|
|||||||
| ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
|
وقفات مع حديث جامع لآفات النفس د. عبدالسلام حمود غالب تُعد الأحاديث النبوية الشريفة منبعًا لا يَنضُب من الحكمة، فهي تحمل في طيَّاتها خلاصة الهداية الإلهية في كلمات قليلة جامعة، ومن تلك الأحاديث العظيمة: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلاثٌ مُهْلِكاتٌ: شُحٌّ مُطاعٌ، وهَوًى مُتَّبَعٌ، وإعْجابُ المَرْءِ بنفْسِهِ"؛ (رواه الطبراني والبيهقي، وصحَّحه الألباني). هذا الحديث ليس مجرد تحذيرٍ عابر، بل هو خارطة طريق للنفس البشرية، يحدِّد فيها النبي صلى الله عليه وسلم أخطر ثلاثة أمراض قلبية قد تدمِّر حياة الإنسان في الدنيا والآخرة، وتُفسد علاقاته بنفسه، وبربه، وبالمجتمع مِن حوله. المهلكات الواردة في الحديث: 1- الشُّحُّ المُطَاعُ: عبودية المال والناس: الشُّح ليس مجرد بُخلٍ، بل هو حالة نفسية مرضية أعمقُ وأخطر، فبينما يقتصر البخل على منع الواجبات المالية من النفس، فإن الشُّح هو حرص شديد يمتلك القلب، يجعله متعلقًا بالمال تعلقًا يُشبِه العبودية؛ كلمة "مُطَاع" في الحديث هي مِفتاح الفَهْم العميق لهذه الآفة، فهي تعني أن الإنسان لا يكتفي بوجود هذه الصفة فيه، بل يستسلم لها، ويُخضع إرادته وقراراته لرغبة الشُّح، فيمنع ما أوجب الله عليه، ويُقصِّر في حقوق الأهل والأقارب، بل قد يدفَعه هذا الحرص الشديد إلى الطمع فيما يَملِكه الآخرون، هذه العبودية للمال تُفسد الإنسان من الداخل، وتُحول نظرته من العطاء إلى الأخذ، ومن السخاء إلى المنع. مظاهره ونتائجه المدمرة: تدمير العلاقة مع الله: يمنع الإنسان من أداء حقوق الله في ماله؛ مثل الزكاة الواجبة، والصدقات المستحبة التي تُطهِّر النفس وتنمِّي المال. إفساد العلاقات الاجتماعية: يُحوِّل الشُّح الإنسان إلى كائن منعزلٍ، يُعادي أقاربه وأصدقاءه من أجل المال، ويُدمِّر الثقة والروابط الإنسانية؛ مما ينشر الكراهية والبغضاءَ. هلاك النفس:يُصبح الشحيح أسيرًا لماله، لا يستطيع أن يستمتع به، بل يعيش في خوف دائم من الفقر، ويُحرم من لذة العطاء. أقوال العلماء: يُفرِّق الإمام ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" بين الشُّح والبخل بقوله: "الشح أشد من البخل؛ لأنه بُخل مع حرصٍ، والبخل منعُ الواجب، والشحُّ منع الواجب وغير الواجب"، وهذا يؤكد أن الشُّح يتجاوز مجرد البخل إلى حالة مرضية من الامتناع عن كل صور العطاء. ويوضِّح شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" أن "الشح هو الحرص على ما في أيدي الناس، والبخل هو الامتناع عما في يده"، وهذا يبيِّن أن الشُّح قد يدفع صاحبه إلى الطمع فيما يَملِكه الآخرون أيضًا، وهي درجةٌ أشدُّ خطورة. 2- الهَوَى المُتَّبَعُ: تحكيم الرغبة على الحق: الهوى: هو ميل النفس إلى الشهوات والرغبات، دون النظر إلى حدود الشرع أو العقل، ومَكمن الخطر في الحديث يَكمُن في كلمة "مُتَّبَع" التي تُشير إلى أن الإنسان قد جعل هواه إلِهًا يُعبَد من دون الله، فبدلًا من أن يكون القرآن والسنة هما الميزان الذي يزن به الإنسان أفعاله وقراراته، يصبح الهوى هو الميزان. الهوى هنا ليس مجرد رغبة عابرة، بل هو منهجُ حياة، يدفع الإنسان إلى تبرير أخطائه، والتمسك بآرائه حتى وإن كانت باطلة؛ لأنه يرى أن صوابها يَكمُن في كونها تتماشى مع رغباته الشخصية. مظاهره ونتائجه المدمرة: الضلال عن سبيل الله؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ص: 26]، فصاحب الهوى لا يستطيع أن يُميز بين الحق والباطل؛ لأنه لا يبحث عن الحق، بل يبحث عما يُشبع رغبته. العمى عن الحقيقة: يؤدي الهوى إلى اتخاذ القرارات بناءً على العاطفة والمصلحة الشخصية لا على الصواب والعدل؛ مما يُفسد الحياة الاجتماعية ويُبطل الأحكام. التحكم والتعنت: يُصبح صاحب الهوى متعنتًا في رأيه، يرفض النصح والإرشاد؛ لأنه يرى أن صوابه نابعٌ من رغبته التي لا يُمكن أن تكون خاطئة. أقوال العلماء: يلخص الإمام ابن القيم الجوزية في "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" خطورة الهوى بقوله: "أصل الضلال والشقاء اتِّباع الهوى، ومفتاح السعادة اتباع الهدى." ويُضيف الإمام الشاطبي في "الموافقات" أن الهوى ليس له مكان في أمور الدين والشريعة، فيقول: "لا بد من الخروج عن الهوى بالكلية في الشرعيات، وأما العاديات فمحلُّها الاجتهاد"، وهذا يوضح أن الهوى إذا دخل في الدين، فإنه يُفسده ويُضل صاحبه. 3- إِعْجَابُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ: نسيان المُنعم والوقوع في الكِبر: إعجاب المرء بنفسه هو آفةٌ خفية تتسلَّل إلى القلب، وتجعله يرى أفعاله وأعماله من منطلق الفخر والاستكثار، مع نسيان مصدر هذه الأفعال، فالعُجب ليس مجرد إعجاب بالجمال أو الذكاء، بل هو حالة نفسية يرى فيها الإنسان أن النعم التي يعيشها، أو الأعمال الصالحة التي يقوم بها، أو الذكاء الذي يَمتلكه - هي من استحقاقه الشخصي وذاته، لا من فضل الله عليه. كلمة "بِنَفْسِهِ" في الحديث تؤكِّد أن العُجب مرض ذاتي، يجعل الإنسان محورَ الكون، ويجعله يُفكر في "أنا" بدلًا من "الله". مظاهره ونتائجه المدمرة: الكِبر واحتقار الآخرين: العُجب هو أول درجات الكبر، فعندما يُعجب الإنسان بنفسه، فإنه لا يرى أحدًا أفضل منه، ويبدأ في احتقار الآخرين والتقليل من شأنهم؛ مما يُفسد العلاقات الإنسانية. إغلاق باب التطور: المُعجَب بنفسه يظن أنه وصل إلى الكمال، فلا يرى في نفسه عيبًا يستدعي الإصلاح، ولا يسمع نصيحة، ولا يقبل تقويمًا؛ مما يوقِفه عن التطور والتحسن. التعرض لغضب الله: العُجب يُنسي الإنسان فضل الله، ويُحبط العمل الصالح، فقد يرى الإنسان أن عمله الصالح سببٌ في نجاته، فيُنسيه أن التوفيق للعمل هو نعمة، وأن القبول هو من الله وحده. أقوال العلماء: يصف الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين" العُجب بأنه: "استعظام النعمة والسرور بها، مع نسيان إضافتها إلى المنعم، ورؤية النعمة من النفس لا من الله"، وهذا يربط العُجب بنسيان فضل الله على الإنسان، وهو جوهرُ خُطورته. ويُعلق الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" على هذه الآفة بقوله: "العجبُ هو استعظام العمل واستكثاره، ورؤيةُ الإنسان نفسه فيه"، ويُضيف أن هذا يؤدي إلى الكبر واحتقار الآخرين، وهو ما يُعد من أخطر آفات القلوب. الخلاصة مما سبق يقودنا الى خارطة طريق للنجاة: هذا الحديث النبوي الشريف يقدِّم لنا خارطة طريق للنجاة من ثلاث مهلكات أساسية، تُفسد الإنسان في ثلاثة محاور رئيسية: الشُّحُّ المُطَاع: يُفسد علاقتنا بالمال والآخرين، ويُحوِّل الإنسان إلى أسير للمادة. الهَوَى المُتَّبَع: يُفسد علاقتنا بالحق والدين، ويُحوِّل الإنسان إلى أسير للرغبة. إِعْجَابُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ: يُفسد علاقتنا بذواتنا وربِّنا تعالى، ويُحوِّل الإنسان إلى أسيرٍ للغرور. إن النجاة من هذه المهلكات تَكمُن في ثلاثة أضداد: الكرم والسخاء لمواجهة الشُّح، اتِّباع الحق والهدى لمواجهة الهوى، والتواضُع والشعور بالتقصير والامتنان لمواجهة العُجب، إنها دعوةٌ لتطهير النفس من أخطر أمراضها، والعودة إلى فطرتها السليمة.
__________________
|
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |