|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() تفسير سورة الأنفال (الحلقة الثامنة) سياسة السلم والحرب والعهود وفاء أو نقضا أو نبذا الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي قال الله تعالى:﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ * وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ * وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 53- 63]. قاعدة التلازم بين الحال والمآل في حياة الأفراد والجماعات والأمم، سنة كونية وميزان عدل أزلي، بُنِيَ عليهما الاجتماع البشري منذ أن أهبط الله عز وجل الإنسان إلى الأرض، تكريمًا واختبارًا، بقوله تعالى: ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 38]، ووفَّر له فيها حاجاته مشترطًا شكرها، وجعل شكرها عبادة قلبية وعملية بقوله عز وجل: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172]، ثم تجلت هذه القاعدة في حياة الناس تجليًا ملزمًا ومسؤولًا بقوله عز وجل: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 123، 124]، كما تجلت تطبيقًا بيِّنًا واضحًا؛ إذ أنزل تعالى أول منهج رشيد للإنسان عاش به فترة من الأمن والسلم والسداد والرشاد، فلما حاد عنه تغيَّر حاله إلى السوء، وبقي بفضل الله ورحمته مفعول هذه القاعدة ساريًا، كلما غير المرء ما بنفسه من الفطرة السوية التي خلق عليها غوى وفسد وأفسد، وكلما أصلح ما بنفسه فآمن واتقى صلح حاله وأفلح ورشد، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 96]، وقال عز وجل: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70]. ولئن تجلت هذه القاعدة في حياة أمم سابقة تمتعت دهرًا ثم آل حالها إلى خراب ويَباب وعذاب، فقد كان من تمام تربية أمة النبوة الخاتمة وقد خرجت من تجربة نصر أثمر فرحًا ويسرًا وخبرة وحنكة وتمكينًا، أن تحذر في حالها الجديد هذا من تبدُّله إلى سوء وفساد، لا سيما وقد أخذ النفاق يتسلل إليه على استخفاء، لَمْزًا للمجاهدين أو تشكيكًا في صدقهم أو في شجاعتهم، كما أخبر بذلك القرآن بقوله تعالى: ﴿ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ ﴾ [الأنفال: 49] فذكرهم عز وجل بحال أمم غوت وطغت بعد عز وتمكين، فأخذها بسوء العاقبة وضربها مثلًا لغيرها بقوله عز وجل: ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ [الأنفال: 52]، في إشارة واضحة إلى قاعدة التلازم بين الحال والمآل، وأن لكل فعل ثمرته، وأن لِتَغيُّرِ حال المرء نقمة أو نعمة، شرًّا أو خيرًا، آلية لا تخطئ، إن شكر النعمة دامت ونمت واستمرت، وإن كفرها سلبها في الدنيا وحُوسِب عليها في الآخرة، ذلك ما خاطب به الحق تعالى عباده المهاجرين والأنصار عقب انتصارهم ببدر؛ كي يحفظوا دينهم ويستديموا ما أفاضه الله عليهم من عز وتمكين، وما حذر به مشركي قريش؛ إذ كفروا نِعَمَه فلم يشكروها ﴿ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 57]، وذلك ما قرَّرَه سبحانه في قاعدة العدل الإلهي المطلق وسياسة الخلق والتدبير، وتنزيلها على حال الأمم قبلهم وبعدهم إلى قيام الساعة بقوله عز وجل: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأنفال: 53]؛ أي: إن ذلك الذي نزل بمشركي قريش من القتل والأسْر ومصادرة الأموال وذلة الهزيمة، مآلٌ عادلٌ لكل من كفر نعم الله التي سخرت له فلم يشكرها، وسنة مطردة في كل من جحدها أو بدلها، ثم زاد الحق تعالى هذه المعاني تأكيدًا وتحذيرًا وعطفًا عليها بقوله: ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 53]، يسمع من غَيَّر بلسانه، ويعلم من غير بجنانه أو فعله، يسمع كل قول يكفر نعمة الله ولا يشكرها، أو ينكرها أو يغيرها أو يغمطها، ويعلم كل عمل يبدل الحق أو يجحده أو يخفيه أو يموه عليه، والآية في نفس الوقت رسالة للأنصار والمهاجرين الذين انتصروا ببدر، تحذرهم من مغبة التغيير والكفران بعد أن أنقذهم الله من الشرك وذلة المأوى تحت حكم المشركين من قريش، وأنعم عليهم برسول منهم يتلو عليهم الكتاب ويُعلِّمهم الحكمة، ويقودهم إلى النصر والغنى والأمن، وما دوام هذا الحال فيهم إلا بشكره تعالى، وشكره الثبات على الإيمان والسعي لتثبيت أمر الإسلام عقيدةً وشريعةً ودولةً، وما تغيُّره للسوء وسلبه إلا بكفره تعالى وعدم شكره. هذه المعاني كلها صيغت بأسلوب محكم وبناء متين لا لبس فيه ولا غموض، فاسم الإشارة "ذلك" في قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا ﴾ [الأنفال: 53] مبتدأ مبني على الفتح في محل رفع؛ أي: ذلك الذي أصاب مشركي قريش في بدر..، وخبره: الجملة الاسمية من "أن واسمها وخبرها": ﴿ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا... ﴾، والفعل "يَكُ" مضارع "كان" الناقصة، محذوف النون للتخفيف، مجزوم بالسكون المقدر على النون المحذوفة، واسمها: الضمير المستتر، وخبرها: "مُغَيِّرًا"، وصيغة المضارع الدال على المداومة والاستمرار في "يكن" إشارة إلى أن تغيُّر النعم ملازم لتغيُّر النفوس سلبًا وإيجابًا؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]. ثم ضرب الله سبحانه وتعالى لهم المثل في تغيُّر النعم بالنقم بما آل إليه حال قوم فرعون والأقوام الذين ساروا سيرتهم قبلهم، فقال عز وجل: ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾ [الأنفال: 54]، والآية بذلك زيادة بيان وتوضيح وتأكيد للآية قبلها؛ وهي قوله تعالى: ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ [الأنفال: 52]، بأن جعلت التكذيب أيضًا بأي آية من آيات الله كفرًا مخرجًا من المِلَّة؛ أي: إن ما أصاب قريشًا على يد الفئة المؤمنة في بدر لكفرهم بآيات الله من القرآن الكريم، وتكذيبهم لرسوله صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من المعجزات الدالة على نبوَّتِه، شبيه بما أصاب قوم فرعون لما دأبوا عليه من التكذيب بآيات الله والكفر بها، وقد أتاهم بها موسى عليه السلام، وقال عنهم تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ * كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ﴾ [الدخان: 24 - 29] وبما سبقهم إليه أقوام قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات والنذر فأعرضوا عنها وجحدوها ﴿ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ [الأنفال: 54]، أهلكهم الله بما ارتكبوه من آثام إهلاكَ ذلة ومحق واستئصالٍ، بعضهم بالطوفان، وبعضهم بالرجفة، وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالريح، وبعضهم بالمسخ، وبعضهم بالرجم ﴿ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ﴾ [الأنفال: 54]، أغرقوا في اليَمِّ كما أخبر بذلك القرآن الكريم بقوله تعالى:﴿ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 136]، وذلك عند مطاردتهم موسى ومن معه ﴿ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ﴾ [الأنفال: 54]، وجميع هذه الأقوام كانوا ظالمين لأنفسهم بالكفر وحجود النعم، فانتقم الله منهم كما في قوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا ﴾ [الحاقة: 5 - 7]، وقوله سبحانه:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ * وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ﴾ [إبراهيم: 28 - 30]. إنه المصير الحتمي لمن سار سيرتهم، وإنها سنة الله المطردة في تداول النعم والنقم، يبعث الرسل مبشرين ومنذرين، حتى إذا قامت الحجة على المجرمين، وأصرُّوا على ما هم عليه، واستأسدوا على دعاة الحق، واستهانوا بعقاب ربهم، وعموا وصموا فلم تردهم عن غيهم بشارة أو نذارة، كانت خاتمة أمرهم بالاستئصال في الدنيا والإحالة على جهنم في الآخرة؛ لذلك عقب الحق تعالى على حالهم إذ غلبت عليهم نوازع الشر والعدوان والحقد، بما أفقدهم حاسَّة الحدس البشري والحس الحيواني الفطري، وافتقدوا خاصية التمييز بين الحق والباطل والنافع والضار، بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنفال: 55]، والدواب هي كل ما يدب على الأرض من الكائنات الحية بشرًا وحيوانًا وطيرًا وحشرًا وكائنات حية غير ذلك، كلها ألهمت رشدها المناسب لها، تغذية، وتكاثرًا وتناسلًا وعبادةً وتسبيحًا وانضباطًا وطاعةً، إلا أولئك الكفرة من بني آدم، ألهموا رشدهم فنسوه وفرطوا فيه، وجاءهم الرسل بالهدى ودين الحق فأعرضوا عنهم، وأُنذِروا سوءَ العاقبة فلم يرتدعوا ولم يبالوا وتحدوا، وظهر فيهم من قال: ﴿ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الأنفال: 32] ومن قال تحديًا وعجرفةً: "نحن صمٌّ بكم عمي عمَّا جاء به محمَّد"[1]؛ فقتلوا جميعًا بأحدٍ وكانوا أصحاب لِواء المشركين، ولم يسلم منهم إلَّا مصعب بن عمير، وسويد بن حرملة. ثم انتقل الوحي الكريم من تقرير هذه القاعدة العامة المطلقة في التمييز بين شر دواب الأرض وخيرها إلى تعيين أخطرها على الدعوة الإسلامية الناشئة تحذيرًا منها وإرشادًا لما ينبغي معاملتها به، فقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ﴾ [الأنفال: 56]؛ أي: إن شر من دبَّ على الأرض وأخطرها هم الذين عاهدوك على ألا يحاربوك أو يعينوا عليك، والآية بجملتها بدل من قوله تعالى قبلها: ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ... ﴾ [الأنفال: 55]؛ أي: إن شر من دبَّ على الأرض عند الله هم الذين أخذت منهم عهدًا على الوفاء وعدم الغدر والخيانة، وهم طائفة لجؤوا إلى المدينة من اليهود، جدهم قريظة من ذرية هارون بن عمران، مع يهود بني النضير وبني قينقاع عقب حروب لهم مع الروم، واشتغلوا بالزراعة والتجارة فتحسنت أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، ودخلوا في تحالفات وصراعات بعضهم مع بعض ومع مختلف القبائل العربية الأصلية، من الأوس والخزرج، وكانت قريش تستشيرهم في حربها على الإسلام فيشيرون عليها، عاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم على ألا يعينوا عليه أحدًا؛ ولكنهم في غزوة بدر أمَدُّوا الكفار بالسلاح، واعتذروا بنسيان العهد، ثم في غزوة الخندق في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة، تحالفوا مع مشركي قريش، وسمحوا لهم باتخاذ أرضهم التي يقيمون فيها ممرًّا لمهاجمة المسلمين من خلف ظهورهم، وساهموا معهم في حصار المدينة ثلاثة أسابيع تعرض فيها المسلمون للمشقَّة والجوع والأذى، وكان للصحابي الجليل نعيم بن مسعود بتكليف من الرسول صلى الله عليه وسلم دور كبير في تخذيلهم، وفك تحالفهم وتراجعهم، بعد أن سلَّط الله عليهم الرياح والعواصف وكادوا يهلكون بها. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم عندما استتبَّ الأمر له في المدينة ضمن لهم في وثيقته المشهورة حقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وحريتهم الدينية بصفتهم مواطنين كاملي المواطنة، لهم دينهم وللمسلمين دينهم، ولكنهم ظلوا محتفظين بحقدهم على الإسلام، وتورطوا في تدبير مؤامرات فاشلة كثيرة لاغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلما انكشفت مؤامرة لهم اعتذروا فقوبلوا بالعفو والصفح وجددوا العهد على الوفاء، ثم نقضوا وغدروا وخانوا، فتحولوا بما عوملوا به من اللين والمداراة والنصح الجميل إلى ورم سرطاني في جسم الأمة الناشئة لا يُعالَج إلا بالبتر؛ ولذلك بيَّن الحق تعالى أصل الشر فيهم تحذيرًا من خياناتهم في المستقبل، فقال: ﴿ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ﴾ [الأنفال: 56] والتعبير بصيغة المضارع التي تعني المداومة على الفعل: ﴿ يَنْقُضُونَ ﴾، يفيد إدمانهم على نقض العهود ومداومتهم عليه بما صار طبعًا فيهم لا يسمح بأي وفاء، ثم بيَّن الحق تعالى علة آفة نقض العهود فيهم، فقال عز وجل: ﴿ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ ﴾ [الأنفال: 56]: لا يحسبون حسابًا لنتائج خياناتهم وتبعات غدرهم، ولا يخافون عاقبتها في الدنيا بما قد يصيبهم على يد المسلمين، ولا عاقبتها في الآخرة بين يدي رب العالمين. لقد نزلت سورة الأنفال في السابع عشر من رمضانفي العام الثاني للهجرة فغطَّت أحداث غزوة بَدْر، واستنبطت منها العبرة، ورسمت خطط المستقبل من تجربتها؛ لذلك تطرَّقت إلى أخطر ما قد يواجه المسلمين في المستقبل، وهو الغدر وخيانة العهود ونقضها، وكانت استراتيجية الرسول صلى الله عليه وسلم تحاول استيعاب يهود المدينة والفصل بينهم وبين المشركين؛ لتعارض المعتقدات الدينية بينهم، فعقد معهم عهدًا ضمن لهم فيه جميع حقوق المواطنة الآمنة في الدولة الإسلامية التي أقامها بالمدينة، ووثَّق ذلك في "صحيفة المدينة" التي كتبها الرسول صلى الله عليه وسلم لجميع ساكنيها من المسلمين وغيرهم، فرضوها وفرحوا بها وعاهدوه عليها، وكان من أشدها وضوحًا وعدلًا وإنسانية قوله فيها عنهم: (وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم...وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة... وأن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم)، إلا أنهم مالؤوا قريشًا في كل خططها لضرب المسلمين سرًّا وعلانيةً، مرة يعتذرون، ومرة يتحدَّون ويُهدِّدون، والرسول صلى الله عليه وسلم يُبيِّن لهم ويهدئ من روعهم ويستدرجهم للسلم والوفاء حينًا، ويذكرهم بما أصاب غيرهم حينًا آخر، من ذلك ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قريش يوم بدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع، فقال: ((يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشًا))، فقالوا:"يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا"، فأنزل الله عز وجل في ذلك قوله: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [آل عمران: 12، 13]. لذلك نزل تشديد التحذير منهم والتنبيه إلى شرِّهم، والتوجيه إلى الأسلوب الحاسم في التعامل مع خياناتهم ومناوراتهم ومؤامراتهم، في حال تكرارها منهم وإدمانهم عليها، فقال عز وجل: ﴿ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأنفال: 57]. ولكون كلمة "إما" في قوله تعالى: ﴿ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ ﴾ مركبة من "إنْ" الشرطية و"ما" المؤكدة والمدغمة فيها، فقد ورد فعل الشرط بعدها مؤكدًا بقوله تعالى: ﴿ تَثْقَفَنَّهُمْ ﴾، لتقوى الصلة بين الشرط وجوابه الذي هو قوله تعالى: ﴿ فَشَرِّدْ بِهِمْ.. ﴾، ولتكون المقدمة التي هي "الثَّقَف" ضرورية لفعل التشريد وجودًا وعدمًا، والفعل "ثقِف" من باب "تعب"، يقال: ثقف الشيءَ أو الأمر أو الحديث ثَقَفًا وثِقافًا وثُقُوفةً؛ أي: حَذَقَه أو أدركه وفهمه، أو ظفر به، وثقفت الرجل في الحرب إذا أدركته وتمكنت منه، وقوله تعالى: ﴿ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ ﴾؛ أي: فإما تظفرن بهم متلبسين بمحاربتك ﴿ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ﴾، والتشريد لغة تفريق على اضطراب، ونتيجة حتمية للمنهزمين في أي حرب، قتلًا وأسرًا وشتات أمر؛ أي: فافعل بهم ما يرعب أنصارهم وأتباعهم ومخلَّفيهم، ويُبلبل صفَّ من وراءهم من الأنصار، قتلًا أو أسرًا، أو ما ترونه أبلغ في تأديبهم وتخويفهم وردعهم عن خيانة العهود، قال أبو إسحاق: "المعنى: افعل بهم فعلًا من القتل تُفرِّق به من خلفهم"، وقال ابن عبَّاس: "فنكِّل بهم من وراءهم"، وقال سعيد بن جبير: "أنذر بهم من خلفهم". ﴿ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾: لعل من علم بما حاق بهم أو سمع يتَّعِظ بما ارتكب من الخيانة وما حاق بأهلها من القتل والتشريد وذلة المأوى والمهانة، فلا يسلك طريقهم ولا يفعل فعلهم. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |