... هي بمجموعها الدواعي السّتةَ عشر التالية:
الداعي الأول
الاحتياط بذكر العنصر؛ لضعف التعويل على القرينة فيما لو حُذِف؛ إذْ تكون القرينة غير كافية للدلالة عليه، ويخشى المتكلّم أن يَلْتَبِسَ المرادُ على المتلَقِّي إذا حذفه تعويلًا على القرينة التي يمكن أن تدُلَّ عليه.
الإِشعار بغباوة المخاطب، وأنّه ليس من الّذين يُدْرِكون المراد بالقرائن، بل لا بدَّ من إعلامه باللّفظ الخاصّ الصريح الدّال على العنصر.
إرادة زيادة الإِيضاح والتقرير، وذلك حين يكون الموضوع يقتضي ذلك، كأمور العقائد، وأحكام الحلال والحرام، والصِّيغ القانونيّة التي قد يتلاعبُ بمعانيها أصحاب الأهواء، ولا تكفي القرائن لإِلزامهم بالمعاني المرادة.
ويَحْسُنُ هذا الإِيضاح والتقرير في مجال تعليم مسائل العلوم، وفي الوعظ والإِرشاد، وفي مقام إثارة الحماسة وسائر العواطف، وفي البيانات والبلاغات العامّة للجماهير.
إرادة التعظيم والتفخيم، ويظهر هذا في نحو الأسماء والألقاب التي يُشْعِر ذكْرُها بعظمة أصحابها وفخامتهم، وفيما يُثِير ذكرُه في النفوس المهابة أو الإِجلال.
إرادة الإِهانة والتحقير، ويظهر هذا في نحو الأسماء والألقاب التي يُشْعِرُ ذكرها بمهانة أصحابها وحقارتهم، وفيما يُثيرُ ذكْرُهُ في النفوس الاحتقار والاستهانة.
إرادة التهويل، ويظهر هذا فيما يُثيرُ ذكرُه في النفوس مشاعر الخوف والرهبّة.
إرادة استثارة ما في نفوس المتلقّين من كوامن المشاعر، كإثارة شوق المخاطب بذكر اسم محبوبه، وإثارة الشوق إلى الوطن، بذكر اسمه لدى المسافر البعيد عنه المشوق إلى العودة إليه.
إرادة التلَذُّذ، ويظهر هذا الداعي في الألفاظ الّتي يُحبُّ المتكلّم أن يُرَدِّدَها على لسانه؛ لأنّه يحبُّ مسمَّيَاتها، كاسم المعشوقة عند العاشق، واسم الذهب عند عشاقه.
ويقول الناس: من أحبّ شيئًا أكثر من ذكره.
إرادة التبرُّك، أو العبادة ويظهر هذا في الأدعية، والأوراد، والأذكار.
إرادة ترسيخ ما يدُلُّ عليه اللّفظ في نفوس المتلقِّين، كألفاظ الأذان التي تعاد وتكرّر. وكما يفعل مُرَدِّدو الشعارات بغية ترسيخها في نفوس الجماهير، حتى تكون معانيها جزءًا من مفاهيمهم الثابتة، ففي خطبة واحدة يُرَدِّدُ زعيم اشتراكيٌّ مثلًا لفظ "الاشتراكية" مئة مرّة، ولا يكتفي بأن يدُلَّ عليها بالضمائر.
إرادة بسط الكلام في المقام الذي يحسُنُ فيه بسط الكلام، كمقام الافتخار، أو المدح، أو الذمّ والتشنيع والتوبيخ، وكمقام التعليم، أو الترويج لفكرةٍ ما، أو الترغيب فيها، أو الترهيب منها.
ويُراد بسْطُ الكلام لإِطالة وقت المحادثة والمحاورة، بغية التشرُّف، أو التبرّك، أو الاستئناس، أو الاستمتاع والتلذّد. وقد يُراد بسط الكلام بغية استدراج المخاطب للإِفاضة عمّا في نفسه؛ إذْ يُفْصِحُ في حالة الإِفاضة عن أشياء يَحْرِصُ في العادة على كِتْمانِها وعدم الإِعلام بها.
إرادة التسجيل على المخاطب حتَّى لا يتأَتى له الإِنكار.
إرادة تأكيد الرّدّ على المخاطب إذا كان يُنْكِرُ صحة ما يقال له، مثل قوله الله عزَّ وجلَّ في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول):{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)}.
لقد كان يمكن فهم المراد دون ذكر [يُحْيِيها] لكن اقتضَى الردُّ على سؤالِ منكر البعث بإحياء العظام وهي رميم، بأنْ يُقالَ له: يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة.
كونُ المختار للذكر نوعًا من الكلام يُفِيدُ معنىً خاصًّا مرادًا لا يُسْتفاد هذا المعنى عند حذفه، ولو كان أصل المعنى قد يُفْهَم، ولكن بوجه عامّ، أو على وجه الإِجمال، فَيُقْصَدُ التعيين بالذكر.
ويظهر هذا في نحو دلالة الفعل المضارع على التجدّد، ودلالة الاسم على مطلق الثبوت، والدلالات الخاصّة لأسماء الموصول، وأسماء الإِشارة، وغير ذلك.
إرادةُ تكوين جُمَلٍ مستقلّة في الكلام، حتَّى يتَهَيّأَ إمكان سَوْقٍ كلٍّ منها منفردةً في المقام الملائم لها عند الحاجة.
ويكثُرُ هذا في الْجُمَلِ القرآنيَّةِ التي يصلُح الاستشهاد بها في المواضع الملائمة لها، فإذا حُذِفَ منها ما يمكن فهمه مع حذفه ضمن جُمَلِ الآية وهي مجتمعة، لم يتيسَّر الاستشهاد بالواحدة منها بصورة منفردة عند المناسبة الداعية إلى الاستشهاد بها، مثل قول الله عزّ وجل في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول): {وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا (126)}.
فلو حذف لفظ الجلالة الذي بعد [وكان] لما نقص من المعنى شيء، ولكن لا يَحْسُنُ عندئذٍ اقتطاعُ جملةٍ: "وكانَ بكلّ شيء محيطًا" والاستشهاد بها منفصلةً عن الجملة السابقة لها.
إرادة إظهار التعجّب والاستغراب،كأن يقول قائل بشأن شخص حذّاء اسمه "مسرور" لم يُعرَف عنه أنّه خطب بين الناس خُطبةً ما: لقد خطب اليوم مسرورٌ الحذاء خطبةً عصماء أَسَرَتِ الجماهير، وأثَّرَتْ فِي عَواطفهم تأثيرًا عظيمًا. فيقول المخاطَبُ مُتَعَجِّبًا: أمسرورٌ الحذاء هو الذي خطب هذه الخطبة العصماء؟!
وقد كان يكفي أن يقول: أحقًّا خطب هذه الخطبة، ولكنَّه أعاد ذكر اسمه متعجّبًا، ومستعيدًا تذكّر صفاته التي لم يكُنْ يَتَخَيَّلُ معها أن يكونَ خطيبًا، فضلًا عن أن يخطب خُطْبَةً عصماءَ.