|
ملتقى الشعر والخواطر كل ما يخص الشعر والشعراء والابداع واحساس الكلمة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() رشفات أدبية .. البيان الساحر وليد سميح عبدالعال يَحسُن بي في البداية أن أذكُر لك هذه القصَّة التي وَرَدَتْ عن إمامٍ كبير من أئمَّة اللغة والقِراءات، ولعلَّها تكون مفتاحَ القول، ورمية المصيب. أورَدوا عن أبي عمرو بن العلاء، أحد القرَّاء السبعة، وكان أعلمَ الناس بالعربية والقرآن، وأيام العرب والشعر، أنَّ دفاتره كانت ملءَ بيتٍ إلى السقف، ثم تنسَّك فأحرقها، ثم عاد في أواخر عمره ليُملِي ويكتب ما كان قد أحرَقَه. وهنا نتوقَّف لنتساءل: ما الذي حمَلَه على إحراق كتبه؟ ثم ما الذي جعَلَه يعود مرَّة أخرى ليستنقذ - من ذاكرته - ما استَطاع منها؟! دعْ عنك هذه القصة جانبًا الآن، ولنتحدث عن أمر آخر. هناك فريقان أدبيان كبيران، مختلفان في مسألة أدبيَّة خطيرة وكبيرة، كَثُرَ فيها الجدل على مرِّ عصورنا العربية والإسلامية: هل الأدب المتقيِّد بالالتزام الخُلقي أجود، أو الأدب غير المتقيِّد بذلك؟ سؤال ضخم شغَل حيزًا كبيرًا من الدِّراسات القديمة والحديثة؛ لمحاولة الإجابة عنه، والوصول في هذه المسألة لما يشفي. أولاً نقول: إنَّه لا خِلاف بين النقَّاد قديمًا وحديثًا في اعتِبار الجودة الفنيَّة، والإعلاء من شأنها، بحيث لا يمكن إغفالها، وأن الأدب - شعرًا كان أو نثرًا - إذا خلا من هذه الجودة الفنية، فإنَّه مذمومٌ، حتى وإن حَوَى أفضل المعاني، وأسمى المضامِين والأفكار. ولقد كانت أمَّةُ العرب هي أمَّةَ البيان، وظلَّ الشعرُ قُرابَة قرنَيْن من الزمان قبلَ الإسلام في ازدِهار لم تشهد أمَّةٌ من الأمم مثلَه، وبلَغ الشعراءُ والبُلَغاء مبلغًا لن نكون مُبالِغين إذا قلنا: إنَّ مَن بعدَهم في الغالب - وقد أقرُّوا بذلك - عجَزُوا عن الإتيان بمثل ما أتى به الأوَّلون، وإن كان فيهم مَن نبَغ وعلا، وفذَّ وبذَّ أقرانه وأصحابه. ثم أتى الإسلامُ فانشَغَل الناس به - وحُقَّ له أن يفعل - حتى إنَّ بعض الشُّعَراء وجَد نفسه لا تُطاوِعه لقول الشعر، مثل لَبِيد بن ربيعة - رضِي الله عنْه - الذي تعهَّد ألا يقول شعرًا بعد إسلامه، فلم يقل أو قال بيتًا واحدًا، وترك البعضُ الشعرَ كليَّةً، ووظَّف البعضُ شعره للدِّفاع عن الإسلام، والانتِصار له، وبيان محاسنه. وظلَّ الإسلام آخِذًا بنَواصِي الناس إليه؛ يملأ قلوبهم، ويشغَل حياتهم، ونبَغ وبرَز في هذه العُصُور شُعَراء وأُدَباء على قلَّة، حتى تلَتْه عصورٌ رجعت فيه الأمَّة لعصبيَّتها العربيَّة، واستعادت أجواءَ شعرها القديم، وعاد الفخرُ بالأحساب والأنساب، وعاد شعر النقائض والهجاء الذي نهى عنه الشرع، ونهى عنه الخُلَفاء. وتَلَتْ ذلك عصور وعصور، وكلَّما مرَّ يوم اتَّسعت الهوَّة، وانفَصَل الأدب عن الدين، وكأنَّ الأدب إذا دخل تحت عباءة الدين ضعُف ولان، فإذا خرج للفَضاء الواسع الذي لا ضوابط فيه ولا قيود - وأنَّى لإنسان أن يعيش كذلك؟! - انتَعَش وانبَسَط. ثم صار الأمر إلى عصورنا هذه الحديثة، التي تعقَّد الأمر فيها وتشابَك، ولم تعد النظرة الإجمالية تكفي لدراسته، وفهمه، والحكم عليه. هذا عرض عام باختِصار شديد جدًّا، وكل مَن قرأ أو درس الأدب العربي يعلم حقيقةَ ما قلناه. وأنا أظنُّ أنَّ صورة الأمر - من ناحية الجودة الفنية - كخطَّيْن متقاربَيْن، أحدهما يعلو الآخر، ويمثِّله الأدب غير المتقيِّد بالالتِزام الأخلاقي، والآخَر ينزل عنه، ويمثِّله الأدب المتقيِّد بالالتِزام الأخلاقي، هذه هي الصورة الإجمالية، وقد تُخرق القاعدة ويقفز البعض من أسفل حتى يُساوِي الأعلى، وقد يبذُّه ويَفُوقُه، والبعض قد يشغل الفراغ بين الخطَّيْن، فيعلو عن الثاني ولا يدرك الأوَّل. وأنا أذكر أمثلةً أَمُرُّ عليها مرورًا عابِرًا؛ لأستدلَّ على ما أقول، ولو تتبَّع متتبِّع هذا الأمر على مرِّ العصور، لعلم صدقَ ما نُريد قوله هنا - إن شاء الله. ولتنظر لشعر امرئ القيس وطرَفة، ولشعر غيرهما؛ كأميَّة بن أبي الصلت، وزيد بن عمرو بن نفيل، ولا أُطِيل بذكر الفوارق الفنية الكبيرة، فكلُّ مَن قرأ في الشعر شيئًا يعلم ذلك. وانظر في الإسلام لحسَّان الذي قالوا عنه: إن شعره في الجاهلية كان أجود من شعره في الإسلام، ولم يذكر ابنُ سلام الجمحي في طبقاته لحسان إلا أشعارَ الجاهلية، وسلَك سبيلَه كذلك ابنُ قتيبة في كتابه "الشعر والشعراء" غالبًا. يقول ابن سلام: ومن شعره الرائع الجيد ما مدح به بني جفنة من غسان: لِلَّهِ دَرُّ عِصَابَةٍ نَادَمْتُهُمْ ![]() يَوْمًا بِجِلِّقَ فِي الزَّمَانِ الأَوَّلِ ![]() ثم يقول: يُغْشَوْنَ حَتَّى مَا تَهِرُّ كِلاَبُهُمْ ![]() لاَ يَسْأَلُونَ عَنِ السَّوَادِ الْمُقْبِلِ ![]() قال: ومن قصائده الطوال: لَنَا الْجَفَنَاتُ الْغُرُّ يَلْمَعْنَ بِالضُّحَى ![]() وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَمَا ![]() مع أن له قصائدَ في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - والذبِّ عنه وعن الإسلام في منتهى الجودة والعلوِّ، ولكن هذا حكم إجمالي عام. ثم انظر بعد ذلك لشعر أبي نواس والمتنبي، وعلى الطرف الآخَر انظر لشعر أبي العتاهية في الزهد - بعدما تنسَّك - الذي وسمه هو نفسه بالرَّداءة، وذلك فيما ذكره صاحب "الأغاني" قال: نسختُ من كتاب هارون بن علي قال: حدثني علي بن مهدي، قال: حدثني ابن أبي الأبيض، قال: أتيتُ أبا العتاهية، فقلت له: إني رجل أقول الشعر في الزهد، ولي فيه أشعار كثيرة، وهو مذهب أستحسنه؛ لأني أرجو ألاَّ آثم فيه، وسمعت شعرَك في هذا المعنى، فأحببت أن أستَزِيد منه، فأحب أن تنشدني من جيِّد ما قلت، فقال: اعلم أنَّ ما قلتُهُ رديء، قلت: وكيف؟ قال: لأن الشعر ينبغي أن يكون مثلَ أشعار الفحول المتقدِّمين، أو مثل شعر بشار وابن هرمة، فإن لم يكن كذلك، فالصواب لقائله أن تكون ألفاظه ممَّا لا تخفى على جمهور الناس مثل شعري، ولا سيَّما الأشعار التي في الزهد، انتهى. وربما كان أبو العتاهية يفتخر فخرًا خفيًّا بكلامه هذا، ولكن قوله: إن طريق التميز هو طريق الفحول، قولٌ لا شكَّ في صحَّته. وقال صاحب "وفَيَات الأعيان": ويُحكَى أنَّه لقي يومًا أبا نواس، فقال له: كم تعمل في يومك من الشعر؟ فقال له: البيت والبيتين، فقال أبو العتاهية: لكنَّني أعمل المائة والمائتين في اليوم، فقال أبو نواس: لأنَّك تعمل مثل قولك: يَا عُتْبُ مَا لِي وَلَكِ ![]() يَا لَيْتَنِي لَمْ أَرَكِ ![]() ولو أردتُ مثل هذا الألف والألفين، لقدرتُ عليه، انتهى. وأبو العتاهية هو القائل: إِنَّ الشَّبَابَ وَالْفَرَاغَ وَالْجِدَهْ ![]() مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيُّ مَفْسَدَهْ ![]() وأيضًا: لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ ![]() فَكُلُّكُمُ يَصِيرُ إِلَى تَبَابِ ![]() وأيضًا: فَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الإِلَ ![]() هُ أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ ![]() وهي على ما فيها من معانٍ سامية، وموعظة بليغة، تقصر عن جودة أبيات أبي نواس التي رثا فيها محمدًا الأمين، فقال: طَوَى الْمَوْتُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ ![]() وَلَيْسَ لِمَا تَطْوِي الْمَنِيَّةُ نَاشِرُ ![]() وَكُنْتُ عَلَيْهِ أَحْذَرُ الْمَوْتَ وَحْدَهُ ![]() فَلَمْ يَبْقَ لِي شَيْءٌ عَلَيْهِ أُحَاذِرُ ![]() لَئِنْ عَمَرَتْ دُورٌ بِمَنْ لاَ أَوَدُّهُ ![]() فَقَدْ عَمَرَتْ مِمَّن أُحِبُّ الْمَقَابِرُ ![]() والمقام يَضِيق عن بَيان بَلاغة الأبيات، وما فيها من مَعانٍ مكنونة، وإيحاءات وكِنايات خلاَّبة. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |