|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() أداء الأمانة فرقان بين الأحياء والأموات وبين المحسنين والمخسرين الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي تفسير سورة الأنفال (الحلقة الخامسة) أداء الأمانة فرقان بين الأحياء والأموات وبين المحسنين والمخسرين بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. قال الله تعالى:﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 24 - 29]. أخطر ما تُبتلى به الأمم أن تنال من عدوِّها ثم تستنيم بنشوة النصر وطعم الغنائم عن مكره، وهو في شِرَّة [1] الهزيمة يُعِدُّ العدة للثأر واسترجاع مبادرة التحكم في المواقف والمواقع؛ ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم بخبرة القائد المحنك الموجَّهِ بالوحي لا يكف عن تنبيه الأنصار والمهاجرين بعد النصر في بدر إلى مخاطر الركون إلى الدعة وحلاوة المكاسب، كي لا يُدالَ عليهم من عدوِّهم ويعودوا لحالة الاستضعاف التي كانوا عليها من قبل، ويدعوهم لمواصلة الإعداد والاستعداد والتأهُّب لإتمام مشروعهم العظيم في بناء النواة الأولى لأمة الإسلام الظاهرة في الأرض، وإقامة دولتها العتيدة الشاهدة إلى يوم الدين، لا سيما وقد نزل من القرآن الكريم عقب غزوة بدر واستخلاصًا من تجربتها، ما بين الله لهم به جوهر هذه الأمة وأخطر أداة لبنائها وتحديد مراميها وأهدافها واجتناء ثمارها، فقال تعالى:﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾؛ وذلك لأن الإيمان بالله تعالى إن تحقق في قلب المرء استوجب الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، وأوجب طاعته فيما يدعو له، فإن لم تكن طاعةلم يكن إيمان. وقوله تعالى:﴿ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ﴾ فعل أمر للمبادرة بالطاعة والامتثال لما يريده الله تعالى دون تردد أو مراجعة أو تأخير، من فعل "جَاب"، وهو أصلان؛ أولهما: يعني السير في الأرض، فيقال جاب الأرض جوبًا؛ أي: سار فيها وقطعها، والثاني: يعني مراجعة الكلام، فيقال: كلَّمه فأجابه، والجوابُ هو رَديدُ الكلام سؤالًا كان أو حديثًا، تقول: أساء سمعًا فأساءَ جابةً أو إجابة أو جوابًا، وتقول: دعاه فأجابه واستجاب له واستجابه، والجوائب: الغرائب من الأخبار، من أجاب يجيبُ، واستجاب زيدت فيه السين والتاء للمبالغة، ويعني الإجابة بحزم وحرص وحسن تقدير للسائل أو الداعي، والأمر بالطاعة لله في الآية الكريمة موجه إلى المؤمنين في العهد النبوي وهم يشاركون في الجهاد من أجل فك الحصار المضروب عليهم، وكف أذى المشركين المتألبين عليهم، أو في تدبير الشأنين الخاص والعام بما ينزل على نبيِّهم صلى الله عليه وسلم من الأحكام الشرعية، كما هو موجه لكافة المسلمين في كل عصر ترشيدًا لتصرفاتهم وما ينبغي أن يكون عليه حالهم. ثم قال تعالى: ﴿ وَلِلرَّسُولِ ﴾؛ أي: واستجيبوا للرسول صلى الله عليه وسلم ﴿ إِذَا دَعَاكُمْ ﴾؛ لأن دعوة الله تسمع من رسوله صلى الله عليه وسلم وقد اختاره للبلاغ، ولا بلاغ إلا بوحي، والوحي أمر ونهي وتشريع وبشارة ونذارة، كما أن الاستجابة واجب على كل من بلغته الدعوة بقوله تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]، وقوله عز وجل عن الجن الذين سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن عند منصرفه من الطائف فآمنوا ودعوا به قومهم، قالوا: ﴿ يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأحقاف: 31، 32]. وقوله تعالى: ﴿ اسْتَجِيبُوا ﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجار والمجرور بعدها في قوله تعالى: ﴿ لِلَّهِ ﴾ متعلقان بالفعل، وحرف "إِذا" ظرف متعلق بالفعل "استجيبوا"، وقوله تعالى: ﴿ دَعاكُمْ ﴾ فعل ماضٍ مبني على الفتحة المقدرة على الألف، فاعله ضمير مستتر يعود للرسول صلى الله عليه وسلم، وحرف الكاف مفعوله. والأمر بالاستجابة في الآية الكريمة للوجوب يؤيد وجوبه ما روى أبو هريرة من (أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مَرَّ على باب أُبَيِّ بن كعب فناداه وهو في الصَّلاة، فعجَّل في صلاته، ثم جاء، فقال له: ((ما منعكَ عَنْ إجابتِي؟))، فقال: كنتُ أصلِّي، فقال: ((أليس الله يقول: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾))، فلامه على ترك الإجابة مستشهدًا بهذه الآية الكريمة التي أبيح بها للمسلم قطع صلاة الفريضة لتدارك أي أمر فيه ضرر لا يرفع إلا بقطعها، من أجل التنبيه له، أو لرفعه أو المساعدة على دفعه، إن لم يكف الجهر بالتسبيح للرجل والتصفيق للنساء كما قال صلى الله عليه وسلم: ((من نابه شيء في صلاته فليُسبِّح الرجال، ولتصفِّق النساء)). ولئن كان الأمر في هذه الآية الكريمة موجهًا حين نزولها للمهاجرين والأنصار وهم يجاهدون لكسر حصار المشركين حولهم وكف أذاهم وإقامة دولتهم، فإنه موجه كذلك لكل المسلمين في كل عصر ترشيدًا لهم وتبيانًا لما ينبغي أن يكون عليه حالهم، واقتداء برسولهم صلى الله عليه وسلم، وكانت دعوته دائمًا إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له، تصورًا إيمانيًّا واضحًا سليمًا لا شبهة فيه من شرك خفي أو ظاهر، فأُوذي وطُورد من أقرب الناس إليه، في بطاح مكة، كما في رواية طارق المحاربي إذ قال: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ [2] وَأَنَا فِي بياعَةٍ أَبِيعُهَا، قَالَ: فَمَرَّ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ لَهُ حَمْرَاءُ، وَهُوَ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ: ((أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا)) وَرَجُلٌ يَتْبَعُهُ بِالْحِجَارَةِ قَدْ أَدْمَى كَعْبَيْهِ وَعُرْقُوبَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تُطِيعُوهُ فَإِنَّهُ كَذَّابٌ، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا غُلَامُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قُلْتُ: فَمَنْ هَذَا الَّذِي يَتْبَعُهُ يَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ؟ قَالُوا: عَمُّهُ عَبْدُ الْعُزَّى وَهُوَ أَبُو لَهَبٍ"[3]. وذلك ما داوم صلى الله عليه وسلم على الدعوة إليه ووجب الاستجابة له طيلة حياته الشريفة، ونزل به الوحي في المرحلة المدنية تذكيرًا به وتأكيدًا له بقوله تعالى: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 136]، وكان آخر ما تكلم عند وفاته صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس: ((جلال ربي الرفيع فقد بلَّغْت)). إلا أن نجاح دعوة التوحيد وفلاح أهلها يقتضي طاعة المدعوين، فإن لم تكن طاعة لم يكن إيمان ولم يكن فلاح؛ ولذلك وردت الدعوة إليه بفعل الأمر الذي يقتضي الوجوب ﴿ اسْتَجِيبُوا ﴾، ثم أعقبه الترغيب في الطاعة بما يبين فضل التوحيد مجملًا بقوله تعالى: ﴿ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾، إشارة إلى أن الحياة الحقيقية للأفراد والأمم رهن بالتوحيد الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولئن اختلف تعريف المأمور به في هذه الآية الكريمة؛ فقال السدي: إن المأمور بالاستجابة هو الإيمان، وقال قتادة: هو القرآن وبه النجاة والعصمة في الدارين، وقال مجاهد: هو الحق، وقال غيره: هو الجهاد كله، وَأخرج ابْن إِسْحَق وَابْن أبي حَاتِم عَن عُرْوَة بن الزبير رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله تعالى ﴿ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾: "أَي للحرب الَّتِي أعزَّكم الله بهَا بعد الذل، وقوَّاكم بها بعد الضعْف، ومنعكم بهَا من عَدوكُمْ بعد الْقَهْر مِنْهُم لكم"، فإن الإسلام كله، قرآنه وسنته، وأحكامه ونظامه وجهاده هو الحياة الحقيقية للإنسان، وهي العصمة والنجاة له في الدارين، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الصف: 7]، وقال: ﴿ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ﴾ [الشورى: 47]، والاستجابة التامة لربِّنا ولدعوة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم هي الاستجابة لدعوة الإسلام كله؛ لأن الإسلام منهج متكامل، لدين واحد متكامل، لا تحيا البشرية إلا به، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ [آل عمران: 19]، والناس بدونه سادرون في غفلتهم، أموات غير أحياء، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ [النحل: 20، 21]، والاستجابة لدعوة الإسلام هي التي أحيت المهاجرين والأنصار أول عهد الناس بها، وهي التي تحافظ على حياة المسلمين مهما طال بهم النوى، وبعدت بهم الشقة، ترفع قدرهم، وتقوي شوكتهم، وترضي ربهم، وتدخلهم الجنة في الآخرة، حيث الحياة الحقيقية لعباد الله المتقين، قال تعالى: ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64]. لقد عانى الصف الإسلامي الأول وهو يتجه للقتال في بدر رجَّاتٍ عند الخروج إليه وقد أمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخرى عند الاختيار بين مواجهة جيش المشركين أو الاكتفاء بقافلتهم التجارية، وعند اقتسام الغنائم بعد النصر، وكانوا في أشد الحاجة إلى الدعم النفسي وتقوية ثقتهم بربهم وما آمنوا به من الحق، وتبديد ما قد ينتاب بعض النفوس والقلوب من الخوف والتردد أو الاضطراب أو المشاعر الانهزامية؛ ولذلك بعد أن دعاهم الوحي الكريم إلى الاستجابة لدعوة الله التي تُحييهم، بيَّن لهم فضلها عليهم، فقال عز وجل: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾ [الأنفال: 24]؛ أي: اعلموا أن الاستجابة لأمر الله تحول بين قلبه وبين أهوائه وهواجسه ووساوسه وشطحات الشيطان فيه، فتنجلي عن فطرته أغباشها، ويتجرَّد من علائق الدنيا، ويزداد إيمانه، وينصع ويقتحم عقبة اليقين، ويستأثر حب الله بقلبه؛ فيحول بينه وبين الشرك والمعاصي، ويصبح ربانيًّا مزهرًا منيرًا حيًّا، كما قال عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو سعيد الخُدْري: (أَجْرَد فِيهِ مِثْلُ السِّرَاجِ أَزْهَر) [4]، فإذا صاحبه من أولياء الله الذين قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ))، وقد روى ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾ قال: يحول بين المؤمن وبين المعصيةِ التي تجرُّهُ إلى النارِ، وسمع عُمرُ رجلًا يقولُ: اللَّهُمَّ إنك تحولُ بين المرءِ وقلبِهِ، فحُل بيني وبينَ معاصيك، فأعجبَ عُمرَ ودعا له بخيرٍ. ثم عقب الحق تعالى على هذا الفضل الذي يناله المؤمن تأكيدًا بقوله عز وجل: ﴿ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾؛ أي: واعلموا أنكم ستبعثون يوم القيامة وتحشرون وترون عاقبة الذين استجابوا لربِّهم في النعيم والذين لم يستجيبوا في الجحيم. إلا أن لهذا الحال الرباني والمآل الإحساني عوائق ومزالق قد يستدرج المرء إليها غفلة أو تقصيرًا أو ضعفًا فيجد نفسه بين فكَّي الشيطان يتلاعب به كيف يشاء؛ لذلك بادر عز وجل بالتحذير منها رحمةً بعباده وحمايةً لهم، فقال تعالى:﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً ﴾ احذروا فتنة قد تنزل بكم أو تقعون فيها أو تحضرونها أو ترونها أو تستدرجون إليها أو تسمعون بها، ولفظ "الفتنة" من حروف الفاء والتاء والنون أصل صحيح يدل على الابتلاء والاختبار، وعلى الإحراق بالنار، فيقال فتنتُ الذهب بالنار إذا أحرقتُه لأعرف صفاءه، من قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ﴾ [الذاريات: 13]؛ أي: يحرقون، والفتنة أيضًا العذاب، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يُفتنون عن دينهم فيصبرون ويثبتون، والفتَّان هو الشيطان ومن يعمل عمله، قال صلى الله عليه وسلم فيما حسَّنَه الألباني: ((لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، يَظْهَرُ النِّفَاقُ، وَتُرْفَعُ الْأَمَانَةُ، وَتُقْبَضُ الرَّحْمَةُ، وَيُتَّهَمُ الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ غَيْرُ الْأَمِينِ، أَنَاخَ بِكُمُ الشُّرُف الجُونُ)) [5]، قَالُوا: وَمَا الشُّرُفُ الْجُونُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((فِتَنٌ كقطع الليل المظلم))، وعن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: ((الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا، اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ، ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ، حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ) [6]، والفتنة في الحياة هي كل قول أو فعل أو شعور نفسي أو نجوى أو وسوسة أو علاقة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية تفسد على المرء دينه أو تصدُّه عن صواب أو تلبس عليه في حق. إن الفتنة لورودها نكرة غير موصوفة وعامة مطلقة في قوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً ﴾، تفيد الابتلاء والاختبار والتأديب إذا كانت من الله كما قال تعالى: ﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأعراف: 168]، كما تفيد البلية والمصيبة إذا كانت من العباد، قال تعالى: ﴿ وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [الحديد: 14]، فإن كانت الفتنة من الله اختبارًا للعبد مرضًا أو شقاء بغيره أو زوجة سيئة أو زوجًا سيئًا أو ولدًا عاقًّا، وجب على العبد التدبُّر ومراجعة النفس والتوبة واللجوء إلى الله القادر على رفعها، وإن كانت من العباد المفتونين ضلالات أو انحرافات وجب العمل على رفعها وإبطال آثارها بالحسبة أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، فإن لم يكن للمفتونين تدبر وتذكر أو تضرع وتوبة، ولم يكن في المجتمع نهي عن منكر وأمر بالمعروف أعطت الفتنة آثارها السيئة في المجتمع وعمَّت جميع مرافقه؛ لذلك حذَّر الحق سبحانه من رسوخها في المجتمع وسريانها فيه إن أهمل أمرها، وقال عز وجل: ﴿ لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ﴾ [الأنفال: 25]؛ أي: لا تصيب مستحقيها الظالمين وحدهم؛ بل تتعدَّاهم إلى غيرهم من الصالحين؛ لامتناعهم عن معالجة أسبابها ومسبِّباتها وآثارها، أو استنكارهم لها على الأقل، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيروه، أوشك الله أن يعُمَّهم بعقابه))، وقال: ((لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده))، وقال: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ وَهُمْ قادرون على أن يُنْكِرُوهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ))، وروي عن جابر قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلى جبريلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنِ اقْلِبْ مَدِينَةَ كَذَا وَكَذَا بِأَهْلِهَا، قَالَ: يارب، إِنَّ فِيهِمْ عَبْدَكَ فُلَانًا لَمْ يَعْصِكَ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَقَالَ: اقْلِبْهَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ فَإِنَّ وَجهه لم يتمعر فِي سَاعَة قطُّ))، قال السدي: "هذه الآية نزلت في أهل بدر اقتتلوا يوم الجمل"، وقال الزبير بن العوام: "نزلت فينا وقرأناها زمانًا، وما ظننا أنَّا أهلها فإذا نحن المعنيون بها"، وروي أن الزبير كان يسامر النبي صلى الله عليه وسلم يومًا إذ أقبل عليٌّ رضي الله عنه، فضحك إليه الزبير، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم تحذيرًا من فتنة قد تصيبه: ((كيف حُبُّك لعليٍّ؟))، فقال الزبير: "يا رسول الله، أحِبُّه كحُبِّي لولدي أو أشد"، فقال صلى الله عليه وسلم: ((كيف أنت إذا سِرْتَ إليه تُقاتِلُه؟)). وختم الحق تعالى تحذيره من إثارة الفتن أو الركون إليها أو مهادنتها أو استثمارها مُذكِّرًا بعاقبة ذلك في الآخرة بقوله عز وجل:﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾؛ أي: اعلموا أن عقوبة الاستهانة بالفتن أو الخوض فيها أو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن ظهرت في المجتمع، شديدة عند الله تعالى، قد تكون لعنًا في الدنيا والآخرة كما هو الشأن في بني إسرائيل بقوله تعالى: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78، 79]، وقد تكون هلاكًا للأمة بعذاب عام مباشر كما كان في قوم لوط؛ إذ شاعت فيهم الفاحشة، فلم يتناهوا عنها ولم يقبلوا نصيحة فيها، وقال عنهم: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ﴾ [الحجر: 73، 74] وفي قوم فرعون وقد قال فيهم عز وجل: ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ ﴾ [الزخرف: 55، 56] وكما هو شأن المسلمين في صدر الإسلام؛ إذ أدَّى ببعضهم الصراع على السلطة إلى سفك الدماء وقطع الأرحام وتخريب البلاد ثم تمزقها دويلات وأقطارًا، عليها أمراء فسدة ظلمة، ساموا الأمة سوء العذاب؛ مما حذَّر منه النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من مواقفه الشريفة، وأمر باعتزاله فقال: ((إذا كانت الفتنة بين المسلمين فاتخذ سيفًا من خشب))، وما رواه ثوان بن ملحان بإسناد حسن قال: كُنَّا جُلُوسًا فِي الْمَسْجِدِ فَمَرَّ عَلَيْنَا عَمَّارٌ، فَقُلْنَا لَهُ: حَدِّثْنَا حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِتْنَةِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يَقْتَتِلُونَ عَلَى الْمُلْكِ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ بَعْضًا))، قُلْنَا: لَوْ حَدَّثَنَا بِهِ غَيْرُكَ كَذَّبْنَاهُ أَمَا إِنَّهُ سَيَكُونُ. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |