|
|||||||
| ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
|
رسالة الشعر عند إسماعيل زويريق من خلال ديوان "على النهج" د. محمد ويلالي كثيرًا ما غُمِزَ شعر القضايا الإسلاميَّة بأنَّه شِعر فِقهي وديني، تنحصرُ مُهمَّتُه في الدَّعوة إلى الله، والوعظ والإرشاد، وهو بذلكَ خارجٌ عن حقيقة الشِّعر التي تدغدغ الوجدان، وتُخَاطب المَخْبوء في النَّفس البَشريَّة، وتُعَبِّر عما لا تستطيع المَحْسوسات أن تَسْتَجْلِيَ حقيقته، وتكتشف أسراره؛ لِمَا انْطَوَتْ عليه مِن مُلاَمَسَة الخيال، وتَحْريك العَوَاطف. ولم يزلِ البحث في مفهوم الشِّعر مُعترك الأنظار، فقد تداخلتْ آراء النُّقَّاد القُدامى والمُحدثينَ في بيان حقيقته، وتحديد عناصر الجمال فيه، ومعايير الحكم عليه بالجَودَة أو الرَّدَاءَة. ولم يَكُنِ النُّقَّاد القُدامى - في مُعظمهم - يَلتَفِتُونَ إلى وظائف الشِّعر الحقيقيَّة، التي بها نَحْكُم عليه بالجَوْدة وعدمها، فلم يكونوا يَهْتَمُّونَ بالمَضَامينِ إلاَّ أن تكونَ مَعانيها مُسْتقيمة في ذاتِها؛ سواء دَلَّتْ على خير، أم على شر، بينما وقع التَّركيز على الجانب الفني المُتَمَثِّل في الصِّياغة، والأسلوب، والألفاظ، والطَّبع، والقَرِيحة، والفَصَاحة، وهي صفات لا تخص قومًا دون قوم، ولا يَتَّصفُ بها دهر دون دهر؛ بل هيَ مواهب مَقْسُومةٌ بين البَشَر في كل زمان، وإذا كان الأمر كذلكَ، فلا بُدَّ من عنصرٍ آخر يُحَقِّق الهدف الأسمى للشِّعر، وبه يكتمل الحكم عليه. وقد فطن إلى ذلكَ ناقدٌ مغربيٌّ ضليعٌ، هو "ابن البناء العددي المراكشي"، الذي جعل القرائن التي يُستدلُّ بها على المقاصِد راجعة إلى العُرف، والإنصاف، والدِّين، ويحشد في كتابه: "الروض المريع"، الشَّواهدَ العديدةَ ذات الأبعاد الخُلقيَّة؛ لِيَجْعلها نماذج للشِّعر الجيد. فمنهم من حكَّم المعيار الزَّمَني، فجعل الجودَة للمُتَقدم في الوُجود، والسابق إلى تَفْتيق المعاني، وابتكار الأساليب، والتَّأَنُّق في التَّصوير، وانصرفَ إلى تفضيل الجاهِليينَ، لا لشيء إلاَّ لتَقَدُّمهم في الوِلادة، ولو تَأَخّروا لم يكن لهم شَرَف، ولا تَمَيَّزُوا بِفَضل، أو وُسِمُوا بمدحة، وأكثر مَن نحا هذا النَّحو اللُّغَويُّون، "الذين جمعوا مادة الشعر القديم، وقد أشاعوا بينهم تلك العَقيدة، التي ثَبَّتتْ في الأذهان تَفَوُّقَ الشِّعر الجاهلي، وأنَّه مَثَل أعلى"[1]. فهذا أبو عمرو بن العلاء، كان يرى شعر "جرير" و"الفَرَزْدق" مُوَلَّدًا، "وكان لا يَعُدُّ الشِّعر إلاَّ ما كان للمُتقدمينَ.. قال "الأصمعي": جلستُ إليه عشر حجج، فما سَمِعْتُه يحتج بِبَيْت إسلامي"[2]. وبإزاء المعيار الزمني، نقف على معيار آخر لا يقل خطرًا عن سابِقه، وهو تَحَكُّم الذَّوق في اختيار الشعر، والاقتصار عليه في الحكم؛ لذلكَ اختلف القُدَامى في اختيار أشعر الشُّعراء اخْتِلافًا شَنِيعًا، حتى قال "ابن رشيق" في ذلك: "هذا يدلك على اختلاف الأهواء، وقِلَّة الاتِّفاق"[3]. غير أنَّ الذَّوق إذا كان تابعًا لِمَقاصد الشَّرع، أُخذ في الاعتبار، وصَحَّ الاحتجاج به، والتَّقديم بِسَببه؛ لأنَّه آنذاك لم يَخْضعْ لِلأهواء، ولم تَتَحَكَّمْ فيه العوامل الخارجيَّة، أوِ الميولات الذَّاتيَّة، أوِ العصبيَّة الإقليميَّة، أوِ النزوعات اللُّغويَّة، "فالذَّوق الجدير بالاعتبار، هو ذوق العالم، الذي اسْتَطاع أن يكبحَ جِماح هواه الخاص، الخبير بِالأدب الذي رَاضَه ومارَسه"[4]. وقديمًا قال البوصيري (بسيط): وَخَالِفِ النَّفْسَ والشَّيْطَانَ وَاعْصِهِمَا وَإِنْ هُمَا مَحَّضَاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِمِ ولاَ تُطِعْ منهُمَا خَصْمًا ولاَ حَكَمًا فَأَنْتَ تَعْلَمُ كَيْدَ الخَصْمِ والحَكَمِ[5] فالحكم الحقيقي على الشِّعر، لا يُلقَى به في مهامه الأذواق، ومفاوز الطِّباع؛ لأنَّ هذه الطباع، وتلك الأذواق "قد تَدَاخَلَها منَ الاختلال والفَسَاد، أضعافُ ما تداخلَ الألسنةَ منَ اللَّحن، فهي تستجيد الغَثَّ، وتستغث الجَيِّد منَ الكلام"[6]. ومنَ النُّقَّاد مَن راعى الكَم الشِّعري في تحديد مِعيار جَوْدة الشِّعر، وقد بنى ابن سَلاَّم "طَبَقاته" على هذا المعيار، فحينما يجعل أربعة فُحُول منَ الشُّعراء في الطَّبقة الرابعة، يقول: "وإنَّما أخل بهم قِلَّة شعرهم بأيدي الشُّعراء"[7]، مع أنه يعترف بأن هذه القِلَّة قد يكون مصدرها ضياعَ الشِّعر أو إِتْلافه، لا أنَّ الشاعر مُقِل في ذاتِه. وعلى هذا المذهب، وَجَبَ على الشاعر أن يرتقيَ الجد، ويقتحم الهزل، وأن يخوضَ في كلِّ غَرَض، بما في ذلك وَصْف الخُمُور، وليالي المُجُون، وأنواعُ الغَزَل بالمُؤَنَّث والمذكر، فإنه متى كان كذلكَ حكمَ له بالتَّقَدُّم، وحاز قصب السَّبق؛ كما قال ابن رشيق[8]، مما لا نكاد معه نَعْثُر على شاعرٍ واحد أَجَادَ في هذه الضُّروب كلها؛ بل إنَّ "أبا نواس" الذي جعلَه "ابن رشيق" مِثالاً على مَذْهبه، اشْتَهَر بالخَمْريَّات، وطغى جانبها على الأغراضِ الأخرى، كما اشتهرَ "ابنُ الرُّومي" بِالهِجَاء، و"المُتَنَبِّي" بالأمثال؛ بل إنَّ الأقدمينَ لَمَّا أَرَادُوا اختبار أشعر الشُّعراء، قالوا: "كفاكَ منَ الشِّعر أربعة: زُهير إذا رَغِب، والنَّابغة إذا رهب، والأعشى إذا طَرِب، وعنترة إذا كَلِب، وزاد قوم: وجَرير إذا غضب"[9]. فكان كلُّ شاعرٍ مجيدًا في بابٍ مِن أبواب الشِّعر، مُتَفَوِّقًا في غَرَضٍ مِن أغراضِه. ومنهم من شَطَّ عنِ الصواب، وازْوَرَّ عن كبد الحق، فأرجع أفضليَّة الشِّعر لِشَرف قائلِه، ورفعة مَنْبته، حتى قال الفرزدق مفتخرًا [وافر]: وَخَيْرُ الشِّعْرِ أَشْرَفُهُ رِجَالاً وَشَرُّ الشِّعْرِ مَا قَالَ العَبِيدُ[10] فَلم يَجْعلِ الله الكلامَ الجَيِّد قاصرًا على الشَّريف، ولا جعلَ النَّقص فيه لِلوَضِيع؛ بلِ العِبْرَة بالقول؛ لأنَّ "الشِّعر كلام، حَسَنه حَسَن، وقَبِيحه قبيح"[11]، والحكمة ضالَّة المؤمن، قد يأخذها مِن فَم الشَّريف، كما قد تجري على لسان الخامل الوَضيع. ومن هذه المعايير المُحَدَّدة لِوَظائف الشِّعر: المعيار الفَنِّي: الذي ينظر إلى الشِّعر من حيثُ جودتُه الفنيَّة، وخصائصه الشَّكليَّة، لا إلى جودة معانِيه، وشرف مقصده، وقد اشتهر قول "قُدَامة بن جعفر": "إنَّ الشاعر ليس يُوصَف بأن يكون صادقًا؛ بل إنَّما يُراد منه إذا أخذ في معنى منَ المعاني - كائنًا ما كان - أن يجيدَه في وقته الحاضِر"[12]. ويقول "عبدالله الغذامي" - منَ المُعَاصِرين -: "ولا شأن للمعنى هنا؛ لأنَّ المعنى هو قُطْب الدَّلالة النَّفعيَّة؛ ولذلك لا بدَّ من عَزْل المعنى وإبعاده عن تَلَقِّي النَّص الأدبي، أو مُنَاقشة الإبداع الأدبي"[13]. وقد غالى أصحاب هذا الاتِّجاه، حتى جعلوا قيمة الشِّعر في جماليته لا غير، وكم تَأَثَّرَ كثيرٌ من نُقَّادنا بآراء الغَرْبيينَ، الذين يَرَونَ في الشِّعر تجسيدًا لِحَياتهم الدنيويَّة المادية، البَعِيدة عن إشراقة الروح، وسبحات النفس المؤمنة بما هو خارج المحسوس، المُتَشَوِّفة إلى أمداء الآخرة، التي لا تحدُّها حدود، ولا تقيدها قُيُود. وكان من أشهر الدَّاعين إلى فصل الأخلاق عنِ الأدب، والرُّوح عن المادة - الأمريكي "إيدغار آلان بو"، وتَأَثَّر به كِبار الغربيينَ، من أمثال "مالارميه"، "وفاليره"، وكان مِن أكثرهم تأثُّرًا "بودلير"، الذي ما كشف من رمزيته ما كشف إلاَّ لِرَغبته في التَّمَرُّد، ليس على الأخلاق وحسب، وإنما على كل ما هو سائد، متجاوِزًا الأديان، والأعراف، والمُعْتَقَدات، قاطعًا الصلةَ بالتُّراث والماضي، أشكالاً، ومقاييس، ومفهومات. وَتَلَقَّفَ هذه المواقف بعضُ منِ اشتهر مِن نُقَّادنا العرب، من أمثال: علي أحمد سعيد "أدونيس"، وبدر شاكر السياب، وعبدالوهاب البياتي، وصلاح عبدالصبور وغيرهم، وتَبِعهم بعض إخواننا المَغَاربة ممَّن أسماهم "شارل فيال" بـ"المَرَدَة الثوار"[14]. وقد أدَّى هذا المَذْهب بِأَصْحابه إلى تَجَاوُز المُقَدسات، والروغ على الثَّوابت، واستفزاز مشاعر المُتَدَينينَ في كل الأصقاع، حتى صار هذا التَّمَرُّد صُلب الفن، والعمود الفقري للشعر، الذي لا يستقيم إلاَّ باستحضار ثالوث المشكلات: "مشكلة الجنس": التي يرونها "مِن أعقد مشكلات الحياة العربيَّة، وأكثرها حضورًا وإلحاحًا"[15]؛ إذِ العالم ليس إلاَّ هوى الروح وجموحها، بحيثُ نَتَمَسَّك بالدنيا لا بالآخرة، بالأرض لا بالسماء[16]. "مشكلة الله": التي يرونها قمة مشكلاتنا، فالله هو الشَّخص، هو الإنسان الذي هنا، لا الله هو مقياس الأشياء"[17]، وما دام الأمر كذلك، فلا بدَّ منَ الخَلاص منَ المُقدَّس والمحرَّم، وإباحة كل شيء لِلْحرية"[18]. "مشكلة التراث والقِيَم": حيثُ ينبغي تحطيم كل ما هو ثابت فيهما وتفجيره، ومن ثَمَّ تجاوزه، و"الثقافة العربيَّة في جَوْهرها ثقافةٌ دينيَّة"[19]، "وكل ثقافةٍ دينيَّة هي بِطَبيعتها دائريَّة، ذِرْوَة التَّقَدُّم فيها هي طَقْس العودة الدائمة إلى الماضي، الحياة في هذه الثقافة ليستْ ممارسة دائمة للمُغامرة؛ بل بقاء في ظِل الحكمة والمَوْعظة"[20]. وحينما يدلفون إلى التُّراث الشِّعري العربي، تجدهم يقتنصون منه كل رَدِيء، وينقبون فيه عن كلِّ سخيف، ليجعلوه قمَّة الإبداع، والأنموذج الذي يجب أن يُحْتَذَى، فأدونيس يجد ملاذه في عَرْبدَة أبي نواس، ومَجانة ابن أبي ربيعة، مُناديًا: "إنَّ الانتهاك هو ما يجذبنا في شعرهما"[21]؛ بل يذهب أبعد من ذلك، حينما يدافع عن مذهب "satanisme - تمجيد الشيطان"[22]، ويَصْرخ قائلاً: "يَلْزَمُنا أن نُحييَ شِعر الشَّيطان"[23]. ولذلك أفصح "جان ماري جبو" - عالم الجمال - عن مُغَالاة أصحاب هذا الاتجاه حين قال: "إنَّ الفَنَّانين أنفسهم يساهمون اليوم في إنزال قيمة الفن، بما يذهبون إليه مِن جَعْل الفن شكلاً وصناعةً لا أكثر، حتى أصبح الشكل هو الغَرَض الذي ينصرف إليه اهتمامهم، وأصبح الفن يبدو حذقًا ومهارةً، لا نَظَريًّا فحسب؛ بل عمليًّا أيضًا"[24]. وهكذا صارَ أنصار مذهب "الفن للفن" لا يَرَونَ في الشِّعر إلاَّ ذلك الشَّكل الجمالي المتفلت من كلِّ القيود، إلاَّ ما ارتبط بالثَّورة على الماضي، والانقضاض على المُقَدَّسات. وبين هذا وذاك ضاعتْ رسالة الشِّعر، وتَلاَشَتْ وظائِفه الأساس. ولا أُخْفِي إحساسي بالضِّيق، وأنا أُطالِع أشعار شبابنا المَبْثُوثة في بعض المَلاحِق الثقافيَّة، أوِ الصادرة في دواوين صغيرة، أوِ "المَتْلُوَّة" في بعضِ المَحَافل والمُنَاسبات، فأرجع إلى نفسي - في كثيرٍ منَ الأحايين - مأسوفًا خائبًا من هذا الكم الهائل، الذي منه ما لا يمتُّ إلى عالَمِ الشِّعر بِصِلة، وإذا تلمست في بعضِه بوادر شعريَّة، صَدَّك ما اكتنفه من غُمُوض مقصود، وطلسمات مُفْرِطة في التَّعمية، وإذا انْحَسَر شيءٌ منه عن معنى منَ المعاني، وجدته أشباحًا محلقة في عالمٍ أفلاطوني، لا يكاد ينحاش لِوَاقع الأمة، لا تقرؤه أو تسمعه إلاَّ عن سَآمة، ولا يَنتفع بِبَعض فَلتاته إلاَّ مَن رزق الصَّبر على الإدامة، حتى صار أحدنا "يضطر أحيانًا لِنَبْش أكوامٍ منَ القَشِّ لِيَعْثر على حَبَّات القمح"، كما قال الشاعر الفلسطيني "محمود مفلح"[25]. وبين هؤلاءِ وهؤلاءِ، يشعُّ نور أفذاذٍ منَ الشعراء، يبثُّون بِمَوْهبتهم بَوَارق الأمل، ويَبْنُون بِقَرائحهم سرادقات الإبداع الحقيقي، فيفتر شعرهم عن كنوز تحقق الفيئة إلى سلامة الذَّوق، وإغاثة الشعر بِبُلالة الرصين منه، تذكرنا بهذا الماضي التَّليد، الذي غاظَ بعضَ نُقَّادنا أن تربطنا به شفافة بعد صب، ودرّة بعد حلب، من هؤلاء الشعراء "إسماعيل زويريق"، صاحبُ الدَّواوين الشائقة، والأضمومات الرَّائقة، التي أنافَتْ في مجموعها على الثلاثين. لقد وجدتُ في شعره بَلْسمًا لِجِراح الأمَّة، ومشاركة في قضاياها وهمومها، وربطًا لها بِأُصولها، وتذكيرًا بِثَوابِتها ومُعْتقداتها، مما جعله - في عمومه - نموذجًا للشِّعر الرِّسالي، الذي فَضَّ ما اشْتَجَر من مذاهب الشعراء، واستجلب أنظار مقانب[26] النُّقَّاد، حيث جمع ما بين مقومات الشِّعر الفنيَّة والمضمونيَّة، وبخاصَّة شعره الأخير، الذي أُتي فيه جمال المبنى، وسلامة المعنى، ضمَّنه ديوانًا في جُزْأَين، بِعُنوان "على النَّهج"[27]، لم يقنع أن يودعه أشعارًا مُستَقلَّة، حتى ارتقى فيه مناددة الشُّعراء المصادع، وأرباب البيان المصاقع، وفرسان المعاني اللَّوامع، من أمثال "كعب بن زهير"، و"البُوصيري"، و"ابن النحوي"، الذين طبقت قصائدهم الآفاق، وأصابت منَ الجودة والإبانة عين كل قرطاس. غير أنَّ شاعرنا "إسماعيل زويريق"، فَضَّل أن يرتقيَ هذا المرتقى الصَّعب، وأن يخوضَ هذا الغِمار الوعر، لا لكي يظهر بِمَظهر المقلد المحتشم، أوِ التلميذ التابع المُتَرَدد، القانع بِالغبار دون المعركة، المُكْتَفِي بالصَّدى دون الجلجلة، وإن أفصح عن تَوَاضعه، في مُسْتهل الجزء الثاني مِن "على النهج" مُصَرحًا: "أنَّ الفضل ليس إلاَّ للمُتَقَدم، وأنِّي لستُ بما أوتيتُ إلاَّ مثل متعلم"[28]؛ ولكن لينشد استقلاليته التي يَتَمَيَّز بها كما قال: "لقد اخترتُ أن أنحوَ ما يُمَكِّن قصائدي من أن تَحْظَى بما يبعدها عن أتْرابها، ويَنْأى بها عن ظلال نَظِيراتِها"[29]. ولا بأس أن أتعجَّلَ النتيجة بين يدي هذه الدراسة؛ لأُؤَكِّد ما نشده الشاعر، مِن أنه حَقَّق فعلاً ذاتيَّا، لم يكنْ ظِلاًّ للبُرْدة ولا لِنَهْجها، ولم يكن نسخة لا لِكَعْب، ولا للبوصيري، لقد كانت لامِيته، وميميته، وهمزيته، بِنَفس حديث، وأسلوبٍ جديدٍ، ومضمونٍ يَمْتَح منَ السيرة، ويغرف مِن أخلاق أشرف البَريَّة؛ لِيَضعه ضمادًا على جِراح الأمة، وغيثًا يستنبت به ما انْدَرَس مِن أمجادها، ومعينًا أخلاقيًّا يُرْوَى به الظَّمِئ في تِيه الشَّهوات، وَفَيافِي المَلَذَّات. لقدِ استطاع "إسماعيل زويريق" أن يضعَ ديوانه في مركز التَّقاطع بين الماضي والحاضر، الدِّيوان في شَكْله جاء عموديًّا مُخلصًا لِقَواعد الخليل، وفي مَضْمونه تناول نَمَطًا مطروقًا تحت ظلة النَّبَويات، أو شعر المديح النبوي؛ لكنَّه تناوله بِنَفَس جديدٍ، يجعل القصيدة تخاطِب وجداننا، وتستفز مشاعرنا، عَبَر العديد منَ المَحَطَّات المُعَاصِرة، التي كَشَفها بِمجس الطَّبيب الحاذِق، والدليل الخِرِّيت، راكبًا صهوة ما يمكن أن نصطلحَ عليه بـ"الوصف الارتحالي"، تمتزج فيه بلاغة المكان بِتَقاسيم الزمان، فأصاب في ذلك المَحَز، وطَبَّق المفصل، مما يطول بنا المَقام لو ذهبنا نُدَلل عليه ممَّا ورد في الديوان. وحُق له أن يفخرَ بِهَذا الصنيع، وهو يَتَحَدَّث عن هَمْزِيته قائلاً: "جسدتُ فيها تلك الرِّحلة الميمونة، تجسيدًا متح منَ الواقع فصوله، وأخذ منَ المعيش أحداثه، فهي صورة لِوَاقع عشتُه، ووعاء احتوى شُعوري الدَّفين، أذكى ذلك ما أثارته في نفسي بعد العودة ذكرياتها، فما استباحت نفسي الطمأنينة، حتى عبرت عن كل ذلك في هذه القصيدة، التي تَجَاوَزَتْ حدود الزَّمان والمكان، وما ركنتُ إلى الظِّل حتى اسْتَجْلَيْت منَ المحاسِن ما وَشَى بُرْدَتها، حتى استقام نَسِيجها على ما هي عليه، وبانَ لَفْظها مَنْظومًا بما أطمئن إليه"[30]. ولم تكن محبتي الشَّخصية للشَّاعر بِمَانعتي أن أردفَ إعجابي بما رأيته من هَنَّات غير مقصودة، تنبت هنا وهناك، وإن كان معظمها - في نظري - بَدَا مع الشُّعراء المُعارَضينَ، ولم تكن لِشَاعرنا فيها يد إلاَّ ما كان من متابعة تجد لها ألف عذر، بِفِعْل الانبهار بِهَؤلاء الشَّوامخ، الذين طلعتْ شمسهم، حتى لم يكد يبدو معها كوكب. لقد ثقف شاعرنا رسالة الشعر، ووظيفة فن القول، فلم يجعلْه زلفى لِمَنصب، ولا قُربانًا لجاهٍ أو سلطان، فالرَّجل مُتواضِع في مَسْكنه ومركبه، ومأكله، ومشربه، يقنع بما في يده، ولا يَشْرَئِبُّ عنقُه إلى ما في أيدي غيرِه، وهذه إحدى مُقومات الشاعر الرِّسالي الناجح، الذي يَعتبر الشِّعرَ مَكْرُمة لِصَاحبه، تُبَوِّئه مكانة لا يرتقي إليها المال ولا السلطان، يقول: عَدِمْتُ الشِّعْرَ مَكْرُمَةً إِذَا لَمْ يُبَلِّغْنِي عَلَى وَفْزٍ[31] مُرَادَا يَعِزُّ عَلَيَّ أَنْ أُلْقَى نَزُورًا[32] وَمِثْلِي لاَ يُصَدُّ وَلاَ يُعَادَى[33] فما جدوى الشعر إذا لم يصدع بِالحَق، وينتفض للدِّفاع عنِ المحارم؟! وكيف للشاعر أن يُلْفى بَكيمًا صموتًا "نزورًا" أمام قضايا الأمة الكبرى؟! وهل يصمد لها إلاَّ شاعرٌ خِنذيذ، بُهمة، مُفْلِق "لا يصد، ولا يعادى"، ويقول: هَذِي الأَحَاسِيسُ فِي شِعْرِي مُفَجَّرَةٌ تَشِفُّ عَنْ كَمَدٍ تَنْجَابُ عَنْ أَلَمِ أَطْلَقْتُهَا صَيْحَةً حَرَّى فَمَا سُمِعَتْ أَصْدَاؤُهَا فِي شِعَابٍ أَوْ ذُرَى عَلَمِ[34] فعلامَ إذًا يُوَظِّف هذه النعمة الجليلة في الغزل السافر، والوصف الفاضح، والمدح المتزلِّف، والهجاء الظالم، والرِّثاء الكاذب، وتغيب المضامينُ الشريفة، والقضايا العفيفة؟ يقول شاعرنا في الميميَّة: إِنِّي نَسَجْتُ قَوَافِي الحُبِّ مَادِحَةً وَغَيْرُ مَدْحِكَ يَوْمًا مَا جَرَى بِفَمِي[35] ويقول في المرتجية: أَرْجُو بِمَدِيحِي الْمَآلَ حَمِي دًا وَحُسْنَ الخِتَامِ عَلَى النَّهْجِ[36] ويقول في الهمزيَّة: مَا الَّذِي أُهْدِيهِ إِلَيْكَ وَمَا لِي غَيْرُ شِعْرِي هَدِيَّةٌ غَرَّاءُ مِنْ رِيَاضِ الشِّعْرِ البَهِيجَةِ صُغْتُ ال حُبَّ مَشْمُومًا شَدَّهُ الإِثْنَاءُ صُغْتُ فِي مَدْحِكَ الْقَوَافِيَ لَكِنْ مَا عَلَى مَدْحِكَ القَوَافِي وطَاءُ أَنْتَ فَوْقَ الشِّعْرِ الرَّصِينِ فَمَا فِي كَ القَرِيضُ الرَّصِينُ إِلاَّ مكَاءُ بِكَ رَاقَتْ نَضَارَةُ الشِّعْرِ رَوْقًا وَانْتَمَى مِنْ مَدِيحِكَ الأُدَبَاءُ نُورُكَ الضَّافِي دُونَه كُلُّ شِعْرٍ يَتَبَارَى فِي نَسْجِهِ الشُّعَرَاءُ[37] إنَّ الشاعر "زويريق" يوقفنا على حقيقة مُلِحَّة، وهي أنَّ الشِّعر لا بدَّ له من وظيفة، فهو وسيلة "تضع حدًّا لكل صراع قام على ما يطالنا من يأس، أو إحباط"[38]. والشِّعر يزرع الأمل في النفوس اليائسة، أمام تلاطم النَّكبات المُدْلَهِمَّة، وارتجاج الأزمات المطلخمة، "فالقصيدة - يقول زويريق - قد تعيد إلى النفس الأمل إذا أحسنا الإفصاح، لا شيء يمكن أن ينفذَ إلى مغاوير اللوعة تِرياقًا يهدئ مِن إيقاعها غيرُ القصيدة، لا شيء يمكن أن يواسيني - وأنا في ذِروة الأزمة - غيرُ القصيدة"[39]. والشعر عند "زويريق" دواءٌ للعاطفة، بَلْسم لجوانية هذا الجسد، الذي أثقلته هموم الحياة، وفرقته مجاديف الخطوب، ونهشه أنينُ الأحزان، وصرخاتُ المآسي، التي تقصف أعيننا، وتصك آذاننا عند مطلع كل يوم، يقول: "أريد أن يكونَ للشعر وجود لاهب، يسرني أن يكون في بلدي لكل ألف نسمة شاعرٌ، لم لا؟ ما دام هناك لكل خمسين ألف نسمة طبيبٌ، فمُدَاواة العاطفة أولى من مُدَاواة الجسد، الشعر يُطَهِّرنا مما علق بنا من أدران الحياة، الشعر قوسنا الذي نرمي به غرابين المآسي، وسيفُنا الذي نجهز به على رقاب تنانين الفضائح، الشعر مجدافنا النُّوراني، الذي نجدف به نحو المرفأ الآمن في خِضَم الحياة، كلَّما اهتاجتْ أمواجه الكاسرة"[40]. هذه بعض وظائفِ الشِّعر التي أبان عنها الشاعر زويريق إفصاحًا وتقريرًا، غير أنَّ ديوانه "على النَّهج" ضَمَّن وظائف أخرى لا تقل أهمية عما ذكر، سأحاول استعراضها في هذه الدراسة المُتواضِعة، معترفًا بأن الديوان يُحَاصِرني في كل قصيدة منه؛ بل في كلِّ بيت تطالعني إحدى الوظائف الكريمة، ناضحة بِسِحْر منَ البيان، مجللة بِغِشاء منَ المعاني الكريمة، مما يجعل النماذج المستعان بها انتقائيَّة، تَرِد مورد التَّمثيل لا الحَصْر، علمًا بأن تحديد وظائف الشعر أمرٌ تَكْتنفه الدوافع النَّفسيَّة، والحاجات الفنيَّة، فالخلاف فيه مُسْتَسَاغ، فَلْنُفْسِحِ المجال لأحد هذه الآراء، لا لتزيح التَّوجُّهات الأخرى، المُغْتَلِثة بِنَظريات الأدب المختلفة؛ ولكن تحقيقًا للتَّنَوُّع المثمر، وطرحًا للاقتناعات المختلفة، المدعومة بما يثبت جِدِّيتها، وقوتها على المنافسة في ميدان النقد الأدبي الفسيح. تَعَدَّدَت وظائف الشعر في ديوان "على النهج"، مما يصعب الإحاطة به في مثل هذه الدراسة التي لا تقصد الاستيعاب، بِقَدر ما تقصد وضع اليد على نماذج من هذه الوظائف المُحَدَّدة لِرِسالة الشعر عند "زويريق"؛ لذلك سأقتصر منها على أربع: يتبع
__________________
|
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |