|
ملتقى القصة والعبرة قصص واقعية هادفة ومؤثرة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() من قصص أَنْطُونِسَ السَّائِحِ ومواعظه (1) (الستة الذين جعل إليهم اختيار الملك) بكر البعداني الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده، صلى الله عليه وآله سلم، أما بعد: فهذه وريقات ضمنتها جملة من قصص (أنطونس السائح) ومواعظه، وقد ذكرها الإمام أبو بكر عبدالله بن محمد بن عبيد البغدادي الشهير بابن أبي الدنيا، المتوفى سنة (281هـ) في رسالته "الوجل والتوثق بالعمل"، وقد حققها الشيخ مشهور، وانظر: المنتظم في تاريخ الأمم والملوك (2/ 187- 194) لجمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)، وهي ومع أنها حملت في طياتها جملة من الإسرائيليات، إلا أن فيها حكمًا ومواعظ، لا تخلو من الفائدة، فلا بأس من نشرها استئناسًا، دون جزم بصحتها، مع التنبيه على ما لا يستقيم منها، من باب: ((حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)). من قصص أَنْطُونِسَ السَّائِحِ ومواعظه: (الستة الذين جعل إليهم اختيار الملك): قال أبو بكر بن أبي الدنيا: ثم إنا وجدنا فيما وضع الأولون من حكمهم، وضربوا من أمثالهم، كتابًا فيه حكم وأمثال، تحذو ذا اللب على رفض العاجلة، وتحثه على الأخذ بالوثيقة في العمل للآجلة، وهو الكتاب الذي يُنسَب إلى أنطونس السائح، فقالوا فيما يذكرون: كان ملك بعد زمان المسيح عليه السلام يقال له: أطناوس، عاش ثلاث مئة سنة وعشرين سنة، فلما حضرته الوفاة بعث إلى ثلاثة نفر من عظماء أهل ملته وأفاضلهم؛ فقال لهم: فقد نزل بي ما ترون وأنتم رؤوس أهل مملكتكم وأفاضلهم، ولا أعرف أحدًا أولى بتدبير رعيتكم منكم، وقد كتبت لكم عهدًا جعلته إلى ستة نفر منكم من أحباركم؛ ليختاروا رجلًا منهم لتدبير ملككم، والذب عن رعيتكم، فسلموا ذلك لمن اجتمع عليه ملؤكم، وإياكم والاختلاف، فَتُهْلِكُون أنفسكم ورعيتكم. قالوا: بل الله ينعم علينا بطول مدتك، ويمنع رعيتك فقد سياستك. قال: دعوا هذه المقالة، وأقبلوا على ما وصفت لكم من هذا العهد الذي فيه قوام أمركم، وصلاح دينكم، فإن الموت لا بد منه. فلم تمر بهم ليلة حتى هلك، فدب أولئك الثلاثة نفر إلى الستة الذين جعل إليهم اختيار الملك، فصار كل رجلين من الستة يدعوان إلى رجل من الثلاثة، فلما رأى ذلك حكماؤهم، وأهل الرأي منهم، قالوا: يا معشر الستة الذين جعل إليهم الاختيار، قد افترقت كلمتكم، واختلف رأيكم، وبحضرتكم اليوم رجل أفضل أهل زمانكم، ممن لا يتهم في حكمه، وممن يُرجى الْيُمْنُ والبركة في اختياره، فمن أشار إليه منكم سلمتم هذا الأمر له، وكان في جبل بحضرتهم رجل سائح، يقال له: "أنطونس" في غار معروف مكانه، قد تخلَّى عن الدنيا وأهلها. فاجتمعت كلمتهم بالرضا بمن أشار إليه السائح من الثلاثة نفر، فوكلوا بالمملكة رجلًا من الستة، وانطلق الثلاثة نفر إلى ذلك السائح، فاقتصوا عليه قصتهم، وأعلموه رضاهم بمن أشار إليه منهم. فقال لهم السائح: ما أراني انتفعت باعتزالي عن الناس، وإني وإياهم كمثل رجل كان في منزل غشيه الذباب فيه، فتحول منه إلى منزل يرجو فيه السلامة، فغشيه فيه الأسد، فقال: لقد كان السبع الذي تنحيت عنه، أيسر عليَّ من السبع الذي غشيني في منزلي، وما هذا لي منزل! قالوا: هذا أمر دعا إليه أفاضل أهل مملكتك؛ رجاء البركة والرشد واليمن في رأيك، وما عليك سوى أن تشير إلى أفضلنا في نفسك، فتوليه هذا الأمر، قال: وما علمي بأفضلكم، وأنتم جميعًا تطلبون أمرًا واحدًا أنتم فيه سواء؟! فطمع بعضهم إن هو أظهر الكراهية للملك أن يشير به. فقال: أما أنا فغير مشاح صاحبيَّ هذين، فإن السلامة لدي لفي اعتزال هذا الأمر. قال السائح: ما أظن صاحبيك يكرهان اعتزالك عنهما، فأشر إلى أحدهما وأتركك، قال: بل تختار لأمتك من بدا لك. قال له السائح: ما أراك إلا قد نزعت عن قولك، وصرتم الآن عندي بمنزلة واحدة غير أني سأعظكم، وأضرب لكم أمثال الدنيا وأمثالكم فيها، وأنتم أعلم وأخيار لأنفسكم، فأخبروني هل عرفتم مداكم من الملك، وغايتكم من العمر؟ قالوا: لا ندري، لعل ذلك لا يكون إلا طرفة عين. قال: فلم تخاطرون بهذه الغرة؟ قالوا: رجاء طول المدة. قال: كم أتت عليكم من سنة؟ قالوا: أصغرنا ابن خمس وثلاثين سنة، وأكبرنا ابن أربعين سنة. قال: فاجعلوا أطول ما ترجون من العمر، مثل سنيكم التي عمرتم. قالوا: لسنا نطمع في أكثر من ذلك، ولا خير في العمر بعد ذلك. قال: أفلا تبتغون فيما بقي من أعماركم، ما ترجون من ملك لا يبلى، ونعيم لا يتغير، ولذة لا تنقطع، وحياة لا يكدرها الموت، ولا تنغصها الأحزان، ولا الهموم، ولا الأسقام؟! قالوا: إنا لنرجو أن نصيب ذلك بمغفرة الله ورحمته. قال: قد كان من أصابه العذاب من القرون الأولى يرجون من الله ما ترجون، ويؤملون ما تؤملون، ويضيعون العمل، حتى نزلت بهم من العقوبة ما قد بلغكم، فليس ينبغي لمن صدق بما أصاب القرون الأولى أن يطمع في رجاء بغير عمل، ويوشك من سلك المفازة بغير ماء أن يهلك عطشًا، أراكم تتكلون على الرجاء في هلاك أبدانكم، ولا تتكلون عليه في صلاح معايشكم، تُؤثِّثون لدار قد عرفتم مزايلتها، وتتركون التأثيث لدار مقامكم، ثم قد رأيتم مدائنكم التي ابتنيتموها، وأعقدتم فيها الأثاث والرباع، لو قيل لكم: إنه سينزل عليكم ملك بجيوشه وجنوده، فيعم أهلها بالقتل، وبنيانها بالهدم، هل كنتم تطيبون نفسًا بالمقام فيها والبنيان بها؟ قالوا: لا. قال: فوالله، إن أمر هؤلاء الآدميين لصائر إلى هذا؛ ولكني أدلكم على مدينة آمنة سليمة، لا يؤذيكم فيها جبار، ولا يغشمكم فيها والٍ، ولا يعدمكم فيها الثمار. قالوا: قد عرفنا الذي أردت، فكيف وقد اشرأبت أنفسنا بحب الدنيا؟! قال: مع الأسفار البعيدة تكون الأرباح الكثيرة، فيا عجبًا للجاهل والعالم كيف استويا في هلاك أنفسهما؟! إلا أن الذي يسرقُ، ولا يعرفُ عقوبة السارق أعذر من السارق العارف بعقوبته. ويا عجبًا للحازم! كيف لا يبذل ماله دون نفسه فينجو بها؟! فإني أرى هذا العالم يبذلون أنفسهم دون أموالهم؛ كأنهم لا يصدقون بما تأتيهم به أنبياؤهم. قالوا: ما سمعنا أحدًا من أهل هذه الملة يكذب بشيء مما جاءت به الأنبياء. قال: من ذلك اشتد عجبي من اجتماعهم على التصديق، ومخالفتهم في الفعل؛ كأنهم يرجون الثواب بغير أعمال. قالوا: أخبرنا كيف أول معرفتك للأمور؟ قال: من قبل الفكر تفكرت في هلاك العالم، فإذا ذاك من قبل أربعة أشياء جعلت فيهن اللذات؛ وهي أبواب مركبة في الجسد؛ ومنها ثلاثة في الرأس، وواحد في البطن. فأما أبواب الرأس: فالعينان، والمنخران، والحنك. وأما باب البطن: فالفرج، فالتمست خفة المؤنة عليَّ في هذه الأبواب التي من قبلها دخل البلاء على العالم، فوجدت أيسرها مؤنة باب المنخرين؛ لذته يسيرة، موجودة في الزهر، والنور، والريحان. ثم التمست لخفة المؤنة باب الحنك، فإذا هو طريق للجسد، وغذاء لا قوام له إلا بما يلقى فيه، فإذا تلك المؤنة إذا صارت في الوعاء استقرت، فتناولت منها ما تيسر من المطعم، والمشرب، ورفضت ما عسر، فصرت فيما قطعت عن نفسي من مؤنة الوعاء، ولذة الحنك منزلة رجل كان يتخذ الرماد من الخلنج -اسم شجر- والصندل والعيدان المرتفعة، فلما ثقل عليه مؤنة ذلك اتخذ الرماد من الزبل والحطب الرخيص، فرجى ذلك عليه. ونظرت في مؤنة الفرج، فإذا هو والعينان موصولان بالقلب، وإذا باب العين يسقي الشهوة، وهما معينان على هلاك الجسد، ثم تنقطع تلك اللذة على طول العمر، فهممت بإلقائهما عني، وقلت: هلاكهما واطِّراحهما أيسر عليَّ من هلاك جسدي، وأشفقت أن يضر ذلك بجميع الجسد، فرويت وفكرت، فلم أجد لهما شيئًا أفضل من العزلة عن الناس، وكان ما بغض إليَّ منزلي الذي كنت فيه، فكرت في مقامي مع من لا يعقل إلا أمر دنياه، فاستوحشت من المقام بين ظهرانيهم، فتنحيت عنهم إلى هذا المنزل، فقطعت عني أبواب الخطيئة، وجشمت نفسي لذات أربع، وقطعتهن بخصال أربع. قالوا: ما اللذات؟ وبماذا قطعتهن؟ قال: اللذات: المال، والبنون، والأزواج، والسلطان، فقطعتهن بالهموم، والأحزان، والخوف، وبذكر الموت المنغص للذات، وقطعت ذلك أجمع بالعزلة، وترك الاهتمام بأمور الدنيا، فلا أحزن على أحد هلك فيها، ولا أخاف إلا الله عز وجل وحده، فأي خير في لذة، وهذا الموت يقفوها، وأي دار شر من دار الفجائع جوارًا؟! كونوا كرجل خرج مسافرًا يلتمس الفضل، فغشي مدينته التي خرج منها العدو، فأصابوا أهلها بالبلاء في أموالهم وأنفسهم، فسلم ذلك الرجل في مخرجه، وحمد الله على ما صرف عنه، فأنا معتزل في منزلي هذا عن الخطايا بذكر الموت الذي يكرهه الناس، فأجد لذكره حلاوة للقاء ربي. ولقد عجبت لأهل الدنيا كيف ينتفعون بلذاتها مع همومها وأحزانها، وما تجرعهم من مرارتها بعد حلاوتها؟! واشتدَّ عجبي من أهل العقول ما يمنعهم من النظر في سلامة أبدانهم، فإنهم يريدون أن يهلكوا أنفسهم كما هلك صاحب الحية؟!
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |