فضل سيدنا علي رضي الله عنه - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         معركة جلولاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          وقفات مع سورة البلد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          مواقع التواصل الاجتماعي بين المنافع والمفاسد الفيس بوك ًانموذجاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          قلبٌ وقلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 76 - عددالزوار : 20662 )           »          ماذا أخفت منى عن أمها؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          الأخ المفقود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          أقبل الليل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          زد من حلمك عليها طوال حملها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 110 - عددالزوار : 107137 )           »          خواطرفي سبيل الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 74 - عددالزوار : 22095 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > الملتقى العام > ملتقى أعلام وشخصيات
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى أعلام وشخصيات ملتقى يختص بعرض السير التاريخية للشخصيات الاسلامية والعربية والعالمية من مفكرين وأدباء وسياسيين بارزين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10-11-2025, 05:03 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,390
الدولة : Egypt
افتراضي فضل سيدنا علي رضي الله عنه

فضل سيدنا علي رضي الله عنه -1-


الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني



اليوم تعالوا بنا نمضي هذا المجلس المبارك في حضرة سيدنا ومولانا الإمام علي رضي الله تعالى عنه وكرّم الله وجهه, أحد الأربعة الذين أجلسهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عباءته الشريفة, أهل العبا, وقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي) وقرأ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33]
إمام أهل الانجذاب في حضرة الله, الذي ينتسب إليه كل من تكلّم في المعرفة, ويتصل السند إليه عند كل من ذاق من أذواق المحبة وركن الإحسان.
وقد كنا ونحن نتحدث عن الثلاثة رضي الله تعالى عنهم جميعًا, نتناول الجوانب الثلاثة في حياتهم رضي الله تعالى عنهم, الجانب العملي الاتباعي السلوكي, والجانب الخُلقي, والجانب المعرفي, وكنا نأخذ اختصارات, لأن الحديث عن أيً من هؤلاء الذين هم كواكب أهل الأرض, ومصادر الأنوار بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, لا يمكن أن يكون إحصاءًا وحصرًا, إنما نأتي بأمثلة ليس إلا.
وفي حضرة سيدنا علي رضي الله تعالى عنه نبدأ بالجانب الأول, الذي هو جانب الاتباع السلوكي.
سيدنا علي رضي الله تعالى عنه كان نموذج الاتباع, بل إنه رضي الله تعالى عنه كان المثال في حال حضوره وغيابه في الاتباع, أي حينما كان في شبحه الجسماني مع حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مُتبِعًا, وحين كان بدنه بعيدًا عن بدن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كان صاحب الاتباع.
أما في حضور سيدنا علي في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنأخذ ما رواه الإمام مسلم رحمة الله عليه في صحيحه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا سيدنا علي رضي الله تعالى عنه في يوم خيبر, فأعطاه الراية, وقال له: (امشِ ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك) سيدنا علي رضي الله تعالى عنه يسمع من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم قوله: (امشِ ولا تلتفت) يسير سيدنا علي رضي الله تعالى عنه شيئًا, والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمره بعدم الالتفات لكن سؤالًا يدور في خلده, يريد أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فهو المُرسَل من الحبيب صلى الله عليه وسلم لتنفيذ أمر, ويريد بعض الاستفسارات في هذا الأمر, لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أمره ألا يلتفت, فكيف يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنه أمام أمرين اثنين, الأمر الأول الأدب المعتاد, عندما يريد الإنسان أن يسأل يلتفت إلى من سيسأله ثم يسأله, ولكنه أمام هذا الأدب المعتاد يقف فيتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلتفت) من هنا ظهرت المدرستان, مدرسة تقديم الأدب على الاتباع أو الامتثال, ومدرسة تقديم الامتثال على الأدب, حيث أن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لما تخلّف عن إمامته في الصلاة يوم أن ذهب يصلح بين الأنصار حين اختلفوا, ثم رجع فشقّ الصفوف حتى وصل إلى الصف الأول, وأدرك ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, وبدؤوا يضرب كل منهم يده على اليد الأخرى, سيدنا أبو بكر انتبه إلى هذا الضجيج, وعرف أن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم قد وصل, فأراد أن يرجع, فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقى مكانه, ليلتحق رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتديًا, لكن الصديق رضي الله عنه رجع ولم يمتثل هذا الأمر, رجع ثم تقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكمل الصلاة, وحين انتهى سيدنا أبو بكر من الصلاة قال: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومثل هذا حصل عندما قام الليل الطفل الصغير ابن عباس رضي الله عنهما في حجرة الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم, عند خالته ميمونة, حينما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقف بجانبه في الصلاة, ولكنه كان يرجع قليلًا فيجرّه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي, فيرجع قليلًا مرة أخرى, والنبي صلى الله عليه وسلم يجرّه بيده ليقف إلى جانبه, حتى يلاحظ كل حركة من حركات رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكنه عندما يجد نفسه حذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجع, ثم يجره رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرجع, في نهاية الصلاة قال له: ما لك, أجرك إلى جانبي ثم أراك تخنس. أي ترجع, فقال له ابن عباس -هذا الغلام الطفل رضي الله تعالى عنهما- قال: كيف أقف حذاءك وأنت رسول الله. لا يمكن أن يقف إلى جانبك أحد, ويقرّه رسول الله صلى الله عليه و سلم على ما يفعله.
وهنا سيدنا علي رضي الله تعالى عنه يقدّم لنا مدرسة أخرى في الاتباع, عندما يأمره رسول الله صلى عليه وسلم ويقول له: (امشِ ولا تلتفت) ولكن سؤالًا في قلب سيدنا علي يجول في خاطره.. يريد أن يسأل رسول الله, فيقف ولا يلتفت, ويرفع صوته ويصرخ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ أصبح بينه وبين الحبيب صلى الله عليه وسلم مسافة, لابد أن يرفع صوته, ولابد له أن يصرخ حتى يُسمع الحبيب صلى الله عليه وسلم, يقول وهو يصرخ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ يقول له صلى الله عليه وسلم: (قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله, فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله).
هذا المشهد قُدِّم لنا مع تقرير النبي صلى الله عليه وسلم, لأن السنة كما هو معلوم هي أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأفعاله صلى الله عليه وآله وصحبه سلم, وتقريراته, أي عندما أقرّه الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل له: لماذا لم تلتفت إليّ وأنت تسألني؟ عَلِم النبي صلى الله عليه وسلم منه شدة التمسك في الامتثال, فهو يمتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم في عدم الالتفات.
إذًا هما مدرستان, وأقرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدرستين, وقد تجلى ذلك في حوادث كثيرة, منها حادثة الحديبية, ومنها حادثة بني قريظة الشهيرة, عندما قال: (لا يُصلّين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) فقال بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نتعجّل, ولم يأمرنا بتفويت صلاة العصر, وقال بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نُصلّي العصر في بني قريظة فنحن نصلي العصر في بني قريظة ولو أذّن المغرب, والنبي صلى الله عليه وسلم أقرّ الفريقين ولم يعترض على أحدهما.
إذًا هاهنا يظهر الصديق رضي الله تعالى عنه إمامًا في مدرسة تقديم الأدب على الامتثال في بعض المواطن, لكن هذا لا يعني أن هذه المدرسة تخترق الواجبات وتوقع في المحظورات, إنما الأدب معناه شيء لطيف, شيء يتعلق بأخلاق النفس, يتعلق بما ينبغي أن يُظهره الإنسان من سلوك في باب الإحسان, ليس إلا, ولا يعني تجاوز الحدود, ويظهر سيدنا علي رضي الله تعالى عنه في تقديم الامتثال على الأدب رضي الله تعالى عنهما.
هذا في حال حضور سيدنا علي رضي الله تعالى عنه في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم.
الآن سوف نرى صورة أخرى عندما يكون سيدنا علي رضي الله عنه بعيدًا في شبحه وجسده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوافقه ويحرص على اتباعه.
وهذا تجلى عندما أهلّ في الحج بما أهل به سول الله صلى الله عليه وسلم.
عندما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج, كل من الأصحاب نوى نيّة, فبعض الأصحاب نوى الإفراد, و بعضهم نوى التمتع, وبعضهم نوى القِران, لكن سيدنا علي رضي الله عنه لم يُكلِّف نفسه أن يفكّر.. هل أنوي الإفراد.. أم أنوي القِران.. أم أنوي التمتع..إنما أهلّ بما أهلّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: نويت ما نواه رسول الله صلى الله عليه وسلم. أيش هي نيّة رسول الله, فنيتي موافقة لنيته.
ولذلك في الأحكام الفقهية يصح إذا كان هناك إمام للحج أن ينوي من كان في الركب أن يُعلّق نيته على نية إمام الركب, حتى لا يصبح شاذًا عن الركب..لأنهم إذا كانوا قد خرجوا في موكب عدده خمسة آلاف حاج مثلًا, وأحد هؤلاء الحجاج ليس له وصول إلى إمام الركب ولا يعرف خطة هذا الإمام, فيجوز له أن يعلّق نيته على نية الإمام.. هذا ما فعله سيدنا علي رضي الله عنه..
أين فعل ذلك؟ عندما أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن.
وقد كنت في إحدى الأسفار, ورأيت المسجد الذي هو رابع مسجد في الإسلام, الذي أسسه سيدنا علي رضي الله تعالى عنه في صنعاء, عندما ذهب سيدنا علي إلى صنعاء ليحضر بُدن النبي صلى الله عليه وسلم, أي الجِمال التي سينحرها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد أرسله ليشتري مائة من الإبل, حتى تكون هديًا في حج النبي صلى الله عليه وسلم, فعندما ذهب سيدنا علي رضي الله عنه أسس هذا المسجد, وهو رابع مسجد في الإسلام في صنعاء, المسجد الأول: مسجد قباء, المسجد الثاني: مسجد الجمعة, المسجد الثالث: المسجد النبوي, المسجد الرابع: المسجد الذي أسسه سيدنا علي رضي الله عنه, وهو من أكبر المساجد في العالم, مسجد كبير جدًا, وعندما جاء عهد سيدنا علي رضي الله عنه اعتنى به, وعندما جاءت العصور المتعاقبة كان الخلفاء يعتنون بهذا المسجد, وهو قائم إلى يومنا هذا, فهو رابع مسجد في الإسلام, أسس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم, رابع مسجد في الإسلام أي بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم, فنحن لا نعد المساجد التي كانت قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم, إنما نتحدث عن المساجد التي بُنيت وأسست بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهكذا يظهر في هذه الحادثة كيف يمكن للإنسان أن يستثمر حركته ليملأها بأمور كثيرة, هو أُرسل من أجل أن يشتري الجمال, لكنه لم يكن يدخر جهدًا, إنما كان يُعلّم, وكان ينشر الدعوة إلى الله, وكان فيما كان في رحلته تلك, أنه أسس مسجدًا ما يزال إلى هذا الوقت مسجدًا من أكبر مساجد المسلمين.
إذًا هذه الحادثة نقرأها في صحيح البخاري, حادثة لا نأتي بها من ضعاف ما نُقل ورُوي, إنما نرويها من صحيح البخاري عن سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما, يقول: قَدِمَ عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ وَمَعَهُ هَدْيٌ فَقَالَ أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا مشهد يُظهر الاتباع في حال الغياب, فقد رأينا صورة ومشهدًا في حال الحضور, وهذا مشهد آخر يُظهر الاتباع, ويُعلّمنا صورة من صور الاتباع..
الآن قضية الاتباع هذه قضية عظيمة, اليوم ربما يتساهل بعضنا في هذه القضية الكبيرة, ينبغي أن يكون حاضرًا في قلوبنا وعقولنا وأرواحنا أن أعظم ما هو في مجال السلوك العملي ما فعله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام, هذا ينبغي أن يكون من المُسلَّمات عند الكبار والصغار, أن تُقصِّر في الاتباع هذا شأنك, لكن مع تقصيرك بالاتباع اعترف بأن السلوك الأعلى والأمثل والأفضل والأحلى والأسمى والأغلى هو سلوك سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
لذلك فإن أهل العِلم قالوا: العاصي الذي يعصي الله نوعان: أحدهما: عاصي يعصي وهو لا يحضر في قلبه أنه يعصي, أي لا يحضر في قلبه معنى المخالفة, هو يعصي وشهوته تسوقه إلى المعصية, لكنه وهو في حال معصيته يدرك أنه مُتلطّخ بالنجاسة, قال هذا عنده جزء ظاهر اسمه معصية, وعنده جزء باطن اسمه طاعة, لأنه يعتقد أن ما فعله إنما هو من النجاسات, إنما هو من القاذورات التي يتلطّخ بها أهل المخالفات, فهذا الشعور الباطن في قلبه جعله بين أمرين: طاعة باطنة ومعصية ظاهرة, قال أهل العِلم: فيأتي الاستغفار ليُغلِّب جانب الطاعة, فتغلب الطاعة المعصية.
والثاني: هو الذي يعصي الله ومعنى المخالفة حاضر في قلبه, فهذا في معصية ظاهرة وباطنة.
وهكذا عندما يشعر الإنسان في باطنه أن أكمل شيء هو ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم, أكمل شيء في السلوك, أكمل شيء في الطعام, أكمل شيء في اللباس, أكمل شيء في صورة العبادة, أكمل شيء في هيئاتها.. ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإذا حضر هذا في قلبه, بعد ذلك إن قصّر. يستغفر الله تعالى.
الشافعي رحمه الله قال: نتف الإبط سنة, ولا أقوى عليه. فكان يحلق حلقًا, والسنة أن يقوم بالنتف, قال: هو سنة -أنا أعترف أنه سنة لكني- لا أقوى عليه.
هكذا يبقى المثال والنموذج الحاضر, أما أن يأتي من يُفرّق ويقول: إن بعض الأشياء التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم جِبلِّيّة لا يمكن لنا أن نعدها في الفضائل.. وهناك سلوك آخر هو سلوكه الذي هو في العبادة أو في أمره صلى الله عليه وسلم في العبادة... فهذا من الجهل, وهذا من البُعد, إن لم نقل من الجهل فهو من البُعد عن حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أحد أهل الله قال ولده: لا أحب الدُبّاء.. أبوه يقول له: تعال وكُل, الدباء أكله رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال الولد: لا أحبه. فما كلّمه هذا الأب بعد ذلك, ما كلّم ولده.. قال: كيف يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا ولا تحبه, أنا أقول لك: رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذا وتقول لا أحبه.. فما كلّمه بعد ذلك حتى مات.
هكذا كانت أحوالهم, هكذا كان تعظيم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في قلوبهم, كل قول قاله فهو أعلى الأقوال, وكل فعل فعله فهو أعلى الأفعال, وكل حال كان مُحقَقًا فيه فهو أعلى الأحوال, هذا لا يعني كما قلت أننا في كل الأحوال يجب أن نكون على هذا المستوى, فقد نكون مُقصِّرين أو نكون أقل من أن نتحقق بهذا, لكن مع الاعتراف الشعوري القلبي, وقد أشرت فيما مضى إلى الصورة التي كان عليها المسجد النبوي, وهذا لا يعني إلغاء الصورة التي نحن فيها, أو أنها صورة قبيحة, وما رأى المسلمون أنه حسن فهو حسن, لكن يبقى في قلوبنا شعور أن ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أكمل وهو أعظم, وقد رأيت في الدراسات الحديثة جدًا جدًا جدًا ما يتحدث عن الفوائد الصحية عندما يضع الإنسان أعضاءه على التراب, الأصل في المسجد النبوي كانوا يسجدون على الأرض, جباههم وأقدامهم وأيديهم كلها على الأرض, عندما بدأت الدراسات الحديثة تتحدث عن الحقل المغناطيسي الأرضي, وعلاقة هذا المغناطيس بالأرض, وعلاقة هذا المغناطيس بالبدن الإنساني, بدؤوا يتحدثون عن هذه الصلة التي تحصل في الصلاة عندما يسجد الإنسان على الأرض, وأن الفائدة الصحية التي تحصل عندما يسجد الإنسان على حائل بينه وبين الأرض هي أقل, هذا لا يعني أننا نمتنع عن السجود على السجاد, لكننا نعتقد أن ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل, واليوم يظهر في البحوث التي يبحثها العلماء ما يثبت هذا, علماء الكون يقولون: هذا السجود على الأرض فيه الكثير من الفوائد, قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مظهر الحق.
كان صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يتعهد سيدنا عليًا رضي الله عنه بعناية خاصة مع زوجته ابنته الزهراء البتول, القمر فاطمة رضي الله تعالى عنها, كان يأتي في السحر صلى الله عليه وسلم بنفسه إلى دار سيدنا علي والسيدة فاطمة, الزوجين الحبيبين, وما فعل هذا مع أحد أبدًا. النبي عليه الصلاة والسلام ما قرع باب أحد وقال له: قُم يا هذا إلى صلاة الليل.. أبدًا, هذا لم يفعله صلى الله عليه وسلم إلا مع سيدنا علي والسيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنهما.
هذا أمر لا يتخيله العقل, عندما يأتي سيد الكائنات, سيد الكون, سيدنا محمد, أحب خَلق الله إلى الله, فيقرع الباب ويقول: إلى الصلاة, ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا مع أحد.
قلت سابقًا: لماذا كنت أميل إلى أن لا نذهب إلى التفاضل بين الصحابة؟ إن سيدنا أبو بكر رضي الله عنه فيه من الخصوصيات ما ليس لغيره, وسيدنا عمر رضي الله عنه فيه من الخصوصيات ما ليس لغيره, وسيدنا عثمان رضي الله عنه فيه من الخصوصيات ما ليس لغيره, لم يتكرر لغيره, وسيدنا علي رضي الله عنه فيه من الخصوصيات ما ليس لغيره, فهم الأربعة أقمار الدنيا, أقمار الكون, أقمار الآخرة, هم أفضل الخَلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة.
يقول سيدنا الحسين رضي الله تعالى عنه: سمعت أبي -أي سيدنا علي رضي الله عنه- يقول: أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائم وفاطمة, وذلك من السحر, في وقت السحر, حتى قام على باب البيت فقال: ألا تصلّون النبي عليه الصلاة والسلام يوقظ سيدنا عليًا, لأنه وقت تنزّل الرحمات, وقت تنزّل الأنوار, الوقت الذي ورد فيه أن المولى ينزل فيه في الثلث الأخير من الليل نزولًا يليق به, ويقول: هل من مُستغفر فأغفر له, هل من سائل فأعطيه.. هذا الوقت لو أننا جرّبنا القيام فيه فإننا لن نتركه.. يا شباب جربوا.. قوموا في السحر.. ناموا وقوموا في السحر.. وليكن بينكم وبين الحق تبارك وتعالى لحظات وصال, اسجدوا في أعتاب الحق, وقولوا: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت, خلقتني وأنا عبدك, وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت, أعوذ بك من شر ما صنعت, أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) هذا سيد الاستغفار, انطرح في أعتاب الله, واسفح مدامعك وأنت ساجد, سترى أن حياتك تتغير.
لماذا أصبحنا جثث هامدة؟ لأننا غفلنا عن خصوصيات الزمان والمكان والأشخاص, هذه خصوصية في وقت خاص, المولى يقول لك فيه.. يا فلان ما تريد أن أغفر لك.. يا فلان أليس عندك حاجة تطلبها مني.. يا فلان ارفع يديك إلي فأنا أريد أن أعطيك..
هذا الوقت الخاص, هذا الوقت العجيب, الذي يكون فيه قرب, ويكون فيه وصال.
وروى أيضًا من هذا البيت الطاهر سيدنا الحسين عن أبيه رضي الله عنهما قال: (أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وضع رجليه بيني وبين فاطمة..) الراوية الأولى: قرع الباب وقال ألا تصلون, الرواية الثانية: دخل صلى الله عليه وسلم إلى البيت ووضع رجليه بين سيدنا علي وبين السيدة فاطمة وهما مضطجعان, قال: (فعلّمنا ما نقول إذا أخذنا مضاجعنا, ثلاث وثلاثين تسبيحة, وثلاث وثلاثين تحميدة, وأربع وثلاثين تكبيرة) يقول سيدنا علي: (فما تركتها بعد).
إنه يحافظ على الأوراد, يحافظ على العهد الذي بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان رضي الله تعالى عنه كما يروي صاحب الحلية أبو نُعيم يعجبه من اللباس ما قَصُر, ومن الطعام ما خَشُن, وكان زمان خلافته رضي الله عنه في محرابه قابضًا على لحيته, يتململ تململ السليم -يعني كأنه ملدوغ قد لدغته أفعى- ويبكي بكاء الحزين, ويقول: يا ربّنا يا ربّنا.. يكررها ويتضرع إلى الله, ثم يقول للدنيا: إليّ تغررت, أي تريدين أن تضحكي عليّ وتخدعيني, إليّ تشوفت, أي تركت الناس كلهم وتتطلعين إليّ لعل المكانة تنزلني منازل الأشقياء, أنا على ما أنا عليه في عهد الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام, إليّ تغررت, إليّ تشوفت, هيهات هيهات, غُرّي غيري, قد بتتك ثلاثة, يعني طلقتك طلاقًا بائنًا ثلاثًا فلا تحلين لي ولا أحل لك, فعمرك قصير, ومجلسك حقير, وخطرك يسير, يعني لا قيمة لك, آه آه من قلّة الزاد -هذا حديث المحراب وهو في المحراب يقول- آه آه من قلّة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق.
وعندما علّق صاحب الحلية على ما تقدّم قال: هو سيّد القوم, مُحِبُّ المشهود, ومحبوب المعبود, رأس المخاطبات, ومُستنبِط الإشارات, المُنْبِئ عن حقائق التوحيد, المُشير إلى لوامع عِلم التفريد, الأُخيشن في دين الله, الممسوس في ذات الله.
يعني الذي لقي الشدائد والمحن وهو ثابت, كأنه يقول :إذا كان هذا ما يرضيك يا ربّ, فأنا على ما تريده.
قيل له: ألا تتخذ حارسًا؟ فقال: خير حارس أجلي. وكان يقول:
أي يومين من الموت أفِر
يوم لا يُقدَر لا أرهبه
يوم لا يُقدَر أم يوم قُدِر
ومن المقدور لا ينجو الحذِر

هذا هو الجانب الأول, الجانب السلوكي الاتباعي العملي, في حياة الإمام سيدنا علي رضي الله تعالى عنه, هناك جانبان: جانب الأخلاق وجانب المعارف والأذواق, لعلنا نُكمل فيما يأتي إن شاء الله.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 14-11-2025, 12:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,390
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فضل سيدنا علي رضي الله عنه

فضل سيدنا علي رضي الله عنه -2-


الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني


ذِكْر النماذج من غير الرُسل عليهم الصلاة والسلام, مع يقيننا بأن العِصمة لا تكون إلا للرُسل عليهم وعلى نبيّنا أفضل الصلاة وأكمل التسليم, ذِكْر هذه النماذج التي كانت على الاستقامة باختيارها, وكانت في الأخلاق باختيارها, توجّهت إلى معرفة الله تبارك وتعالى باختيارها, ذِكْر هذه النماذج حُجّة علينا, ومُحفِّز لنا, لأننا حينما نذكر ما يعتقده أهل السُنّة والجماعة في فضل سيدنا أبي بكر وإمامته, وفضل سيدنا عمر وإمامته, وفضل سيدنا عثمان وإمامته, وفضل سيدنا عليّ وإمامته, حينما نذكر ذلك نذكره ونحن نرى نماذج بشرية, المماثلة بيننا وبينها قائمة لأنهم في تركيب غرائزهم ونفوسهم ماثلونا في استعداداتهم البشرية, ماثلونا لكنهم كانوا أعقل منا, لأنهم وجّهوا قلوبهم إلى الله, واستخفوا بالدنيا, وعَلِموا أنها ليست لحيّ سكنًا, لذلك جعلوها لُجّة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنًا.
إذًا حين نتحدّث عن الرُسل عليهم الصلاة والسلام, نتحدث عن نوح, نتحدث عن موسى, نتحدث عن إبراهيم, نتحدث عن زكريا, نتحدث عن أيوب عليهم الصلاة والسلام, فنحن نذكر من وجبت له العِصمة, لأن الله سبحانه وتعالى جعلهم نموذجًا وقدوة لنا في الثبات على الحق في الشدائد, في شكر الله في الرخاء.. إلى آخر ما هنالك, لكننا عندما نتحدث عن النماذج التي لا تجب لها العصمة, ومع ذلك نرى حفظها, ونرى أنها وقفت ثابتة في الحق, الدنيا تُقبل عليهم وهم يعرضون عنها بقلوبهم, الخَلق يقبلون عليهم لكنهم يعرضون عنهم بقلوبهم, هم في السلوك على الموافقة والاتباع لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهم في الأخلاق يتأسون بأخلاقه الشريفة صلى الله عليه وسلم, وهم في الأحوال أصحاب التوحيد والتوكّل والاعتماد على الله, هذا يكون حُجّة علينا وفي نفس الوقت يكون مُحفِّزًا لنا.
وقلت: لا ينبغي أن يحتجّ أحد ويقول: هؤلاء خصوصيتهم أنهم اجتمعوا بأشرف خَلق الله.
نعم هذا أعطاهم فضلاً حيث كانوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم, لكن ذلك لم يكن مُلغِيًا لما يعانونه من كل الشدائد, وهم بعد ذلك ثبتوا, وهم بعد ذلك وقفوا على الحق, ونحن وجود النبيّ صلى الله عليه وسلم الاعتباري حاضر عندنا, لأن الله سبحانه وتعالى قال لنا إشارة: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} [الحجرات: 7] وهذا نص إلى يوم القيامة, ونبّهنا صراحة عندما ألزمنا الصلاة والسلام على النبيّ صلى الله عليه وسلم بكاف الخطاب ونحن نُسلّم عليه صلى الله عليه وسلم بقولنا في الصلاة: (السلام عليك أيها النبيّ), وهذا لا يمكن لعاقل أن يفوته مثل هذا التنبيه الصريح الواضح.
إذًا الوجود الاعتباري المعنوي حاضر, لأن القرآن الذي نزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بيننا, وما بقي إلا أن نرى سلوك النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخلاقه في المؤمنين, عندما يلتزم المؤمنون القرآن الكريم ومحبة الحبيب صلى الله عليه وسلم, يظهر في سلوكهم وفي أخلاقهم وفي أحوالهم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام, لأنهم يكونون مظاهر لهذا النموذج الكريم عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم, كما كان صلى الله عليه وسلم ظاهرًا في أخلاق أصحابه وفي سلوكهم.
وكنا تحدثنا فيما مضى عن جانب في حياة سيدنا عليّ رضي الله تعالى عنه, وهو جانب الاتباع والاستقامة, أي الجانب العملي, وبعد أن تحدثنا عن هذا الجانب العملي وأخذنا بعض النماذج وبعض الأمثلة الدالّة على قوة اقتدائه بالحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام, وامتثاله لأمره والاستقامة على شريعته, ننتقل إلى جانب آخر باطن في حياة سيدنا عليّ رضي الله تعالى عنه, ونأخذ أيضًا أمثلة:
كان رضي الله تعالى عنه مما يُميّزه أنه تَرفَّع عن الدنيا, تَرفّع عنها وكان فوقها بحاله, وهذا أيها الإخوة جانب ينبغي ألا نهمله في تربيتنا السلوكية, عندما أراد الله سبحانه وتعالى أن يرجِّح حبيبه صلى الله عليه وسلم عندما ابتعثه قال له: {وَلَلآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى: 4]
فلنصدق مع أنفسنا في هذا السؤال, وليسأل كل واحد منا: هل الآخرة عندنا مُقدَّمة على الدنيا, أم الدنيا عندنا مُقدَّمة على الآخرة؟
هذا سؤال ينبغي على كل واحد منا أن يصدق مع نفسه في سؤال نفسه, ويطلب منها الجواب, هل الآخرة عندكِ مُقدَّمة على الدنيا, أم أن الدنيا مُقدَّمة عندكِ على الآخرة؟
إذا كانت الدنيا العاجلة مُقدَّمة عندنا في مكاسبها على الآخرة, المعادلة خاسرة, وإذا كانت الآخرة الآجلة مُقدَّمة في المعادلة عندنا, إذًا المعادلة رابحة.
هذه قضية مهمة..
ثم إن الله سبحانه وتعالى عندما تحدّث عن خصوصية الرُسُل عليهم الصلاة والسلام قال: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ..} أي اصطفيناهم واجتبيناهم بوصف عظيم ينبغي أن يتنبّه إليه أهل الإيمان {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46]
الدار هنا: الآخرة. أي أن الله سبحانه وتعالى خَصّ رُسله وخصّ أنبياءه بوصف ملازم لهم, لا ينفك عنهم, وهو أنهم يستصحبون تذكُّر الآخرة في كل حركة من حركاتهم, فإذا أراد أن يبيع تذكّر الآخرة, وإذا أراد أن يشتري تذكّر الآخرة, إذا أراد أن يدخل المسجد تذكّر الآخرة, وإذا أراد أن يدخل إلى السوق تذكّر الآخرة, وإذا أراد أن يدخل إلى بيته تذكّر الآخرة.. هذا يقوّم السلوك.
تصوروا لو دخل الإنسان إلى بيته في أي لحظة, فوجد منبهًا يذكره بالآخرة كيف سيكون حاله؟ لو أن أصحاب المصانع التي تصنع المنبهات اليوم يصنعون منبهات في كل فترة تذكّر بالعرض والحساب, وأنك في هذه اللحظة يمكن أن تقف بين يديّ الله, الساعة التاسعة.. العاشرة.. الحادية عشرة.. وأنت جالس في أمسيتك.. تشاهد المحطات المختلفة.. تتكلم في الغيبة والنميمة.. وتتعالى على الخَلق.. وتلوك أعراضهم..و..و..و.. فجأة ضع نفسك أمام هذه الحقيقة, الآن أنت مُحاسَب, الآن في هذه اللحظة سوف تقوم القيامة وتُفتح صحائفك وتُنشر, وتقف بين يديّ الله.. إنك مباشرة سوف تُقوّم سلوكك, تقول: لا.. هذا خطأ.. هذا صواب.. مباشرة سوف يسوقك تذكّر الآخرة المباغت المفاجئ إلى تقويم السلوك, لذلك لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يُقوّم سلوك رسله عليهم الصلاة والسلام فإنه سبحانه وتعالى ذكّرهم في كل لحظة في كل نَفَس بالآخرة, وقال: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} فكانوا في كل أوقاتهم يلاحظون الآخرة, ولا يغفلون بسبب الدنيا عن الآخرة.
هذا الوصف السني العليّ الذي ينبغي أن يدخل إلى حياتنا, وينبغي أن يُذكّرنا بما يقوّم سلوكنا, هذا مهم جدًا, وهذا من الأوصاف التي تميّز بها سيدنا عليّ رضي الله تعالى عنه.
سيدنا عليّ رضي الله عنه كان وصفه الزُهد, وكان وصفه التواضع.
يروي البخاري عن سهل بن سعد, قال: ما كان له -يعني ما كان لسيدنا علي- اسم أحبّ إليه منه, وهو اسم أبو تراب.
أبو تراب كان أحبّ الأسماء إلى سيدنا عليّ رضي الله تعالى عنه.
هذا تنبيه عجيب, وتنبّه فَطِن من سيدنا عليّ, إذا المصطفى عليه الصلاة والسلام نبّهنا إلى هذا الأصل, عندما قال صلى الله عليه وسلم: (كلكم بنو آدم وآدم من تراب) فالإنسان إذا أردنا أن ننسبه, ننسبه إلى أصله, نقول له: يا أبا يوسف.. يا أبا عدنان.. يا أبا أحمد.. يا أبا محمد.. نسبة إلى أبيه, فإذا أردنا أن نكرمه, نُذكّره بأصله, وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم استثمر حادثة رآها في المسجد فقال لسيدنا عليّ: (يا أبا تراب).
هذه الحادثة في صحيح البخاري يقول: (دخل عليّ على فاطمة ثم خرج, فاضطجع في المسجد) حدث بين سيدنا عليّ والسيدة فاطمة شيء من الجفاء العاجل العابر, فخرج من البيت وأراد أن يرتاح, يعني بدلاً من أن يُصعّد المشكلة بينه وبين زوجته, فرّ إلى الله, دخل إلى بيت الله, إذا بدأت مشكلة بينك وبين زوجتك, أو بينكِ وبين زوجك, الجأ مباشرة إلى بيت الله, فإنك تجد هناك السكينة والرحمة, بدلاً من أن يستثمر الشيطان هذا الخلاف ويُصعّده..
دخل سيدنا عليّ على فاطمة بعد أن كان بينهما شيء من هذا الجفاء الذي ذكرنا, خرج فاضطجع في المسجد, جاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيت السيدة فاطمة, أين عليّ؟ سأل فاطمة: (أين ابن عمّك؟) قالت في المسجد. السيدة فاطمة تعرف.. أين سيذهب سيدنا عليّ.. إذا خرج من البيت, أين سيذهب؟ سيذهب إلى المسجد, لأنه لا يأوي إلا إلى الله, وخرج إلى المسجد, قالت: في المسجد. النبيّ عليه الصلاة والسلام يريد أن يُصلح بينهما, وأن يُعيد الود والمحبة التي لم تنقطع, لكن حصل طارئ وعارض, وهذا من واجب الآباء, الأب إذا رأى ابنته في حالة من الجفاء مع صهره, من الواجب الشرعي أن يُعيدهما.. وليس أن يقف مع ابنته ومع الشيطان حتى يُزكي الخلاف, وحتى يصب على النار الزيت أو الوقود.. هذا ليس من أخلاق أهل الإسلام, إنما من واجبات والد الزوجة, ليس والد الزوج.. انتبهوا هذا واجب شرعي كثير من الناس لا يعرفونه, والد الزوجة واجب عليه شرعًا أن يعيد الود إلى الزوجين, فلا يعتني بالخلاف بين الزوجين إلا أبوها, لأنه ربّاها على الأخلاق الحسنة, سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أين ابن عمّك) قالت: في المسجد. فخرج إليه فوجد رداءه قد سقط عن ظهره, وخَلُص التراب إلى ظهره - كان المسجد النبوي أرضه تراب- فجعل يمسح التراب عن ظهره, سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الكائنات يمسح التراب عن ظهر سيدنا عليّ رضي الله تعالى عنه, ما أحلى هذه الصورة التي نرى فيها سيد الكائنات رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بيده الشريفة ظهر سيدنا عليّ, يمسح التراب عن ظهره فيقول: (اجلس يا أبا تراب, اجلس يا أبا تراب) فكان سيدنا عليّ رضي الله عنه يحب هذا الاسم أكثر من كل أسماءه, وهذا صحيح من حيث الظاهر النبي عليه الصلاة والسلام قال له: (يا أبا تراب) وما قالها لغيره, وقد رأى كثيرًا من أصحابه قد وصل التراب إلى أجسادهم, لكنه أراد أن يُذكّره بأصله, هذا أصل كل البشر {خَلَقَ الانْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14] وقال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]
فذكّره بهذه النسبة الترابية, وهذا يُلصقه دائمًا بوصف العبودية, عندما يرى الإنسان أنه مُجانِس للتراب, فهذا سوف يضعه في وصف من أوصافه, وهو الزُهد في الدنيا والترفع عنها, والتعالي فوق النِسَب المادية.
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَنْتُمُ الاعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] يعني الإيمان وحده هو الذي يرفعك فوق التراب {وَأَنْتُمُ الاعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} الإيمان يرفعك فوق العبودية للتراب, فوق النسبة إلى التراب, لكن عندما يكون الإنسان لصيق المادة, عندما يكون الإنسان عبد المادة, فإنه لا يمكن أن يكون في الرتبة العَليّة, تنبّهوا إلى أن الله سبحانه وتعالى وصف السماء بالمرفوعة, ووصف الأرض بالموضوعة, عندما قال: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} [الرحمن: 7] وقال: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا} [الرحمن: 10]
إذًا الأرض الترابية موضوعة, وأما السماء فهي مرفوعة, فأنت بروحك مرفوع, روحك سماوية, روحك مرفوعة, وجسدك موضوع.
وهكذا عندما تتذكّر هذه النسبة الترابية فإنك تتواضع لله سبحانه وتعالى.
دخل مرة رضي الله عنه إلى بيت مال المسلمين, نظر.. وجد مالاً كثيرًا في بيت مال المسلمين, فقام بتوزيع كل ما في بيت مال المسلمين على الفقراء, أصدر أمر وزعوا كل ما في بيت مال المسلمين, وبعد أن فرّق كل ما في بيت مال المسلمين على الفقراء, كَنَسه وصلّى فيه, ما بقي في بيت مال المسلمين لا صفراء ولا بيضاء, الصفراء ذهب, والبيضاء دراهم, دنانير ودراهم, ولما انتهى قال: يا صفراء ويا بيضاء غُرّي غيري. يعني لن تجدي لك مكان في قلبي, غُرّي غيري.
رأى الناس بعد زمن من انتقال النبيّ عليه الصلاة والسلام قد افتتنوا بالدنيا, فذكّرهم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحوال أصحابه, صلّى الصبح ثم لبث في مجلسه حتى ارتفعت الشمس قيد رمح, كأن عليه كآبة, كئيب.. وهو ينظر إلى أحوال الناس والخصومات التي بينهم.. ثم قال: لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أرى أحدًا يُشْبههم, والله إن كانوا ليصبحون شُعثًا غُبرًا صُفرًا, قد باتوا يتلون كتاب الله, يراوحون بين أقدامهم وجباههم -يعني تارة في القيام وتارة في السجود- إذا ذُكر الله مادوا كما تميد الشجرة في يوم ريح, فانهملت أعينهم حتى تَبُلّ والله ثيابهم, والله لكأن القوم باتوا غافلين. نقل ذلك أبو نعيم بسنده في الحِلية.
وبلغ به الترفّع عن الدنيا والزُهد فيها أنه وقع في فاقة وفي حاجة, وهو أمير المؤمنين, فنزل إلى السوق ليبيع سيفًا من سيوفه التي قاتل بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ليشتري بثمن هذا السيف ما يسد حاجته, وهو أمير المؤمنين, نزل إلى السوق وقال: من يشتري منّي هذا السيف, فو الذي فلق الحبّة لطالما كُشف به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولو كان عندي ثمن إزار ما بعته. الإزار: هو الثوب الذي يُربط على الوسط من أجل أن يستر العورة, يقول سيدنا عليّ وهو يُقسم: والذي فلق الحبة لو كان عندي ثمن إزار ما بعته. هذا هو حال سيدنا عليّ رضي الله عنه.
ولما وصفه صاحب اللُمع السراج الطوسي قال في وصفه: من لا يحوم حول الدنيا, وإن جُمعت عليه من غير طلبه, فرفضها وهرب منها, فإمامه في ذلك عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.
شيّع مع الناس جنازة يومًا من الأيام, فوجدهم يعجّون عند القبر بالبكاء على صاحب الجنازة, فقال: ما تبكون؟ أما والله لو عاينتم ما عاين ميّتكم, لأذهلتكم معاينتكم عن ميّتكم. أي: أنتم مشغولون بميّتكم الذي رحل, عما يراه ميّتكم, فلو أنكم علمتم ما علمه ميّتكم, لو أنكم رأيتم ما رآه ميّتكم, لكنتم اشتغلتم بهذا عن البكاء على ميّتكم..
هذا فَارَق بجسده, لكن فراق مؤقت, وسوف يكون اللقاء الأبدي في الآخرة, فأنت حتى في حزنك مشغول بالفاني, لأن هذا الفراق فاني, هذا الفراق ليس فراق أبدي إنما هو فراق مؤقت, فأنت حتى في حزنك وبكائك مشغول في الفاني! فلو أنك رأيت ما رأى ميّتك وعاينت ما عاين, لأذهلك ذلك عن البكاء عليه.
قال: أما والله, لو عاينتم ما عاين ميّتكم, لأذهلتكم معاينتكم عن ميّتكم, وإن للموت فيكم لعودة ثم عودة, حتى لا يُبقي منكم أحدًا.
كان يقول للناس: احفظوا عني خمسًا لا يرجو عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه ولا يستحي من تعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول الله ورسوله أعلم وأن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد وأنه لا إيمان لمن لا صبر له.
احفظوا عني خمسًا: لا يرجو عبد إلا ربّه. الرجاء يكون مُتعلِّقًا بالله.
ولا يخاف إلا ذنبه. لأن الذنب يحيط بصاحبه {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة: 81] لأنه تلطّخ من كل جوانبه وفي كل جوارحه بالذنوب.
ولا يستحي جاهل أن يسأل عما لا يعلم. إذا كنت لا تعلم مسألة أسأل عنها ولا تستحي من السؤال. الإمام مالك يقول: "الذي لا يُعلِّم تلاميذه عِلم (لا أدري) ما علّمهم العِلم" يجب أن يتعلّم الإنسان أن يقول: لا أعلم في المسائل التي لا يعلمها, لكن اليوم مع ذهاب مسؤولية الإنسان عن الكلمة, أصبح عندما يُسأل عن أي شيء, يجيب كأنه يعرف كل شيء, لأنه غاب عن حقيقة {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]
يجب أن لا يستحي جاهل أن يسأل عما لا يعلم, وأن لا يستحي عالِم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم.
والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. لأنك إذا آمنت ستأتيك اختبارات.. هذه سنّة الله, الذي يدخل في الإيمان ستأتيه اختبارات, قد يكون الاختبار بالمنع وقد يكون بالعطاء, قد يكون الاختبار بالشدة وقد يكون الاختبار بالنعمة, قد يكون الاختبار بالعطية وقد يكون الاختبار بالمصيبة.. إذًا لابد مع الإيمان من الصبر, لذلك قال: {إِلا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]
لابد من الصبر مع الإيمان.
والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد, ولا إيمان لمن لا صبر له.
إذا قطع الرأس لا يبقى للجسد قيمة..
هذا نموذج ومثال من أحوال سيدنا عليّ رضي الله تعالى عنه, وبقي جانب ثالث, لعلنا نبحثه وهو جانب المعرفة, إذ كل الحقائق في التوحيد والمعارف تُنسب إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا عليّ رضي الله عنه, كل الأصحاب كانوا أصحاب معارف, لكن أول من تكلّم وأول من وجّه في حقائق التوحيد هو سيدنا عليّ رضي الله عنه.
لعلنا نُفرِد حديثًا لهذا إن شاء الله.
نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق والقبول.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 14-11-2025, 12:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,390
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فضل سيدنا علي رضي الله عنه

فضل سيدنا علي رضي الله عنه -3-


الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني



ما نزال في رحاب الأقمار الأربعة المحيطة بالشمس المحمدية صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا, وقلنا إن الحديث عن النماذج التي تخـرّجت في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حُجّة علينا وأُسوة لنا, لأننا حينما نتحدث عن الرُسل وعن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام, فإننا نتحدّث عن نموذج عصمه الله سبحانه وتعالى, فلا يمكن أن يظهر عنه إلا ما كان حقًا, لكننا عندما نتحدّث عن غير الرُسل عليهم الصلاة والسلام من النماذج الإنسانية, نتحدّث عمن امتلك طريق الحق بإرادته وباختياره, ومع كونه ليس معصومًا, ثبت على الحق أمام المُرغِّبات والمُرهِّبات.
ومما ميّز أهل السنة والجماعة أنهم يعتقدون فضل الأربعة الأقمار, خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم, أعني سيدنا أبا بكر وسيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا عليًّا.
وآخر ما تحدّثنا كان في قمرهم الرابع سيدنا عليّ رضي الله عنه, وتحدّثنا عن الجانب الديني الأول في حياته, وهو الجانب الإسلامي الاتباعي السلوكي, وكان لنا اقتباسات من هذا الجانب, وانتقلنا إلى الجانب الثاني الإيماني في حياة سيدنا عليّ رضي الله عنه, وكيف كان يترفّع بحاله الإيماني فوق الدنيا, وكيف كان ينظر إليها بازدراء, يزهد فيها زهدًا باطنًا مع أنها في يده.
واليوم نتحدّث عن الجانب الديني الثالث في حياته رضي الله عنه, ولا تكفي دروس قليلة أو قصيرة للحديث في هذه الجوانب, لكنها أمثلة واقتباسات قصيرة, من باب إيراد النموذج لا من باب الحصر, لعلكم تتطلعون وتقرؤون وتتابعون..
الله سبحانه وتعالى عندما تحدّث عن الجانب الإحساني في حياة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم, قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} فإذا كان الله سبحانه وتعالى يَصِف المُتّبِع بالإحسان, فكيف لا يكون المُتّبَع محسنًا, إذا كان الذي يتّبعهم يصل إلى درجة الإحسان, التي هي الجانب الديني الثالث, والدين كما نعلم: إسلام وإيمان وإحسان, فإذا كان القرآن الكريم يَصِف مُتّبِعهم بأنه حائز على مقام الإحسان, فكيف لا يكون المُتّبَع من سادات المقام الإحساني {وَالسَّابِقُونَ الاوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالانْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ..} الآية [التوبة: 100]
سيدنا عليّ رضي الله عنه لو لم يكن للتعبير عن مقامه الإحساني إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم له: (أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ) لكان كافيًا.. وهذا حديث أخرجه البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب, ولو أن بعض الناس أراد أن يميل في تفسير هذا الحديث إلى أنه صلى الله عليه وسلم أراد القرابة النسبية, فنقول له: هذا مُمتنِع في تفسير هذا الحديث, لأن القرابة النسبية لا تكفيه, إذ القرآن الكريم ذمّ عمّ النبي صلى الله عليه وسلم, وعمّ النبي صلى الله عليه وسلم في القرابة النسبية أقرب من ابن عمّ النبي عليه الصلاة والسلام, العمّ يوازي الأب تمامًا, والعرب تقول للعمّ: يا أبتي.
ولذلك لمّا قرأنا في القرآن ذمًّا صريحًا {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] فهو أقرب في القرابة النسبية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من سيدنا عليّ, لأن سيدنا عليًّا هو ابن عمّ النبي صلى الله عليه وسلم, فهو أبعد في القرابة النسبية من عمّه.
إذًا لا يكفي في تفسير هذا الحديث أن يُفسّر بالقرابة النسبية, إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُبيّن لنا أن سيدنا عليًّا رضي الله عنه قد حصلت مجانسة في الوصف والحال بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد اقتبس سيدنا عليّ من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمد منه, وعندما يسأل الإنسان: إذا فهمنا (أَنْتَ مِنِّي), فكيف نفهم (وَأَنَا مِنْكَ)؟
نقول: هذا يُفهم عندما نعلم أن المؤمن مرآة أخيه, فكان صلى الله عليه وسلم ينظر في المرآة فيرى نفسه, وهذا ثابت, إذ النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح آخا سيدنا عليًّا, فأخوّة سيدنا عليّ للنبي عليه الصلاة والسلام ثابتة في الأحاديث الصحيحة, والمؤمن إذا نظر إلى أخيه فإنه يرى المرآة, ومن نظر إلى المرآة يرى نفسه.
فلما كانت المجانسة في الأحوال عظيمة, يستمد سيدنا عليّ رضي الله عنه من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصافه, ويرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرآة سيدنا عليّ أوصافه وأخلاقه, صحّ بهذا المعنى أن يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ).
وعندما نتحدّث عن مجانسة, لا يمكن لنا إلا أن نتحدّث عن مجانسة في الإسلام والإيمان والإحسان, , من حيث الشبه الجسدي سيدنا جعفر كان أشبه من سيدنا عليّ بالنبي صلى الله عليه وسلم, لكنه صلى الله عليه وسلم صَرّح وقال له: (أشبهت خَلْقي وخُلُقي), وقال للحسين: (حسين منّي وأنا منه) وقال لسيدنا عليّ: (أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ) فدلّ على أنه رضي الله عنه قد وصل إلى رتبة في الخصوصية جعلته مُستحِقًا لهذه العبارة من سيّد الكائنات عليه الصلاة والسلام.
مما يدّل على هذه المجانسة ما جاء في الصحيح, في صحيح مسلم, عن سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه, قال: (نَحَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاث وستين بيده..) عندما أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُهدي الكعبة في الحجّ الذي حجّه صلى الله عليه وسلم, أرسل سيّدنا عليًّا رضي الله عنه إلى اليمن حتى يُحضر له أفضل الجمال في الجزيرة العربية, حيث كان هناك سُلالات نقيّة عظيمة الأوصاف, فأرسل صفيّه ليصطفي أحسن الجمال, فاجتمع الجَمال مع الجِمال, جاء سيدنا عليّ بمائة جمل, ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثًا وستين جمل, وما بقي من الجِمال دعا سيدنا عليًّا, فأكمل سيّدنا عليّ, فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر المائة, لأنه قد وكّل بالنحر من قال له: (أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ) وهذه خصوصية عظيمة كانت لسيدنا عليّ رضي الله عنه, ومعجزة من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام, حيث نحر ثلاثًا وستين ناقة بعدد السنوات التي عاشها صلى الله عليه وسلم.
ثم لو لم يكن من خصائص سيدنا عليّ رضي الله عنه إلا ما ثبت في الحديث المتفق عليه يوم خيبر لكفاه, لأنه صلى الله عليه وسلم أرسل رجالاً لفتح خيبر أول يوم وثاني ويوم وثالث يوم, وكانت خيبر لا تُفتح, فقال صلى الله عليه وسلم: (لأعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلاً يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) فأثبت له وصف المحبة, وهو أعلى أوصاف الإحسان, إذ مقام الإحسان فيه مراقبة وفيه مشاهدة وفيه محبة, فأعلى رُتبة في مقام الإحسان رتبة المحبة, التي أشار إليها القرآن الكريم عندما قال سبحانه وتعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] وأعلى الرُسل سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام الذي نال وصف المحبة, إذ سيدنا إبراهيم الخليل, سيدنا موسى الكليم, أما سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فإنه حبيب الله.
كل الأصحاب تشوّفوا.. كل واحد كان يتمنى أن يُعطى هذه الراية, لا لحب الرياسة, لكن من أجل أن ينال هذه الحُظوة والشهادة, لأن الذي سوف يتسلّم الراية, قد شهد رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه يحبّ اللهَ ورسولَه, ويحبّه اللهُ ورسولُه.
وفي الصباح أصبح الناس كلهم ينتظرون.. ينظرون إلى الراية.. لمن سيُعطيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وغدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يُعطاها.. الكل يمد رأسه ويُري النبي عليه الصلاة والسلام أنه موجود لعله يكون صاحب الراية, كلهم يرجو أن يُعطاها, لكن الراية كانت من نصيب رجل لم يكن بينهم, قال صلى الله عليه وسلم: (أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) قالوا: يا رسول الله, عليّ مريض, يوجد مرض في عينيه. وهو في فراشه, قال: (أَرْسَلُوا إِلَيْهِ) فجاء عليّ وعيناه في حالة من المرض, لا يرى بهما, فتفل صلى الله عليه وسلم ومسح على عينيه, فبرئ, وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم التي يعجز أطباء العيون عن فعلها؟ ومثل هذا عندما أعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة عين قتادة, بعد أن قُلعت فكيف وصلت الأعصاب, ووصلت العروق.. والأوعية الدموية عملت, حتى صارت العين الثانية تمرض والعين التي وضعها رسول الله لا تمرض, فكان يشتكي من العين الأخرى, لماذا؟ لأن سيدنا قتادة قد فدى عين رسول الله بعينه, وقف ووضع رأسه أمام وجه النبي عليه الصلاة والسلام, حتى يحمي وجه رسول الله بوجهه إذا جاء السهم, فجاء السهم ففقأ عينه, فجاء وعينه على يده, فأمسكها رسول الله وردّها.. وهكذا جاء سيدنا علي وعيناه فيهما مرض, فتفل عليه الصلاة والسلام في عينيه, فكان ريقه صلى الله عليه وسلم أفضل من أي طب.
فهذه حظوة عظيمة, حيث شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم..
ولنلاحظ أن الصحابة جاؤوا بصفة المريد, لكن سيدنا عليّ كان في وصف المُراد, جاؤوا يريدون الراية, وغاب سيدنا عليّ, فكان في وصف المُراد, هم أرادوا لكن سيدنا عليّ كان مُرادًا.
(لأعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلاً يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)
كان الشيخ عيسى البيانوني عاشقًا للنبي عليه الصلاة والسلام, وكان يُقسم في شِعره رحمه الله ويقول:
جسد تمكّن حبّ أحمد فيه تالله إن الأرض لا تبليه

هذا قَسَم, والشيخ عالِم فقيه, وكان حفيده في قلبه شيء من قَسَم الشيخ, فكيف يقسم في شِعره على شيء ليس فيه دليل في النصوص؟ هذا معناه أن الأرض لا تُبلي جسدًا تمكّن حبّ النبي صلى الله عليه وسلم فيه, فكيف يقسم الشيخ بهذا القسم؟ وبعد وفاة الشيخ بأربع سنين, عامل المقبرة في المدينة المنورة أراد أن يكشف القبر, عادة كل أربع سنين تفنى وتبلى الأجساد التي في القبور, فكانوا يكشفون القبور التي صار لها أربع سنين, ومن جملتها كُشف قبر الشيخ عيسى البيانوني رحمه الله, وإذا به كأنه دُفن الساعة, كأنه دُفن الآن, وبعد أربع سنين عاد عامل المقبرة مرة أخرى أي بعد وفاة الشيخ بثمانية سنين, وكشف قبر الشيخ عيسى البيانوني رحمه الله فرآه كأنه دُفن الآن, عند ذلك علِم عمّال المقبرة أن هذا القبر له خصوصية, وعند ذلك صدر أمر بمنع فتح هذا القبر, وسمع حفيد الشيخ بالقصة, فأدرك أن جده كان صادقًا في قسمه الذي أقسمه:
جسد تمكّن حبّ أحمد فيه تالله إن الأرض لا تبليه

إذًا هذا الذي تمكّن حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلبه..
ومن الأحاديث الصحيحة التي لا شكّ في صحتها أبدًا في مزايا سيدنا عليّ رضي الله عنه ومقامه الإحساني, ما جاء في الحديث الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه, عندما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة العُسرة -يعني في غزوة تبوك- وأراد أن يستخلف على المدينة رجلاً, سيدنا عليّ رضي الله عنه لم يتخلّف عن غزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم, وهذه غزوة طويلة ويريد سيدنا عليّ أن يكون إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم فيها, لكن النبي صلى الله عليه وسلم يُوحى إليه أن أبقي عليًّا على المدينة, حتى يكون واليًا على المدينة في سفر النبي صلى الله عليه وسلم, ويستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة سيدنا عليًّا, فيحزن سيدنا عليّ, يضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أميرًا على المدينة, فيحزن لماذا؟ لأنه لا يريد أن يكون أميرًا على المدينة, هو يريد أن يكون مجاهدًا مع رسول الله, فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يرضيه, فقال له عليه الصلاة والسلام: (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى) لما ذهب سيدنا موسى إلى المناجاة, استخلف سيدنا هارون, تركه خليفة على قومه.
وكأنه عليه الصلاة والسلام يُذكّره بقوله تعالى الذي أشار إلى منزلة هارون في نص القرآن, عندما قال سيدنا موسى {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي, هَارُونَ أَخِي, اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه: 29-31]
لكن النبي عليه الصلاة والسلام يعلم أنه سيأتي من يُغالي في سيدنا عليّ رضي الله عنه, ربما يأتي من يستشهد بهذا الحديث ويقول: النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى) ونحن نقرأ في القرآن {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي, هَارُونَ أَخِي, اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} وجاء بعدها {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 32] فيدعي بناءً على هذا نبوة سيدنا علي رضي الله عنه, ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أغلق الطريق على الغلو, فقال: (إلا أنه لا نبي بعدي) لأن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام هو خاتم النبيين, فلا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يكن سيدنا علي رضي الله عنه في مقامه الإحساني مُستغرِقًا في محبة الله فقط, إنما كان مُستغرِقًا في محبة الله و مُستغرِقًا في رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان مستغرِقًا في سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا عندما يقرأ الإنسان اللغة الإحسانية ويتخصص في اللغة الإحسانية يُدرك أن الذي يستغرق في رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد استغراقه في الله, يكون في أعلى مقامات أهل المعرفة, لأنه ينظر إلى سبب كل خير وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ومما يشهد لهذا المقام الاستغراقي في رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن سيدنا البراء بن عازب في قصة كتاب الحديبية, لما عقد النبي عليه الصلاة والسلام صُلحًا وكتب كتابًا, فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. قالوا: لا نُقرّ بها, أي: لو كنا آمنا أنك رسول الله ما كنا قاتلناك, ولا كنا كتبنا كتاب صلح بيننا وبينك, لا نقبل أن يُكتب في كتاب الصلح رسول الله, فمعنى ذلك أننا أقررنا أنك رسول الله.. قالوا: لا نُقرّ بها, فلو نعلم أنك رسول الله ما منعناك, لكن أنت محمد بن عبدالله, نحن نكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله. نكتب اسمك, لا نكتب الوصف الذي لا نتفق عليه.
قال: (أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله) أي: أنا رسول الله وسأبقى رسول الله ولو لم تؤمنوا, وإذا كان الطريق لإنفاذ هذا الصلح أن أكتب محمد بن عبد الله, فلا مانع عندي.
النبي عليه الصلاة والسلام قال لسيدنا علي: (اُمحُ رسولُ الله) يعني ما كُتب في كتاب الصلح, كُتب محمد رسولُ الله, امحوا من هذا الكتاب عبارة "رسولُ الله" فماذا قال سيدنا علي؟ قال: لا..والله لا أمحوك أبدًا. سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام ما قال له: امحوا رسولَ الله. قال: (اُمحُ رسولُ الله) لكن حتى اسم النبي ووصف النبي صلى الله عليه وسلم, ما كان سيدنا علي قادرًا على محوه, كيف يمكن لي أن أمحوَ ما يدل على وصفك العظيم يا رسول الله.. أنا لا أستطيع.. لا أستطيع..
وقد ذكرت فيما مضى كيف قال الشافعي رحمه الله: نتف الإبط سنّة, ولا أقوى عليه, أي: أنا أضعف من أن أتحمله..وكان يحلق ولا ينتف.
إذًا هكذا سيدنا عليّ كان في حالة الاستغراق والتعظيم لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا عليًّا إلى اليمن قاضيًا.
سيدنا عليّ كما يروي الإمام أحمد في مسنده, يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأنا حديث السن, فقلت: تبعثني إلى قوم يكون بينهم أحداث ولا عِلم لي بالقضاء, كيف ترسلني يا رسول الله إلى اليمن لأكون قاضي اليمن, ولا عِلم لي بالقضاء؟
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله سيهدي لسانك, ويُثبّت قلبك) وهذا دلّ على أن الإلهام الذي أكرم الله به سيدنا عليًّا رضي الله عنه كان بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم, يقول سيدنا عليّ: فما شَكَكْتُ في قضاء بين اثنين بعد.
كانت أغرب المسائل تأتي إلى سيدنا عليّ, فيحسم الأمر دون أي تردد, كان يقضي بين الناس دون أن يتردد في قضاءه, وهذا ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له, وبسِرّ الإلهام الذي أُيِّد به بسِر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان من عِلمه بالله ومعرفته به يكتفي بعِلم الله, وهذا الاكتفاء بعِلم الله هو من أعلى مقامات العارفين, إذا نظرت إلى أن عِلم الله الأزلي لا يتغيّر, ورضيت بعِلم الله الأزلي,تكون في هذا المقام.
ابن عطاء الله السكندري في الحِكم يقول: ما أدرك من الجهل شيئًا من أراد أن يحدث في الوقت غير ما أظهره الحق فيه. أي: الذي ظهر هو ما علمه الله في الأزل, أنت عليك أن تأخذ بالأسباب, لكن لن يظهر إلا ما علمه الله في الأزل.
قيل له: ألا نحرسك؟ قالوا لسيدنا علي.. يعني أنت خليفة المسلمين.. ألا تريد أن يكون لك حرّاس يحرسونك, فقال: حرس امرًا أجلُه. أي: أجلي يحميني.. لن أموت إلا في الوقت الذي علم الله فيه أنني أموت. فلا أريد حراس لأن أجلي يحرسني.
وأشار رضي الله عنه بيده مرة إلى صدره وقال: إن هاهنا عِلمًا لو أصبت له حَمَلة. يعني ليتني أرى من هو مستعد لحمل هذا العِلم حتى أضع في قلبه هذا العِلم.
وهذا كله من باب إيراد النماذج والأمثلة على المقام العظيم الذي كان فيه سيدنا عليّ رضي الله عنه, وهو من ثمرات حضرة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
إذا كنا نتحدّث عن سيدنا أبو بكر, ونتحدّث عن سيدنا عمر, ونتحدّث عن سيدنا عثمان, ونتحدّث عن سيدنا عليّ رضي الله عنهم, فما هؤلاء كلهم إلا ثمرات من حضرة نور رسول الله صلى الله عليه وسلم, فالعاقل هو الذي يستغرق في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, هو الذي يجعل عمره اتباعًا لحضرة النبي صلى الله عليه وسلم, هو الذي يجعل كل أمره خدمة لحضرة النبي صلى الله عليه وسلم, هو الذي يستغرق قلبه في محبة النبي صلى الله عليه وسلم, يستهلك قلبه في محبة النبي صلى الله عليه وسلم.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 108.28 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 105.73 كيلو بايت... تم توفير 2.55 كيلو بايت...بمعدل (2.36%)]