فصل
ليس من الصغار المأمور به التعذيب والشطط
روى مسلم في صحيحه:
حدثنا أبو كريب حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه قال:
(مر هشام بن حكيم بن حزام على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس فقال ما شأنهم قالوا حبسوا في الجزية فقال هشام أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)
و في رواية له زاد :
(قال وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين فدخل عليه فحدثه فأمر بهم فخلوا).
وروى القاسم ابن سلام:
عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه، أن عمر بن الخطاب أتي بمال كثير - قال أبو عبيد: أحسبه، قال: من الجزية - فقال: « إني لأظنكم قد أهلكتم الناس »، قالوا: لا والله ما أخذنا إلا عفوا صفوا قال: « بلا سوط ولا نوط ؟ » قالوا: نعم، قال: « الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني » [الأموال للقاسم بن سلام - (1 / 110)].
(بلا سوط ولا نوط: أي بلا ضرب ولا تعليق) [النهاية في غريب الأثر - (5 / 269)].
وهذا يدل على أنه لا يجوز تعذيب أهل الذمة في الجزية وأن ذلك ليس من الصغار الذي يجب عليهم .
وقال ابن القيم في تعليق على كلام للإمام أحمد:
(وهذا يدل على أن الذمي إذا بذل ما عليه والتزم الصغار لم يحتج إلى أن يجر بيده ويضرب ) [أحكام أهل الذمة - (1 / 121)].
وقد اشتهر عند الفقهاء تفسير الصغار بأن يكون الذمي قائما والمسلم ويطأطىء رأسه ويصب ما معه في كفة الميزان ويأخذ المستوفي بلحيته ويضرب في لهزمته .
وفي إبطال هذه الهيئة قال النووي :
(هذه الهيئة باطلة ودعوى استحبابها أشد خطأ. والله أعلم ) [المنهاج للنووي - (1 / 452)].
وقال أيضا في روضة الطالبين:
(قلت هذه الهيئة المذكورة أولا لا نعلم لها على هذا الوجه أصلا معتمدا وإنما ذكرها طائفة من أصحابنا الخراسانيين وقال جمهور الأصحاب تؤخذ الجزية برفق كأخذ الديون فالصواب الجزم بأن هذه الهيئة باطلة مردودة على من اخترعها ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الخلفاء الراشدين فعل شيئا منها مع أخذهم الجزية) [روضة الطالبين - (10 / 315)].
فصل
في وجوب الجمع بين رعاية حق أهل الذمة وإلزامهم الصغار
قد ذكرنا في ما سبق جملة من حقوق أهل الذمة ووجوب صيانتها وما ورد في ذلك من ترغيب وترهيب .
لكن أداء حق أهل الذمة ينبغي ألا يكون فيه تعارض مع إلزامهم الصغار لأن عقد الذمة يقتضي إلزامهم الصغار فكل بر أو إحسان يقتضي خروجهم عن ربقة الصغار فهو غير مشروع .
قال القرافي في الفروق:
(اعلم أن الله تعالى منع من التودد لأهل الذمة بقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق } الآية.
فمنع الموالاة والتودد وقال في الآية الأخرى { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم } الآية.
وقال في حق الفريق الآخر { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين } الآية .
وقال صلى الله عليه وسلم { استوصوا بأهل الذمة خيرا }.
وقال في حديث آخر { استوصوا بالقبط خيرا } فلا بد من الجمع بين هذه النصوص وإن الإحسان لأهل الذمة مطلوب وأن التودد والموالاة منهي عنهما والبابان ملتبسان فيحتاجان إلى الفرق )
إلى أن قال:
(وإذا كان عقد الذمة بهذه المثابة تعين علينا أن نبرهم بكل أمر لا يكون ظاهره يدل على مودات القلوب ولا تعظيم شعائر الكفر فمتى أدى إلى أحد هذين امتنع وصار من قبل ما نهي عنه في الآية وغيرها ويتضح ذلك بالمثل فإخلاء المجالس لهم عند قدومهم علينا والقيام لهم حينئذ ونداؤهم بالأسماء العظيمة الموجبة لرفع شأن المنادى بها هذا كله حرام وكذلك إذا تلاقينا معهم في الطريق وأخلينا لهم واسعها ورحبها والسهل منها وتركنا أنفسنا في خسيسها وحزنها وضيقها كما جرت العادة أن يفعل ذلك المرء مع الرئيس والولد مع الوالد والحقير مع الشريف فإن هذا ممنوع لما فيه من تعظيم شعائر الكفر وتحقير شعائر الله تعالى وشعائر دينه واحتقار أهله .
ومن ذلك تمكينهم من الولايات والتصرف في الأمور الموجبة لقهر من هي عليه أو ظهور العلو وسلطان المطالبة فذلك كله ممنوع وإن كان في غاية الرفق والأناة أيضا لأن الرفق والأناة في هذا الباب نوع من الرئاسة والسيادة وعلو المنزلة في المكارم فهي درجة رفيعة أوصلناهم إليها وعظمناهم بسببها ورفعنا قدرهم بإيثارها وذلك كله منهي عنه .
وكذلك لا يكون المسلم عندهم خادما ولا أجيرا يؤمر عليه وينهى ولا يكون أحد منهم وكيلا في المحاكمات على المسلمين عند ولاة الأمور فإن ذلك أيضا إثبات لسلطانهم على ذلك المسلم ) [أنوار البروق في أنواع الفروق - (4 / 399)].
وقال خليل ابن إسحاق المالكي في "المختصر" مبينا ما يمنع منه أهل الذمة:
(ومنع: ركوب الخيل والبغال والسروج وجادة الطريق وألزم بلبس يميزه وعزر لترك الزنار وظهور السكر ومعتقده وبسط لسانه وأريقت الخمر وكسر الناقوس).
و ذكر القرافي أمثلة لما يشرع من برهم فقال:
(وأما ما أمر به من برهم ومن غير مودة باطنية فالرفق بضعيفهم وسد خلة فقيرهم وإطعام جائعهم وإكساء عاريهم ولين القول لهم على سبيل اللطف لهم والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة واحتمال إذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفا منا بهم لا خوفا وتعظيما والدعاء لهم بالهداية وأن يجعلوا من أهل السعادة ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم وإيصالهم لجميع حقوقهم وكل خير يحسن من الأعلى مع الأسفل أن يفعله ومن العدو أن يفعله مع عدوه فإن ذلك من مكارم الأخلاق فجميع ما نفعله معهم من ذلك ينبغي أن يكون من هذا القبيل لا على وجه العزة والجلالة منا ولا على وجه التعظيم لهم وتحقير أنفسنا بذلك الصنيع لهم ... وبالجملة فبرهم والإحسان إليهم مأمور به وودهم وتوليهم منهي عنه فهما قاعدتان إحداهما محرمة والأخرى مأمور بها وقد أوضحت لك الفرق بينهما بالبيان والمثل فتأمل ذلك) [أنوار البروق في أنواع الفروق - (4 / 400)].
فصل
في بيان إخلال النصارى اليوم بجميع الشروط العمرية
شروط عمر ابن الخطاب رضي الله على عنه على أهل الذمة اعتمد عليها أهل العلم في تحديد ما يحظر على أهل الذمة وما يشرع لهم، ونحن اليوم في حاجة إلى إلقاء نظرة سريعة على هذه الشروط العمرية لمعرفة مدى استجابة النصارى لها:
روى البيهقي في السنن الكبرى:
عن عبد الرحمن بن غنم قال:
( كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح أهل الشام:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا:
إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا:
1- أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب منها ولا نحيي ما كان منها في خطط المسلمين.
2- وأن لا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار .
3- وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل .
4- وأن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام ونطعمهم .
5- وأن لا نؤمن في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسا .
6- ولا نكتم غشا للمسلمين .
7- ولا نعلم أولادنا القرآن .
8- ولا نظهر شركا ولا ندعو إليه أحدا .
9- ولا نمنع أحدا من قرابتنا الدخول في الإسلام إن أراده .
10-وأن نوقر المسلمين وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا جلوسا .
11- ولا نتشبه بهم في شيء من لباسهم من قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولا نتكنى بكناهم .
12- ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا.
13- ولا ننقش خواتيمنا بالعربية .
14- ولا نبيع الخمور .
15- وأن نجز مقاديم رؤوسنا .
16- وأن نلزم زينا حيث ما كنا .
17- وأن نشد الزنانير على أوساطنا .
18- وأن لانظهر صلبنا وكتبنا في شيء من طريق المسلمين ولا أسواقهم .
19- وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا .
20- وأن لا نضرب بناقوس في كنائسنا بين حضرة المسلمين .
21- وأن لا نخرج سعانينا ولا باعونا ولا نرفع أصواتنا مع أمواتنا ولا نظهر النيران معهم في شيء من طريق المسلمين ولا نجاوزهم موتانا .
22- ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين .
23- وأن نرشد المسلمين .
24- ولا نطلع عليهم في منازلهم .
فلما أتيت عمر رضي الله عنه بالكتاب زاد فيه:
25- وأن لا نضرب أحدا من المسلمين .
شرطنا لهم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا منهم الأمانفإن نحن خالفنا شيئا مما شرطناه لكم فضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم ما يحل لكم من أهل المعاندة والشقاوة) .
وروى البيهقي في السنن:
عن حرام بن معاوية قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أدبوا الخيل ولا يرفعن بين ظهرانيكم الصليب ولا يجاورنكم الخنازير [سنن البيهقي الكبرى - (9 / 201)].
وكما هو ملاحظ فإنه يوجد في وثيقة الشروط العمرية خمسة وعشرون شرطا على الأقل .
والسؤال الذي نتمنى أن يرد عليه محمد حسان هو:
هل يلتزم النصارى اليوم بشرط واحد من هذه الشروط العمرية ؟