فقه النوازل (11)
سعد بن تركي الخثلان
استثمار أموال الزكاة
ننتقل للمسألة الثانية وهي : استثمار أموال الزكاة ، الزكاة مصرفها بينه الله - عز وجل - في قوله : { * إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) } (1) هذه هي مصارف الزكاة ، ولم يكن استثمار أموال الزكاة معروفا على مدار أربعة عشر قرنا ، بل كانت تدفع لهؤلاء الأصناف الثمانية ، أو لبعضهم .
ولكن في الوقت الحاضر مع وجود الجمعيات الخيرية والمراكز الإسلامية طرحت فكرة استثمار أموال الزكاة ، فيقول القائمون على تلك المراكز والمؤسسات والهيئات ، يقولون نحن نجمع من الناس أموالا كبيرة من الزكاة ربما تكون بالألوف بل ربما بالملايين ، فلماذا لا تستثمر أموال الزكاة هذه وتوضع في مشاريع خيرية يكون ريعها للفقراء والمساكين ؟ قالوا : بدل ما نعطي هذا الفقير أو المسكين ، هذا المال فيصرفه مباشرة ، فنحن نستثمر له أموال الزكاة ونعطيه من ريعها .
فطرحت بعض الجمعيات الخيرية وبعض المؤسسات والمراكز الإسلامية هذه الفكرة ، وهذا هو وجه اعتبارها نازلة ، وأنها لم تكن معروفة من قبل على مدار أربعة عشر قرنا لم يكن استثمار الزكاة معلوما ، ولهذا لا نكاد نجد لذلك ذكرا في كتب الفقهاء المتقدمين ، لكنها الآن أصبحت تطرح ، بل وتطرح بقوة من بعض المؤسسات الخيرية .
ومن هنا اختلف العلماء المعاصرون في حكم استثمار أموال الزكاة ، فمن العلماء من أجاز استثمار أموال الزكاة وقال إن في هذا الاستثمار مصلحة عظيمة ، وفيه نفع كبير للفقراء والمساكين وأصحاب الزكوات ، قالوا والشريعة الإسلامية قد أتت بتحصيل المصالح ، وما كان فيه تحصيل المصلحة فإن الشريعة لا تمنع منه ، وهذا الاستثمار فيه مصلحة تعود بالدرجة الأولى إلى الفقراء وبقية أصناف الزكاة .
قالوا : فهذا الاستثمار هو استثمار لصالح أهل الزكاة ، فهو أشبه باستثمار أموال اليتامى ونحوهم ، قالوا : ومما يدل لذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع عنده إبل الصدقة ويسمنها ، وهذا نوع استثمار ؛ لأنها تتكاثر بالتوالد ، هذه هي وجهة أصحاب هذا القول .
القول الثاني في المسألة : أنه لا يجوز استثمار أموال الزكاة مطلقا ، وهذا القول هو الذي عليه أكثر العلماء ، وأدلة هذا القول :
أولا: أن الله - عز وجل - خص الزكاة بثمانية أصناف ، ذكرهم في قوله : { * إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } (2) إلى آخر الآية وختم الآية بقوله : { فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) } (3) وحينئذ يجب أن تصرف الزكاة في هذه المصارف الثمانية على الفور ؛ لأن الأصل في الأمر الفورية ، والزكاة عبادة والأصل في العبادات التوقيف .
ثانيا: استدلوا بقول الله تعالى { وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } (4) قالوا : والمراد بذلك الزكاة ، وهذا أمر والأمر مطلق يقتضي الفورية ، وقوله : { يَوْمَ حَصَادِهِ } (5) آتوا حقه يوم حصاده هذا يدل على وجوب إخراج الزكاة على الفور وعدم تأخيرها لأجل استثمارها ، وهذه الآية نزلت في مكة ، نزلت في الفترة المكية ، لما كانت الزكاة واجبة من غير تحديد ، فإن الزكاة في مكة فرضت في مكة لكن من غير تحديد ، وإنما كان الإنسان يدفع شيئا من ماله ، ثم في المدينة بينت أنصباؤها ، والشاهد هو قوله يوم حصاده ، فهذا فيه إشارة إلى أن الزكاة إنما تخرج يوم الحصاد ، يعني وقت وجوبها على الفور .
أيضا من أدلتها هذا القول ما جاء في صحيح البخاري عن عقبة بن الحارث - رضي الله عنه - قال " صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العصر فلما سلم أسرع يعني خرج من المسجد مسرعا ثم دخل البيت ثم لم يلبث أن خرج فقيل له ، فقال : كنت قد خلفت في البيت تبرا -يعني ذهبا- من الصدقة ، فكرهت أن أبيت ولم أقسمه ، فقسمه عليه الصلاة والسلام " قالوا ففي انصراف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد صلاة العصر بسرعة على وجهٍ ملفت للنظر حتى إن الصحابة سألوه عن سبب إسراعه ، في هذا دليل على أن الزكاة إنما تخرج على الفور وأنه ينبغي المبادرة بإخراجها ، إذ أنه لو جاز التراخي في دفعها لما أسرع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولما قال كرهت أن أبيت قبل أن تقسم .
أيضا رابعا: قالوا إن هذا المال المستثمر هو مال مستحق للفقراء والمساكين وسائر أصحاب الزكاة ، وهؤلاء هم الذين يجب تمليكهم هذا المال ، وهم إن أرادوا أن يستثمروا أموال الزكاة التي تدفع لهم ، فهذا راجع إليهم ، هذا راجع إليهم ، أما أن يريد الجامع لأموال الزكاة استثمار أموال الزكاة نيابة عنهم فليس له ذلك ، فالأموال الزكوية حق للفقراء والمساكين وسائر الأصناف الثمانية .
فالاستثمار في الحقيقة إنما هو راجع لهم إذا ملكوا هذه الأموال ، فلو أننا ملكنا الفقير أو المسكين مال الزكاة فأراد هذا الفقير أو المسكين أن يستثمره ، فهذا راجع إليه ، أما أن يأتي أحد من الناس أو مؤسسة أو جمعية أو هيئة خيرية ويتدخل ويريد أن يحبس أصل مال الزكاة الواجب تمليكه لهؤلاء ويعطيهم فقط من ريعه حتى يستثمره ، فليس له ذلك ؛ لأنه تصرف في حقهم ، ومن الذي خوله لكي يستثمر حقهم الذي فرضه الله لهم .
أيضا قالوا: إن الاستثمار لا يكون مشروعا إلا إذا كان فيه مخاطرة إذ أن الاستثمار لو كان فيه ضمان لعدم المخاطرة وذلك بأن يكون فيه ضمان عدم الخسارة أو ضمان الربح ، فإن هذا الاستثمار غير جائز ، الاستثمار الذي تضمن معه عدم الخسارة يضمن معه الربح غير جائز، وهذا الاستثمار المبني على المخاطرة في الحقيقة يعرض أموال الزكاة للخسارة .
ربما تستثمر أموال الزكاة في مشروع من المشاريع فيخسر ذلك المشروع ، فتضيع حقوق هؤلاء الفقراء والمساكين ، ثم إن حاجة الفقراء ناجزة ، فيجب إخراجها على الفور ، ولا شك أن استثمارها يحتاج إلى وقت طويل ، فعلى سبيل المثال :رجل دفع الزكاة عشرة آلاف ريال ، لو قيل باستثمارها فلو افترضنا أنها بقيت سنة ، كم سيكون ربحها والريع لها بعد تشغيلها ، في الغالب أنه لا يتجاوز الربع ، لكن لو أننا أعطينا هذه العشرة آلاف فقيرا أو فقراء فإنها تسد حاجة بعض هؤلاء الفقراء من جهة توفير الأكل والشرب والمسكن ونحو ذلك ، ولا شك أن هذا فيه قضاء لحوائج الفقراء والمساكين ، خاصة أن بعض أصحاب الزكاة من الفقراء والمساكين وغيرهم ربما تكون حاجتهم ملحة ، وحينئذ فهم أولى بصرف هذا المال مباشرة بدلا من استثماره لهم .
هذه هي وجهة نظر الفريقين والأقرب والله أعلم هو القول الثاني وهو أنه لا يجوز استثمار أموال الزكاة .
وممن رجح هذا من علمائنا المعاصرين الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله- وذلك لقوة أدلته وأصول وقواعد الشريعة تدل لهذا القول ، وأما ما ذكره أصحاب القول الأول القائلون بجواز استثمار أموال الزكاة من المصلحة فغير مسلم ، بل إن المصلحة تقتضي أن نسلم لأصحاب الزكاة أموال الزكاة وهم الذين يتصرفون فيها .
بل إن القول باستثمار أموال الزكاة للفقراء والمساكين فيه الحقيقة إضرار بهؤلاء الفقراء والمساكين ، إذ أن من الفقراء والمساكين من يعتمد في مأكله ومشربه وفي دفع الإيجار -إيجار المسكن الذي يسكن فيه- يعتمد على الزكاة اعتمادا كاملا أو شبه كامل ، وحينئذ القول باستثمار أموال الزكاة وحبسها لأجل هذا الاستثمار فيه إضرار بهم ، وليس فيه مصلحة ظاهرة .
ولو افترضنا أن فيه مصلحة ، فيقابلها مفسدة ، وهي الإضرار بالفقراء والمساكين , ومن القواعد المقررة في الشريعة أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، ثم لماذا لم تطرح هذه المسألة على مدار أربعة عشر قرنا ، خفيت هذه المسألة على الناس على مدار أربعة عشر قرنا ثم يأتي من يطرحها في هذا الزمان .
ولا شك أنه كون العلماء لم يذكروها ولم يتطرقوا لها دليل على أنهم لا يرون مشروعية هذا الاستثمار ، والزكاة عبادة ، والعبادات مبنية على التوقيف ، والقول بأن استثمار الزكاة فيه نفع للفقراء على المدى البعيد ، هذا يمكن تحقيقه بوسائل أخرى غير الزكاة ، مجالات أخرى كالوقف مثلا .
فلو جمعت أموال من المحسنين واستثمرت هذه الأموال في وقف ، جمعت أموال من المحسنين من غير أموال الزكاة ، واستثمرت في أوقاف ويكون ريعها للفقراء والمساكين ، فإنه يحقق هذا الغرض ، فلا تتعين أموال الزكاة لتحقيق هذا الغرض ، فهناك مجالات أخرى ووسائل أخرى يمكن أن يحقق من خلالها هذا الغرض كالوقف مثلا ، وبهذا يتبين .
أما قولهم : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع إبل الصدقة ويستسمنها ، فنقول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يجمع إبل الصدقة لأجل صرفها في مصارفها الشرعية ، وليس لأجل استثمارها ، وإنما لأجل أن يصرفها في مصارفها الشرعية .
وبهذا يتبين أن القول الصحيح في هذه المسألة هو ما عليه أكثر أهل العلم من أنه لا يجوز استثمار أموال الزكاة ، وإنما طرحنا هذه المسألة لأنها تثار الآن بقوة من بعض القائمين على الجمعيات والمؤسسات الخيرية ، فيرون أن في هذا الاستثمار مصلحة لأصحاب الزكوات ، ولكن ظاهر النصوص والأصول والقواعد الشرعية يدل على أنه لا يجوز مثل هذا الاستثمار ، وأنه يجب أن تدفع الزكاة على الفور لأصحابها المستحقين لها .
حكم إخراج الشعير في زكاة الفطر
المسألة الثالثة معنا في هذا الدرس ، متعلقة أيضا بالزكاة وهي حكم إخراج الشعير في زكاة الفطر ، نقول وردت السنة بإخراج الشعير في زكاة الفطر ، قال البخاري في صحيحه ، باب صدقة الفطر صاعا من شعير ، ثم ساق بسنده عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال : كنا نطعم الصدقة صاعا من شعير .
وفي حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عند البخاري وغيره ، قال : كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط ، أو صاعا من زبيب ، وفي حديث ابن عمر أيضا عند البخاري وغيره " أمر النبي الله - صلى الله عليه وسلم - بزكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير " .
فنقول لا شك في أن السنة قد وردت بإخراج الشعير في زكاة الفطر ، ولكن في وقتنا الحاضر ، أصبح الشعير في كثير من البلدان ومنها المملكة ، أصبح الشعير علفا للبهائم ، ولم يعد قوتا للناس ، كما كان من قبل ، فهل نقول بجواز إخراج الشعير في زكاة الفطر أخذا بظاهر النص ، أو ننظر للمعنى ، وهو أنه إنما جاز إخراج الشعير لأنه كان قوتا للناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
نقول الذي يظهر هو الثاني وهو أنه إنما كان الشعير مجزئا في زكاة الفطر لقوم كان الشعير قوتا لهم ، فلا نتمسك بظاهر النص في هذه المسألة ، ولهذا لو أنك أعطيت فقيرا أو مسكينا في الوقت الحاضر شعيرا لما انتفع به ، ومن حكمة إيجاد زكاة الفطر أنها طعمة للفقراء والمساكين ، وهذا لا يتحقق إلا حين يكون الشيء المخرج قوتا للناس .
وذكر الشعير في حديث أبي سعيد وفي حديث ابن عمر ذكره ليس على سبيل التعيين ، بل لأنه كان غالب قوت الناس يومئذ ؛ ولهذا جاء في حديث أبي سعيد كنا نخرج في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر صاعا من طعام ، قال أبو سعيد وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر ، وقد ذكر الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله- في كتابه الاستذكار قال : قال أشهب : سمعت مالكا يقول : لا يؤدي الشعير إلا من هو أكله يؤده كما يأكله .
فظاهر هذا أن الإمام مالك يرى أنه لا يخرج الشعير إلا لمن يقتات الشعير ، يكون قوتا له ويأكله ، وفي الوقت الحاضر أصبح الشعير ليس قوتا للناس ، وإنما علفا للبهائم ، وحينئذ نقول : إن الظاهر والله أعلم في هذه المسألة أنه لا يجزئ إخراج الشعير في زكاة الفطر في الوقت الحاضر ، في البلدان التي لم يعد الشعير قوتا فيها للناس ، وإنما أصبح علفا للبهائم ، هذا هو الذي يظهر والله أعلم في هذه المسألة .
وإنما اعتبرناها نازلة لأنها قد وردت في السنة ، ولكن لما تغيرت أحوال الناس بحيث أصبح الشعير ليس قوتا للناس وإنما علفا للبهائم فإن الحكم يدور مع علته ، ولهذا نرى أن عامة العلماء المعاصرين يفتون بهذا ويقررون هذا الحكم ، وكذلك أيضا نقول إنه يجزئ في إخراج زكاة الفطر ما كان قوتا للناس ولو لم يكن مذكورا في هذه الأحاديث ، ومن ذلك مثلا الأرز ، الأرز أصبح هو غالب قوت الناس اليوم ، فيجزئ إخراجه .
ولا نتمسك بظاهر النص ونقول أنه لم يذكر في النص لأنه لم يكن قوت الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا المقصود في زكاة الفطر أن يخرج ما هو غالب قوت الناس ، فنقول في الوقت الحاضر لا يجزئ إخراج الشعير لأنه لم يعد قوتا للناس ، وإنما أصبح علفا للبهائم ، ويجزئ إخراج الأرز وغيره مما أصبح قوت غالب الناس وإن لم يكن مذكورا في هذه الأحاديث ، هذا ما يتعلق بهذه المسألة والله تعالى أعلم نجيب عما تيسر من الأسئلة .
يتبع
__________
(1) - سورة التوبة آية : 60.
(2) - سورة التوبة آية : 60.
(3) - سورة التوبة آية : 60.
(4) - سورة الأنعام آية : 141.
(5) - سورة الأنعام آية : 141.
صـــ 86