ربك} ترك لواجب ولا فعل لمحرم حتى يعاقبه الله على ذلك بلبثه في السجن بضع سنين وكان القوم قد عزموا على حبسه إلى حين قبل هذا ظلما له مع علمهم ببراءته من الذنب.
قال الله تعالى: {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين} ولبثه في السجن كان كرامة من الله في حقه؛ ليتم بذلك صبره وتقواه فإنه بالصبر والتقوى نال ما نال؛ ولهذا قال: {أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} ولو لم يصبر ويتق بل أطاعهم فيما طلبوا منه جزعا من السجن لم يحصل له هذا الصبر والتقوى وفاته الأفضل باتفاق الناس.
لكن تنازع العلماء هل يمكن الإكراه على الفاحشة على قولين: قيل لا يمكن كقول أحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهما قالوا: لأن الإكراه يمنع الانتشار. والثاني: يمكن وهو قول مالك والشافعي وابن عقيل وغيره من أصحاب أحمد؛ لأن الإكراه لا ينافي الانتشار فإن الإكراه لا ينافي كون الفعل اختيارا بل المكره يختار دفع أعظم الشرين بالتزام أدناهما.
وأيضا: فالانتشار بلا فعل منه؛ بل قد يقيد ويضجع فتباشره المرأة فتنتشر شهوته فتستدخل ذكره. فعلى قول الأولين لم يكن يحل له ما طلبت منه بحال وعلى القول الثاني فقد يقال الحبس ليس بإكراه يبيح الزنا؛ بخلاف ما لو غلب على ظنه أنهم يقتلونه أو يتلفون بعض أعضائه فالنزاع إنما هو في هذا وهم لم يبلغوا به إلى هذا الحد وإن قيل كان يجوز له ذلك لأجل الإكراه لكن يفوته الأفضل.

وأيضا: فالإكراه إنما يحصل أول مرة ثم يباشر وتبقى له شهوة وإرادة في الفاحشة. ومن قال: الزنا لا يتصور فيه الإكراه يقول:

فرق بين ما لا فعل له - كالمقيد - وبين من له فعل كما أن المرأة إذا أضجعت وقيدت حتى فعل بها الفاحشة لم تأثم بالاتفاق وإن أكرهت حتى زنت ففيه قولان هما روايتان عن أحمد؛ لكن الجمهور يقولون لا تأثم وقد دل على ذلك قوله تعالى {ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} وهؤلاء يقولون: فعل المرأة لا يحتاج إلى انتشار فإنما هو كالإكراه على شرب الخمر؛ بخلاف فعل الرجل وبسط هذا له موضع آخر.
و " المقصود " أن يوسف لم يفعل ذنبا ذكره الله عنه وهو سبحانه لا يذكر عن أحد من الأنبياء ذنبا إلا ذكر استغفاره منه ولم يذكر عن يوسف استغفارا من هذه الكلمة. كما لم يذكر عنه استغفارا من مقدمات الفاحشة؛ فعلم أنه لم يفعل ذنبا في هذا ولا هذا؛ بل هم هما تركه لله؛ فأثيب عليه حسنة كما قد بسط هذا في موضعه.
وأما ما يكفره الابتلاء من السيئات فذلك جوزي به صاحبه بالمصائب المكفرة كما في قوله صلى الله عليه وسلم {ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى إلا كفر الله به خطاياه} ولما {أنزل الله تعالى هذه الآية: {من يعمل سوءا يجز به} قال أبو بكر: يا رسول الله جاءت قاصمة الظهر وأينا لم يعمل سوءا؟ فقال: ألست تحزن؟ ألست تنصب؟ ألست تصيبك اللأوى؟ فذلك مما تجزون به}.
فتبين أن قوله: {فأنساه الشيطان ذكر ربه} أي نسي الفتى ذكر ربه أن يذكر هذا لربه ونسي ذكر يوسف ربه والمصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول ويوسف قد ذكر ربه ونسي الفتى ذكر يوسف ربه وأنساه الشيطان أن يذكر ربه؛ هذا الذكر الخاص؛ فإنه وإن كان يسقي ربه خمرا فقد لا يخطر هذا الذكر بقلبه وأنساه الشيطان تذكير ربه وإذكار ربه لما قال: {اذكرني} أمره بإذكار ربه فأنساه الشيطان إذكار ربه فإذكار ربه أن يجعله ذاكرا فأنساه الشيطان أن يجعل ربه ذاكرا ليوسف والذكر هو مصدر وهو اسم فقد يضاف من جهة كونه اسما؛ فيعم هذا كله؛ أي أنساه الذكر المتعلق بربه والمضاف إليه.
ومما يبين أن الذي نسي ربه هو الفتى لا يوسف قوله بعد ذلك: {وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون} وقوله: {وادكر بعد أمة} دليل على أنه كان قد نسي فادكر.
فإن قيل: لا ريب أن يوسف سمى السيد ربا في قوله: {اذكرني عند ربك} و {ارجع إلى ربك} ونحو ذلك. وهذا كان جائزا في شرعه كما جاز في شرعه أن يسجد له أبواه وإخوته وكما جاز في شرعه أن يؤخذ السارق عبدا وإن كان هذا منسوخا في شرع محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {إنه ربي أحسن مثواي} إن أراد به السيد فلا جناح عليه؛ لكن معلوم أن ترك الفاحشة خوفا لله واجب ولو رضي سيدها ويوسف عليه السلام تركها خوفا من الله. {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} قال تعالى: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} وقال يوسف أيضا: {رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين} {فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم} فدل على أنه كان معه من خوف الله ما يزعه عن الفاحشة ولو رضي بها الناس وقد دعا ربه عز وجل أن يصرف عنه كيدهن. وقوله: {السجن أحب إلي مما يدعونني إليه} بصيغة جمع التذكير وقوله: {كيدهن} بصيغة جمع التأنيث ولم يقل مما يدعينني إليه دليل على الفرق بين هذا وهذا وأنه كان من الذكور من يدعوه مع النساء إلى الفاحشة بالمرأة وليس هناك إلا زوجها وذلك أن زوجها كان قليل الغيرة أو عديمها وكان يحب امرأته ويطيعها؛ ولهذا لما اطلع على مراودتها قال: {يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين} فلم يعاقبها ولم يفرق بينها وبين يوسف حتى لا تتمكن من مراودته وأمر يوسف أن لا يذكر ما جرى لأحد محبة منه لامرأته ولو كان فيه غيرة لعاقب المرأة. ومع هذا فشاعت القصة واطلع عليها الناس من غير جهة يوسف حتى تحدثت بها النسوة في المدينة وذكروا أنها تراود فتاها عن نفسه ومع هذا: {أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا} وأمرت يوسف أن يخرج عليهن؛ ليقمن عذرها على مراودته وهي تقول لهن: {فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين}.

وهذا يدل على أنها لم تزل متمكنة من مراودته والخلوة به مع علم الزوج بما جرى وهذا من أعظم الدياثة ثم إنه لما حبس فإنما حبس بأمرها والمرأة لا تتمكن من حبسه إلا بأمر الزوج فالزوج هو الذي حبسه؛ وقد روي أنها قالت: هذا القبطي هتك عرضي فحبسه؛ وحبسه لأجل المرأة معاونة لها على مطلبها لدياثته وقلة غيرته فدخل هو في من دعا يوسف إلى الفاحشة [1]. فعلم أن يوسف لم يترك الفاحشة لأجله ولا لخوفه منه بل قد علم يقينا أنه لم يكن يخاف منه وأن يوسف لو أعطاها ما طلبت لم يكن الزوج يدري ولو درى فلعله لم يكن ينكر؛ فإنه قد درى بالمراودة والخلوة التي هي مقتضية لذلك في الغالب فلم ينكر ولو قدر أنه هم بعقوبة يوسف فكانت هي الحاكمة على الزوج القاهرة له.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن} {ولما راجعنه في إمامة الصديق قال: إنكن لأنتن صواحب يوسف} {ولما أنشده الأعشى وهن شر غالب لمن غلب
استعاد ذلك منه وقال: وهن شر غالب لمن غلب}. فكيف لا تغلب مثل هذا الزوج وتمنعه من عقوبة يوسف؟ وقد عهد الناس خلقا من الناس تغلبهم نساؤهم؛ من نساء التتر وغيرهم يكون لامرأته غرض فاسد في فتاه أو فتاها وتفعل معه ما تريد وإن أراد الزوج أن يكشف أو يعاقب منعته ودفعته؛ بل وأهانته وفتحت عليه أبوابا من الشر بنفسها وأهلها وحشمها والمطالبة بصداقها وغير ذلك؛ حتى يتمنى الرجل الخلاص منها رأسا برأس مع كون الرجل فيه غيرة فكيف مع ضعف الغيرة.

فهذا كله يبين أن الداعي ليوسف إلى ترك الفاحشة كان خوف الله لا خوفا من السيد فلهذا قال:
{إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون} قيل هذا مما يبين محاسن يوسف ورعايته لحق الله وحق المخلوقين ودفعه الشر بالتي هي أحسن فإن الزنا بامرأة الغير فيه حقان مانعان كل منهما مستقل بالتحريم.
فالفاحشة حرام لحق الله ولو رضي الزوج وظلم الزوج في امرأته حرام لحق بحيث لو سقط حق الله بالتوبة منه فحق هذا في امرأته لا يسقط كما لو ظلمه وأخذ ماله وتاب من حق الله لم يسقط حق المظلوم بذلك ولهذا جاز للرجل إذا زنت امرأته أن يقذفها ويلاعنها ويسعى في عقوبتها بالرجم بخلاف الأجنبي فإنه لا يجوز له قذفها ولا يلاعن بل يحد إذا لم يأت بأربعة شهداء فإفساد المرأة على زوجها من أعظم الظلم لزوجها وهو عنده أعظم من أخذ ماله.
ولهذا يجوز له قتله دفعا عنها باتفاق العلماء إذا لم يندفع إلا بالقتل بالاتفاق ويجوز في أظهر القولين قتله وإن اندفع بدونه كما في قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أتاه رجل بيده سيف فيه دم وذكر أنه وجد رجلا تفخذ امرأته فضربه بالسيف فأقره عمر على ذلك وشكره وقبل قوله أنه قتله لذلك إذ ظهرت دلائل ذلك.
__________
[1] ولعل بعض هذا الكلام قد يتعارض ولو من بعض الوجوه مع قوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز {قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم (25)} والله أعلم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #379  
قديم 09-08-2025, 10:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ يوسف
المجلد العاشر
الحلقة( 379)

من صــ 376 الى صـ 390





وهذا كما لو اطلع رجل في بيته فإنه يجوز له أن يفقأ عينه ابتداء وليس عليه أن ينذره هذا أصح القولين كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لو اطلع رجل في بيتك ففقأت عينه ما كان عليك شيء} وكذلك قال في الذي عض يد غيره فنزع يده فانقلعت أسنان العاض.
وهذا مذهب فقهاء الحديث. وأكثر السلف وفي المسألتين نزاع ليس هذا موضعه؛ إذ المقصود أن الزاني بامرأة غيره ظالم للزوج وللزوج حق عنده ولهذا {ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن من زنى بامرأة المجاهد فإنه يمكن يوم القيامة من حسناته يأخذ منها ما شاء}. وفي الصحيحين عن {ابن مسعود قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك} فذكر الزنا بحليلة الجار فعلم أن للزوج حقا في ذلك وكان ظلم الجار أعظم؛ للحاجة إلى المجاورة.
وإن قيل: هذا قد لا يمكن زوج المرأة أن يحترز منه والجار عليه حق زائد على حق الأجنبي فكيف إذا ظلم في أهله والجيران يأمن بعضهم بعضا ففي هذا من الظلم أكثر مما في غيره وجاره يجب عليه أن يحفظ امرأته من غيره فكيف يفسدها هو. فلما كان الزنا بالمرأة المزوجة له علتان كل منهما تستقل بالتحريم مثل لحم الخنزير الميت: علل يوسف ذلك بحق الزوج وإن كان كل من الأمرين مانعا له وكان في تعليله بحق الزوج فوائد.
" منها " أن هذا مانع تعرفه المرأة وتعذره به بخلاف حق الله تعالى فإنها لا تعرف عقوبة الله في ذلك. و " منها " أن المرأة قد ترتدع بذلك فترعى حق زوجها إما خوفا وإما رعاية لحقه فإنه إذا كان المملوك يمتنع عن هذا رعاية لحق سيده فالمرأة أولى بذلك لأنها خائنة في نفس المقصود منها بخلاف المملوك فإن المطلوب منه الخدمة وفاحشته بمنزلة سرقة المرأة من ماله. و " منها " أن هذا مانع مؤيس لها فلا تطمع فيه لا بنكاح ولا بسفاح بخلاف الخلية من الزوج فإنها تطمع فيه بنكاح حلال. و " منها " أنه لو علل بالزنا فقد تسعى هي في فراق الزوج والتزوج به فإن هذا إنما يحرم لحق الزوج خاصة ولهذا إذا طلقت امرأته باختياره جاز لغيره أن يتزوجها. ولو طلقها ليتزوج بها - كما قال سعد بن الربيع لعبد الرحمن بن عوف إن لي امرأتين فاختر أيتهما شئت حتى أطلقها وتتزوجها - لكنه بدون رضاه لا يحل كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
{ليس منا من خبب امرأة على زوجها ولا عبدا على مواليه} وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخطب الرجل على خطبة أخيه ويستام على سوم أخيه فإذا كان بعد الخطبة وقبل العقد لا يحل له أن يطلب التزوج بامرأته فكيف بعد العقد والدخول والصحبة. فلو علل بأن هذا زنا محرم ربما طمعت في أن تفارق الزوج وتتزوجه فإن كيدهن عظيم؛ وقد جرى مثل هذا.
فلما علل بحق سيده وقال: {إنه ربي أحسن مثواي} يئست من ذلك وعلمت أنه يراعي حق الزوج فلا يزاحمه في امرأته ألبتة ثم لو قدر مع هذا أن الزوج رضي بالفاحشة وأباح امرأته لم يكن هذا مما يبيحها لحق الله ولحقه أيضا فإنه ليس كل حق للإنسان له أن يسقطه ولا يسقط بإسقاطه وإنما ذاك فيما يباح له بذله وهو ما لا ضرر عليه في بذله مثل ما يعطيه من فضل مال ونفع. وأما ما ليس له بذله فلا يباح بإباحته كما لو قال له: علمني السحر والكفر والكهانة وأنت في حل من إضلالي أو قال له: بعني رقيقا وخذ ثمني وأنت في حل من ذلك.
وكذلك إذا قال: افعل بي أو بابني أو بامرأتي أو بإمائي الفاحشة لم يكن هذا مما يسقط حقه فيه بإباحته فإنه ليس له بذل ذلك ومعلوم أن الله يعاقبها على الفاحشة وإن تراضيا بها؛ لكن المقصود أن في ذلك أيضا ظلما لهذا الشخص لا يرتفع بإباحته كظلمه إذا جعله كافرا أو رقيقا فإن كونه يفعل به الفاحشة أو بأهله فيه ضرر عليه لا يملك إباحته كالضرر عليه في كونه كافرا وهو كما لو قال له: أزل عقلي وأنت في حل من ذلك؛ فإن الإنسان لا يملك بذل ذلك بل هو ممنوع من ذلك كما يمنع السفيه من التصرف في ماله أو إسقاط حقوقه وكذلك المجنون والصغير؛ فإن هؤلاء محجور عليهم لحقهم.
ولهذا لو أذن له الصبي أو السفيه في أخذ ماله لم يكن له ذلك ومن أذن لغيره في تكفيره أو تجنينه أو تخنيثه والإفحاش به وبأهله فهو من أسفه السفهاء وهذا مثل الربا فإنه وإن رضي به المرابى وهو بالغ رشيد لم يبح ذلك؛ لما فيه من ظلمه؛ ولهذا له أن يطالبه بما قبض منه من الزيادة ولا يعطيه إلا رأس ماله وإن كان قد بذله باختياره ولو كان التحريم لمجرد حق الله تعالى لسقط برضاه ولو كان حقه إذا أسقطه سقط لما كان له الرجوع في الزيادة والإنسان يحرم عليه قتل نفسه أعظم مما يحرم عليه قتل غيره.
فلو قال لغيره: اقتلني لم يملك منه أعظم مما يملك هو من نفسه. ولهذا يوم القيامة يتظلم من الأكابر وهم لم يكرهوهم على الكفر بل باختيارهم كفروا. قال تعالى: {يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا} {وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} {ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا} وقال: {حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون} وقال تعالى: {وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين}.
وكذلك الناس يلعنون الشيطان وإن كان لم يكرههم على الذنوب؛ بل هم باختيارهم أذنبوا. فإن قيل: هؤلاء يقولون لشياطين الإنس والجن: نحن لم نكن نعلم أن في هذا علينا ضررا ولكن أنتم زينتم لنا هذا وحسنتموه حتى فعلناه ونحن كنا جاهلين بالأمر. قيل: كما نعلم أن الجاهل بما عليه في الفعل من الضرر لا عبرة برضاه وإذنه وإنما يصح الرضاء والإذن ممن يعلم ما يأذن فيه ويرضى به وما كان على الإنسان فيه ضرر راجح لا يرضى به إلا لعدم علمه وإلا فالنفس تمتنع بذاتها من الضرر الراجح. ولهذا كان من اشترى المعيب والمدلس والمجهول السعر ولم يعلم بحاله غير راض به؛ بل له الفسخ بعد ذلك؛ كذلك الكفر والجنون والفاحشة بالأهل لا يرضى بها إلا من لم يعلم بما فيها من الضرر عليه فإذا أذن فيها لم يسقط حقه؛ بل يكون مظلوما ولو قال: أنا أعلم ما فيها من العقاب وأرضى به كان كذبا؛ بل هو من أجهل الناس بما يقوله.
ولهذا لو تكلم بكلام لا يفهم معناه وقال نويت موجبه عند الله لم يصح ذلك في أظهر القولين مثل أن يقول: " بهشم " ولا يعرف معناها أو يقول: أنت طالق إن دخلت الدار وينوي موجبها من العربية وهو لا يعرف ذلك؛ فإن النية والقصد والرضا مشروط بالعلم فما لم يعلمه لا يرضى به إلا إذا كان راضيا به مع العلم ومن كان يرضى بأن يكفر ويجن وتفعل الفاحشة به وبأهله.
فهو لا يعلم ما عليه في ذلك من الضرر؛ بل هو سفيه. فلا عبرة برضاه وإذنه؛ بل له حق عند من ظلمه وفعل به ذلك غير ما لله من الحق. وإن كان حق هذا دون حق المنكر المانع. ولهذا قال يوسف عليه السلام {إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون} يقول: متى أفسدت امرأته كنت ظالما بكل حال وليس هذا جزاء إحسانه إلي. والناس إذا تعاونوا على الإثم والعدوان أبغض بعضهم بعضا وإن كانوا فعلوه بتراضيهم قال طاووس: ما اجتمع رجلان على غير ذات الله إلا تفرقا عن تقال وقال الخليل عليه السلام {إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين}
وهؤلاء لا يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا لمجرد كونه عصى الله؛ بل لما حصل له بمشاركته ومعاونته من الضرر وقال تعالى عن أهل الجنة التي أصبحت كالصريم: {فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون} أي يلوم بعضهم بعضا. وقال: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين}.
فالمخالة إذا كانت على غير مصلحة الاثنين كانت عاقبتها عداوة وإنما تكون على مصلحتهما إذا كانت في ذات الله فكل منهما وإن بذل للآخر إعانة على ما يطلبه واستعان به بإذنه فيما يطلبه فهذا التراضي لا اعتبار به؛ بل يعود تباغضا وتعاديا وتلاعنا وكل منهما يقول للآخر: لولا أنت ما فعلت أنا وحدي هذا؛ فهلاكي كان مني ومنك. والرب لا يمنعهما من التباغض والتعادي والتلاعن فلو كان أحدهما ظالما للآخر فيه لنهي عن ذلك ويقول كل منهما للآخر: أنت لأجل غرضك أوقعتني في هذا؛ كالزانيين كل منهما يقول للآخر لأجل غرضك فعلت معي هذا. ولو امتنعت لم أفعل أنا هذا؛ لكن كل منهما له على الآخر مثل ما للآخر عليه؛ فتعادلا.
ولهذا إذا كان الطلب والمراودة من أحدهما أكثر كان الآخر يتظلمه ويلعنه أكثر وإن تساويا في الطلب تقاوما؛ فإذا رضي الزوج بالدياثة فإنما هو لإرضاء الرجل أو المرأة لغرض له آخر؛ مثل أن يكون محبا لها؛ ولا تقيم معه إلا على هذا الوجه فهو يقول للزاني بها: أنت لغرضك أفسدت علي امرأتي وأنا إنما رضيت لأجل غرضها فأنت لما أفسدت علي امرأتي وظلمتني فعلت معي ما فعلت. ومن ذلك أنه لو قال: إني أخاف الله أن يعاقبني ونحو ذلك لقالت: أنت إنما تترك غرضي لغرضك في النجاة وأنا سيدتك فينبغي أن تقدم غرضي على غرضك فلما قال: {إنه ربي أحسن مثواي} علل بحق سيده الذي يجب عليه وعليها رعاية حقه.
(ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين (24)
وأما يوسف الصديق فلم يذكر الله عنه ذنبا فلهذا لم يذكر الله عنه ما يناسب الذنب من الاستغفار بل قال {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} فأخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء وهذا يدل على أنه لم يصدر منه سوء ولا فحشاء. وأما قوله: {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه}
فالهم اسم جنس تحته " نوعان " كما قال الإمام أحمد الهم همان: هم خطرات وهم إصرار وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم {أن العبد إذا هم بسيئة لم تكتب عليه وإذا تركها لله كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له سيئة واحدة} وإن تركها من غير أن يتركها لله لم تكتب له حسنة ولا تكتب عليه سيئة ويوسف صلى الله عليه وسلم هم هما تركه لله ولذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء لإخلاصه وذلك إنما يكون إذا قام المقتضي للذنب وهو الهم وعارضه الإخلاص الموجب لانصراف القلب عن الذنب لله. فيوسف عليه السلام لم يصدر منه إلا حسنة يثاب عليها؟ وقال تعالى:

{إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} وأما ما ينقل: من أنه حل سراويله وجلس مجلس الرجل من المرأة وأنه رأى صورة يعقوب عاضا على يده وأمثال ذلك فكله مما لم يخبر الله به ولا رسوله وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذبا على الأنبياء وقدحا فيهم وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله؛ لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا صلى الله عليه وسلم حرفا واحدا.
(فصل)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
والهام بالسيئة التي لم يعملها مع قدرته عليها لم توجد منه إرادة جازمة وفاعل السيئة التي تمضي لا يجزى بها إلا سيئة واحدة كما شهد به النص وبهذا يظهر قول الأئمة حيث قال الإمام أحمد: " الهم " همان: هم خطرات وهم إصرار. فهم الخطرات يكون من القادر فإنه لو كان همه إصرارا جازما وهو قادر لوقع الفعل.

ومن هذا الباب هم " يوسف " حيث قال تعالى: {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} الآية. وأما هم المرأة التي راودته فقد قيل: إنه كان هم إصرار لأنها فعلت مقدورها وكذلك ما ذكره عن المنافقين في قوله تعالى {وهموا بما لم ينالوا} فهذا الهم المذكور عنهم هم مذموم كما ذمهم الله عليه ومثله يذم وإن لم يكن جازما كما سنبينه في آخر الجواب من الفرق بين ما ينافي الإيمان وبين ما لا ينافيه وكذلك الحريص على السيئات الجازم بإرادة فعلها إذا لم يمنعه إلا مجرد العجز فهذا يعاقب على ذلك عقوبة الفاعل لحديث أبي كبشة ولما في الحديث الصحيح {إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه} وفي لفظ: {إنه أراد قتل صاحبه}.
فهذه " الإرادة " هي الحرص وهي الإرادة الجازمة وقد وجد معها المقدور وهو القتال لكن عجز عن القتل وليس هذا من الهم الذي لا يكتب ولا يقال إنه استحق ذلك بمجرد قوله: لو أن لي ما لفلان لعملت مثل ما عمل فإن تمني الكبائر ليس عقوبته كعقوبة فاعلها بمجرد التكلم بل لا بد من أمر آخر وهو لم يذكر أنه يعاقب على كلامه وإنما ذكر أنهما في الوزر سواء. وعلى هذا فقوله: {إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل} لا ينافي العقوبة على الإرادة الجازمة التي لا بد أن يقترن بها الفعل فإن " الإرادة الجازمة " هي التي يقترن بها المقدور من الفعل وإلا فمتى لم يقترن بها المقدور من الفعل لم تكن جازمة فالمريد الزنا والسرقة وشرب الخمر العازم على ذلك متى كانت إرادته جازمة عازمة فلا بد أن يقترن بها من الفعل ما يقدر عليه ولو أنه يقربه إلى جهة المعصية:
مثل تقرب السارق إلى مكان المال المسروق ومثل نظر الزاني واستماعه إلى المزني به وتكلمه معه ومثل طلب الخمر والتماسها ونحو ذلك فلا بد مع الإرادة الجازمة من شيء من مقدمات الفعل المقدور بل مقدمات الفعل توجد بدون الإرادة الجازمة عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه:
{العينان تزنيان وزناهما النظر واللسان يزني وزناه النطق واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها المشي والقلب يتمنى ويشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} وكذلك حديث أبي بكرة المتفق عليه: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟
قال: إنه أراد قتل صاحبه} وفي رواية في الصحيحين {إنه كان حريصا على قتل صاحبه}. فإنه أراد ذلك إرادة جازمة فعل معها مقدوره منعه منها من قتل صاحبه العجز وليست مجرد هم ولا مجرد عزم على فعل مستقبل فاستحق حينئذ النار كما قدمنا من أن الإرادة الجازمة التي أتى معها بالممكن يجري صاحبها مجرى الفاعل التام.
و " الإرادة التامة " قد ذكرنا أنه لا بد أن يأتي معها بالمقدور أو بعضه وحيث ترك الفعل المقدور فليست جازمة بل قد تكون جازمة فيما فعل دون ما ترك مع القدرة مثل الذي يأتي بمقدمات الزنا: من اللمس والنظر والقبلة ويمتنع عن الفاحشة الكبرى؛ ولهذا قال في حديث أبي هريرة الصحيح {العين تزني والأذن تزني واللسان يزني - إلى أن قال - والقلب يتمنى ويشتهي} أي يتمنى الوطء ويشتهيه ولم يقل " يريد " ومجرد الشهوة والتمني ليس إرادة جازمة ولا يستلزم وجود الفعل فلا يعاقب على ذلك؛ وإنما يعاقب إذا أراد إرادة جازمة مع القدرة والإرادة الجازمة التي يصدقها الفرج.
ومن هذا الحديث الذي في الصحيحين عن ابن مسعود {أن رجلا أصاب من امرأة قبلة: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأنزل الله تعالى: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} الآية فقال الرجل: ألي هذه؟ فقال: لمن عمل بها من أمتي} فمثل هذا الرجل وأمثاله لا بد في الغالب أن يهم بما هو أكبر من ذلك كما قال: {والقلب يتمنى ويشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} لكن إرادته القلبية للقبلة كانت إرادة جازمة فاقترن بها فعل القبلة بالقدرة وأما إرادته للجماع فقد تكون غير جازمة وقد تكون جازمة لكن لم يكن قادرا. والأشبه في الذي نزلت فيه الآية أنه كان متمكنا لكنه لم يفعل.
فتفريق أحمد وغيره: بين هم الخطرات وهم الإصرار هو الذي عليه الجواب فمن لم يمنعه من الفعل إلا العجز فلا بد أن يفعل ما يقدر عليه من مقدماته وإن فعله وهو عازم على العود متى قدر فهو مصر ولهذا قال ابن المبارك المصر الذي يشرب الخمر اليوم ثم لا يشربها إلى شهر وفي رواية إلى ثلاثين سنة ومن نيته أنه إذا قدر على شربها " شربها ".

وقد يكون مصرا إذا عزم على الفعل في وقت دون وقت كمن يعزم على ترك المعاصي في شهر رمضان دون غيره فليس هذا بتائب مطلقا. ولكنه تارك للفعل في شهر رمضان ويثاب إذا كان ذلك الترك لله وتعظيم شعائر الله واجتناب محارمه في ذلك الوقت ولكنه ليس من التائبين الذين يغفر لهم بالتوبة مغفرة مطلقة ولا هو مصر مطلقا.
وأما الذي وصفه ابن المبارك فهو مصر إذا كان من نيته العود إلى شربها. قلت: والذي قد ترك المعاصي في شهر رمضان من نيته العود إليها في غير شهر رمضان مصر أيضا. لكن نيته أن يشربها إذا قدر عليها غير النية مع وجود القدرة فإذا قدر قد تبقى نيته وقد لا تبقى ولكن متى كان مريدا إرادة جازمة لا يمنعه إلا العجز فهو معاقب على ذلك. كما تقدم. وتقدم أن مثل هذا لا بد أن يقترن بإرادته ما يتمكن من الفعل معه وبهذا يظهر ما يذكر عن الحارث المحاسبي أنه حكى الإجماع على أن الناوي للفعل ليس بمنزلة الفاعل له فهذا الإجماع صحيح مع القدرة فإن الناوي للفعل القادر عليه ليس بمنزلة الفاعل وأما الناوي الجازم الآتي بما يمكن فإنه بمنزلة الفاعل التام.
كما تقدم. ومما يوضح هذا أن الله سبحانه في القرآن رتب الثواب والعقاب على مجرد الإرادة كقوله تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا} وقال: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار} وقال: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب}.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #380  
قديم 09-08-2025, 10:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ يوسف
المجلد العاشر
الحلقة( 380)

من صــ 391 الى صـ 405





فرتب الثواب والعقاب على كونه يريد العاجلة ويريد الحياة الدنيا ويريد حرث الدنيا وقال في آية هود: {نوف إليهم أعمالهم فيها} - إلى أن قال - {وباطل ما كانوا يعملون} فدل على أنه كان لهم أعمال بطلت وعوقبوا على أعمال أخرى عملوها وأن الإرادة هنا مستلزمة للعمل ولما ذكر إرادة الآخرة قال: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن}. وذلك لأن إرادة الآخرة وإن استلزمت عملها فالثواب إنما هو على العمل المأمور به لا كل سعي ولا بد مع ذلك من الإيمان. ومنه قوله: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها} الآية {وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة} فهذا نظير تلك الآية التي في سورة هود وهذا يطابق قوله: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما} إلا أنه قال: {فإنه أراد قتل صاحبه} أو أنه {كان حريصا على قتل صاحبه} فذكر الحرص والإرادة على القتل وهذا لا بد أن يقترن به فعل وليس هذا مما دخل في حديث العفو: {إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها}.

(قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين (33)
فصل:
وفي قول يوسف: {قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين} عبرتان: " إحداهما " اختيار السجن والبلاء على الذنوب والمعاصي. و " الثانية " طلب سؤال الله ودعائه أن يثبت القلب على دينه ويصرفه إلى طاعته وإلا فإذا لم يثبت القلب صبا إلى الآمرين بالذنوب وصار من الجاهلين. ففي هذا توكل على الله واستعانة به أن يثبت القلب على الإيمان والطاعة وفيه صبر على المحنة والبلاء والأذى الحاصل إذا ثبت على الإيمان والطاعة.
وهذا كقول موسى عليه السلام لقومه: {استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} لما قال فرعون: {سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون} {قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين}. وكذلك قوله: {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} {الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون}. ومنه قول يوسف عليه السلام {فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} وهو نظير قوله: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا} وقوله: {وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} وقوله: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين}. فلا بد من التقوى بفعل المأمور والصبر على المقدور كما فعل يوسف عليه السلام اتقى الله بالعفة عن الفاحشة وصبر على أذاهم له بالمراودة والحبس واستعان الله ودعاه حتى يثبته على العفة فتوكل عليه أن يصرف عنه كيدهن وصبر على الحبس.

وهذا كما قال تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله} وكما قال تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} {يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد} {يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير} فإنه لا بد من أذى لكل من كان في الدنيا فإن لم يصبر على الأذى في طاعة الله بل اختار المعصية كان ما يحصل له من الشر أعظم مما فر منه بكثير. {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا}. ومن احتمل الهوان والأذى في طاعة الله على الكرامة والعز في معصية الله كما فعل يوسف عليه السلام وغيره من الأنبياء والصالحين كانت العاقبة له في الدنيا والآخرة وكان ما حصل له من الأذى قد انقلب نعيما وسرورا كما أن ما يحصل لأرباب الذنوب من التنعم بالذنوب ينقلب حزنا وثبورا. فيوسف صلى الله عليه وسلم خاف الله من الذنوب ولم يخف من أذى الخلق وحبسهم إذ أطاع الله بل آثر الحبس والأذى مع الطاعة على الكرامة والعز وقضاء الشهوات ونيل الرياسة والمال مع المعصية فإنه لو وافق امرأة العزيز نال الشهوة وأكرمته المرأة بالمال والرياسة وزوجها في طاعتها فاختار يوسف الذل والحبس وترك الشهوة والخروج عن المال والرياسة مع الطاعة على العز والرياسة والمال وقضاء الشهوة مع المعصية. بل قدم الخوف من الخالق على الخوف من المخلوق وإن آذاه بالحبس والكذب فإنها كذبت عليه؛ فزعمت أنه راودها ثم حبسته بعد ذلك.
وقد قيل: إنها قالت لزوجها إنه هتك عرضي لم يمكنها أن تقول له راودني فإن زوجها قد عرف القصة؛ بل كذبت عليه كذبة تروج على زوجها. وهو أنه قد هتك عرضها بإشاعة فعلها وكانت كاذبة على يوسف لم يذكر عنها شيئا؛ بل كذبت أولا وآخرا؛ كذبت عليه بأنه طلب الفاحشة وكذبت عليه بأنه أشاعها وهي التي طالبت وأشاعت فإنها قالت للنسوة: فذلكن الذي لمتنني فيه.
ولقد راودته عن نفسه فاستعصم. فهذا غاية الإشاعة لفاحشتها لم تستر نفسها. والنساء أعظم الناس إخبارا بمثل ذلك وهن قبل أن يسمعن قولها قد قلن في المدينة: {امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه} فكيف إذا اعترفت بذلك وطلبت رفع الملام عنها؟ .
وقد قيل: إنهن أعنها في المراودة وعذلنها على الامتناع. ويدل على ذلك قوله: {وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن} وقوله: {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم} فدل على أن هناك كيدا منهن وقد قال لهن الملك: {ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} فهن لم يراودنه لأنفسهن؛ إذ كان ذلك غير ممكن وهو عند المرأة في بيتها وتحت حجرها؛ لكن قد يكن أعن المرأة على مطلوبها.
وإذا كان هذا في فعل الفاحشة فغيرها من الذنوب أعظم مثل الظلم العظيم للخلق كقتل النفس المعصومة ومثل الإشراك بالله ومثل القول على الله بلا علم. قال تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} فهذه أجناس المحرمات التي لا تباح بحال ولا في شريعة وما سواها - وإن حرم في حال - فقد يباح في حال.
فصل:
واختيار النبي صلى الله عليه وسلم له ولأهله الاحتباس في شعب بني هاشم بضع سنين لا يبايعون ولا يشارون؛ وصبيانهم يتضاغون من الجوع قد هجرهم وقلاهم قومهم وغير قومهم. هذا أكمل من حال يوسف عليه السلام. فإن هؤلاء كانوا يدعون الرسول إلى الشرك وأن يقول على الله غير الحق. يقول: ما أرسلني ولا نهى عن الشرك.

وقد قال تعالى: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا} {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا} {إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا} {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا} {سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا}. وكان كذب هؤلاء على النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من الكذب على يوسف؛ فإنهم قالوا: إنه ساحر وإنه كاهن وإنه مجنون وإنه مفتر. وكل واحدة من هؤلاء أعظم من الزنا والقذف؛ لا سيما الزنا المستور الذي لا يدري به أحد. فإن يوسف كذب عليه في أنه زنى وأنه قذفها وأشاع عنها الفاحشة؛ فكان الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من الكذب على يوسف.
وكذلك الكذب على أولي العزم مثل نوح وموسى حيث يقال عن الواحد منهم: إنه مجنون وإنه كذاب يكذب على الله وما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أذى المشركين أعظم من مجرد الحبس فإن يوسف حبس وسكت عنه والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يؤذون بالأقوال والأفعال مع منعهم من تصرفاتهم المعتادة.
وهذا معنى الحبس فإنه ليس المقصود بالحبس سكناه في السجن بل المراد منعه من التصرف المعتاد. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له حبس ولا لأبي بكر؛ بل أول من اتخذ السجن عمر وكان النبي صلى الله عليه وسلم {يسلم الغريم إلى غريمه ويقول: ما فعل أسيرك}
فيجعله أسيرا معه حتى يقضيه حقه وهذا هو المطلوب من الحبس. والصحابة - رضي الله عنهم - منعوهم من التصرف بمكة أذى لهم حتى خرج كثير منهم إلى أرض الحبشة فاختاروا السكنى بين أولئك النصارى عند ملك عادل على السكنى بين قومهم والباقون أخرجوا من ديارهم وأموالهم أيضا مع ما آذوهم به حتى قتلوا بعضهم وكانوا يضربون بعضهم ويمنعون بعضهم ما يحتاج إليه ويضعون الصخرة على بطن أحدهم في رمضاء مكة إلى غير ذلك من أنواع الأذى. وكذلك المؤمن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يختار الأذى في طاعة الله على الإكرام مع معصيته كأحمد بن حنبل اختار القيد والحبس والضرب على موافقة السلطان وجنده على أن يقول على الله غير الحق في كلامه وعلى أن يقول ما لا يعلم أيضا فإنهم كانوا يأتون بكلام يعرف أنه مخالف للكتاب والسنة فهو باطل وبكلام مجمل يحتاج إلى تفسير؛ فيقول لهم الإمام أحمد: ما أدري ما هذا؟ فلم يوافقهم على أن يقول على الله غير الحق. ولا على أن يقول على الله ما لا يعلم.
(وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم (53)
وقوله: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي} فمن كلام امرأة العزيز كما يدل القرآن على ذلك دلالة بينة لا يرتاب فيها من تدبر القرآن حيث قال تعالى: {وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم} {قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم} فهذا كله كلام امرأة العزيز ويوسف إذ ذاك في السجن لم يحضر بعد إلى الملك ولا سمع كلامه ولا رآه؛ ولكن لما ظهرت براءته في غيبته - كما قالت امرأة العزيز: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} أي لم أخنه في حال مغيبه عني وإن كنت في حال شهوده راودته - فحينئذ: {وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين} وقد قال كثير من المفسرين إن هذا من كلام يوسف ومنهم من لم يذكر إلا هذا القول وهو قول في غاية الفساد ولا دليل عليه؛ بل الأدلة تدل على نقيضه وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع.

وقال شيخ الإسلام - رحمه الله - بعد كلام: (1)
[يهم أحدهم] (2) بالذنب فيذكر مقامه بين يدي الله فيدعه فكان يوسف ممن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. ثم إن يوسف عليه الصلاة والسلام كان شابا عزبا أسيرا في بلاد العدو حيث لم يكن هناك أقارب أو أصدقاء فيستحي منهم إذا فعل فاحشة فإن كثيرا من الناس يمنعه من مواقعة القبائح حياؤه ممن يعرفه فإذا تغرب فعل ما يشتهيه. وكان أيضا خاليا لا يخاف مخلوقا فحكم النفس الأمارة - لو كانت نفسه كذلك - أن يكون هو المعترض لها؛ بل يكون هو المتحيل عليها كما جرت به عادة كثير ممن له غرض في نساء الأكابر إن لم يتمكن من الدعوة ابتداء. فأما إذا دعي ولو كانت الداعية خدامة لكان أسرع مجيب فكيف إذا كانت الداعية سيدته الحاكمة عليه التي يخاف الضرر بمخالفتها. ثم إن زوجها الذي عادته أن يزجر المرأة لم يعاقبها؛ بل أمر يوسف بالإعراض كما ينعر الديوث ثم إنها استعانت بالنساء وحبسته وهو يقول: {رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين}.

فليتدبر اللبيب هذه الدواعي التي دعت يوسف إلى ما دعته وأنه مع توفرها وقوتها ليس له عن ذلك صارف إذا فعل ذلك ولا من ينجيه من المخلوقين؛ ليتبين له أن الذي ابتلي به يوسف كان من أعظم الأمور وأن تقواه وصبره عن المعصية - حتى لا يفعلها مع ظلم الظالمين له حتى لا يجيبهم - كان من أعظم الحسنات وأكبر الطاعات وأن نفس يوسف عليه الصلاة والسلام كانت من أزكى الأنفس فكيف أن يقول: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء} والله يعلم أن نفسه بريئة ليست أمارة بالسوء؛ بل نفس زكية من أعظم النفوس زكاء والهم الذي وقع كان زيادة في زكاء نفسه وتقواها وبحصوله مع تركه لله لتثبت له به حسنة من أعظم الحسنات التي تزكي نفسه.
" الوجه السادس " أن قوله: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} إذا كان معناه على ما زعموه أن يوسف أراد أن يعلم العزيز أني لم أخنه في امرأته على قول أكثرهم؛ أو ليعلم الملك أو ليعلم الله لم يكن هنا ما يشار إليه فإنه لم يتقدم من يوسف كلام يشير به إليه ولا تقدم أيضا ذكر عفافه واعتصامه؛ فإن الذي ذكره النسوة قولهن: {ما علمنا عليه من سوء} وقول امرأة العزيز: {أنا راودته عن نفسه} وهذا فيه بيان كذبها فيما قالته أولا ليس فيه نفس فعله الذي فعله هو. فقول القائل: إن قوله (ذلك من قول يوسف مع أنه لم يتقدم منه هنا قول ولا عمل لا يصح بحال. " الوجه السابع " أن المعنى على هذا التقدير - لو كان هنا ما يشار إليه من قول يوسف أو عمله - إن عفتي عن الفاحشة كان ليعلم العزيز أني لم أخنه ويوسف عليه الصلاة والسلام إنما تركها خوفا من الله ورجاء لثوابه؛ ولعلمه بأن الله يراه؛ لا لأجل مجرد علم مخلوق.
قال الله تعالى: {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} فأخبر أنه رأى برهان ربه وأنه من عباده المخلصين. ومن ترك المحرمات ليعلم المخلوق بذلك لم يكن هذا لأجل برهان من ربه ولم يكن بذلك مخلصا فهذا الذي أضافوه إلى يوسف إذا فعله آحاد الناس لم يكن له ثواب من الله؛ بل يكون ثوابه على من عمل لأجله.
فإن قيل: فقد قال يوسف أولا: {إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون}. قيل: إن كان مراده بذلك سيده: فالمعنى أنه أحسن إلي؛ وأكرمني فلا يحل لي أن أخونه في أهله فإني أكون ظالما ولا يفلح الظالم؛ فترك خيانته في أهله خوفا من الله لا ليعلم هو بذلك. فإن قيل: مراده تأتي إظهار براءتي ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب فالمعلل إظهار براءته لا نفس عفافه. قيل: لم يكن مراده بإظهار براءته مجرد علم واحد؛ بل مراده علم الملك وغيره.
ولهذا قال للرسول: {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} ولو كان هذا من قول يوسف لقال: ذلك ليعلموا أني بريء وأني مظلوم. ثم هذا لا يليق أن يذكر عن يوسف؛ لأنه قد ظهرت براءته وحصل مطلوبه فلا يحتاج أن يقول ذلك لتحصيل ذلك. وهم قد علموا أنه إنما تأخر لتظهر براءته فلا يحتاج مثل هذا أن ينطق به.
" الوجه الثامن " أن الناس عادتهم في مثل هذا يعرفون بما عملوه من لذلك عنده قدر وهذا يناسب لو كان العزيز غيورا وللعفة عنده جزاء كثير والعزيز قد ظهرت عنه من قلة الغيرة وتمكين امرأته من جنسه مع الظالمين مع ظهور براءته ما يقتضي أن مثل هذا ينبغي في عادة الطباع أن يقابل على ذلك بمواقعة أهله. فإن النفس الأمارة تقول في مثل هذا: هذا لم يعرف قدر إحساني إليه وصوني لأهله وكف نفسي عن ذلك؛ بل سلطها ومكنها. فكثير من النفوس لو لم يكن في نفسها الفاحشة إذا رأت من حاله هذا تفعل الفاحشة إما نكاية فيه ومجازاة له على ظلمه وإما إهمالا له لعدم غيرته وظهور دياثته ولا يصبر في مثل هذا المقام عن الفاحشة إلا من يعمل لله خائفا منه وراجيا لثوابه لا من يريد تعريف الخلق بعمله.
" الوجه التاسع " أن الخيانة ضد الأمانة وهما من جنس الصدق والكذب. ولهذا يقال: الصادق الأمين ويقال الكاذب الخائن. وهذا حال امرأة العزيز؛ فإنها لو كذبت على يوسف في مغيبه وقالت راودني لكانت كاذبة وخائنة فلما اعترفت بأنها هي المراودة كانت صادقة في هذا الخبر أمينة فيه؛ ولهذا قالت: {وإنه لمن الصادقين} فأخبرت بأنه صادق في تبرئته نفسه دونها.
فأما فعل الفاحشة فليس من باب الخيانة والأمانة؛ ولكن هو باب الظلم والسوء والفحشاء كما وصفها الله بذلك في قوله تعالى عن يوسف: {معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون} ولم يقل هنا الخائنين. ثم قال تعالى: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} ولم يقل لنصرف عنه الخيانة؛ فليتدبر اللبيب هذه الدقائق في كتاب الله تعالى.
" الوجه العاشر " أن في الكلام المحكي الذي أقره الله تعالى: {إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي} وهذا يدل على أنه ليس كل نفس أمارة بالسوء؛ بل ما رحم ربي ليس فيه النفس الأمارة بالسوء. وقد ذكر طائفة من الناس أن النفس لها ثلاثة أحوال: تكون أمارة بالسوء ثم تكون لوامة أي تفعل الذنب ثم تلوم عليه أو تتلوم فتتردد بين الذنب والتوبة. ثم تصير مطمئنة.
و " المقصود هنا " أن ما رحم ربي من النفوس ليست بأمارة وإذا كانت النفوس منقسمة إلى مرحومة وأمارة فقد علمنا قطعا أن نفس امرأة العزيز من النفوس الأمارة بالسوء؛ لأنها أمرت بذلك مرة بعد مرة وراودت وافترت واستعانت بالنسوة وسجنت وهذا من أعظم ما يكون من الأمر بالسوء. وأما يوسف عليه الصلاة والسلام فإن لم يكن نفسه من النفوس المرحومة عن أن تكون أمارة فما في الأنفس مرحوم؛ فإن من تدبر قصة يوسف علم أن الذي رحم به وصرف عنه من السوء والفحشاء من أعظم ما يكون؛ ولولا ذلك لما ذكره الله في القرآن وجعله عبرة وما من أحد من الصالحين الكبار والصغار إلا ونفسه إذا ابتليت بمثل هذه الدواعي أبعد عن أن تكون مرحومة من نفس يوسف. وعلى هذا التقدير: فإن لم تكن نفس يوسف مرحومة: فما في النفوس مرحومة فإذا كل النفوس أمارة بالسوء وهو خلاف ما في القرآن. ولا يلتفت إلى الحكاية المذكورة عن مسلم بن يسار؛ أن أعرابية دعته إلى نفسها وهما في البادية؛ فامتنع وبكى وجاء أخوه وهو يبكي فبكى وبكت المرأة وذهبت فنام فرأى يوسف في منامه وقال: أنا يوسف الذي هممت وأنت مسلم الذي لم تهم فقد يظن من يسمع هذه الحكاية أن حال مسلم كان أكمل. وهذا جهل لوجهين: " أحدهما " أن مسلما لم يكن تحت حكم المرأة المراودة ولا لها عليه حكم ولا لها عليه قدرة أن تكذب عليه وتستعين بالنسوة وتحبسه، وزوجها لا يعينه ولا أحد غير زوجها يعينه على العصمة؛ بل مسلم لما بكى ذهبت تلك المرأة ولو استعصمت لكان صراخه منها أو خوفها من الناس يصرفها عنه. وأين هذا مما ابتلي به يوسف عليه الصلاة والسلام.
__________
[تعليق معد الكتاب للشاملة]
(1) هكذا بالأصل
(2) ما بين المعقوفتين مستفاد من محقق التفسير الكبير لابن تيمية؛ الدكتور عبد الرحمن عميرة، وفي النسخة التي حققها الدكتور محمد الجلنيد جاء النص هكذا: " قال شيخ الإسلام رحمه الله: ثم إن يوسف. . . " أنظر 3/ 274
وقول ابن تيمية بعد ذلك بقليل: " الوجه السادس " ينبئ بوجود سقط من الأصل.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 12 ( الأعضاء 0 والزوار 12)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 324.59 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 318.79 كيلو بايت... تم توفير 5.81 كيلو بايت...بمعدل (1.79%)]