تفسير سورة التوبة - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 994 - عددالزوار : 122365 )           »          إلى المرتابين في السنة النبوية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          رذيلة الصواب الدائم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          استثمار الذنوب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          حارب الليلة من محرابك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          حديث: ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء... (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          ذكر الله تعالى قوة وسعادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          السهر وإضعاف العبودية لله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          مميزات منصات التعلم الإلكترونية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 27-08-2023, 04:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,513
الدولة : Egypt
افتراضي تفسير سورة التوبة

تفسير سورة التوبة (الحلقة الأولى) شهادة الله تعالى على الأمة آخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بها
الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي


بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه الغر الميامين.

لئن كانت سورة الأنفال - وقد نزلت في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة - جسرًا بين فترة استضعاف للمسلمين سبقت في مكة، وهم قليل يخافون أن يتخطفهم الناس[1]، وبين قيام أمرهم نصرًا مؤزرًا بالدعم الإلهي، وحيًا وملائكة وقيادة نبوية حكيمة بقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران: 123]، فقامت لهم أول دولة وثقت سورةُ الأنفال بآياتها وتوجيهاتها عرى الوحدة الإيمانية بينهم، ولاء لله وحده، وأخوة بين المؤمنين، جهادًا وصمودًا ومدافعة، وكانت بذلك وصفا دقيقا للحالة الإسلامية الجنينية للأمة الناشئة، وسماتها الغالبة التي استحدثتها فيها التربية القرآنية والقيادة النبوية، وصورةً واضحة لما سارت عليه الأحداث بعدها بناءً عقديًّا وسياسيًّا وأخلاقيًّا للجيل الأول، وإشادةً بما قدمه، انتصارًا للدين وفدائيةً له، وحمايةً لدولته الناشئة، بأهدافها في إحقاق الحق وإبطال الباطل كما يريده الله تعالى بقوله: ﴿ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [الأنفال: 7، 8]، فإن سورة التوبة بعدها كانت جسرًا بين الدولة الإسلامية النبوية التي أقام أركانها رسول الله صلى الله عليه وسلم، من بداية هجرته إلى المدينة ومقامه بها إلى آخر عهد له بها، وبين الدولة التي أقامها صحابته رضي الله عنهم، فهما للقرآن والسنة واجتهادًا، وما تركهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم اشتدَّ به وجَعُه، فيما رواه الشيخان[2] من حديث عبدالله ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "لما حُضِر[3] رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلم أكتب لكم كتابًا لا تضلون بعده)، فقال عمر: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله"، فاختلف أهل البيت فاختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (قوموا)، وكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، من اختلافهم وَلَغَطِهم"[4].


كما كانت هذه السورة في الوقت نفسه صورة واضحة لما آل إليه المجتمع المسلم المتكامل في تفاعله مع أحكام الدين وتوجيهات الرسول الأمين في السنوات الثلاثة: الثامنة، والتاسعة، والعاشرة للهجرة، التي ختم في نهايتها الوحي والتحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وترك الناس خلائف في الأرض بين أيديهم القرآن وآخر سورتين نزلتا، سورة المائدة في موسم الحج من السنة العاشرة إكمالًا لأحكام دينهم، فلم تبق لهم حجة في الإخلال بها أو الزيغ عنها، وسورة براءة قبلها في موسم حج السنة التاسعة، فيها تشخيص دقيق لأحوالهم النفسية وخلجات قلوبهم وخفايا نواياهم وسرائرها، ومسبار كاشف لصدق إيمانهم، ووصف دقيق لأحوالهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، ورصد لما نشأ في بعضهم أو تسلل إلى صفِّهم من الأمراض دقها وجليلها، واختبار لمدى وفائهم بعهودهم ومواثيقهم مع ربهم ونبيهم والناس أجمعين، بعد أن خرجوا من ضائقة الاستضعاف والفاقة إلى رحابة الغنى والسعة والنصر، وقد كثر عددهم وتشبَّب أطفالهم، وترجَّل شبابهم، واكتهل رجالهم، وشاخ كهولهم، وتنوَّعت مشاربهم، واختلفت آراؤهم ومطالبهم ومطامحهم، وظهرت فيهم قيادات وكفاءات سياسية وعسكرية ذات مشارب ومآرب، واسترجعت في الوقت نفسه طوائف الطلقاء والعتقاء[5] أنفاسها بالعفو النبوي يوم فتح مكة، فأخلص منهم الإيمان من أخلص، ونافق من نافق، واندسَّ في المجتمع منهم من يخرب ويبلبل الصفَّ ويتآمر في الظلام، وبقيت في أطراف الجزيرة وأعرابها على الشرك والوثنية طوائف وقبائل وبطون، وأصبح موسم الحج يجمع مع المسلمين خليطًا من المعتقدات الفاسدة والعادات الجاهلية التي تتعارض مع القيم الإسلامية ومجتمعها الناشئ الجديد.


كل ذلك والرسول صلى الله عليه وسلم بما يوحيه إليه ربُّه سبحانه، يواصل الإصلاح والتوجيه والفرز والتمييز للمجتمع المسلم عن غيره، ويتابع ترميم ما يحدث فيه من شقوق وأغباش تصور وخلل تصرف، ويتحسب للعدو الخارجي الشمالي بأرض الشام وما حولها، حيث الإمبراطورية البيزنطية تحكم أمرها وتجند أهلها من عجم الروم وعرب الغساسنة وقضاعة في أطراف الشام وشمال الحجاز، ويدافع في الوقت نفسه مؤامرات المنافقين والمخالفين المستترين والظاهرين، ويغزو المشركين الذين يحاولون تخريب المشروع الإسلامي الناشئ في ذات السلاسل[6] بجمادى الآخرة من السنة الثامنة للهجرة، وفي حنين ثم في الطائف[7] في شهر واحد هو شوال من السنة الثامنة نفسها، ثم في تبوك التي خرج لها من المدينة مشيّعًا بالإمام علي كرم الله وجهه [8]، في رجب من السنة التاسعة، ومخلفًا له عليها[9]، فقال: "يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان؟" فقال صلى الله عليه وسلم: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي؟).


لقد كانت كل هذه الطوائف الضالَّة بعد الهزائم التي مُنيت بها تأمل نقض عرى الدين، وتخطط له ولو بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ بهم الأمر حد الإعداد لاغتياله صلى الله عليه وسلم في طريق عودته من غزوة تبوك[10] في السنة التاسعة للهجرة، ومحاولة تزييف دعوته ومصادرتها موازاة لذلك على يد أبي عامر الراهب الذي سمَّاه الرسول صلى الله عليه وسلم "أبا عامر الفاسق" ومجموعة من المنافقين الذين أسسوا مسجدًا وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم تزكيته بالصلاة فيه، كي يكون بديلًا للمسجد النبوي في حال نجاح مؤامرتهم باغتياله وتصفيته، فنزل الوحي عليه صلى الله عليه وسلم كاشفًا مكرهم وسمَّاه "مسجد ضرار" وأمر بهدمه وإحراقه، ونزل فيه قوله تعالى:﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة: 107، 108].


في هذه الظروف الاجتماعية والسياسية والعسكرية والضوائق الاقتصادية والمؤامرات الداخلية والخارجية على المسلمين، نزلت سورة التوبة نورًا يُقوِّي به الله عزائم الصادقين، ويثبت به أفئدتهم، ويكشف لهم به معالم الطريق، وخبايا النفوس ومعادن الرجال، ويُعِدُّهم في الوقت نفسه لما ينتظرهم بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم.


ولئن ذهب بعض أهل التفسير إلى أن سورة التوبة كانت آخر ما نزل من القرآن الكريم، فإن الثابت روايةً أنها ليست الأخيرة، وأن سورة المائدة نزلت بعدها مُتمِّمة لأحكام الدين، لما صح أنها نزلت بعد عصر الجمعةِ يومَ عَرَفةَ في حجةِ الوداع من السنة العاشرة للهجرة، والنبي صلى الله عليه وسلم واقفٌ بعَرَفات على العضباء، فكادت عضُدُ الناقة تندق لثقلها فبرَكَت، وفيها نزل قوله عز وجل: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3]. وما روي عن أسماء بنت يزيد[11] قالت: إني لآخذة بزمام العضباء -ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذ أُنزِلت عليه المائدة كلها، فكادت من ثقلها تدق عضد الناقة، وما قاله أحمد عن عبدالله بن عمرو قال: أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها، وعن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه قال: "آخر سورةٍ أنزلت جملةً، سورة المائدة"، قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (هي آخر القرآن نزولًا، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها)، وذكر القرطبي عن أبي ميسرة قال[12]: "المائدة من آخر ما نزل، ليس فيها منسوخ، وفيها ثمان عشرة فريضة ليست في غيرها، وهي:" ﴿ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ [المائدة: 3]، ﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ [المائدة: 4]، ﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [المائدة: 5]، ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة: 5]، وتمام الطهور؛ أي: إتمام ما لم يذكر في سورة النساء[13] بقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلَاةِ [المائدة: 6]، ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة: 95] إلى قوله ﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [المائدة: 95]، ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ [المائدة: 103]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ.... [المائدة: 106]. قال القرطبي:"وفريضة تاسعة عشرة هي قوله عز وجل: ﴿ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إلى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [المائدة: 58]، إذ ليس للأذان ذكر في القرآن إلا في هذه، أما ما جاء في سورة الجمعة فمخصوص بالجمعة"، وسورة المائدة بذلك أجمع سورة في القرآن لفروع الشرائع إباحةً وتحريمًا وأمرًا ونهيًا. توازيها وتتكامل معها سورة التوبة التي نزلت قبلها بسنة واحدة، وعالجتا معًا الحالة الإسلامية المجملة بشقيها: في سورة المائدة الجانب التشريعي، وفي سورة التوبة الجانب الاجتماعي والسياسي والعسكري، ومختلف العلاقات عهودًا ومواثيق مع أهل الكتاب يهودًا ونصارى، ومع المنافقين الكامنين المتربصين تحت الأرض، وغيرهم من المتحركين الساعين بالمكر والأذى، والسورتان بذلك متكاملتان اختتم بهما الوحي في السنوات الأخيرة من العهد النبوي، ونزل بعدهما مباشرة نعي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في سورة النصر بقوله تعالى: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر: 1 - 3]، فلما قرأها صلى الله عليه وسلم على أصحابه ومنهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص، فرحوا واستبشروا وبكى العباس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا يُبْكِيكَ يَا عَمُّ؟)، فقال العباس: "نُعِيَتْ إِلَيْكَ نَفْسُكَ"، فقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّهُ لَكَمَا تَقُولُ)، وعاش بعدها ستين يومًا أو قريبًا منها، ما رئي فيها ضاحكًا مستبشرًا.


لذلك لم ينتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسورة التوبة إذ نزلت وهو بالمدينة، وكان قد أرسل أبا بكر رضي الله عنه أميرًا للحج، فقيل له: يا رسولَ اللهِ، لو بعثت بها إلى أبي بكرٍ؟ فقال: (لا يؤدِّي عني إلا رجلٌ من أهلِ بيتي)، ثم دعا عليًّا رضي الله عنه فقال له: (اخرجْ بهذه القصةِ من صدرِ براءة، وأذِّنْ في الناسِ يومَ النحرِ إذا اجتمعوا بمنـًى، أنه لا يحجُّ بعدَ العامِ مشركٌ ولا يطوفُ بالبيتِ عريانٌ، ومَن كان له عندَ رسولِ اللهِ عهدٌ فهو له إلى مُدَّتِه)، فخرج علي رضي الله عنه على العضباء ناقةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتى أدركَ أبا بكرٍ رضي الله عنه، فقال له أبو بكرٍ حينَ رآه: "أميرٌ أم مأمورٌ؟"، فقال: "بل مأمورٌ"، وفي ذلك يقولابن إسحاق: "أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية شهر رمضان وشوالًا وذا القعدة، ثم بعث أبا بكر أميرًا على الحج من سنة تسع، ليقيم للمسلمين حجهم، وأهل الشرك على منازلهم من حجهم لم يصدوا بعد عن البيت، ومنهم من له عهد مؤقت إلى أمد، فلما خرج أبو بكر رضي الله عنه، بمن معه من المسلمين، وفصل عن المدينة أنزل الله عز وجل هذه الآيات من أول سورة التوبة: ﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ [التوبة: 1، 2]، إلى قوله: ﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة: 3]، إلى آخر القصة، وقال أبو هريرة فيما رواه الشيخان: "بعثني أبو بكرٍ رضي الله عنه في تلك الحجةِ في مؤذنينَ بعثهم يومَ النحرِ يؤذنون بِـمِـنــًى: "ألا لا يحجُّ بعدَ العامِ مشركٌ، ولا يطوفُ بالبيتِ عريانٌ"، ثم أردف رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعليِّ بنِ أبي طالبٍ رضِيَ اللهُ عنه فأمره أن يُؤذِّنَ ببراءةَ، فأذَّن عليٌّ معَنا يومَ النحرِ في أهلِ منًى ألَّا يَحُجَّ بعدَ العامِ مشركٌ، ولا يطوفَ بالبيتِ عريانٌ". فكانت هذه السورة بما تلقاها به رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفاوة وحزم ومسارعة إلى العمل بها وتنفيذ أوامرها، وما آثرها به من استعجال تبليغها ندية طرية إلى الناس يوم الحج الأكبر، وحرص على ألا يؤديها عنه نصًّا مكتوبًا ونداءً صوتيًّا جهوريًّا في أعظم موسم ديني بالجزيرة إلا رجل منه هو الإمام علي كرم الله وجهه، وبما تضمنته من آيات بينات وتوجيهات قيمة أصدقَ صورة لما عاناه الرسول صلى الله عليه وسلم آخر عهده بالدنيا، وما كان عليه حال المسلمين في تفاعلهم مع الوحي المنزل والتوجيهات النبوية الدقيقة الصارمة، وأعظمَ وثيقة لما ينبغي أن يسير عليه المسلمون بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم.


ذلك أن هذه السورة الكريمة العظيمة تضمنت تسعًا وعشرين ومائة آية في العد الكوفي، وثلاثين ومائة آية في عدِّ أهل المدينة ومكَّة والشَّام والبصرة، ولم تفتتح بالبسملة لنزولها بالسيف كما نراه ونذهب إليه من قول الإمام علي رضي الله عنه: (البسملة أمان، وبراءة نزلت بالسيف؛ فلذلك لم تبدأ بالأمان)، وتابعه عليه ابن عيينة[14] بقوله: "اسم اللّه سلام وأمان، فلا يكتب في النبذ والمحاربة"، وسميت بما ابتُدِئت به: "براءة"، كما سميت "التوبة" لما ورد فيها من توبة الله تعالى عن الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك بقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ* وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة 117، 118]، وسميت بأسماء كثيرة بحسب معانيها وما نزلت له أو فيه، وأخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة براءة قال: "سُورَةُ التَّوْبَةِ بَلْ هِيَ الْفَاضِحَةُ مَا زَالَتْ تَنْزِلُ: "وَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ... " حَتَّى ظننا ألا يَبْقَى أَحَدٌ مِنَّا إِلَّا ذُكِرَ فِيهَا". وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة قال: "قَالَ عُمَرُ: مَا فَرَغَ مِنْ تَنْزِيلِ بَرَاءَة حَتَّى ظَنَنَّا أنه لا يبقى مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا سَيَنْزِلُ فِيهِ". وهي لفضلها من السبع الطوال[15] التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (من أخذ السبع الأول فهو حَبْر)؛ أي: عالم.


نزلت دفعة واحدة بعد خروج أبي بكر الصديق رضي الله عنه من المدينة للحج الذي أمَّره عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وفسَّرها بعض المفسرين على أنها نزلت أوزاعًا في أوقات متفرقة، لإشارتها إلى أحداث مختلفة في ظروف متفرقة، مغفلين أن منهج القرآن الكريم البياني في سرده للأحداث التاريخية واستخلاصه العبرَ منها، يتناولها أحيانًا بطريقة طردية، الأول فالتالي، وأحيانًا يقدمها بطريقة عكسية تبدأ من الحاضر بصفته نتيجة لما سبق، ثم يعود تدريجيًّا لما سبقه يذكِّر به ويبني عليه ويستخلص منه، فتكتمل الصورة ويتحقق الهدف، ويتم الاعتبار بما مضى والاستفادة لما يأتي، كما في قوله تعالى عن قوم موسى عليه السلام، ثم عن الذين من قبلهم قوم عاد، ثم الذين من قبلهم قوم ثمود، ثم من قبلهم قوم نوح عليه السلام: ﴿ وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ * وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ * وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الذاريات: 38 - 46]، وهو ما سار عليه الوحي الكريم في سورة التوبة، إذ افتتحت بمعالجة الحالة الراهنة الملحَّة التي لا تقبل الانتظار حينئذٍ، وهي إعادة ضبط العلاقات الآنية تصورًا وعهودًا وعقودًا ومواقف مع غير المسلمين بجميع تصوراتهم وعقائدهم، في موسم لا ينعقد إلا مرة واحدة في السنة، ثم رجعت بطريقة عكسية لاستخلاص العبر مما سبقها من مواقف أهل الكتاب ودسائسهم وفساد عقائدهم ومكرهم، يهودًا في المدينة لا يفون بعهد ولا يؤتمنون على سر، وعربًا نصارى في أطراف الجزيرة جنوبًا وشرقًا، وبيزنطيين في الشمال يحتلون الشام وما حوله إلى حدود الحجاز وأطرافه الشمالية، ويسخرون العرب من الغساسنة وقضاعة وغيرهما ممن يقعون تحت نفوذهم، لمحاربة المسلمين بالمدينة، وإنهاك حركة الإسلام الناهضة أو شلها أو القضاء عليها، وأعقبت ذلك بمعالجة الصف الداخلي وما فيه من ثغرات سلبية نبهت لها، وإيجابية أشادت بها ومدحت أهلها، والسورة بذلك لم تنزل إلا دفعة واحدة ولكن بمنهج للسرد عكسي بدأ بموسم الحج ثم استُتْبِع بما قبله. وغطت في مقدمتها ما كانت تحتاج إليه الجماعة الإسلامية في هذه الفترة من عمرها وما يحتاج إليه المسلمون في أي عصر يمرون فيه بمثل هذه الظروف، من قوله تعالى في أول آية فيها: ﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 1]، إلى قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 28]، وعالجت بذلك قضايا العهود والمواثيق التي عقدت أو تعقد بين المسلمين والمشركين، وفاء بها أو نبذًا لها أو نقضًا، حربًا وسلمًا، إجارة واستجارة، وحذرت من الركون إليهم واستئمانهم والثقة بهم، وحرضت على قتالهم إن نكثوا عهودهم وطعنوا في الإسلام، ودعت إلى الصبر على تكاليف الجهاد في الأنفس والأموال والثمرات، وحذرت من الركون إلى الدعة أو إيثار خدمات الحاج والبيت سقاية وحجابة على الجهاد في سبيل الله، وختمت بالمفاصلة الحدية مع المشركين في كل عصر ومصر، بتحريم دخولهم إلى المسجد الحرام مطلقًا بقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.


ثم بنوع من الالتفات إلى مخاطر أهل الكتاب داخل الجزيرة من اليهود وقد تم الإجلاء الأول لبني قينقاع في السنة الثالثة للهجرة والإجلاء الثاني لبني النضير في السنة الرابعة للهجرة، لما مردوا عليه من الغدر والخيانة والتآمر والعدوان، كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر: 2]، وبقي غيرهم من الطوائف اليهودية المسالمة بين المسلمين فأسلموا، وغيرهم من نصارى عرب تغلب في العراق بين الفرات ودجلة وما يعرف بديار ربيعة، وقد تنصَّروا باتصالهم بنصارى العراق وبلاد الشام، عقب هجرتهم من موطنهم الأصلي بتهامة، ثم إلى العدو الخارجي البيزنطي الرابض المتحفز للهجوم على المسلمين شمال الحجاز في الشام ودومة الجندل وخليج العقبة، افتتح الوحي معركة المفاصلة مع أهل الكتاب، وقد استعصوا على التعايش السلمي مع المسلمين، فقال تعالى أولًا: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة: 29]، وعرض لفساد عقائدهم بقوله تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة: 30]، ولاستغلالهم الدين بتحريف التوراة والإنجيل وابتزاز العامة وكنز الأموال من الذهب والفضة وتوعدهم بسوء العاقبة بقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة: 34، 35]،ثم عاد الوحي إلى الساحة الداخلية محرضًا على الجهاد وتثبيت أركان الدين، وقد بدت على بعضهم بوادر التبرُّم من تكاثر الغزوات الأخيرة وتتابعها وتواليها، في ذات السلاسل وحنين والطائف وتبوك، مبتدئًا بتسفيه مبدأ النسيء الذي كانوا في الجاهلية يتلاعبون به في الأشهر الحرم حسب أهوائهم، فيستغله بعضهم لتصيد ما يناسب الأهواء والمقاصد، يحرمون به القتال عامًا ويحلونه عامًا، ويحاولون به تبرير التخلف عن الجهاد، أو يعيبون به على المسلمين عدم مراعاته، بقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [التوبة: 37]، وجعل من هذه الآية مدخلًا يكشف به دواخل بعض النفوس في الصف الإسلامي، شجاعةً وجبنًا وقوةً وضعفًا، فيرفع به الهمم الهابطة، ويثبت النفوس المرهقة، ويعيد تأهيلها للإقدام على الجهاد، والثبات في وجه العدو، وإيثار ما عند الله على ما عند الناس بقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة: 38]، مُندِّدًا بالمتقاعسين عن الاستجابة وهم يدعون للدفاع عن الدين وكف شر المشركين، مستعرضًا طوائفهم وما ظهر من تصرفاتهم في الحضر بالمدينة، وفي السفر في أثناء الغزوات الثلاثة الأخيرة، وفي مقدمتهم الَّذين تخلفوا عَن غَزْوَة تَبُوك، مبينًا استغناءه صلى الله عليه وسلم عن نصرتهم بنصرة الله له دائمًا، كما نجَّاه من قريش وعدوانها وقد همُّوا بقتله بين أظهرهم في مكة، وكما نجَّاه ونصره بعدها في غزوة بدر بقوله تعالى: ﴿ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 39، 40]، ومعاتبًا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أذن به لبعض المنافقين من التخلف عن الجهاد، جاعلًا تلبية نداء الجهاد معيارًا لتمييز الصادقين من الكاذبين، والمؤمنين من الكافرين: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة: 43]، ثم استرسلت السورة في عرض نماذج من ضعاف الإيمان الذين تسللوا إلى الصف المسلم في هذه الفترة عقب فتح مكة، كاشفًا مخاطر تصرفاتهم، محذرًا مرةً ومندِّدًا أخرى، وناصحًا وداعيًا إلى التوبة كل المرتابين والمذبذبين من الذين كانوا يتسللون لواذًا من مجلس رسول الله صلى الله وهو يحرض على الانخراط في صف الجهاد، أو يبطئون حركة التجنيد أو يتباطؤون عن تلبية دعوتها، وكان منهم:
عبدالله بن أبي، وجد بن قيس، ومعتب بن قُشَيْر، وعبدالله بن نبتل، ورفاعة بن التابوت، وأوس بن قيظي وغيرهم من الذين نزل فيهم قوله تعالى: ﴿ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التوبة: 44، 45] مبينًا حقيقة نفاقهم وما في قلوبهم من الريبة والشك، وما يشكله خروجهم من مخاطر على الصف بقوله تعالى: ﴿ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة: 47].
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 24-09-2023 الساعة 07:28 PM.
رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 205.50 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 203.75 كيلو بايت... تم توفير 1.75 كيلو بايت...بمعدل (0.85%)]