|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن يا كريم كعادتي أجوب المنتديات بالبحث عما هو مفيد فراق لي هذا الموضوع وأحببت عرضه عليكم اختكم لمسة ملاك إيقاظ القلب أولًا الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فلو أن طالبًا في السنة النهائية من دراسته الجامعية ظلّ مستيقظًا طيلة ليلة اختباره الأخير ليستذكر ويراجع المنهج المقرر عليه، ثم أراد أن ينام سويعات قليلة بعد صلاة الفجر وحتى موعد ذهابه لأداء الاختبار، وأوصى والدته بضرورة إيقاظه في الوقت المحدد، وظلت والدته مستيقظة حتى حان ذلك الوقت، فذهبت إليه فوجدته يغُطُّ في سُبات عميق، فنادت عليه لتوقظه فلم يستيقظ، فأخذت تُذكّره بأهمية ذهابه للاختبار وتُخوِّفه من الرسوب، ومِن ثَمَّ التخلُّف فصلًا دراسيًّا آخر، وما يترتب على ذلك من تأخر التخرج وتأجيل للكثير من المشاريع الحياتية التي تنتظر إنهاءه لدراسته.. كل ذلك وصاحبنا لا يسمع كلامها، بل ظل مستغرقًا في نومه، فانتقلت في حديثها عن المستقبل المشرق الذي ينتظره بعد تخرجه، وكيف أنها تُرتِّب له مع والده أمر الزواج، و... . فهل تظن – أخي القارئ - أن هذه الطريقة التي تنتهجها تلك الأم ستجدي نفعًا في إيقاظ ولدها ومِن ثَم ذهابه في الموعد المحدد للاختبار؟! أتخيلك - أخي القارئ - وأنت تجيبني قائلًا: وكيف سيسمعها وهو نائم؟! كيف سيؤثر فيه هذا الكلام مهما جمع من الترغيب والترهيب وهو غارق في النوم؟ إن الحل الأمثل لإيقاظه هو القيام بهزِّه مرات ومرات حتى يستيقظ، فإن لم يُجْدِ الهزُّ نفعًا فعلى الأم أن تنتقل إلى استخدام وسائل أشد وأشد حتى يستيقظ ويدرك حقيقة الوضع الخطير.. حينها سنجده يسابق الزمن لتجهيز نفسه واللحاق بالاختبار. هذا المثال البدهي ينطبق إلى حد بعيد على حالنا وطريقة تعاملنا مع اختبار الدنيا، بمعنى أننا جميعًا لم نوجد في هذه الحياة لنأكل أو نشرب أو نتزوج أو نلهو، بل لأمر عظيم، ألا وهو: عبادة الله عز وجل {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56، 57].. فالله جل شأنه لم يخلقنا إلا لذلك، وسواء شئنا أم أبينا فالاختبار يجري كل يوم، ونهايته تقترب بقدر مرور الأيام والليالي، وبلوغها الأجل المحدد لكل فرد، وبعد ذلك سنعود إلى الله رضينا أم أبينا {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون: 115، 116].. إن الليل والنهار لا يتوقفان عن التعاقب، والنهاية المحددة لكل عبد في الدنيا تقترب ومع ذلك لا نرى من أحوالنا ما يدل على ذلك {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1].. أتدري أخي لماذا؟! لأن قلوبنا تغُط في سُبات عميق {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُم} [الأنبياء: 2، 3].. فما العمل في هذه المصيبة؟ لو عدنا لمثال الأم ومحاولتها لإيقاظ ابنها وأسقطناه على واقعنا لوجدنا أن الحل ينبغي أن يبدأ بهز القلب مرات ومرات حتى يستيقظ من رقدة الغافلين، ويفيق من سكرة اللاهين، وبدون هذه الطريقة فلن تكاد تُجدي الوسائل الأخرى نفعًا.. ومن أهم الوسائل التي يمكنها أن تهز القلب وتوقظه من سُباتِه: الإكثار المتوالي من تذكُّر الموت، والتنوع في استخدام الأساليب التي تحقق ذلك، ويكفيك في تأكيد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت، فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسَّعه عليه، ولا ذكره في سعة إلا ضيَّقها عليه.."[1]. وعن صفية رضي الله عنها أن امرأة أتت عائشة رضي الله عنها لتشكو إليها القسوة، فقالت: أكثري ذكر الموت يرق قلبك، وتقدرين على حاجتك، قالت: ففعلت؛ فآنست من قلبها رشدًا، فجاءت تشكر لعائشة رضي الله عنها[2]. وقال عمر بن عبد العزيز لرجل: أكثر ذكر الموت؛ فإنك لا تذكره عند واسع من الأمر إلا ضيَّقه عليك، ولا عند ضيق من الأمر إلا وسَّعه عليك. وكتب إلى بعض أهل بيته: أما بعد؛ فإنك إذا استشعرت ذكر الموت في ليلك ونهارك بَغَّض إليك كل فانٍ، وحبَّب إليك كل باق، والسلام. وقال شميط بن عجلان: من جعل الموت نُصب عينيه لم يُبال بضيق الدنيا ولا بسعتها[3]. وكما أسلفنا فإنه لكي يتحقق المستهدف من ذكر الموت في الانتقال من حالة الغفلة إلى اليقظة فإن ذلك يحتاج إلى الإكثار والتتابع والتنوع في الوسائل وبخاصة في البداية، ويؤكد على هذا المعنى أبو حامد الغزالي فيقول: إعلم أن خطر الموت عظيم، وإنما غفل الناس عنه لقلة فكرهم فيه، وذكرهم له، ومن تذكَّره منهم فإنما يذكره بقلب غافل مشغول بشهوات الدنيا لا بقلب فارغ، فلهذا لا ينجح ذكر الموت فيه. والطريق في ذلك: أن يفرغ العبد قلبه عن كل شيء إلا عن ذكر الموت الذي هو بين يديه، فإذا باشر ذكر الموت قلبه فيوشك أن يؤثر فيه، وعند ذلك يقل فرحه وسروره بالدنيا، وينكسر قلبه[4]. والصفحات القادمة تطرح – بفضل الله – وسيلة إضافية من وسائل تذكر الموت[5] وهي تخيل الأحداث والمشاهدات التي قد تمر بالواحد منا بعد موته، والأمنيات التي يتمنى تحقيقها لو أُجيب طلبه بالرجوع إلى الدنيا مرة أخرى {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99، 100]. |
#2
|
||||
|
||||
![]() ليلة في القبر منذ اللحظات الأولى التي يولد فيها الإنسان ويطأ فيها الوجود؛ يبدأ العد التنازلي لحياته، ويوما بعد يوم يقترب من أجله، إلى أن يلاقي الموت مع آخر ورقة في عمره... ولا يستطيع الإنسان –أي إنسان– مهما بلغت قدراته وإمكاناته وسلطانه أن يفر من الموت {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8]. فالموت آية من آيات الله قهر بها عباده { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [الواقعة: 60].. بل وتحداهم سبحانه وتعالى بها فقال: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة: 83 - 87].. ولا يزال التحدي مستمرا لجميع البشر، فلو لم نكن عبيدا مقهورين بإرادة الله عز وجل الكونية لاستطعنا أن نعيد الروح إلى الجسد ولمنعنا ملك الموت من أخذها.. إن عجلة الزمن تتحرك بنا جميعا نحو أجلنا وسيأتي علينا -لا محالة- يوم نعاين فيه سكرات الموت. لحظة عصيبة: إنها لحظات عصيبة تلك التي يرى الواحد منا فيها ملك الموت، وقد جاء لقبض روحه، ومن خلفه إما ملائكة الرحمة وإما ملائكة العذاب... عندها سيتأكد أن الأمر جدٌ لا هزل فيه {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 13، 14] .. وستصبح أمنيته الوحيدة العودة مرة أخرى إلى الدنيا لا لشيء إلا للتوبة والعمل الصالح {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99، 100]. بين النوم واليقظة: ليتخيل كل منا نفسه في هذا الموقف الرهيب وهو يتمنى أن يُمنح مهلة للعودة إلى الدنيا - ولو للحظات - ليصلح فيها ما أفسده، ويعيد فيها كل حساباته.. فيُرفض طلبه، وتُقبض روحه، ويأتي المغسل فيغسله ويكفنه، ثم يحمله الأهل والأصحاب إلى المسجد فيصلون عليه، وبعدها يذهبون به إلى قبره فيضعونه في حفرة ضيقة، ثم يغلقونها عليه بالتراب وينصرفون عنه فيصبح وحيدًا في بيته الجديد الذي كان ينادي عليه كل يوم قائلًا: أنا بيت الدود، أنا بيت الوحدة، أنا بيت الوحشة... هذا ما أعددت لك فماذا أعددت لي؟! وكأن لسان حاله يقول: هذا المكان الموحش سيكون بيتي؟! وسأظل فيه إلى قيام الساعة؟! كيف سأعيش فيه هذه المدة أم كيف سأطيقه؟! عندها يتذكر ما كان يسمعه في الدنيا من أن تجهيز القبر وتعميره لا يكون إلا بالأعمال الصالحة، وبقدر رصيد العبد منها يكون مستوى التجهيز والتعمير كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44].. |
#3
|
||||
|
||||
![]() شريط الذكريات: ليتخيل كل منا نفسه بعد أن فوجئ بالظلمة والوحشة والضيق، وهو يستعرض شريط ذكرياته في الدنيا وحجم الأعمال الصالحة التي قام بها ولماذا لم يجد لها أثرًا واضحًا في حياته البرزخية؟ يبدأ بالصلاة فيقول: أين أثر صلاتي؟! لقد صليت كثيرًا فلماذا لا أكاد أجد أثرًا لذلك؟! فيتذكر أنه كان لا يحافظ عليها في أول وقتها، بل كان يصلي أغلبها وسط ضجيج الأطفال وصوت المذياع والتلفاز، وفي حالة أدائها بالمسجد يكون الذهن مشغولًا بموضوعات شتى، وكم من المرات كان يُفاجأ بالإمام وهو يسلم تسليمة الختام؟ فإذا به يخاطب نفسه: إذن فما سمعته عن الصلاة كان صحيحًا من أنه: ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها[6].. فالله عز وجل لا يريد حركات الجوارح من قيام وقعود دون حضور القلب وخشوعه فيها، وكذلك في كل العبادات {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37]. فالقلب هو محل نظره سبحانه وتعالى كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"[7]. أين أثر الصيام؟ فإذا كان هذا هو حال الصلاة، فماذا عن الصيام؟ أين أثره في قبري؟ فيتذكر الواحد منا كيف كان يمر عليه شهر رمضان وكيف كان مفهومه للصيام فيقول: لقد كان همي وفكري في كيفية انقضاء ساعات اليوم، فالامتناع عن الطعام والشراب كان أمرًا شاقًّا عليّ، لذلك كنت أعمل جاهدًا على شغل وقتي بما يلهيني عن التفكير فيهما، فأنام أغلب النهار، وأقضي الوقت المتبقي في مشاهدة التلفاز وما فيه من أعمال تُغضب الله عز وجل. لقد سمعت كثيرًا وأنا في الدنيا أحاديث للرسول صلى الله عليه وسلم من أنه "رُبَّ صائم حظُّه من صيامه الجوع والعطش"[8]. و"من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"[9]. وكأني تناسيت هذا كله، فلم أترك الغيبة والنميمة في رمضان، ولم أغض بصري عما حرم الله. القرآن هو الأمل: إذا كان هذا هو حال الصلاة والصيام فليكن أملي في القرآن.. أين هو؟!! لقد قرأته وختمته مرات ومرات.. فلماذا لا أجد أثره؟! نعم تذكرت، لقد كنت أقرأه وأنا مشغول البال، شارد الذهن، فلم أتدبر معانيه، ولم أقف عند أحكامه وحدوده، ولم أتخذه مصدرًا للهداية والشفاء. ومما يزيدني ألمًا وحسرة؛ أنني كنت أسمع وأنا في الدنيا الكثير من الآيات والأحاديث التي تحثني على تدبر القرآن والتأثر به لتحصيل الهدى والشفاء، وتذُم من يقرؤه وهو غافل، كقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]، وقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فلينصرف فليضطجع"[10]، وقوله لعبد الله بن عمرو بن العاص وهو يوضح له سبب نهيه عن قراءة القرآن في أقل من ثلاثة أيام: "لا يفقهه من يقرؤه في أقل من ثلاث"[11]. لقد كنت أسمع وأقرأ هذه الآيات والأحاديث وغيرها ولا أتفاعل معها، وكنت دوما اجتهد في إقناع نفسي بأن قراءة القرآن ما هي إلا وسيلة لتحصيل الأجر والثواب فقط، ومِن ثَم فلا بأس من تلاوته دون فهم ولا تعقل. ولكني اليوم أُسأل: لماذا لم يُر لقراءتك أثرا في قولك ولا سلوكك.. |
#4
|
||||
|
||||
![]() رصيد الحسنات: ثم ليتخيل كل منا نفسه وهو يحاول أن يتذكر أي عمل صالح قام به فلا يجد إلا اليسير، وفي المقابل؛ يجد أن رصيده من السيئات كبيرًا، فيتذكر حاله مع والديه، كيف كان يعاملهما، وبخاصة عند كبر سنهما، وازدياد حاجتهما إليه... لقد نسينا ما فعلوه من أجلنا ونحن صغار حتى أصبحنا رجالًا ونساء نحمل الشهادات ويُشار إلينا بالبنان، ولولاهما – بعد فضل الله عز وجل – لكنا غير ما كنا.. وبدلًا من برهما، والعمل على رد بعض جميلهما كان جزاؤهما غلظة في الكلام وسرعة الضجر والضيق من أفعالهما، وعدم تلبية طلباتهما.. لنتذكر ذلك وليقل كل واحد منا لنفسه: أنا لم أفكر يومًا في إدخال السرور عليهما، بل أسقطهما من حساباتي، وتناسيت حقوقهما عليَّ... لقد أغلقت بيدي بابًا عظيما من أبواب الخير[12]. ثم لنتذكر الأقارب من أشقاء وأخوال وأعمام وفروعهم، ونتذكر كيف كانت صلتنا بهم محدودة، إن لم تكن مقطوعة، فيقول الواحد منا لنفسه: لقد كنت أسمع كثيرًا عن أهمية صلة الرحم، وأنها تُبارك العمر وتُنمي الرزق، ولكني تغافلت عن ذلك الخير العميم، خوفًا مما قد يكلفني من مال ووقت، وياليتني ما فعلت ذلك.. لقد كانت مقاييس السعادة مختلة عندي.. كنت أظنها في جمع المال والاستمتاع بالحياة دون النظر للوظيفة العظيمة التي خلقنا الله عز وجل من أجلها. لقد لهثت وراء الدنيا أجمع المال.. لم أفكر يومًا في الإنفاق على الفقراء والمساكين والمجاهدين خوفًا من الفقر. كانت خواطري تدور حول كيفية الاستمتاع بالحياة، وكنت دائم السهر مع زوجتي وأولادي أمام الفضائيات وما تبثه من مشاهد تغضب الله جل شأنه، ولا نتركه إلا في ساعة متأخرة من الليل.. لقد كنت أظن أنني بذلك أُسعد نفسي وأهلي ولكنني تأكدت الآن بأني قد ظلمتهم أيما ظلم. ولم يقتصر الأمر على هذا وفقط، بل كنت أُنفق الكثير من المال في الاحتفال بالمناسبات التي لا تمت للإسلام بصلة كرأس السنة وشم والنسيم وغيرها.. ذكريات مريرة: .. لم أتزوج من تعينني على أمر ديني، بل بحثت على من هي على شاكلتي فأعانتني على أمر دنياي، وقامت بتربية أولادي على أمر الدنيا، والحرص على مصالحهم الشخصية فقط، فلا بأس من الكذب إن كان يؤدي إلى تحقيق منفعة أو دفع مضرة، ولا مانع من وضع المال الزائد عن حاجتنا في بنك ربوي طالما أن ذلك يصب في مصلحتنا ويزيد من رأس مالنا.. .. لم أفكر يومًا في أمر زوجتي بالزي الشرعي السابغ الفضفاض الذي لا يصف ولا يشف.. لم أمنعها من الاختلاط بالرجال، وكثيرًا ما كانت تستقبل معي الأقارب والأصدقاء. .. حبي الشديد للدنيا وحرصي على تحصيل أكبر قدر منها جعلني أحسد الآخرين على ما أوتوه منها، فكلما ذهبت إلى الفراش أجد ذهني مشغولًا بأحوال غيري، وأجد في نفسي ضِيقًا وغمًّا كلما أصاب الخير أحدًا حولي، وأُسَرُّ وأفرح إذا فقدوا هذا الخير أو أصابهم مكروه. .. يسرت لأولادي الكثير من أسباب الراحة والنعيم ظنًّا مني أني بذلك أسعدهم.. أدخلتهم مدارس اللغات الأجنبية التي تهمل تعليم اللغة العربية كلغة أساسية.. ألحقتهم بالنوادي وكنت أُقاتل من أجل إشراكهم في أكبر قدر من أنشطتها المفيدة وغير المفيدة، ولم أهتم كثيرًا بالذهاب بهم إلى المساجد، وربطهم بها، وتحبيبهم فيها.. .. كنت أنام حزينًا مكتئبًا عندما ينهزم الفريق الذي أشجعه، ولم تهتز لي شعرة أو تسقط مني دمعة عندما تبلغني مصيبة من المصائب التي حلَّت بالمسلمين في فلسطين أو كشمير أو بورما أو تركستان أو ... . كنت معجبًا بنفسي وقدراتي ولا أكاد أترك مجلسًا إلا وتحدثت فيه عن أمجادي وتاريخي وقدراتي وعائلتي ونسبي.. .. لم أفكر يومًا في أحوال المسلمين، وما يعانون من ظلم واضطهاد وقتل وتشريد، مع أن الأبواب كانت أمامي مفتوحة لمد يد العون إليهم.. لم أضع يدي في يد العاملين للإسلام، فخوفي من التبعات – بكل أشكالها - جعلني أنصرف عنهم، بل وكثيرًا ما كنت أستهزئ بهم مع المستهزئين وأرميهم بالتهم كي أبرر لنفسي القعود عن نصرة الإسلام.. أي غفلة كنت غارقًا فيها؟ والملكان الموكلان بي يسودان الصفحات، ويحصيان عليَّ كل شيء لحظة بلحظة، ويوما بيوم، وإذا ما ذكَّرني أحد بذلك غرقت في بحر الأماني بأن الله غفور رحيم، ويكفيني أن أحج البيت الحرام بعد بلوغي سن التقاعد فأعود من ذنوبي كيوم ولدتني أمي.... ويالها من سذاجة. |
#5
|
||||
|
||||
![]() أسال الله ان يوقظنا من غفلتنا ويصلح فساد قلوبنا...آمين
بارك الله فيك ملوكه وجزاك خيرا...
__________________
![]() |
#6
|
||||
|
||||
![]() حسرات ليتخيل كل واحد منا نفسه بعد أن مر به شريط الذكريات وهو يقول: يا حسرتى على الفرصة التي ضاعت مني، وعلى السنين التي قضيتها بعيدًا عن الله.. لقد ظلمتك يا نفس أيما ظلم عندما آثرت رضاك واتبعت هواك، فتركت الكثير والكثير من الأعمال الصالحة لأنها كانت تتعبك، ولهثت وراء الدنيا من أجل تحصيل ما يرضيك.. .. لم أرفض لك طلبًا ظنا مني أنني بذلك أسعدك، ويا ليتني ما فعلت ذلك، فاليوم لا أجد إلا نتاج أعمالي السيئة، ولا أرى أثرًا يُذكر لأعمالي الصالحة.. يا نفس: فيا نفس أيهما كان أحسن لك: الصبر على طاعة الله في الأيام القليلة التي قضيناها في الدنيا ثم يعقب ذلك راحة ونعيم لا نهاية لهما، أم العكس؟! لقد بخلت عليك بالنعيم المقيم عندما آثرت رضاك وتبعت هواك، ولو أني جاهدتك وفطمتك عن الشهوات وألزمتك طاعة الله لكنت الآن أتنعم بروضة من رياض الجنة، ولكنت منتظرًا بشوق ولهفة قيام الساعة لدخول جنات الرحمن وما فيها من نعيم، ولكن هل ينفع اليوم الندم؟َ! لقد أقام الله علينا الحُجة كاملة؛ فالقرآن الذي كان بين أيدينا حدثنا عن كل شيء سيحدث لنا، وحذرنا من خطورة الانغماس في الدنيا، والتعلق بها، وأخبرنا بنبأ من سبقنا لنعتبر بهم، وللأسف لم تنفعنا العبرة، بل أصبحنا ممن يُعتبر بهم. أين كان عقلي عندما انشغلت بتحصيل متاع الدنيا الزائل، وتركت المهمة التي من أجلها خُلقت؟! أي شيطان رجيم هذا الذي زين لي حب الدنيا والتمتع بزخارفها والحرص عليها؟!.. أي عداوة تلك التي كان يُكنّها لي فجعلته لا يفارقني ليلًا أو نهارًا فيزين لي فعل المحرمات وترك الواجبات، ولم يتركني إلا عند نزع الروح لتأكده من نجاحه في مهمته.. لقد حذرنا ربنا مرارًا من هذا اللعين فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].. .. وأنت يا نفس؛ لقد كنتِ عونا للشيطان عليّ، فلقد استغل جهلك وحبك للمال وولعك بالشهوات وطلبك للعلو والرفعة عمن حولك فجعلك سلاحه الذي سيطر به على قلبي وإرادتي.. فبإلحاحك المستمر دفعتيني لفعل ما تريدين، فحقق كل مآربه مني عن طريقك أنت .. .. أتذكرين كم من المرات عزمت فيها على الصيام تطوعًا لله فمنعتيني بدعوى الخوف من الصداع والإعياء؟! وكم من الليالي حاولت فيها القيام لله فزينت لي طيب المنام، فينقضي الليل دون أن أفوز بالغنيمة التي يمنحها الله لعباده المتهجدين في كل ليلة؟! أتذكرين ماذا كنت تفعلين بي عندما أسمع صوت المؤذن لصلاة الفجر وضميري يؤنبني عندما يردد: الصلاة خير من النوم .. ألا تذكرين إلحاحك لمواصلة النوم، وتزيينك لي طيب الفراش وحلاوة الراحة؟ لقد ضيعتِ عليّ هذه الصلاة في وقتها فنادرًا ما صليتها قبل شروق الشمس، وقلما صليت سُنتها التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها"[13]... خير من المال والوظيفة والطعام والشراب والزوجة والأولاد، والذهب والفضة.. لم أدرك قيمة هذا الكلام إلا الآن بعد أن رأيت الحال هنا، وانكشف الغطاء أمامي فوجدت الدنيا بأسرها لا تساوي شيئًا ينبغي الحرص عليه إلا طاعة الله عز وجل.. لقد شغلتيني يا نفس باللهو واللعب ومجالس اللغو والغيبة والنميمة والكذب والتفاخر، وكلما ذكرتك بالموت وأننا صائرون إليه لا محالة ضقت ذرعًا، وعملت جاهدة على صرف الذهن إلى أمور أخرى كي لا ينغص هذا الأمر عليك تمتعك باللذائذ والشهوات.. |
#7
|
||||
|
||||
![]() آآآآمين يارب
|
#8
|
||||
|
||||
![]() ضاع كل شيء: لقد ضاع كل شيء، ضاع تعبي ولهثي وراء المال، لقد انشغلت بتأمين مستقبل أولادي في الدنيا ونسيت تأمين مستقبلي ومستقبلهم الحقيقي هنا في القبر، وهناك في دار الخلد.. لقد اتضح لدي الآن بعد أن انكشفت الغشاوة عن عيني، ورأيت الدنيا على حقيقتها، أن مفهومي للمستقبل لم يكن صحيحًا.. فالمستقبل الحقيقي للإنسان يبدأ بعد الموت، فمهما جمع من مال في الدنيا فسيتركه، ومهما أحب من شيء فيها فسيفارقه... أما الذي يبقى فهو الطاعات {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46]. فوامصيبتاه على ما ضاع مني من فرص لتأمين مستقبلي الحقيقي، وواحسرتاه على ثواب صلاة الجماعة الذي فاتني[14]. ويا خيبة أملي عندما ضاعت مني فرصة بناء بيت في الجنة بصلاة اثنتى عشرة ركعة كسنن رواتب للصلوات الخمس[15]. ويا عظيم خسارتي عندما فاتتني فرصة التبكير لصلاة الجمعة[16]. لم أستفد بتحصيل ثواب حجة وعمرة تامتين حين لم أجلس في المسجد أذكر الله تعالى بعد صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس ثم أصلي ركعتين بعدها[17]. ضاعت مني فرصة صيام التطوع، فكل يوم يصومه العبد يباعد بينه وبين النار سبعين خريفا[18]. يا خيبة أملي في أولادي، لقد تركوني وحيدًا، ولما أجد أثرًا لدعائهم لي كأنهم نسوا أني أبوهم وأحتاج إلى دعائهم. الاستثمار النافع: ليتني أنفقت الكثير مما كان يزيد عن حاجتي من المال في سبيل الله، فهذا هو الرصيد الحقيقي الذي ينفع العبد... لقد ضاعت مني فرصة استثمار مالي عند الله... لقد كان المقابل سبعمائة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء.. كيف كنت غافلًا عن هذا الخير العميم؟! أي غشاوة تلك التي كانت على عيني؟! وأي صدأ كان على قلبي؟! القرآن مليء بالآيات التي تحثنا على الإنفاق في سبيل الله رحمة بنا وتأمينًا لمستقبلنا، لقد استقرضني الله عز وجل ليطفئ بإنفاقي خطاياي، وينوِّر قبري، ويظلني بظل هذا الإنفاق يوم القيامة، ولكني أبيت إلا إمساك المال، فنفسي كانت تخوفني دائمًا من الفقر والمجهول... فأي تعاسة وأي كرب، وأي ندامة أشعر بها وأنا أتذكر قول الله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } [الحديد: 11]. يا مصيبتاه على تضييعي لوقتي دون ذكر الله، فالذكر عبادة خفيفة لا تحتاج إلى كثير معاناة. يا حسرتاه على القرآن الذي تركته مهجورًا، فلم أداوم على قراءته ولم أتدبر معانيه أو أتخلق بها، وضيعت على نفسي فرصة عظيمة للتغيير الحقيقي الذي يُرضي الله عز وجل.. لقد سهرت ليال كثيرة من أجل الحصول على شهادات تنفعني في الدنيا لتخدم سيرتي الذاتية، ولم أشأ أن أتعب نفسي لنيل شهادة القرآن، والتي يمتد نفعها إليَّ هنا في قبري، بل وهناك في دار الخلد حيث يأتي القرآن شفيعًا لصاحبه الذي كان يعمل به. يا ليتني قدمت لحياتي: ليتني استبدلت المصايف التي كنت حريصًا على مداومة التنزه فيها بالسفر إلى بيت الله الحرام لأداء الحج والعمرة فأكفِّر عن سيئاتي، وأجلو الصدأ عن قلبي، وأزوده بالتقوى والإيمان[19]. ليتني اتبعت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم... ماذا سأقول له حينما أراه يوم القيامة.. ليتني قمت بواجب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشاركت العاملين للإسلام عملهم في سعيهم لتحكيم شرع الله في سائر شئون الحياة. ليتني استمعت لنصيحة سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام عندما قال: "الكيِّس من دان نفسه، وعمل لَما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله"[20]. يا ليتني قدمت لحياتي |
#9
|
||||
|
||||
![]() مشاهدات وبعد أن مر علينا شريط الذكريات، وازداد ندمنا وحسرتنا كلما تذكرنا الفرص التي أضعناها لتأمين مستقبلنا؛ ليتخيل كل منا نفسه وهو يشاهد أحوال بعض الموتى الذين أطاعوا الله ورسوله واستفادوا من عمرهم في غرس الكثير من الأعمال الصالحة مما مكنهم من جني ثمارها بعد مماتهم، فقبر الواحد منهم على مد البصر وهو فيه يتقلب متنعما في روضة من رياض الجنة، وليس ذلك فحسب؛ بل إنه يرى مقعده ومكانه وقصوره في الجنة وما فيها من حور عين وطعام وشراب وفاكهة وخدم فيزداد اشتياقه إلى قيام الساعة. الكثير من هؤلاء السعداء كانوا من الفقراء الذين تزدريهم أعين الناس، لكنهم لم يكونوا مجهولين عند ربهم... فهذا كان من أهل المساجد، لا تكاد تفوته تكبيرة الإحرام، وهذا كان من أهل قيام الليل المستغفرين بالأسحار... وهذا كان يتصدق ويبالغ في إخفاء الصدقة حتى لا تكاد شماله تعلم ما أنفقت يمينه.. أما هذا فقد شغله تدبر القرآن وإطالة النظر في معانية عن النوم فصحبه في قبره ونوَّره ووسعه عليه.. وهذا كان من العاملين للإسلام المجاهدين في سبيله، الساعين في خدمة الناس وتخفيف معاناتهم مع الأخذ بأيديهم إلى الله جل شأنه.. أما هذا فله وضع خاص.. لقد أبت الأرض أن تحلل لحمه، أما روحه فهي في حواصل طير خضر معلقة في العرش تسبح في الجنة وقتما شاء.. إنه الشهيد!! يالسعادته ويالفرحته.. ويالحسرتي، فلقد كان يمكنني أن أصل إلى ما وصل إليه لو كنت قد عقدت العزم على ذلك، وسألت الله الشهادة بصدق وعزم أكيد كما قال صلى الله عليه وسلم: " من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه"[21]. يالفرحة هؤلاء جميعًا بهذا النعيم الذي يتقلبون فيه، والذي لا يساوي شيئًا بجوار ما سيرونه هناك في دار الخلد... لقد زرعوا ما طلبه الله منهم أن يزرعوه فحصدوا فوق ما تخيلوه.. أما أمثالي فلم يحصدوا إلى الغم والضيق، وصحبة عمله السيئ في حفرة ضيقة مرعبة. القبور المظلمة: ولكن مالي أرى أغلب القبور مظلمة؟ ماذا كان شأن أصحابها في الدنيا؟ لقد كنت أظن أنني على صواب عندما كنت أرى حالي في الدنيا كحال الغالبية العظمى من الناس، ولكن للأسف الشديد كان هؤلاء جميعًا في غفلة مثلي كما وصفهم ربهم {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 1 - 3]. لقد انخدعوا ببريق الدنيا فآثروا شهواتهم على رضا ربهم فكانت النتيجة تلك القبور المظلمة التي تمتلئ على أصحابها نارًا.. لقد كانوا لا يتورعون عن فعل الموبقات، فهذا كان يشرك بالله، ينذر لغيره، ويذهب للسحرة والكهنة ويتلمس النفع من أصحاب الأضرحة، وهذا كان تاركًا للصلاة، عاقًّا لوالديه، قاطعًا لرحمه.. وهذه كانت تتجسس على جيرانها، وتمشي بالنميمة وسط الناس.. وهذا أدمن الكذب وظلم الناس وأكل حقوقهم.. وهذه كانت تخرج من منزلها متعطرة كاشفة شعرها وجزءا من جسدها. أحصاه الله ونسوه: لقد أحصى الله كل شيء {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].. فالملكان الموكلان بتسجيل أعمال كل فرد لم يغفلا عن عملهما ولو للحظة واحدة كما أخبرنا ربنا {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].. ومع كل ما يحدث هنا في الحياة البرزخية من ضيق وظلمة وعذاب فإنه لا يساوي شيئا مذكورًا بجانب ما سيحدث في الآخرة. فالكثير من هؤلاء من أصحاب القبور المظلمة والأعمال السيئة يرون مقعدهم من النار وما أُعد لهم من صنوف العذاب {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]. يبحثون عن طعامهم فيها فيجدوه {شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان: 43 - 46]. فإن طلبوا الماء وجدوه { كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29]. فراشهم وغطاؤهم من النار {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [الأعراف: 41]. عذابًا لا يُطاق {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل: 12، 13]. يتمنون فيها الموت ولكن هيهات هيهات {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر: 36]. يرون هذا كله فيزداد غمهم وكربهم فيقولون يا رب لا تُقم الساعة. أمنية الجميع: الكل بلا استثناء يتمنى العودة إلى الدنيا ولو للحظة يسبح الله فيها تسبيحة أو يسجد فيها سجدة.. لقد أيقنوا بأنهم قد ظلموا أنفسهم وخدعتهم الدنيا بزخرفها، وتأكدوا من حقيقة عداوة الشيطان لهم، وأنه عدو حاقد حاسد لا يترك العبد إلا إذا تأكد من أنه صائر إلى النار. خدعهم إمهال الله لهم وعدم عقابهم الفوري على ذنوبهم، وغرهم ستره المرخي عليهم فظنوا أن الأمر سيكون كذلك بعد الموت كما قال صاحب الجنتين {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36]. وتناسوا قول الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } [المؤمنون: 115، 116]. الآن تذكَّروا نداءات ربهم المتكررة لهم في كتابه بسرعة العودة إليه والتصالح معه قبل فوات الأوان {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 5، 6]. ولكن هل ينفع اليوم الندم؟! {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16]. |
#10
|
||||
|
||||
![]() حلم العودة وبعد أن استعرضنا شريط الذكريات وانكشفت الحقيقة أمامنا وتبين لنا كم كنا مخدوعين في الدنيا، زاهدين في بضاعة الآخرة، وتأكد لدينا أننا قد ظلمنا أنفسنا عندما سرنا وراء رغباتها، ولم ننهها عن هواها فلقد أسعدناها لحظات يسيرة، سعادة وقتية يشوبها الكدر، اشترينا بهذه اللحظات مصيرًا بالغ السوء هنا في القبر وهناك في الآخرة، وياليت لهذا الكرب نهاية ... وفي المقابل فلقد رأينا حال من ألجم نفسه بلجام التقوى، وخاف مقام الله عز وجل، وصبر قليلًا على طاعة ربه في الدنيا فأعقب ذلك راحة وسعادة أبدية. ليتخيل كل واحد منا مقدار الحسرة التي تملؤه على الفرصة التي ضاعت منه، ثم ليتخيل أنه يُمنِّي نفسه بأنه سيعود مرة أخرى إلى الدنيا فيقول: لماذا لا أحلم بأن الله عز وجل قد منحني بالفعل فرصة أخرى للعودة إلى الدنيا فكيف سيكون حالي فيها بعد ما رأيت ما رأيت؟ بالتأكيد أن حالي سيكون مختلفًا اختلافًا كليًّا عما كنت عليه قبل الموت. مع الصلاة: سأكثر من الخُطى إلى المساجد، وسأسابق الناس إلى الصف الأول في الصلاة، وسأحشد كل معاني الخشوع فيها، وسأقف لخواطر الدنيا بالمرصاد، ولن أسمح للشيطان بسرقة شيء من صلاتي.. لن أترك سنة مؤكدة أو مستحبة إلا وأديتها.. سأحيي جزءا معتبرًا من ليلي بالذكر والصلاة والاستغفار.. سأجعل الموت نُصب عيني، وسأنتظر مجيئه في أي لحظة، فإذا ما أصبحت فلن أتوقع العيش حتى المساء، بل سأعتبر أن كل يوم ينشق فجره هو آخر يوم لي في الحياة، وكل صلاة أدخل فيها هي صلاة مودع للدنيا.. سأهجر المعاصي فلن أُرَى في مجلس لهو أو لغو، ولن أتكلم إلا بالخير والإصلاح بين الناس.. سأسعى في طلب الرزق لتوفير قوتي وقوت عيالي ولكن دون لهث أو ركض وراء المال. سأنفق قدر وسعي واستطاعتي في سبيل الله سرًّا وجهرًا، وسأحرص على أن يُدَوَّن اسمي مع المنفقين كل يوم عند الله عز وجل لأنال رضاه - سبحانه – وأنال كذلك دعوة الملك الذي يقول كل صباح: اللهم أعط منفقًا خلفًا[22]. سأحيا بالقرآن: .. سأداوم على حضور مجالس العلم النافعة المقربة إلى الله، وسيكون لي وردًا يوميا من القرآن أحافظ عليه مهما كانت ظروفي، ولن يكون همي هو الانتهاء منه فقط، بل سأتدبر آياته، وسأعيش معها، وسأستمع إليها كأنني المخاطب بها، وسأستخلص منها دروسًا عملية أصبغ بها حياتي، فالقرآن منهج حياة وكتاب هداية. .. سأطيع والدَيّ، وسأحسن إليهما بكل ما أستطيع.. سأصل رحمي وإن قطعوني، وسأعطي من حرمني، وسأعفو عمن ظلمني، فليس هناك وقت للعتاب أو الانتقام. سآمر بالمعروف وسأنهى عن المنكر، ولن أخاف في الله لومة لائم، وسأصبر – بعون الله – على ما سألاقيه من أذى الناس، سأقول للظالم كفى ظلمًا، وسأنتصر للحق ولو على نفسي أو أقربائي.. مع أهلي: سألزم زوجتي وبناتي الحجاب الشرعي السابغ الساتر، وسأربي أولادي على حب الإسلام والعمل من أجل رفعته، وأن يكونوا قدوة صالحة أينما كانوا، وسأحرص على تعليمهم ما يحتاجونه من علوم الدين، وكذلك علوم الدنيا من طب وهندسة وزراعة و...، دون أن تكون نياتهم فيها طلب العلو في الأرض بل ليُصلحوا الدنيا بالدين، وليقدموا للناس الصورة الطيبة للمسلم في معاملاته وأخلاقه وكفاءته، فلن يتقدم المسلمون إلا إذا التزموا بدينهم، وكانوا عبيدًا مخلصين لله، وفي نفس الوقت كانوا عالِمين بزمانهم، فلا ينبغي أن يكونوا في وادٍ والناس في وادٍ آخر... ومع حرصي على تعليمهم علوم الدنيا سأعمل على أن يكونوا من أهل كتاب الله المتدبرين لِما فيه، العاملين به، فالقرآن زينة المرء في الدنيا، ونوره في قبره، وشفيعه يوم القيامة... أهله هم أهل الله وخاصته. وسأجعل بعضًا من أولادي يتخصص في العلوم الشرعية فالعلماء ورثة الأنبياء، والعالِم يستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في البحر على أن يكون هذا بعد السير قُدُمًا في طريق تزكية نفوسهم حتى لا يكون العلم خادمًا لحظوظ أنفسهم، فالعلم من أعظم ما يُتَكبر به إن صادف نفسًا غير مزكاة. ..سأزرع فيهم حب الجهاد في سبيل الله، والرغبة الأكيدة في نيل الشهادة لعل واحدًا منهم ينالها فيكون سببًا للشفاعة في سبعين من أهله. أما بناتي فسأربيهن على أن يكن زوجات صالحات، تعين الواحدة منهن زوجها على طاعة الله، وتقول له حين تودعه في الصباح: اتق الله فينا فإنا نصبر على الفقر ولا نصبر عن النار. سأعوّدهم جميعًا – بمشية الله – على عدم النظر إلى من هو أعلى منهم شأنًا في الدنيا، بل ينظرون إلى من هو أقل منهم ليستشعروا نعمة الله عليهم. سأُكثر من الحديث معهم حول نعم الله علينا ليتمكن حب الله من قلوبهم، وسأرفع شعار "احفظ الله يحفظك" ليخافوا مقام الله ويرجوا مثوبته. سأقيم الإسلام في بيتي، فلن يُسمع فيه غناء خليع أو موسيقى ماجنة، ولن يُفتح التلفاز إلا لمشاهدة المفيد النافع، أو الترويح اليسير عن القلوب دون التعرض لما يغضب الله عز وجل. .. سنعمل جميعًا على الاستيقاظ قبل الفجر نتهجد ونتضرع لله عز وجل وقت السحر لنفوز بجزء من الغنيمة التي يمنحها الله – سبحانه - لعباده المتهجدين كل ليلة. .. سأربيهم جميعًا على عدم السخرية من أحد أو الاستهزاء به، وسأزرع فيهم عقيدة أن ميزان التفاضل بين الناس هو تقوى الله، فليس للشهادات أو المناصب أو السن أو النسب شأن في تميز شخص عن شخص عند الله عز وجل. .. سأوجههم كذلك إلى عدم احتقار أي مسلم مهما ولج في المعاصي فالخاتمة مجهولة، ولعل الله عز وجل يطلع على قلب العاصي فيجد فيه ذلًّا وانكسارًا وخوفًا منه سبحانه وتعالى فييسر له سبل الهدى ويختم له بخير، وفي المقابل فقد يرى سبحانه في قلوبنا كِبرًا وغرورًا فيختم عليها، ويحبط أعمالنا فتكون الخاتمة سيئة والعياذ بالله.. وسأعلمهم أنه إذا مَنَّ الله عز وجل على واحد منهم بالالتزام بفضيلة أو عزيمة فلا ينبغي أن يشعر بأفضليته على غيره ممن لم يقم بها، فهذا مدخل خطير للإعجاب بالنفس مما يسبب حبوط العمل، فرُب معصية أورثت ذلًّا وانكسارًا خيرًا من طاعة أورثت عُجبًا واستكبارًا. سباق نحو الجنان: لن أتنافس مع أحد من أجل الدنيا، فمن زاحمني في شيء منها تركته له، وفي المقابل سأتنافس مع المتنافسين في عمل الآخرة، وسأتسابق معهم إلى الله عز وجل كما أخبرنا مولانا {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]. .. سأحرص على اتباع سنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة ما استطعت، وأهم سنة ينبغي عليّ اتباعها السير على خطاه والتأسي به فيما فعله مع قومه حتى استطاع بإذن الله أن يقيم دولة الإسلام الأولى التي بسطت نفوذها على مشارق الأرض ومغاربها في سنوات معدودة. أنقذ غيرك: .. سأكون رفيقًا بالناس، باشَّا في وجوههم، متلطفًا في دعوتهم، وسأرفع شعار "أصلح نفسك، وادع غيرك"، فأغلبهم نيام وبحاجة إلى من يوقظهم ويبصرهم بحقيقة الدنيا، وهذا لن يتأتى إلا باستعمال الرفق واللين معهم كما أرشدنا الله جل شأنه {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. لا للعزلة: .. لن أعتزل الناس بحجة شيوع الفساد، فالذي يخالطهم ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر عليهم كما أخبرنا بذلك الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلو تركنا الناس فيما هم فيه، ولم نحاول إصلاحهم لأثمنا بتركنا واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. |
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |