|
ملتقى أعلام وشخصيات ملتقى يختص بعرض السير التاريخية للشخصيات الاسلامية والعربية والعالمية من مفكرين وأدباء وسياسيين بارزين |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() الخليل بن أحمد الفراهيدي: غني بعلمه عن العالمين أحمد الجوهري عبد الجواد ملوك بلا تيجان (5) كان والد الخليل بن أحمد الفراهيدي أوَّلَ مَن تسمى في الإسلام بـ(أحمد) بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم[1]، ولعل ذلك كان مِن الفأل الحسن لأهل هذا البيتِ المبارك؛ إذ قدَّر الله تعالى أن يكون لهم مع العبقرية والسبقِ إلى الإبداع تاريخٌ كبير، تمثل في الابن الخليل، الذي اخترع بمفرده خمسة علوم أو يزيد، لم يفضَّ أبكارَها أحدٌ قبله، ولم يطمثها إنس ولا جان! ولو أردنا أن نلقِّب حياة الخليل بلقب، لكان لقب "السِّباق" أحق بها من أي لقب آخر، فلقد كانت حياة الخليل عبارة عن حلبة سباق يسابق هو خلالها الأيام والليالي، بل الساعات والثواني؛ ليصنع عملًا جليلًا في حياته، ويترك أثرًا جديرًا به بعد مماته. ولو أردنا أن نصفَه هو بكلمة واحدة لقلنا: "المبدع"، فلم يكن سعي الخليل الحثيث هذا ليقدِّمَ عملًا ألِفه الناس، أو لينشئ عملًا عرَفه الناس، بل كان شرطه في أعماله أن تكون أثرًا جديدًا وفنًّا مبدعًا غير معروف. السباق والإبداع ذلك هو عنوان حياة الخليل وملخصها، مِن ثم رأيناه يخترع علم العَروض الذي يُعرَف به صحيح أوزان الشعر العربي من فاسدها، وما يعتريها من الزحافات والعلل، الذي استنبطه من أشعار العرب الأقحاح، بل أحدث فيه أنواعًا من الشعر ليست من أوزان العرب[2]. ورأيناه يخترع علم المعاجم، ويُؤسِّس لوضع أول معجم لُغوي يجمع شتات كلمات اللسان العربي، وهو "معجم العين" الذي أتمه بعده تلميذه الليث[3]. وفي طريقه لوضع المعجم وضع أُسُسَ علم الصوتيات، وكانت أعماله أول اللَّبِنات في بنيان العلم بهذا الفرع من فروع اللسانيات في الحضارة العربية. وكان للخليل فضلُ التوجيه إلى وضع قواعد علم النحو بواسطة تلميذه الأشهر وناشر علمه على الدنيا "سيبويه"، وذلك في كتابه الأجلِّ "الكتاب"[4]. وله أيضا اليد الطولى في تطوير نظام الضبط الكتابي؛ حيث اخترع وضع العلامات من حركات وسكون وشدة وغيرها فوق الحروف العربية، وكانت قبله على نحو يثير اللَّبْسَ ويعسر القراءة[5]. ولقد همَّ الخليل أن يضع نوعًا من الحساب السهل الميسور الذي تمضي به الصبية الصغيرة إلى البقَّال، فلا يمكنه أن يظلمها، وقد بقي يُعمِل فكره في ذلك حتى عاجلته المنيَّة ولحق بالرفيق الأعلى[6]. وكانت للخليل تجارب في الترجمة من اللغات الأخرى وفي الطب وغيرهما، ومَن يدري ماذا كان يصنع لو طال به الأجَلُ، فإنه كان عبقريًّا حقًّا، بل لا نخطئ إن قلنا: إنه كان عدة عباقرة اجتمعوا في شخص واحد. ولقد كان يمثل العبقرية في أسمى معانيها، وإن الحديث عنه ليثيرُ في النفس مشاعر الرغبة في الإبداع، ويؤز على العبقرية، ويبعث على النشاط والجد، إن استذكار مواقفه فقط يُعلي الهمة، ويشحذ العزيمة، لله درُّه! ولئن كانت هذه الصفات في الخليل تجعله يحتل مكانًا متقدمًا في العلماء والعظماء، فإن صفة أخرى عظيمة كانت فيه جديرة أن تؤهِّله ليكون من سادات هؤلاء العلماء والعظماء، وهذه الصفة العظيمة هي صفة العزة بالعلم، لقد كان الخليل يتمتع باعتزازٍ عظيم بعلمه بلَغ فيه حد الكمال، وظل وفيًّا لها إلى آخر نفَس في الحياة، فلم يُعلَم عنه أنه أذلَّ عِلمَه لشيء، لا لرياسة أو منصب، ولا لغنى أو مال، ولا لأحد كائنًا مَن كان! ولم يؤْثر عنه أنه سعى إلى أحد بعلمه، بل حين سعى إليه ذوو المال ورأى فيهم دلالًا عليه بمالهم، ترفَّع هو عليهم ولم يجبهم، وأعلن في صراحة أنه في سَعَة وأنه أغنى منهم، وإن كان في الحقيقة ليس له مال، لكنه غنيُّ النفس، والغنى بالنفس فوق الغنى بالمال. وجَّه إليه سليمان بن علي - والي البصرة - رسولًا يلتمس منه الشخوص إليه وتأديب أولاده نظير راتب يجريه عليه، وجاء الرسولُ الخليلَ وحدَّثه بما جاء لأجله، فماذا حدث؟ أخرج الخليل إلى رسول سليمان خبزًا يابسًا، وقال: ما عندي غيره، وما دمت أجده، فلا حاجة لي في سليمان. فقال الرسول: فماذا أبلِّغه عنك؟ فأنشأ الخليل يقول: أبلِغْ سليمان أنِّي عنه في سَعَةٍ ![]() وفي غنى غيرَ أني لستُ ذا مالِ ![]() شحًّا بنفسيَ أني لا أرى أحدًا ![]() يموت هزلًا ولا يبقى على حالِ ![]() وإن بين الغنى والفقر منزلةً ![]() مخطومة بجديدٍ ليس بالبالي ![]() الرزقُ عن قدَرٍ لا الضعفُ يَنقصُه ![]() ولا يزيدُك فيه حولُ محتالِ ![]() إن كان ضنَّ سليمانُ بنائلِه ![]() فالله أفضلُ مسؤولٍ لسؤَّالِ ![]() والفقرُ في النفس لا في المالِ نعرفُه ![]() ومثلُ ذاك الغنى في النفسِ لا المالِ ![]() والمالُ يغشى أناسًا لا خلاقَ لهم ![]() كالسيلِ يغشى أصولَ الدِّنْدِنِ البالي ![]() كل امرئٍ بسبيل الموت مرتهنٌ ![]() فاعمَلْ لنفسِك إني شاغلٌ بالي[7] ![]() فما كان من سليمان إلا أن قطع عن الخليل راتبه الذي كان له في بيت المال؛ ظنًّا منه أن ذلك يجعله يعيد التفكير فيذعن لمطلبه، وإذا لم يعده كانت تلك عقوبة له لازمة! وهذا يجعلنا نقف على السبب الذي لأجله فعل الخليل ما فعل، إنه لم يرَ في سليمان الشخص الذي يُعز العلم ويقدِّر العلماء، فلم يشأ أن يُذلَّ نفسه وعلمه عند مَن كان كذلك، ولعل الخليل كان يودُّ أنْ لو طلب إليه سليمان طلبه هذا بغير هذه الطريقة التي رأى فيها إنقاصًا من قدره، وإزراءً بمنزلته ومكانته، ما على سليمان إن دعاه إلى ضيافتِه فأكرمه ونعَّمه، ثم تقرب إليه في مجلسه وسما بمنزلته إلى منزلة الخليل، فحدَّثه بنفسه فيما يريد منه وما يطلبه إليه، لكنه وقد فعل ما فعله، تكشف لدى الخليل أنه لا يقدره، ولا ينزله منزلته اللائقة، أو هو يجهل تلك المنزلة، فكان منه إليه ذلك الردُّ السابق، وكان أن صدق سليمان ظن الخليل، وكشف عن نفسه وبواعثها، فأجاب بقطع راتب الخليل، فأساء بدلًا من أن يعتذر، فماذا كان رد الخليل؟ ما زحزح ذلك الخليلَ عن موقفه قِيدَ شعرة، بل زاده على الله اتكالًا، وبعلمه اعتزازًا، وأنشأ يقول: إن الذي شقَّ فمي ضامنٌ ![]() للرزق حتى يتوفاني ![]() حرمتني خيرًا قليلًا فما ![]() زادك في مالِك حرماني[8] ![]() وبلغت كلماته سليمان، فأقامته وأقعدته، وكتب إلى الخليل يعتذر إليه، بل ضاعف له راتبه، فقال الخليل: وزلة يُكثرُ الشيطان إن ذُكرت ![]() منها التعجُّبَ جاءت من سليمانَا ![]() لا تعجبنَّ لخيرٍ زلَّ عن يدِهِ ![]() فالكوكبُ النحس يسقي الأرضَ أحيانَا[9] ![]() لقد رأى الخليل الأمرَ على حقيقته إذًا، مكرمة من والٍ لأحد العلماء، يكون لها ما بعدها من آثار تترتب عليها، مِن أولاها خضوعُ النفس وتبعيتها لأحد قيادات السلطة التنفيذية، وتتوالى المخاطر التي لا يَعرف لطبيعتها وصفًا، ولا لنهايتها حدًّا، لكنه وإن لم يعرف طبيعة المخاطر وحدها، فهو يعرف قبل ذلك نفسه، ويعرف علمه، ويوقن أنه لا سبيل أبدًا إلى تمكينهما من ذلك، أو إذلالهما لأحد مهما يكن وتكن إكراماته، أو حتى عقوباته؛ ولهذا كان هذا الرد المباشر المختصر. والذي يجعلنا نرجح ذلك هو موقف الخليل نفسه بعد ذلك من دعوة الليث بن المظفر الكناني، حين استقدمه عليه في خراسان، فأجاب الخليل طلبه ولبَّى دعوته، وعاش زمنًا في جواره، وما ذاك إلا لأنه لمس في دعوة الليث له التماس الطالب الراغب، الذي يعرف قيمة مَن يطلبه، ويقدر ما عليه من معرفة وعلم، وليس كما فعل سليمان والي البصرة، ففرق بين الطلبين والطالبين؛ ولهذا وجد الفرق في الجوابين والردين. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |