|
ملتقى أعلام وشخصيات ملتقى يختص بعرض السير التاريخية للشخصيات الاسلامية والعربية والعالمية من مفكرين وأدباء وسياسيين بارزين |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() محمد رشيد رضا (1282ه/ 1865م - 1354ه / 1935م) خالد سعد النجار كان «رشيد رضا» متعدد الجوانب والمواهب، فكان مفكرًا إسلاميًا غيورًا على دينه، وصحفيًا نابهًا أنشأ «مجلة المنار» ذات الأثر العميق في الفكر الإسلامي، وكاتبًا بليغًا في كثير من الصفح، ومفسرًا نابغًا، ومحدثًا متقنًا في طليعة محدثي العصر، وأديبًا لغويًا، وخطيبًا مفوهًا تهتز له أعواد المنابر، وسياسيًا يشغل نفسه بهموم أمته وقضاياه، ومربيًا ومعلمًا يروم الإصلاح ويبغي التقدم لأمة الإسلام. كان واحدًا من رواد الإصلاح الذين حملوا راية التجديد والاجتهاد، وارتفعت أصواتهم بالبعث والإحياء في الثلث الأول من القرن الرابع عشر الهجري، وعملوا على النهوض بأمتهم حتى تستعيد مجدها الغابر، وتسترد عافيتها على هدى وبصيرة. ويعد الشيخ «رشيد رضا» أكبر تلامذة الشيخ «محمد عبده»، وخليفته من بعده، والأمين على أفكاره واتجاهاته، والمعبر عنها في أبلغ عبارة وأصغى بيان..تابع شيخه في خطاه، وأمده الله بعقل طامح وعاطفة جياشة وعزيمة لا تلين، فبعث في الأمة روحًا جديدة تحرك الساكن، وتوقظ النائم، وتنبه الغافل، لا يجد وسيلة تبلغه هدفه إلا اتخذها منبرًا لأفكاره ودعوته. المولد ولد محمد رشيد رضا في قرية من قرى لبنان تسمى القلمون، في 27جمادى الأولى (1282ه، 1865م)، وهي قرية تقع على شاطئ البحر المتوسط على مقربة من طرابلس الشام التابعة لها، وهو سليل بيت عربي عريق ينحدر من نسل الحسين بن علي بن أبي طالب، اشتهر بيت آل الرضا بأنهم كانوا المثل الأعلى في الانقطاع للعبادة وتكريم العلماء والترحيب بأولي الفضل. كان أبوه قوي الذاكرة، طلق اللسان، ومن قوة ذاكرته أنه كان يحفظ كل ما مر به في سفره، وكل ماله عند الناس، أو لهم عنده من الحقوق المالية وإن طال عليها الزمن، وكان حسن المجاملة، عظيم التساهل في معاشرة المخالفين في الدين مع الغيرة الشديدة على الإسلام والمناضلة عنه بما يقنع المناظر ولا يؤذيه، كما كان يتمتع بهيبة في نفوس أبنائه، حيث لجأ إلى الحزم والترهيب أحياناً في التربية، ولقيت هذه التربية استجابة من نفس محمد رشيد رضا، وورث عنه الكثير من الخصال الخلقية والعلمية. النشأة كان أبوه «علي رضا» شيخًا للقلمون وإمامًا لمسجدها، فعُني بتربية ولده وتعليمه، فحفظ القرآن وتعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب، ثم انتقل إلى طرابلس، ودخل المدرسة الرشيدية الابتدائية، وكانت تابعةً للدولة العثمانية، وتعلَّم النحو والصرف ومبادئ الجغرافيا والحساب، وكان التدريس فيها باللغة التركية، وظل بها رشيد رضا عامًا، ثم تركها إلى المدرسة الوطنية الإسلامية بطرابلس سنة (1299ه= 1882م)، وكانت أرقى من المدرسة السابقة، والتعليم فيها بالعربية، وتهتم بتدريس العلوم العربية والشرعية والمنطق والرياضيات والفلسفة، وقد أسَّس هذه المدرسة وأدارها الشيخ «حسين الجسر» أحد علماء الشام ومن رواد النهضة الثقافية العربية، والذي اشتهر بإلمامه الواسع بالعلوم العصرية، وكان كاتباً وشاعراً عصرياً، درس في الأزهر الشريف على يد الأديب الكبير محمد حسين المرصفي، وكان يرى أن الأمة لا يصلح حالُها أو ترتقي بين الأمم إلا بالجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا على الطريقة العصرية الأوروبية مع التربية الإسلامية الوطنية، حيث اهتمت هذه المدرسة بالعلوم العربية والشرعية والمنطق والرياضيات والفلسفة الطبيعية. ولم تطُل الحياة بتلك المدرسة، فسرعان ما أُغلقت أبوابها، وتفرَّق طلابُها في المدارس الأخرى، غير أن رشيد رضا توثَّقت صلتُه بالشيخ الجسر، واتصل بحلقاته ودروسه، ووجد الشيخ الجسر في تلميذه نباهةً وفهمًا، فآثره برعايته وأولاه عنايته، فأجازه سنة (1314ه= 1897م) بتدريس العلوم الشرعية والعقلية والعربية، وهي التي كان يتلقَّاها عليه طالبه النابه، وفي الوقت نفسه درس رشيد رضا الحديث على يد الشيخ «محمود نشابة» وأجازه أيضًا برواية الحديث، كما واظب على حضور دروس نفر من علماء طرابلس، مثل:الشيخ عبد الغني الرافعي، ومحمد القاوجي، ومحمد الحسيني، وغيرهم، لكن بقي الشيخ الأكبر أثراً في نفس محمد رشيد هو أستاذه الشيخ الجسر. عني محمد رشيد رضا بحفظ القرآن الكريم وحده دون أي معلم يعيد عليه ما يحفظ، وكان يفضل صلاة التهجد تحت الأشجار في بساتينهم الخالية، حيث وجد في البكاء من خشية الله، وتدبر كتاب الله في صلاة الليل لذة روحية قوية، وقرأ كتاب (إحياء علوم الدين) لأبي حامد الغزالي وتعلق به، وحبب إليه التصوف، وهو في هذه السن المبكرة من الشباب، فسلك محمد رشيد طريقه إلى التصوف على يد رجل من النقشبندية، لكنه استطاع أن يقف على أسرار هذه الرياضة الروحية بمحاسنها ومساوئها، وهو الأمر الذي هيأه في المستقبل للمناداة بإصلاح الطرق الصوفية، حيث وجد بعضها طيباً والآخر لا يقبله العقل، بل يكون أحياناً مدخلاً إلى البدع ومثاراً إلى الفتن. بدايته شاذلية بدأ رشيد رضا التصوف بقراءة بعض كتب الصوفية ومنها بعض الفصول من «الفتوحات المكية»، وفصول من «الفارياق»... وقد كان يقرأ ورد السحر؛ وعندما يبلغ البيت التالي: ودموع العين تسابقني من خوفك تجري كان يمتنع عن قراءته؛ لأن دموعه لم تكن تجري، فكان امتناعه عن قراءة البيت حياءً من الله أن يكذب عليه.. وبعد أن تضلع بالعلم وأصول الدين أدرك أن قراءة هذا الورد من البدع.. فتركه وانصرف إلى تلاوة القرآن. ودرس على شيخه أبي المحاسن القاوقجي ونال الإجازة في كتاب «دلائل الخيرات».. ثم بان له أن هذا الكتاب أغلبه أكاذيب على النبي - صلى الله عليه وسلم - فتركه.. وأقبل على قراءة أذكار وأوراد في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثابتة بصحيح السنة. سلوكه الطريقة النقشبندية يذكر رشيد في هذا المجال أن الذي حبب إليه التصوف هو كتاب «إحياء علوم الدين للغزالي».. ثم طلب من شيخه الشاذلي محمد القاوقجي أن يسلكه الطريقة الشاذلية الصورية فاعتذر الشيخ، وقال: يا بني إنني لست أهلاً لما تطلبه، فهذا بساط قد طوي وانقرض أهله. ثم يذكر رشيد أن صديقه محمد الحسيني قد ظفر بصوفي خفي من النقشبندية يرى أنه وصل إلى مرتبة المرشد الكامل.. فسلك رشيد طريقة النقشبندية على يديه وقطع أشواطاً كبيرة فيها، ثم يقول: «ورأيت في أثناء ذلك كثيراً من الأمور الروحية الخارقة للعادة.. كنت أتأول الكثير منها، وعجزت عن تأويل بعضها» ثم يقول: «ولكن هذه الثمرات الذوقية غير الطبيعية لا تدل على أن جميع وسائلها مشروعة أو تبيح ما كان منها بدعة كما حققت ذلك بعد». ويصف رشيد رضا الورد اليومي في طريقة النقشبندية بأنه ذكر اسم الجلالة (الله) بالقلب دون اللسان خمسة آلاف مرة مع تغميض العينين وحبس النفس بقدر الطاقة وربط القلب بقلب الشيخ، ثم يذكر أن هذا الورد بدعة كما تبين له بعد ذلك؛ بل يصل إلى الشرك الخفي حين يربط الشخص قلبه بقلب شيخه، فإن مقتضى التوحيد أن يتوجه العبد في كل عبادته إلى الله وحده حنيفاً مسلماً له الدين. وذكر أموراً كثيرة.. يقول عن هذه التجربة الصوفية: (وجملة القول أنني كنت أعتقد أن سلوك طريقة المعرفة وتهذيب النفس والوقوف على أسرارها جائز شرعاً لا حظر فيه، وأنه نافع يرجى به معرفة الله ما لا يوصل إليه بدونه). من الصوفية إلى السلفية يعبر عن هذه التجربة الصوفية بعد سنوات طويلة جداً في التصوف: " إنني قد سلكت الطريقة النقشبندية، وعرفت الخفي والأخفى من لطائفها وأسرارها، وخضت بحر التصوف ورأيت ما استقر باطنه من الدرر، وما تقذف أمواجه من الجيف، ثم انتهيت إلى مذهب السلف الصالحين، وعلمت أن كل ما خالفه فهو ضلال مبين". وقد تأثر بمجلة العروة الوثقى ومقالات العلماء والأدباء.. فتأثر بجمال الدين الأفغاني لكنه تأثر بمحمد عبده بشدة، وأصبح شيخه الذي حرك عقله وفكره لنبذ البدع، والجمع بين العلوم الدينية والعصرية والسعي لتمكين الأمة.. ثم تأثر بشدة بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله - تعالى-.. لقد أحدثت له حركة ونشاطاً بدل الخمول وغيبة الوعي والانغماس في البدع والضلال كما في التصوف. إنكاره على أهل الطرق الصوفية أول حادثة قام بها علناً منكراً سلوك الطرق الصوفية، أنه ذات يوم، وبعد صلاة الجمعة، أقام أهل إحدى الطرق الصوفية ما يسميه رشيد «مقابلة المولوية» ويقول رشيد في ذلك: " حتى إذا ما آن وقت المقابلة تراءى أمامي دراويش المولوية قد اجتمعوا في مجلسهم تجاه إيوان بالنظارة، وفي صدره شيخهم الرسمي، وإذا بغلمان منهم مرد حسان الوجوه يلبسون غلائل بيض ناصعة كجلابيب العرائس، يرقصون بها على نغمات الناي المشجية، يدورون دوراناً فنياً سريعاً تنفرج به غلائلهم فتكوّن دوائر متقاربة، على أبعاد متناسبة لا يبغي بعضها على بعض، ويمدون سواعدهم، ويميلون أعناقهم، ويمرون واحداً بعد آخر أمام شيخهم فيركعون". أزعج هذا المنظر رشيد رضا وآلمه أن تصل حالة المسلمين إلى هذا المستوى من البدع والخرافات والتلاعب في عقائد الناس وعقولهم. وكان الذي آلمه كثيراً هو أن هؤلاء بألاعيبهم البدعية قد اعتبروا أنفسهم في عبادة يتقربون بها إلى الله - سبحانه وتعالى-؛ بل يعتبرون سماع ومشاهدة ذلك عبادة مشروعة ولهذا لم يترك رشيد هذه الحادثة تمر دون أن يقوم بواجبه الإصلاحي الذي استقاه من قراءته ودراسة بمدرسته السلفية التي يدرسها من خلال مجلاتها وكتبها. قال: " قلتُ: ما هذا؟! قيل: هذا ذكر طريقة مولانا جلال الدين الرومي صاحب المثنوي الشريف، لم أملك نفسي أن وقفت في بهوة النظارة وصحت بأعلى صوتي بما معناه... أيها الناس والمسلمون إن هذا منكر لا يجوز النظر إليه ولا السكوت عنه؛ لأنه إقرار له وإنه يصدق عليه مقترفيه قوله - تعالى -: ( الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) [الأعراف: 51] وأنني قد أديت الواجب عليّ فاخرجوا رحمكم الله" ثم خرج رشيد مسرعاً إلى المدينة.. وكانت لصيحته السلفية هذه أن اتبعه عدد قليل إلا أن صيحته لاقت صدى في مجتمعات الناي بين مؤيد ومعارض. ورغم كثرة من عارضه وأنكر عليه من مشايخ الصوفية فقد صمم أن يسير في طريقه نحو إصلاح مجتمعه من هذه الضلالات والبدع، ومن الغريب في الأمر أن ممن أنكر عليه شيخه الشاذلي حسين الجسر فقد كان رأيه ألا يتعرض لأصحاب الطرق الصوفية وبدعهم لا من قريب ولا من بعيد، وقال لرشيد: إني أنصحك لك أن تكف عن أهل الطريقة، فرد عليه رشيد منكراً: «هل لأهل الطريقة أحكام شرعية غير الأحكام العامة لجميع المسلمين؟ ». فقال: لا، ولكن لهؤلاء نية غير نية سائر الناس ووجهة غير وجهتهم، وسأل الجسر رشيد: لماذا يقصر إنكارك على أهل الطريق دون أهل اللهو والفساد، فرد عليه رشيد قائلاً: إن أهل الطريق ذنبهم أكبر من أهل اللهو لأنهم جعلوا سماع المنكر ورقص الحسان عبادة مشروعة فشرعوا لأنفسهم من الدين ما لم يأذن به الله، على أني لم أر منكراً آخر ولم أنكره. ومع قوة حجة رشيد على أستاذه إلا أن شيخه تمسك برأيه لأن له حضرة ووجاهة!! وبقي الخلاف بينهما، واشتد بعد هجرة رشيد لمصر وإنكاره الشديد على أهل الطرق الصوفية في مجلة المنار، بعد أن رأى طرق الصوفية بمصر والبدع الكبيرة هناك وما يحصل في الموالد، وقد رد الجسر على رشيد، ورد رشيد على الجسر في مجلته. وقد قام على القبوريين من الصوفية وغيرهم بعد استفادته من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إضافة إلى كتاب ابن حجر (الزواجر عن اقتراف الكبائر).. وقد اطلع على كتاب للألوسي (جلاء العينين في محاكمة الأحمدين) فكان من أسباب تبصره بخلل الصوفية، ونقاء دعوة شيخ الإسلام.. وأن كلام الهيثمي وغيره لم يأت إلا من هوى وهوس الصوفية!! الجهود العلمية والدعوية ألقى رشيد المواعظ والدروس في المسجد معتمداً فيها على جمع أكبر عدد ممكن من الآيات في الموضوع الواحد، حتى صار لمواعظه أعظم الأثر، وأشد الوقع في النفوس، واختار من كتب التفاسير أيسرها، على حين قام هو نفسه بدور كبير في شرح الآيات القرآنية واستخلاص العبر التي تفيد جمهور المستمعين منها، واستطاع في تلك الأيام الأولى من جهاده في سبيل الإصلاح أن يثبت قدرته على الاجتهاد في الفقه، الذي اعتبره مرتبة عالية من مراتب العلم الاستقلالي بالأحكام الشرعية، وأنه هام وحيوي لإرشاد الناس لما فيه من الخير والهداية. في الوقت الذي دخل فيه محمد رشيد ميدان الإصلاح في قريته بدافع من ميوله الفطرية وقدراته العلمية، كانت أنظار العالمين والعربي والإسلامي قد اتجهت نحو مصر، حيث انطلقت منها حركة إصلاحية كبرى، وترامت أنباء هذه الحركة إلى مسامع محمد رشيد عن طريق الجماعة المصرية التي أقامت في منزل والد رشيد عند نفيهم من مصر، لاشتراكهم في ثورة أحمد عرابي على الخديوي توفيق، وكانت تصل إلى هذه الجماعة المصرية جريدة العروة الوثقى سراً، وهي الجريدة التي كان يصدرها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده بعد نفيهما من مصر، واجتماعهما في فرنسا. قوي اتصال محمد رشيد رضا بجريدة العروة الوثقى، التي وجهته للسعي في الإصلاح الإسلامي العام، ورسمت له منهجاً علمياً جديداً للإصلاح بعد أن عرفته بأسباب الفساد والتفكك في بلاد الشرق، وفتحت له آفاقاً واسعة لم يكن يعرف عنها شيئا ودفعت به إلى الطريق الطويل الذي سلكه كبار المصلحين وقادة التحرير. استطاع رشيد رضا أن يتصل بجمال الدين الأفغاني الذي نادى بالإصلاح والتجديد عن طريق السياسة، وكذلك اتصل بمحمد عبده الذي نادى بالإصلاح والتجديد عن طريق التربية والتعليم، وخرج رشيد بعد تعرفه على منهجي أستاذيه بمنهج خاص جعله يمزج بين المنهجين السابقين. في ظل الأحداث التي وقعت في سورية، والتي حدت من انطلاقة رشيد رضا في الإصلاح بسبب تشدد الولاة العثمانيين. أخذ رشيد يتطلع إلى الهجرة نحو مصر. وحتى يقوم برحلته إلى القاهرة ادخر نفقاتها من أجرة تحرير الحجج والعقود، ومن ثم تسلل إلى إحدى السفن المتجهة إلى ميناء الإسكندرية، فوصلها في مساء الجمعة الموافق (8 من رجب 1315ه= 3 من يناير 1898م)، وبعد أيام قضاها في زيارة بعض مدن الوجه البحري نزل القاهرة، واتصل على الفور بالإمام محمد عبده، وبدأت رحلة جديدة لرشيد رضا، كانت أكثر نتاجًا وأعظم تأثيرًا في تفكيره ومنهجه الإصلاحي. ولم يكد يمضي شهر على نزول رشيد رضا مدينة القاهرة حتى فاتح أستاذه بأنه ينوي أن يجعل من الصحافة ميدانًا للعمل الإصلاحي، وأن الرسالة التي نذر لها نفسه والتي هاجر من أجلها هي إصدار مجلة تكون ترجمانًا لفكر المدرسة الإصلاحية، ودارت مناقشات طويلة بين الرجلين حول سياسة الصحف وأثرها في المجتمع، وحدّد الشيخ محمد عبده منهاج المجلة بأن لا تتحيز لحزب من الأحزاب، ولا تهتم بالرد على ذام أو منتقد، ولا تخدم أحدًا ممن يسميهم الناس كبراء. وصدر العدد الأول من «المنار» في (22 من شوال 1315ه = 17مارس 1898م) وكانت أسبوعيةً، يتألف كل عدد منها من ثماني صفحات كبيرة على صورة الجريدة اليومية. وبعد عام من الصدور صارت المنار تصدر على شكل مجلة أسبوعية، ثم أصبحت في العام التالي تصدر مرتين في الشهر، وبعد عدة سنوات صارت تصدر مرةً في كل شهر عربي، وكانت المنار تطبع في أول عهدها في مطبعة جريدة المؤيد التي كان يملكها الشيخ «علي يوسف»، ثم اشترى «رشيد رضا» مطبعةً خاصةً لمجلته. موضوعات المنار وقضاياها الفكرية كانت المجلة تستهل صفحاتها بتفسير القرآن الكريم، وهو إما بقلم الأستاذ الإمام محمد عبده أو بقلم رشيد رضا، ثم تأتي فتاوى المنار عن الأسئلة التي ترد إليها من مختلف البلدان، ثم تأتي بعد ذلك المقالات الدينية أو الاجتماعية أو التاريخية أو بعض الخطب المهمة للشيخ أو لغيره من كبار الخطباء، ولم تقتصر المجلة على البحوث الدينية، بل فتحت صفحاتها لمقالات متنوعة تعالج الصحة والطب والسنن الكونية، وأفردت مساحات للأدب والشعر والقصة والبحوث اللغوية. اتخذ رشيد رضا من «المنار» منبراً لبث أفكاره في الإصلاح الديني والاجتماعي والإيقاظ العلمي والسياسي، وكان يحرص على عرض كل ما يكتبه من مقالات على الشيخ محمد عبده، ويستمع إلى توجيهاته وإرشاده، وظل قلم رشيد رضا يصول في المنار ويجول مرشداً المسلمين إلى النظر في سوء حالهم، وتذكيرهم بما فقدوه من سيادة الدنيا وهداية الدين، وما أضاعوه من مجد آبائهم الأولين، فنادى بأن يعلموا أن قيمة الدين ليست في أسراره الروحانية فقط، بل أيضا في الحقيقة التي يعلمها للإنسانية، وهي أن سعادة المرء في هذه الحياة الدنيا والحياة الأخرى تتوقف على معرفته بسنن الله التي تضبط هداية البشر أفراداً وجماعات، وعلى المسلمين أن يدرسوا هذه السنن ثم يسيروا عليها في يقين وإيمان. وقد حملت المجلة رسالة مدرسة الإحياء والتجديد إلى كل أقطار العالم الإسلامي، فعنيت بإصلاح العقيدة وتنقيتها من شبهات الشرك والبدع والخرافات، ودافعت عن الشريعة الإسلامية وعلومها واللغة العربية وفنونها، ونشرت الفتاوى المعاصرة التي تفقه الأحكام وتفقه الواقع الجديد، وأخذت على عاتقها الدفاع عن وحدة الأمة والجامعة الإسلامية، وأيدت الدولة العثمانية، ووقفت إلى جوارها، مع الدعوة إلى إصلاح مفاسدها وتلافي عيوب إدارتها. وهاجمت المجلة العادات السيئة التي تسربت إلينا من الغرب نتيجة الاتصال بهم، وفي الوقت نفسه دعت إلى ضرورة مسايرة أوروبا في مجال العلوم الحديثة، كما دعت إلى الإصلاح الاقتصادي الذي يحرر اقتصاديات المسلمين من النهب الاستعماري، وحاربت المجلة التنصير ودعاته عبر العالم الإسلامي، ودعت إلى المسلمين بأدوات مقاومة شبهات التنصير ومفترياته. واهتمت المجلة بالدعوة إلي إقامة المجتمعات والمؤسسات العلمية والاجتماعية والخيرية؛ لتكون جهود الأمة في الإصلاح أكثر جدوى وأعظم تأثيرًا، وأكدَّت على منهاج التدرج في الإصلاح؛ لأن صياغة الإنسان صياغةً إسلاميةً وتكوين صفوة العلماء والمفكرين، وتهيئة الواقع لتقبل المنهج الإسلامي، لابد فيه من التدرج. وكان رشيد رضا يحرر معظم مادة مجلته على امتداد عمرها، ويمده في ذلك زاد واسع من العلم، وإلمام دقيق بالتراث الإسلامي، وفهم واعٍ للقرآن وعلومه، ودراية واسعة بالفقه والحديث، وإدراك بصير لأحوال مجتمعه وعلله وأمراضه، وخبرة عظيمة بأحوال المسلمين في أقطارهم المختلفة. وشارك رشيد رضا في الكتابة في «المنار» عدد من نوابغ الأمة الذين ينتمون إلى أقطار مختلفة، مثل: الشيخ أحمد الاسكندري، والرافعي والمنفلوطي، وعبد المحسن الكاظمي، ومحمد روحي الخالدي، وشكيب أرسلان، وعبد القادر المغربي وغيرهم من قادة الفكر والتوجيه في العالم الإسلامي. وقد لقيت المجلة إقبالاً في العلام الإسلامي، وامتد تأثيرها في أقطاره، وصار لها مؤيدون ومحبون، وواصلت المجلة سيرها في ظل ظروف حرجة وأزمات مالية ومنافسة من المجلات الأخرى، وهجوم مَّمن ضاقوا بفكرتها الإصلاحية، ولم يكن الشيخ يملك جاهًا أو سلطانًا يعينه على مواصلة الصدور، ولكن الله عوضه عن ذلك بهمة عالية وعزيمة صادقة، ونفس قوية تصمد للأزمات والأعاصير، فاستمرت المجلة في الصدور حتى توقفت تمامًا بعد وفاة الشيخ رشيد رضا في (27 من جمادى الأولي 1354ه = 22 من أغسطس 1932م) بعد عطاء دام نحوًا من أربعين عامًا هجريًا، كانت خلالها ديوان النهضة الإسلامية. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |