السلفية بين تهمة التشدد وواقع الغربة (معالم الوسطية بين النص الشرعي ونزعات الهوى ..) - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         5 زيوت طبيعية تساعدك في إزالة رائحة اللحوم من اليدين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 56 )           »          حلول وخطوات فعالة للتخلص من رائحة الأضحية فى المنزل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 46 )           »          أفضل طريقة لتنظيف الممبار فى منزلك بخطوات سريعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 49 )           »          5 تريكات عشان تستمتع بمكسرات العيد طازة ولذيذة.. من الشراء للتخزين والتقديم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 62 )           »          خطبة عيد الأضحى: العيد وثمار الأمة الواحدة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 61 )           »          خطبة العيد فرح وعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 54 )           »          كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 25 - عددالزوار : 1484 )           »          الآلئ والدرر السعدية من كلام فضيلة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          المرأة والأسرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 68 - عددالزوار : 9947 )           »          تحت العشرين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 68 - عددالزوار : 11719 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 25-05-2024, 10:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,535
الدولة : Egypt
افتراضي السلفية بين تهمة التشدد وواقع الغربة (معالم الوسطية بين النص الشرعي ونزعات الهوى ..)

السلفية بين تهمة التشدد وواقع الغربة (معالم الوسطية بين النص الشرعي ونزعات الهوى ..)



تتنامى في الساحة الفكرية والدوائر السياسية قناعة تقضي بأن السلفية (مذهب) إسلامي يرسخ الفكر المتشدد والممارسات الدينية المتطرفة. وقد اتضحت جليا الخلفية التي أدت إلى انتشار هذه القناعة؛ خلفية أطّرَتْها الدراسات الغربية القديمة والحديثة التي تهدف إلى تقييم المذاهب والطوائف الإسلامية؛ من أجل التمكين لأقربها إلى خدمة المشروع الأمريكي، رائد المشاريع المبشرة بدين «النظام العالمي الجديد» الذي يريد سدنته فرضه على البشرية من خلال عولمة اقتصادية وشموليته اجتماعية خانقتين.
مع ما يكمل ذلك من ضرورة إقصاء كل الدعوات التي تسعى للتمكين «للنظام العالمي الإسلامي»، وتدعو للرجوع إلى الأصول الشرعية الكفيلة بزرع روح العزة والمجد في جسد الأمة المنهك؛ ومن هنا بات من المتعين محاربة الدعوة السلفية التي تعظم النص الشرعي، وتصون دلالته من التلاعبات المفضية إلى تحريف الدين بتأويلات الجاهلين وانتحال المبطلين.
وهذا يفسر لنا ما نشاهده من سياسات وتحالفات تدعم كل المذاهب والتوجهات التي تميل إلى التحلل من الأحكام الشرعية عن طريق التأويل الفاسد وتحريف المعاني –مثلا-، أو عن طريق إحداث مصادر تلقي تزاحم النص؛ كالكشف الصوفي، أو عن طريق توظيف علم المقاصد وقواعد المصلحة لتفريغ النصوص من دلالاتها؛ بحيث تصير المقاصد والمصالح فتنة بالعرض وإن كانت في أصلها حكمة بالذات، كما تنبأ بذلك رائد علم المقاصد، العلامة أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله.
وهؤلاء المتحللون نوعان:
- الأول: لا يؤمن بشيء اسمه حجية النص أو قدسيته، أو طاعة الله ورسوله، ولكن يظهر خلاف ما يبطن، ليهدم الإسلام من الداخل؛ وهؤلاء هم الباطنية بمختلف فرقهم القديمة والحديثة.
- والثاني: يقر بحجية النص قولا وادعاء، لكنه يخالف ذلك عملا وسلوكا -على تفاوت بين هؤلاء في درجة المخالفة- وبمعنى آخر: يشهد –بقوله- بأن النص قدسي وأن طاعة الله ورسوله واجبة، ولكنه يفرغ هذه الحقيقة من معناها؛ برد دلالات بعض النصوص ولو كانت قطعية أو تقوم على غلبة الظن([1]).
فيتكئ على عدم قطعية الدلالة ليسوّغ لنفسه رد الحكم بتأويله، تأويلا غير شرعي.،وهذا خارج عن سَنن العلماء الذين اتفقوا على أن ظاهر النص معتبر، وأن تأويله لا يصح إلا بدليل، وأن حجيته لا تُردّ بسبب كون دلالته ظنية غير قطعية، وما اتفقوا عليه مسلك علمي تم إبرازه من خلال علم أصول الفقه، وليس تشددا ولا انغلاقا ولا حرفية.
وهذا المسلك هو الطريق إلى الوسطية التي تحقق التوازن بين لفظ النص ومعناه، وبين ظاهره وفحواه، وهي طريقة العلماء السلفيين في العمل بظواهر النصوص عملا لا ينافي الاستفادة المنضبطة من إشاراتها ومعانيها العميقة ومقاصدها، كما يعلم ذلك من يتأمل في أصول السلف في الاستنباط وطرائقهم في الاجتهاد، خلافا لمن يرميهم بالحرفية والجمود وقصور الفهم:
قال ابن القيم معلقا على قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال: لا؛ والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه.
قال: «ومعلوم أن هذا الفهم قدر زائد على معرفة موضوع اللفظ وعمومه أو خصوصه، فإن هذا قدر مشترك بين سائر من يعرف لغة العرب، وإنما هذا فهم لوازم المعنى ونظائره ومراد المتكلم بكلامه ومعرفة حدود كلامه؛ بحيث لا يدخل فيها غير المراد، ولا يخرج منها شيء من المراد»اهـ([2]).
فهذا هو الوسط العدل بين جفاء الحرفية التي تُتّهم بها السلفية، وميوعة الذين يريدون أن يفهموا من النص ما يريدون هم لا ما يريده المتكلم به، متذرعين بأعمال المقاصد وتحري المصلحة والتيسير، فيتحررون من الضوابط والآداب الشرعية للاستنباط، ويبتدعون طرائق باطلة في ذلك؛ كالكشف والقراءة العقلانية والقراءة العصرانية والتوفيقية والمقاصدية.. إلـخ.
وها هو ذا الإمام الشاطبي علامة علم المقاصد وخِرِّيتِه؛ يعد من أشد العلماء حرصا على ظواهر النصوص وتعظيما لدلالتها الظاهرة.
وقد استهل حديثه في (موافقاته) ببيان علاقة مقاصد الشارع بنصوصه، وأشار إلى وجود ثلاثة اتجاهات في ذلك:
- الاتجاه الظاهري: الذي يقصر مسالك الكشف عن مقاصد الشارع على ما صرحت به ظواهر النصوص، دون أن يعطي كبير اهتمام لعلل الأحكام.
- الاتجاه الباطني: الذي يهدر ظواهر النصوص ويسعى إلى التخلص منها بدعوى أنها ليست مقصودة لذاتها، ويجعل عمدته في اكتشاف مقاصد الشارع وتقدير المصالح تقديره هو.
- الاتجاه الثالث: هو منهج التوسط، وهو اعتبار ظواهر النصوص ومعانيها في مسلك توافقي لا يسمح بإهدار أحد الجانبين على حساب الآخر ولا بطغيان أحدهما على الآخر، فيعطي للنص حقه وأبعاده التي يكون قد قصدها الشارع، وذلك بعدم إهمال الأدوات المعينة على حسن فهم النص وتطبيقه من علل وقرائن، وجمع النصوص الجزئية بعضها مع بعض لتتضح الصورة الكلية.
إن إغفال هذه الحقائق التي أصّلها السلف وأخذ بها عامة علماء السلفية - على تفاوت - جعل الكثيرين يتهمون السلفية بالنصوصية الحرفية والتصلب في الفهم، وبالتالي الحكم عليها بالتشدد والتطرف.
وقد أفرز هذا التصور مواقف وردود أفعال على المستوى الفكري والسياسي والإعلامي؛ حيث برزت أطروحات فكرية تنتقد السلفية بكثير من الظلم والتجني، واتخذت قرارات غير مسَوّغة بإغلاق مئات المدارس ودور القرآن السلفية، وإغلاق عدد من القنوات الفضائية، والسعي لإقصاء السلفيين من المنابر ..إلـخ.
وهذا التوجه المصحوب بمواقف إقصائية عدوانية يجرنا إلى التساؤل عن المعيار الذي نعتمد للحكم على مناهج التدين بالسماحة والاعتدال بعد أن نتفق على أنهما صفتان محمودتان، كما يجعلنا نتساءل عن حكم فرض الرأي في هذا الموضوع ومصادرة ما يخالفه، في الوقت الذي ندعو فيه لمد جسور الحوار مع الكفار وربط أواصر المحبة مع المنحرفين؟!
إن ادعاء الوسطية أو الاتهام بالتطرف من منطلق نزعات النفس، والقناعات الشخصية سلوك لا يمت للعلم ولا للخلق بصلة، وكون غيرك يقول بتحريم ما تعتقد حليته، أو وجوب ما تعتقد استحبابه لا يكفي للحكم عليه بأنه متشدد وبأنك معتدل، لا سيما إذا قال بقوله جمهور أهل العلم؛ فالقول بتحريم الغناء –مثلا- حكم فقهي قال به جمهور الأئمة، وعلى رأسهم الأئمة الأربعة، والقول بمشروعية النقاب مجمع عليه ..
فهل نحكم على من تبنى هذه الأحكام الشرعية ومثيلاتها بأنه متشدد ونصادر حقه في الدعوة إلى رأيه؟
نعم، لو لم يكن له متمسك في نصوصٍ صريحة أو ظاهرة، وفقهٍ لأئمة مجمع على علمهم وفضلهم؛ لربما كان الحكم عليه بالشذوذ والتشدد صائبا..
فالسؤال المطروح –إذاًن- هو: ما المعيار المعتمد شرعا للحكم على سلوك معين أو منهج تدين معين بأنه معتدل أو متطرف؟
ولن يصح الجواب على هذا السؤال إلا بتحكيم الشرع وإبعاد الهوى، ولا يصح –أبدا- تحديد الاعتدال بناء على ما تهواه النفس وتميل إليه:
قال الخالق الخبير سبحانه: {وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (البقرة:120).
وقال: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة:48).
فالاعتدال حق، وقد دلت هذه النصوص على أن الحق لا يعرف باتباع الهوى، بل يعرف باتباع الشرع.
ومن هنا قال العلماء: «المعروف في استعمال الهوى عند الإطلاق أنَّه الميلُ إلى خلاف الحقِّ».
فالشرع هو الحاكم، وحكمه هو الحق، ومتى أحست النفس بأن حكم الشرع يتنافى مع الاعتدال واليسر فإنما هو لخلل فيها وغلبة الهوى عليها، وقد علم أن حب الشيء يعمي ويصم.
«فجميعُ المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفوس على الحق الذي شرعه الله ورسوله، وقد وصف اللهُ المشركين باتِّباع الهوى في مواضع من كتابه؛ قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص:50).
وكذلك البدعُ، إنَّما تنشأ من تقديم الهوى على الشَّرع، ولهذا يُسمى أهلُها أهل الأهواء»([3]).
وعلاجا لهذا المرض ورد معنى حديث: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به»([4]).
ومعناه كما قال العلامة ابن رجب: «أنَّ الإنسان لا يكون مؤمناً كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعةً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنَّواهي وغيرها، فيحبُّ ما أمر به، ويكره ما نهى عنه.
وقد ورد القرآن بمثل هذا في غير موضع؛ قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء:65).
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (الأحزاب:36).
وذمَّ سبحانه من كره ما أحبَّه الله، أو أحبَّ ما كرهه الله، قال:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}(محمد:9)، وقال تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (محمد:28).
فالواجب على كلِّ مؤمن أنْ يُحِبَّ ما أحبَّه الله محبةً توجِبُ له الإتيان بما وجب عليه منه، فإنْ زادت المحبَّةُ حتّى أتى بما ندب إليه منه، كان ذلك فضلاً، وأنْ يكره ما كرهه الله تعالى كراهةً توجِبُ له الكفَّ عمَّا حرَّم عليه منه، فإنْ زادت الكراهةُ حتَّى أوجبت الكفَّ عما كرهه تنْزيهاً، كان ذلك فضلاً»اهـ([5]).
فهذا الاتباع لدلالة النص والامتثال لتوجيهه هو الحق المحمود، وهو الاعتدال، وما يقابله من تأويل عقلاني أو كشفي أو غيرهما هو الهوى المذموم، وإن ألبس لبوس الاعتدال أو الروحانية أو العقلانية ..
قال العلامة الشاطبي: «العقل إذا لم يكن متبعا للشرع؛ لم يبق له إلا الهوى والشهوة، وأنت تعلم ما في اتباع الهوى وأنه ضلال مبين.
ألا ترى إلى قول الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}(ص:26)؟ فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده، وهو الحق والهوى، وعزل العقل مجردا؛ إذ لا يمكن في العادة إلا ذلك.
وقال: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}(الكهف: 28)، فجعل الأمر محصورا بين أمرين: اتباع الذكر، واتباع الهوى.
وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ }(القصص: 50)، وهي مثل ما قبلها.
وتأملوا هذه الآية؛ فإنها صريحة في أن من لم يتبع هدى الله في هوى نفسه فلا أحد أضل منه، وهذا شأن المبتدع؛ فإنه اتبع هواه بغير هدى من الله، وهدى الله هو القرآن، وما بينته الشريعة.
وبينت الآية أن اتباع الهوى على ضربين:
أحدهما: أن يكون تابعا للأمر والنهي، فليس بمذموم ولا صاحبه بضال، كيف وقد قدم الهدى واستنار به في طريق هواه؟ وهو شأن المؤمن المتقي.
والآخر: أن يكون هواه هو المقدم بالقصد الأول ـ كان الأمر والنهي تابعين بالنسبة إليه أو غير تابعين ـ، وهو المذموم»اهـ ([6]).
وبعد هذا أقول: إن أصل التسليم للنص وترك الميول مع هوى النفس؛ وَرد في ترسيخه تنزيلٌ مبارك حكيم:
قال الله تعالى: {لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شيء قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْرًا كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)} (البقرة:284-286).
عن أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جثوا على الركب، وقالوا: يا رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نُطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير». فلما أقَر بها القوم وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في أثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} إلى آخره»([7]).
فهذا هو الحق الذي يورث الاعتدال والسماحة، تعظيم النص والمبادرة إلى العمل به امتثالا للأمر واجتنابا للنهي وإن تبادر منه ما يتنافى مع هوى النفس.
وحقيقة تزكية النفس هو حملها على ذلك، ومجاهدتها حتى تصير مطمئنة به، فمن عجز عن العمل بذلك أو ضعف عن تصور أحقيته، فلا يصح منه أن يصف المجتهدين بالتشدد والغلو، كما يفعل أولئك الذين سلكوا مسلك التأويل الباطل للنصوص من أجل التخلص مما تضمنته من أحكام. وإذا ظهر لنا المعيار الصحيح لتحديد مفهوم الاعتدال فلا بد أن نبين هنا أن التطرف قسمان: تطرف نحو الغلو، وتطرف نحو التمييع والتساهل المذموم.
ولا يمكن أن يوصف سلوك المرء بالاعتدال والوسطية والسماحة إلا إذا سلم من نوعي التطرف، وهو ما ينبغي أن يفهمه أولئك الذين يبالغون في ذم الغلو والتشدد والتنطع، وهم غارقون في الميوعة والتهاون والتقصير، الذي يسوغونه إما بمفهوم خاطئ للرجاء، وإما بتأويل باطل للنص، وإما بالإهمال واللامبالاة.
وقد شاع هذا التصور - مع الأسف - حتى صار هؤلاء هم من يوصفون بالسماحة والاعتدال.
وهكذا فشا هذا المعيار الفاسد في الحكم على الشيء بالاعتدال أو التطرف، فكلما تخلص المسلم من قيد شرعي كلما اشتد وصفه بالسماحة والاعتدال، وكلما التزم مسلم بقيد شرعي أو أدب مرعي كلما كان أقرب إلى التشدد والتنطع والمبالغة.
أجل، فشا هذا المعيار في مجتمعاتنا وطغى على إعلامنا، وانتقل من حيز السلوك والعمل إلى مجال الفكر والتأطير الفلسفي، بل والسياسي أيضا، وهو ما يشهد به سيل من التقارير والتصريحات والمواقف.
فما ذنب السلفي إذا اعتقد –مثلا- حرمة الاستماع إلى الموسيقى وحلق اللحية والإسبال والخلوة وسفر المرأة بغير محرم ومصافحتها إن كانت أجنبية عنه، واعتقد مشروعية النقاب ووجوب غض البصر عن المحرمات ووجوب خصال الفطرة العشرة، ونحو ذلك من الأحكام التي تضيق بها نفوس وتمجها طباع، حتى صارت في المجتمع غريبة، وأحيانا محط سخرية واستهزاء؟!
أحكام يراها بعضهم قشورا وجزئيات لا ينبغي الاهتمام بها، مع أن الموجه إليها إنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الأمة!!!
وقد حمل هذا الإرهاب الفكري كثيرا من (الإسلاميين) على التقصير في ممارسة تلك الأحكام، كوجوب الحجاب على المرأة، الذي تطبقه كثيرات بشكل منحرف: فهذه تحسر عن مقدم شعرها، وهذه تضع مساحيق التجميل، وهذه تتفنن في ارتداء اللباس الجذاب، وكأن شبح تهمة التطرف يعلو رؤوسهن بعصا مخيفة.
.. أعود فأقول: ما ذنب السلفي إذا آمن بقول النبي صلى الله عليه وسلم : «أعفوا اللحى» وقوله: «لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم»، وقوله: «ما أسفل من الكعبين في النار» وقوله: «يستحلون المعازف» وقوله: «إني لا أصافح النساء»،
ما ذنبه إذا عمل بهذه النصوص وهو يوقن بثبوتها؛ إذ هي مروية بالأسانيد الصحيحة ومخرجة في أوثق دواوين الرواية (صحيحي البخاري ومسلم).
ما ذنبه إذا عمل بها وهو موقن بصحة أحكامها التي تَتابع على تأكيدها العلماء، ولم يعرف منهم من خالف دلالتها على التحريم إلا شذّاذا في القديم أو متأولين متعسفين في الحديث، يظهر أنهم يعانون -هم بدورهم- الضغط والإكراه، اللذين يحاولون إخفاء وطأتهما –أحيانا- بلبوس المقاصد وفقه المصالح والأولويات.. ومن أدرك المعاني المتقدمة فُتح له باب عظيم في فقه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «طوبى للغرباء».
قيل: «ومن الغرباء يا رسول الله؟»
قال: «ناس صالحون قليل، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم”([8]).
وهذا حال السلفيين الصادقين بين عامة المسلمين، كما أنه حال المنهاج السلفي بين المناهج المتَّبعة في فهم الدين وتطبيق أحكامه وممارسة آدابه، لا سيما تلك التي تفرض على المسلمين في زمن الغربة الثانية ..
أسأل الله سبحانه أن يمكن لدينه القويم، ويهدينا جميعا صراطه المستقيم، وأن يكفينا شر الفتن ويعصمنا من موبقات الزلل، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم([9]).
الهوامش:
1 - وهو مناط حجية؛ وأكثر أحكام الشريعة أغلبية الظن وليست قطعيته.
2- إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 308).
3- جامع العلوم والحكم (ص:397) مع تصرف يسير.
4- حديث مشهور، لا تصح نسبة لفظه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، انظر المصدر السابق (ص:393) فما بعدها.
5 - جامع العلوم والحكم (ص. 395-396).
6- الاعتصام (1/65-66).7 - رواه مسلم.
7 - رواه أحمد (2/177و222) وصححه الألباني؛ انظر: السلسلة الصحيحة (1619).
8 - وفي الختام أنصح كل الكتاب والباحثين والصحافيين والسياسيين المهتمين بموضوع السلفية أن يأتوا البيت من بابه، وأن يعتمدوا الموضوعية والنزاهة في تقييم (التوجه) السلفي والحكم عليه: هل هو توجه إصلاحي يخدم الدين والأمة، أم هو فكر دخيل يفسد ويخرب؟ وليس من العلم ولا من الموضوعية أن نحكم على السلفية من خلال تصور جاهل بها، أو نظرية معاد لها، أو إملاءات من يرى مصلحته في الحد من انتشارها.








اعداد: الشيخ: حماد القباج




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 9 ( الأعضاء 0 والزوار 9)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 64.26 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 62.59 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.60%)]