محمود سامي البارودي .. مصر بين الحنين والوجع - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الوصايا النبوية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 30 - عددالزوار : 10561 )           »          الفَرَحُ ما له وما عليه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 3 )           »          لا يستوون عند الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 671 )           »          أثر العربية في نهضة الأمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 4879 )           »          الابتلاء ورفع الدرجات وتكفير السيئات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          نصائح وضوابط إصلاحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 53 - عددالزوار : 24209 )           »          بيان خطأ تفويض معاني آيات وأحاديث الصفات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 7 )           »          بيان القرآن وتبيينه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          أهمية منصات التعلم الإلكترونية في التنمية المهنية للمعلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          الستر في زمن الفضائح الرقمية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى الشعر والخواطر
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الشعر والخواطر كل ما يخص الشعر والشعراء والابداع واحساس الكلمة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 25-08-2022, 05:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,881
الدولة : Egypt
افتراضي محمود سامي البارودي .. مصر بين الحنين والوجع

محمود سامي البارودي .. مصر بين الحنين والوجع (1)
د. إيمان بقاعي















نفي الثَّائر إلى سَرَنْديب سبعة عشر عامًا وقتَ أُغلقَت أبواب الوطن في وجهه ظلمًا فصرخ: "لم أقترف ذنبًا". تساءل عما إذا كان الدِّفاع عن الوطن ذنبًا يُعاقَب المرء عليه وما أجيب إلا بالإبعاد وما اقتنع. فالقضية الّتي آمن بها وعمل مِن أجلها قضية دفاع عن وطن تدخل فيه الأجنبي بشكل سافر:





راجعْتُ فِهْرِسَ آثاري فما لَمَحَتْ

بصيرتي فيه ما يُزري بأَعمالي[1]












ولما كانت القضية قضية ظلم، فإن شاعرنا يتألم غاية الألم، فتمضي الأيام والشّهور والسّنوات، وتتدهور صحته، ويكاد الشّوق والشّعور بالاضطهاد يقضي عليه.







تتالت عليه المصائب وكان أكبرها الضّعف النّاتج عن الشّيخوخة، فيخف نظره وسمعه وتوهن أعصابه، فيتوجع منه القلب والجسد معًا:





كيفَ لا أنْدُبُ الشّباب وقد أص

بحْتُ كهْلاً في مِحْنةٍ واغترابِ




أخلَقَ الشّيبُ جِدَّتي وكَسَاني

خِلْعَةً منه رَثَّةَ الجِلبابِ




ولَوى شَعْرَ حاجِبَيَّ على عيْ

نيَّ حتّى أطلَّ كالهُدَّابِ




لا أرى الشَّيءَ حينَ يسنَحُ إِلا

كخيالٍ كأَنَّني في ضبابِ




وإذا ما دُعيتُ حِرْتُ كأنِّي

أسمعُ الصَّوتَ مِن وراءِ حجابِ




كلَّما رُمْتُ نهضةً أقعدَتْني

وَنْيَةٌ لا تُقِلُّها أَعْصابي[2]













تلك الصّورة النّاطقة المتحركة لكهل يعاني مِن تراجع قوة الجسد عضوًا فعضوًا يدعمها بصورة أخرى يصور فيها نفسه يشبه فرخ طير صغير ضعيف لا حول له ولا قوة:





أُزَيْغِبَ الرَّأسِ لم يَبْدُ الشَّكيرُ به[3]

ولم يصُنْ نفسَهُ مِن كيدِ مُغتالِ[4]












الفرخ الّذي كان نسرًا هدّته الأيام وطحنته المحنة وأوجعه الاغتراب، فما عاد يقدر على حمل قلمه هو الّذي طالما كتب بغزارة وحارب ببسالة أيام الشّباب:





ولا تكادُ يدي تُجري شبا قلَمي

وكانَ طوعَ بناني كلُّ عَسَّالِ[5]












أما وقد اجتاحته الشّيخوخة وحُكم عليه بالنّفي، فهو يصف حاله بعيدًا مُضَّطَهدًا مظلومًا ومتشوقًا:





لكلِّ دمعٍ مِنْ مُقلة سببُ

وكيف يملِكُ دمعَ العينِ مُكتئِبُ




لولا مكابدةُ الأشواقِ ما دَمِعَتْ

عينٌ ولا باتَ قلبٌ في الحشا يجِبُ[6]












لكنه - رغم الأسباب القوية - يحاول أن يتمالك نفسه فلا تُرى دموعُه جارية وهو الّذي كان له تاريخ مِن الشَّجاعة والبأس والقوة:





أستنجدُ الزَّفَرات وهي لوافحٌ

وأُسَفِّهُ العَبَراتِ وهي بَوادي[7]













__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 25-08-2022, 06:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,881
الدولة : Egypt
افتراضي رد: محمود سامي البارودي .. مصر بين الحنين والوجع

يحاول أن يتمالك:





أَكُفُّ غَرْبَ دموعي وهي جاريةُ

خوفَ الرَّقيبِ وقلبي جِدُّ مُلتاعِ[8]












وعندما يحل الظَّلام وتغفو عين الرقيب، يخلد إلى البكاء المصحوب بالوجع:





أبِيتُ أَرْعى الدُّجى بعينٍ

غذاؤُها مَدْمَعٌ وسُهْدُ[9]












وهو في سَرَنْديب حزين ساهر أرق:





أَبيتُ حَزينًا في "سَرَنْديب" ساهرًا

طوالَ اللَّيالي والخَلِيّون هُجَّدُ




أحاولُ ما لا أستطيعُ طِلابَهُ

كذا النّفسُ تهوى غيرَ ما تملكُ اليدُ[10]












هو في سَرَنْديب غريبٌ، بائسٌ، ساهرٌ، أرِقٌ:





أظلُّ فيها غريبَ الدَّارِ مبتئسًا

نابي المضاجع مِنْ هَمٍّ وأوْجاعِ[11]












هو في سَرَنْديب يعاني كل ما يمكن للمرء أن يعاني:





شوقٌ ونأيٌ وتبريحٌ ومعتبةٌ

يا لَلْحَميَّةِ مِن غَدري وإِهمالي[12]












وهو في سَرَنْديب يعاني مِن كل ما يجلب إلى الإنسان الوجع:





عناءٌ ويأسٌ واشتياقٌ وغربةٌ

أَلا شَدَّ ما ألقاهُ في الدَّهرِ مِن غُبْنِ[13]












إن الغربة في سَرَنْديب غربتان: بُعد عن وطن وبُعد عن خل وصديق ورفيق يخفف وحدته ومعاناته:





لا في "سَرَنْديب" خِلٌّ أسْتعينُ به

على الهمومِ إذا هاجَتْ ولا راعي[14]












فالصَّديق حاجة ملحة، فهو وطنٌ حين لا يكون الوطن موجودًا، فماذا لو لم يكونا موجودين معًا؟





لا في "سَرَنْديبَ" لي خِلٌّ ألوذُ به

ولا أنيسٌ سوى همِّي وإطراقي[15]












يصرخ وهو يعرف أهمية ما يفتقد إليه مِن هذا اللَّوذ وهذا اللّجوء وهذه الاستعانة وهذا البوح الّذي يحتاج إلى أن يبوحه فلا يجد شيئًا مما يطلب، فيعتكف ويعود إلى ذاته منهزمًا وقد زادت مواجعه، فيتحدث إلى أوراقه ويبكي ليلاً: يبكي دمعًا وحبرًا:





لا في "سَرَنْديبَ" لي إلفٌ أُجاذِبُه

فضْلَ الحديثِ ولا خِلُّ فيرعَى لي[16]












إنه يعيش القحل والغربة في أبهى مشاهدهما ويعيش الوجع في أدق تفاصيله؛ فالإبعاد جرح والظُّلم جرح والغربة جرح والشّيخوخة جرح، والوطن هو: الجرح الأكبر.







إن الملاحظ في صورة الوطن عند شاعرنا أنها صورة مشرقة رغم كلِّ الآلام الّتي يعانيها، إذ لم تستطع كل هذه الجروح أن تلون الصُّورة بالدَّم القاني المتدفق من الجرح المفتوح، بل ظلت صورة مشمسة متفائلة، فالوطن عند شاعرنا هو وطن الذَّاكرة التي تفجرت بالبعد والغربة.







الوطن، عنده مرتبط بصورة الشّباب التي يتشوق فيها إليه وقت يرثي صديقيه الشيخ حسينًا المَرصفي وعبد الله باشا فكري:





أين أيامَ لذتي وشبابي؟

أتُراها تعودُ بعد الذَّهابِ؟




ذاكَ عهدٌ مضى وأبعدُ شيءٍ

أن يَرُدَّ الزّمانُ عهدَ التّصابي[17]












الوطن مرتبط بأيام القوة والفتوة أيضًا:





بلادٌ بها حلَّ الشّبابُ تمائمي[18]






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 25-08-2022, 06:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,881
الدولة : Egypt
افتراضي رد: محمود سامي البارودي .. مصر بين الحنين والوجع

بلادٌ بها حلَّ الشّبابُ تمائمي[18]

وناطَ نجادُ المَشْرِفِيِّ بعاتقي[19]











فالوطن هو أرض الطّفولة وأرض النّشأة الأولى الّتي لا تلبث أن تسلِّم المرء إلى النَّشأة الثّانية أو نشأة الشّباب وقتَ كان شباب شاعرنا مليئًا بالبطولات والحروب المشرِّفة:





ما إنْ خلعْتُ بها سُيُورَ تَمائمي

حتَّى لَبِسْتُ بها حَمَائلَ مِخْذَمي[20]












ويعود ليحدد معنى الوطن، فهو يعني - إلى جانب المراحل الّتي نشأ فيها وشب - كل ما يرتبط به من شجاعة وفروسية وحياة أسرية وعلمية:





هو مَرْمَى نَبْلي ومَلْعَبُ خَيلي

وَحِمَى أُسْرَتي ومركزُ بَنْدي[21]












هو يعني الجيرة والقوم والآداب والأعراق:





مَرعى جِيادي ومَأوى جِيرتي وحِمى

قَوْمي ومَنْبِتُ آدابي وأَعْراقي[22]












ويؤكد البارودي على كرم الأهل المتروكين جبرًا في الوطن إذ يؤكد على روابطه القوية بهم:





وكيفَ أنْسى دِيارًا قد تركْتُ بها

أهلاً كرامًا لهم وُدِّي وإِشْفَافي[23]












لا ينسى:





تركْتُ بها أهلاً كرامًا وجيرةً

لهم جيرةٌ تعتادُني كلَّ شارقِ[24]












إنه، يفتقد في الوطن: الإلفة الّتي يشكل مجموع ما ذكره منها طمأنينة لقلبه وسعادة، انظر إلى كلمات النَّعيم في حديثه عنه:





منازل ُكلَّما لاحَتْ مَخَايلُها

في صفحةِ الفكرِ منِّي هاجَني الطَّرَبُ[25]












فالوطن - رغم بعده القسري عنه - كلما ذكر، أثار الطّرب في نفسه وكان ذكره هو الدَّواء من الوجع:





خليليَّ هذا الشَّوقُ لا شكَّ قاتِلي

فميلا إلى "المقياس"[26] إنْ خِفْتُما فقْدي




ففي ذلكَ الوادي الّذي أنبَتَ الهَوى

شِفائي مِن سُقمي وبُرئيَ مِن وَجْدي[27]












وانظر إلى كلماته المشرقة عن الوطن - الذاكرة:





ديارٌ يعيشُ المرءُ فيها منعَّمًا

وأطيبُ أرضِ اللهِ حيثُ يُعاشُ[28]












الوطن يرتبط بالسَّعادة الّتي هي عكس حاله في غربته في سرنديبَ؛ لذا يستدعيه فنتخيله باسمًا وهو يكتب عنه مستنبطاً صفاته:





لبَّيْكَ يا داعيَ الأشواقِ مِنْ داعي

أسمعْتَ قلبي وإِنْ أخطأْتَ أَسْمَاعي




مُرْني بما شئتَ أَبلُغْ كلَّ ما وصلَتْ

يدي إليه فإني سامعٌ واعي




منازلُ كنْتُ منْها في بُلْهَنِيَةٍ

مُمَتَّعًا بين غِلماني وأَتْبَاعي[29]












وقد صار إلى ما لم يكن إليه فيه، فما مِن أتباع في هذه الغربة ولا مِن غلمان ولا مِن أهل ولا مِن جيرة ولا مِن هوى.







إنها الغربة الّتي يحاول شاعرنا بنفس إيجابية - رغم كل الضُّغوط - أن يجد له منها منفذًا ما يخترق فيه جدارها المرتفع عاليًا في وجهه مانعًا إياه مِن نسمات الهواء الآتية مِن مزيج مشاعره الطّيبة الّتي يحافظ عليها فيسوِّرها ويبقيها في الذَّاكرة وطناً.







[1] - الديوان، ص453.




[2] - الديوان، ص68، ونى في الأمر ونيًا: ضعف وفتر، والونية: اسم مرة منه.




[3] - أزيغب: صفة ل"فرخ الطير" تصغير الأزغب هو ماله زغب من الطير والزغب صغار الشّعر والريش وأول ما يبدو منها. والشكير: صغار الريش النابتة بين كباره.




[4] - الديوان، ص451.




[5] - الديوان، ص453* شباة القلم: إبرته وسنه* العسال: الرمح اللون المهتز.



[6] - الديوان، ص72* وجبَ القلب وجيبًا: اضطربَ.



[7] - الديوان، ص154.



[8] - الديوان، ص342.



[9] - الديوان، ص167.



[10] - الديوان، ص171.



[11] - الديوان، ص341.



[12] - الديوان، ص452.



[13] - الديوان، ص625.



[14] - الديوان، ص341.



[15] - الديوان، ص370.



[16] - الديوان، ص449.



[17] - الديوان، ص66.



[18] - التمائم: ج مخيمة وهي عوذة تغلق على الإنسان في طفولته لتدفع عنه العين. وحل التمائم كناية عن مجاوزة الإنسان طوار الطفولة.



[19] - الديوان، ص390.



[20] - الديوان، ص586.



[21] - الديوان، ص169* النبل: السهام العربية* الحِمى: المكان المحمي الّذي لا يقرب ولا يُجترأ عليه* البند: فارسية تعني: العلَم الكبير.



[22] - الديوان، ص371.



[23] - الديوان، ص372.



[24] - نفسه، 390.



[25] - الديوان: ص73.




[26] - يقصد روضة المقياس في مصر حيث نشأ وله فيها قصائد كثيرة.



[27] - الديوان، ص165.



[28] - الديوان، ص293



[29]- الديوان، ص 393 - 340.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 25-08-2022, 06:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,881
الدولة : Egypt
افتراضي رد: محمود سامي البارودي .. مصر بين الحنين والوجع

محمود سامي البارودي في شعره (2)


د. إيمان بقاعي







ومن السَّيف إلى الخيل، والخيل إرث يعتز به ابتداء مِن الموطن الأصلي في القفقاس وظل موضع اعتزاز وفخر في الوطن البديلِ. وكما يعتز البارودي بالنَّسب الأصيل لنفسه ولقومه، فللخيل أنساب أصيلة أيضًا تليق بالرّجل الأصيل؛ فالخيل الأصيلة تتقن فن الحرب وتتقن - كما المحارب الأصيل - الارتواء من نبع النصر:
وخيلٌ يعُمُّ الخافقين[1] صهيلُها

نزائعُ[2] معقودٌ بأعرافِها النَّصْرُ

معوَّدةٌ قطعَ الفيافي كأنَّها

خُداريةٌ فتخاءُ ليسَ لها وَكْرُ[3]


وهذا الخيل "المعقود بأعرافها النصر" لا تليق برجل عادي، بل تحتاج إلى مقاتل غير هياب. هنا، يصف البارودي مقاتلي قومه بأنهم شجعان في ساحة الوغى: شبابهم وشيبهم. ففي المعركة لا يميز بين قوة الشَّاب والأقل شبابًا، بل يملأ الحماس المقاتلين في كل عمر، تمامًا كما يتصف الشَّاب بالحكمة كالشَّيخ في أوقات السّلم.

وحين يصف شاعرنا أبناء قومه بالشَّجاعة الّتي لا تضعفها الأيام وبالحكمة الّتي لا تنقص منها قلة التجارب، فهو يصف قومًا بالكمال:
فأشْيَبُنا في ملتقى الخيلِ أمردٌ
وأَمْرَدُنا في كلِّ مُعضلة ٍكهلُ[4]



إن الشَّجاعة تورث الإقدام والعزة والاندفاع، وتورث كذلك المصداقية في القول والفعل:
رجالٌ أولو بأسٍ شديدٍ ونجدةٍ
فقَوْلُهمْ قَوْلٌ وفعلُهم فعلُ[5]



وهم مقاتلون أشداء "حازوا المجد فرسانًا تحت ألوية النّصر الحمراء، يرمون بالصليبيين إلى البحر، ويحمون بشجاعتهم الشّرق العربي مِن زحف التّتار والمغول المدمر ويهزمونهم في "عين جالوت" ويركزون أعلام مصر على ربوع الشَّام وجزر البحر المتوسط"[6]:
مساعيرُ حربٍ[7] لا يخافونَ ذِلَّةً
ألا إنَّ تَهْيابَ الحروبِ هو الذّلُ[8]



وكيف لمن لا يخاف الحرب ألا يكون إلا متوهجًا، مشرقًا، مقدامًا، يحمل معه ضوء الشَّجاعة منيرًا به دروبًا كانت ستغرق في الظلام لولا حمله النور:
مِن كلِّ أزهر كالدّينارِ غرتُهُ
يجلو الكريهةَ منه كوكب ضرم[9]



إننا نجد تلازم الشَّجاعة والشّرف وتلازم الخوف والذلة. والشَّجاعة تدفع قوم الشّاعر للاقتصاص من أعدائهم إذ لا ينامون بذلٍّ على ثأر لهم:
إذا نامَتِ الأضغانُ عن وَتَراتِها[10]
فقومي قومٌ لا ينامُ لهم ذَحْلُ[11]




على أنهم وقت السلم يتميزون بالقدرة على العيش الهنيء وعلى التّمتع بالرفاهية والغنى والترف.

وإذا أسقطنا صفات الشّاعر على صفات قومه، وجدنا أنه مثلهم: قادر على عيش الحرب بتفاعل كامل والسّلم بتفاعل كامل؛ وهذا ما شرحه العقاد أثناء كلامه عنه بقوله:
"وكان على العهد في رجال الحرب مستخفًّا بالحياة في ميدان القتال، محبًّا للحياة أيام السّلم، مفرطًا في حبها والمتعة بها، كأنما يعوض أيام المخاطرة والمغامرة بأيام الرغد والنعمة، أو كأنما يتناول من مائدة منزوعة، فيأخذ منها كل ما طاب إذ هي حاضرة بين يديه، وهو على أهبة الزّهد فيها والحرمان منها"[12].

ويخلص العقاد إلى أن هذا التفاعل الكامل، إنما يدل على إيجابية في الشَّخصية، "وتلك حال خليقة بأصحاب الطّبيعة الحيوية الّتي تنقاد لدفعة الجسم وسورة اللّحم والدم في ثورة الغضب والنخوة وفي ثورة الطرب والمتعة"[13]، ومن هنا كان وصف الشّاعر لقومه وصفًا لنفسه:
لهم عُمُدٌ مرفوعةٌ ومعاقلٌ
وألويةٌ حمرٌ وأفنيةٌ خضرُ[14]




وإذ تدل الأفنية الخضر على الكرم والغنى والرّفاهة، تدل النّار المشتعلة على كرم الضّيافة والسّخاء، فهي تضيء ليل الجوع وليل الضّياع وليل الوحشة وتفتح بابًا للكرم واسعًا:
ونارٌ لها في كلِّ شرقٍ ومغربٍ
لِمُدَّرعِ الظَّلماء السّنةٌ حمرُ[15]





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 25-08-2022, 06:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,881
الدولة : Egypt
افتراضي رد: محمود سامي البارودي .. مصر بين الحنين والوجع

وكما الشَّجاعة مفتاح إلى العز والسّؤدد والحرية، كذلك الكرم مفتاح إلى عالم واسع من الأخلاق والشيم الّتي تدل على العراقة والاكتفاء وعزة النَّفس. ومن هنا، يكون الكرم فعلاً لا قولاً، ويكون مرتبطًا بالآنيَّة لا بالمماطلة كما يكون أصالة لا ادِّعاء. إنَّ شاعرنا يبرع في التَّحليل النَّفسي للكرم، فالكرم فياض، معطاء، مقدام، ذو كلمة حازمة واضحة لا تأويل فيها ولا خبايا ولا زمن يتباطأ أو يتثاءب أو يوشك على مرض مفاجئ أو انقطاع مميت.

الكرم فعل لا يقدر عليه إلا العريق الأجداد الكريم النسب والخلق. الكرم فعل سريع شجاع تنبئ عنه حاجة ملحَّة استجيبت:
يفيضونَ بالمعروفِ فيْضًا فليسَ في
عطائِهِم وعدٌ ولا بَعْدَهُ مَطْلُ[16]

فَزُرْهُم تجدْ معروفَهُم داني الجنى
عليكَ وبابَ الخيرِ ليسَ له قفلُ[17]



إن قومًا جمعوا الفروسية إلى الكرم وصدق التّعامل، يستحقون مِن شاعرنا أن يتوقف عندهم طويلاً ليلقي الضَّوء على صفحاتهم المجيدة الّتي عادت بالخير - لا عليهم فحسب - بل على المشرق العربي الّذي كاد لولاهم أن ينسحق فأنقذوه.

على أن شاعرنا يتوجع بالدرجة ذاتها الّتي يفخر فيها بأجداده. فهم، رغم إقامتهم في داخله ورغم استعادته لهم بالفعل - الاستمرار وبالقول - البعث، ورغم إحيائه لهم في ذاكرة الأيام وإنعاشها بالمآثر، قد رحلوا.

إنه يشعر بالغصة! ونحن لا نشعر عادة بالغصة لفقدان أمر غير ذي قيمة، بل العكس هو الصّحيح؛ لذا فهو يحاول الوقوف موقفَ حياد مِن الزَّمن الّذي يجتاح الأمم دونما تفريق بين قوم وقوم:
عمروا الأرضَ مدةً ثم زالوا
مثلما زالَتِ القرونُ اجتياحا[18]




بيد أنه لا يلبث أن يتخلى عن الحياد في موقفه من الزّمان، فيرى في اجتياحه لهم بالذَّاتِ عبثًا ولهوًا وملولاً وغدرًا وإزالة استقرار أو تفجير شمل:
أقاموا زمانًا ثم بدَّدَ شملَهُم
مَلولٌ مِن الأيامِ شيمتُهُ الغدرُ[19]




ويعود مِن جديد لمحاوِلاً استيعاب لعبة الزّمان العابثة المؤمنةِ دائمًا وأبدًا بالتّغيير:
لعمركَ ما حَيٌّ وإنْ طالَ سيرُهُ
يُعَدُّ طليقًا والمَنونُ له أسْرُ

وما هذه الأيام إلا منازلٌ
يَحُلُّ بها سَفْرٌ ويتركها سَفْرُ[20]




وإذ يصل إلى بعض مِن رضا لا يخلو مِن وجع، يحاول شاعرنا أن يتقبل الواقع أكثر، فيجمّله ويضفي عليه مِن أفكاره الإيجابية ما يجعله أكثر قبولاً.

إنه يلاحق آثار الزَّمن، ويجد لنظرية النّسب العريق في الآثار موضعًا يدخل منه مِن الباب الواسع؛ فهذه الآثار - رغم عدم موازاتها للواقع الّذي كان يجب أن يسود - آثار طيبة عابقة بالعطر والمجد:
فلم يبقَ منهم غيرُ آثارِ نعمةٍ
تَضُوعُ بريَّاها[21] الأحاديثُ والذِّكْرُ[22]



النّعمة تكمن في الحرية الّتي علمها قومه للأمم وتكمن في الأثر المتروك على العلا:
ماتوا كرامًا وأبقوا للعُلا أثرًا
نالَتْ به شرفَ الحريَّةِ الأمَمُ[23]




والعُلا أثر لا يستهان به ولا يمحى:
إنَّ العلا أثرٌ تحيا بذُكرَتِه
أسماءُ قومٍ طوى أحسابَها القِدَمُ[24]




وإن كان لا بد مِن الإقناع أو الاقتناع بأن الآثار لا تصمت، بل تتحدث بطلاقة حين يكون الماضي يستحق أن يُتَحَدث عنه، فليس أمام شاعرنا إلا موقفان:
الأول: دعاء بالسّقيا لمن رحل على عادة العرب القدامى:
فسَقاهم مُنَزِّلُ الغَيثِ سَحْلاً
يجعل النَّبتَ لِلْعراءِ وِشاحا[25]




والثّاني: إبقاء على طيب الذّكر من خلال استمرار الأبناء بما قام به الآباء، والمرء قادر - إن شاء - على متابعة رحلة المجد.

هنا يتصالح الشّاعر مع الزمن إذ يثبت له أن الاستمرارية فعل ممكن عندما يكون الوارث على قدر مسؤولية الإرث العظيم:
لنا الفضلُ فيما قد مضى وهو قائِمٌ
لدينا وفيما بعدَ ذاكَ لنا الفضلُ[26]




مِن الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، والمجد إرث يعتز به ويحافظ عليه. وإن زال، فلا بدَّ وأن يكون زواله مؤقتًا مِن أجل إعادته إلى صانعيه. كان المجد مدرسة أيضًا لشاعرنا.


[1] الخافقان: المشرق والمغرب أو أفقاهما.

[2] النزائع: الغرائب أو النجائب التي تنزع إلى أصل كريم* الأعراف: جمع عرف، وهو الشعر النابت في رقبة الفرس.

[3] الديوان، ص217، والخدارية: العقاب، وهو طائر من عتاق الطير ويضرب بها المثل في القوة وسرعة الطيران* فتخاء: من صفات العقاب، أي لين الجناح لأنها إذا انحطّت كسرت جناحيها وغمزتهما.

[4] الديوان، ص428.

[5] الديوان، ص425.

[6] علي محمد الحديدي، ع.س، ص36.

[7] مساعير: جمع مسعار (بوزن مفتاح): اسم آلة من سعرت النار؛ أي: أوقدتها وألهبتها، وقومه مساعير حرب: أي يقدمون على الحرب فيؤججون نارها.

[8] الديوان، ص425.

[9] علي محمود الحديدي، ع.س، 37.

[10] الوترات: ج وترة: اسم مرة من وترت الرّجل، أدركته أو قتلت حميمه فأفردته منه.

[11] الديوان، ص425.

[12] عباس محمود العقاد: شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1950)، ص133 - 134.

[13] م.ن، ص.ن.

[14] الديوان، ص217.

[15] الديوان، ص217.

[16] الديوان، ص426.

[17] نفسه، ص427.

[18] الديوان، ص117.

[19] الديوان، ص218.

[20] الديوان، ص218.

[21] وللشاعر بيت يتحدث عن ريا الآثار يقول فيه:
وقد تنطق الآثار وهي صوامت
ويثني برياه على الوابل الزهر

[الديوان، ص218].

[22] الديوان، ص218.

[23] نفسه، ص602.

[24] نفسه، ص603.

[25] الديوان، ص117، السّحل: الدلو العظيمة إن كانت مملوءة. الوشاح: أي فرعان من لؤلؤ وجوهر منظومان يخالف بينهما معطوف أحدهما على الآخر، أو أديم عريضٌ يرصّع بالجواهر تشده المرأة بين عاتقها وكشحها، والمراد غيث غزير يجعل النبات زينة للفضاء.


[26] الديوان، ص429.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 111.16 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 107.61 كيلو بايت... تم توفير 3.55 كيلو بايت...بمعدل (3.19%)]