
12-03-2023, 12:30 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,689
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء السابع
تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
الحلقة (426)
صــ 127 إلى صــ 141
ذكر من قال ذلك :
7659 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " يتلون آيات الله آناء الليل " ، أما " آناء الليل " ، فجوف الليل . [ ص: 127 ]
وقال آخرون : بل عنى بذلك قوم كانوا يصلون العشاء الآخرة .
ذكر من قال ذلك :
7660 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن الحسن بن يزيد العجلي ، عن عبد الله بن مسعود في قوله : " يتلون آيات الله آناء الليل " ، صلاة العتمة ، هم يصلونها ، ومن سواهم من أهل الكتاب لا يصليها .
7661 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : حدثني يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله بن زحر ، عن سليمان ، عن زر بن حبيش ، عن عبد الله بن مسعود قال : احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، كان عند بعض أهله ونسائه : فلم يأتنا لصلاة العشاء حتى ذهب ليل ، فجاء ومنا المصلي ومنا المضطجع ، فبشرنا وقال : "إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب! فأنزل الله : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون " [ ص: 128 ]
7662 - حدثني يونس قال : حدثنا علي بن معبد ، عن أبي يحيى الخراساني ، عن نصر بن طريف ، عن عاصم ، عن زر بن حبيش ، عن عبد الله بن مسعود قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ننتظر العشاء - يريد العتمة - فقال لنا : ما على الأرض أحد من أهل الأديان ينتظر هذة الصلاة في هذا الوقت غيركم! قال : فنزلت : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون " [ ص: 129 ]
وقال آخرون : بل عني بذلك قوم كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء .
ذكر من قال ذلك :
7663 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن منصور قال : بلغني أنها نزلت : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون " فيما بين المغرب والعشاء .
قال أبو جعفر : وهذه الأقوال التي ذكرتها على اختلافها ، متقاربة المعاني . وذلك أن الله تعالى ذكره وصف هؤلاء القوم بأنهم يتلون آيات الله في ساعات الليل ، وهي آناؤه ، وقد يكون تاليها في صلاة العشاء تاليا لها آناء الليل ، وكذلك من تلاها فيما بين المغرب والعشاء ، ومن تلاها جوف الليل ، فكل تال له ساعات الليل . غير أن أولى الأقوال بتأويل الآية ، قول من قال : "عني بذلك تلاوة القرآن في صلاة العشاء " ، لأنها صلاة لا يصليها أحد من أهل الكتاب " ، فوصف الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم يصلونها دون أهل الكتاب الذين كفروا بالله ورسوله .
وأما قوله : " وهم يسجدون " ، فإن بعض أهل العربية زعم أن معنى "السجود " في هذا الموضع ، اسم الصلاة لا للسجود ، لأن التلاوة لا تكون في السجود ولا في الركوع . فكان معنى الكلام عنده : يتلون آيات الله آناء الليل وهم يصلون ، .
وليس المعنى على ما ذهب إليه ، وإنما معنى الكلام : من أهل الكتاب أمة قائمة ، يتلون آيات الله آناء الليل في صلاتهم ، وهم مع ذلك يسجدون فيها ، ف "السجود " ، هو "السجود " المعروف في الصلاة .
[ ص: 130 ]
القول في تأويل قوله ( يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ( 114 ) )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل وعز : " يؤمنون بالله واليوم الآخر " ، يصدقون بالله وبالبعث بعد الممات ، ويعلمون أن الله مجازيهم بأعمالهم ; وليسوا كالمشركين الذين يجحدون وحدانية الله ، ويعبدون معه غيره ، ويكذبون بالبعث بعد الممات ، وينكرون المجازاة على الأعمال والثواب والعقاب .
وقوله : " ويأمرون بالمعروف " ، يقول : يأمرون الناس بالإيمان بالله ورسوله ، وتصديق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به . " وينهون عن المنكر " ، يقول : وينهون الناس عن الكفر بالله ، وتكذيب محمد وما جاءهم به من عند الله : يعني بذلك : أنهم ليسوا كاليهود والنصارى الذين يأمرون الناس بالكفر وتكذيب محمد فيما جاءهم به ، وينهونهم عن المعروف من الأعمال ، وهو تصديق محمد فيما أتاهم به من عند الله . " ويسارعون في الخيرات " ، يقول : ويبتدرون فعل الخيرات خشية أن يفوتهم ذلك قبل معاجلتهم مناياهم .
ثم أخبر جل ثناؤه أن هؤلاء الذين هذه صفتهم من أهل الكتاب ، هم من عداد الصالحين ، لأن من كان منهم فاسقا ، قد باء بغضب من الله لكفره بالله وآياته ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، وعصيانه ربه واعتدائه في حدوده . [ ص: 131 ]
القول في تأويل قوله تعالى ( وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين ( 115 ) )
قال أبو جعفر : اختلف القرأة في قراءة ذلك .
فقرأته عامة قرأة الكوفة : ( وما يفعلوا من خير فلن يكفروه ) ، جميعا ، ردا على صفة القوم الذين وصفهم جل ثناؤه بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .
وقرأته عامة قرأة المدينة والحجاز وبعض قرأة الكوفة بالتاء في الحرفين جميعا : " وما تفعلوا من خير فلن تكفروه " ، بمعنى : وما تفعلوا ، أنتم أيها المؤمنون ، من خير فلن يكفركموه ربكم .
وكان بعض قرأة البصرة يرى القراءتين في ذلك جائزا بالياء والتاء ، في الحرفين .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا : " وما يفعلوا من خير فلن يكفروه " ، بالياء في الحرفين كليهما ، يعني بذلك الخبر عن الأمة القائمة ، التالية آيات الله .
وإنما اخترنا ذلك ، لأن ما قبل هذه الآية من الآيات ، خبر عنهم . فإلحاق هذه الآية إذ كان لا دلالة فيها تدل على الانصراف عن صفتهم بمعاني الآيات قبلها ، أولى من صرفها عن معاني ما قبلها . وبالذي اخترنا من القراءة كان ابن عباس يقرأ .
7664 - حدثني أحمد بن يوسف التغلبي قال : حدثنا القاسم بن سلام قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن أبي عمرو بن العلاء قال : بلغني عن ابن عباس أنه كان يقرأهما جميعا بالياء . [ ص: 132 ]
قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذا ، على ما اخترنا من القراءة : وما تفعل هذه الأمة من خير ، وتعمل من عمل لله فيه رضى ، فلن يكفرهم الله ذلك ، يعني بذلك : فلن يبطل الله ثواب عملهم ذلك ، ولا يدعهم بغير جزاء منه لهم عليه ، ولكنه يجزل لهم الثواب عليه ، ويسني لهم الكرامة والجزاء .
وقد دللنا على معنى "الكفر " فيما مضى قبل بشواهده ، وأن أصله تغطية الشيء
فكذلك ذلك في قوله : " فلن يكفروه " ، فلن يغطى على ما فعلوا من خير فيتركوا بغير مجازاة ، ولكنهم يشكرون على ما فعلوا من ذلك ، فيجزل لهم الثواب فيه .
وبنحو ما قلنا في ذلك من التأويل تأول من تأول ذلك من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
7665 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : "وما تفعلوا من خير فلن تكفروه " يقول : لن يضل عنكم .
7666 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بمثله .
وأما قوله : " والله عليم بالمتقين " ، فإنه يقول تعالى ذكره : والله ذو علم بمن اتقاه ، لطاعته واجتناب معاصيه ، وحافظ أعمالهم الصالحة حتى يثيبهم عليها ويجازيهم بها ، تبشيرا منه لهم جل ذكره في عاجل الدنيا ، وحضا لهم على التمسك بالذي هم عليه من صالح الأخلاق التي ارتضاها لهم . [ ص: 133 ]
القول في تأويل قوله ( إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( 116 ) )
قال أبو جعفر : وهذا وعيد من الله عز وجل للأمة الأخرى الفاسقة من أهل الكتاب ، الذين أخبر عنهم بأنهم فاسقون ، وأنهم قد باءوا بغضب منه ، ولمن كان من نظرائهم من أهل الكفر بالله ورسوله وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله .
يقول تعالى ذكره : " إن الذين كفروا " ، يعني : الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به وبما جاءهم به من عند الله " لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا " ، يعني : لن تدفع أمواله التي جمعها في الدنيا ، وأولاده الذين رباهم فيها ، شيئا من عقوبة الله يوم القيامة إن أخرها لهم إلى يوم القيامة ، ولا في الدنيا إن عجلها لهم فيها .
وإنما خص أولاده وأمواله ، لأن أولاد الرجل أقرب أنسبائه إليه ، وهو على ماله أقدر منه على مال غيره ، وأمره فيه أجوز من أمره في مال غيره . فإذا لم يغن عنه ولده لصلبه ، وماله الذي هو نافذ الأمر فيه ، فغير ذلك من أقربائه وسائر أنسبائه وأموالهم ، أبعد من أن تغني عنه من الله شيئا .
ثم أخبر جل ثناؤه أنهم هم أهل النار الذين هم أهلها بقوله : " وأولئك أصحاب النار " . وإنما جعلهم أصحابها ، لأنهم أهلها الذين لا يخرجون منها ولا يفارقونها ، [ ص: 134 ] كصاحب الرجل الذي لا يفارقه ، وقرينه الذي لا يزايله . ثم وكد ذلك بإخباره عنهم إنهم "فيها خالدون " ، أن صحبتهم إياها صحبة لا انقطاع لها ، إذ كان من الأشياء ما يفارق صاحبه في بعض الأحوال ، ويزايله في بعض الأوقات ، وليس كذلك صحبة الذين كفروا النار التي أصلوها ، ولكنها صحبة دائمة لا نهاية لها ولا انقطاع . نعوذ بالله منها ومما قرب منها من قول وعمل .
القول في تأويل قوله ( مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته )
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : شبه ما ينفق الذين كفروا ، أي : شبه ما يتصدق به الكافر من ماله ، فيعطيه من يعطيه على وجه القربة إلى ربه وهو لوحدانية الله جاحد ، ولمحمد صلى الله عليه وسلم مكذب ، في أن ذلك غير نافعه مع كفره ، وأنه مضمحل عند حاجته إليه ، ذاهب بعد الذي كان يرجو من عائدة نفعه عليه كشبه ريح فيها برد شديد ، أصابت هذه الريح التي فيها البرد الشديد " حرث قوم " ، يعني : زرع قوم قد أملوا إدراكه ، ورجوا ريعه وعائدة نفعه " ظلموا أنفسهم " ، يعني : أصحاب الزرع ، عصوا الله ، وتعدوا حدوده "فأهلكته " ، يعني : فأهلكت الريح التي فيها الصر زرعهم ذلك ، بعد الذي كانوا عليه من الأمل ورجاء عائدة نفعه عليهم . [ ص: 135 ]
يقول تعالى ذكره : فكذلك فعل الله بنفقة الكافر وصدقته في حياته ، حين يلقاه ، يبطل ثوابها ويخيب رجاؤه منها . وخرج المثل للنفقة ، والمراد ب "المثل " صنيع الله بالنفقة ، فبين ذلك قوله : " كمثل ريح فيها صر " ، فهو كما قد بينا في مثله قوله : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) [ سورة البقرة : 17 ] وما أشبه ذلك .
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : مثل إبطال الله أجر ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا ، كمثل ريح فيها صر . وإنما جاز ترك ذكر "إبطال الله أجر ذلك " ، لدلالة آخر الكلام عليه ، وهو قوله : " كمثل ريح فيها صر " ، ولمعرفة السامع ذلك معناه .
واختلف أهل التأويل في معنى "النفقة " التي ذكرها في هذه الآية .
فقال بعضهم : هي النفقة المعروفة في الناس .
ذكر من قال ذلك :
7667 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا " ، قال : نفقة الكافر في الدنيا .
وقال آخرون : بل ذلك قوله الذي يقوله بلسانه ، مما لا يصدقه بقلبه .
ذكر من قال ذلك :
7668 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثني أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته " ، يقول : مثل ما يقول فلا يقبل [ ص: 136 ] منه ، كمثل هذا الزرع إذا زرعه القوم الظالمون ، فأصابه ريح فيها صر ، أصابته فأهلكته . فكذلك أنفقوا فأهلكهم شركهم .
وقد بينا أولى ذلك بالصواب قبل .
وقد تقدم بياننا تأويل "الحياة الدنيا " بما فيه الكفاية من إعادته في هذا الموضع .
وأما "الصر " فإنه شدة البرد ، وذلك بعصوف من الشمال في إعصار الطل والأنداء ، في صبيحة معتمة بعقب ليلة مصحية ، كما :
7669 - حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن عثمان بن غياث قال : سمعت عكرمة يقول : " ريح فيها صر " ، قال : برد شديد .
7670 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : " ريح فيها صر " ، قال : برد شديد وزمهرير .
7671 - حدثنا علي بن داود قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : " ريح فيها صر " ، يقول : برد .
7672 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "الصر " ، البرد .
7673 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " كمثل ريح فيها صر " ، أي : برد شديد .
7674 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
7675 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في "الصر " ، البرد الشديد . [ ص: 137 ]
7676 - حدثنا محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثنا عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " كمثل ريح فيها صر " ، يقول : ريح فيها برد .
7677 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : " ريح فيها صر " ، قال : "صر " ، باردة أهلكت حرثهم . قال : والعرب تدعوها "الضريب " ، تأتي الريح باردة فتصبح ضريبا قد أحرق الزرع ، تقول : "قد ضرب الليلة " أصابه ضريب تلك الصر التي أصابته .
7678 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا جويبر ، عن الضحاك : " ريح فيها صر " ، قال : ريح فيها برد .
القول في تأويل قوله ( وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ( 117 ) )
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وما فعل الله بهؤلاء الكفار ما فعل بهم ، من إحباطه ثواب أعمالهم وإبطاله أجورها ظلما منه لهم يعني : وضعا منه لما فعل بهم من ذلك في غير موضعه وعند غير أهله ، بل وضع فعله ذلك في موضعه ، وفعل بهم ما هم أهله . لأن عملهم الذي عملوه لم يكن لله وهم له بالوحدانية دائنون ، ولأمره متبعون ، ولرسله مصدقون ، بل كان ذلك منهم وهم به مشركون ، ولأمره مخالفون ، ولرسله مكذبون ، بعد تقدم منه إليهم أنه لا يقبل عملا من عامل إلا مع إخلاص التوحيد له ، والإقرار بنبوة أنبيائه ، وتصديق ما جاءوهم به ، وتوكيده الحجج بذلك عليهم . فلم يكن بفعله ما فعل بمن كفر به وخالف أمره في ذلك بعد [ ص: 138 ] الإعذار إليه ، من إحباط وفر عمله له ظالما ، بل الكافر هو الظالم نفسه ، لإكسابها من معصية الله وخلاف أمره ، ما أوردها به نار جهنم ، وأصلاها به سعير سقر .
القول في تأويل قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم )
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، وأقروا بما جاءهم به نبيهم من عند ربهم " لا تتخذوا بطانة من دونكم " ، يقول : لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم " من دونكم " يقول : من دون أهل دينكم وملتكم ، يعني من غير المؤمنين .
وإنما جعل "البطانة " مثلا لخليل الرجل ، فشبهه بما ولي بطنه من ثيابه ، لحلوله منه - في اطلاعه على أسراره وما يطويه عن أباعده وكثير من أقاربه - محل ما ولي جسده من ثيابه .
فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاء وأصفياء ، ثم عرفهم ما هم عليه لهم منطوون من الغش والخيانة ، وبغيهم إياهم الغوائل ، فحذرهم بذلك منهم ومن [ ص: 139 ] مخالتهم ، فقال تعالى ذكره : " لا يألونكم خبالا " ، يعني لا يستطيعونكم شرا ، من "ألوت آلو ألوا " ، يقال : "ما ألا فلان كذا " ، أي : ما استطاع ، كما قال الشاعر :
جهراء لا تألو ، إذا هي أظهرت ، بصرا ، ولا من عيلة تغنيني
يعني : لا تستطيع عند الظهر إبصارا .
وإنما يعني جل ذكره بقوله : " لا يألونكم خبالا " ، البطانة التي نهى المؤمنين [ ص: 140 ] عن اتخاذها من دونهم ، فقال : إن هذه البطانة لا تترككم طاقتها خبالا أي لا تدع جهدها فيما أورثكم الخبال .
وأصل "الخبل " و"الخبال " ، الفساد ، ثم يستعمل في معان كثيرة ، يدل على ذلك الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم :
7679 - " من أصيب بخبل أو جراح " .
وأما قوله : " ودوا ما عنتم " ، فإنه يعني : ودوا عنتكم ، يقول : يتمنون لكم العنت والشر في دينكم وما يسوءكم ولا يسركم .
وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين كانوا يخالطوهم حلفائهم من اليهود وأهل النفاق منهم ، ويصافونهم المودة بالأسباب التي كانت بينهم في جاهليتهم قبل الإسلام ، فنهاهم الله عن ذلك وأن يستنصحوهم في شيء من أمورهم .
ذكر من قال ذلك : [ ص: 141 ]
7680 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : قال محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود ، لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية ، فأنزل الله عز وجل فيهم ، ينهاهم عن مباطنتهم تخوف الفتنة عليهم منهم : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " إلى قوله : " وتؤمنون بالكتاب كله " .
7681 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا " ، في المنافقين من أهل المدينة . نهى الله عز وجل المؤمنين أن يتولوهم .
7682 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم " ، نهى الله عز وجل المؤمنين أن يستدخلوا المنافقين ، أو يؤاخوهم ، أو يتولوهم من دون المؤمنين .
7683 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " لا تتخذوا بطانة من دونكم " ، هم المنافقون .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|