ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   رمضانيات (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=23)
-   -   شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=300191)

ابوالوليد المسلم 04-01-2024 03:59 PM

شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png

شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

– باب: فضْل الصَّيام



الشيخ: د. محمد الحمود النجدي



الصَّوم في الشرع هو التعبُّدُ لله سبحانَه وتعالى بالإمْسَاكِ عن الأكلِ والشُّربِ وسائِرِ المُفَطِّراتِ مِن طُلوعِ الفَجرِ إلى غُروبِ الشَّمسِ مع النية
الصيام مدرسة لتعليم الأفراد وتدريبهم على عددٍ منَ القِيم التربوية كما هو الشأن في بقية شعائر الدّين
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
الصيام عبادةٌ عظيمة، وتشريع ربّاني، شرعه الله -عَزَّ وَجَلَّ- للأمم السّابقة مِنْ أهلِ الكتاب وغيرهم، كما دلَّ عليه قولُه -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183)، ثم جاءَ الإسْلام ليَستقرَّ فيه تشريعُ الصّيام على الوجْه الأكمل، فهو أحدُ أرْكان الإسْلام الخَمسة، وقد اقتضتْ حِكمة الله -تعالى- أنْ يتدرّج هذا التّشريع في مراحل، كما هو الحال في كثيرٍ من التشريعات في الإسلام؛ رحمةً مِنَ الله بعباده، وتلطُّفاً بهم، وتيسيراً عليهم.
والصَّوم لغةً: هو الإمْساكُ، ومنه قوله -تعالى-: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} (مريم: 26). أي: نذرت إمْساكاً عن الكلام، فلنْ أكلم اليوم إنْسَياً.
ومنه قول النّابغة:
خَيلٌ صِيامٌ وَخَيلٌ غَيرُ صائِمَةٍ
تَحتَ العَجاجِ وخيلٌ تَعلُكُ اللُّجُما
خيل صيام، أي: واقفة ساكنة مُمْسكة عن الجَري.
الصَّوم في الشرع
والصَّوم في الشرع: هو التعبُّدُ لله -سبحانَه وتعالى-، بالإمْسَاكِ عن الأكلِ والشُّربِ، وسائِرِ المُفَطِّراتِ، مِن طُلوعِ الفَجرِ إلى غُروبِ الشَّمسِ، مع النية، ولَمَّا كانت مصالِحُ الصَّومِ مشهودةً بالعُقُولِ السَّليمةِ، والفِطَرِ المُسْتقيمةِ، شَرَعَه اللهُ -سبحانه وتعالى- لعبادِه؛ رحمةً بهم، وإحْسانا إليهم، وحِمْيَةً لهم وجُنَّةً ممّا يضرهم.
أقسام الصوم
والصَّوم أقسام:
أولاً- الصَّومُ الواجب
وهو على نوعينِ
- النوع الأول: واجبٌ بأصلِ الشَّرعِ، أي: بغيرِ سَبَبٍ مِنَ المكلَّفِ، وهو صومُ شَهرِ رَمضانَ.
- النوع الثاني: واجبٌ بِسَبَبٍ مِنَ المكلَّف: وهو صومُ النَّذرِ، والكفَّارات، والقَضاء.
ثانيا- الصَّومُ المُستحَبُّ (صوم التطوُّع)

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وهو قِسمان:
- القسم الأول: صومُ التطَوُّعِ المُطلَق: وهو ما جاء في النُّصوصِ غير مُقَيَّدٍ بزمَنٍ مُعَيَّنٍ.
- القسم الثاني: صومُ التطَوُّعِ المقيَّد: وهو ما جاء في النُّصوصِ مقيَّداً بزمنٍ مُعَينٍ، كصومِ السِّتِّ مِن شوَّالٍ، ويومَيِ الاثنينِ والخميس، وأيام البيض، ويومِ عَرَفةَ، ويومَيْ تاسوعاءَ وعاشوراءَ.
الصَّومُ المنهيُّ عنه شرعاً
أما الصَّومُ المنهيُّ عنه شرعاً، فهو قِسمانِ:
(1) صَومٌ مُحَرَّمٌ: مثلُ صَومِ يَومَيِ العيدينِ.
(2) صومٌ مكروهٌ: مثلُ صَومِ يومِ عَرَفةَ للحاجِّ.
باب: فضْل الصَّيام
عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، والصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ، ولَا يَسْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ، أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، ولِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ»، الحديث رواه مسلم في كتاب الصيام (2/806-807) باب: فضل الصّيام، ورواه البخاري في الصيام (1904) باب: هل يقول: إنّي صائم، إذا شُتم، وقد اشتمل هذا الحديث العظيم على شقٍّ قُدُسي، وشقٍّ نبوي، وفيه جُملة مِنَ الفوائد.
قوله: «قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: كلّ عمل ابن آدم له إلا الصّيام؛ فإنّه لي» فيه خُصوصيّة الصّيام عن سائر العبادات، وسبب إضافة الصوم إلى الله -تعالى-: أنّه لمْ يُعبد أحدٌ غيرُ الله -تعالى- به، فلم يُعظم الكفّار في عصرٍ من الأعْصار، معبوداً لهم بالصيام، وإنْ كانوا يُعظّمونه بطريقة الصلاة والسّجود والذكر، والصدقة والذّبح، وغير ذلك، وأيضاً: لأنّ الصّوم بعيدٌ من الرّياء لخفائه، بخلاف الصّلاة والحج والغزو والصدقة وغيرها من العبادات الظاهرة.
قوله: «وأنا أجزي به»
بيانٌ لعِظم فضله، وكثرة ثوابه؛ لأنّ الكريم إذا أخْبر بأنّه يتولّى بنفْسِه الجزاء، اقتضى عِظَم قَدْر الجزاء، وسَعة العطاء.
وقوله: «والصّيام جُنّة» الجُنّة: الوقاية والحِماية، والمعنى: أنّ الصّيام سُترةٌ ووقاية مِنَ الآثام، أو مِن النار، أو منْهما، قال ابن العربي: «إنَّما كان الصّوم جُنّة مِنَ النار؛ لأنّه إمْسَاكٌ عن الشّهوات، والنار مَحْفوفة بالشّهوات».
وقوله: «فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ، ولَا يَسْخَبْ» نهي عن الرّفث، وهو: الكلام الفاحش، وعن السخب أو الصّخب، يقال بالسّين والصاد، وهو: الصّياح، وهو من أفعال أهل الجهل والسفه، ونحو ذلك.
قوله: «فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ» فإنْ شَتَمَهُ أحَدٌ أو قاتَلَهُ، فلْيَقُلْ له بلِسانِه: «إنِّي امْرُؤٌ صائِمٌ»؛ لِيَكُفَّ خَصْمُه عنه، أو يَستشْعِرْ ذلِك بقَلْبِه؛ ليَكُفَّ هو عن خَصْمِهِ، والمرادُ بالنَّهيِ عن ذلك: تَأكيدُه حالةَ الصَّومِ، وإلَّا فغَيرُ الصَّائمِ مَنهيٌّ عنه أيضا.
قوله: «والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ»

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
الخُلُوف: تغيّر رائحة الفم، يقول الإمام ابن عبد البر: «معناه أزْكى عند الله، وأقرب إليه عنده منْ رَيح المِسك». وقال الإمام ابن القيم: «مِنَ المعلوم أنَّ أطيبَ ما عند الناس منَ الرائحة: رائحة المِسْك، فمثَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الخُلوف عند الله -تعالى-؛ بطيبِ رائحة المِسك عندنا وأعظم، ونِسْبة اسْتطابة ذلك إليه -سبحانه وتعالى-؛ كنِسْبة سائر صفاته وأفعاله إليه؛ فإنّها اسْتطابة لا تماثل اسْتطابة المَخلوقين، كما أنَّ رِضاه وغضبه، وفرحه وكراهيته، وحبّه وبُغْضه، لا تُماثل ما للمَخلوق مِنْ ذلك، كما أنَّ ذاته -سبحانه وتعالى- لا تُشبه ذوات خَلقه، وصِفاته لا تُشْبه صفاتهم وأفعالهم».
قوله: «َللصّائم فرْحَتَانِ»
قوله: «َللصّائم فرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ» فرحه عند فِطره، يكون بما أنعم اللهُ عليه من القيام بعبادة الصيام الذي هو منْ أفضل الأعمال الصّالحة، وبما أباح اللهُ له من الطعام والشراب والنكاح، الذي كان مُحَرَّما عليه حال الصوم، وأما فرحه عند لقاء ربه: فيفرح بصومه حين يجد جزاءه عند الله -تعالى-، مُوَفَّراً كاملاً، في وقتٍ هو أحوج ما يكون إليه، وذلك حين يقال: «أينَ الصَّائمون؟» ليَدْخلوا الجنة مِنْ بابِ الريَّان، الذي لا يَدخله أحدٌ غيرهم.
من فوائد الحديث
- بيان فضل عبادة الصيام، وأنّه مدرسة لتعليم الأفراد وتدريبهم على عددٍ منَ القِيم التربوية، كما هو الشأن في بقية شعائر الدّين.
- فيه: إثباتُ صِفةِ الكلامِ للهِ -تعالَى-، وأنَّه يَتكلَّمُ حيثُ يَشاءُ، ويُكلِّمُ مَن يَشاءُ بما يَشاءُ، وأنَّ كَلامَه ليس خاصًّا بالقرآنِ الكريمِ.
- وفيه: أنَّ العِباداتِ تَتفاوَتُ مِن حيثُ الثَّوابُ والفضل.
- وفيه: مَشروعيَّةُ القسَمِ لتَأكيدِ الكلامِ، وإنْ كان السامعُ غيرَ مُنكِرٍ.
- وفيه: أنَّ مَن عَبَدَ اللهَ -تعالَى- وطَلَبَ رِضاهُ في الدُّنيا، فنَشَأَ مِن عَمَلِه آثارٌ مَكروهةٌ له في الدُّنيا؛ فإنَّها مَحبوبةٌ لله -تعالَى-، وطَيِّبةٌ عندَه؛ لكَونِها نَشَأَت عن طاعتِه، واتِّباعِ مَرْضاتِه.
- قول الله -عَزَّ وَجَلَّ- «الصّومُ لي وأنا أجْزي به» قد اخْتلف العلماء في المراد به، مع أنّ الأعمال كلّها لله -تعالى-، وهو الذي يَجزي بها، على أقوال:
- أحدها: أنَّ الصّوم لا يقع فيه الرّياء، كما يقع في غيره.
- الثاني: أنّ الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس، وإنّها تضعَّف من عَشْرة إلى سبعمائة، إلى ما شاء الله، إلا الصّيام، فإنّ الله يُثيب عليه بغير تقدير.
- الثالث: أنّه أحبّ العبادات إلى الله -تعالى.
- الرابع: أنّ الإضافة إضافة تشريف وتعظيم، كما يقال: بيت الله، وإنّ كانت البُيوت كلّها لله.
- الخامس: أنّ الاسْتغناء عن الطعام وغيره مِنَ الشّهوات منْ صفات الرّب -جلّ جلاله-، فلمّا تقرَّب الصائم إليه بما يوافق صفاته أضافه إليه، قال القرطبي: «معناه: أنَّ أعمال العباد مناسبة لأحْوالهم إلا الصّيام، فإنه مناسبٌ لصفةٍ مِنْ صِفات الحقّ، كأنّه يقول: إنّ الصّائم يتقرّب إليَّ بأمرٍ هو متعلق بصفةٍ منْ صفاتي».
- السادس: أنّ المعنى كذلك، لكن بالنّسبة إلى الملائكة؛ لأنّ ذلك مِنْ صفاتهم.
- السابع: أنّه خالصٌ لله -تعالى-، وليس للعبدِ فيه حظٌّ بخلاف غيره، فإنّ له فيه حظاً؛ لثناء الناس عليه بعبادته.
- الثامن: أنّ الصّيام لم يُعبد به غير الله، بخلاف الصّلاة والصدقة والطواف ونحو ذلك.
- التاسع: أن جميع العبادات توفّى منها مظالم العباد إلا الصوم.
- العاشر: أنّ الصوم لا يظهر فتكتبه الحفظة، كما تكتب سائر الأعمال.
قال الحافظ ابن حجر: «فهذا ما وقفتُ عليه من الأجْوبة، وأقربها إلى الصّواب الأول والثاني, وأقربُ منهما الثامن والتاسع».

فوائد الصيام
والصِّيامُ له حِكَمٌ عظيمةٌ وفوائدُ جليلةٌ، ومنها:
- أنَّ الصَّومَ وسيلةٌ لتحقيقِ تقوى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، كما في الآية السّابقة.
- وفيه تذكير للمسلم بنِعم الله -تعالى- عليه.
- وفيه تربيةُ للنَّفسِ على مِلْك الإرادةِ، وقوَّةِ التحَمُّلِ.
- وفي الصَّوم قهرٌ للشَّيطانِ.
- والصَّومُ موجِبٌ للرَّحمةِ والعَطفِ على المساكينِ، وتذكر جوعهم.
- والصَّومُ يُطَهِّرُ البَدَنَ من الأخلاطِ الرَّديئةِ، ويُكسِبُه صحةً وقوةً.


ابوالوليد المسلم 10-01-2024 08:39 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png

شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
– باب: لا تَقَدَّمُو

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَال: قَال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ؛ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ؛ إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْماً؛ فَلْيَصُمْهُ»، الحديث رواه مسلم في الصيام (2/762) وبوب عليه النووي بمثل تبويب المنذري، ورواه البخاري في الصوم (1914) باب: لا يتقدّمُ رمضان بصوم يومٍ ولا يومين.
قولُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَقدَّموا رَمَضان»، أي: لا تَسبِقوا شَهرَ رمضانَ، «بصوم يومٍ، ولا يومينِ»، أي: لا تَصُوموا آخِرَ يومٍ أو آخِرَ يَومينِ من شَعبانَ، لا على جِهةِ التعظيمِ للشهرِ، ولا على جِهةِ الاحتِياطِ خوفًا أن يكونَ مِن رمضانَ، وقوله: «إلَّا أنْ يُوافِقَ ذلك صَومًا كان يصومُه أحدُكم» أي: أنَّه ليس نَهياً عامّاً، بل يُسْتُثْنى منه مَنْ كان له عادةٌ في الصيام، كأنْ يُوافِقَ الاثنينِ أو الخميسَ الَّذي يكونُ من عادته صِيامُه.
فقَوْله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْم وَلا يَوْمَيْنِ» فِيهِ التَّصْرِيح بِالنَّهْيِ عَنْ اِسْتِقْبَال رَمَضَان بِصَوْمِ يَوْم ويَوْمَيْنِ، لِمَنْ لَمْ تكن له عَادَة فيَصِلهُ بِمَا قَبْله، فَإِنْ لَمْ يكن صَادَفَ له عَادَة فَهُوَ حَرَام، وقد حمل بعض العلماء اليومَ واليومين المَنْهيَّ عن صيامهما في الحديث، على صيام يوم الشك، أي: يوم الثلاثين من شعبان، حيثُ يُشك فيه: هل هو المتمّم لشعبان، أو الأول من رمضان؟
وقد قال عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رضي الله عنه - قَال: «مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يَشُكُّ فِيهِ النَّاسُ، فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم -». رواه الترمذي (686) والنسائي (2188)، قال الحافظ في فتح الباري: «اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيم صَوْم يَوْمِ الشَّكِّ، لأَنَّ الصَّحَابِيَّ لا يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ رَأْيِهِ». اهـ، ويوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان، إذا لم يُرَ الهلال بسبب الغيم أو نحوه، وسُمِّي يوم شك؛ لأنّه يحتمل أنْ يكون يوم الثلاثين منْ شعبان، ويحتمل أنْ يكون اليوم الأول منْ رمضان، فيَحْرم صيامه، إلا لمَن وافق عادةَ صيامه.
حُكم صيام يوم الشك

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
قال النووي -رحمه الله- في المجموع (6/400) عن حُكم صيام يوم الشك: «وَأَمَّا إذَا صَامَهُ تَطَوُّعًا، فَإِنْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ بِأَنْ كَانَ عَادَتُهُ صَوْمَ الدَّهْرِ، أَوْ صَوْمَ يَوْمٍ وَفِطْرَ يَوْمٍ، أَوْ صَوْمَ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ كَيَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَصَادَفَهُ جَازَ صَوْمُهُ بِلا خِلافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: «لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْم وَلا يَوْمَيْنِ، إِلا رَجُل كَانَ يَصُوم صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ»، وإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبَبٌ فَصَوْمُهُ حَرَامٌ اهـ بتصرف.
وقال الشيخ ابن عثيمين في شرحه لحديث: «لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْم وَلا يَوْمَيْنِ..»: «واختلف العلماء رحمهم الله في هذا النهي هل هو نهي تحريم أو نهي كراهة؟ والصحيح أنّه نهيُ تحريم، ولاسيما اليوم الذي يُشكّ فيه» اهـ. «شرح رياض الصالحين» (3/394).
وللحديث مَحملٌ آخر

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
قال في (حاشية السندي) في شرح هذا الحديث: وحَمَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ العُلَمَاءِ على أَنْ يَكُونَ بِنِيَّةِ رَمَضانَ، أَوْ لِتَكْثِيرِ عَدَدِ صِيَامِهِ، أَوْ لِزِيَادَةِ احْتِيَاطِهِ بِأَمْرِ رَمَضَانَ، وعلَى صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ، إِذْ لَا يَقَعُ الشَّكُّ عَادَةً فِي يَوْمَيْنِ... اهــ ، وإنما ذكر اليومين بعد قوله: «بيوم» لأنّ الشك قد يحصل في اليومين أيضا، أي التاسع والعشرين مع الثلاثين، وهذا الشك ليس لأنّ الشّهر قد يكون ثمانيةً وعشرين، وإنّما يحصل الشك فيه بسبب وجُود غيمٍ ونحوه في شهرين متتابعين أو ثلاثة، فتتسع دائرة الشك حتى تشمل التاسع والعشرين.
وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي: «وَإِنَّمَا ذَكَرَ اليَوْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ الشَّكُّ فِي يَوْمَيْنِ، بِحُصُولِ الغَيْمِ أَوِ الظُّلْمَةِ فِي شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، فَلِذَا عَقَّبَ ذِكْرَ الْيَوْمِ بِالْيَوْمَيْنِ...اهــ، وعلى هذا؛ فإنّ المقصود بالحديث ابتداء هو النّهي عن صَوم يوم الشك، وهو الثلاثون من شعبان، وليس يوم الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين، وإذا اتسعت دائرة الشك شمل النهي يوم التاسع والعشرين.
باب: الصُّومُ لرُؤْية الهِلال

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْهِلَالَ فقال: «إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ، فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ»، الحديث رواه مسلم في الصوم (2/762) وجوب صَوم رمضان لرُؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال، وأنّه إذا غمّ في أوّله أو آخره، أكملت عدّة الشّهر ثلاثين يوماً، ورواه البخاري في الصوم (1909) باب: قول النّبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا رَأَيْتُم الهلالَ فصُوموا، إِذَا رَأَيْتُموه فأفْطروا»، ورواه الشيخان أيضاً من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما.
قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رَأيتموه فصُومُوا، وإذا رأيتمُوه فأفْطروا» فيه بيانُ متى يجبُ صَوم رمضان؟ ومتى يجبُ فِطْره؟ فيجبُ صيام رمضان إذا ثبتت رؤية هلاله شَرعاً، ويجبُ الفِطر برؤية هلال العيد.
قوله: «فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ، فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ» أغْميَ، وفي رواية: «فإنْ غمّ عليكم» فمعناه: حال بينكم وبينه غيم، يقال: غمّ وأغْمِي، وغَمِي وغُمّي بتشديد الميم وتخفيفها والغين مضمومة فيهما، ويقال: غَبِي بفتح الغين وكسر الباء، وكلّها صحيحة، وقد غامت السماءُ وغيمت، وأغامت وتغيمت وأغمت.
وهو يدل على أنّ رمضان يثبتُ دُخوله بواحدٍ مِنْ أمرين:
- الأول: رؤيةُ هلاله.
- والثاني: إكمَال عدّة شَعبان ثلاثين يوماً.
وأيضاً: يدلّ على وجُوب إكمال شعبان ثلاثين، إذا حالَ غيمٌ أو قَتَر أو ما إلى ذلك، فإنه يُصار إلى إكمال العدّة ثلاثين، وكذا حديث ابن عمر - رضي الله عنه - في الصحيحين: «صُومُوا لرُؤيته، وأفْطرُوا لرُؤيته، فإنْ غُمَّ عليكم؛ فأكمَلُوا العدة»، وفي بعض الروايات: «فعدُّوا ثلاثين»، وهذا يدلّ على أنّ الواجب أنْ يصوم الناسُ لرؤية الهلال، وأنْ يفطروا لرؤية الهلال.
ويدلُّ أيضاً: أنه ليس لهم الصّوم بالحِسَاب، ولا بالاحتياط، بل لا بدّ مِنَ الرؤية، أو إكمال العدّة، فإذا غُمَّ هلال شعبان؛ فإنّه يكملُ ثلاثين، وإذا غُمَّ هلال رمضان، فإنه يكمَّل رمضان ثلاثين، فالشهر إمّا تسعةٌ وعشرون، وإمّا ثلاثون، فإذا رؤي الهلال في ثلاثين منْ شعبان، صام الناس، وإذا رُؤي في الثلاثين من رمضان أفطر الناس، فإنْ لم يُر أكمَلُوا شعبان ثلاثين وصاموا، وكملوا رمضان ثلاثين وأفطروا.
الأهِلَّة لحِسابِ الشُّهورِ والسِّنينَ
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وقد جعَلَ اللهُ -سُبحانَه- الأهِلَّةَ؛ لحِسابِ الشُّهورِ والسِّنينَ، كما قال -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (البقرة: 189). فبِرُؤْيةِ الهِلالِ يَبدَأُ شَهْرٌ ويَنْتَهي آخَرُ، وعلى تلك الرُّؤْيةِ تَتَحدَّدُ فَرائضُ كَثيرةٌ، كالصِّيامِ، والحَجِّ، والنُّصوص الشّرعية والأحاديث في هذا كثيرة، تدلّ على وجُوب اعتماد الرُّؤية، وأنّه لا يجوز اعتماد الحساب، ولا الصّوم أيضاً بمُجرد الاحتياط أو الظنّ، فلا بدّ من الرؤية، وقال -سبحانه-: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185)، ولا بدّ منْ إكمال العدة، هكذا شَرع الله -سبحانه وتعالى-، وهكذا قال علماء الإسلام، أنّه لا يُعتمد على الحساب في صيام رمضان؛ لأنّه مُعلّق برؤية الناس أو بعضهم، فلا يُؤخذ مثلاً: بحساب المُنجّمين، أو ما يدّعيه بعض الناس احتياطاً، بل لا بد مِنْ تعليق الرُّؤية بهلال رمضان.
لا يجوز صوم يوم الشكّ

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
قال النّووي: «وفي هذه الأحاديث دلالة لمذهبِ مالك والشافعي والجُمهور، أنّه لا يجوز صوم يوم الشكّ، ولا يوم الثلاثين منْ شَعبان عن رمضان، إذا كانت ليلة الثلاثين ليلة غيم»، فإذا حَصل في الأحْوال الجَويّة غيمٌ أو قتر أو ما إلى ذلك، فإنه يُصار إلى العدة وإكمال شعبان ثلاثين يوماً، وهذا عليه جمهور الفقهاء وأهل الحديث، كما ذكر الصنعاني وغيره من أهل العلم رحمهم الله، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أناط صيام شهر رمضان وفطره، برؤية الهلال أو بإكمال العدة، ويستفاد منه أيضاً: أنّ يومَ الشك لا يَجوز صَومه، ويدلّ عليه أيضاً: حديث عمار - رضي الله عنه - السابق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مِنْ صامَ اليوم الذي يُشكّ فيه، فقد عَصَى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم ».

من فوائد الحديث
- الأمْرُ بالتَّأكُّدِ من رُؤيةِ الهلالِ عندَ بَدْءِ رمضانَ، أو الانتهاءِ منه.
- وفيه: بَيانُ حُكْمِ صِيامِ يومِ الشَّكِّ، ومثله الحديث الذي بعده.
- وفيه: أنّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أوْضَحَ لأمته كلّ أحكامَ الصِّيامِ، وضوابِطَه، ووقْتَه، كما في هذا الحديثِ وغيره.


من فوائد الحديث
- يُوضِّحُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لا يُصامُ رَمضانُ إلَّا إذا رُؤِيَ الهِلالُ، وذلك بعْدَ غُروبِ شَمسِ اليومِ التَّاسعِ والعشرينَ مِن شَعبانَ، وكذلك لا يَنتَهِي الصِّيامُ ويُفطَرُ الناس، إلَّا عندَ رُؤيَةِ هِلالِ شَهرِ شَوَّالٍ، بعْدَ غُروبِ شَمسِ اليومِ التَّاسعِ والعشرينَ مِن شَهرِ رَمَضانَ.
- إنْ تَعذَّرتْ رُؤيةُ الهِلالِ بسبَبِ الغَيْمِ، أو لأيِّ سَببٍ مِن الأسباب، فإنَّه يُكمَّلُ الشَّهرُ، فيكونُ ثَلاثينَ يوماً؛ لأنَّ الشَّهرَ لا يَزيدُ على ذلك، فيَتحقَّقُ اليَقينُ بدُخولِه أو بخُروجِه.
- وفيه: عدمُ الاعتِمادِ على غيرِ رُؤيةِ الهِلالِ، كالحِسابِ الفَلَكيِّ.





ابوالوليد المسلم 19-01-2024 03:35 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

– باب: الشَّهر تِسْع

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي



عن أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ شَهْراً، فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْماً، غَدَا عَلَيْهِمْ أَوْ رَاحَ، فَقِيلَ لَهُ: حَلَفْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؛ أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْراً، قَالَ: «إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا»، وعن ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وهَكَذَا وهَكَذَا، وعَقَدَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ، والشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، يَعْنِي تَمَامَ ثَلَاثِينَ».
الحديثان أخرجهما مسلم في الباب السابق (2/760-761)، واتفق الشيخان على هذه القصة من حديث أم سلمة -رضي الله عنها-، وأخرجها البخاري أيضا من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: آلى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من نسائه، وكانت انفكت رجله، فأقام في مَشْربة تسعاً وعشرين ليلة، ثم نزل فقالوا: يا رسول الله، آليت شهراً؟ فقال: «إنّ الشّهرَ يكون تسعاً وعشرين»، ورويت القصة أيضاً من حديث عمر في الصّحيحين، وجابر في صحيح مسلم وغيره.
حَلَفَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ لَا يَدْخُلَ
عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ شَهْراً
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
قوله: «أَنَّ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ شَهْراً» وفي الرواية الأخرى: «آلى منْ نسائه» أي: حلف ألا يدخل عليهن، وصرّح في هذا الحديث بأنّ حلفه - صلى الله عليه وسلم - كان على الامتناع من الدخول على أزواجه شهراً، فتبين أنّ قوله في حديث أم سلمة وأنس وغيرهما: «آلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من نسائه» أريدَ به ذلك، ولم يرد به الحلف على الامتناع من الوطء، والروايات يفسّر بعضها بعضاً، فإنَّ الإيلاء في اللغة: مطلق الحلف، لكنّه مستعمل في عرف الفقهاء في حلفٍ مخصوص، وهو الحلف على الامتناع منْ وَطء زوجته مُطلقاً، أو مدةً تزيد على أربعة أشهر، فلا يُستعمل الإيلاء عندهم فيما عدا ذلك.
الإيلاء على الوجه المذكور حرام
والإيلاء على الوجه المذكور حرام؛ لما فيه من إيذاء الزوجة، وليس هو المذكور في الحديث، ولو حلف على الامتناع من وطء الزوجة أربعة أشهر فما دونها، لمْ يكنْ حراماً، وفي حديث أم سلمة وغيرها ما يدل على ذلك.
قوله: «فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْماً، غَدَا عَلَيْهِمْ أَوْ رَاحَ» اسْتشكل قولها فلمّا مضت تسع وعشرون ليلة دخل عليهم، لأنّ مقتضاه أنه دخل في اليوم التاسع والعشرين، فلم يكن شهراً على الكمال ولا على النقصان، وجوابه: أنّ المراد فلما مضت تسع وعشرون ليلة بأيامها، فإن العرب تؤرّخ بالليالي وتكون الأيام تابعة لها، ويدل لذلك قوله في حديث أم سلمة عند البخاري وغيره: «فلما مضى تسعة وعشرون يوما».
وكذا قال القاضي عياض بعد ذكره اختلاف الروايات في ذلك: معناه كلّه بعد تمام تسعة وعشرين يوماً، يدل عليه رواية فلما مضَى تسع وعشرون يوما.
جواز هجران المسلم فوق ثلاثة أيام

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وفيه جواز هجران المسلم فوق ثلاثة أيام، إذا تعلّقت بذلك مصلحة دينية، مِنْ صلاحِ حال المَهجور وغير ذلك، ومن ذلك: إذا كان المَهْجور مُبْتدعاً، أو مُجَاهراً بالظلم والفسوق فلا يَحْرم هجره، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيالٍ، يَلْتَقِيانِ فيُعْرِضُ هذا ويُعْرِضُ هذا، وخَيْرُهُما الذي يَبْدَأُ بالسَّلامِ». رواه مسلم. فمحلّه ما إذا كان الهجران لحظوظ النفس. قال النووي في الروضة: قال أصحابنا وغيرهم هذا في الهجران لغير عذر شرعي، فإنْ كان عذر بأنْ كان المهجور مذموم الحال لبدعة أو فسق أو نحوهما، أو كان فيه صلاح لدين الهاجر أو المهجور، فلا يحرم، وعلى هذا يحمل ما ثبت من هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - كعب بن مالك وصاحبيه ونهيه - صلى الله عليه وسلم - الصحابة عن كلامهم، وكذا ما جاء من هجران السلف بعضهم بعضا انتهى.
إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
أمّا حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ». ورواه البخاري (1814). فهو يدل على أنه لا يُلتفت في معرفة دخول الشهر إلى الحسابات الفلكية، وإنما يُعتمد على الرؤية الظاهرة للهلال عند ولادته فنعرف دخول الشهر، فالحديث سيق لبيان أنّ الاعتماد على الرؤية لا على الحساب.
ولم يأتِ لحثّ الأمة الإسْلامية للبقاء على الجهل، وترك تعلّم الحساب العادي، وسائر العلوم الدنيويّة النافعة، ولذلك فلا ينافي هذا الحديث ما يتعلمه المسلمون اليوم من العلوم المختلفة التي تفيدهم في دينهم ودنياهم، والإسلام دين العلم، وهو يدعو إليه ويوجب على كلّ مسلم أنْ يتعلّم ما افترضه الله عليه من الإيمان والتوحيد، ويتعلم أحكام ما يحتاج إليه من العبادات والمعاملات، وأمّا العلوم الدنيوية كالطبّ والهندسة والزراعة، وغيرها فيجب على المسلمين -عموماً- أن يتعلّموا منها ما تحتاج إليه الأمّة، ولو احتاج المسلمون لصنع إبرة لوجب عليهم أنْ يكون فيهم مَنْ يتعلّم صنعة تلك الإبرة.
شرح وافٍ لابن تيمية لهذا الحديث

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
ولشيخ الإسلام ابن تيمية شرح وافٍ لهذا الحديث، استقصى فيه فأجاد، ومن جوابه قال: قوله: «إنا أمّة أميّة» ليس هو طلباً، فإنّهم أمِّيُّون قبل الشريعة، كما قال الله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ} (الجمعة:2). وقال: {وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} (آل عمران: 20). فإذا كانت هذه صفة ثابتة لهم قبل المَبْعث، لم يكونوا مأمورين بابتدائها، نعم قد يُؤمرون بالبقاء على بعض أحكامها، فإنّا سنبيِّن أنهم لم يؤمروا أنْ يبقوا على ما كانوا عليه مطلقاً.
الأميَّة منْها ما هو محرَّم
ومكروه وما هو نقص

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
ثم قال: فصارت هذه الأميَّة منْها ما هو محرَّم، ومنها ما هو مكروه، ومنها ما هو نقص وترك الأفضل، فمَن لم يقرأ الفاتحة أو لم يقرأ شيئاً من القرآن، تسمِّيه الفقهاء في (باب الصلاة) أميّاً ويقابلونه بالقارئ، فيقولون: لا يصحّ اقتداء القارئ بالأميّ، ويجوز أنْ يأتم الأميّ بالأمي ونحو ذلك من المسائل، وغرضهم بالأمِّيِّ هنا الذي لا يقرأ القراءة الواجبة سواء كان يكتب أولا يكتب، يَحسب أولا يحسب.
فهذه الأميَّة منها: ما هو تَرك واجبٍ يُعاقب الرجل عليه إذا قدر على التعلم فتركه.
ومنها: ما هو مَذْموم، كالذي وَصَفه الله -عز وجل- عن أهل الكتاب؛ حيث قال: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (البقرة: 78). فهذه صفةُ مَنْ لا يفقه كلام الله ويعمل به، وإنّما يقتصر على مجرد تلاوته، كما قال الحسن البصري: نَزَل القرآن ليُعمل به فاتَّخذوا تلاوتَه عَمَلاً، فالأمّي هنا قد يقرأ حروف القرآن أو غيرها ولا يفقه، بل يتكلّم في العلم بظاهر من القول ظنّاً، فهذا أيضا أمي مذمومٌ، كما ذمَّه الله، لنقصِ علمه الواجب، سواءً كان فرضَ عينٍ أم كفاية.
الأفضل والأكمل
ومنها: ما هو الأفْضل الأكْمل، كالذي لا يقرأ مِنَ القرآن إلا بعضه، ولا يفهم منْه إلا ما يتعلّق به، ولا يفهم من الشريعة إلا مقدار الواجب عليه، فهذا أيضاً يقال له: أميٌّ، وغيره ممّن أوتي القرآن عِلماً وعملاً أفضل منه وأكمل... إلى آخر كلامه -رحمه الله-، انظر: مجموع الفتاوى (17/ 436).

- أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أخبَرَهم أنَّ الشَّهرَ يكونُ أحيانًا تِسعةً وعشرينَ يوماً، كما يكونُ أحيانًا ثلاثينَ، والكلُّ جائزٌ وواقعٌ، ولكنَّ الاعتِمادَ في الصِّيامِ والإفطارِ على الرُّؤيةِ، وهو معْنى قَولِه: «فلا تصُوموا حتَّى تَرَوْه»، أي: حتَّى تَرَوُا الهلالَ بعْدَ غُروبِ شَمسِ اليومِ التَّاسعِ والعشرين مِن شَعبانَ،
- جعَلَ اللهُ الأهِلَّةَ لحِسابِ الشُّهورِ والسِّنينَ، فبِرُؤْيةِ الهِلالِ يَبدَأُ شَهْرٌ ويَنْتَهي آخَرُ، وعلى تلك الرُّؤْيةِ تَتَحدَّدُ فَرائضُ كَثيرةٌ، كالصِّيامِ، والحَجِّ، ومواقيت العدد وغيرها.
- وفي الحديثِ: عدمُ الاعتِمادِ على غيرِ رُؤيةِ الهلالِ، كالحِساب الفَلَكي.
- فيه منقبةٌ لعائشة -رضي الله عنها-، لبدائه - صلى الله عليه وسلم - بالدخول عليها قبل بقية زوجاته، كما في الرواية.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png


ابوالوليد المسلم 26-01-2024 02:02 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

– باب: إِنَّ اللَّهَ

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي



عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَال: خَرَجْنَا لِلْعُمْرَةِ، فَلَمَّا نَزَلْنَا بِبَطْنِ نَخْلَةَ، قَال: تَرَاءَيْنَا الْهِلَالَ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هُوَ ابْنُ لَيْلَتَيْنِ، قَال: فَلَقِينَا ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقُلْنَا إِنَّا رَأَيْنَا الْهِلَالَ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ، وَقَال بَعْضُ الْقَوْمِ: هُوَ ابْنُ لَيْلَتَيْنِ، فَقَال: أَيَّ لَيْلَةٍ رَأَيْتُمُوهُ؟ قَال: فَقُلْنَا لَيْلَةَ كَذَا وَكَذَا، فَقَال: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «إِنَّ اللَّهَ مَدَّهُ لِلرُّؤْيَةِ فَهُوَ لِلَيْلَةٍ رَأَيْتُمُوهُ»، الحديث رواه مسلم في الصيام (2/715) باب بيان أنّه لا اعتبار بكبَر الهلال وصغره، وأنّ الله أمدّه للرُّؤية، فإنْ غمّ فليُكْمل ثلاثون. وهو من أفراد مسلم، وأبو البختري هو سعيد بن فيروز بن أبي عمران الطائي مولاهم، النبهاني مولاهم، الكوفي، تابعي ثقة، قال الذهبي: قال حبيب بن أبي ثابت: كان أعْلمنا وأفقهنا، وقال ابن حجر: ثقةٌ ثبت، فيه تشيعٌ قليل، كثير الإرسال.
قوله: «خَرَجْنَا لِلْعُمْرَةِ، فَلَمَّا نَزَلْنَا بِبَطْنِ نَخْلَةَ» بطن نخلة أو وادي نخلة، هو أحد أوْدية مكة المكرمة، ويفصل بين مكة والطائف من جهة السّيل الكبير، وقوله: «تراءينا الهِلال» أي: تكلّفنا النظر إلى جهته لنَراه. وقيل: معناه أرى بعضُنا بعضاً.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
قوله: «مدّه للرُّؤية»
قوله: «مدّه للرُّؤية» جميع النسخ متفقةٌ على «مدّه» منْ غير ألف فيها. وفي الرواية الثانية: «أمدّه». قال القاضي: قال بعضُهم: الوجه أنْ يكون أمدّه، بالتّشديد بمعنى الإمْدَاد، ومدّه من الامتداد، قال القاضي: والصّواب عندي بقاء الرؤية على وجهها، ومعناه: أطال مدته إلى الرؤية، يقال منه: مد وأمد، قال الله -تعالى-: {وإخْوانُهم يَمدُونهم في الغي} (الأعراف:٢٠٢). قُرئ بالوجهين: أي يُطيلون لهم. قال: وقد يكون أمدّه مِنَ المُدّة التي جُعلت له. قال صاحب الأفعال: أمْدَدتك مدّة، أي: أعْطيتكها.
قوله: «أيّ ليلةٍ رأيتموه؟»
قوله: «أيّ ليلةٍ رأيتموه؟» مُستفهماً عن الليلة التي رأيناه فيها. قال: فقلنا: ليلة كذا وكذا» ما وجه التّكرار بقوله: «وكذا» إلَّا أنْ يقال: إنّ الواو بمعنى «أو» التفصيلية.
فقال: إنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنّ الله أمدّه للرؤية فهو لليلة رأيتموه» معناه: أنّه أطَال مدّة هذا الهلال حتّى رأيتموه، كما قال الله -تعالى-: {وإخْوانُهم يَمدُونهم في الغي} (الأعراف:٢٠٢). قُرئ من وجهين، أي: يُطيلون لهم، ومعنى الحديث: إنّ الله -سبحانه وتعالى- أطالَ هذا الهِلال حتى رآه الناس، فتكون الرؤية مع مَنْ رآه، حتى وإنْ زاد الشهر وإنْ نقص.
أي: أنّه إذا رُؤي الهلال كبيرًا، فإنّ الله -سبحانه وتعالى- «مدَّه» أي: مدّ الهِلال وكبّره للرّؤية، أي: ليُرى بسُرعةٍ بلا تعب، لإظْهار فضل رمضان، فهو-أي: فالهلال لليلة رأيتموه- فيها أي: ابن تلك الليلة، لا ابن الليلة التي قبلها، كما زعمه من قال منكم: ابن ليلتين، ولا ابن الليلة التي قبل هذه الثانية، كما زعمه مَنْ قال منكم: ابن ثلاث.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
قال القرطبي: وقع في هذه الرواية «مدّه» ثلاثيًّا، وفي الرواية الآتية «أمدّه» رباعيًّا، قال القاضي عياض: بمعنى واحد، أي أطال له مدة الرؤية، ومنه قوله -تعالى- في: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} (الأعراف: 202)، قرئ بالوجهين، أي: يُطيلون لهم المُدّة في الغي، وقال غيره: مدّ منَ الامتداد، وأمدّ منَ الإمْداد، وهو الزيادة، ومنه: أمددتُ الجيش بمَددٍ، ويجوز أنْ يكون أمدّه منَ المُدّة، قال صاحب الأفعال: أمددتك مدةً أعطيتكها اهـ. وفي مرقاة ملا عليّ قال: ولا عِبرة بكبره، بل ورد أنّ انتفاخ الأهلة من علامات الساعة اهـ.
وقد صحّ ذلك في الحديث: فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مِن اقترابِ السّاعةِ انتفاخُ الأَهِلَّةِ، وأن يُرَى الهلالُ لليلةٍ، فيقال: هو ابنُ ليلتيْنِ». أخرجه الطبراني في «المعجم الصغير» (877)، وصحّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (2292) بمجموع طرقه، وفائدَةُ هذا الإخْبارِ منه - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه لا اعْتِبارَ بِجِرْمِ الهِلالِ كَبُرَ أو صَغُرَ، وأنَّ الرُّؤْيةَ هي المُعْتَبَرةُ، لا جِرْمَ الهِلالِ، وهذا الحديثُ مِن أعْلامِ النُّبُوَّةِ.
باب: لكلّ بلدٍ رُؤيتهم
عَنْ كُرَيْبٍ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، قَال: فَقَدِمْتُ الشَّامَ فَقَضَيْتُ حَاجَتَها، واسْتُهِلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وأَنَا بِالشَّامِ، فَرَأَيْتُ الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَسَأَلَنِي عبداللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ، فَقَال: مَتَى رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَال: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ، فَقَال: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ، أَوْ نَرَاهُ. فَقُلْتُ: أَوَ لَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ؟ فَقَال: لَا، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. وَشَكَّ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى فِي نَكْتَفِي أَوْ تَكْتَفِي، أخرجه مسلم في الصيام (2/765) باب: بيان أنّ لكلّ بلدٍ رؤيتهم، وأنّ إذا رَأوا الهلال ببلدٍ لا يَثبتُ حُكمه لما بعُدَ عنْهم.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
يُخبِرُ التَّابِعيُّ كُرَيْبُ وهو ابنُ أبي مُسلمٍ، أنَّ أُمَّ الفَضْلِ لُبابةَ بنتَ الحَارِثِ وهي زَوجةُ العَبَّاسِ بنِ عبدالمُطَّلِبِ، وأُمُّ عبداللهِ بنِ العَبَّاسِ -رَضيَ اللهُ عنهم-، أرْسلَتْه إلى مُعاوِيةَ بنِ أبي سُفْيانَ -رَضيَ اللهُ عنهما-، وكان حينَئذٍ خَليفةً للمُسلِمينَ، فذهَبَ كُرَيبٌ إلى الشَّامِ، وقَضى حاجَتَها، وظهَرَ هِلالُ شَهرِ رَمَضانَ وهو بالشَّامِ، وكانت رُؤيةُ الهِلالِ موافِقةً ليْلةَ الجُمُعةِ، والشَّامُ بينَها وبينَ المدينةِ أكثرُ مِن (1100) كيلومترًا، وكانت قَلبَ الخِلافةِ في عَهدِ مُعَاوِيةَ بنِ أبي سُفْيانَ -رضي الله عنهما-، ومنها تُدارُ الدَّوْلةُ، وتَتبَعُها كلُّ الأقاليمِ الإسْلاميَّةِ.
ثُمَّ أخبَرَ كُرَيْبٌ أنَّه رجَعَ إلى المدينةِ النَّبويَّةِ مرَّةً أُخْرى في آخِرِ شَهرِ رَمَضانَ، فسأَلَه عبداللهِ بنُ عَبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- أي: عنِ الرِّحْلةِ وقَضاءِ حاجةِ أُمِّه، ثُمَّ ذكَرَ ابنُ عَبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- الهِلالَ، وسأَلَه: متَى رأيْتُمُ الهِلالَ في الشَّامِ؟ فأخْبَرَه كُرَيبٌ أنَّهم رأَوْه ليلةَ الجُمُعةِ، فقال ابنُ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما-: «أنتَ رأيْتَه بعَينِكَ؟ فقال كُرَيبٌ: نعمْ، ورَآه النَّاسُ أيضًا، وصاموا، وصامَ مُعَاوِيةُ -]-، فقال ابنُ عَبَّاسٍ: «لَكِنَّا رأَيْناه ليلةَ السَّبْتِ»، أي: بعدَ رُؤيتِه في الشَّامِ بلَيلةٍ، ولذلك لا نَزالُ نَصومُ حتَّى نُكمِلَ عدَّةَ الشَّهرِ ثَلاثينَ يومًا، أو نَرى الهلالَ قبلَ ذلك لتِسعةٍ وعِشرينَ.
الرؤية لا تَعم الناس

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
قال النووي في شرح مسلم: والصّحيح عند أصحابنا أنّ الرؤية لا تَعم الناس، بل تختص بمن قرب على مسافة لا تقصر فيها الصّلاة، وقيل: إن اتفق المطلع لزمهم وإنْ اتفق الإقليم وإلا فلا. وقال بعضُ أصحابنا: تعمّ الرؤية في موضع جميعَ أهل الأرض، فعلى هذا تقول: إنّما لمْ يعمل ابن عباس بخبر كريب؛ لأنّه شهادة فلا تَثبت بواحد، لكنْ ظاهر حديثه أنّه لمْ يَردّه لهذا؛ وإنّما ردّه لأنّ الرّؤية لا يثبت حُكمها في حقّ البعيد انتهى.
أقوال العلماء في الرؤية
وقال الحافظ في الفتح: قد اختلف العُلماء في ذلك على مذاهب:
- أحدها: لأهلِ كلّ بلدٍ رؤيتهم، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس ما يَشْهد له، وحكاه ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق، وحكاه الترمذي عن أهل العلم ولمْ يحكِ سِواه، وحكى الماوردي وجهاً للشافعية.
- ثانيها مقابله: إذا رؤي ببلدة لزم أهل البلاد كلها وهو المشهور عند المالكية، لكن حكى ابن عبدالبر الإجماع على خلافه، وقال: أجْمعوا على أنّه لا تُراعى الرؤية فيما بَعُد من البلاد كخراسان والأندلس.
قال القرطبي: قد قال شيوخنا: إذا كانت رُؤية الهلال ظاهرة قاطعة بموضع؛ ثم نقل إلى غيرهم بشهادة اثنين؛ لزمهم الصوم.
وقال ابن الماجشون: لا يلزمهم بالشهادة إلا لأهل البلد الذي ثبتت فيه الشهادة؛ إلا أنْ يثبت عند الإمام الأعظم؛ فيلزم الناس كلهم؛ لأنّ البلاد في حقّه كالبلد الواحد؛ إذْ حكمه نافذٌ في الجميع.
وقال بعض الشافعية: إنْ تقاربت البلاد كان الحُكم واحداً، وإنْ تباعدت فوجهان: لا يجبُ عند الأكثر، واختار أبو الطيب وطائفة الوجُوب، وحكاه البغوي عن الشافعي. وفي ضبطه البُعد أوجه:
- أحدها: اختلاف المطالع، قطع به العراقيون والصيدلاني، وصحّحه النووي في الروضة وشرح المهذب.
- ثانيها: مسافة القصر، قطع به الإمام البغوي، وصححه الرافعي في الصغير، والنووي في شرح مسلم.
- ثالثها: اختلاف الأقاليم.
- رابعها: حكاه السّرخسي فقال: يلزم كل بلدٍ لا يتصوّر خَفاؤه عنْهم بلا عارض دون غيرهم.
- خامسها: قول ابن ماجشون المتقدّم، انتهى كلام الحافظ.
- والصحيح في المسألة: أنّ رؤية العدل الثقة؛ تلزم جميع المسلمين، متى وَصلَ لهم خبر رؤية الهلال بطريق عدل ثقة، لأنّ الشهرَ واحد.
وقال الشّوكاني -في النيْل بعد ذكر الأقوال التي ذكرها الحافظ ما لفظه-: وحُجّة أهل هذه الأقوال حديثُ كريب هذا، ووجه الاحتجاج به أنّ ابن عباس، لمْ يعمل برؤْية أهل الشام، وقال في آخر الحديث: هكذا أمَرَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فدلّ ذلك على أنه قد حَفِظ منْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنّه لا يلزمُ أهل بلدِ العمل برؤية أهل بلد آخر.
واعلم أنّ الحُجّة إنّما هي في المرفوع منْ رواية ابن عباس، لا في اجْتهاده الذي فهمَ عنه الناس، والمُشار إليه بقوله: هكذا أمرنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، هو قوله: «فلا نَزالُ نصوم حتّى نكمل ثلاثين»، والأمر الكائن منْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما بلفظ: «لا تَصُومُوا حتى تَرَوا الهلال، ولا تُفْطروا حتى تَرَوه، فإنْ غُمّ عليكم فأكملِوا العدّة ثلاثين».
وهذا لا يختصّ بأهلِ ناحيةٍ على جهة الانْفراد، بل هو خطابٌ لكلّ مَنْ يَصلح له من المُسلمين، فالاسْتدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد، أظهر مِنَ الاستدلال به على عدم اللزوم؛ لأنه إذا رآه أهل بلدٍ، فقد رآه المسلمون، فيلزم غيرهم ما لزمهم.
ثم قال: والذي ينبغي اعْتماده هو ما ذهبَ إليه المالكية، وحكاه القرطبي عن شيوخه، أنّه: إذا رآه أهلُ بلدٍ، لزِمَ أهل البلاد كلها، ولا يُلتفت إلى ما قاله ابن عبدالبر من أن هذا القول خلاف الإجماع، قال: لأنهم قد أجْمعوا على أنّه لا تُراعى الرّؤية فيما بَعُد منَ البلدان كخراسان والأندلس، وذلك لأنّ الإجْماع لا يتمّ والمخالف مثل هؤلاء الجماعة. انتهى كلام الشوكاني، فتأمّل.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
من فوائد الحديث
- جعَلَ اللهُ الأهِلَّةَ لحِسابِ الشُّهورِ والسِّنينَ؛ فبِرُؤْيةِ الهِلالِ يَبدَأُ شَهرٌ ويَنْتَهي آخَرُ، وعلى تلك الرُّؤْيةِ تَتَحدَّدُ فَرائضُ كَثيرةٌ، كالصِّيامِ، والحَجِّ.
- لا عبرة بكبر الهلال أو صغره، بل العبرة برؤيته.
- سؤالُ أهلِ العِلمِ عمَّا يشْكل، فقد سألوا عبداللهِ بنِ عَبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- عن هِلالِ رَمَضانَ وما يَخُصُّه مِن أحْكامٍ.


من فوائد الحديث
- الاعتِمادُ إنّما يكون على رُؤيةِ الأهِلَّةِ في مَعرفةِ بِداياتِ الأشْهُرِ القَمَرِيَّةِ ونِهاياتِ.
- واستدل به على أنّ صيامُ أهلِ كلِّ مكانٍ بِحَسَبِ رُؤْيَتِهِم للهِلالِ، وهذا إذا لم يصل لهم خبر رؤية الهِلال.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png


ابوالوليد المسلم 02-02-2024 09:18 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي


– باب: شَهْرَا عِيدٍ


عَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ؛ رَمَضَانُ وذُو الْحِجَّةِ»، الحديث رواه مسلم في الصيام (2/766) باب: بيان معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «شَهْرا عيدٍ لا يَنقصان»، ورواه البخاري في كتاب الصوم (1912) باب: شَهرا عيدٍ لا يَنقصان. أبو بكرة الصحابي، - رضي الله عنه - واسمه نفيع بن الحارث بن كلدة الثقفي، وإنّما كُني أبا بكرة؛ لأنه تدلّى من حصن الطائف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ببَكرة، وكان أسلم وعجز عن الخروج من الطائف إلا هكذا، قال الحسن البصري: لم يكن بالبصرة من الصحابة أفضل من عمران بن الحصين، وأبي بكرة، واعتزل أبو بكرة يوم الجمل، فلم يقاتل مع أحد من الفريقين. توفي بالبصرة سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة ثنتين وخمسين.
قوله: «شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ رَمَضَانُ وذُو الْحِجَّةِ»
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): وقد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث: فمنهم مَنْ حَمَله على ظاهره، فقال: لا يكون رمضان ولا ذو الحجّة أبداً إلا ثلاثين وهذا قولٌ مردودٌ معاند للموجود المشاهد، ويكفي في ردّه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «صُوموا لرُؤيته وأفْطروا لرؤيته، فإنْ غُمّ عليكم فأكملوا العِدّة» فإنّه لو كان رمضان أبداً ثلاثين، لمْ يحتج إلى هذا، ومنهم من تأوّل له معنى لائقاُ، قال أبو الحسن: كان إسحاق بن راهويه يقول: لا يَنْقصانِ في الفَضيلة، إنْ كانا تسعةً وعشرين، أو ثلاثين انتهى.
وقيل: لا ينقصان معاً، إنْ جاءَ أحدهما تِسْعاً وعشرين، جاء الآخر ثلاثين، ولا بُدّ. وقيل: لا يَنْقصان في ثوابِ العمل فيهما. وهذان القولان مشهوران عن السّلف.
وقد نقله البخاري عقب الترجمة قبل سياق الحديث: قال إسْحاق: وإنْ كان ناقصاً فهو تَمام. وقال محمد: لا يجتمعان كلاهما ناقص. وإسحاق هو ابن راهويه، ومحمد هو البخاري المصنف.
ووقع عند الترمذي نقل القولين عن إسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل، وكأن البخاري اختار مقالة أحمد فجزم بها، أو تواردا عليها. قال الترمذي قال أحمد: معناه: لا يَنْقصان معاً في سنةٍ واحدة انتهى.
وروى الحاكم في تاريخه بإسناد صحيح: أن إسحاق بن إبراهيم سُئل عن ذلك فقال: إنّكم تَرون العَدد ثلاثين، فإذا كان تسعاً وعشرين ترونه نُقْصاناً، وليس ذلك بنُقصان.
وذكر ابن حبان لهذا الحديث معنيين: أحدهما ما قاله إسْحاق، والآخر: أنّ المُراد أنَّهما في الفَضْل سواء؛ لقوله في الحديث الآخر: «ما مِنْ أيامٍ العمل فيها أفضل مِنْ عشر ذي الحجة».
وذكر القرطبي أنّ فيه خمسة أقوال، فذكر نحو ما تقدم، وزاد أنّ معناه: لا ينقصان في عامٍ بعينه، وهو العام الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم - تلك المقالة.
وقيل: معناه لا ينقصان معاً في سنةٍ واحدة على طريق الأكثَر الأغْلب، وإنْ نَدَر وقوع ذلك، وهذا أعدل ممّا تقدم؛ لأنه ربما وجد وقوعهما ووقوع كلٍّ منهما تسعة وعشرين.
قال الطّحاوي: الأخذ بظاهره أو حمله على نقصِ أحدهما يدفعه العَيان؛ لأنّا قد وجدناهما ينقصان معاً في أعوام. وقال الزين بن المنير: لا يَخلو شيءٌ من هذه الأقوال عن الاعتراض، وأقربها: أنّ المراد أنّ النقص الحسي باعتبار العدد؛ يَنْجبر بأن كلاً منهما شهرُ عيدٍ عظيم، فلا ينبغي وصفهما بالنقصان، بخلاف غيرهما من الشهور، وحاصله يرجع إلى تأييد قول إسحاق.
وقال البيهقي في «المعرفة»: إنّما خَصّهما بالذِّكر لتعلّق حُكم الصّوم والحج بهما، وبه جزم النووي وقال: إنّه الصّواب المعتمد. والمعنى: أنّ كلّ ما ورد عنهما من الفضائل والأحْكام حاصل، سواء كان رمضان ثلاثين أو تسعاً وعشرين، سواء صادف الوقوف اليوم التاسع أو غيره. ولا يخفى أنّ محل ذلك ما إذا لمْ يحصل تقصير في ابتغاء الهلال، وفائدة الحديث: رفع ما يقع في القلوب منْ شكٍّ لمن صامَ تسعاً وعشرين، أو وقفَ في غيرِ يوم عرفة.
وقال الطّيبي: ظاهر سياق الحديث بيان اختصاص الشّهرين بمزيّة ليست في غيرهما من الشُّهور، وليس المراد أنّ ثواب الطاعة في غيرهما ينقص، وإنّما المراد رفع الحرج عما عسى أنْ يقع فيه خطأ في الحُكم؛ لاختصاصهما بالعيدين، وجواز احتمال وقوع الخطأ فيهما، ومِنْ ثمّ قال: «شَهْرا عيد» بعد قوله: «شَهران لا يَنقصان» ولمْ يقتصر على قوله: رمضان وذي الحجة انتهى.
وفي الحديث حُجّة لمن قال: إنّ الثوابَ ليس مُرتّباً على وجُود المَشقة دائماً، بل لله أنْ يتفضّل بإلحاقِ الناقص بالتام في الثواب.
واستدلّ به بعضهم لمالك في اكتفائه لرمضان بنيةٍ واحدة، قال: لأنّه جَعل الشّهر بجُملته عبادة واحدة، فاكتفى له بالنيّة، وهذا الحديث يقتضي أنّ التسوية في الثواب بين الشهر الذي يكون تسعاً وعشرين، وبين الشهر الذي يكون ثلاثين؛ إنّما هو بالنظر إلى جعل الثواب متعلقاً بالشهر منْ حيثُ الجملة، لا من حيث تفضيل الأيام.
قوله: «رَمَضان وذُو الحجّة» أطلق على رمضان أنّه شهرُ عيد؛ لقُرْبه من العيد، أو لكون هلال العيد ربّما رؤي في اليوم الأخير من رمضان، قاله الأثرم، والأول أولى. ونظيره قوله - صلى الله عليه وسلم -: «المغربُ وِتْرُ النّهار». أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر، وصلاة المغرب ليلية جهرية، وأطلق كونها وتر النّهار لقُربها منه.
وفيه: إشارة إلى أنّ وقتها يقع أول ما تغرب الشمس.
وقوله: «المَغرِبُ وِترُ النَّهارِ»؛ لأنَّها ثَلاثُ رَكَعاتٍ، وتكونُ آخِرَ صَلاةٍ في النَّهارِ، مع أنَّها ليستْ في النَّهارِ، وإنَّما هي في أوَّلِ اللَّيلِ، ولكونِها قريبةً مِن النَّهارِ أُضيفتْ إلى النَّهارِ.

1- أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنّ شهرا رَمَضانَ وذي الحِجَّةِ لا ينقصان، ولو كاناً تسعاً وعشرين، وسمّاهما شهرا عيد، لمجيء العيد عقب الأوّل منهما مباشرة، واشْتمال الثاني على يوم العيد.
2- وفيه: إمكان وقوع الخَطأ في دخول هذين الشهرين، ورفع الحَرج عمّا قد يقع مِنْ خطأ في الحُكم بإثباتِ الشهرين.
3- ورفع ما يقع في القلوب مِنْ شكٍّ لمَن صام تسعًا وعشرين، أو وقف في غير يوم عرفة.
4- وفي الحديثِ: بَيانُ فضْلِ شَهرِ رَمَضانَ وذي الحِجَّةِ، لتَعلُّقِ حكْمِ الصَّومِ والحجِّ بهما.
5- وفيه: أنّه إذا أدَّى الإنسانُ ما أُمِرَ به، واجتَهَدَ في مُوافَقةِ مُرادِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- ومَرْضاتِه قدْرَ استِطاعتِه وجَهْدِه؛ فإنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- لنْ يَحرِمَه الأجْرَ كاملًا وزِيادةً، فضْلًا مِن اللهِ وكَرَماً.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png



ابوالوليد المسلم 13-02-2024 11:25 AM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي


– باب: فِي السُّحُور


عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةً»، الحديث رواه مسلم (2/770) باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه، واستحباب تأخيره، وتعجيل الفطر، ورواه البخاري في الصوم (1923) باب: بركة السّحور منْ غير إيجاب؛ لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه واصلوا ولم يذكر السحور. قوله: «تَسَحَّرُوا» دليلٌ على أن الصائم مأمور بالسحور؛ لأنّ فيه خيراً كثيراً، وبركة عظيمة، دينية ودنيوية، وذكره - صلى الله عليه وسلم - للبركة من باب الحضّ على السحور، والترغيب فيه، والسَّحور بفتح السين: هو ما يُؤكل مِن طعام في وقت السّحر، وهو آخر الليل، وبضم السين «السُحور» هو أكل السَُّحور.
وورد الأمر أيضاً عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصُومَ فَلْيَتَسَحَّرْ بِشَيْءٍ». رواه أحمد (14533)، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (2309).
وهذا الأمر في الحديث أمرُ استحباب؛ لا أمرَ إيجاب؛ بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - واصَل وواصل أصْحابه معه، كما بوّب البخاري بذلك، والوِصال: أنْ يصوم يومين فأكثر فلا يُفطر، بل يصوم النهار مع الليل.
فضل السحور
وقد ورد في فضل السحور أحاديث أخرى، وأنّ فيه بركة عظيمة تشمل منافع الدنيا والآخرة، فمن بركة السحور ما يلي:
1- التّقوّي على العِبادة، والاسْتعانة على طاعة الله -تعالى- أثناء النّهار، منْ صلاةٍ وقراءة وذكر، فإنّ الجائع يكسل عن العبادة، كما يكسل عن عمله اليومي، وهذا محسوس.
2- ومن بركة السحور: مُدافعة سُوء الخُلُق الذي يُثيره الجوع والعطش، فالمتسحّر طيّب النفس، حسن المعاملة.
3- ومن بركة السحور أنه تحصل بسببه الرغبة في الازْدياد منْ عبادة الصيام، لخفّة المشقة فيه على المتسحّر، فيرغب في الصيام ولا يتضايق منه.
4- ومن بركة السحور: اتّباع السُّنّة، فإنّ المتسحر إذا نوى بسحوره امتثال أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، والاقتداء بفعله، كان سحوره عبادة، يحصل له به أجر من هذه الجهة، وكذا إذا نوى الصائم بأكله وشربه تقوية بدنه على الصيام والقيام، كان مثاباً على ذلك.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
5- ومن بركة السحور: أنّ الإنسان يقوم آخر الليل، ويُوفّق للذكر والدعاء والصلاة، في هذا الوقت الفاضل، وذلك مظنة الإجابة.
6- أنّه وقت صلاة الله والملائكة على المتسحرين لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «السُّحُورُ أَكْلَةٌ بَرَكَةٌ، فَلا تَدَعُوهُ وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جَرْعَةً مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ». رواه أحمد (11003)، وحسنه الألباني في «صحيح الجامع» (3683).ً
7- ومن بركة السحور: أنّ فيه مخالفةً لأهل الكتاب، والمسلم مطلوب منه البعد عن التشبه بهم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فَصْلُ ما بيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الكِتَابِ، أَكْلَةُ السَّحَرِ». رواه مسلم.
8- ومنْ بركة السحور: صلاة الفجر مع الجماعة، وفي أوّل وقتها الفاضل، ولذا تجد أنّ المُصلّين في صلاة الفجر في رمضان، أكثر منهم في غيره من الشهور؛ لأنهم قاموا من أجل السحور.
فينبغي للصائم أنْ يحرص على السُّحور، ولا يتركه لغلبة النوم أو غيره، وعليه أن يكون طيب النفس، مسروراً بامتثال أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على الخير والبركة؛ ذلك لأنّ نبينا - صلى الله عليه وسلم - أكد على السحور، وأمر به، ونهى عن تركه.
ويحصل السحور بأقلَّ ما يتناوله الإنسان منْ مأكولٍ أو مشروب، فلا يَختصّ بطعامٍ معين، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نِعْمَ سُحور المُؤمن التّمر». رواه أبو داود (2345)، وصححه الألباني.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png


ابوالوليد المسلم 14-02-2024 10:55 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي


– باب: تأخير السحور


عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رضي الله عنه - قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،ثُمَّ قُمْنَا إِلَى الصَّلَاةِ، قُلْتُ: كَمْ كَانَ قَدْرُ مَا بَيْنَهُمَا؟ قَال: خَمْسِينَ آيَةً. رواه مسلم في الباب السابق، ورواه البخاري في الصوم (1921).قوله: «تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قُمْنَا إِلَى الصَّلَاةِ» فيه دليلٌ على أنه يستحب تأخير السحور إلى قُبيل الفجر، فقد كان بينَ فراغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه زيد - رضي اللهع نه - مِنْ سُحورهما، ودخولهما في الصلاة، قدر ما يقرأ الرجلُ خمسين آيةً مِنَ القُرآن، قراءةً متوسطة لا سريعة ولا بطيئة، وهذا يدل على أنّ وقت الصّلاة قريبٌ من وقتِ الإمساك.
وفي لفظ البخاري (1921) عن زيد - رضي الله عنه - قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قام إِلَى الصَّلَاةِ، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بين الأذانِ والسّحور؟ قَال: قدْر خَمْسِينَ آيَةً. والمراد بالأذان هنا: الإقامة، سُميت أذاناً لأنها إعلام بالقيام إلى الصلاة، وقد ورد في «صحيح البخاري»(576) أيضاً: أنّه قيلَ لأنس - رضي الله عنه -: كَمْ كَانَ بَيْنَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَحُورِهِمَا، ودُخُولِهِمَا فِي الصَّلاةِ؟ قَال: قَدْرُ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَةً.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
تعجيل السُّحور
وتعجيل السُّحور في مُنتصف الليل جائز، لكنّه خلافُ السُّنة؛ فإنّ السّحور سُمّي بذلك؛ لأنّه يقع في وقت السَّحَر وهو آخر الليل، والإنسان إذا تسحّر نصف الليل قد تفوته صلاةُ الفجر لغلبة النّوم، ثمّ إنّ تأخير السُّحور أرفق بالصّائم وأدعى إلى النشاط؛ لأنّ مِنْ مقاصد السحور تقوية البدن على الصّيام، وحفظ نشاطه، فكان من الحكمة تأخيره، كما سبق؛ فينبغي للصائم أنْ يتقيّد بهذا الأدب النبوي، ولا يتعجل بالسّحور.
ومن آداب الصيام التي نصَّ عليها أهل العلم: ألا يُسرف الصائم في وجبة السُّحور، فيملأ بطنه بالطعام، بل يأكل بمقدار، فإنّه متى شَبِع وقت السّحر لمْ ينتفع بنفسه إلى قريب الظهر، لأنّ كثرة الأكل تورث الكسل والفُتور، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «نِعْم سُحُور المُؤمن التّمْر». أخرجه أبو داود (2345). إشارة إلى هذا المعنى، فإنّ التّمر قيمته الغذائية العالية، وهو خفيفٌ على المَعدة، سهل الهَضْم، لا يُثقل.
باب: صِفةُ الفَجْر الذي يُحرّمُ
الأكلَ على الصّائم
عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَغُرَّنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ، وَلَا بَيَاضُ الْأُفُقِ الْمُسْتَطِيلُ هَكَذَا، حَتَّى يَسْتَطِيرَ هَكَذَا- وحَكَاهُ حَمَّادٌ بِيَدَيْهِ- قَال: يَعْنِي مُعْتَرِضًا». الحديث رواه مسلم في الصيام في الباب السابق، ورواه البخاري في الصوم بنحوه (1918) باب: قول النّبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَمنعنَّكم مِنْ سُحُوركم أذانُ بلال».
قال ابن بطال: لمْ يصح عند البخاري لفظ الترجمة، فاسْتخرج معناه من حديث عائشة.
وقد روى لفظ الترجمة سمرة مرفوعا: «لا يَمْنعنّكم منْ سُحوركم أذانُ بلال، ولا الفجر المُستطيل، ولكن الفَجْر المَسْتطير في الأفق». عند مسلم أيضا.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وصحّ أيضا على شرطه حديث ابن مسعود بلفظ: «لَا يَمْنَعَنَّ أحَدَكُمْ- أوْ أحَدًا مِنكُم- أذَانُ بلَالٍ مِن سَحُورِهِ، فإنَّه يُؤَذِّنُ - أوْ يُنَادِي بلَيْلٍ- لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ، ولِيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ...». الحديث.
عَلامةِ هذا الفَجرِ الصَّادِقِ
وفي حديث سمرة الذي أخرجه مسلم بيانٌ لما أبْهم في حديث ابن مسعود، وذلك أن في حديث ابن مسعود: «وليسَ الفَجر أنْ يقول- ورفع بأصابعه إلى فوق وطأطأ إلى أسفل- حتى يقول هكذا»، وفي حديث سمرة عند مسلم: «لا يَغرنّكم من سُحوركم أذان بلال، ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يَسْتطير هكذا» يعني: مُعترضاً.
فبيّن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ إلى عَلامةِ هذا الفَجرِ الصَّادِقِ؛ فأمَرَهم أنْ يَأكُلوا ويَشرَبوا «حتَّى يَستَطيرَ هكذا»، أي: حتَّى يَظهَرَ في الأُفُقِ الفَجرُ مُستطِيراً، أي: مُستَعرِضاً.
وفي رواية: «ولا هذا البياضُ حتى يَسْتطير» وقد تقدم لفظ رواية الترمذي، وله من حديث طلق بن علي: «كلُوا واشْربُوا ولا يَهيدنكم السّاطع المُصْعد، وكلُوا واشْربُوا حتى يعترضَ لكم الأحمر». وقوله: «ولا يهيدنكم» بكسر الهاء، أي: لا يزعجنّكم فتمتنعوا به عن السّحور، فإنّه الفَجر الكاذب، يقال: هدته أهيده إذا أزْعجته، وأصل الهيد بالكسر الحركة.
الفجرُ فَجْران
ولابن أبي شيبة عن ثوبان مرفوعا: «الفجرُ فَجْران: فأمّا الذي كأنّه ذَنَبُ السّرحان فإنه لا يَحلّ شيئاً ولا يُحرّمه، ولكن المستطير» أي: هو الذي يُحرّم الطّعام ويُحل الصلاة، وهذا موافق للآية الماضية في الباب قبله؛ فبيَّنَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقتَ إمْساكِ الصَّائِمِ عنِ الطَّعامِ في شَهرِ رَمَضانَ، وهو وَقتُ الفَجرِ الصَّادِقِ، وأوضَحَ أنَّ المُسلِمَ يَأكُلُ ويَشرَبُ إلى أذانِ الفَجرِ الحَقِيقيِّ.
وهذا الحَديثُ: يدلُ على أنَّه كان على عَهدِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَذانانِ للفَجرِ: الأوَّلُ يَرفَعُه بِلَالُ بنُ رَباحٍ - رضي الله عنه -، وهذا هو الَّذي قال فيه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَغُرَّنَّكُم مِن سَحُورِكُم أَذانُ بِلَالٍ، ولا بَياضُ الأُفُقِ المُستَطيلُ هكذا»، فهو إرْشادٌ للمُسلِمينَ إلى أنْ يَأكُلوا ويَشْرَبوا إذا سَمِعوا أَذانَ بِلَالٍ؛ لأنَّه كان تَنبيهًا على اقتِرابِ دُخولِ وقتِ الفَجرِ فقطْ، وكان أَذانُ بِلَالٍ في وقتِ استِطالةِ بَياضِ الأُفُقِ في السَّماءِ، وكان لِيَستَيقِظَ النَّائمُ، ويَنتَبِهَ القائِمُ الَّذي يُصلِّي، ثُمَّ يكونُ بعدَه الأذانُ الثَّاني الَّذي يَرْفَعُه ابنُ أُمِّ مَكتُومٍ، وبِسَماعِه يُمسِكُ النَّاسُ عنِ الطَّعامِ والشَّرابِ، ويَبْدأُ الصِّيامُ.
ففي الحديث: كان بلال يُؤذن في آخر الليل حتى يَنْتبه القائم، وأنّ الصّبح قريب حتى يقوم مَنْ يُريد التّهجد، ويُوتر مَنْ لم يُوتر، وحتى يوقظ النائم ليستعدّ لصلاة الفجر، ولا بأس أنْ يؤذن الأول قبل الفجر بنصف ساعة أو نحوها، حتى ينتبه الناسُ أنّ الفجر قريب؛ وليستعدّ لصلاة الفجر، ثم الأذان الأخير بعد طلوع الفجر.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png


ابوالوليد المسلم 15-02-2024 10:35 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي


– باب: {حَتَّى يَتَب


عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - صلى الله عليه وسلم - قَال: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} (البقرة: 187). قَال: فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ الصَّوْمَ، رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلَيْهِ الْخَيْطَ الْأَسْوَدَ، وَالْخَيْطَ الْأَبْيَضَ، فَلَا يَزَالُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رِئْيُهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {مِنْ الْفَجْرِ} فَعَلِمُوا أَنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ: اللَّيْلَ والنَّهَارَ. الحديث رواه مسلم في الصيام (2/766-767) باب: بيان أنّ الدخول في الصّوم يحصل بطُلوع الفجر، وأن له الأكل وغيره حتى يطلع الفجر، وبيان صفة الفجر الذي تتعلّق به الأحْكام منَ الدخول في الصَّوم، ودخول وقت صلاة الصُّبح، وغير ذلك، ورواه البخاري في الصوم (1917) باب: قول الله -تعالى- {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ثمّ أتموا الصيام إلى الليل} (البقرة: 187).
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
قوله: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} البقرة: 187». يُبيِّنُ الصَّحابيُّ الجَليلُ سَهْلُ بنُ سَعْدٍ - رضي الله عنه - كيف نزلَتْ بعضُ آياتِ الصِّيامِ، حيثُ نزَلَ أوَّلًا قولُه -تعالى-: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} (البقرة: 187)؛ ففَهِم بَعضُ الصَّحابةِ لَفظَ الآيةِ على ظاهِرِه، فكان أحدُهم إذا أراد أنْ يَصومَ، أحضَرَ خَيطينِ: خَيطًا أبيضَ، وآخَرَ أسودَ، وربَطَهما في قَدَمِه، وكان يَأكُلُ ويَشرَبُ حتَّى يَظهَرَ له الفرْقُ بيْن اللَّونينِ، بعْدَ طُلوعِ الصُّبحِ ودُخولِ النَّهارِ، فأنزَل اللهُ بعْدَ ذلك قولَه: {مِنَ الْفَجْرِ} فعَلِم الصَّحابةُ أنَّ المقصودَ بالخَيطِ الأبيضِ والخيطِ الأسودِ، هو بَياضُ النَّهارِ، وسَوادُ اللَّيلِ، وأنَّ دُخولَ الفَجرِ هو الحدُّ الفاصلُ بيْن انتهاءِ اللَّيلِ وبِدايةِ النَّهارِ؛ ليُمسِكَ كلُّ مَن أراد الصِّيامَ عنِ الأكلِ والشُّربِ، مع هذه العلامةِ البارزةِ الواضحةِ.
من أدلة نزول القرآن مفرقًا
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
فقوله -تعالى-: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}، بيّنه قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} والعرب تُسمّي ضوء الصُّبح خيطاً، وظلام الليل المُختلط به خيطاً، لأنَّ أولَ ما يبدو مِنَ الفجر المُعترض في الأفق، كالخَيط المَمْدود، وهذا ممّا يدل على أنّ القرآنُ الكريمُ كان يَنزِلُ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُفرَّقًا مُنجَّماً، ولم يَنزِلْ جُملةً واحدةً، وكانت الآياتُ تَنزِلُ يُفسِّرُ بَعضُها بعضًا، وكان الصَّحابةُ رِضوانُ اللهِ عليهم يُسارِعُون في تَحقيقِ أوامرِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- المُنزَّلةِ في كَلامِه أوَّلًا بأوَّلٍ، واجْتناب نواهيه فيها.
إِنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وبَيَاضُ النَّهَارِ

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما: أنّ عَدِىُّ بْنُ حَاتِمٍ - رضي الله عنه - ممن فعل ذلك، فقد قال: لمّا نزل قوله -تعالى-: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} قَالَ عَدِىُّ بْنُ حَاتِمٍ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَجْعَلُ تَحْتَ وِسَادَتِي عِقَالَيْنِ، عِقَالاً أَبْيَضَ، وعِقَالاً أَسْوَدَ، أَعْرِفُ اللَّيْلَ مِنَ النَّهَارِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ وِسَادَتَكَ لَعَرِيضٌ، إِنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ، وبَيَاضُ النَّهَارِ»؛ معناه: إنْ كان وسادك وهي الوسادة والمخدّة، يسع الخيطين الأبيض والأسود، وهما الليل والنهار، إنّه لوسادٌ عريض ضخم. قال ابن كثير: ومعنى قوله: «إنّ وِسَادك لعَريض» أي: إنْ كان يَسعُ تحته الخيطين المرادين من هذه الآية، فيَقْتضي أنْ يكون بعَرْض المشرق والمغرب.
وقوله: «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رِئْيُهُمَا» أي: منظرهما، ومنه قوله -تعالى-: {أحسنُ أثاثاً ورئياً} (مريم: 74).
يسأل بعضُهم سؤالاً فيقول: في كتاب الله -عزّوجل- جاء بيان أنّ الصّوم يبدأ منْ ظُهور الخيط الأبيض من الأسود، فلماذا نرى الناس الآن يبدؤون الصوم مع أذان الفجر، مع أنّ النص القرآني صريح؟
والجواب: نعم الآية واضحة في أنّ الصّوم يبدأ من تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وكلامٌ صحيح، والمراد بالخيط الأبيض هو بياض النهار، وبالخيط الأسود سواد الليل، كما فسّره بذلك مَنْ أنزل عليه القرآن، وهو النّبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الوقت الذي يُؤذّن عليه المؤذّنون، بالتوقيت الذي تضعه إدارات المَساجد، فما عليه الناس اليوم من ترك الأكل والشرب مع أذان الفجر، هو الصّواب الذي يجبُ على كل مسلم أنْ يفعله، ولصُعوبة تمييز الخَيط الأبيض منَ الخيط الأسْود اليوم، بظلّ كثرة المنازل، وتطاول البنيان في المُدن، وكثرة الأضْواء المانعة مِنَ الرُّؤية.
هل يصح القول أنّ الوقت الصحيح لبيان الخيط الأبيض من الأسود من الفجر، هو كما جاء عن بعضِ السّلف بطُلوع الشمس؟
والجواب: ما روي عن بعض السلف مِنْ أنّهم أباحوا الأكل حتى طلوع الشمس، فهو وإنْ كان مَروياً عن حذيفة - رضي الله عنه - وغيره، إلا أنّهم مَحْجُوجون بالنُّصوص الدالة على وجوب الإمساك من طلوع الفجر، فهو اجتهادٌ أخطؤوا فيه -رضي الله عنهم-، قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في حاشيته على (سُنن أبي داود): «وقد اختلفَ في هذه المسألة: فروى إسحاق بن راهويه عن وكيع أنه سمع الأعمش يقول: لولا الشُّهرة لصليت الغداة، ثمّ تسحّرت؟ ثمّ ذكر إسحاق عن أبي بكر الصديق وعلي وحذيفة نحو هذا، ثمّ قال: وهؤلاء لمْ يروا فرقاً بينَ الأكل، وبين الصّلاة المكتوبة. هذا آخر كلام إسحاق. وقد حكي ذلك عن ابن مسعود أيضاً.
وذهبَ الجمهور إلى امتناع السُّحور بطُلوع الفجر، وهو قول الأئمة الأربعة، وعامة فقهاء الأمَصار، وروي معناه عن عمر وابن عباس، واحتج الجمهور بقوله -تعالى-: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}. وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كلُوا واشْربوا حتى يُؤذّن ابن أم مكتوم».
وبقوله: «الفَجْرُ فَجْران: فأمّا الأوّل، فإنّه لا يُحرّم الطّعام، ولا يُحلّ الصّلاة، وأمّا الثاني: فإنَّه يُحرّم الطَّعام، ويُحلّ الصّلاة». رواه البيهقي في سننه. انْتهى.
وفي المُجموع للنووي ذكر الخِلاف في ذلك، وفصّل أدلّة الجُمهور بأوْسع من هذا، وهذا ما عليه عملُ المُسْلمين قاطبة؛ من الإمساك عن المفطرات بأذانِ الفَجر الثاني.
باب: إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهمَا- قَال: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُؤَذِّنَانِ: بِلَالٌ وابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ». قَالَ: ولَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ هَذَا، ويَرْقَى هَذَا. رواه مسلم في الباب السابق نفسه.
قوله: «كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُؤَذِّنَانِ: بِلَالٌ وابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى» فيه أنّ مِن هَدْيِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يكون للفجْرِ أذانينِ؛ الأوَّلُ: أذانٌ باللَّيلِ قبْلَ دُخولِ الوقتِ بمُدَّةٍ لِيَستيقظَ النائمُ، ويَنتبِهَ القائمُ لصلاة الليل، ويَتسحَّرَ مَن أراد الصِّيامَ.
والأذان الثاني: هو عندَ دُخولِ وَقتِ الفجْرِ، وهو الذي يُمسِكُ الناسُ فيه عن الطَّعامِ والشَّرابِ، ويَبدَأُ به الصَّومُ.
وفي هذا الحَديثِ بَيانُ ذلك، حيثُ يُبيِّنُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ بِلالًا يُؤذِّنُ في آخِرِ اللَّيلِ قبْلَ طُلوعِ الفَجْرِ، وعليه فلا تَنقطِعوا عن طَعامِكم وشَرابِكم، ولا تَبدؤوا صِيامَكم حتَّى يُؤذِّنَ ابنُ أمِّ مَكْتُومٍ، واسْمُه عَبدُ اللهِ، وقيل: عمْرُو بنُ زائدةَ؛ لأنَّه هو الذي يُؤذِّنُ بعْدَ طُلوعِ الفَجْرِ، وكان ابنُ أمِّ مَكْتُومٍ رجُلًا أعْمَى لا يُؤذِّنُ بصَلاةِ الصُّبحِ حتَّى يَتحقَّقَ طُلوعَ الفَجرِ، ويُناديَ عليه النَّاسُ، ويُخبِروه بأنْ دخَلْتَ في الصَّباحِ، أو طلَعَ الصَّباحُ، فيَعلَمُ ابنُ أمِّ مَكتومٍ بذلك دُخولَ وَقتِ الفجْرِ بيَقينٍ، فيُؤذِّنُ.
قوله: «ولَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ هَذَا، ويَرْقَى هَذَا» قال العلماء: معناه أنّ بلالاً كان يؤذن قبل الفجر، ويتربّص بعد أذانه للدعاء ونحوه، ثم يرقب الفجر، فإذا قارب طلوعه نزل فأخبر ابن أم مكتوم، فيتأهّب ابنُ أمّ مكتوم للطّهارة وغيرها، ثمّ يرقى ويَشرع في الأذان مع أول طُلوع الفجر.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
من فوائد الحديث
الصِّيامَ إلى آخِرِ وَقتٍ قَبْلَ الفَجْرِ، ولا يوجد ما يُسمّى: وقت الإمساك.
- وفيه: مَشروعيَّةُ اتِّخاذِ مُؤذِّنيْنِ لمَسجدٍ واحدٍ.
- وفيه: مَشروعيَّةُ كَونِ المُؤذِّنَ أعْمى، إذا كان عنده مَنْ يُنبهه لدخول وقت الصلاة، مِنْ شخصٍ أو ساعة ونحوها.
- وفيه: جواز ذِكرُ الإنْسانِ بما فيه مِن العاهاتِ للتعريف به؛ ليُستدَلَّ بذلك على ما يُحتاجُ إليه منه، إذا كان مَشهوراً بها، ولم يُذكَرْ على سَبيلِ الذَّمِّ أو التَّنقُّصِ له.
- وفيه: مَشروعيَّةُ أنْ يُنسَبَ الرَّجلُ إلى أُمِّه إذا كان مَعروفًا بذلك، مِثل ابنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وغيره.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png


ابوالوليد المسلم 16-02-2024 11:17 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

– باب: صَومُ مَنْ أد


عَنْ عَائِشَةَ وأُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنهما- زَوْجَيْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُما قَالَتَا: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيُصْبِحُ جُنُباً، مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ، فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ يَصُومُ؛ وعَنْها -رضي الله عنها-: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَفْتِيهِ، وهِيَ تَسْمَعُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ، وأَنَا جُنُبٌ أَفَأَصُومُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وأَنَا تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ، وأَنَا جُنُبٌ فَأَصُومُ»، فَقَال: لَسْتَ مِثْلَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَقَال: «وَاللَّهِ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي». الحديثان رواهما مسلم في الصيام (2/780-781) باب: صحّة صوم مَنْ طلع عليه الفجرُ وهو جُنُب.
أمّا الحديثُ الأول: قولهما: «إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيُصْبِحُ جُنُباً» وفي رواية له: «كان رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُدْركه الفَجْر» يعني وقت الفجر، فيلزمه الصّوم وهو جُنُب، لا أنّها تُدركه الصلاة فيتأخر عنها، وفي رواية له عن أم سلمة: كان رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصْبح جُنُباً من جماعٍ لا مِن حُلُم، ثمّ لا يُفْطر ولا يَقْضي.
قولهما: «وهو جُنبٌ من أهله»
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
تُفسّره الروايات الأخرى، ومنْها: «يُصبح جُنُباً منْ جِماعٍ لا مِنْ حُلُم»، فإنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لمْ يكنْ يَحتلم؛ لأنّ الاحْتلام منَ الشّيطان، والشّيطان لا سُلطان له عليه، وهذا مِنْ خصائصه الشريفة، ولا يعني ذلك أنّ الذي يُدْركه الفَجر مِن احْتلام أنّه لا يجوز له الصّيام، فليس الحُكم خاصّاً بمن أصابته الجَنَابة مِنْ أهله، وإنّما أنّ ذلك كان باختياره، فغيره الذي لا يقع باختياره كالمحتلم أولى بأنْ يُعْذر، فمَن أدْركه الفجر وهو جُنُب فإنّه يَصُوم ولا يُفطر يومه ذلك، ولا يجبُ عليه قضاء.
قولهما: «ثمّ يَغتسلُ ويَصُوم»

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
فيه أنّه لا علاقة للصّيام بالجَنابة، فلو أنّ إنْساناً لم يستطع الاغْتسال، أو كان فاقداً للماء، فإنّه يصومُ وصَومه صَحيح، وعليه التّيمم للصّلاة لا للصيام، ولا فرقَ بين صَومِ النَّفْل وصوم الفَرض في ذلك، ومثله الحائض: فإنّها إذا طَهُرت قبل الفجر، فإنّها تَصوم ولو لمْ تَغْتسل إلا بعـد طلـوع الفجر، لكن إذا لمْ تَطْهر ولمْ يَنْقطع الدم إلا بعد طُلوع الفجر، فإنّه لا يلزمها الإمْسَـاك، ولا يَصحّ أنْ تنوي الصّيام، وعليها القضاء.
في هذا الحديثِ تَرْوي أمُّ المؤمنينَ عائشَةُ -رَضِي اللهُ عنها-: أنَّ رَجلًا جاءَ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَستَفتيهِ في مَسألةٍ تخُصُّ طَهارةَ الصَّائمِ مِن الجَنابةِ، وكانت عائشَةُ -رَضِي اللهُ عنها- منْ وَراءَ البابِ تَسمَعُ، فأخبَرَ الرَّجلُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ صَلاةَ الفَجرِ تُدرِكُه وهو جُنبٌ، فهلْ يَصومُ على حالِ الجَنابةِ ثمَّ يَغتسِلُ بعْدُ؟ والجَنابةُ تُطلَقُ على كُلِّ مَنْ أَنزَلَ المَنِيَّ أو جامَعَ، وسُمِّيَ بذلك لاجتِنابِه الصَّلاةَ والعباداتِ حتَّى يَتطَّهَّرَ مِنها، فَقالَ له رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وأَنا تُدرِكُني الصَّلاةُ وأَنا جُنبٌ، فَأَصُومُ» وقدْ أجابه - صلى الله عليه وسلم - بفعلِه هو؛ لأنَّه أبلَغُ ممَّا لو قال له: اغتَسِلْ وصُمْ.
وهذا كما سبق بَيانٌ لمَشروعيَّةِ صِيامِ الجُنبِ قبْلَ الاغتسالِ؛ وذلك أنَّ حُدوثَ الجَنابةِ قبْلَ الفجرِ؛ لا تَمنَعُ مِن عقْدِ نِيَّةِ الصِّيامِ ولا تَقطَعُه.
فَقالَ الرَّجلُ: «لَسْتَ مِثلَنا يا رَسُولَ اللهِ؛ قَدْ غَفرَ اللهُ لَكَ ما تَقدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَما تَأخَّرَ»، أي: إنَّ هذا مِن خَصائصِكَ، ولَيس عليك حرَجٌ فيما تَفعَلُ. وفي رِوايةِ أبي داودَ: «فَغَضِبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -» وإنَّما غَضِبَ - صلى الله عليه وسلم - لاعتقادِ الرَّجلِ الخُصوصيَّةَ بلا عِلمٍ، مع كونِه أخبَرَه بفِعلِه - صلى الله عليه وسلم - جَوابًا لسُؤالِه.
وَاللهِ، إِنِّي لَأرجو أنْ أَكونَ أَخشاكُم لِلهِ

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
ثمّ قال له رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَاللهِ، إِنِّي لَأرجو أنْ أَكونَ أَخشاكُم لِلهِ»، أي: أكونَ أشَدَّكم خَشيةً لله مِن عُقوبتِه، «وأَعلمَكُم بِما أَتَّقي»، أي: أكونَ أكثَرَكم عِلماً بما أتَّقِي به اللهَ -سُبحانه-، ورَجاؤه - صلى الله عليه وسلم - مُحقَّقٌ باتِّفاقٍ، وهَذا فيهِ إنكارٌ على مَن نَسَبَ لَه التَّقصيرَ في العِبادةِ، لِلاتِّكالِ على المَغفرَةِ.
ومثله حديث عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَمَرَهُمْ، أَمَرَهُمْ مِنَ الأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ، قَالُوا: إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا». رواه البخاري في كتاب الإيمان حديث رقم (20): باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنا أعلَمُكم بالله» وأنّ المعرفة فعل القلب.
كان - صلى الله عليه وسلم - يأمُر أصْحابه بما يُطيقون

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
قال الحافظ ابن رجب: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمُر أصْحابه بما يُطيقون من الأعمال، وكانوا لشدّة حرصهم على الطاعات، يريدون الاجْتهاد في العمل، فربما اعتذروا عن أمرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرّفق واسْتعماله له في نفسه، أنّه غير محتاجٍ إلى العمل، بضمانِ المَغفرة له، وهم غير مضمونٍ لهم المغفرة، فهم يَحتاجون إلى الاجتهاد ما لا يحتاج هو إلى ذلك، فكان - صلى الله عليه وسلم - يَغضب من ذلك، ويخبرهم أنّه أتقاهم وأعلمهم به.
عِلمُ النبي عِلمُ يقين

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
فكونه أتقاهم لله يتضمن شدّة اجتهاده في خصال التقوى وهو العمل، وكونه أعلمهم به يتضمن أن علمه بالله أفضل من علمهم بالله وإنّما زاد علمه بالله لمعنيين:
- أحدهما: زيادة معرفته بتفاصيل أسْمائه وصفاته وأفعاله، وأحكامه، وعظمته وكبريائه، وما يستحقّه من الجَلال والإكْرام والإعظام.
- والثاني: أنّ عِلْمه بالله مستندٌ إلى عينِ اليقين، فإنّه رآه إمّا بعين بصَره، أو بعين بَصِيرته، كما قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما: رآه بفؤاده مَرتين. وعلمهم به مستندٌ إلى علم يقين، وبين المرتبتين تباين، ولهذا سأل إبراهيم -عليه السلام- ربه أن يُرقّيه منْ مرتبة علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين، بالنسبة إلى رؤية إحْياء الموتى. قال: فلما زادت معرفة الرسول بربّه، زادت خشيته له وتقواه، فإنّ العلم التام يستلزم الخشية كما قال -تعالى-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} (فاطر: 28). فمن كان بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه أعلم كان له أخشى وأتقى، إنّما تنقص الخشية والتقوى بحسب نقص المعرفة بالله.
وقد خرج البخاري في آخر «صحيحه» عن مسروق قال: قالت عائشة: صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ترخّصَ فيه، وتنزّه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله، ثمّ قال: «ما بالُ أقوام يتنزّهون عن الشَّيء أصْنَعه؟! فوالله إني لأعْلَمُهم بالله، وأشَدّهم خَشية».

ما يؤخذ من الحديثين

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
- الصِّيامِ عبادة لها أحْكامٌ يَنبغِي للمُسلمِ أنْ يَعلَمَها ويَعمَلَ بها وقد بيَّن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم واجباتِه وسُننَه ومَكروهاتِه بالقولِ والفعلِ
- وفيهما: أنّ الأحْكام الشّرعيّة الأصلُ فيها أنّها ليستْ خاصّة بالنّبي صلى الله عليه وسلم بل هي للأمّة عامة
- وفيهما: تيسير الإسْلام على العباد فيما يسّر الله فيه عليهم، لا في ترك الطّاعات.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png

ابوالوليد المسلم 17-02-2024 10:56 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

– باب: في الصّائِمين


عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَسِيَ وهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ؛ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وسَقَاهُ». الحديث رواه مسلم في الصيام (2/809) باب: أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر، ورواه البخاري في الصوم (1933) باب: الصّائم إذا أكلَ أو شرب ناسياً. قوله: «َمَنْ نَسِيَ وهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ: يُبيَّن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ مَن أكَل أو شَرِب ناسياً وهو صائمٌ، فإنَّه يَبْقَى على صِيامِه، وصومه صحيح ولا يُفطِرُ، ولا إثْم عليه؛ إذْ لا قصدَ له في ذلك ولا إرادة، بل هو رزقٌ ساقه الله إليه؛ ولهذا أضاف إطْعامه وسقيه إلى الله -تعالى-، وما يكون مُضافاً إلى الله -تعالى- لا يؤاخذ عليه العبد؛ لأنّه إنّما يُنهى عن فعل ما يجوز له، والأفعال التي ليست اختيارية لا تدخل تحت التكليف، ولا فَرْق بين الأكل والشّرب القليل والكثير، لعموم الحديث، وخَصَّ الأكلَ والشُّربَ مِنْ بينِ المُفَطِّراتِ؛ لغَلَبَتِهما، ونُدرةِ غيرِهما، كالجِماعِ.
قولِه: «فإنَّما أَطْعَمه اللهُ وسَقاه»
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
بيَّن أنَّه لا يَلزَمُه القَضاءُ، فنَسَبَ الفِعلَ للهِ -تعالى- لا للنَّاسِي؛ للإشعارِ بأنَّ الفِعلَ الصَّادرَ منه مَسلوبُ الإضافةِ إليه، فلوْ كان أفْطَرَ متعمّداً؛ لأُضِيفَ الحُكمُ إليه، وهذا لُطفٌ مِن اللهِ -تعالى- بعِبادِه، ورَحمةٌ بهم. بخِلافِ المتعَمِّدِ؛ فإنَّه يقضي اليوم. وليس عليه قضاء؛ لأنّه أُمر بالإتمام، وسمى الذي يُتَمَ صوماً، فدل على أنه صائم حقيقة.
لا قضاء على من أكل أو شرب ناسيًا
وصحة صوم من أكل أو شرب ناسياً، وكونه لا قضاء عليه؛ أمْرٌ مُجْمعٌ عليه تقريباً، ويقاس على الأكل والشرب بقية المفطرات، كالجماع، لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أفْطرَ في شهرِ رَمضان ناسياً، فلا قَضَاءَ عليه، ولا كفّارة». أخرجه ابن حبان (8/288)، والحاكم (1/430) وحسنه الألباني في (صحيح الجامع) (6070).
وهذا الحُكم في الصّائم، هو فردٌ منْ أفراد القاعدة العظيمة العامة في قوله -تعالى-: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة: 286). وقد صحّ في الحديث الشريف: «أنّ الله -تعالى- قال إجَابةً لهذا الدعاء: «قد فعلتُ». وفي رواية: «قال: نعم»، وهذا منْ لُطْفٌ الله -تعالى- بعباده، وتيسيرٌ عليهم، ورفع الحَرَج والمَشقّة عنهم، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ تَجاوزَ لي عنْ أمّتي: الخَطَأ، والنِّسْيان، وما اسْتُكْرهُوا عليه». رواه أحمد وابن ماجة.
وكذلك مَنْ اغْتسلَ أو تمضمض أو استنشق، فدخل الماء إلى حَلقه بلا قصد، لم يَفْسُد صومه، وكذا لو طار إلى حَلْقه ذُبابٌ أو غبار من طريق أو دقيق أو نحو ذلك، أو وصل الدّواء مِنْ أنفه إلى حَلقه بغير اختيار لمْ يَفسد صومه؛ لأنّه لا قصد له ولا إرادة، فهو كالناسي في تَرْك العَمْد وسَلب الاختيار.
وهذا ما بوّب به البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه: «باب الصّائم إذا أكل أو شرب ناسياً»، ثم قال: وقال عطاء: إنْ اسْتَنْثر فدخل الماء في حَلْقه لا بأس إن لم يملك، وقال الحسن: إنْ دخل حلقَه الذّباب فلا شَيء عليه، وقال الحسن ومجاهد: إنْ جامعَ ناسياً فلا شَيء عليه.
مَسألةٌ مُهمّة
- وها هنا مَسألةٌ مُهمّة، وهي: ما حُكمُ مَنْ رَأى صَائماً يأكل أو يشرب ناسياً؟
- والجواب: أنّ مَنْ رأى صائماً يأكلُ أو يشرب في نهار رمضان ناسياً، وجب عليه إعْلامه وتذكيره؛ لأنّ هذا مِنْ باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والأكلُ والشُّرب في نهار رمضان منكر، والناسي معذور، فوجب إعلامه في الحال.
باب: في الصَّائم يُدْعَى
لطعَامٍ فليَقُل: إنِّي صَائمٌ

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ، وهُوَ صَائِمٌ؛ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ». رواه مسلم في الصيام (2/805-806) باب: الصائم يُدعى لطعامٍ فليَقل: إنّي صائم.
قوله: «إِذا دُعِيَ أَحدُكم إلى طَعامٍ» المرادُ به مُطلَقُ الطَّعامِ، سواءٌ كان وَليمةً أو غيْرَها، «وهوَ صائمٌ» نفْلًا أو قَضاءً أو نَذراً، فأرشَدَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّائمَ إلى أنْ يُوضِّحَ حالَه: «فَلْيَقُلْ: إنِّي صائمٌ» اعتِذاراَ منه للدَّاعي، وإعلاماً بحالِه أنَّه صائمٌ، لا يَستطيعَ الأَكلَ مِن طَعامِه.
أي: لْيُعلِمْ أَخاه المُسلمَ الدَّاعيَ أنَّ امتناعَه ما كانَ إلَّا لأَجلِ صَومِه، لا لأنَّه تَحرَّجَ مِن أنْ يَأكُلَ طَعامَه، وكانَ مِن عادةِ العربِ أنَّهم إذا أَضْمَروا لأَحدٍ شَرّاً، لم يَأكُلوا مِن طَعامِه.
وجاءَ أيضاً: عَن أَبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذا دُعِيَ أَحدُكم فَلْيُجِبْ، فإنْ كانَ صائمًا فلْيُصلِّ -أي فلْيَدْعُ-، وإنْ كانَ مُفطِرًا فلْيَطْعَمْ». رواه مُسلمٍ، وفي رواية عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «فإنْ كان مُفطراً فليَطعم، وإنْ كان صَائما فليَدْعُ». رواه أبوداود.
مَنْ كان صائماً ودعاه أحدٌ إلى طعام

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّ مَنْ كان صائماً ودعاه أحدٌ إلى طعام، فليُخبره بأنّه صائم؛ اعتذاراً له، فإنْ سَمح له، ولم يطالبه بالحُضُور سَقَط عنه الحضور، وإنْ لمْ يَسْمح، وطالبه بالحُضُور لزمه الحضور، وليس الصّوم عُذراً في تركِ إجابة الدعوة، ولكن إذا حَضر لا يلزمه الأكل، ويكون الصّوم عُذراً في ترك الأكل، ويدعو حينئذٍ لصاحب الدعوة، كما في الحديث، وقد فعل ذلك النّبي - صلى الله عليه وسلم - عن أنس - رضي الله عنه - قال: «دَخَل النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمّ سُليم فأتته بتَمْر وسَمَن، قال: «أعيدُوا سَمْنكم في سِقائه، وتَمْركم في وِعَائه، فإنّي صَائم». ثم قامَ إلى ناحية من البيت، فصلى غير المكتوبة، فدعا لأم سُليم وأهل بيتها. أخرجه البخاري ومسلم.
ومن أهل العلم مَنْ فرَّق بين الفَرْض والنفل في مَسْألة الحُضور، فإنْ كان صومه فرضاً فليس عليه أنْ يحضر؛ لأنّ الداعي سيعذره، وإنْ كان نفلا فيُنظر إنْ كان الداعي ممّن له حقٌّ عليه لقرابة أو صداقة، ويخشى إنْ اعتذر أنْ يكون في قلبه شيء، فالأفضل أنْ يَحْضر ولا يعتذر.

1- إنّ النِّسيان أمرٌ جِبِلِّيٌّ في طَبيعةِ البَشَرِ، واللهُ -تَبارَك وتعالى- يَعلَمُ ذلك مِن عِبادِه، ولا يُكَلِّفُهم شيئًا فوْقَ طاقتِهم، ومِن رَحمتِه -سُبحانَه وتعالَى- بهمْ أنْ تَجاوَزَ عن مُؤاخَذتِهم بسَبَبِ نِسيانِهم.
2- وفيه: دلالةٌ على عَدَمِ تكليفِ النَّاسي.
3- وفيه: التَّيسيرُ في هذه الشّريعة، ورفْعُ المشقَّةِ والحرَجِ عن العِبادِ.
4- قال العلماء: لا يُفطِر الصّائم بشيء مِنَ المُفْطرات؛ إلا إذا توافرت ثلاثة شروط :
الشرط الأول: أنْ يكونَ عالماً، فإنْ كان جاهلًا لمْ يُفطر؛ لقوله: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب: 5).
الشرط الثاني: أنْ يكون ذَاكراً، فإنْ كان ناسياً، فصيامه صحيح، ولا قضاء عليه.
الشرط الثالث: أنْ يكون مُختاراً لا مُكرَهاً، بأنْ يتناول المُفطِّر باختياره.

1- بيان أنّ المستحبّ لمَن دُعي إلى طعامٍ وهو صائم، ولا يُريد الإفطار أنْ يقول: إنّي صائم، ففيه بيان أنّه لا بأس بإظْهار نوافل العبادة من الصوم والصلاة وغيرهما، إذا دعت إليه حاجة، والمُسْتحب إخفاؤها إذا لمْ تكنْ حاجة.
2- وفيه أنّه يُكره للمُتنفّل إفْساد نيّته، وفطر يومه لغير عُذر، ولو كان الفِطر مُباحاً له ابتداء، لم يُرشده إلى العُذر بصُومه.
3- وذَهَب بعض أهل العلم إلى أنه إن سمح له ولم يطالبه بالحضور سقط عنه الحضور، وإنْ لمْ يَسْمح وطالبه بالحضور لزمه الحُضور، ولا يلزمه الأكل.
4- ومَنْ حَضر وهو صَائم، ولمْ يفطر، فليدعُ لصاحب الطعام بخير.
5- كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَريصاً عَلى حُسنِ العِشرةِ بيْنَ المُسلمينَ، وعَلى التَّأليفِ بيْن قُلوبِهم وإِدامةِ المَودَّةِ بيْنَهم؛ ولذلكَ جَعَلَ إجابةَ الدَّعوةِ حقًّا للمُسلمِ عَلى أَخيهِ المُسلمِ؛ حتَّى يَتواصَلَ المُسلمونَ ويَجتمِعوا ويتفرقوا.


https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png

ابوالوليد المسلم 19-02-2024 10:03 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي


– باب: كفّارةُ مَنْ


عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَال: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَال: «وَمَا أَهْلَكَكَ؟»، قَال: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، قَال: «هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟» قَال: لَا، قَال: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟»، قَالَ: لَا، قَال: «فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِيناً؟» قَال: لَا، قَال: ثُمَّ جَلَسَ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَال: «تَصَدَّقْ بِهَذَا»، قَال: أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ؛ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَال: «اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ»، وعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: احْتَرَقْتُ! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -: «لِمَ؟»، قَال: وَطِئْتُ امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ نَهَاراً، قَال: «تَصَدَّقْ تَصَدَّقْ»، قَال: مَا عِنْدِي شَيْءٌ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَجْلِسَ، فَجَاءَهُ عَرَقَانِ فِيهِمَا طَعَامٌ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ. الحديثان رواهما مسلم في الصيام (2/781) بَاب: تَغْلِيظِ تَحْرِيمِ الجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ على الصَّائِمِ، ووُجُوبِ الكَفَّارَةِ الكُبْرَى فيه وبَيَانِها، وأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى المُوسِرِ والمُعْسِرِ، وتَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ المُعْسِرِ حَتَّى يَسْتَطِيعَ.
يروي أبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلًا جاءَ إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم -، وهذا الصحابي: هو سلمة بن صَخْر البياضي، فقال: «هَلَكْتُ!» أي: فَعَلْتُ ما هو سَبَبٌ لِهَلاكي، وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- أيضاً في الصحيحين: أنه قال: «احترقت» فأقرّه النبيّ -[- على قوله: «هلكت، واحترقت» ولو لمْ يكن الأمر كذلك، لهوَّن عليه النبي -صلى الله عليه وسلم - الأمْر، فدلّ هذا على أنّ الوطء في نهار رمضان مُحرّم ومن أعظم المُفطرات إثماً وجُرْماً، وأيضاً لوجُوب الكفارة فيه خاصّة.
للذَّنب حَرارة عند المُؤمن
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وللذَّنب حَرارة عند المُؤمن، ولهذا قال الرجل كما في بعض الروايات: «احْترقت» وهكذا حال المؤمن مع الذنوب، فيرى أنّها تُحْرقه أو تُهلكه، فسَألَه - صلى الله عليه وسلم -: قَال: «ومَا أَهْلَكَكَ؟» وفي رواية: «ما شَأنُك؟» فأخبره أنَّه جامع امرأتَه في نهارِ رَمَضانَ فسَألَه - صلى الله عليه وسلم - عن استطاعتِه أنْ يُعتِقَ رَقبةً، ويُرادُ بها العبْدُ المملوكُ أو الأَمَةُ، وعتق الرقبة عند جمهور أهل العلم: لا بدّ أنْ تكون مؤمنة، وقال الحنفية: لا فرق بين مؤمنة أو كافرة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر الإيمان في الحديث، ولكن الصحيح هو ما عليه الجمهور، أنه لا بدّ مِنْ إيمان هذه الرقبة، ويكون هذا الحديث مقيداً بالنُّصوص التي فيها ذكر الإيمان، ككفارة قتل الخطأ.
العجز عن أنواع الكفارات الثلاث

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
قوله: «فقالَ: لا أسْتَطيعُ» فسَألَه -صلى الله عليه وسلم - عن استطاعتِه أنْ يَصومَ شَهْرَينِ مُتَتابِعَين، أي: لا يَفصِل بيْنَ الشَّهرَيْنِ بأيَّامِ فِطْرٍ لغيرِ عُذرٍ، فقالَ: لا أسْتَطيعُ، فسَألَه -صلى الله عليه وسلم - عن استطاعَتِه أن يُطعِمَ سِتِّين مِسكينًا، قال: لا، فأوضَحَ الرَّجُلُ أنَّه فقيرٌ، ومن أفقر أهل المدينة، أي: هو عاجِزٌ عن أداءِ أيٍّ نوعٍ مِنْ أنواعِ الكَفَّاراتِ الثَّلاثةِ.
المسألة الأولى
هل تسقط الكفّارة عن الإنسان المُعْسر الذي لا يجد الكفارة؟ لأنّه قال: «يا رسولَ الله، والله ما بين لابتيها أهل بيتٍ أفقر مني»، فعذَرَه النّبي - صلى الله عليه وسلم - وأسْقطها عنه، ولم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا قدرت كفّر، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وأحد قولي الإمام الشافعي، أمّا جمهور أهل العلم فيقولون: أنّها لا تَسْقط مع الإعْسَار، بل تبقى دَيناً في ذمّته، كما هو قول النووي هنا وتبويبه. قالوا: وأَمَّا الحَدِيثُ فَلَيْسَ فيه نَفْيُ اسْتِقْرَارِ الكَفَّارَةِ، بَلْ فيه دَلِيلٌ لِاسْتِقْرَارِها، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - في الكَفَّارَةِ بِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الخِصَالِ الثَّلَاثِ، ثُمَّ أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقِ التَّمْرِ فَأَمَرَهُ بِإِخْرَاجِهِ، فَلَوْ كَانَتْ تَسْقُطُ بِالعَجْزِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيه شَيءٌ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِخْرَاجِه، فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِهَا فِي ذِمَّتِهِ.
ومن المَسائل المهمة: أن الإنسان إذا كان عالماً مختاراً غير مُكره، فإنّه يؤاخذ بعمله، وتجبُ عليه الكفارة إنْ كان هناك كفارة، أمّا إذا كان ناسياً أو مُكرهاً فإنه لا يؤاخذ، لأنّ الله -تعالى- يقول: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة: 286)، ولذلك النّبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعذر هذا الرجل؛ لأنّ هذا الرجل قال: «أصَبتُ امرأتي في نهار رمضان»، وقال: «وقعتُ على امْرأتي وأنا صَائم» وقال: «هلكت» وقال: «احترقت»، فهذا كلُّه يدلُّ على أنّه كان عامداً وعالماً بالحُكم الشرعي، وإلا لما أخَذَ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر.
المؤاخذة في ارتكاب المَحْظُورات

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
فالمؤاخذة في ارتكاب المَحْظُورات، إنّما تتمّ بثلاثة أشياء:
1- العِلمُ وضِدّه الجهل.
2- الذِّكْر وضِدّه النسيان.
3- العَمْدُ وضدّه الخَطأ.
أما الجاهل أو الناسي أو غير المختار، فإنّه لا يُؤاخذ، ولذلك لو فعل الإنسان شيئاً من المُفْطرات: أكل أو شرب أو جامع ناسياً، لمْ يؤاخذ ولا تجب عليه كفارة، حتى في الجماع، وهذا من رحمة الله -تبارك وتعالى- بعباده.
المسألة الثالثة
ومن المسائل التي يستفاد منها في هذا الحديث: الرّفقُ بمن جاء تائباً ونادماً، ولا سيما إذا كان هذا الخطأ في حقّ الله -تبارك وتعالى-، بخلافِ ما إذا كان هذا الحقّ مُتعلقاً بالمَخلوقين، فهذا الرجل مع كونه أتى جُرْماً عظيماً وهو أعظم المفطرات، مع ذلك لم يُعنِّفه النّبي - صلى الله عليه وسلم -، وشواهدُ هذا في تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم - كثيرة، وهو ممّا يدلّ على حُسن خُلُق النبي -صلى الله عليه وسلم -، وعظيم تربيته، وكرم وفادته، فهذا الرجلُ جاء خائفاً وجِلاً، فذهب من عند النبي -صلى الله عليه وسلم - فرحَاً مسروراً، ومعه المِكتل والزنبيل من التّمر الذي يُطعم به أهله، وكذلك كلُّ مَنْ ارتكب مَعْصية لا حَدّ فيها، ثمّ جاء نادماً تائباً راجعاً، يقول أهل العلم: إنه لا يُعزَّر ولا يُعنَّف.
لمْ يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن امرأة الرّجل، ولهذا اختلف أهل العلم في هذه المسألة: هل على المَرأة كفارة؟ على قولين، والصّحيح: عدم وجُوب الكفارة على المَرأة، والحجة لمَن لمْ يُوجب هي: تركُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الاسْتفصال عن المرأة في هذا الحديث، وهل المرأة كانت موافقة أو مُكرهة؟ فدلّ على أنها لا كفارة عليها في كل الأحوال. والقاعدة في هذا: أنّ تَرْك الاسْتِفصال في مَقام الاحْتمال، يُنَزّل مَنْزلةَ العُموم في الأقوال.
قوله -صلى الله عليه وسلم - له: «اجْلِسْ»

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وإنّما أمَره بالجُلوسِ؛ لانتظارِ الوَحْيِ في حَقِّه، وقيل: أنّه عرَف أنَّه سيؤتى بشَيءٍ يعينُه به، ليُكفّر به عنْ نفسه، فانتظَرَ الرَّجُلُ حتى أُتِيَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقٍ فيه تَمْرٌ، أو عَرقان، والعَرَقُ: المِكتَلُ أو الوِعاءُ الضَّخمُ يَسَعُ خَمْسةَ عَشَرَ صاعاً مِنَ الطّعام أو التّمر، وهِيَ سِتُّونَ مُدًاً لِسِتِّينَ مِسْكِيناً، لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ.
فقال - صلى الله عليه وسلم - له: «خُذْ هذا» أي: هذا العَرَقَ بِتَمْرِه «فتَصدَّقْ به» على الفُقَراءِ والمحتاجين، فقال الرَّجُلُ: «أعلى أفْقَر منَّا؟» أي: أتصَدَّقُ به على شَخصٍ أفقَرَ مِنَّا؟ كأنَّه قال: ليس هناك في المدينةِ من هو أفقَرُ مِن أهلِ بيتي، فأنا أَوْلى بهذه الصَّدَقةِ من غيري.
قَوْلُهُ: «فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا»

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
هُمَا الحَرَّتَانِ، والمَدِينَةُ بين حَرّتين، والحَرّة الأرض الملبسة حجارة سَوداء، يُقَالُ: لَابَةٌ ولُوبَةٌ، ونَوْبَةٌ بِالنُّونِ، حَكَاهُنَّ أَبُو عُبَيْدٍ والجَوْهَرِيُّ وغيرهما مِنْ أَهْلِ اللُّغَة.
قوله: «فضَحِكَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى ظَهَرَت نَواجِذُه» والنّواجذ هي آخِرُ الأسْنانِ أو هي الأضراسُ؛ تَعجُّباً مِن حالِه؛ حيث إنّه جاءه خائفاً على نَفْسِه، راغبًا في فدائِها، فلمَّا وجد الرُّخصةَ؛ طَمِعَ أن يأكُلَ ما أُعطِيَه منَ الكَفَّارةِ!
وقيل: ضحك مِنْ حسْنِ بيانِ المتكَلِّمِ وتلَطُّفِه في الخِطابِ، وتوَسُّلِه في التوَصُّلِ إلى مَقصِدِه.
ثُمَّ قال - صلى الله عليه وسلم -: «أطعِمْه عِيالَك» فهم أولى من غيرهم لقربهم.

1- رَمَضانُ شَهرٌ كَريمٌ، وصيامُه فَرْضٌ على العاقِلِ البالِغِ القادِرِ، وللفِطْرِ العَمْدِ فيه أحكامٌ، وفي هذا الحَديثِ بيانٌ للكَفَّارةِ لِمن جامَعَ أهْلَه في نهارِ رَمَضانَ.
2- وفيه: أنَّ كَفَّارةَ الجِماعِ في نَهارِ رَمَضانَ مُرَتَّبةٌ إعتاقًا، ثُمَّ صَوماً، ثُمَّ إطعاماً.
3- وفيه: إعانةُ المُعسرِ في الكَّفارةِ.
4- وفيه: ضحكِ النبي عندَ التَّعجُّبِ.
5- وفيه: استِعمالُ الكِنايةِ فيما يُستَقْبَح ظُهورُه بصَريحِ لَفظِه، وأنّ على المسلم أنْ يسأل عن دينه ولو كان سؤاله مما يستحيا منه، فلا ينال العلم مستحٍ ولا مستكبر. وفيه: الرِّفقُ بالمُتعلِّم، والتَّلطُّفُ في التَّعليمِ، والتَّأليفُ على الدِّين.
6- وفي الحديث: دلالة على أنّ المُسْتفتي يذهب إلى المفتي في مكانه، ويسعى حتى يصل إليه؛ لأنّ الأمر يتعلَّق بدينه، فالرجل ذهب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وسأله.
7- وأنّ العالمَ بالشّرع عليه أنْ ينفع الناس، ويفتي في كلّ وقتٍ يستطيعه، فالرجل عندما وقعتْ عليه الواقعة، ذَهبَ للنبي - صلى الله عليه وسلم - واسْتفتاه، وهذا ممّا يجعل الناس يتعلَّقون بالعالم، ويكون أقرب إلى قلوبهم.
8- وفيه: ما كان عليه الصحابة من النَّدم على المَعصيةِ، واستِشعار الخَوفِ.
9- وفيه: جواز المَسألة لمنْ كان مُحتاجاً.
10- دلّ الحديث على أنّ حُدود المدينة النبوية، هو ما بين الحرّتين، لقوله «ما بينَ لابتيها» يُريد الحَرّتين.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png



ابوالوليد المسلم 20-02-2024 11:17 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي




– باب: في القُبْلة للصائم


عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عنها- قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ وهُوَ صَائِمٌ، ويُبَاشِرُ وهُوَ صَائِمٌ، ولَكِنَّهُ أَمْلَكُكُمْ لِإِرْبِهِ. الحديث رواه مسلم في الصيام (2/776) باب: بيان أنّ القُبلة في الصّوم ليستْ مُحرّمة على مَنْ لم تُحرّك شَهوته، ورواه البخاري في الصوم (4/149) باب: المُباشَرة للصائم. وقالت عائشة -رَضِيَ اللَّهُ عنها-: يَحْرم عليه فرجُها.
تَقولُ عائشة -رَضِيَ اللَّهُ عنها-: «كانَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ» أي: يُقبِّلُ زَوجاتِه، ويُباشِرُهنَّ، وفي رواية مسلم: «أنّ النّبي -[- كان يُقبّلها وهو صائم..»، والتقبيل أخصّ مِنَ المباشرة، فهو مِنْ ذكر العام بعد الخاص، والمُباشَرةُ هيَ الاستِمتاعُ بالزَّوجةِ بما دُونَ الجِماعِ، نحْوِ المُداعَبةِ والمُعانَقةِ، وأصل المباشرة: التقاء البشرتين، ويُستعمل في الجماع، وليس الجماع مُراداً بهذه الحديث، فقولها: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ وهُوَ صَائِمٌ، ويُبَاشِرُ وهُوَ صَائِمٌ» أي: يَفعَلُ هذا وهو صائمٌ، سواءٌ كان صَومَ فرْضٍ أو تَطوُّعٍ.
وقولها: «كان يقبّل ويباشر وهو صائم»
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
رواه عمرو بن ميمون عن عائشة بلفظ: «كان يُقبّل في شَهر الصّوم». أخرجه مسلم والنسائي، وفي رواية لمسلم: «يُقبّل في رمضان وهو صائم»، فأشارت بذلك إلى عدم التّفرقة بين صومِ الفَرض والنفل.
وفي هذا المعني: ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح: عن مسروق سألت عائشة: ما يحلّ للرجل مِن امرأته صائماً؟ قالت: كلُّ شيءٍ إلا الجِماع». (الفتح).
وفي رواية حماد عند النسائي: «قال الأسود: قلت لعائشة: أيباشر الصّائم؟ قالت: لا. قلت: أليس كان رسول الله -[- يُباشر وهو صائم؟ قالت: إنّه كان أملككم لإربه»، وظاهر هذا أنّها اعتقدت خُصوصية النّبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، قاله القرطبي. قال: وهو اجتهاد منْها. وقول أم سلمة - يعني: الآتي ذكره - أولى أن يؤخذ به؛ لأنّه نصٌ في الواقعة.
قال الحافظ: قلت: قد ثبت عن عائشة صريحًا إباحة ذلك كما تقدم، فيجمع بين هذا وبين قولها المتقدم: «إنّه يَحلّ له كلّ شيء إلا الجماع» بحمل النَّهي هنا على كراهة التنزيه، فإنّها لا تنافي الإباحة. انتهى.
ويدلّ على أنّها لا ترى بتحريمها، ولا بكونها من الخَصائص: ما رواه مالك في «الموطأ»: أنّ عائشة بنت طلحة أخبرته: أنّها كانت عند عائشة، فدخل عليها زوجها وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، فقالت له عائشة: ما يَمنعك أنْ تَدنو مِنْ أهلك، فتلاعبها وتقبّلها؟ قال: أقبلُها وأنا صَائم؟ قالت: نعم».
الاختلاف في القُبْلة والمُباشرة للصّائم

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وقد اخْتُلفَ في القُبْلة والمُباشرة للصّائم: فكرهها قومٌ مُطلقًا، وهو مشهور عند المالكية، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر: «أنّه كان يَكره القبلة والمباشرة». ونقل ابن المنذر وغيره عن قومٍ تحريمها؟ واحتجّوا بقوله -تعالى-: {فالآن باشروهن..} الآية، فمنع المباشرة في هذه الآية نهارًا، والجواب عن ذلك: أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - -هو المُبين عن الله تعالى- قد أباح المباشرة نهاراً، فدلّ على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع، لا ما دونه من قُبْلة ونحوها، فقوله -تعالى-: {أو لامَسْتُم النّساء} النساء:43. الصواب في تفسيرها: أنَّ المُراد به الجماع، كما قال ابن عباس وجماعةٌ من أهل العلم.
وقال الترمذي: ورأى بعضُ أهل العلم أنّ للصّائم إذا مَلَك نفسه أنْ يُقبّل، وإلا فلا، ليَسْلم له صَومه، وهو قول سفيان والشافعي، ويدلّ على ذلك: ما رواه مسلم: من طريق عمر بن أبي سلمة وهو ربيب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه سَأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيقبّل الصائم؟ فقال: سَلْ هذه- لأمّ سلمة- فأخبرته أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله، قد غَفر لك اللهُ ما تقدّم من ذنبك وما تأخر، فقال: «أمَا واللهِ إنّي لأتقاكم لله، وأخْشَاكم له»، فدلّ ذلك على أنّ الشابَ والشيخ سواء؛ لأنّ عُمر حينئذ كان شابًّا، ولعلّه كان أول ما بلغ، وفيه دلالةٌ على أنّه ليس من الخصائص.
واختلفَ فيما إذا باشرَ أو قَبّل أو نظر، فأنْزلَ أو أمْذَى، فقال الكوفيون والشافعي: يقضي إذا أنْزلَ في غير النّظر، ولا قضاء في الإمْذاء. وقال مالك وإسحاق: يقضي في كل ذلك ويُكفّر، إلا في الإمْذاء فيقضي فقط. واحتجّ له بأنّ الإنْزال أقصى ما يطلب بالجماع منَ الالتذاذ في كل ذلك، وتعقب بأنّ الأحْكامَ عُلقت بالجِماع، ولو لمْ يكنْ إنزالٌ، فافترقا.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وفي البخاري تعليقا: وقال جابر بن زيد: إنْ نَظر فأمْنَى؛ يتمّ صومه. وصله ابن أبي شيبة: من طريق عمر بن هرم: «سئل جابر بن زيد عن رجلٍ نظر إلى امرأته في رمضان فأمنى من شهوتها، هل يفطر؟ قال: لا، ويتم صومه».
وقال ابن قدامة: إنْ قبَّلَ فأنْزلَ، أفْطَرَ بلا خلاف.
قوله: «ولكنَّه كانَ أمْلَكَكُم لإرْبِه»
لإربه: بفتح الهمزة والراء وبالموحدة، أي: حاجته، ويروى بكسر الهمزة وسكون الراء، أي: عضوه، والأول أشهر، وإلى ترجيحه أشار البخاري بما أورده من التفسير.
وقال البخاري: وقال ابن عباس: «مأْرب: حَاجة» مأْرب بسكون الهمزة وفتح الراء، وهذا وصله ابن أبي حاتم: من طريق علي بن أبي طلحة وعكرمة عن ابن عباس في قوله: (وليَ فيها مآربُ أخْرى) قال: «حَوائج أخْرى»، وقال ابن عباس: في تفسير (أولي الإرْبة): المُقْعد، وقال ابن جبير: المَعتوه. وقال عكرمة: العنين، وقال طاووس: (غير أولي الإرْبة) الأحْمق لا حَاجة له في النساء. وصله عبد الرزاق في تفسيره.
معنى قولها: «كان أمْلَككم لإرْبه»

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
ومعنى قولها: «كان أمْلَككم لإرْبه» أي: حاجته بأنّه يَستطيع عليه الصلاة والسلام أنْ يَملك نفسه بأنْ لا يتدرّج به الأمر إلى الجِماع، فإذا كانت الوسيلة تُؤدّي إلى المفاسد، فلا تجوزُ هذه الوسيلة والغاية ممنوعة؛ لأنّ الوسائل لها أحْكام المقاصد، فالذي يَخاف الجماع عند المباشرة والتقبيل؛ فإنّه لا يجوز له ذلك؛ لأنّ الوسائل لها أحكام المقاصد، والذي يستطيع أنْ يتمتع بالمباشرة والتقبيل من غير أن يجامع فهذا جائز له.


1- بيَّنَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأمّته بقولِه وفِعلِه، المشروعَ وغيرَ المشروعِ للصَّائمِ، ونَقَلَ لنا الصَّحابةُ الكرامُ ذلك عنه -صلى الله عليه وسلم .
2- حُسْنُ أخلاقِه - صلى الله عليه وسلم - مع أهلِه ولُطفِ مُعاشَرَتِه.
3- نقل أمّهات المؤمنين أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته للأمّة، ومنه: بيان أمُّ المؤمنينَ عائِشةُ زُوجُ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم ورَضِيَ اللَّهُ عنها- القَدْرَ الحَلال الَّذي يُمكِنُ للصَّائمِ أنْ يَقْترِبَ فيه مِن امِرأتِه.
4- وفيه جواز الإخبار بالأمُور الخاصّة بين الزّوجين، إذا كان لمصلحةٍ، كتعليم جاهلٍ أو نحو ذلك، ولا يعدُّ هذا من الإفشاء المَنْهي عنه.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png


ابوالوليد المسلم 22-02-2024 01:56 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي




– باب: كفّارةُ


شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم - باب: كفّارةُ مَنْ وَقَعَ على امْرأتِه في رَمَضان
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه - قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَال: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَال: «وَمَا أَهْلَكَكَ؟»، قَال: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، قَال: «هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟» قَال: لَا، قَال: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟»، قَالَ: لَا، قَال: «فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِيناً؟» قَال: لَا، قَال: ثُمَّ جَلَسَ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَال: «تَصَدَّقْ بِهَذَا»، قَال: أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ؛ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَال: «اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ»، وعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: احْتَرَقْتُ! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لِمَ؟»، قَال: وَطِئْتُ امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ نَهَاراً، قَال: «تَصَدَّقْ تَصَدَّقْ»، قَال: مَا عِنْدِي شَيْءٌ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَجْلِسَ، فَجَاءَهُ عَرَقَانِ فِيهِمَا طَعَامٌ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ. الحديثان رواهما مسلم في الصيام (2/781) بَاب: تَغْلِيظِ تَحْرِيمِ الجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ على الصَّائِمِ، ووُجُوبِ الكَفَّارَةِ الكُبْرَى فيه وبَيَانِها، وأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى المُوسِرِ والمُعْسِرِ، وتَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ المُعْسِرِ حَتَّى يَسْتَطِيعَ.
يروي أبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلًا جاءَ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الصحابي: هو سلمة بن صَخْر البياضي، فقال: «هَلَكْتُ!» أي: فَعَلْتُ ما هو سَبَبٌ لِهَلاكي، وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- أيضاً في الصحيحين: أنه قال: «احترقت» فأقرّه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على قوله: «هلكت، واحترقت» ولو لمْ يكن الأمر كذلك، لهوَّن عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمْر، فدلّ هذا على أنّ الوطء في نهار رمضان مُحرّم ومن أعظم المُفطرات إثماً وجُرْماً، وأيضاً لوجُوب الكفارة فيه خاصّة.
للذَّنب حَرارة عند المُؤمن
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وللذَّنب حَرارة عند المُؤمن، ولهذا قال الرجل كما في بعض الروايات: «احْترقت» وهكذا حال المؤمن مع الذنوب، فيرى أنّها تُحْرقه أو تُهلكه، فسَألَه - صلى الله عليه وسلم -: قَال: «ومَا أَهْلَكَكَ؟» وفي رواية: «ما شَأنُك؟» فأخبره أنَّه جامع امرأتَه في نهارِ رَمَضانَ فسَألَه -صلى الله عليه وسلم- عن استطاعتِه أنْ يُعتِقَ رَقبةً، ويُرادُ بها العبْدُ المملوكُ أو الأَمَةُ، وعتق الرقبة عند جمهور أهل العلم: لا بدّ أنْ تكون مؤمنة، وقال الحنفية: لا فرق بين مؤمنة أو كافرة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر الإيمان في الحديث، ولكن الصحيح هو ما عليه الجمهور، أنه لا بدّ مِنْ إيمان هذه الرقبة، ويكون هذا الحديث مقيداً بالنُّصوص التي فيها ذكر الإيمان، ككفارة قتل الخطأ.
العجز عن أنواع الكفارات الثلاث
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
قوله: «فقالَ: لا أسْتَطيعُ» فسَألَه - صلى الله عليه وسلم - عن استطاعتِه أنْ يَصومَ شَهْرَينِ مُتَتابِعَين، أي: لا يَفصِل بيْنَ الشَّهرَيْنِ بأيَّامِ فِطْرٍ لغيرِ عُذرٍ، فقالَ: لا أسْتَطيعُ، فسَألَه - صلى الله عليه وسلم - عن استطاعَتِه أن يُطعِمَ سِتِّين مِسكينًا، قال: لا، فأوضَحَ الرَّجُلُ أنَّه فقيرٌ، ومن أفقر أهل المدينة، أي: هو عاجِزٌ عن أداءِ أيٍّ نوعٍ مِنْ أنواعِ الكَفَّاراتِ الثَّلاثةِ.
المسألة الأولى
هل تسقط الكفّارة عن الإنسان المُعْسر الذي لا يجد الكفارة؟ لأنّه قال: «يا رسولَ الله، والله ما بين لابتيها أهل بيتٍ أفقر مني»، فعذَرَه النّبي - صلى الله عليه وسلم - وأسْقطها عنه، ولم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا قدرت كفّر، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وأحد قولي الإمام الشافعي، أمّا جمهور أهل العلم فيقولون: أنّها لا تَسْقط مع الإعْسَار، بل تبقى دَيناً في ذمّته، كما هو قول النووي هنا وتبويبه. قالوا: وأَمَّا الحَدِيثُ فَلَيْسَ فيه نَفْيُ اسْتِقْرَارِ الكَفَّارَةِ، بَلْ فيه دَلِيلٌ لِاسْتِقْرَارِها، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - في الكَفَّارَةِ بِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الخِصَالِ الثَّلَاثِ، ثُمَّ أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقِ التَّمْرِ فَأَمَرَهُ بِإِخْرَاجِهِ، فَلَوْ كَانَتْ تَسْقُطُ بِالعَجْزِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيه شَيءٌ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِخْرَاجِه، فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِهَا فِي ذِمَّتِهِ.
ومن المَسائل المهمة: أن الإنسان إذا كان عالماً مختاراً غير مُكره، فإنّه يؤاخذ بعمله، وتجبُ عليه الكفارة إنْ كان هناك كفارة، أمّا إذا كان ناسياً أو مُكرهاً فإنه لا يؤاخذ، لأنّ الله -تعالى- يقول: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة: 286)، ولذلك النّبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعذر هذا الرجل؛ لأنّ هذا الرجل قال: «أصَبتُ امرأتي في نهار رمضان»، وقال: «وقعتُ على امْرأتي وأنا صَائم» وقال: «هلكت» وقال: «احترقت»، فهذا كلُّه يدلُّ على أنّه كان عامداً وعالماً بالحُكم الشرعي، وإلا لما أخَذَ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر.
المؤاخذة في ارتكاب المَحْظُورات
فالمؤاخذة في ارتكاب المَحْظُورات، إنّما تتمّ بثلاثة أشياء:
1- العِلمُ وضِدّه الجهل.
2- الذِّكْر وضِدّه النسيان.
3- العَمْدُ وضدّه الخَطأ.
أما الجاهل أو الناسي أو غير المختار، فإنّه لا يُؤاخذ، ولذلك لو فعل الإنسان شيئاً من المُفْطرات: أكل أو شرب أو جامع ناسياً، لمْ يؤاخذ ولا تجب عليه كفارة، حتى في الجماع، وهذا من رحمة الله -تبارك وتعالى- بعباده.
ومن المسائل التي يستفاد منها في هذا الحديث: الرّفقُ بمن جاء تائباً ونادماً، ولا سيما إذا كان هذا الخطأ في حقّ الله -تبارك وتعالى-، بخلافِ ما إذا كان هذا الحقّ مُتعلقاً بالمَخلوقين، فهذا الرجل مع كونه أتى جُرْماً عظيماً وهو أعظم المفطرات، مع ذلك لم يُعنِّفه النّبي - صلى الله عليه وسلم -، وشواهدُ هذا في تعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرة، وهو ممّا يدلّ على حُسن خُلُق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعظيم تربيته، وكرم وفادته، فهذا الرجلُ جاء خائفاً وجِلاً، فذهب من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فرحَاً مسروراً، ومعه المِكتل والزنبيل من التّمر الذي يُطعم به أهله، وكذلك كلُّ مَنْ ارتكب مَعْصية لا حَدّ فيها، ثمّ جاء نادماً تائباً راجعاً، يقول أهل العلم: إنه لا يُعزَّر ولا يُعنَّف.
المسألة الرابعة
لمْ يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن امرأة الرّجل، ولهذا اختلف أهل العلم في هذه المسألة: هل على المَرأة كفارة؟ على قولين، والصّحيح: عدم وجُوب الكفارة على المَرأة، والحجة لمَن لمْ يُوجب هي: تركُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الاسْتفصال عن المرأة في هذا الحديث، وهل المرأة كانت موافقة أو مُكرهة؟ فدلّ على أنها لا كفارة عليها في كل الأحوال. والقاعدة في هذا: أنّ تَرْك الاسْتِفصال في مَقام الاحْتمال، يُنَزّل مَنْزلةَ العُموم في الأقوال.
قوله - صلى الله عليه وسلم - له: «اجْلِسْ»
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وإنّما أمَره بالجُلوسِ؛ لانتظارِ الوَحْيِ في حَقِّه، وقيل: أنّه عرَف أنَّه سيؤتى بشَيءٍ يعينُه به، ليُكفّر به عنْ نفسه، فانتظَرَ الرَّجُلُ حتى أُتِيَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقٍ فيه تَمْرٌ، أو عَرقان، والعَرَقُ: المِكتَلُ أو الوِعاءُ الضَّخمُ يَسَعُ خَمْسةَ عَشَرَ صاعاً مِنَ الطّعام أو التّمر، وهِيَ سِتُّونَ مُدًاً لِسِتِّينَ مِسْكِيناً، لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ.
فقال - صلى الله عليه وسلم - له: «خُذْ هذا» أي: هذا العَرَقَ بِتَمْرِه «فتَصدَّقْ به» على الفُقَراءِ والمحتاجين، فقال الرَّجُلُ: «أعلى أفْقَر منَّا؟» أي: أتصَدَّقُ به على شَخصٍ أفقَرَ مِنَّا؟ كأنَّه قال: ليس هناك في المدينةِ من هو أفقَرُ مِن أهلِ بيتي، فأنا أَوْلى بهذه الصَّدَقةِ من غيري.
قَوْلُهُ: «فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا»
هُمَا الحَرَّتَانِ، والمَدِينَةُ بين حَرّتين، والحَرّة الأرض الملبسة حجارة سَوداء، يُقَالُ: لَابَةٌ ولُوبَةٌ، ونَوْبَةٌ بِالنُّونِ، حَكَاهُنَّ أَبُو عُبَيْدٍ والجَوْهَرِيُّ وغيرهما مِنْ أَهْلِ اللُّغَة.
قوله: «فضَحِكَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى ظَهَرَت نَواجِذُه» والنّواجذ هي آخِرُ الأسْنانِ أو هي الأضراسُ؛ تَعجُّباً مِن حالِه؛ حيث إنّه جاءه خائفاً على نَفْسِه، راغبًا في فدائِها، فلمَّا وجد الرُّخصةَ؛ طَمِعَ أن يأكُلَ ما أُعطِيَه منَ الكَفَّارةِ!
وقيل: ضحك مِنْ حسْنِ بيانِ المتكَلِّمِ وتلَطُّفِه في الخِطابِ، وتوَسُّلِه في التوَصُّلِ إلى مَقصِدِه.
ثُمَّ قال - صلى الله عليه وسلم -: «أطعِمْه عِيالَك» فهم أولى من غيرهم لقربهم.

1- رَمَضانُ شَهرٌ كَريمٌ، وصيامُه فَرْضٌ على العاقِلِ البالِغِ القادِرِ، وللفِطْرِ العَمْدِ فيه أحكامٌ، وفي هذا الحَديثِ بيانٌ للكَفَّارةِ لِمن جامَعَ أهْلَه في نهارِ رَمَضانَ.
2- وفيه: أنَّ كَفَّارةَ الجِماعِ في نَهارِ رَمَضانَ مُرَتَّبةٌ إعتاقًا، ثُمَّ صَوماً، ثُمَّ إطعاماً.
3- وفيه: إعانةُ المُعسرِ في الكَّفارةِ.
4- وفيه: ضحكِ النبي عندَ التَّعجُّبِ.
5- وفيه: استِعمالُ الكِنايةِ فيما يُستَقْبَح ظُهورُه بصَريحِ لَفظِه، وأنّ على المسلم أنْ يسأل عن دينه ولو كان سؤاله مما يستحيا منه، فلا ينال العلم مستحٍ ولا مستكبر. وفيه: الرِّفقُ بالمُتعلِّم، والتَّلطُّفُ في التَّعليمِ، والتَّأليفُ على الدِّين.
6- وفي الحديث: دلالة على أنّ المُسْتفتي يذهب إلى المفتي في مكانه، ويسعى حتى يصل إليه؛ لأنّ الأمر يتعلَّق بدينه، فالرجل ذهب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وسأله.
7- وأنّ العالمَ بالشّرع عليه أنْ ينفع الناس، ويفتي في كلّ وقتٍ يستطيعه، فالرجل عندما وقعتْ عليه الواقعة، ذَهبَ للنبي - صلى الله عليه وسلم - واسْتفتاه، وهذا ممّا يجعل الناس يتعلَّقون بالعالم، ويكون أقرب إلى قلوبهم.
8- وفيه: ما كان عليه الصحابة من النَّدم على المَعصيةِ، واستِشعار الخَوفِ.
9- وفيه: جواز المَسألة لمنْ كان مُحتاجاً.
10- دلّ الحديث على أنّ حُدود المدينة النبوية، هو ما بين الحرّتين، لقوله «ما بينَ لابتيها» يُريد الحَرّتين.





ابوالوليد المسلم 22-02-2024 02:02 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

– باب: إذا أقْبَلَ ا



عَنْعبداللَّهِبْنِأَبِيأَوْفَى - رضي الله عنه - قَال: كُنَّامَعَرَسُولِاللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيسَفَرٍفِيشَهْرِرَمَضَانَ،فَلَمَّاغَابَتْالشَّمْسُ،قَال: يَافُلَانُ،انْزِلْفَاجْدَحْلَنَا،قَال: يارَسُولَاللَّهِ،إِنَّعَلَيْكَنَهَاراً،قَالَ: «انْزِلْفَاجْدَحْلَنَا»،قَال: فَنَزَلَفَجَدَحَ،فَأَتَاهُبِهِفَشَرِبَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -،ثُمَّقَالَبِيَدِهِ: «إِذَاغَابَتْالشَّمْسُمِنْهَاهُنَا،وَجَاءَاللَّيْلُمِنْهَاهُنَا،فَقَدْأَفْطَرَالصَّائِمُ». الحديثرواهمسلمفيالصيام (2/772) باب: بيانوقتانقضاءالصوموخروجالنهار.
قوله: «كنا مع النّبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ» قال الحافظ: هذا السّفر يُشْبه أنْ يكون سَفر غزوة الفتح، وقد تقدم أنّ سفرَه في رمضان مُنْحَصر في غَزْوة بدر، وغزوة الفتح، فإنْ ثبتَ فلمْ يشهدْ ابنُ أبي أوفى بدراً، فتعيّنت غزوة الفتح، وقوله: «فلمّا غابتْ الشمس» وفي رواية: «فلمّا غربت الشّمس» وهي تفيد معنى أزيد من معنى «غابت».
قوله: قاللبعضِالقوم: «يافلان»
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وفي رواية أحمد: «فدَعَا صاحبَ شَرَابه بشَرابٍ، فقال: لو أمْسَيت»، وقوله: «فاجْدح» بالجيم ثمّ الحاء المهملة، والجَدْح: تحريك السُّويق ونحوه بالماء، بعُودٍ يقال له: المجدح، مُجنّح الرّأس، وزعم الداودي أن معنى قوله: «اجدح لي» أي: احلب، وغلّطوه في ذلك، فالجَدْح هو أنْ يَخلِطَ الشَّعيرَ المَدقوقَ، أو الدَّقيقَ باللَّبَنِ أو الماءِ، وذلك لِيُفْطِروا عليه.
قوله: «إنّ عليك نَهاراً»
يَحتمل أنّه كان يرى كثْرة الضوء مِنْ شدّة الصّحو، فيَظن أنّ الشّمس لمْ تَغْرب، ويقول: لعلّها غطاها شيء منْ جَبل ونحوه، أو كان هناك غيمٌ فلمْ يتحقّق غروب الشّمس، وأمّا قول الراوي: «وغابت الشّمس» فإخبارٌ منه بما يراه ظاهراً، وإلا فلو تحقّق الصحابي أنّ الشّمس غربت ما توقّف؛ لأنّه حينئذ يكون مُعانداً، وإنّما توقّف احتياطاً واسْتكشافاً عن حُكم المسألة. فظَنَّ الرجلُ أنَّ وَقْتَ الإفطارِ لم يَجِئْ بعدُ، فقال للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: يا رسولَ اللهِ، لو أخَّرْتَ الإفطارَ قَليلًا؛ للتَّأكُّدِ مِن دُخولِ وقْتِ الغُروبِ. قال الزّين بن المنير: يُؤْخذ من هذا جواز الاسْتفسار عن الظّواهر، لاحْتمال ألا يكونَ المُراد إمْرارها على ظاهرها. وكأنّه أخذ ذلك منْ تقريره - صلى الله عليه وسلم - الصّحابي على تَرْك المُبادرة إلى الامْتثال. وبهذا يكونُ مِنَ السنّة: تَعجيلُ الفِطرِ عندَ تَحقُّقِ غُروبِ الشَّمسِ مُباشرةً؛ لئلَّا يُزادَ في النَّهارِ مِن اللَّيلِ، ولأنَّه أرفَقُ بالصَّائمِ، وأقوى في شُكرِ النِّعمةِ.
وقد اختلفت الروايات: فأكثر ما وقع فيها أنّ المُراجعة «إنّ عليك نهاراً» وقع ثلاثاً، وفي بعضها مرّتين، وفي بعضها مرّة واحدة، وهو مَحمول على أنّ بعض الرواة اخْتصر القصة، وقد جاء أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يُراجع بعد ثلاث، وهو عند أحمد.
وحِكمة التِّكرار: أنّ مِنَ المَعلومِ أنَّ الخَيرَ كُلَّ الخَيرِ في اتِّباعِ هَدْيِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والشَّرَّ كُلَّ الشرِّ يَأتي مِن الابتداعِ في الدِّينِ والزيادة فيه ما ليس منه، ولَمَّا كان الصِّيامُ مِن أجلِّ العِباداتِ وأعظَمِ القُرُباتِ، كان لِزاماً على المُسلِمِ أنْ يَلتزِمَ هَدْيَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيه، والَّذي حثَّ فيه على تَعجيلِ الفِطرِ.
باب: في تَعْجيل الفِطْر

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ؛ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ»، وعَنْ أَبِي عَطِيَّةَ قال: دَخَلْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ عَلَى عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها-، فقالَ لَها مَسْرُوقٌ: رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، كِلَاهُمَا لَا يَأْلُو عَنْ الْخَيْرِ، أَحَدُهُمَا يُعَجِّلُ الْمَغْرِبَ وَالْإِفْطَارَ، وَالْآخَرُ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ والْإِفْطَارَ؟ فَقَالَتْ: مَنْ يُعَجِّلُ الْمَغْرِبَ وَالْإِفْطَارَ؟ قَال: عبداللَّهِ، فَقَالَتْ: هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْنَعُ. الحديث رواه مسلم في الصيام (2/771) باب: فضل السّحور وتأكيد اسْتحبابه، واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر.
قوله: «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ، مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ»
قال النووي: «فيه الحثُّ على تَعجيله بعد تحقّق غروب الشّمس، ومعناه: لا يَزال أمْر الأمة مُنْتظماً وهم بخير، ما داموا مُحافظين على هذه السُنَّة، وإذا أخّروه كان ذلك علامة على فسادٍ يقعون فيه». «شرح صحيح مسلم» (7 /208)، فعلّق النّبي - صلى الله عليه وسلم - خيريّة الأمة بتَعجيل الفِطر؛ لأنّها علامة على أنّهم مُلتزمون بسُّنَّة النّبي - صلى الله عليه وسلم -، كما أنّهم رُحَماء بأنفسِهم وأهْليهم، فلا يُرهقون أبْدانهم بما لا فائدة منه، ويتحقق ذلك التعجُّل: بالتَّمر والماء، بمجرَّد دُخول وقت المَغرب، وهو أولُ الليل.
الخير في اتباع هدي النبي - صلى الله عليه وسلم

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزالُ أُمتي على سُنّتي، ما لمْ تَنْتظر بفِطرِها النجوم»، رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، فمِنَ المَعلومِ أنَّ الخَيرَ كُلَّ الخَيرِ في اتِّباعِ هَدْيِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنّ الشَّرَّ كلَّ الشرِّ يَأتي مِن الابتداعِ في الدِّينِ، ولَمَّا كان الصِّيامُ مِن أجلِّ العِباداتِ، وأعظَمِ القُرُباتِ، كان لِزاماً على المُسلِمِ أنْ يَلتزِمَ هَدْيَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيه، والَّذي حَثَّ فيه على تَعجيلِ الفِطرِ.
إحياءُ سُنَّةٍ مِنْ سُنن النّبي - صلى الله عليه وسلم
فتعجيل الفطر: فيه إحياءُ سُنَّةٍ مِنْ سُنن النّبي - صلى الله عليه وسلم -، بل ولسُنَن الأنبياء جميعاً، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُعَجِّلَ الإِفْطَارَ، وأَنْ نُؤَخِّرَ السَّحُورَ، وأَنْ نَضْرِبَ بِأَيْمَانِنَا عَلَى شمائِلِنا في الصَّلاة». رواه الطبراني في المُعجم الكبير، والضياء المقدسي في المختارة.
الفوزُ بمحبّة الله -تعالى

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وفيه الفوزُ بمحبّة الله -تعالى-: لأنّ المُعجِّل بالفطور مَحبوبٌ عند الله عزّوجل، فقد روى أَبِو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجلَّ: أَحَبُّ عِبَادِي إِلَيَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًا». رواه الإمام أحمد والترمذي.
ولعلّ سببَ محبّته -تعالى- إيّاه، طاعته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأنّه إذا أفطر قبل الصلاة يؤدِّيها عن حُضور قلبٍ، وطُمأنينة نفسٍ، ومَنْ كان بهذه الصفة، فهو أحبُّ إلى الله -تعالى- ممّن لمْ يكنْ كذلك؛ انظر «شرح مصابيح السنة» للبغوي (2 /517). وفيه ترك التشبُّه بأهل الكتاب، فإنهم يؤخِّرون الفطر؛ كما جاء ذلك في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ، إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ». رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، وصحَّحه ابن خزيمة، وابن حبان.
أما الحديث الثاني، ففي هذا الحَديثِ يُخبِرُ التَّابِعيُّ أبو عَطِيَّةَ الوادِعيُّ أنَّه دخَلَ هو ومَسرُوقُ بنُ الأجدَعِ بنِ مالكٍ على أُمِّ المؤمِنينَ عَائِشةَ -رَضيَ اللهُ عنها-، وكان لا يدخُلُ أحدٌ عليها إلَّا بعدَ اسْتِئذانٍ، فسأَلَها مَسرُوقٌ عن رَجُلَينِ مِن أصْحابِ النَّبيِّ -[-، «كِلاهُما لا يَألُو عنِ الخيرِ» والمَعنى: لا يُقصِّر أيُّ أحدٍ منْهما عن طلَبِ الخيرِ، واتِّباعِ الهُدَى. وكانَ الأوَّلُ إذا كان صائماً يُعجِّلُ صَلاتَه للمغرِبِ، ويُعجِّلُ بإفْطارِه، فيُفطِرُ عندَ تحقُّقِ الغُروبِ، والآخَرُ إذا كان صائمًا يُؤخِّرُ المغربَ والإِفطارَ، والمرادُ بالتَّأخيرِ عدمُ المبالَغةِ في التَّعْجيلِ.
فسأَلَتْ: مَن يُعجِّلُ الإفْطارَ وصلاةَ المغربِ؟ وسأَلَتْ عنه دُونَ الثَّاني؛ لأنَّه أتَى بما يُثْنى عليه به، فأَحَبَّتْ مَعرِفَتَه؛ لِتُثْنِيَ عليه بذلك، فأخْبَراها أنَّه عبداللهِ بنُ مَسعُودٍ، فقالتْ: «هكذا كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصنَعُ»، أي: كان يُعجِّلُ المغربَ والإفْطارَ، كفِعلِ عبداللهِ بنِ مَسعودٍ - رضي الله عنه .
وقد ذُكِرَ أنَّ الآخَرَ الَّذي يؤخِّرُ الإفْطارَ، ويؤخِّرُ الصَّلاةَ، هو أبو موسى الأشْعَريُّ - رضي الله عنه -، فيُحمَلُ عَملُ ابنِ مَسعودٍ على السُّنَّةِ، وعَملُ أبي موسى على بيانِ الجَوازِ فقط.

- بيان وقت الصّوم، وأنّ الغُروب متى تحقّق، فقد انْتهى وقتُ الصّوم.
- وفيه: استحبابُ تعجيل الفِطر، وأنّه لا يجبُ إمْسْاك جزءٍ من الليل مُطلقاً، بل متى تحقّق غروب الشّمس حلّ الفطر.
- وفيه: تذكير العالِم بما يُخْشى أنْ يكون قد نسيه، وترك المُراجعة له بعد ثلاث.
- وفيه: جَوازُ الصَّومِ في السَّفرِ، وتَفضيلُه على الفِطرِ لمَن لا تَلحَقُه بالصَّومِ مَشقَّةٌ ظاهرةٌ.
- وفيه: بَيانُ أنَّ الأمرَ الشَّرعيَّ أبلَغُ مِن الحِسِّيِّ، وأنَّ العقلَ لا يَقْضي على الشَّرعِ.
فوائد من الحديثين
- بَركةُ اتِّباعِ السُّنَّةِ، وأنّ بَقاءُ الخيرِ في النَّاسِ هو بسَببِ اتِّباعِهم للسُّنةِ، وأنَّ فَسادَ الأمورِ يَتعلَّقُ بتَغيُّرِ السُّنةِ، وأنَّ مُخالفةَ السُّنَّةِ في ذلِك علامة على فَسادِ الأُمورِ.
- لا يَزالُ المسلِمون على خَيرٍ وحقٍّ، وهدًى مِن اللهِ، ما داموا مُتمسِّكينَ بسُنَّةِ نَبيِّهم، واقفينَ عندَ حُدودِه، غيرَ مُبدِّلينَ ولا مُغيِّرين؛ ما عَجَّلوا بالإفطارِ مِنْ صَومِهم عندَ غُروبِ شَمسِ يَومِهم مُباشَرةً.
- وإنَّما كان تَعجيلُ الفِطرِ خَيراً؛ لأنَّه أحفَظُ للقوَّةِ، وأرفَعُ للمَشقَّةِ، وأوفَقُ للسُّنةِ، وأبعَدُ عن الغُلوِّ والبِدعةِ، وليَظهَرَ الفرْقُ بيْن الزَّمانينِ في حكْمِ الشَّرعِ.
- تعجيلُ النَّاسُ الفطرَ، فيه مُخالفةٌ لأهل الكتاب؛ لأنَّ اليهودَ والنَّصارَى يُؤخِّرونَ.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png

ابوالوليد المسلم 22-02-2024 04:23 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

– باب: النَّهيّ عن ا


عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْوِصَالِ؛ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ المُسْلِمِينَ: فَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوَاصِلُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وأَيُّكُمْ مِثْلِي؟ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي»، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ الوِصَالِ، وَاصَلَ بِهِمْ يَوْماً، ثُمَّ يَوْماً، ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ، فَقَال: «لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَالُ؛ لَزِدْتُكُمْ» كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا. رواه مسلم في الصيام (2/774) باب: النّهي عن الوصال في الصوم، ورواه البخاري في الصوم (1967) باب: الوِصَال إلى السّحر، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه .
قوله: «نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال» ورواه أيضاً ابن عمر وعائشة وأنس بن مالك. والوصال: هو متابعة الصّوم دون الإفطار بالليل، قاله القاضي عياض. وقال ابن الأثير، الوِصَال: ألا يفطر يومين أو أياماً، فهذا هو الوِصَال، فيَجعل الليل كالنهار، ولذلك نَهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال، فيخبرُ أبو هُرَيرةَ - رضي الله عنه - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن مُواصَلةِ الصَّومِ بتَرْكِ الطَّعامِ لَيْلًا ونَهارًا، قَصْدًا وعَمْدًا؛ حيثُ إنَّ الوِصالَ لَم يُشْرَعْ للأُمَّةِ؛ رَحمةً ورِفقًا بهم.
النّهيّ عن الوصال في الصّوم
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
والنّهيّ عن الوصال في الصّوم؛ لما فيه من الضّرر الحاصل أو المُتوقع للإنسان، وشريعة الإسلام هي شريعة اليسر، كما قال -تعالى-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ولا يُريد بكم العسر} البقرة: 185، فهي شريعة مُيسرة سَمحة لا عنتَ فيها ولا مشقة، والشّارع الحكيم يكره التّعمق والغلو، وتعذيب النّفس وإرْهاقها؛ فالله لا يُكلف نَفْساً إلا وسْعها، ثمّ إنّ النهي عن الوصال، هو من باب التيسير والتسهيل،
وليبقى عمل الإنسان ويدوم، وأيضًا فيه سلامة من الملل والسآمة، وفيه إعطاء النفس حقّها، وعدم إهمال الأمور الأخرى؛ ولذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الوصال؛ لما فيه من الضرر الحاصل أو المتوقع.
أما حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: «فأيّكم أرادَ أنْ يُواصِل، فليواصِل إلى السَّحَر». رواه البخاري، فهذا يدلّ على جواز الوصال إلى السَّحر، يعني مَنْ أحبّ أنْ يُواصل، فإنّه يُواصل إلى السَّحر فقط، والسَّحَر: آخر الليل.
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إني لست كهيئتكم» كهيئتكم: كصفتكم. «إنّي أطعم وأسْقى» فيه جواز الوصال للنّبي - صلى الله عليه وسلم - دون أمّته - صلى الله عليه وسلم -، وفي اللفظ الآخر أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لي مُطْعِمٌ يُطْعمني، وسَاقٍ يَسْقيني»، وهذا في الصحيحين. وعند الإمام أحمد: أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إني أظلّ عند ربّي يُطعمني ويُسقيني» فالنّبي - صلى الله عليه وسلم - جائز له أنْ يُواصل دُون أمّته؛ فهو القائل: «لستُ كهيئتكم» - صلى الله عليه وسلم -، لاسْتغنائه عن الطّعام والشّراب بما في قلبه مِنْ ذِكر الله -تعالى- والأنس بمناجاته.
النبي - صلى الله عليه وسلم - قدوةٌ لأصْحابه أجْمعين

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وقول الصّحابة -رضي الله عنهم-: «إنّك تُواصل» ليس فيه اعتراضٌ، وإنّما هو سُؤالٌ واستفسارٌ عن كونه - صلى الله عليه وسلم - يُواصل، ونَهى عن الوِصال؛ لأنّه قدوةٌ لأصْحابه أجْمعين، وكان إذا أمَرهم - صلى الله عليه وسلم - بأمْرٍ، ابتدروا أمره - صلى الله عليه وسلم -؛ فلذلك سألوه فأجابهم: «إني لستُ كهيئتكم، إنّي أُطْعم وأسْقى» وهذا فيه بيانُ حسن تعليم وتربية النّبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّه بين لصحابته الفرق بينه وبينهم، بأنّه يُطْعم ويسقى - صلى الله عليه وسلم -، ليزدَادوا طمأنينة وتسليماً لهذا الحُكم.
قوله -صلى الله عليه وسلم -: «إنّي أطْعَم وأسْقى»

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وقوله -صلى الله عليه وسلم -: «إنّي أطْعَم وأسْقى» ذهبَ بعض العلماء أنّه على حَقيقته، فيرى أنّه طعامٌ وشرابٌ حسِّي، يستغني به عن الطّعام والشراب، تمسّكاً بظاهر الحديث.
والقول الثاني وهو الراجح: أنّه ليس على حَقيقته، بل يُريد - صلى الله عليه وسلم - ما يُعطيه الله -تبارك وتعالى- لنبيّه مِنْ قوة الطّاعم والشّارب والآكل، لاسْتغنائه عن المَطْعومات والمَشروبات بما في قلبه مِنْ ذِكر اللهِ -تعالى-، والأُنسِ به -سبحانه وتعالى-، فيَسْتغني بهذه الفُيوضات التي تأتيه مِنْ ربّه عن الطّعام والشّراب، وهذا هو القول الراجح، أنّ اللهُ -تعالى- يجعَلُ فيه قُوَّةَ الطَّاعِمِ الشَّارِبِ، ويُفيضُ عليه ما يسُدُّ مَسَدَّ الطَّعامِ والشَّرابِ، ويُقَوِّي على أنواعِ الطَّاعةِ مِن غَيرِ ضَعفٍ في القُوَّةِ.
قال ابن كثير: «الأظْهر أنّ الطّعام والشّراب في حقّه - صلى الله عليه وسلم - إنّما كان مَعنوياً لا حسِّياً، وإلا فلا يكون مُواصِلاً مع الحسِّي». وأشار إليه الحافظ ابن حجر -رحمه الله.
ومن هذا الباب: أنّ شيخ الإسْلام ابن تيميّة -رحمه الله-، كان قليلاً ما يأكلُ الطعام، أو يتناول الشّراب، ويُنْشد كثيراً بيت المتنبّي:
لها أحاديثُ مِنْ ذِكْراكَ تَشْغلُها
عن الشّرابِ وتُلْهِيها عن الزّاد
حُكم الوِصَال
أما حكم الوصال فقد اختلف فيه أهل العلم -رحمهم الله تعالى- على أقوال:
قول جمهور أهل العلم

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
قول جُمهور أهل العلم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي، فيذهبون إلى تَحْريمه، وأمّا الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-، وإسحاق وجماعة من المالكية، فذهبوا إلى التفصيل، فهو عندهم جائز إلى السَّحر، عملاً بحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً: «فأيُّكم أرادَ أنْ يُواصلَ فليُواصلْ إلى السَّحَر». رواه البخاري. مع أنّ الأولى تَرك الوِصَال تحقيقاً لتعجيل الإفْطار، ويُكره إذا زادَ عن يومٍ وليلة، وهذا التفصيل الذي اختاره الإمام أحمد، هو أعدلُ الأقوال كما قال العلامة ابن القيم.
فهذا هو أعدلُ الوصال وأسْهله؛ لأنّه -في الحقيقة- أخّر عَشَاءه، ونعلم أنّ الصائم في اليوم والليلة له أكلة، فكأنّه آخّرها فجعلها مع السَّحور، والأحْسن والأولى أنْ يتركَ الوصَال مُطلقاً، للحِرص على سُنَّة التعجيل بالفطر، ففطر الإنسان في أول الليل لا شك أنّه أفضل وأولى، للحديث السابق: «لا يزالُ الناسُ بخَيرٍ ما عجَّلوا الفِطْر»؛ وحديث: «أحبُّ عبادي إليَّ أعْجلُهم فِطراً».
قوله: «فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ الوِصَالِ»

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
قوله: «فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ الوِصَالِ؛ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْماً، ثُمَّ يَوْماً، ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ» أي: واصَل بهم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّومَ يَومَينِ، ثُمَّ رأَوا هِلالَ شَوَّالٍ، «فَقَال: «لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَالُ؛ لَزِدْتُكُمْ» كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا. أي: قاَل ذلِك زَجرًا وتَأديبًا لهم؛ حيث كلَّفوا أنفُسَهم ما لا يَطيقون، فقالَ - صلى الله عليه وسلم -: «لوْ تَأخَّر لزِدْتُكم»، أي: لَيْتَه تَأخَّرَ هِلالُ شَوَّالٍ حتَّى أَزِيدَ في عَددِ أيَّام الوِصالِ، «كالمُنَكِّل بهم حينَ أَبَوْا».

- النَّهيُ عن الوِصالِ.
- أنّ العِباداتُ أُمورٌ توقيفيَّةٌ تُؤدَّى كما أمر بها الشَّرعُ، وقد أُمِرْنا أن نتَّقِيَ اللهَ قَدْرَ الاسْتطاعةِ دونَ مَشَقَّةٍ على الأنفُسِ، وألَّا نتشَدَّدَ في الدِّينِ؛ لأنَّ النَّاسَ يختَلِفون في قُدُراتِهم وتحمُّلِهم، ولما في المُواصلة في الصوم إلى ما بعد السّحر مِنَ الضّرر الحاصل أو المتوقع.
- النّهيّ عن الوصال من تمامِ شَفَقةِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم -، ورَحمتِه بأُمَّتِه، وخوفِه عليها من المَللِ من العِبادةِ، والتَّعرُّضِ للتَّقصيرِ، وحتى لا تمَلَّ النُّفوسُ مِنَ العِباداتِ ومِن أوامِرِ الدِّينِ.
- وفيه: العدل الذي وضعه الله في الأرض، وهو إعطاء الله ما طلبه من العبادة، وإعطاء النفس حاجتها ومقوماتها.
- وفيه: حِرص الصحابة على الخير وعلى ما يُقرّب من الله، ومَحبتهم للفضل، فرغبوا في الْوِصَالِ تأسياً بالنّبي -صلى الله عليه وسلم - في كونه يُواصل، وقالوا له: إنّك تواصل.
- بعضَ الصَّحابةِ لم يمتَنِعوا عن الوِصالِ، لعلمهم أنَّ نَهْيَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إنّما هو نَهْيَ تنزيهٍ لا تحريمٍ.
- فيه: أنّ الأصل التأسي بالنّبي -صلى الله عليه وسلم -، حتى يقوم دليل خصوصية الحكم به.
- أنّ غروبَ الشّمس وقت للإفطار، ولا يَحصل به الإفطار، وإلا لما كان للوِصال معنى إذا صار مُفطراً بغروب الشمس.
- جواز الْوِصَالِ إلى السَّحَرِ لمن قَدر عليه، وتركه أولى.
- رحمة الشارع الحكيم الرحيم بالأمة؛ إذ حرَّم عليهم ما يضرّهم.
- الوِصَال من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم .
- أن الصحابة كانوا يرجعون إلى فعله المعلوم صفته ويبادرون إلى التأسي به إلاَّ فيما نهاهم عنه.
- حُسْنُ تعليم النّبي - صلى الله عليه وسلم -؛ حيثُ بيّن للصّحابة الفَرْق بينه وبينهم، ليزدادوا طمأنينة في الحُكم.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png


ابوالوليد المسلم 24-02-2024 12:19 AM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

باب: الصَّومُ والفِطر


عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- قَال: سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ فَشَرِبَهُ نَهَاراً لِيَرَاهُ النَّاسُ، ثُمَّ أَفْطَرَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما-: فَصَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وأفْطَرَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ»؛ وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ عَامَ الفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الغَمِيمِ، فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ، فَقِيلَ لَهُ: بَعْدَ ذَلِكَ إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ فَقَالَ: «أُولَئِكَ العُصَاةُ، أُولَئِكَ العُصَاةُ».
الحديثان رواهما مسلم في الصيام (2/784) باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية، إذا كان سفره مرحلتين فأكثر، وأنّ الأفضل لمن أطاقه بلا ضرر أنْ يصوم، ولمن يشقّ عليه أنْ يُفطر، وروى الحديث الأول البخاري في الصوم (1944) إذا صام أياماً من رمضان ثمّ سافر. ورواه أيضاً (1948) باب: من أفطر في السفر ليراه الناس.
في الحَديثِ الأول: يُخبِرُ عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خرَجَ مِن المَدينةِ في العام الثامن قاصِداً مكة، وذلك في فَتْحَ مكَّةَ في شَهرِ رَمَضانَ، وكان صائِماً هو ومَن معَه مِن النَّاسِ، وكان هذا في العامِ الثَّامِنِ مِن الهِجْرةِ.
فصام حتى وصل إلى عسفان

قوله: «فصام حتى وصل إلى عسفان» وفي الرواية الثانية: «فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ» قَالَ ابْن الْأَثِير: وعُسْفَان قَرْيَة جَامِعَة بَين مَكَّة والْمَدينَة، وكراع الغميم أَيْضا مَوضِع بَين مَكَّة والْمَدينَة، والكراع جَانب مستطيل من الحرَّة، مشتبها بِالكُرَاعِ، والغميم، بِفَتْح الْغَيْن المُعْجَمَة: وادٍ بالحجاز.
أمّا عسفان فبثمانية أَمْيَال يُضَاف إِلَيْهَا هَذَا الكراع، قيل: جبل أسود مُتَّصِل بِهِ، والكراع: كل أنف سَالَ من جبل أَو حرَّة، وقديد، بِضَم الْقَاف: مَوضِع قريب من مَكَّة فَكَأَنَّهُ فِي الأَصْل تَصْغِير: قد.
وقَال القَاضِي عِيَاض: اخْتلفت الرِّوَايَات فِي الموضع الَّذِي أفطر - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ، والكل في قَضِيَّة وَاحِدَة، وكلهَا مُتَقَارِبَة، والجميع من عمل عسفان. انْتهى. وقَال أبُو عَبْدِ الله البخاري: والكَدِيدُ ماءٌ بيْنَ عُسْفَانَ وقُدِيدٍ. اهـ، والكَديدَ هو الماءُ الَّذي بيْنَ قُدَيْدٍ وعُسْفَانَ، واسمُها اليومَ «الحَمضُ»، وتَبعُدُ عن مكَّةَ قُرابةَ (90) كيلومترًا.
ووَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: عَن ابْن عَبَّاس: أَنّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - خرج فِي رَمَضَان فصَام حَتَّى أَتَى قديداً، ثمَّ أَتَى بقدح من لبنٍ فشربه فَأفْطر هُوَ وَأَصْحَابه.
وقَوْله: «خَرَج إِلَى مَكَّة لعشر مَضَين من رَمَضَان»
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وقَوْله: «خَرَج إِلَى مَكَّة لعشر مَضَين من رَمَضَان» كَانَ ذَلِك في غَزْوَة الفَتْح، خرج يَوْم الْأَرْبَعَاء بعد العَصْر لعشر مضين من رَمَضَان، فَلَمَّا كَانَ بالصّلصل، )جبل عِنْد ذِي الحليفة(، نَادَى مناديه: منْ أحبّ أَنْ يُفْطر فليُفطر، ومَنْ أحبّ أَن يَصُوم فليَصُم، فَلَمَّا بلغ الكديد أفطر بعد صَلَاة الْعَصْر على رَاحِلَته ليراه النَّاس.
فيقول ابنُ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ظلَّ صائماً، فلمَّا بلَغَ الكديد، أفطَرَ، وأفطَرَ النَّاسُ معَه، وكان فِطرُه - صلى الله عليه وسلم - بعْدَ العَصرِ، وكان قدْ شقَّ على النَّاسِ الصَّومُ، فلمْ يزَلْ مُفطِراً حتَّى انْقَضى الشَّهرُ، فأرادَ - صلى الله عليه وسلم - الرِّفقَ بهم، والتَّيْسيرَ عليهم، أخْذًا بقَولِه -تعالى-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185)، فأخبَرَ -تعالى- أنَّ الإفْطارَ في السَّفَرِ أرادَ به التَّيْسيرَ على عِبادِه.
أي: لمّا صام الناس قيل له: إنّ الصّوم شقّ عليهم وهم ينظرون إلى فِعْلك، فدعا بماء فرفعه حتى يَنظر الناسُ إليه، فيقتدوا به في الإفطار، وكان لا يأمن الضعف عن القتال عند لقاء عدوهم، ثم أفطر طول الطريق إلى مكة، فكان ابن عباس يقول: قد صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر، وابن عباس لم يشاهد هذه القصة؛ لأنه كان بمكة حينئذ فهو يرويها عن غيره من الصحابة.
الرِّواية الثانية

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وفي الرواية الثانية عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ -رَضيَ اللهُ عنه- أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خرَجَ عامَ الفَتحِ إلى مكَّةَ في رَمَضانَ، فصامَ حتَّى بلَغَ كُراعَ الغَميمِ، فصامَ النَّاسُ، ثمَّ دَعا بقَدَحٍ من ماءٍ فرفَعَه، حتَّى نظَرَ النَّاسُ إليه، ثمَّ شَرِبَ، فقيلَ له بعدَ ذلك: إنَّ بعضَ النَّاسِ قد صامَ، فقال: «أولئك العُصَاةُ، أولئك العُصاةُ».
وكُراعُ الغَميمِ مَوضِعٌ يَبعُدُ عن مكَّةَ (64) كيلومترًا، وتُعرَفُ اليومَ: ببَرْقاءِ الغَميمِ، واخْتِلافُ المَكانِ الَّذي أفطَرَ فيه رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بيْن الحَديثَينِ راجِعٌ للتَّقارُبِ النِّسبيِّ بيْن المَكانَينِ، فذكَرَ ابنُ عبَّاسٍ مَوضِعًا، وذكَرَ جابرٌ الآخَرَ، وقيلَ: قدْ يكونُ عَلِمَ - صلى الله عليه وسلم - حالَ النَّاسِ ومَشقَّتَهم في مكانٍ، فأفطَرَ وأمَرَهم بالفِطرِ في مكانٍ آخَرَ.
السّفرُ الذي يُجِيز الإفطار
والسّفرُ الذي يُجِيز الإفطار: اخْتلف فيه الفقهاء باخْتلاف أنظارهم في السّفر، الذي توجد فيه مشقة فتوجد فيه الرخصة، فقيل: سفر يوم وليلة. وقال أبو حنيفة: ثلاثة أيام، بالسّير المُعْتاد للإبل، بحيثُ يسير نِصف النهار، ويستريح النّصف الآخر.
وهنا بحث: أيُّهما الأفضل في المرض والسفر: الفطر، أم الصوم؟ وقد أجاب عن ذلك العلماء: بأنّه إذا لمْ يجدْ مشقةً شديدة في المَرض أو السفر؛ فالأفضلُ له أنْ يصوم، ولا يكون بذلك معانداً لرخصة الله -تعالى. ولكن يكون محتاطاً في معنى المرض الذي يسوغ الرُّخصة، وإلا فالرُّخصة أفضل، وكذلك في حال السفر، إذا كان يرى أنه يستطيع الصوم من غير إجهاد، فالأفضل الصوم، ولا يكون ذلك معاندة للرخصة.
والسّفر المجرد في هذه الأيام لا مشقة فيه؛ ولذا فالأفضل الصّوم، منْ غيرِ أنْ نُقرّر وجوبه، حتى لا نكون معاندين لرخص الله، فإن الله -تعالى- يحبُّ أنْ تُؤتى رُخَصه، كما تُؤتَى عَزَائمه، كما صح في الحديث.
السَّفَرُ أقْسامٌ ثلاثة

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
- الأوّل: سفرٌ للجهاد في سبيل الله، وهذا لا يَحْسن فيه الصّوم، وإلا خالف السُّنّة وعارض الرخصة؛ لأنّ الله -تعالى- اخْتبر المؤمنين في غزوتين كانتا في رمضان، وهما: غَزْوة بدر الكبرى، وفتح مكة، كانت الأولى في السابع عشر من رمضان، والثانية في الثالث عشر، وقد أفْطرً فيهما النّبي - صلى الله عليه وسلم - هو ومن معه منَ الصّحابة المجاهدين.
- والقسم الثاني: السَّفر في مباحٍ كالتّجارة والزيارة، ويُتْرك الأمرُ فيه إلى حال المُسافر، إنْ وجد مشقة أفْطر وإلا صَام.
- والقسم الثالث: السّفر للمعصية، وكثير من الفقهاء لا يرون أنّ الرّخصة تشمله؛ لأنّه عاصٍ بسفره، والرّخصة نعمة وتخفيف، والمعصية لا تبيح له النعمة ولا التخفيف.

1- مشروعيّة الغَزو في رَمضانَ، ومَشْروعيَّةُ الفِطرِ في نَهارِه؛ لئِلَّا يَضعُفوا عنِ الحَربِ.
2- وفيه: بَيانُ ما كان عليه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِن الشَّفَقةِ بأُمَّتِه.
3- وفيه: سَماحةُ الشَّريعةِ، وسُهولةُ تَكاليفِها؛ حيث أباحَتِ الفِطرَ للمُسافِرِ؛ لمَا يَلحَقُه منَ التَّعبِ بسَببِ عَناءِ السَّفرِ.
4- أنّ الجِهادُ والغَزوُ مِنَ المَواطنِ الَّتي يُطلَبُ فيها كلُّ مَعاني الصِّحَّةِ والقوَّةِ، ولا سيما عندَ لِقاءِ العَدوِّ، ولقدْ رُخِّصَ في الفِطرِ للمُسافرِ؛ ليَتقوَّى به على سَفرِه، والجِهادُ أوْلى؛ لمَا يَحتاجُ مِن مَزيدِ قوَّةٍ، ولَكونِه سَبباً للنُّصرةِ على العَدوِّ.
5- فيه بَيَان صَرِيح أَنه -صلى الله عليه وسلم - صَامَ فِي السّفر، وفِيه رد على مَنْ لمْ يجوز الصَّوْم فِي السّفر.
6- وفِيه: بَيَان إِبَاحَة الْإِفْطَار فِي السّفر.
7- وفِيه: دَلِيل على أَن للصَّائِم فِي السّفر الْفطر بعد مُضِيّ بعض النَّهَار.
8- وفِيه: رد لقَوْل مَنْ زَعم أَن فطره بالكديد كَانَ فِي الْيَوْم الَّذِي خرج فِيهِ من المَدِينَة، وذهب الشَّافِعِي إِلَى أَنه لَا يجوز الفطر فِي ذَلِك اليَوْم، وإِنَّما يجوز لمن طلع علَيْهِ الفجْر فِي السّفر.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png

ابوالوليد المسلم 24-02-2024 12:24 AM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

باب: ليْسَ مِنَ البِرّ الصِّيامُ فِي السَّفَر


شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
باب: ليْسَ مِنَ البِرّ الصِّيامُ فِي السَّفَر
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ، فَرَأَى رَجُلًا قَدْ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَقَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَال: مَا لَهُ؟ قَالُوا: رَجُلٌ صَائِمٌ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ»، الحديث أخرجه مسلم في الصيام (2/786) في الباب السابق، وأخرجه البخاري في الصوم (1946)، باب: قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم - لِمَنْ ظُلّلَ عليه واشْتدّ الحَرّ: « ليس مِنَ البِرّ الصّوم في السّفر».
في هذا الحَديثِ يَرْوي جابرُ بنُ عبدِ اللهِ الأنصاريُّ -رَضيَ اللهُ عنهما-: أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان في سَفَرٍ، فرَأى قومًا مُجتمِعينَ حَولَ رجُلٍ، قدْ جُعِلَ عليه شَيءٌ يُظلِّلُه مِن الشَّمسِ؛ لِما حَصَل له مِن شِدَّةِ العطَشِ والتَّعَبِ، فسَأَلَهم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا لَهُ؟» أي: ماذا أصاب صاحبَكم؟
قوله: «قَالُوا: رَجُلٌ صَائِمٌ»
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
قوله: «قَالُوا: رَجُلٌ صَائِمٌ» بَيَّنوا له أنَّ سَببَ ضَعْفِه كان لصَومِه، ولم يَأخُذْ برُخصةِ الإفطارِ في السَّفرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ» أي: أخْبَرَهم - صلى الله عليه وسلم - أنَّه ليسَ مِن حُسنِ الطَّاعةِ والعِبادةِ، الصَّومُ في السَّفرِ، إذا بلَغَ بالصَّائمِ هذا المَبلَغَ مِن المَشقَّةِ والتّعب، واللهُ قد رخَّص للصَّائمِ بالفِطْرِ، سواءٌ كان الصِّيامُ فَرْضاً أم تَطوُّعاً، وقد جاءتِ الرُّخصةُ بفِطرِ المُسَافرِ، في قَولِ اللهِ -تعالى-: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185).
متى يتأكد الفطر؟
ويَتأكَّدُ الفطرُ إذا كانَ المُسافرُ في حَجٍّ أو جِهادٍ؛ لِيَتقوّى عليه، قال السندي: قَوْله: «لَيْسَ مِنْ الْبِرّ إِلَخْ» أَيْ: مِنْ الطَّاعَة والعِبَادَة اهـ. وقال النووي: مَعْنَاهُ: إِذَا شَقَّ عَلَيْكُمْ وَخِفْتُمْ الضَّرَر، وسِيَاق الْحَدِيث يَقْتَضِي هَذَا التَّأْوِيل... فالحَدِيث فِيمَنْ تَضَرَّرَ بِالصَّوْمِ اهـ
وهذا المعنى هو الذي فَهمه البخاري -رحمه الله- من الحديث، فإنّه ترجَم له بقوله: بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِمَنْ ظُلِّلَ عَلَيْه، واشْتَدَّ الحَرُّ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ اهـ
قال الحافظ: أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَنَّ سَبَب قَوْله - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» مَا ذَكَرَهُ مِنْ المَشَقَّةِ اهـ
وقال ابنُ القيّم في (تهذيب السُّنَن): «وأَمَّا قَوْله: «لَيْسَ مِنْ البِرّ الصِّيَام فِي السَّفَر» فَهَذَا خَرَجَ عَلَى شَخْص مُعَيَّنٍ، رَآهُ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، وجَهِده الصَّوْم، فَقالَ هَذَا القَوْل، أَيْ: لَيْسَ البِرّ أَنْ يُجْهِد الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، حَتَّى يَبْلُغ بِهَا هَذَا الْمَبْلَغ، وَقَدْ فَسَّحَ اللَّه لَهُ فِي الفِطْر اهـ.
لا يَصحّ حَمْلُ الحَديث على عُمُومه
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
ولا يَصحّ حَمْلُ هذا الحَديث على عُمُومه، وأنّه ليسَ مِنَ البِرّ الصّوم في أيّ سَفَرٍ مِنَ الأسْفار، لأنّه ثبتَ عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه كان يَصُوم في السّفر، وهو ردٌّ على مَنْ قال بأنّ الصّومَ لا يُجْزئ في السّفر في الفَرْض، وأنّ مَنْ صَام في السّفر؛ وَجَبَ عليه قَضَاؤه؟
ولهذا قال الخَطّابي -رحمه الله-: هَذَا كَلَام خَرَجَ عَلى سَبَب؛ فهُوَ مَقْصُورٌ عَلى مَنْ كَانَ فِي مِثْل حَاله، كَأَنَّهُ قَال: لَيْسَ مِنْ الْبِرّ أَنْ يَصُوم المُسَافِر، إِذَا كَانَ الصَّوْم يُؤَدِّيه إِلَى مِثْل هَذِهِ الْحَال، بِدَلِيلِ: صِيَام النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في سَفَره عَام الْفَتْح اهـ. (عون المعبود).
الصَّوم أفْضل لمَن قَوِيَ عليه
وقد ذَهَبَ الأئمة أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى أنّ الصَّومَ أفْضل لمَن قَوِيَ عليه، ولم يشق عليه، وقال الأوزاعي وأحمد وإسْحاق: الفِطرُ أفْضَل؛ عَمَلاً بالرُّخْصة، وقال آخرُون: أفْضلُهما أيْسَرهما، لقوله -تعالى-: {يُريدُ اللهُ بِكم اليُسْر}، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رَغِبَ عنْ سُنّتي، فليسَ منّي»، وأمّا حديث: ابن عمر مرفوعاً: «الصّائمُ في السّفر، كالمُفْطر في الحَضَر». أخرجه ابن ماجة بسندٍ ضعيف.
باب: تَرْكُ العَيْبِ عَلَى الصَّائِمِ والمُفْطِر
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِسِتَّ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، فَمِنَّا مَنْ صَامَ، وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى المُفْطِرِ، ولَا المُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ، الحديث رواه مسلم (2/786)، في الباب نفسه، وأخرجه البخاري (1947) في الصّوم: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كُنَّا نُسَافِرُ مع النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ علَى المُفْطِرِ، ولَا المُفْطِرُ علَى الصَّائِمِ.
يَروي الصّحابيّ أنسُ بنُ مالكٍ - رضي الله عنه -: أنَّهم كانوا يُسافِرون مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلمْ يَعِبْ ولم يُنكِرْ مَنْ صَامَ على مَن أَفطَرَ؛ لأنَّه عَمِل بالرُّخْصةِ، ولم يَعِبْ ولم يُنكِرْ مَنْ أفطَرَ على مَنْ صَامَ بما عِندَه مِن عَزيمةٍ وقُدرةٍ؛ فكِلا الأمْرينِ مَشروعانِ للمُسافرِ، وهذا كلُّه مُراعاةٌ لاختلافِ أحْوالِ النَّاسِ في السَّفرِ؛ فمَن اسْتطاعَ الصَّومَ صامَ، ومَنْ لمْ يَستطِعْ أخَذَ بالرُّخْصةِ دونَ حَرَجٍ، وقد جاءتِ الرُّخصةُ في فِطْرِ المُسافرِ، في قولِ اللهِ -تعالى-: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185).
ويَتأكَّدُ الفِطرُ إذا كان المُسافرُ في حَجٍّ أو جِهادٍ؛ لِيَقْوى عليه.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png

فوائد الحديث
- عدَمُ الاعْتراضِ أو الإنْكار أو الغَضَبِ على الأمْرِ الجَائزِ والرّخْصة.
- وفيه: حُسنُ مُرَاعاةِ الصَّحابَةِ بعضِهم بَعْضاً، وحِفْظهم لحَقّ الأخوّة، وعِلْمُهم بالرُّخَصِ والعَزائِمِ الشرعيّة.
- وفيه: أنَّ مِنْ فَضْلِ العِلمَ بشَرائِعِ الدِّينِ، أنّه يَمْنَعُ وُقوعَ الاختِلافِ بيْن المُسلِمينَ.
- أنّ الرُّخَصُ في العِباداتِ، شُرِعَتِ لِمَن لا يَقدِرُ ولا يَقْوَى على الأخْذِ بالعَزيمةِ؛ رَحمةً مِن اللهِ -عزَّ وجلَّ- ورِفْقًا بعِبادِه، فلا يَنقَصُ مِنْ قَدْرِ مَنْ أخَذَ بها ولا يُعابُ بها، بلْ إنَّ الأخذَ بالرُّخْصةِ في مَوضعِها، مِثلُ الأخذِ بالعَزيمةِ في مَوضعِها، كما جاء في الحديث الصحيح.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png

ابوالوليد المسلم 24-02-2024 11:23 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

أجْرُ المُفْطِر في السَّفَر إذا تَولَّى العَمَل


شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم - باب: أجْرُ المُفْطِر في السَّفَر إذا تَولَّى العَمَل

عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي السَّفَرِ، فَمِنَّا الصَّائِمُ، ومِنَّا المُفْطِرُ، قَال: فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ، أَكْثَرُنَا ظِلًّا صَاحِبُ الكِسَاءِ، ومِنَّا مَنْ يَتَّقِي الشَّمْسَ بِيَدِهِ. قَال: فَسَقَطَ الصُّوَّامُ، وَقَامَ المُفْطِرُونَ، فَضَرَبُوا الْأَبْنِيَةِ، وَسَقَوْا الرِّكَابَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ». رواه مسلم في الصيام (2/788) باب: أجر المُفطر في السّفر إذا تولّى العمل. ورواه البخاري في كتاب الجهاد والسير (2890) باب: فضل الخدمة في الغزو.
يقول أنس - رضي الله عنه -: أنّهم خَرَجُوا مع النّبي - صلى الله عليه وسلم - في سَفَر، وفي يومٍ حار شديدِ الحرارة، ولمْ يكُنْ لهم ما يَستظِلُّونَ به في هذا الحَرِّ، وكان أكثَرُهم ظِلًّا الذي يَستَظِلُّ بكِسائِه، أي: برِدائِه. وكان منْهم صائِمونَ، ومنْهم مُفْطِرونَ، فأمَّا الصَّائِمونَ فلم يَفعَلوا شَيئًا من الخِدمةِ ونَحوِها؛ لِما بهم مِن جَهْدِ الصِّيامِ والسَّفَرِ.
ولعلّ هذا السفر- والله تعالى أعلم- كانَ سفر غَزوة الفتح، كما في الحديث السابق، وكان فيهم الصّائم، وفيهم المُفْطر، قال: فسَقَط الصُّوّام، أي: ضَعفَ الصُّوام وسقطوا في الأرض، للرّاحة مِنْ شِدّة الإعْياء، أمَّا المُفْطِرون: فضَربوا الأبنية، أي: بنَوا الخِيام، وسَقَوا الرّكاب، أي: الإبل، فلمّا رأى هذا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «ذَهَبَ المُفْطِرُون اليومَ بالأَجْر». أي: بالأجْرِ الكاملِ الوافِرِ.
وقول أنس - رضي الله عنه -: «فمنّا الصّائم، ومنّا المُفْطر»، هذا كما تقدم في حديثه السالف أنّه قال: «فلم يَعِب الصّائمُ على المُفْطِر، ولا المُفْطر على الصّائم»، فالمُفطر لا يَعيب على الصائم في السّفر، والصّائم لا يَعِيبُ على المفطر في السفر، فالكلّ على خَير.
أفْضَليّة الفِطر في السّفر
ولكنّ الحديثَ يدلُّ على أفْضَليّة الفِطر في السّفر، عندَ التّعبِ والمَشَقّة، وشِدَّة الحَرّ، فإنّه أولى مِنَ الصَّوم، ويَنْبغي للإنسان أنْ يأخذَ بالرُّخْصة في مثلِ هَذا، وأنْ يَقْبلها، فالله -جل وعلا- يقول: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 184)، وقال -عليه الصّلاة والسلام- كما مَرَّ معنا: «ليس مِنَ البِرّ الصّيام في السفر». أي: ليس منَ البرّ الكاملِ أو المطلوب، أنْ يصُومَ الإنسانُ في السَّفر الشاقّ عليه.
- الفطر أفضل مِنَ الصّيام، إذا كان في ذلك مَصْلحةٌ وفائدةٌ أعْظم، مِثل إذا كان فيه إعانةٌ على مُلاقاة الأعْداء، والتّقوى على أعمالِ الجِهاد، فإنّ فَائدةَ الفِطْر هنا تتَعدّى إلى أمرٍ أهمّ وأعْظَم مِنَ النّفْع الخَاص، فالإنسان إذا صَامَ كانت الفائدةُ لنفسه، أمّا إذا أفْطَرَ لمَا يَتعلّق بالمَصْلحة العامّة للمُسلمين، مثل: الجِهاد وغيره مِنَ الأعْمال، فلا شك أنَّ الفِطْرَ أفضلُ في هذه الحال.
- ومن الفوائد: أنَّ أجْرَ العامل بقَدْر نفعٍ عَمله، وكلمّا كان النّفع مُتعدّياً، كان أكثر للأجْر والثواب، لارْتباطه بمَصَالح الناسِ ومَصالح المسلمين، فقول النّبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذهبَ المُفْطرون بالأجر» يعني: بأجرٍ يَزيدُ على أجْر الصّائم.
فضل خِدمة الإخْوان والأهل والخِلان
- ومن الفوائد: بيان فضل خِدمة الإخْوان والأهل والخِلان، ولا سيما في السّفر؛ لأنّه موضع تَعبٍ ومشقّة، وأنّ هذا مِنَ الخُلق الحَسن، ومِنَ المُروءة والرُّجولة، التي سبقنا إليها خيارُ هذه الأمّة مِنْ صَحابة الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم -، خِلافاً لبعض المتكبّرين الذين يترفعون عن هذا الباب، فالناس إذا كانوا في شدّةٍ، أو كانوا في سَفَر، فينبغي على الإنسان أنْ يُعين مَنْ يحتاج إلى الإعانة، مِنَ الضُّعفاء وكبار السّن، وأنْ يُسَاهم بما يستطيع، وأن يبذل جُهده، ويتعاون مع إخْوانه.
- وأيضاً: فهؤلاء المُفْطِرون مِنَ الصّحابة -رضي الله عنهم-، فَعَلوا هذا الفعل، وقدّموا الإحْسان، وخَدَموا إخْوانهم، دون اسْتِشرافٍ أو تَطَلّع للمُكافئة، أو للمَدْح والثناء، فلذلك استحقّوا هذا البِشارة النّبوية: «ذَهَبَ المُفْطِرُون اليومَ بالأجر».
مَشْروعيةُ الثناء على المُحْسنين
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
- ومِنَ الفوائد التَّربويّة: مَشْروعيةُ الثناء على المُحْسنين، والتَّشجيع على الأعْمال الصالحة والنافعة، التي تنفع المُجْتمع وتنفع الناس؛ لأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أثْنَى عليهم فقال: «ذَهبَ المفطرون اليوم بالأجر». رضي الله عن هؤلاء الصحابة أجمعين.
- وأنّ بَذل العَونِ لِلضُّعَفاءِ والمُحتاجينَ وخِدمَتُهم، مِنْ أفضَلِ أبوابِ البِرِّ وأعظَمِها أجْراً.
- ومِنَ الفوائد: أنّ فِعْلَ الأسباب، لا يُنَافي التّوكّل على الله -عزّ وجل-، فإنّ الصّحابة تَوقّوا الشّمْسَ، فمنْهم مَنْ يَتّقِي الشّمسَ بالكِساء، ومنْهم مَنْ يَتقّي الشّمس بيده، ثمّ لمّا احتاجوا للفِطر أفْطروا.
- ففعلُ الأسْباب؛ لا يُنَافي التّوكّل على الله -عزّ وجل-، بل الشريعة جاءت بالأخْذِ بالأسباب النافعة، كما ورد عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في سُنّته القوليّة والفِعلية.
حثّ الإسلام على العَمل وعدم الاتّكاليّة
- وفيه أيضاً: أنّ الإسلام حثّ على العَمل وعدم الاتّكاليّة، وألا يَتَطلّع المَرْءُ إلى خدمة الآخرين له، أو إلى كفايته مِنَ الناس، دون أنْ يَبْذل جُهداً.
- ومن الفوائد الجميلة -وهي مِنْ مَحاسِن دينِ الإسْلام- أنّ هذا الدينَ دِينُ شمولية وكَمالٍ وأخْلاق، فالصّحابة -رضي الله عنهم- لما بنوا الخيام لإخوانهم، لمْ يَنْسَوا الإبل والدواب من السَّقْي والإطعام، لم ينسوا الركائب والحيوانات التي معهم، وهذا يَدلّ على الاهتمام بحقوق الحَيوان في الإسْلام.
- وفي الحَديثِ: ما كان عليه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم - وأصْحابُه -رضي الله عنهم- مِن شِدَّةِ العَيشِ، وخدمتهم لأنفسهم.
باب: الفِطْرُ للقُوّة للقَاء العَدُو
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
عن قَزَعَةَ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ - رضي الله عنه - وَهُوَ مَكْثُورٌ عَلَيْهِ، فَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ، قُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْأَلُكَ عَمَّا يَسْأَلُكَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ، سَأَلْتُهُ عَنْ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ؛ فَقَال: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ، قَال: فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، والْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ» فَكَانَتْ رُخْصَةً، فَمِنَّا مَنْ صَامَ، ومِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ، فَقَال: «إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ، والْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا» وَكَانَتْ عَزْمَةً فَأَفْطَرْنَا، ثُمَّ قَال: لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَصُومُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ في السَّفَرِ. الحديث رواه مسلم في الباب السابق.
فيُخبِرُ التَّابِعيُّ الثّقة قَزَعةُ، وهو ابنُ يَحْيى البَصْريُّ، أنَّه جاء إلى الصحابي الجليل أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -، «وهو مَكْثورٌ عليه، أي: حَوْلَه أُناسٌ كَثيرونَ، يَتعلَّمونَ ويَستَفيدونَ من حَديثِه، فلمَّا تَفرَّقَ النَّاسُ عنه وانْصَرَفوا، قال لأبِي سَعِيدٍ - رضي الله عنه -: إنِّي لا أَسْألُكَ عمَّا يَسألُكَ النَّاسُ عنه مِن مَسائِلَ، ولعلَّه يقصِدُ أنَّ مَسألَتَه لم يسبِقْ لأبي سَعيدٍ - رضي الله عنه - أنْ تَناوَلَها، أو سأَلَه أحدُهم عنها في مجلِسِه هذا.
سؤاله عن الصيام في السفر
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
فسأَلَه عن الصِّيامِ في السَّفَرِ، حُكمِه وما فيه مِن رُخَصٍ أو عَزائِمَ، فأخبَرَه أبو سَعِيدٍ - رضي الله عنه - مُوضِّحاً له أحْوالَهم في السَّفَرِ معَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّهم ابْتَدؤوا السَّفَرَ منَ المدينةِ إلى فَتْحِ مَكَّةَ، وهم صِيامٌ في شَهرِ رَمَضانَ، فلمَّا نَزَلوا مكانًا للرَّاحةِ، أخبَرَهم رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهم قدِ اقتَرَبوا مِنَ العَدُوِّ والحَرْبِ، وأنَّ الفِطرَ أقْوَى لهم، فلِقاءُ العَدوِّ يَحتاجُ إلى القُوَّةِ، والفِطْرُ يُحقِّقُ ذلك أكثَرَ مِنَ الصِّيامِ، وهذا دَليلٌ على أنَّ حِفظَ القُوَّةِ بالفِطْرِ، أفضَلُ شرعاً لِمَن هو مُنتَظِرٌ لِقاءَ العَدُوِّ.وقولُه: «فكانَتْ رُخْصةً» يَعني: أنَّهم لمْ يَفهَمُوا مِن هذا الكَلامِ الأمرَ إيجاب الفِطرِ، ولا الجَزمَ به، وإنَّما نبَّهَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على أنَّ الفِطرَ أَوْلى لِمَن خافَ الضَّعفَ. فمنهم مَن صامَ، ومنهم مَن أفطَرَ.ثُمَّ أنَّهم نَزَلوا مَكانًا آخَرَ للاستِراحةِ، فقال لهمُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّكُم مُصَبِّحُو عَدُوِّكم»، أي: ستَهجُمونَ عليه في الصَّباحِ، «والفِطرُ أقْوَى لكم، فأَفْطِروا»، قال أبو سَعيدٍ - رضي الله عنه -: «وكَانَتْ عَزْمةً»، أي: أنَّهم فَهِموا من أمرِه بالفِطْرِ هذه المرَّةَ أنَّه جَزْمٌ، ولا بُدَّ منه، فأفْطَروا جَميعُهم، وفي هذا بيانُ أنَّ الصَّحابةَ كانوا يَفْهَمونَ مَقاصِدَ كلامِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم .
ثُمَّ أخبَرَ أبو سَعيدٍ - رضي الله عنه -: أنَّهم كانوا يَصومُونَ معَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بعدَ ذلك في السَّفَرِ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ النَّهيَ عنِ الصَّومِ في سَفَرِهم لفَتحِ مكَّةَ، لم يَنسَخِ جَوازَ الصَّومِ فيه؛ فالأمرُ مُرتبِطٌ بالقُدرةِ، وبالظُّروفِ الطَّارئةِ، وبما يكونُ في السَّفرِ منَ الحاجةِ إلى الإفْطارِ، وتحقيق المصلحة العامّة؛ ما يُجب الفِطر.

- السَّفرُ ومُلاقاةُ العَدوِّ منَ الأُمورِ الَّتي تَحتاجُ إلى القوَّةِ الجَسديَّةِ، لتَحمُّلِ المَشاقِّ والصُّعوباتِ فيها؛ فلهَذا رُخَصِ بالإفْطارِ فيه، في شَهرِ رَمَضانَ، وفي أَثْناءِ الصِّيامِ.
- وفيه: أنّ التَّابِعين -رَحِمهمُ اللهُ- كانوا يَحرِصون على مَعرفةِ كلِّ شيءٍ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من أصْحابِه -رضي الله عنهم-، ويَسألونهم عمَّا أشكَل عليهم، وعن صِفةِ أفعالِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في جميع أحواله


ابوالوليد المسلم 24-02-2024 11:28 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

– باب: التّخْيِيرُ فِي الصَّومِ والفِطْرِ في السَّفَرشرح كتاب الصيام من مختصر مسلم – باب: التّخْيِيرُ فِي الصَّومِ والفِطْرِ في السَّفَر

عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ – رضي الله عنه - أَنَّهُ قَال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ؛ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ»، وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ – رضي الله عنه - قَال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، ومَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ. في الباب حديثان رواهما مسلم في الصيام (2/789-790)، وبوّب عليهما بمثل تبويب المنذري، وحديث أبي الدَّرْدَاءِ – رضي الله عنه -: رواه البخاري أيضاً في الصوم (1945).
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
في الحَديث الأول: أنَّ حَمزةَ بنَ عمْرٍو الأَسلميَّ – رضي الله عنه - سَأَلَ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: هلْ يَصومُ في السَّفرِ أو يُفطِرُ؟ فخيَّره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بيْن الصِّيامِ والإفطارِ، وذلك بقولِه له: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ؛ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ». وفي رواية: «إنْ شِئتَ فصُمْ، وإنْ شِئتَ فأفطِرْ»، فالإفطارُ في السَّفرِ رُخصةٌ مِن اللهِ -عز وجل- لمَن وجَبَ عليه الصَّومُ؛ فمَن أخَذَ بها فحسَنٌ، ومَن لم يَأخُذْ بها فلا شَيءَ عليه، وقد كان حَمزةُ بنُ عمْرٍو الأَسلميُّ – رضي الله عنه - كَثيرَ صِيامِ التَّطوُّعِ، كما جاء في الصَّحيحَينِ أنَّه كان يَسرُدُ الصِّيامَ، أي: يُتابِعُه ويَأتي به مُتواليًا، باستِثناءِ الأيَّامِ المَنهيِّ عن صِيامِها، كالعيدينِ وأيَّامِ التَّشريقِ ونحوها.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
السَّفرُ لا يَخْلو مِن المَشقَّةِ والسَّفرُ لا يَخْلو مِن المَشقَّةِ البَدنيَّةِ والنَّفسيَّةِ؛ ولذا خفَّفَ اللهُ -عز وجل- عن المُسافرِ، ورخَّصَ له في بَعضِ التَّكاليفِ، وقدْ كان رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وبَعضُ الصَّحابةِ يَأخُذونَ أنفُسَهم بالعَزيمةِ دُونَ الرُّخصةِ، ما وَجَدوا القوَّةَ لذلك؛ تَقرُّبَاً إلى اللهِ -عز وجل.
الحديث الثاني في هذا الحديثِ يَحكي أبو الدَّرداءِ – رضي الله عنه - أنَّهم خرَجوا مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سَفرٍ في يَومٍ شَديدِ الحرارةِ، وكان ذلك في رَمضانَ، حتَّى إنَّ الرَّجُلَ منهم كان يَضَعُ يدَه على رأسِه يَتَّقي بها شِدَّةَ حَرارةِ شَمسِ ذلك اليومِ، وليس فيهم أحدٌ صائمٌ سِوى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وعبدِ اللهِ بنِ رَواحةَ – رضي الله عنه -؛ أمّا باقي الصَّحابةِ -رضي الله عنهم- فقد أخَذوا بالرُّخصةِ التي في قَولِ اللهِ -تعالَى-:

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185). ومرّ معنا حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ – رضي الله عنه - قَال: غَزَوْنَا مع رسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِسِتَّ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، فَمِنَّا مَنْ صَامَ، وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى المُفْطِرِ، ولَا المُفْطِرُ علَى الصَّائِمِ.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
فطر النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره وقد ورَدَ أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أفطَرَ في بَعضِ أسفارِه، وعاب على الصَّائمينَ، إذا كان الصيام يفوت مصلحة أعظم، كما في صَحيحِ مُسلمٍ عنْ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ -رضي الله عنهما-: «أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خرَجَ عامَ الفتْحِ إلى مكَّةَ في رَمضانَ، فصام حتَّى بَلَغَ كُراعَ الغَميمِ، فصامَ النَّاسُ، ثمَّ دَعا بقدَحٍ مِن ماءٍ فرَفَعَه، حتَّى نَظَرَ النَّاسُ إليه، ثمَّ شَرِبَ، فقِيل له بعْدَ ذلك: إنَّ بَعضَ النَّاسِ قدْ صامَ، فقال: أولئكَ العُصاةُ، أولئك العُصاةُ»! فوَصَفَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّائمينَ بالعُصاةِ؛ لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَرَ أمرًا فيَجِبُ امتِثالُه، وهو تارةً يَأمُرُ بِمَقالِه، وتارةً يَأمُرُ بفِعالِه، فلمَّا أَفْطَرَ كان آمِرًا بلِسانِ الحالِ قاصِدًا بذلك الرُّخْصةَ؛ لِيَقْوَى بالفِطرِ على الجِهاد، فلمَّا رَغِبَ هؤلاءِ عن فِعلِه كانوا على غَايةِ الغَلَطِ؛ فلذلِك سُمُّوا عُصاةً مِن حيثُ إنَّ فِعلَهم ذلك تَجاوَزُوا فيه الشَّرْعَ.
ما يستفاد مِنَ الحديثين
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
1-الرخْصةُ بالفِطْر في السّفر؛ لأنّ السَّفر مظنّة المَشَقّة، قال -تبارك وتعالى-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185).
2- تخييرُ المَسَافر بين الصّيام والفطر في أثناء السّفر.
3- صحّة صوم رمضان للمُسافر، إذا كان يجد قوةً وقُدْرة على الصّيام، وهذا الحديث يدلُّ على هذا، فإنّ هذا الصّحابيّ كان كثيرَ الصيام، ما يدل على أنّه عليه يسير، وهو شابٌّ – رضي الله عنه - من شباب الصحابة، لأنه أسلم قبل الهِجرة بعشر سنين – رضي الله عنه -، ويجد قوة، ولذلك قال له النّبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنْ شِئْتَ فَصُم، وإنْ شِئْت فأفطر».
4- السَّفَرُ قِطعةٌ مِن العَذابِ، وهو مَظِنَّةُ التَّعَبِ والمَشقَّةِ؛ لذلِك خفَّفَ اللهُ -سُبحانَه وتعالَى- عنِ المُسافِرِ، ويسَّرَ عليهِ في الأحْكامِ الشَّرعيَّةِ، وقد كان بَعضُ الصَّحابةِ يَأخُذونَ أنفُسَهم بالعَزيمةِ دُون الرُّخصَةِ؛ تَقرُّباً إلى اللهِ -عز وجل.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
5- قول النّبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنْ شِئْتَ فصُم، وإنْ شِئْت فأفطر». فقوله: صُم وأفطر: فعل أمْر، والأمْر فيهما للتخيير والإباحة.
6- وفيه: حِرْصُ صحابة النّبي - صلى الله عليه وسلم - على العِلم والفقه في الدّين، ليعملوا به، وسُؤالهم عمَّا يجهلون، منْ أمرِ الدِّين والدنيا.
7- وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنْ شئْتَ فَصُم، وإنْ شِئت فأفطر» إثباتُ المَشيئة للعبد، وبُطْلان مذهب الجبريّة، القائلين بأنّ الإنسان لا مشيئة له.
8- وفيه فضيلة ومنقبة لهذا الصحابي الجليل: حَمْزة بن عمرو الأسْلمي – رضي الله عنه -، فعندَه جَلد وقوة على الصيام، وفيه حبٌ للخير، ومنْ دلالة حبّه للخير؛ أنّه كثيرُ الصيام، ولذلك في رواية مسلم قال: «إني رجلٌ أسْرُدُ الصّوم، أفأصُوم في السّفر؟»، فهذا يدلّ على حِرْص شبابِ الصّحابة على الصيام، وعلى التّقرّب لله تبارك وتعالى، والمسابقة في فعل الخيرات.
9- وفيه: تفاضلُ الناسِ في الأعْمال، والعِبادات والطّاعات، وأنّه يُفتح على شخصٍ ما لا يُفتح لغيره، فبعضُ الناس يُفتح عليه في الصّيام، وبعضُهم في القيام، وبعضُهم في القرآن والعِلم ونَشْره، وآخر في الجِهاد، ولذلك جاءت وَصَايا النبي - صلى الله عليه وسلم - مُتفاوتة بحَسْب تفاوت الناس، وقدراتهم وأحوالهم، ومنه هذا الصّحابي الذي كان كثير الصيام، ويجد – رضي الله عنه - قُدْرة على الصّيام.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png


ابوالوليد المسلم 26-02-2024 12:24 AM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

– باب: قَضَاءُ رَمَضَانَ في شَعْبَان


عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَال: سَمِعْتُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- تَقُولُ: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ؛ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلَّا فِي شَعْبَانَ. الشُّغْلُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. أَوْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رواه مسلم في الصيام (2/802) وبوب عليه بمثل تبويب المنذري. ورواه البخاري في الصوم (1950) باب: متى يُقْضى قَضاء رمضان؟
قولها: «كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ؛ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلَّا فِي شَعْبَانَ» تخبر أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّها يكونُ عليها أيَّامٌ مِن رَمَضانَ لم تَصُمْها، وذلك لعُذْرِ الحيضِ ونحْوِه، فما تَستطيعُ أنْ تَقضيَ ما فاتَها منه؛ إلَّا في شَعبانَ مِن السَّنةِ التاليةِ. وفي رواية: «قالت: إنْ كانتْ إحْدانا لتُفْطِر في زمان رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما تَقْدِر على أنْ تَقْضِيه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتّى يأتِي شعبان». بالألف واللام مرفوع، أي: يمنعني الشُّغُل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتعني بالشغل، وبقولها في الحديث الثاني: «فما تَقْدِر على أنْ تَقْضيه» أنّ كلّ واحدةٍ منهنّ كانت مُهيئةً نفسَها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مُترصّدة لاسْتِمتاعه في جميع أوقاتها إنْ أراد ذلك، ولا تَدْري متى يُريده، ولمْ تَسْتأذنه في الصّوم مخافة أنْ يأذن، وقد يكون له حَاجة فيها فتَفُوتها عليه، وهذا مِنَ الأدب. قاله النووي.
صوم التطوع للمرأة وقال: وقد اتّفقَ العُلماء على أنّ المرأة لا يحلّ لها صَوم التّطوع وزوجُها حاضِر إلا بإذنه؛ لحديث أبي هريرة السابق في صحيح مسلم في كتاب الزكاة، وإنّما كانت تَصومه في شعبان؛ لأنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يَصوم مُعْظمَ شَعبان فلا حاجةَ له فيهنَ حِينئذ في النّهار؛ ولأنّه إذا جاء شعبان؛ يضيقُ قضاء رمضان، فإنّه لا يجوز تأخيره عنه. وهذا مِن الأخْذِ بالرُّخصةِ والتَّوسعةِ؛ لأنَّ ما بيْن رَمَضانَ عامِها، ورَمَضانَ العامِ المُقبِلِ؛ كلّه وقْتٌ للقَضاءِ. وقدْ بيَّن الحافظ ابن حجر في الفتح: أنّ يَحيى بنُ سَعيدٍ الأنصاريُّ - وهو أحدُ رُواةِ الحديثِ- هو القائلُ أنَّ الَّذي كان يَمنَعُها مِن ذلك؛ هو الشُّغلُ بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والمُرادُ مِن الشُّغلِ كما ذكرنا: أنَّها كانت مُهيِّئةً نفْسَها لرَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - واستِمتاعِه بها في جَميعِ الأوقاتِ، شَأنَ جَميعِ أزواجِه - صلى الله عليه وسلم - ورَضِيَ اللهُ عنْهنَّ. لكن قد يَرِد إشكال: وهو أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان له تِسْع نِسْوة، أي أنّ عائشة -رضِي الله عنها- تَسْتطيع أنْ تصوم في غير يومها. والجواب عنه: أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَطوف على نِسائه في الليلة الواحدة، وله يومئذ تِسع نسوة. رواه البخاري ومسلم من حديث أنس - رضي الله عنه -، وأمَّا في شَعبانَ فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يَصومُ أكثَرَ أيَّامهِ، فتَتفرَّغُ إحداهنَّ لصَومِها، أو تَستأذِنُه في الصَّومِ؛ لِضِيقِ الوقتِ عليها، وربّما كان هذا في السّنوات الأُولى مِنَ الهِجْرة، قبل أنْ يزيدَ عددُ أمّهات المُؤمنين.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
قَضاء رمضان ومذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وجماهير السلف والخلف: أنّ قَضاءَ رمضان في حق مَنْ أفْطَر بعُذْر كحيضٍ وسَفَر؛ يَجبُ على التّراخي، ولا يُشْترط المُبَادرة به في أوّل الإمْكان، لكنْ قالوا: لا يجوزُ تأخْيره عن شَعبان الآتي؛ لأنّه يُؤخّره حينئذ إلى زَمانٍ لا يَقْبله، وهو رَمضان الآتي، فصارَ كمن أخّرَه إلى المَوت. وقال داود: تجبُ المبادرة به في أولِ يومٍ بعدَ العِيد منْ شوال. وحديث عائشة هذا يَردُّ عليه.
المُبادرة للقضاء للاحْتِياط وقال الجُمهور: ويُسْتحب المُبادرة به للاحْتِياط فيه، فإنْ أخّرَه؛ فالصّحيح عند المُحَقّقين مِنَ الفُقَهاء وأهل الأصول: أنّه يجبُ العَزْم على فعله، وكذلك القولُ في جَميعِ الواجبِ المُوسّع، إنّما يجوزُ تأخيره بشَرط العَزْم على فعله، ولو أخّره بلا عَزم عَصَى. وقيل: لا يُشْترط العَزْم. وأجْمعوا أنه لو ماتَ قبل خُروج شعبان؛ لزمه الفِدْية في تَركته، عن كلّ يومٍ مُدّ مِنْ طعام، هذا إذا كان تمكّنَ مِنَ القَضَاء فلَمْ يَقْض، فأمّا مَنْ أفْطَر في رَمضان بعُذرٍ، ثمّ اتصلَ عَجْزه فلم يتمكّن مِنَ الصّوم حتّى مات، فلا صَومَ عليه، ولا يُطْعم عنه، ولا يُصام عنه. وقال النووي: ومَنْ أرادَ قضاءَ صَوم رمضان، نُدِب مُرتّباً مُتَوالياً، فلو قَضَاه غيرَ مُرتّب أو مُفرّقاً، جازَ عندنا وعند الجُمهور؛ لأنّ اسْم الصّوم يقعُ على الجَميع، وقال جماعة من الصّحابة والتابعين وأهل الظاهر: يجبُ تتابعه كما يجبُ الأداء.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
حال من أخر القضاء وقال الحافظ: وَيُؤْخَذ مِنْ حِرْصهَا عَلَى ذَلِكَ فِي شَعْبَان، أَنَّهُ لا يَجُوز تَأْخِير الْقَضَاء حَتَّى يَدْخُلَ رَمَضَان آخَرُ اهـ. فإنْ أخّر القضاء حتّى دَخلَ رمضان التالي، فلا يَخلو مِنْ حالين:
  • الأولى: أنْ يكونَ التَّأخيرُ بعُذر، كما لو كانَ مَريضاً واستمرَّ به المَرَضُ حتّى دَخَلَ رمضانُ التالي، فهذا لا إثمَ عليه في التّأخير لأنّه مَعذور، وليس عليه إلا القَضَاء فقط، فيقضي عددَ الأيام التي أفطرها.
  • الحال الثانية: أنْ يكونَ تَأخيرُ القَضَاء دُون عُذر، كما لو تَمكّن مِنَ القَضَاء، ولكنّه لمْ يَقضِ حتّى دَخَل رمَضان التالي.
فهذا آثمٌ بتأخيرِ القَضَاء دُون عُذْر، واتفقّ الأئمّةٌ على أنّ عليه القَضاء، ولكن اخْتَلفوا: هل يجبُ عليه مع القَضَاء أنْ يُطْعم عن كلّ يومٍ مسكيناً أو لا؟ فذهب الأئمةُ مالك والشافعي وأحمد: أنّ عليه الإطعام مع القضاء. واستدلّوا بأنّ ذلك قد صَحّ عن ثلاثةٍ مِنَ الصّحابة -رضي الله عنهم-: أبي هريرة وابن عباس وابن عُمر، أنّه مَنْ فَرّط حتى يأتي رمضان آخر، فإنّه يَقْضي ويُطْعم. وذهبَ أبو حنيفة -رحمه الله- إلى أنّه لا يجبُ مع القَضَاء إطْعام، واستدلّ بأنّ الله -تعالى- لمْ يَأمر مَنْ أفْطر مِنَ رمضان إلا بالقَضَاء فقط، ولمْ يذكر الإطْعام، قال الله -تعالى-: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 185).
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وهو اختيار البُخاري. انظر: «المجموع» (6/366)، «المغني» (4/400)، الفتح (4/190). كذا الحاملُ والمُرْضع: قال بعضُ أهلِ العلم: الحامل والمُرضع يُفْطِران ويَقضيان، ويُطعمان، وبه يقول سُفيان ومالك والشافعي وأحمد، وقال بعضُهم: يُفطِران ويُطعمان، ولا قضاءَ عليهما؛ فإنْ شاءَتا قضَتَا، ولا إطعامَ عليهما، وبه يقول إسحاق، وعن أنس بن مالك الكعبي: أنّ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنّ الله وَضَعَ عن المُسَافر الصّومَ وشَطْرَ الصّلاة، وعن الحُبْلَى والمُرضِع الصّومَ». رواه الخمسة، قال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم. تنبيه - لا يجوزُ الفِطْر في القَضَاء بغيرِ عُذر: لأنّه صيامٌ واجب، قال شيخُ الإسْلام ابن تيمية: «وإذا شَرَعت المَرأةُ في قَضَاء رَمَضان، وجَبَ عليها إتْمامُه، ولمْ يكنْ لزوجها تَفطيرُها، وإنْ أمَرَها أنْ تُؤخِّر القَضَاء قبلَ الشُّروع فيه، كان حَسَناً لحديث عائشة». انتهى «الاختيارات» (1/ 460).

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
فوائد الحديث
  • أنّ القَضَاء مُوسّع، ويصير في شعبان مُضيقًا، بِحَسب عدد الأيام.
  • والصِّيامُ رُكْنٌ مِنْ أرْكانِ الإسلامِ، وقد بيَّنَ القُرآنُ الكريمُ مُجمَلَ أحكامِ الصِّيامِ، وفصَّلَتْها السُّنةُ النَّبويَّةُ، ومنه: بيان وضْع الصيام عن الحائضِ أيام حَيْضها؛ فالمَرأةَ إذا حاضَتْ في رَمَضانَ، فإنَّها لا تَصومُ فتْرةَ حَيضِها حتَّى تَطهُرَ، وتَقْضي ما فاتَها في أيَّامِ أُخَرَ، كما في هذا الحديثِ.
  • وجُوبُ القَضَاء على الحائض بعد الطّهارة منَ الحَيض، وكذا أصْحابِ الأعذارِ في قَضاءِ ما فاتَ مِن صِيامِ رَمَضانَ.
  • جوازُ تأخير قَضاء رَمضان مُطلقًا، سواءً كان لعُذر أم لغَير عُذر، وهذا منْ تَيسيرِ الإسلامِ وتَوسعتِه.
  • عدمُ وجُوب الفِدية لتأخيره، ما دام القضاءُ قبلَ رمَضان التالي.
  • الإشارة إلى عِظَم حَقّ الزّوج في العِشْرة والاسْتمتاع والخِدْمة، وأنّه يقدّم على سائر الحُقُوق، ما لمْ يكنْ فَرْضاً مَحْصوراً في الوقت.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png


ابوالوليد المسلم 26-02-2024 12:29 AM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

– باب: قَضَاءُ الصّيام عَن المَيّت


عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»، وعن بُرَيْدَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ، وإِنَّهَا مَاتَتْ، قَالَ فَقَال: «وَجَبَ أَجْرُكِ، وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ». قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَ عَلَيْها صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْها؟ قَال: «صُومِي عَنْهَا». قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ، أَفَأَحُجُّ عَنْها؟ قَال: «حُجِّي عَنْها».
في الباب حديثان: أما الأول: فحديث عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، وقد رواه مسلم في الصيام (2/803) باب: قضاء الصّيام عن الميت، ورواه البخاري في الصوم (1952) باب: مَنْ مات وعليه صومٌ، وفي هذا الحَديثِ يُبيِّنُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ مَن مات وكان عليه صَومٌ، سواءٌ كان صوم نَذْرٍ، أم كفَّارةٍ، أو أيَّامٍ مِن رَمَضانَ، وقد تمكَّنَ من القضاءِ، ولم يَقْضِ حتى مات؛ فإنَّ لِوَليِّه وهو كلُّ قَريبٍ له، مِنْ عَصَبَتُه مِن الرِّجالِ مِن الآباءِ والأبْناءِ، أنْ يَصومَ عنه، ويَسقُطُ عن الميِّتِ ذلك الفرضُ الَّذي عليه، ويكونُ قَضاؤُه عنه بمَنزلةِ قَضائِه هو عن نفْسِه.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
مَنْ ماتَ وعليه صَوم
قال العلماء: مَنْ ماتَ وعليه صَوم، فهو على إحدى حالين:
  • الحال الأولى
- الأولى: إنْ مات قبْلَ أنْ يَتَمكَّنَ مِن القَضاءِ لعُذرٍ، كمَن استمَرَّ به المرَضُ حتَّى ماتَ، فلا شَيءَ عليه، ولا يَقضي أولياؤُه عنه شَيئًا؛ وهذا لِعُمومِ قولِ اللهِ -تعالَى-: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 185)، فجعَلَ اللهُ -تعالَى- الواجِبَ عليه عدَّةً مِن أيَّامٍ أُخَرَ، فإذا ماتَ المريضُ في مرَضِه؛ فإنه لا يَجِبُ أنْ يَصومَ عنه وليه ولا غيره، ولا يَجِبُ أنْ يُطعَمَ عنه؛ لأنَّ الإطعامَ بدَلٌ عن الصِّيامِ، فإذا لم يَجِبِ الصِّيامُ لم يَجِبْ بَدلُه.
  • الحال الثانية
- الثانية: مَن تَرَك الصِّيامَ تَفريطًا وإهمالًا، ولم يَكُنْ له عُذرٌ ثمَّ مات، ففي هذه الحالة اختلف أهل العلم على قولين: القول الأول: أنه يُصام عنه، وهو قول لأهل الحديث، مُستدلين على ذلك بحديث عائشة -رضي الله عنها- هذا، وأمر الولي بالصوم محمولٌ على النَّدْب، لقوله -تعالى-: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}. والقول الثاني: أنه يُطعم عنه، عن كلّ يوم مدّ طعامٍ من غالبِ قوت البلد الذي هو فيه، فهذا لا يَلزَمُ أولياءَه القَضاءُ ولا يَصِحُّ منهم؛ لِفَواتِ وقْتِه.



https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
أقوال العلماء
وهذه أقوال العلماء في هذا الشأن:
  • قول ابن قدامة -رحمه الله
- قال ابن قُدامة: وجملة ذلك أن مَنْ مَاتَ وعليه صِيامٌ من رمضان؛ لم يَخلُ من حالين: - أحدهما: أنْ يموتَ قبلَ إمْكان الصيام، إمّا لضِيقِ الوقت، أو لعُذْرٍ مِنْ مَرض، أو سفر، أو عَجز عن الصوم: فهذا لا شيء عليه في قول أكثر أهل العلم، وحُكي عن طاووس وقتادة أنّهما قالا: يجبُ الإطعام عنه، ثمّ ذكر عِلّة ذلك وأبطلها. ثم قال: الحال الثاني: أنْ يموتَ بعد إمكانِ القَضَاء، فالواجب أنْ يُطعَمَ عنه لكل يوم مسكين، وهذا قولُ أكْثرِ أهل العلم، رُوي ذلك عن عائشة وابن عباس، ثم قال: وقال أبو ثور: يُصَام عنه، وهو قول الشافعي، ثمّ استدلّ له بحديث عائشة الذي ذكرناه أولاً. (المغني) (/241).
  • قول النووي -رحمه الله
وقال النووي: «فرعٌ في مذاهب العلماء فيمن ماتَ وعليه صومٌ فاته بمَرَض، أو سفر، أو غيرهما مِنَ الأعذار، ولمْ يتمكّن منْ قضائه حتى مات: ذكرنا أن مذهبنا لا شيء عليه، ولا يصام عنه، ولا يطعم عنه، بلا خِلاف عندنا. وبه قال أبو حنيفة ومالك والجمهور، قال العبدري: وهو قول العلماء كافةً إلا طاووساً وقتادة، فقالا: يجبُ أنْ يُطعِمَ عنه لكل يوم مسكيناً، ثم ذكر علةَ ذلك وأبطلها، قال: واحتج البيهقي وغيرُه من أصحابنا لمذهبنا بحديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما اسْتطعتم». رواه البخاري ومسلم. «شرح المهذب» (6/ 343). وقال في (الفروع): «وإنْ أخّر القضاء حتى مات: فإنْ كان لعُذر فلا شَيء عليه، نصّ عليه، وفاقاً للأئمّة الثلاثة؛ لعدم الدليل». (3/ 39)، وقال في (عون المعبود) (7/26): «واتفق أهل العلم على أنه إذا أفطر في المرض والسفر، ثمّ لم يُفرط في القضاء حتى مات، فإنّه لا شيء عليه، ولا يجب الإطعام عنه، غير قتادة فإنه قال: يطعم عنه. وحُكي ذلك أيضا عن طاووس». انتهى.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
  • فتاوى اللجنة الدائمة
وجاء في «فتاوى اللجنة الدائمة» السؤال الآتي: كانت والدتي مريضة في شهر رمضان عام 97 هـ ولمْ تستطع صيام ثمانية أيام منه، وتوفيت بعد شهر رمضان بثلاثة أشهر، فهل أصُومُ عنها ثمانية الأيام، وهل يمكن تأجيلها إلى ما بعد رمضان 98هـ أو أتصدق عنها؟ فكان الجواب: «إذا كانت والدتك شفيت بعد شهر رمضان الذي أفطرت فيه ثمانية أيام، ومرّ بها قبل وفاتها وقتٌ تستطيع القضاء فيه، وماتت ولمْ تَقْض، استُحبّ لك أو لأحد أقاربها صيام ثمانية الأيام عنها؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ مَاتَ وعليه صِيام، صَامَ عنه وليّه». متفق عليه. ويجوز تأجيل صيامها، والأَوْلى المبادرة به مع القُدرة. أمّا إنْ كان المَرَضُ استمرّ معها، وماتت ولمْ تَقْدر على القَضَاء، فلا يُقضَى عنها لعدم تمكّنِها مِنَ القَضَاء، لعموم قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}». انتهى .(10/372).
فوائد الحديث
وفي الحديثِ فوائد منها:

1- الحِرصُ على الوفاءِ بحُقوقِ اللهِ -تعالَى.
2- وفيه: الحثُّ على صِلةِ الأرْحامِ، فإن كلمة «وليّه» تشمل كلّ قريب، ولو كان غيرَ وارثٍ.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
الحديث الثاني
أما الحديث الثاني فيَرْوي بُرَيدةُ بنُ الحُصَيبِ الأسلميُّ - رضي الله عنه -: أنَّه كان ذاتَ مرَّةٍ جالِساً عندَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فجاءتْه امرأةٌ، فأخْبَرَتْه أنَّها تَصدَّقتُ على أُمِّها في حَياتِها بِجَارِيَةٍ، وهي الأَمةُ المملوكةُ، فمَلَّكَتْها إيَّاها بالصَّدَقَةِ، ثمَّ ماتتْ أُمُّها وتَرَكَتْ تلك الجارِيَةَ مِن جُملةِ المالِ الَّذي تَملِكُه، وكانت الوارثةُ لها بِنتَها؛ فهلْ يَحِقُّ للبنتِ أنْ تَأخُذَ الجاريةَ وتَعُودَ إلى ملْكِها بالمِيراثِ أمْ لا؟ فقال لها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَجَبَ أجرُكِ»، أي: ثَبَت أجرُكِ عندَ الله بالصِّلَةِ والصَّدَقَةِ على أُمِّكِ، ورَدَّ الميراث الجاريةَ وأَرْجَعَها إليكِ بمِيراثُكِ مِن أُمِّكِ، وهو سَبَبٌ لا دَخْلَ لكِ فيه؛ فلا يكونُ سَبباً لِنُقصانِ الأجْرِ في الصَّدَقةِ، وهذا ليْس مِن بابِ الرُّجوعِ في الصَّدَقةِ والهِبةِ؛ لأنَّه ليْس أمْراً اختِيارِيّاً. ثم قالتِ المرأةُ السَّائلةُ: إنَّه كان على أُمِّها صِيامُ شَهرٍ -وفي رِوايةٍ: «شَهرينِ»- فهلْ تَصومُ عنها؟ -ولم يُبَيَّنْ أنَّه صَوْمُ رَمَضَانَ، أو نَذْرٍ، أو كَفَّارَةٍ- فقال لها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «صُومِي عنها»، أي، اقْضِي عنها الأيَّامَ الَّتي ترَكَتْها أُمُّكِ؛ لأنَّه دَيْنٌ في رَقَبَتِها، ودَيْنُ اللهِ أحَقُّ أنْ يُقْضَى.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
الصَّوم الَّذي على الميِّتِ كالدَّينِ
وقدْ شبَّهَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّومَ الَّذي على الميِّتِ بالدَّينِ، وهو واجبُ القَضاءِ؛ لأنَّه حقٌّ للآدميِّينَ، والصِّيامُ الواجبُ -سواءٌ كان من رَمضانَ، أو بنَذرٍ، أو كفَّارةٍ- حَقٌّ للهِ -تعالَى-، فكان قَضاءُ حقِّه -تعالَى- أَوثَقَ وأَوْلى مِن قَضاءِ حَقِّ الآدميِّينَ، واللهُ أحقُّ بالوفاءِ، كما ورَد في بَعضِ الرِّواياتِ عندَ البُخاريِّ. وكما في حديث عائشةَ -رضي الله عنها- السابق. وللوليِّ إذا لم يَقضِ عنه الصَّومَ أنْ يُطعِمَ عنه لكُلِّ يَومٍ مِسكينًا، ويَسقُطُ بهذا عن الميِّتِ ذلِكَ الفَرضُ الَّذي عليه، ويكونُ قَضاؤُهُ عنه بمَنزلةِ قَضائِهِ هو عن نفْسِهِ، وهذا لمَن قدَرَ على الوفاءِ أو القضاءِ ولم يَفعَلْ، وأمَّا إنْ ماتَ قبْلَ أنْ يتَمكَّنَ مِن القَضاءِ -كمَنِ استمَرَّ به المَرضُ حتَّى ماتَ- فلا شَيءَ عليه، ولا يَقضي أولياؤُه عنه شيئًا، ولا يَجِبُ الإطعامُ عنه، ثمَّ أخبَرَتْه المرأةُ أنَّ أُمَّها ماتتْ ولَمْ تَحُجَّ قَطُّ، وظاهرُه أنَّها كانت قادرةً على الحجِّ، فوجَبَ عليها؛ لأنَّ الحجَّ ساقطٌ عمَّن ليس عنده استطاعةٌ، ولكنَّها لم تَحُجَّ؛ فهلْ يَصِحُّ أنْ تَحُجَّ عَنْها؟ فقالَ لها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «حُجِّي عَنْهَا». ولعلَّ إذن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لها بالحَجِّ نِيابةً عن أمِّها، مَفْهومٌ منه أنَّ المرأةَ قدْ حجَّتْ عن نَفْسِها أوَّلًا، ثُمَّ أرادَت أنْ تَحُجَّ عن أُمِّها؛ لحَديثِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عنهما: «أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ رجُلًا يقولُ: لبَّيْكَ عن شُبْرُمةَ. قال: مَنْ شُبْرُمةُ؟ قال: أخٌ لي، أو قَريبٌ لي. قال: حجَجْتَ عن نفسِك؟ قال: لا. قال: حُجَّ عن نَفسِكَ، ثمَّ حُجَّ عن شُبْرُمةَ». رواه أبو داودَ. وفي صَحيحِ ابنِ خُزَيمةَ: «هذه عنْكَ، ثُمَّ حُجَّ عن شُبْرُمةَ». فإذا وجَب الحجُّ على شَخصٍ ومات قبْلَ أدائِه، ثمَّ أدَّى شَخصٌ آخَرُ هذا الحجَّ عنه؛ سقَطَ عنه، وهذا مِن كَرمِ اللهِ وفضْلِه أنَّه إذا حجَّ الوليُّ عن الميِّتِ، أنْ يَعفُوَ اللهُ عن الميِّتِ بذلك، ويُثيبَه عليه، أو لا يُطالبَه بتَفريطِه. 1-أنَّ مَن تَصدَّق بشَيءٍ ثُمَّ وَرِثَه، فله أَخْذُه والتَّصرُّفُ فيه، مِن غيرِ أنْ يَنقُصَ أجْرُه بذلك.
2- وفيه: مشروعية الصِّيامُ عَنِ الميِّتِ.
3- وفيه: النِّيابةُ في الحجِّ عن الميِّتِ.
4- وفيه: بِرُّ الوالدَينِ بقَضاءِ نَذْرِهما ودَينِهما.
5- وأن الصَّحابةُ -رِضوانُ اللهِ عليهم- كانوا يَسْتَفتونَ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في كثيرٍ مِن عِباداتِهم ومُعاملاتِهم، فيُفْتيهِم، ويُظهِرُ لهم أوجُهَ الصَّوابِ.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png


ابوالوليد المسلم 28-02-2024 01:50 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

– باب: في قوله -تعالى-: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} (البقرة:184)


عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (البقرة: 184). كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ ويَفْتَدِيَ، حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا؛ فَنَسَخَتْهَا. الحديث (رواه مسلم في الصيام 2/802) باب: بيان نسخ قوله -تعالى-: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}، بقوله: {فمَن شهدَ منكم الشهرَ فليصمه}. ورواه البخاري في التفسير (4507) باب: {فمن شَهدَ منكم الشهر فليصمه}.
يَقولُ سَلمةُ بنُ الأكْوَعِ - رضي الله عنه -: لمَّا نَزلَت آيةُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (البقرة: 184)، ومعناها: أنّ مَن يُطيقونَ الصَّومَ، أي: الذين يَسْتطيعون الصّوم، ولَيسَ لَهُم عُذرٌ، وهُمُ الأصحَّاءُ، ومَن لَيسَ بِهِم مَرَضٌ أو عِلَّةٌ، وأرادوا الفِطر؛ فَفديَةُ ذَلكَ: إطعامُ مِسكينٍ عَن كُلِّ يَومٍ، فَكانَ مَن أرادَ أنْ يُفطِرَ؛ يَفتَدي بأنْ يُطعِمَ مِسكينًا عن كُلِّ يومٍ، وكانَ هذا الأمرُ في بَدءِ الإسلامِ؛ حيثُ جعلَ اللهُ -تعالى- الصّيام على التّخيير، مَنْ شَاءَ صَام، ومَنْ شَاء أفْطَرَ وفَدَى، وهو تيسيرٌ مِنَ الله -تعالى- على عِبَاده، وتَدَرّج في فَرْض الصّوم، حتَّى نَزلَتِ الآيَةُ الَّتي بعْدَها، وهيَ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185)، فنَسخَتِ- في قول جمهور أهل العلم- تَخييرَ القادرِ على الصّيام في الصِّيامِ أو عَدَمِه، وصارَ الصِّيامُ فرْضاً على الكلِّ، إلَّا مَنْ لم يَستطِعْ، ويدل على هذا المعنى ما رواه سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - هنا.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
الصحيحُ المُقِيم الذي يُطيق الصّيام قال الحافظ ابن كثير:... وأمّا الصحيحُ المُقِيم الذي يُطيق الصّيام، فقد كان مُخيراً بين الصّيام وبين الإطعام، إنْ شاء صام، وإنْ شَاء أفْطر، وأطعمَ عن كلّ يوم مسكيناً، فإنْ أطْعمَ أكثرَ مِنْ مسكين عن كلِّ يومٍ، فهو خير، وإنْ صَامَ فهو أفضل من الإطعام، قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وطاووس، ومقاتل بن حيان، وغيرهم من السلف؛ ولهذا قال -تعالى-: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 184).انتهى. وقال السّعدي في تفسير هذه الآية: هذا في أولِ الأمر وفي ابتداء فَرْض الصيام، لمّا كانوا غير مُعتادين للصّيام، وكان ابتداءُ فَرْضه حَتماً فيه مَشقّة عليهم، درَّجَهم الربُّ الحَكيم بأسْهل ما يكون، وخُيّر المُطِيق للصّوم بين أنْ يَصُوم وهو الأفضل والأكمل، أو يُطْعم ويُجْزئه، ثمّ لمّا تَمَرّنوا على الصّيام، وكان ضَرورياً على المُطيقين فَرْضه عليهم حتماً.
وقيل إنْ قوله: وعلى الذين يُطِيقونه.. أي: يَتكلّفون الصّيام، ويَشقّ عليهم مشقةً لا تُحْتَمل، كالكبير والمريض والمَيئوس مِنْ بُرْئه، فديةٌ طَعامُ مِسْكين عن كلّ يومٍ يفطره. انتهى.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
حال الصَّحابة -رَضي اللهُ عنهُم- في أوَّلِ أمرِ الصِّيامِ وفي هذا الحَديثِ: بَيانُ أنَّ الصَّحابةَ -رَضي اللهُ عنهُم- في أوَّلِ أمرِ الصِّيامِ لَم يَكونوا قدْ تَدرَّبوا على الصِّيامِ، فَلمَّا أُمِروا به رَحمةً مِنَ اللهِ -سُبحانَه- بِهم، كانَ الخيارُ لهم: إمَّا أنْ يَصوموا، وإمَّا أنْ يُفطِروا ويُطعِموا مَكانَ كُلِّ يَومٍ مِسكينًا.
أَحْوَالُ الصِّيَامِ وروى الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رضي الله عنه - قالَ: أُحِيلَتِ الصَّلَاةُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، وأُحِيلَ الصِّيَامُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ؛... قال: وأَمَّا أَحْوَالُ الصِّيَامِ: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ المَدِينَةَ، فَجَعَلَ يصومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وصَامَ عَاشُورَاءَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْه الصِّيَامَ، وأَنْزَلَ اللَّهُ -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (البقرة: 183). إِلَى قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَطْعَمَ مِسْكِينًا، فَأَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْهُ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْزَلَ الْآيَةَ الْأُخْرَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، فَأَثْبَتَ اللهُ صيامَه عَلَى الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ، ورخَّصَ فِيهِ لِلمَرِيضِ والمُسَافِرِ، وثَبَتَ الإطعامُ لِلكَبِيرِ الذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ، فَهَذَانَ حَالَانِ.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
كَانُوا يَأْكُلُونَ ويَشْرَبُونَ قَال: وكَانُوا يَأْكُلُونَ ويَشْرَبُونَ ويَأْتُونَ النِّسَاءَ ما لَمْ يَنَامُوا، فَإِذَا نَامُوا امْتَنَعُوا، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: صِرْمَةُ، كَانَ يَعْمَلُ صَائِماً حَتَّى أَمْسَى، فَجَاءَ إِلَى أَهْلِهِ فَصَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ نَامَ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ، حَتَّى أَصْبَحَ فَأَصْبَحَ صَائِماً، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وقَدْ جَهِدَ جَهْداً شَدِيداً، فَقَالَ: ما لِي أَرَاكَ قَدْ جَهِدْت جَهْداً شَدِيدا؟ قَال: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي عَمِلْتُ أَمْسِ، فجئتُ حِينَ جئتُ فألقيتُ نَفْسِي، فَنِمْتُ فَأَصْبَحْتُ حِينَ أَصْبَحْتُ صَائِماً. قَال: وكانَ عُمَرُ قَدْ أَصَابَ مِنَ النِّسَاءِ بَعْدَ ما نَامَ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فأَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}، إِلَى قولِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}. وأَخرجَه أَبو دَاوُدَ، والحاكمُ.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
صيام عاشوراء وأَخْرَجَ البُخاريُّ ومسلمٌ: مِنْ حَدِيثِ عائِشَةَ أَنَّها قَالَتْ: كَانَ عَاشُورَاءُ يُصَامُ، فَلَمَّا نَزَلَ فَرْضُ رَمَضَانَ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ، وممّن اختار أنّ الآية مَنْسوخة: الإمام الطّبري، وأبو حيان، وابن كثير وغيرهم، وذهبَ جَمعٌ مِنَ العُلماء إلى أنّ الآية مُحْكمةٌ وغيرُ مَنْسُوخة. قال الطّبري: «وقالَ آخرون- ممن قرأ ذلك {وَعلى الذين يُطيقونه}- لم يُنسخْ ذلك ولا شيء منه، وهو حُكم مُثبتٌ من لَدُنْ نزلت هذه الآية إلى قيام السّاعة، وقالوا: إنّما تأويل ذلك: وعلى الذين يطيقونه - في حالِ شَبابهم وَحَداثتهم، وفي حال صحّتهم وقوتهم- إذا مَرضُوا وكبروا، فَعَجَزوا مِنَ الكِبَر عن الصّوم، فديةٌ طَعام مِسكين، لا أنَّ القومَ كان رُخِّص لهُم في الإفْطار، وهُم على الصّوم قَادرُون إذا افْتدوا.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وروى السدي: {وَعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين} قال: أما الذين يطيقونه، فالرجلُ كان يطيقه وقد صام قَبل ذلك، ثم يعرض له الوَجع أو العطش أو المرض الطويل، أو المرأة المرضعُ لا تستطيع أن تصوم، فإن أولئك عليهم مكانَ كل يوم إطعام مسكين، فإن أطعم مسكينًا فهو خيرٌ له، ومن تكلف الصيام فصامه فهو خيرٌ له. وروى عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: إذا خَافت الحاملُ على نفسِها، والمُرضع على ولدها في رمضان، قال: يُفْطران ويُطْعمان مكانَ كل يومٍ مسكينًا، ولا يقضيان صومًا. انتهى؛ وقالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: عَنْ عَطَاءٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: {وعلى الذين يُطَوَّقُونه فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً، هُوَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا، فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. والذي يَظْهر والله أعلم: أنّ الآيةَ مُحْكمة وليستْ مَنْسُوخة، وأنّ معنى {يُطِيقُونه}: لا يُطيقونه؛ بتقدير «لا» النّافية، وعليه فتَكونُ الآية مُحْكمة، ويكونُ وُجُوب الإطعام على العَاجز عن الصّوم، كالهَرِم والزّمِن.
قَواعدِ تَعْضدُ هذا التَّرْجيح ومِنَ القَواعدِ التي تَعْضدُ هذا التَّرْجيح، قاعدة: «القولُ الذي يَدلُّ عليه السّياق، أوْلى مِنَ غيره»، وسياق الآية في أوّله؛ يُخاطبُ المُكلّفينَ بالصّيام، فالله -تعالى- يقول في الآية قبلها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، أي: فُرِضَ، وجاءت الآية بعد ذلك في أحْكام المَريض والمُسَافر، وأنّه إذا تَعذّر عليهما الصّوم، فلهُما القَضاء في أيامٍ أخَر، فمن المُفترضِ أنْ تكونَ الآيةُ بعدها فيمنْ لا يَقْدرُون على الصّيام، كالهَرِم، أو المُرْضع، أو الحامل. فمِمَّا يَلْتَحِقُ بِهَذَا المَعنَى: الحَامِلُ والمُرْضِعُ، إِذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِما أَوْ وَلَدَيْهِما، ففِيهِما خِلَافٌ كثِيرٌ بَيْنَ العُلَمَاءِ، فَمِنهُم مَنْ قالَ: يُفْطِرَانِ ويَفْدِيانِ ويَقْضِيانِ. وقِيلَ: يَفْدِيَانِ فَقَطْ، ولَا قَضَاءَ. وقِيلَ: يَجِبُ عليهما القَضَاءُ بِلَا فِدْيَةٍ، وهو الصّحيح.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
فوائد الحديث
1- ثُبوتُ النّسخ في القُرآن، وقد أجْمَعت الأُمّة على ذلك، ودلّ عليه قوله -تعالى-: {ما نَنْسخْ مِنْ آيةٍ أوْ نُنْسِها نَأتِ بِخَيرٍ مِنْها أو مِثْلها} (البقرة: 106).
2- بيانُ نَسْخ التّخيير بينَ الصّوم والفِدْية لمَن أطاقَ الصّوم.
3- التّدرّج في تَشْريع الصّوم، تسهيلًا على المُكلّفين، فكانَ أول ما شُرع: مَنْ أراد أنْ يَصومَ صَام، ومَنْ أرادَ أنْ يُطْعم أطْعمَ وأفْطَر، حتّى إذا ألِفُوه، وسَهُلَ عليهم، نَزَلَ قوله -تعالى-: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكم الشَّهْرَ فَليَصُمه}، فأوجبَ اللهُ عليهم صِيامه، ونَسَخ الفِدْية.
4-الدّلالة على أنّ تَرتيبَ الآياتِ في القرآنِ توقيفي.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png


ابوالوليد المسلم 28-02-2024 01:55 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

– باب: الصَّومُ والفِطْر في الشُّهُور


  • إذا اجتمع جِهادٌ وصيام فهذا من أفضل الأعمال وهذا يدُلُّ على بُعدِ النَّارِ عنِ المُجاهِدِ الصَّائِمِ أوِ الصائِمِ المُحتَسِبِ للهِ عَزَّ وجَلَّ
  • أعْمالُ التطوُّعِ ليستْ مَنوطةً بأوقاتٍ مَعلومةٍ وإنَّما هي على قدْرِ الإرادةِ لها والنَّشاطِ فيها
  • المُداوَمةُ على العَملِ الصَّالحِ تُبلِّغُ العَبدَ إلى رَحمةِ اللهِ والنَّجاةِ مِن النارِ وقد كان النبي [ هو القدوة في ذلك
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَال: قُلْتُ لِعَائِشَةَ -رضي الله عنها-: «أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ شَهْرًا كُلَّهُ؟ قَالَتْ: مَا عَلِمْتُهُ صَامَ شَهْرًا كُلَّهُ إِلَّا رَمَضَانَ، ولَا أَفْطَرَهُ كُلَّهُ حَتَّى يَصُومَ مِنْهُ، حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ - صلى الله عليه وسلم -». الحديث رواه مسلم في الصيام (2/809) باب: صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير رمضان، واسْتحباب ألا يُخلي شهراً عن صوم.
تُخبِرُ عائشةُ -رضي الله عنها- أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان لا يَصومُ شَهراً كاملًا إلَّا شَهرَ رَمضانَ؛ وذلك لأنَّه شَهرُ الفَريضةِ، والتَّنبيهُ عليه مِن بابِ النَّفْيِ لغَيرِه، وهو أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان لا يَصومُ شَهْرًا كاملًا تَطوُّعًا، بلْ يَصومُ مِن كلِّ شَهرٍ مِن شُهورِ السَّنةِ أيامًا منه، ولمْ يَستكمِلْ صِيامَ شَهرٍ غَيرِ رمضانَ؛ لِئلَّا يُظَنَّ وُجوبُه، وكان أكثرُ الشُّهورِ الَّتي يَصومُ فيها شَعبانَ، فكان يَصومُ غالِبَه؛ لئلَّا يَلتبِسُ ذلك بالفَرْضِ، ولكيلا يَعُدَّه مَن لا يَعلَمُ منه.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
ولا صَامَ شَهْراً كاملاً غيرَ رمضان
وفي رواية له أيضا: عنها قالت: «ما رَأيتُه صَامَ شَهْرا كاملاً منذْ قَدِم المَدينة، إلا أنْ يكونَ رَمضان». وفي رواية له أيضاً: أنها قالت: «لا أعْلمُ نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - قَرَأ القرآن كلَّه في لَيلةٍ، ولا صَامَ شَهْراً كاملاً غيرَ رمضان»، وفي رواية له أيضا: قالت: «ما رَأيتُه قامَ لَيلةً حتّى الصّباح، ولا صَامَ شَهْراً مُتَتابعاً إلا رَمَضَان»، وفي الصحيحين: عن ابن عباس قال: ما صَامَ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - شَهْراً كاملاً غير رمضان. وكان ابن عباس يَكرهُ أنْ يَصومَ شَهْراً كامِلاً غير رمضان. وروى عبد الرزاق: عَنْ عَطَاءٍ قال: كانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَنْهَى عَنْ صِيَامِ الشَّهْرِ كامِلًا، وَيَقُولُ: «لِيَصُمْهُ إِلَّا أَيَّاماً»، وكانَ يَنْهَى عَنْ إِفْرَادِ الْيَوْمِ كُلَّمَا مَرَّ بِهِ، وعنْ صِيَامِ الْأَيَّامِ المَعْلُومَةِ، وكانَ يَقُولُ: «لَا يَصُمْ صِيَاماً مَعْلُوماً». قولها: «حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ - صلى الله عليه وسلم -»، وفي رواية له: «حتى مَضى لوجهه» كناية عن الموت، أي: إلى أنْ مات. وعن أبي قتادة قال: رَجُلٌ أَتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقالَ: كيفَ تَصُومُ؟ فَغَضِبَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلَمَّا رَأَى عُمَرُ - رضي الله عنه - غَضَبَهُ، قالَ: رَضِينَا باللَّهِ رَبًّا، وبالإسْلَامِ دِينًا، وبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، نَعُوذُ باللَّهِ مِن غَضَبِ اللهِ وَغَضَبِ رَسولِهِ، فَجَعَلَ عُمَرُ - رضي الله عنه - يُرَدِّدُ هذا الكَلَامَ حتَّى سَكَنَ غَضَبُهُ، فَقالَ عُمَرُ: يا رَسولَ اللهِ، كيفَ بمَن يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ؟ قالَ: «لا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ، أَوْ قالَ: لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ»، قالَ: كيفَ مَن يَصُومُ يَومَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْماً؟ قالَ: «ويُطِيقُ ذلكَ أَحَدٌ؟!» قال: كيفَ مَن يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قالَ: «ذَاكَ صَوْمُ دَاوُدَ -عليه السَّلَام-»، قالَ: كيفَ مَن يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَومَيْنِ؟ قالَ: «وَدِدْتُ أَنِّي طُوِّقْتُ ذلكَ»، ثُمَّ قالَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلَاثٌ مِن كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانُ إلى رَمَضَانَ، فَهذا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، صِيَامُ يَومِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ علَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبْلَهُ، والسَّنَةَ الَّتي بَعْدَهُ، وصِيَامُ يَومِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ علَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبْلَهُ». رواه مسلم (2/819). فإنْ قيل: فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أفضلُ الصّيامِ صيامُ داود، كانَ يَصُوم يوماً، ويُفْطرُ يوما»، ولم يَصمْ النّبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك، بل كان يَصُوم سَرْداً، ويُفْطر سَرْداً، ويصُوم أكثر شعبان، وكلّ اثنين وخميس، وأيّام البيض؟
صَيامُ داود عليه السّلام
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
قال العلماء: صَيامُ داود -عليه السّلام- الذي فضّله النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على الصّيام، قد فَسّره النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر، بأنّه: صَومُ شَطْر الدَّهْر، وهكذا صيامُ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا جُمِعَ، يَبْلغُ نِصْفَ الدّهر، أو يَزِيد عليه، فقد كان يَصوم -مع ما سبقَ ذِكره- يوم عاشوراء، وتسع ذي الحجة، وإنما كان يُفرّق صِيامَه ولا يَصُوم يوماً ويُفْطرُ يوماً، لأنه كان يَتحرّى صيام الأوْقات الفاضلة، ولا يضرّ تفريق الصّيام، والفِطر أكثر من يوم، إذا كان القصد منه التقوّي على ما هو أفضل من الصيام، مِنْ أداءِ الرّسالة وتبليغها، والجهاد في سبيلها، والقيام بحقوقها، والاشتغال بما هو أهمّ منه وأفضل، فكان صيام يوم وفطر يوم يضعفه عن ذلك، والله أعلم.
فوائد الحديث
1- أنَّ أعْمالَ التطوُّعِ ليستْ مَنوطةً بأوقاتٍ مَعلومةٍ، وإنَّما هي على قدْرِ الإرادةِ لها، والنَّشاطِ فيها. 2- وفيه: مَشروعيَّةُ صَومِ التَّطوُّعِ في كلّ شَهرٌ مِن شُهورِ العام. 3- أنّ المُداوَمةُ على العَملِ الصَّالحِ تُبلِّغُ العَبدَ إلى رَحمةِ اللهِ، والنَّجاةِ مِن النارِ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو القدوة في ذلك.
باب: فَضلُ الصّومِ في سَبيلِ الله
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْماً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا بَاعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ، سَبْعِينَ خَرِيفاً». الحديث رواه مسلم في الصيام (2/808) باب: فضل الصّيام في سبيل الله لمَن يُطيقه، بلا ضَررٍ ولا تفويت حق، ورواه البخاري في كتاب الجهاد والسير (2840) باب: فضل الصوم في سبيل الله.
قوله: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْماً فِي سَبِيلِ اللَّهِ»
قوله: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْماً فِي سَبِيلِ اللَّهِ» اختلف العُلماء -رحمهم الله- في معنى «في سبيل الله»، فيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِخْلَاصِ النِّيَّةِ، ويَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ صَامَ حَالَ كَوْنِهِ غَازِياً، قال ابن الجوزي: إذا أُطْلق ذكر سبيل الله، فالمُراد به الجِهاد اهـ. لأ‌نّه يَجْمع بين مُجاهدة العَدو وبين الصّيام؛ فالصّيام من العبادات البدنية، والجِهاد من العِبادات الماليّة والبدنيّة، فيَجمع بين الأ‌مرين، فيحصُل بذلك على الثواب والأ‌جر الجزيل. وهو اختيار النووي -رحمه الله- إذْ يقول: «فيه فَضيلة الصّيام في سبيل الله، وهو محمولٌ على مَنْ لا يتضرّر به، ولا يفوّت به حقاً، ولا يختلّ به قتاله، ولا غيره منْ مهمات غزوه، ومعناه: المُباعدة عن النار، والمعافاة منها، والخَريف: السَنَة، والمراد: سبعين سنة». شرح مسلم (8 / 33).
العُرْف الأكثر اسْتِعماله في الجهاد
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
قال ابن دقيق العيد: «العُرْف الأكثر، اسْتِعماله في الجهاد، فإنْ حُمِل عليه، كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين، ويحتمل أنْ يُراد بسبيل الله طاعتُه كيفَ كانت، والأول أقرب، ولا يُعارض ذلك أنّ الفِطْر في الجهاد أولى، لأنّ الصّائم يَضْعُف عن اللقاء، لأن الفضل المذكور محمول على من لم يخش ضعفاً، ولا سيما من اعتاد به، فصار ذلك من الأمور النّسبية، فمن لم يضعفه الصوم عن الجهاد فالصوم في حقه أفضل؛ ليجمع بين الفضيلتين» اهـ. وقال ابن الأثير: «سَبِيلُ اللَّهِ عَامٌّ، يَقَعُ عَلَى كل عمل خَالِصٍ لِلَّهِ سَلَكَ بِهِ طَرِيقَ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى-، بِأَدَاءِ الفَرَائِضِ والنَّوَافِلِ، وأَنْوَاعِ التَّطَوُّعَاتِ، وإِذَا أُطْلِقَ فَهُوَ فِي الغَالِبِ وَاقِعٌ عَلَى الجِهَادِ، حَتَّى صَارَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، كأَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَيه». «النهاية» (239/2).
المُراد في سبيل الله
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
ورجَّح القرطبي: أنَّ المُراد في سبيل الله، أي: في مَرْضاة الله، فيَصُوم قاصداً بذلك وجهَ الله، وقال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أنْ يكون ما هو أعمّ من ذلك، ثم وجدته في فوائد أبي طاهر الذهلي: من طريق عبد الله بن عبد العزيز الليثي عن المقبري عن أبي هريرة بلفظ: «ما مِنْ مرابط يرابط في سبيل الله، فيصوم يوما في سبيل الله». الحديث. «فتح الباري» (6/48). ومِنْ أقْوَى الأدلة على أنّ المُراد منْ قوله: «في سبيل الله» أي: في الجهاد أو الغزو أو الرّباط، ما رواه ابن خزيمة في صحيحه: من حديث ابي سعيد الخدري مرفوعا: «مَا مِنْ عبدٍ يصومُ يومًا في سبيل الله؛ ابتغاءَ وجْه الله، إلَّا باعدَ الله بينه وبين النَّار سبعين خريفًا». قال الشَّيخ الألبانيُّ في تعليقه على ابن خزيمة: إسناده صحيح، رجاله رجال الصَّحيح. فقوله: «في سبيل الله؛ ابتغاءَ وجْه الله» يدلُّ دلالةً واضحة على أنَّ «سبيل الله» في الحديث ليس بمفهومه العام، وإنّما بمفهومه الخاص عند إطلاقه، ألا وهو القتال الشرعي، أو الرباط في سبيل الله.
التأسيس مُقدَمٌ على التوكيد
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
كما أنّ التأسيس في الكلام، مُقدَمٌ على التوكيد، فَسبيل الله في الحديث، ليست مرادفه: لابتغاء وجْه الله، أي: إخْلاص العمل لله، إنّما تَحْمل معنى آخر مغايراً، وهو الجهاد أو الغزو أو الرّباط سبيل الله. وممن ذهب من العلماء المعاصرين الى أن معنى «سبيل الله» في الحديث هو الجهاد، الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، والشيخ زيد المدخلي -رحمهما الله-، والشيخ العلامة صالح الفوزان -حفظه الله. وقوله: «إِلَّا بَاعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ، سَبْعِينَ خَرِيفا» معنى سبعين خريفًا، أي: سبعين سنة. فإن قيل: لماذا خصَّ الخَريف من بين فصول العام؟ فالجواب أنه خَصَّه؛ لأ‌نه أزكَى الفُصُول، وفيه تُجْنى الثمار، ذكره ابن حجر -رحمه الله-، والمُراد بالخَريف هنا العام، أي: باعَد الله وجْهه عن النار سَبعين عاماً.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
فوائد الحديث
  • فضيلة الصّيام على وجْه العُموم، سواءٌ أكانَ صِيامَ فَرضٍ أو صِيامَ نافِلةٍ، والحَثُّ والتَّرغيبُ على صيامِ التَّطوُّعِ.
  • فضيلة الصيام في الجَهاد في سبيل الله.
  • فضيلة الجهاد في سَبيل الله، فإذا اجتمع جِهادٌ وصيام، فهذا من أفضل الأ‌عمال، وهذا يدُلُّ على بُعدِ النَّارِ عنِ المُجاهِدِ الصَّائِمِ، أوِ الصائِمِ المُحتَسِبِ للهِ -عَزَّ وجَلَّ-.
  • فيه أنّ الأ‌عمال الصالحة، سببٌ للبُعد عن النيران.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png


ابوالوليد المسلم 28-02-2024 02:00 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

– باب: فضل صيام المحرم وباب: صِيامُ يَوم عَاشُورَاء


  • أفضَلُ الصَّلاةِ بعْدَ الصَّلاةِ المَكتوبةِ الصَّلاةُ في جَوفِ اللَّيلِ وذلك أنَّ صَلاةَ اللَّيلِ أبعَدُ عنِ الرِّياءِ ونظر الناس وأقرَبُ إلى الإخْلاصِ
  • أفضَل الصِّيامِ بَعدَ شَهرِ رَمضانَ هو صِيامُ شَهرِ اللهِ المُحرَّمِ وهو مِنَ الأشهُرِ الحُرُمِ الَّتي نَهى اللهُ فيها عنِ القتالِ
  • أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصِيَامِ عاشوراء حَتَّى فُرِضَ رَمَضَانُ فخير الناس بين صيامه وإفطاره
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ». الحديث رواه مسلم في الصيام (2/821) باب: فضل صوم المحرم.
يَرْوي أبو هُريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بين الأوْقاتِ والحالاتِ الأفضلِ للتَّنفُّلِ والتَّطوُّعِ في الصَّلاةِ والصِّيامِ، وربّما يكون قد سألَه سائلٌ: عن أفضَلِ الصَّومِ بعدَ الصَّومِ المَفروضِ في رَمضانَ، فأجابَ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أفضَلَ الصِّيامِ بَعدَ شَهرِ رَمضانَ، هو صِيامُ شَهرِ اللهِ المُحرَّمِ، وهو مِنَ الأشهُرِ الحُرُمِ الَّتي نَهى اللهُ فيها عنِ القتالِ، وإضافةُ الشَّهرِ للهِ -تعالى- إضافةُ تَعظيمٍ، وهو أوَّلُ شَهرٍ في العامِ الهِجْريِّ، فهو سَببٌ لِيَفتتِحَه بفِعلِ الخَيرِ واستِقْبالِه بالعِبادةِ، وذلِكَ مِن أفضَلِ الأعْمالِ، كما يُستقبَلُ أوَّلُ النَّهارِ بالأذْكارِ، فيُرْجى بذلِكَ أنْ يكونَ مُكفِّراً لباقي العامِ، كما في فَضيلةِ الذِّكْرِ في أوَّلِ النَّهارِ.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
أفضَلُ الصَّلواتِ بعْدَ أداءِ
الصَّلواتِ الخَمسِ المَفروضةِ
وسُئِلَ ما أفضَلُ الصَّلواتِ بعْدَ أداءِ الصَّلواتِ الخَمسِ المَفروضةِ، الَّتي لا بُدَّ مِن أدائِها؟ وهي أفضَلُ ما يتقرَّبُ بها العبدُ لله -عز وجل- قبلَ النظرِ في النَّوافلِ والزِّياداتِ والتَّطوُّعِ لِمَن أرادَ، فَقال النَّبيُّ -[ مُوضِّحًا ومُبيِّنًا-: «أفضَلُ الصَّلاةِ بعْدَ الصَّلاةِ المَكتوبةِ، الصَّلاةُ في جَوفِ اللَّيلِ»، وذلك أنَّ صَلاةَ اللَّيلِ أبعَدُ عنِ الرِّياءِ ونظر الناس، وأقرَبُ إلى الإخْلاصِ، وهي أفضل التَّطوّعات بعد الفريضة؛ لأنّ الخشوع فيها أوفر، لاجتماع القلب، والخلو بالرَّب، قال -تعالى-: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} (المزمل : 6)، ولأنّ الليل وقت السُّكون والرَّاحة فإذا صُرف إلى العِبادة، كانت على النَّفْس أشد وأشق، وللبَدن أتَعب وأنْصَب، فكانت أدخل في معنى التكليف، وأفضل عند الله -تعالى. ويَحتمِلُ أيضاً: أنَّه لَمَّا كانَ القِتالُ مُحرَّماً في المُحرَّمِ، وكانَ انتِهازُ وَقتِه للصَّومِ فُرصةً مِن أجْلِ أنَّ أَوقاتَ إباحةِ القِتالِ لا يَقتَضي أنْ يَكونَ المُؤمنُ فيها صائماً؛ لأنَّ الصَّومَ يُضعِفُ أَهلَه.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
المحرم شهر اللهِ
-قال الحافظُ ابنُ رجب: «وقد سمّى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - المحرمَ شهرَ اللهِ، وإضافتهُ إلى اللهِ تدلُّ على شَرفهِ وفضلهِ ، فإنّ اللهَ -تعالى- لا يضيفُ إليه إلا خواصَّ مخلوقاتهِ، كما نسبَ مُحمداً وإبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ وغيرَهم من الأنبياءِ -صلواتُ اللهِ عليهم وسلامهُ- إلى عبوديتهِ، ونسبَ إليه بيتهُ وناقتهُ، ولما كان هذا الشهرُ مختصاً بإضافتهِ إلى اللهِ -تعالى-، وكان الصيامُ من بين الأعمالِ مُضافاً إلى الله -تعالى-، فإنهُ لهُ من بين الأعمالِ، ناسبَ أن يختصَّ هذا الشهرُ المضافُ إلى اللهِ بالعملِ المضافِ إليهِ، المختصِّ به، وهو الصيامُ» .اهـ. (لطائفِ المعارفِ) (ص 81 - 82).
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
إن صوم شهر مُحرم -وهو أول شهور السنة الهجرية- أفضل الصيام بعد صوم رمضان؛ لأنه أول السَّنة المستأنفة؛ فافتتاحها بالصوم -الذي هو ضياء- أفضل الأعمال، فينبغي للمسلم أن يحرص عليه ولا يَدعه إلا لعُذر. وقوله: «شَهر الله» هذا مما يدل على تعظيمه ومَزيته على غيره من الشَّهور. وأفضلُ شهرِ اللهِ المحرمِ يوم عاشوراء، كما سيأتي في الأحاديث. - قال الشيخُ ابنُ عثيمين: «واختلف العلماءُ -رحمهم اللهُ-: أيهما أفضلُ: صَومُ شهر المُحرّم، أمْ صوم شَعبان؟ فقال بعضُ العلماءِ: شَهرُ شعبانَ أفضلُ، لأنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصومهُ إلا قليلاً منهُ، ولم يُحْفظ عنهُ أنّه كان يصومُ شهرَ المحرمِ، لكنهُ حثّ على صيامهِ بقوله: «إنهُ أفضلُ الصيامِ بعد رمضان». قالوا: ولأن صومَ شعبانَ ينزلُ منزلةَ الراتبةِ قبل الفريضةِ، وصومَ المحرمِ ينزلُ منزلةَ النفلِ المطلقِ، ومنزلةُ الراتبةِ أفضلُ من منزلةِ المطلقِ، وعلى كل فهذان الشهران يسنُ صومهما، إلا أن شعبانَ لا يكملهُ». اهـ. «الشرحِ الممتعِ» (6/467).
باب: صِيامُ يَوم عَاشُورَاء
عن عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَصُومُ عَاشُورَاءَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِصِيَامِهِ، حَتَّى فُرِضَ رَمَضَانُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْهُ». الحديث رواه مسلم في الصيام (2/792) باب: صوم يوم عاشوراء. تُخبِرُ أمُّ المُؤمِنينَ عائِشةُ -رضي الله عنها- أنَّ قُرَيشاً كانت تصومُ يومَ عاشُوراءَ في الجاهلية، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يصومُه قبل أنْ يُهاجِرَ إلى المَدينةِ، فلمَّا قدِمَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ صامَه على عادتِه، وأمَرَ النَّاسَ بِصيامِه.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
أسباب صِيامِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ عاشُوراءَ
وقد ورَدَتْ رِواياتٌ أخرى- ولا تُعارِضُ هذه الرِّوايةَ- في أسبابِ صِيامِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ عاشُوراءَ، منها ما جاء في الصَّحيحَينِ: مِن حَديثِ ابْنِ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: «أنَّه يَومٌ نجَّى اللهُ فيه مُوسَى مِن فِرعَونَ، وكانت تَصومُه اليَهُودُ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أنا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهم، فَصَامَه».
حكم صيام عاشوراء
وقَولُ أمِّ المُؤمِنينَ عائِشةَ -رضي الله عنها- في الحَديثِ: «ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِصِيَامِهِ، حَتَّى فُرِضَ رَمَضَانُ»، وفي رواية له: «وأَمَرَ بصِيَامِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ كانَ رَمَضَانُ الفَرِيضَةَ، وتُرِكَ عَاشُورَاءُ»، يَحتمِلُ أنَّ حُكْمَه كان الوُجوبَ والفرضيَّةَ، ثمَّ نُسِخَ الحُكمُ إلى الاستِحبابِ. وقيل: إنَّ هذا كان تَأكيداً على الصِّيامِ، وليس في حُكْمِ الوُجوبِ، لحَديثِ مُعاويةَ بنِ أبي سُفيانَ -رضي الله عنهما-: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «هذا يومُ عاشُوراءَ، ولمْ يَكتُبِ اللهُ عليكم صِيامَه، وأنا صائمٌ، فمَنْ شَاء فلْيَصُمْ، ومَنْ شَاء فلْيُفطِرْ». مُتَّفَق عليه.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
ومثله حديث جابر بن سَمُرة - رضي الله عنه - قال: كانَ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمُرُنا بصيامِ يومِ عَاشُوراء ويحثنا عليه، ويَتَعاهدنا عنْده، فلما فُرِضَ رَمَضان، لمْ يَأمُرنا، ولمْ ينْهنا، ولم يَتَعاهَدنا عنده». رواه مسلم بالباب. وكان هذا هو الحال والشَّأن إلى أنْ فُرِضَ صَومُ رَمَضانَ على المُسلمينَ في السَّنَةِ الثَّانيةِ مِنَ الهِجرةِ، فكانتِ الفريضةُ صَومَ رمَضانَ فَقطْ، وأصْبَحَ صَومُ عاشوراءَ مُخيَّراً فيه: مَنْ شاءَ صامَه نفْلًا، ومَنْ شاءَ تَرَكَه. وقد ذهبَ بَعضُ العُلماء إلى أنّ صيامَ عاشوراء كان واجباً في أولِ الأمْر، فلمّا فُرِض شهر رمضان في العام الثاني للهجرة، صار صيامه سنَّةً ومُسْتحبًّا.
من فوائد الحديثين
من فوائد حديث صيام المحرم: 1-التَّرغيبُ في صِيام التّطوع.
2-التَّرغيبُ في صَلاة التّطوع، وقيام الليل.
3- أنّ صَلاةَ الليل أفضل مِنْ غيرها من التَّطوعات في النَّهار، لظاهر النَّص.
4- وَفيه: بَيانُ فَضيلةِ صومِ شَهرِ المُحرَّمِ، وأنّ أفضل الصّيام المستحب ما كان في المُحرّم، كصيام عاشوراء وغيره.
5- وَفيه: بَيانُ أنَّ التَّطوُّعَ والنَّوافلَ تَكونُ بعدَ أَداءِ الفَرائضِ.
6- الصَّلاةُ والصِّيامُ مِن أركانِ الإسْلامِ، وقدْ حدَّدَ اللهُ فَرائضَ الصَّلاةِ بخَمسِ صَلواتٍ في اليومِ واللَّيلةِ، وحدَّدَ صِيامَ الفَرْضِ بصِيامِ شَهرِ رَمضانَ، ولكنْ مَن أرادَ التَّطوُّعَ بنافِلةٍ مِن جِنسِ هاتَينِ العِبادتَينِ، فقد حدَّدَ له النَّبيُّ -[- أوقاتًا فاضلةً يؤجَرُ عليها العبدُ بأفضَلِ الأجْرِ.
من فوائد حديث صيام يوم عاشوراء: 1- بَيانُ أهمِّيةِ يَومِ عاشوراءَ، وتَعظيمِ المُسلِمينَ له. 2- وفيه: بيانُ وُقوعِ النَّسخِ في الشَّريعةِ المحمَّديَّةِ. 3- مرَّ صِيامُ عاشوراءَ بمَراحلَ تَشريعيَّةٍ مُختلِفةٍ، كما في هذا الحديثِ وغيرِه.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png


ابوالوليد المسلم 28-02-2024 02:06 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

– باب: أيُّ يومٍ يَصُومُ في عَاشُورَاء؟


عَنْ الحَكَمِ بْنِ الْأَعْرَجِ قَال: انْتَهَيْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ رِدَاءَهُ فِي زَمْزَمَ، فَقُلْتُ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَقَال: إِذَا رَأَيْتَ هِلَالَ المُحَرَّمِ، فَاعْدُدْ وَأَصْبِحْ يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِماً، قُلْتُ: هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. الحديث رواه مسلم في الصيام (2/797) باب: أيّ يومٍ يُصام في عَاشُوراء؟
يُخبِرُ التَّابعيُّ الحكمُ بنُ الأعرَجِ، وهو الحكم بن عبد الله بن إسْحاق البَصري، ثقة، أنَّه جاء إلى عبدِ الله بنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- وهو وَاضِعٌ رِداءَه تحْتَه ذراعه، مُتوسّد عليه، عندَ بئرِ زَمْزَمَ داخلَ المسجد الحرامِ بمكة، فسَأل ابنَ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عن صَومِ يومِ عَاشُورَاءَ، متَى يكونُ؟ فقال له ابنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: إذا رأَيْتَ هِلالَ شَهرِ المُحَرَّمِ، وثَبَتَتْ بِدايَتُه، فابْدَأْ بعَدِّ الأيامِ حتَّى تَصِلَ إلى اليومِ التَّاسِعِ فصُمْهُ. فقوله: «فاعْدُد وأصْبِحْ يومَ التاسع صَائما» قال الحافظ النّووي: هذا تصريحٌ منْ ابن عباس بأنّ مَذهبه أنّ عَاشوراء، هو اليومُ التاسع مِنَ المُحرّم. انتهى. ولعلّ ابن عباس- والله أعلم- أخَذ ذلك مِنْ قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قابِلٍ، لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ». رواه مسلم. وقد اخْتلفَ العُلماء في تعيين هذا اليوم: فكان ابنُ عباس -رضي الله عنهما- يَرى أنّه يومُ التاسع، فكأنه رأى أنّ ثوابَ الصّيام أصْبح في يومِ التاسع بَدلاً مِنَ العاشر؛ لأنّه ليس في الحديث لأصُومَنَّ التاسعَ والعاشر، وإنّما النّصّ على التاسع فقط. أمّا جُمهور العُلَماء مِنَ السّلف والخَلف: فذهبُوا إلى أنّ عاشُوراء هو يومُ العاشر مِنَ المُحرّم، كما هو ظاهر الأحاديث، ومُقْتضى اللفظ لغة: «عاشوراء»، وفَهِم الجُمهور أنّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لأصُومَنّ التاسع» هو إضافةً إلى يوم العاشر، فيَكون المعنى: سأصُوم العاشر، ومعه التاسع، مُخَالفة لليهود والنّصارى، وليس المقصودُ به أنَّ العاشرَ يُهمَلُ ويُخَصُّ الصِّيامُ بالتَّاسعِ. قال الترمذي: «اختلف أهل العلم في يوم عاشوراء، فقال بعضهم: يوم التاسع، وقال بعضهم: يوم العاشر، وروي عن ابن عباس أنه قال: صوموا التاسع والعاشر، وخالفوا اليهود. وبهذا الحديث يقول الشافعي وأحمد وإسحاق». (3/ 128). - وقال ابن عبد البر: «اختلفَ العُلماء في يومِ عاشُوراء، فقالت طائفة هو اليوم العاشر من المُحرّم، وممّن روى ذلك عنه سعيد بن المسيب والحسن بن أبي الحسن البصري، وقال آخرون: هو اليومُ التاسع منْه، واحتجّوا بحديث الحكم بن الأعرج قال: أتيتُ ابن عباس في المسجد الحرام... فذكره. قال: وقد روى عن ابن عباس القولان جميعاً، وقال قومٌ من أهل العلم: مَنْ أحبّ صَوم عاشوراء، صام يومين التاسع والعاشر، وأظنّ ذلك احْتياطاً منْهم، والله أعلم». «التمهيد» (7/ 213). - وممّن ذهب إلى أنّ عاشوراء اليوم التاسع: ابن حزم، حيثُ قال: «ونَسْتحبُ صوم يوم عاشُوراء وهو التاسع مِنَ المُحرّم، وإنْ صامَ العَاشر بعده فحَسن». المحلى (7/ 17)، وساق رواية ابن عباس.
الأفضلُ والأكمَل
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
والأفضلُ والأكمَل للمُسْتطيع أنْ يصومَ التاسع والعاشر، وذلك لسَببين:
  • الأول: أنّ النّزاع قائمٌ بين العلماء في تَحديد اليوم الذي فيه الفَضل، والأولى للحَريص على الثواب أنْ يَصوم اليومين خُرُوجاً مِنَ الخِلاف.
  • الثاني: أنّ هَدْي النّبي - صلى الله عليه وسلم - الذي نَدَبَ إليه أمّته، هو صيامُ التاسع مع العاشر، تمييزاً للمُسلم عن غيره، لِئَلَّا يَتَشَبَّهَ باليَهُودِ فِي صِيامِ اليَومِ العاشِرِ وحدَه. والمحبّ يقتفي أثرَ مَنْ أحبّ، فيكون منْ علاماتِ مَحبّته: اتباع هديه وطريقته.
هل يُصامُ يوم الحادي عشر؟
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
  • ولكنْ هل يُصامُ يوم الحادي عشر أيضاً مع عاشوراء؟
اسْتَحبّ بعضُ العُلماء كابن القيم رحمه الله صيام اليوم الحادي عشر مِنَ المُحرّم أيضاً، قال: لأنّه قد وَرد عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - الأمرُ بصيامِه، وذلك فيما عَنْ ابنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - قالَ: قَال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وخَالِفُوا فِيهِ اليَهُودَ، صُومُوا قَبْلَهُ يَوْماً، أَوْ بَعْدَهُ يَوْماً». رواه أحمد (2155) وابن خزيمة (2095)، وقد حسّنه الشيخ أحمد شاكر، وضعّفه مُحققو المسند. وقال الألباني: «إسناده ضعيف، لسُوء حفظ ابن أبي ليلى، وخالفه عطاء وغيره فرواه عن ابن عباس موقوفاً، وسنده صحيح عند الطحاوي والبيهقي» انتهى. وقد ذَكَر بعضُ العلماء سبباً آخر: لاستحباب صيام اليوم الحادي عشر، وهو الاحتياط لليوم العاشر، فقد يُخْطئ الناس في هلال مُحرّم، فلا يُدرى أيّ يومٍ بالضبط هو اليوم العاشر، فإذا صَام المسلم التاسع والعاشر والحادي عشر، فقد تحقّق مِنْ صيام عاشُوراء، وقد روى ابن أبي شيبة في (المصنف) (2/313): عن طاووس رحمه الله: أنه كان يَصُوم قبله وبَعده يوماً، مَخافة أنْ يَفوته. وقال الإمام أحمد: «مَنْ أرادَ أنْ يَصُومَ عاشُوراء: صامَ التاسع والعاشر، إلا أنْ تُشْكل الشُّهور فيصُوم ثلاثة أيام، ابن سيرين يقول ذلك». (المغني) (4/441).
مَنْ فاته صيام اليوم التاسع
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وأمّا مَنْ فاته صيام اليوم التاسع، فيُسْتحبّ له صيام الحادي عشر، لمُخالفة اليَهود، فإنْ صامَ العاشر وحده، فلا حَرجَ عليه في ذلك، ولا يكون ذلك مَكروهاً، قال المِرْداوي: «لا يُكْره إفْرادُ العاشر بالصّيام على الصّحيح منَ المذهب، ووافق الشيخ تقي الدين- ابن تيمية- أنّه لا يُكْره». انتهى باختصار. (الإنصاف) (3/346).
باب: فَضْل صيام يوم عاشوراء
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَاماً يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟» فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْراً، فَنَحْنُ نَصُومُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ»، فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأَمَرَ بِصِيَامِهِ. عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ: سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- وَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَقَال: مَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -[- صَامَ يَوْمًا يَطْلُبُ فَضْلَهُ عَلَى الْأَيَّامِ، إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ، وَلَا شَهْراً إِلَّا هَذَا الشَّهْرَ، يَعْنِي رَمَضَانَ. في الباب حديثان، الحديث الأول: رواه مسلم في الصيام (2/796) باب: صوم يوم عاشوراء، والحديث الثاني في الباب نفسه (2/797).
نَحْنُ أَحَقّ بِمُوسَى مِنْهُمْ
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
‏قَوْله: «أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُود يَصُومُونَ عَاشُورَاء, وَقَالُوا: إِنَّ مُوسَى صَامَهُ وإِنَّهُ الْيَوْم الَّذِي نَجَوْا فِيهِ مِنْ فِرْعَوْن وَغَرِقَ فِرْعَوْن، فَصَامَهُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأَمَرَ بِصِيَامِهِ، وقَال: نَحْنُ أَحَقّ بِمُوسَى مِنْهُمْ»، ‏قَالَ الْمَازِرِيّ: خَبَر اليهُود غَيْر مَقْبُول، فَيَحْتَمِل أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أُوحِيَ إِلَيْهِ بِصِدْقِهِمْ فِيمَا قَالُوه، أَوْ تَوَاتَرَ عِنْدَهُ النَّقْل بِذَلِكَ حَتَّى حَصَلَ لَهُ العِلْم بِهِ. قَال القَاضِي عِيَاض رَدًّا على المَازِرِيّ: قَدْ رَوَى مُسْلِم أَنَّ قُرَيْشاً كَانَتْ تَصُومهُ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - المَدِينَة صَامَهُ، فَلَمْ يَحْدُث لَهُ بِقَوْلِ الْيَهُود حُكْمٌ يَحْتَاج إِلَى الْكَلَام عَلَيْه، وإِنَّمَا هِيَ صِفَة حَال، وجَوَاب سُؤَال، فَقَوْله: «صَامَهُ» لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ اِبْتَدَأَ صَوْمه حِينَئِذٍ بِقَوْلِهِمْ، ولَوْ كَانَ هَذَا لَحَمَلْنَاهُ علَى أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ كَابْنِ سَلَام وَغَيْره.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ قَالَ بَعْضهمْ: يَحْتَمِل أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَصُومهُ بِمَكَّة، ثُمَّ تَرَكَ صِيَامه حَتَّى عَلِمَ مَا عِنْد أَهْل الْكِتَاب فِيهِ فَصَامَهُ. قَالَ: وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى بِلَفْظِ الْحَدِيث. قال النووي‏: الْمُخْتَار قَوْل الْمَازِرِيّ، ومُخْتَصَر ذَلِكَ: أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَصُومهُ كَمَا تَصُومهُ قُرَيْش فِي مَكَّة، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَة فَوَجَدَ الْيَهُود يَصُومُونَهُ فَصَامَهُ أَيْضاً بِوَحْيٍ أَوْ تَوَاتُرٍ أَوْ اِجْتِهَادٍ، لَا بِمُجَرَّدِ أَخْبَارِ آحَادِهِمْ. واَللَّهُ أَعْلَم. «شرح مسلم»، فكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَأمُرُ أصحابَهُ بِصَومِ يومِ عاشوراءَ، قَبْلَ أنْ يُفرَضَ صِيامُ رَمَضانَ لفَضْلِ ذلك اليومِ، فلمَّا فُرِضَ صِيامُ رَمضانَ تَرَكَ أمْرَهم بِصيامِه، ولكنَّه صارَ تَطوُّعًا لمَن أراد. وفي هذا الحَديثِ: يَروي عبْدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - هاجَرَ إلى المَدِينةِ مِن مكَّةَ، وفي العامِ التَّالي وَجَدَ يَهُودَ المدينةِ يَصُومُون يَومَ عاشُورَاءَ، وهو يومُ العاشرِ مِن شَهرِ اللهِ المُحرَّمِ، فسَأَلَهم عن سَببِ ذلك، فذَكَروا أنَّ هذا يَومٌ صالِحٌ وَقَعَ فيه خَيرٌ وصَلاحٌ، حيثُ نَجَّى اللهُ فيه بَنِي إسْرائِيلَ مِن عَدُوِّهِم فِرْعونَ بإغراقِه وجُنودِه في البحْرِ، فَصامَه نَبيُّ اللهِ مُوسَى -عليه السَّلامُ-، فلَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك، أخبَرَ أنَّه أحَقُّ بمُوسَى مِنهم، حيثُ إنَّهما أخَوانِ في النُّبوَّةِ، ولأنَّه - صلى الله عليه وسلم - أطوَعُ وأتْبَعُ للحقِّ منهم، فهو أحَقُّ أنْ يَشكُرَ اللهَ -تعالى- على نَجاةِ مُوسى -عليه السَّلامُ-، ولذلك صامَهُ - صلى الله عليه وسلم -، وأَمَرَ المسلِمينَ بصِيَامِه، لأنَّنا -نَحنُ المسلِمينَ- أوْلَى بِحبِّ مُوسى -عليه السَّلامُ- ومُوافقَتِه مِنَ اليهودِ، حيثُ إنَّهم بَدَّلوا شَريعتَه وحَرَّفوها، ونحنُ أتْباعُ الإسلامِ الَّذي هو دِينُ كلِّ الأنبياءِ، وقدْ روَى ابنُ عبَّاسٍ أيضًا أنَّ السُّنَّةَ أنْ يَصومَ المُسلِمُ اليومَ التَّاسعَ معه، مُخالفةً لليهودِ، كما في صَحيحِ مُسلِمٍ، وثبَت فيه أيضاً: مِن حَديثِ أبي قَتادةَ - رضي الله عنه -: أنَّ صِيامَه يُكفِّرُ ذُنوبَ السَّنَةَ التي قَبْلَه. 1- يومُ عاشوراءَ مِن أيَّامِ اللهِ المُبارَكةِ، فيه نَجَّى اللهُ -عزَّوجلَّ- نَبيَّه مُوسى مِن فِرعونَ وجُندِه، وعظَّمَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هذا اليومَ، وحرَصَ على صِيامِه، وحَثَّ المسلِمينَ على ذلك، شُكرًا للهِ.
2- مَشروعيَّةُ شُكرِ اللهِ -تعالَى- بالصَّومِ، لمَن حَصَلَ له خَيرٌ مِن تَفريجِ كُرَبٍ، أو تَيسيرِ أمْرٍ.
3- يومُ عاشوراءَ هو يومُ العاشرِ مِنَ الْمُحرَّمِ، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَحرِصُ على صِيَامِ يومِ عَاشُورَاءَ، ويُوصِي به، وكان صِيامُه فَرْضاً قَبْلَ رمضانَ، إلى أنْ نَزَلَ صَومُ رمضانَ على المُسلمينَ، فكانتِ الفريضةُ صَومَ رمضانَ فَقطْ، وأصبَحَ صَومُ عاشوراءَ مُخيَّرًا فيه، مَن شاءَ صامَه، ومَن شاءَ تَرَكَه.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png


ابوالوليد المسلم 01-03-2024 10:04 AM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

– باب: مَنْ أَكَلَ يَومَ عَاشُورَاء فَلْيَكُفّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ


  • الصّحيح عند أهلِ الحَديث وأهلِ الأصُول: أنّ الصّحابي إذا قال فَعَلْنا كذا في عَهْد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حُكْمُه الرّفع لأنّ الظّاهر اطّلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك
  • في الحديث حُجّة على مَشْروعيّة تَمرين الصِّبيانِ على الصِّيامِ ولو كانوا صِغاراً غيرَ مُكلّفين
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ قَالَتْ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَدَاةَ عَاشُورَاءَ، إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ: مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِماً فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، ومَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ»، فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ، ونُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ونَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ، أَعْطَيْنَاهَا إِيَّاهُ عِنْدَ الْإِفْطَارِ. الحديث رواه مسلم في الصيام (2/798) وبوّبَ عليه النّووي بمثلِ تبويب المُنْذري، ورواه البخاري في الصوم (1960) باب: صَوم الصِّبيان.
الرُّبيّع بنت مُعوّذ بن عَفراء، النّجّارية الأنْصَاريّة، وهمْ بطنٌ مِنَ الخَزرج، صحابية مِنْ ذَوات الشأن في الإسْلام. بايعتْ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة الرّضْوان، تحتَ الشّجرة، وصَحِبته في غَزَواته، قالت: كنّا نغزُو مع رسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم - فنَسْقي القوم ونَخْدمهم، ونُداوي الجَرحى، ونَردّ القَتْلى والجَرْحى إلى المدينة. وجاء أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أتَاها يوم عُرسها فقعد عَلَى موضِع فراشها. وكان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يَغْشى بيتها، فيتوضّأ ويُصلي، ويأكل عندها. عاشت إلى أيام معاوية.
الأمر بصيام عاشوراء
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
تَحكي الصحابية الرُّبَيِّعُ بِنتُ مُعوِّذٍ -رَضيَ اللهُ عنها- أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أرسَلَ صَباحَ يومِ عاشوراءَ- وهو اليومِ العاشِرِ مِن المُحرَّمٍ كما سبق- رُسُلًا إلى قُرى الأنصارِ، الَّتي حَولَ المدينةِ؛ يُنادُون فيهم: مَنْ أصبَحَ مُفطِراً فلْيُمسِكْ عن الطَّعامِ، ويَبْقى صائماً، ومَنْ أصبَحَ صائماً، فلْيَستمِرَّ على صَومِه بَقيَّةِ يَومِه.
فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ
قولها: «فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ، ونُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، وزاد في رواية لمسلم: «ونَذهب بِهمْ إلى المَسْجد»، فأخبَرَت أنَّهم كانوا يَصُومُون يومَ عاشوراءَ بعْدَ ذلك، ويَجعَلون صِغارَهم يَصومونَه، ويَجعَلون لهم ما يَلعَبون به مِن العِهْنِ، وهو الصُّوفُ المَصْبُوغُ، يُجْعل على شَكل لُعبة، فإذا بَكَى أحدُهم على الطَّعامِ أعْطَوه تلك اللُّعْبِة؛ لِيَتلهَّى بها عن الطعام ويَنسى الجُوع، حتَّى يَأتيَ وَقْتُ الإفطارِ، تَشجيعاً وتَدريباً للأطفالِ على العِبادةِ.
باب صَوم الصّبيان
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وقد بوّب عليه البُخاري: باب صَوم الصّبيان. أي: هل يُشْرع أمْ لا؟ قال الحافظ ابن حجر: والجُمْهور على أنّه لا يجبُ على مَنْ دُون البُلوغ، واسْتحبّ جماعةٌ مِنَ السّلف، منْهم: ابنُ سِيرين والزُّهري، وقال به الشافعي، أنّهم يُؤمَرُون به للتّمْرين عليه إذا أطَاقُوه، وحَدّه أصحابُه بالسّبع والعَشْر كالصّلاة، وحدّه إسْحاق باثنتي عَشْرة سنة، وأحمد في رواية: بعَشْر سنين، وقال الأوزاعي: إذا أطاقَ صَومَ ثلاثة أيام تِبَاعاً، لا يضعف فيهنّ، حُمل على الصّوم، والأولُ قولُ الجمهور.
المشهور عن المالكية
والمشهور عن المالكية: أنّه لا يُشْرع في حَقّ الصّبيان، ولقد تلطّف المُصنّف في التّعقّب عليهم، بإيرادِ أثر عُمر في صَدر التّرجمة؛ لأنّ أقْصَى ما يَعْتمدونه في معارضة الأحاديث: دَعْوى عَمل أهْلِ المدينة على خِلافها، ولا عَمَلَ يَسْتند إليه أقْوى منَ العَملِ في عَهد عُمر، مع شدّة تَحرّيه، ووفُور الصّحابة في زمانه، وقد قال للذي أفطر في رمضان مُوبّخاً له: «كيفَ تُفْطِر، وصِبْياننا صِيام؟». وفي رواية البغوي: «فلمّا رُفِعَ إليه؛ عَثَر، فقال عُمر: على وجْهك، ويْحَك؟ وصِبْياننا صِيام؟ ثمّ أَمَرَ به فضُرِبَ ثَمانين سَوطاً، ثمّ سَيّره إلى الشّام»، وأغربَ ابنُ الماجشون منَ المالكية فقال: إذا أطاقَ الصّبيانُ الصّيام ألْزمُوه، فإنْ أفْطَرُوا لغيرِ عُذْر، فعَليهم القَضاء. وأغربَ القُرطبي أيضاً فقال: لعلّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمْ يَعلمْ بذلك، ويَبْعد أنْ يكونَ أمَرَ بذلك؛ لأنّه تَعذيبُ صغير بعبادة غير متكررة في السّنَة. فردّ عليه الحافظ بقوله: مع أنّ الصّحيح عند أهلِ الحَديث وأهلِ الأصُول: أنّ الصّحابي إذا قال: فَعَلْنا كذا في عَهْد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان حُكْمُه الرّفع؛ لأنّ الظّاهر اطّلاعه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وتَقْريرهم عليه مع توفّر دَواعيهم على سُؤالهم إيّاه عن الأحْكام، مع أنّ هذا ممّا لا مَجالَ للاجْتهاد فيه فما فَعَلُوه إلا بتَوقيف، والله أعلم.
صِيامَ عاشوراء على الخِيارِ
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وقد وَرَدَ في الصَّحيحَينِ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ صِيامَ عاشوراء على الخِيارِ بعْدَ أنْ فَرَضَ اللهُ رَمَضانَ؛ فعنِ ابنِ عمَرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: «كان يَوماً يَصومُه أهلُ الجاهِليَّةِ، فمَن أحبَّ منْكم أنْ يَصومَه فَلْيَصُمْه، ومَن كَرِه فَلْيَدَعْه». فأبْقى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَومِه تَطوُّعاً. وقدْ جاء في فَضْلِ صِيامِ عاشوراء: أنَّه يُكفِّرُ ذُنوبَ سَنةٍ قَبْلَه، كما في صَحيحِ مُسلِمٍ مِن حَديثِ أبي قَتادةَ - رضي الله عنه . قولها: «فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ، أَعْطَيْنَاهَا إِيَّاهُ عِنْدَ الْإِفْطَارِ»، قال الحافظ: وهو مُشكل، ورواية البخاري توضّح أنه سَقَط منه شيء، وقد رواه مسلم من وجه آخر: عن خالد بن ذكوان فقال فيه: «فإذا سَألُونا الطّعام، أعْطَيناهم اللُّعبة، تُلْهيهم حتّى يُتمُّوا صَومَهم»، وهو يُوضّح صحّة رواية البخاري. قال الحافظ: واستدل بهذا الحديث: على أنّ عاشُوراء كان فَرضَاً قبل أنْ يُفْرض رمضان، وقد تقدّمت الإشارة إلى ذلك في أول كتاب الصيام.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
فوائد الحديث
1- في الحديث حُجّة على مَشْروعيّة تَمرينُ الصِّبيانِ على الصِّيامِ، ولو كانوا صِغاراً غيرَ مُكلّفين.
2- وفيه: أنَّ الصَّحابيَّ إذا قال: فعَلْنا كذا في عهْدِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، يكون حُكمُه الرَّفعَ؛ لأنَّ سُكوتَه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، يدُلُّ على إقْرارِهم عليه؛ إذْ لو لم يكُنْ راضياً بذلك، لَأنكَرَ عليهم، ومنعهم.
3- واستدلّ به على جَواز ابتداء نيّة الصّوم مِنَ النّهار في النّفل، وأخرجه البخاري في باب: إذا نَوَى بالنّهَارِ صَوْماً.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png


ابوالوليد المسلم 01-03-2024 10:09 AM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

– باب: صِيَامُ شَعْبَان


  • المُداوَمةُ على العَملِ الصَّالحِ تُبلِّغُ العَبدَ رَحمة اللهِ والنَّجاة مِن النارِ وقد كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم القُدوةَ في ذلك
  • صوم النَّفل غير مُختصٍّ بزمانٍ معين بل كلُّ السّنَة صالحة له إلا رمضان والعيد والتشريق
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها-: عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَفْطَرَ، ولَمْ أَرَهُ صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ؛ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا. الحديث أخرجه مسلم في كتاب الصيام (2/811) باب: صيام النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في غيرِ رمضان، واسْتحباب ألا يُخلي شَهراً عن صَوم.
تقول عائشة -رضي الله عنها-: كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَفْطَرَ». وفي رواية: «كان رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ حتى نقول: لا يُفطر، ويُفْطر حتّى نقول: لا يصُوم، وما رأيتُه في شَهرٍ أكثر منه صياماً في شعبان»، وفي رواية: «كان يصُوم حتى نقولَ: قد صَام، قد صَام، ويُفْطِر حتى نقُول: قد أفْطر، قد أفْطَر»، وفي رواية: «كان يصُومُ شَعْبان كلّه، كان يصُوم شَعبان إلا قليلاً».
يُسْتحبّ ألا يُخْلي شَهْراً منْ صِيام
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
قال النووي: في هذه الأحاديث: أنه يُسْتحبّ أنْ لا يُخْلي شَهْراً منْ صِيام، وفيها: أنّ صوم النفل غير مختصٍّ بزَمانٍ مُعيّن، بل كل السنة صالحة له، إلا رمضان، والعيد والتشريق. وقولها: «كان يصُومُ شَعْبان كلَّه، كانَ يَصُومه إلا قليلاً»، الثاني تفسير للأوّل، وبيان أنّ قولها: «كلّه» أي: غالبَه. وقيل: كان يصُومه كلّه في وَقْتٍ، ويصَومُ بعضَه في سنةٍ أخْرى. وقيل: كان يصُوم تارةً مِنْ أوله، وتارة مِنْ آخره، وتارة بينهما، وما يخلي منه شيئاً بلا صيام، لكن في سنين.
تَخْصيص شَعْبان بكثْرةِ الصّوم
وقيل: في تَخْصيص شَعْبان بكثْرةِ الصّوم لكونه تُرفع فيه أعْمالُ العباد، وقيل غير ذلك. فإنْ قيل: سيأتي قريباً في الحديث الآخر «أنّ أفضلَ الصّوم بعد رمضان صوم المُحَرّم» فكيف أكثر منْه في شعبان دون المحرّم؟ فالجواب: لعلّه لمْ يَعْلم فَضْلَ المُحرّم إلا في آخِر الحياة، قبل التّمكّن مِنْ صَومه، أو لعلّه كان يَعرض فيه أعذارٌ تَمْنع من إكثار الصّومِ فيه، كسَفرٍ ومرضٍ وغيرهما. قال العلماء: وإنما لم يستكمل غير رمضان لئلا يظن وجُوبه. انتهى. قال الترمذي: «وَرُوِيَ عنْ ابْنِ المُبَارَكِ أَنَّهُ قَال في هذَا الحدِيثِ: هُوَ جَائِزٌ فِي كَلَامِ العَرَبِ إِذَا صَامَ أَكْثَرَ الشَّهْرِ، أَنْ يُقَالَ: صَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ، ويُقَالُ: قَامَ فُلَانٌ لَيلَهُ أَجْمَعَ، ولَعَلَّهُ تَعَشَّى واشْتَغَلَ بِبَعْضِ أَمْرِهِ، كَأَنَّ ابنَ المُبَارَكِ: قَدْ رَأَى كِلَا الحَدِيثَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ، يَقُولُ: إِنَّمَا مَعْنَى هذَا الحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ أَكْثَرَ الشَّهْرِ». فقولها: «كانَ يصُومُ شَعبان كلّه، كان يصُومه إلا قليلا» الثاني تفسيرٌ للأول، وبيان أن قولها «كله» أي: أكثره وغالبه. ووجه ذلك: أن اللفظ الثاني: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا» جاء مُفَسِّراً للفظ الأول: «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ». وهو قول الجمهور، وعليه أكثر شُراح الحديث. واستدلوا على ذلك بأحاديث فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكنْ يصوم شهراً كاملًا سوى رمضان.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
  • ومن ذلك:
أ- عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ». رواه البخاري (1969)، ومسلم (1156). وفي رواية لمسلم: «قَالَتْ: وَمَا رَأَيْتُهُ صَامَ شَهْرًا كَامِلًا، مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَمَضَانَ». وقيل: كان يصومه كله في وقْتٍ، ويصُوم بعضَه في سنةٍ أخْرى.
وقيل: كان يصوم تارة من أوله، وتارة من آخره، وتارة بينهما، وما يُخلّي منه شيئاً بلا صيام، لكن في سنين. وقيل: في تخصيص شعبان بكثرة الصّوم، لكونه تُرفع فيه أعمالُ العباد، وكان - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّ أنْ يُرفَعَ عملُه وهو صائمٌ، كما أنَّه شَهرٌ يَغفُلُ عنه كَثيرٌ مِن النَّاسِ بيْن رجَبَ ورَمَضانَ، كما بيَّن ذلك في رِواية النَّسائيِّ وأحمَدَ. وقيل غير ذلك.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
لم يستكمل - صلى الله عليه وسلم - غير رمضان
وقال العلماء: وإنّما لم يستكمل غير رمضان؛ لئلا يظن وجوبه، ولئلَّا يَلتبِسُ بالفَرائضِ. أمّا القول الثاني: فهو أنه في بعض الأحيان كان يصوم شعبان كلّه، وفي بعضها يصوم أغلبه. والمقصود: أن هذا كان باختلاف الأوقات: ففي بعض السنين صام النبي - صلى الله عليه وسلم - شعبان كاملًا، وفي بعضِها صام النّبي -[- أكثره. قال الحافظ بدر الدين العيني: قَالُوا: معنى: كُله: أَكْثَره، فَيكون مجَازاً. قلت: فِيهِ نظر من وُجُوه: الأول: أَن هَذَا الْمجَاز قَلِيل الِاسْتِعْمَال جدًّا، وَالثَّانِي: أَن لَفْظَة: كل، تَأْكِيد لإِرَادَة الشُّمُول، وتَفْسِيره بِالْبَعْضِ منَاف لَهُ، والثَّالِث: أَن فِيهِ كلمة الإضراب، وَهِي تنَافِي أَن يكون المُرَاد الْأَكْثَر، إِذْ لَا يبْقى فِيهِ حِينَئِذٍ فَائِدَة، والْأَحْسَن أَن يُقَال فِيهِ: إِنَّه بِاعْتِبَار عَاميْنِ فَأكْثر، فَكَانَ يَصُومهُ كُله فِي بعض السنين، وَكَانَ يَصُوم أَكْثَره فِي بعض السنين». «عمدة القاري شرح صحيح البخاري» (11/ 118). وهذا اختيار جماعة من شُراح الحديث أيضاً، منهم: الطيبي، وعليّ القاري، وهو قول بعض الحنابلة، ورجّحه بعض المعاصرين كالشيخ ابن باز رحمه الله.
واستدلوا على ذلك بأدلة: ا- عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: «لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ». رواه البخاري (1970). ب- عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ أَنَّ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ». رواه النسائي (2356). ج- عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ الْغَازِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَصِلَهُ بِرَمَضَانَ». رواه ابن ماجة (1649). د- عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عبدالرَّحْمَنِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ». رواه أحمد (26517)، والنسائي (2353).

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
فوائد الحديث
1- أنّه يستحب ألا يُخْلي شَهْراً منْ صيام.
2- وفيه: أنّ صوم النَّفل غير مُختصٍّ بزمانٍ معين، بل كلُّ السّنَة صالحة له، إلا رمضان والعيد والتشريق.
3- وأنَّ أعمالَ التطوُّعِ ليستْ مَنوطةً بأوقاتٍ مَعلومةٍ، وإنَّما هي على قدْرِ الإرادةِ لها والنَّشاطِ فيها.
4- وفيه: بَيانُ فضْلِ شَهرِ شَعبانَ، والحثُّ على إكثارِ الصِّيامِ فيه. 5- وفيه: مَشروعيَّةُ ألَّا يَخلُوَ شَهرٌ مِن الشُّهورِ عن صَومِ التَّطوُّعِ. 6- وأنّ المُداوَمةُ على العَملِ الصَّالحِ تُبلِّغُ العَبدَ إلى رَحمةِ اللهِ والنَّجاةِ مِن النارِ، وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - القُدوةَ في ذلك؛ فقد كان يُداوِمُ على العِباداتِ والطاعاتِ، ومِن ذلك صَومُ النَّفلِ فإنَّه غيرُ مُختَصٍّ بزَمانٍ مُعيَّنٍ.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png

ابوالوليد المسلم 01-03-2024 10:12 AM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

باب: في صَومِ سَرَرِ شَعبان


عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رضي اللهُ عنهمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ أَوْ لِآخَرَ: أَصُمْتَ مِنْ سُرَرِ شَعْبَانَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: «فَإِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ». الحديث رواه مسلم في الصيام (2/820) باب صوم سَرر شعبان، وفيه يَحكي الصَّحابيُّ عِمرانُ بنُ حُصَينٍ - رضي الله عنه - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سأَلَه -أو سَأَلَ رجلًا آخَرَ غيرَه وعِمرانُ يَسمَعُ، الشَّكُّ مِن مُطرِّفِ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ الشِّخِّيرِ أحدِ رُواةِ الحديثِ-: يا أبا فُلانٍ، صُمْتَ سَرَرَ هذا الشَّهرِ؟ فأمَرَه - صلى الله عليه وسلم - بقَضائِها بعْدَ عِيدِ الفطرِ وانتهاءِ صَومِ رمَضانَ، لتَستمِرَّ مُحافظَتُه على ما واظَبَ عليه مِن العِبادةِ، لأنَّ أحبَّ العمَلِ إلى اللهِ -تعالى- ما داوَمَ عليه صاحبُه.
قال: «فإذا أفْطرتَ فصُمْ يومين»، وفي رواية: «فإذا أفطرتَ منْ رمَضان، فصم يومين مكانه» ضبطوا «سَرر» بفتح السين وكسرها، وحكى القاضي ضمها، قال: وهو جمع «سرة» ويقال: أيضا سَرار وسرار بفتح السين وكسرها، وكله من الاستسرار، قال الأوزاعي وأبو عبيد وجمهور العلماء من أهل اللغة والحديث والغريب: المراد بالسّرر آخر الشهر، سُميت بذلك لاستسرار القمر فيها.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
معنى السرر في اللغة
قال القاضي: قال أبو عبيد وأهل اللغة: السرر آخر الشهر، قال: وأنكر بعضهم هذا، وقال: المراد وسط الشهر، قال: وسرار كلّ شيءٍ وسطه، قال هذا القائل: لم يأت في صيام آخر الشهر ندب فلا يحمل الحديث عليه، بخلاف وسطه فإنها أيام البيض. قال الهروي: والذي يعرفه الناس أن سرره آخره، ويعضد من فسّره بوسطه، الرواية السابقة في الباب قبله: «سرة هذا الشهر»، وسرارة الوادي وسطه وخياره، وقال ابن السكيت: سرار الأرض: أكرمها ووسطها، وسرار كل شيء: وسطه وأفضله، فقد يكون سرار الشهر من هذا. قال القاضي: والأشهر أن المراد آخر الشهر، كما قاله أبو عبيد والأكثرون. قال: وعلى هذا يقال: هذا الحديث مخالفٌ للأحاديث الصحيحة في النّهي عن تقديم رمضان بصومِ يومٍ ويومين، ويُجاب عنه بما أجاب المازري وغيره، وهو أنّ هذا الرجل كان مُعتاد الصيام آخر الشهر، أو نَذَره فتركه بخوفه من الدخول في النّهي عن تقدّم رمضان، فبينَ له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّ الصّوم المُعْتاد لا يدخل في النّهي، وإنما ننهى عن غير المعتاد، والله أعلم.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
اختيار البخاري
قلت: وهو اختيار البخاري؛ حيث ترجم على هذا الحديث: باب الصّوم مِنْ آخِر الشهر، قال الزين بن المُنيِّر: أطلق الشهر، وإنْ كان الذي يتحرّر من الحديث أنّ المراد به شهر مقيد، وهو شعبان إشارة منه إلى أن ذلك لا يختصّ بشعبان، بل يُؤخذ من الحديث الندب إلى صيام أواخر كلّ شهر، ليكون عادة للمُكلّف فلا يعارضه النّهي عن تقدّم رمضان بيوم، أو يومين لقوله فيه: إلا رجل كان يصوم صوماً فليَصمه اهـ.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
الجمعُ بين الحديثين
وقال القرطبي: «الجمعُ بين الحديثين مُمكن بحمل النّهي على مَنْ ليست له عادة بذلك، وحمل الأمر على مَن له عادة، حملاً للمُخاطب بذلك على مُلازمة عادة الخير، حتى لا يقطع، قال: وفيه إشارة إلى فضيلة الصّوم في شعبان، وأنّ صوم يومٍ منه يعدل صوم يومين في غيره، أخذاً من قوله في الحديث: «فصم يوما مكانه» يعني مكان اليوم الذي فوته من صيام شعبان. اهـ.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
فوائد الحديث
  • كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُكثِرُ مِن الصَّومِ في شَهْرِ شَعبانَ، وكان يَحُثُّ أصحابَه على الصِّيامِ فيه.
  • سَرر الشهر آخِرَ الشَّهرِ، وسُمِّي بذلك لاسْتِسرارِ القَمرِ فيها، أي: استتارِه، وهي لَيلةُ الثَّامنِ والعِشرينَ والتاسع والعِشرين، والثَّلاثينَ إذا كان الشَّهرُ كاملًا، وقيل: سَرَرُ الشَّهرِ هي وَسْطُ الشَّهرِ، فالسَّررُ جمْعُ سُرَّةٍ، وسُرَّةُ الشَّيءِ وَسْطُه، فالمرادُ الأيَّامُ البِيضُ: الثالثَ عشَرَ، والرابعَ عشَرَ، والخامسَ عشَرَ.
  • وفيه مَشروعيَّةُ قَضاءِ صَومِ التَّطوُّعِ.
  • وفيه: تَعاهُدُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأصحابِه بالنُّصحِ والحَثِّ على الطَّاعاتِ.
  • https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png

ابوالوليد المسلم 01-03-2024 10:17 AM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

– باب: إتْباعُ رَمَضَانَ بِصِيامِ سِتّةِ أيّامٍ مِنْ شَوّال


  • حث النبي صلى الله عليه وسلم المُسلمينَ على صِيامِ ستَّةِ أيَّامٍ مِن شوَّالٍ وبيَّن أنَّ مَن صامها مُتوالياتٍ أو مُتفرِّقاتٍ كانَ لَه مِن الأَجرِ مِثلُ ما يُعادِلُ صِيامَ العامِ كلِّه
  • صيام هذه الست بعد رمضان دليلٌ على شكر الصّائم لربّه تعالى على توفيقه لصيام رمضان وزيادة في الخَير
  • صيامُ الأيام السّتة ليس له وقتٌ محدّد مِنْ شوال بل يصومها المُسلم في أي يومٍ منْ أيام الشّهر وله كذلك أنْ يَصُومها متتابعة أو مُتفرّقة ولكن الأفضل أنْ يُبادِر إلى صيامها عَقِبَ عيد الفطر
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ». الحديث رواه مسلم في الصيام (2/822) باب: استحباب صوم ستة أيامٍ من شوال، اتباعاً لرمضان. صحابي الحديث أبي أيوب هو خالد بن زيد بن كليب الأنصاري، من الأنصار من بني غنم بن مالك بن النجار من الخزرج، شهد بيعة العقبة والمشاهد كلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي خصَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنزول في بيته عندما قدم إلى يثرب مهاجراً، وأقام عنده حتى بنى حُجَره ومسجده وانتقل إليها، توفي سنة 52 هـ.
حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على صِيامِ ستَّةِ أيَّامٍ مِن شوَّالٍ
قوله: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» يحث النبي - صلى الله عليه وسلم - المُسلمينَ على صِيامِ ستَّةِ أيَّامٍ مِن شوَّالٍ بعْدَ رَمضانَ، وبيَّن أنَّ مَن صامَ شَهرَ رَمضانَ، ثُمَّ صامَ بعْدَه ستَّةَ أيَّامٍ مِن شوَّالٍ مُتوالياتٍ أو مُتفرِّقاتٍ؛ لأنَّ الإتْباعَ يَصدُقُ على التَّوالي وعَلى التَّفرُّقِ، فمَن فَعَل ذلكَ، كانَ لَه مِن الأَجرِ مِثلُ ما يُعادِلُ صِيامَ العامِ كلِّه، وهذا مِن عَظيمِ فَضلِ اللهِ عَلى عِبادِه المُسلمينَ بمُضاعفةِ الأَجرِ لَهم. ويُؤخذ هذا من قولُه -تعالى-: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام: 160)، فشَهرُ رَمضانَ بمَنزلةِ عَشرةِ أَشهُرٍ، وصِيامُ ستَّةِ أيَّامٍ بعْدَ الفِطرِ تَمامُ السَّنةِ، فالعبد يستكمل بصيامها أجر صيام الدهر كله، وفي رواية أبي الشيخ: «جَعَلَ اللهُ الحَسَنةَ بعَشْر أمْثَالها: الشّهرُ بِعَشْرة أشْهر، وصيام ستة أيام بعد الشهر تمام السنة».

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
فضل الله -تعالى- على عباده
ومن فضل الله -تعالى- على عباده: تَتابعُ مواسم الخَيْرات، ومُضاعفة الحَسَنات، فالمؤمن يتقلّب في ساعاتِ عُمُره بين أنواع العبادات والقُربات، فلا يمضي ساعة من عمره؛ إلا ولله فيها وظيفةٌ مِنْ وظائف الطّاعات، وما إنْ يَفْرغ مِنْ عبادةٍ إلا ويشرع في عبادةٍ أخرى، فبعد انتهاء رمضان تأتي فضيلة صيام ستة أيام منْ شوال، ومَنْ صام رمضان ثمّ أتبعه ستًّا منْ شوال، كان كصيام الدهر. وصيام هذه الست بعد رمضان دليلٌ على شكر الصّائم لربّه -تعالى- على توفيقه لصيام رمضان، وزيادة في الخَير، كما أنّ صيامَها دليلٌ على حُبّ الطاعات، ورغبة في المواصلة في طريق الصّالحات والقربات.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
صيام شوال وشعبان كصلاة السُّنَن الرّواتب
وذكر الحافظ ابن رجب -رحمه الله في شرح هذا الحديث ما حاصله-: أن صيام شوال وشعبان كصلاة السُّنَن الرّواتب قبل الصلاة المَفْروضة وبعدها، فيكمّل بذلك ما حَصَل في الفَرْض منْ خَلَلٍ ونَقْص، فإنّ الفرائض تُكمّل بالنّوافل يوم القيامة، وأكثر الناس في صيامه للفَرْض نَقْصٌ وخَلل، فيَحتاجُ إلى ما يَجْبره من الأعمال.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
علامة على قَبَول صوم رمضان
وقال أيضا: إنّ معاودة الصيام بعد صيام رمضان، علامة على قَبَول صوم رمضان، فإن الله -تعالى- إذا تقبّل عملَ عبد، وفّقه لعملٍ صَالحٍ بعده، كما قال بعضهم: ثواب الحَسَنة الحَسَنة بعدها، فمَن عَمل حَسنة ثمّ أتبعها بحسنةٍ بعدها، كان ذلك علامة على قَبول الحَسنة الأولى، كما أنّ مَنْ عَمِل حَسَنة ثم أتبعها بسيئة كان ذلك علامة ردّ الحسنة وعدم قبولها.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
ليس له وقتٌ محدّد مِنْ شوال
وصيامُ الأيام السّتة ليس له وقتٌ محدّد مِنْ شوال، بل يصومها المُسلم في أي يومٍ منْ أيام الشّهر، في أوله، أو في أثنائه أو في آخره، وله كذلك أنْ يَصُومها متتابعة أو مُتفرّقة، ولكن الأفضل أنْ يُبادِر إلى صيامها عَقِبَ عيد الفطر، وأن تكونَ مُتتابعة -كما ذكر أهلُ العلم-، لأنّ ذلك أبلغ في تحقيق «الإتباع» الذي جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ثمّ أتْبَعه ستاً..»، كما أنّه مِنَ المُسابقة إلى الخيرات، والمسارعة في الطاعات، الذي جاءت النصوص بالتّرغيب فيه، والثّناء على فاعله. وهو أيضاً مِنَ الحَزَم الذي هو مِنْ كمالِ العبد، فإن الفُرَص لا ينبغي أنْ تُفوّت، والمرء لا يدري ما يَعْرض له منْ شواغل وقواطع، تَحُول بينه وبين العمل، فإنْ أخّرها أو فرَّقها على الشهر، حصلت له الفضيلة أيضاً.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
الكلام على صحة الحديث
الحديث رواه الإمام مسلم في «الصحيح»: عن سَعْد بْنِ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْحَارِثِ الْخَزْرَجِيِّ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فهو مِنْ طريق سَعْد بْنِ سَعِيدِ بْنِ قَيْس، وقد ضعّفه بعضُ أهلِ العلم، لضَعف حفظه. قال الترمذي -رحمه الله تعالى-: «وَسَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ هُوَ أَخُو يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الحَدِيثِ فِي سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ». «سنن الترمذي» (3 / 123). ومن هؤلاء الإمام أحمد، حيث قال -رحمه الله تعالى-: «سعد بن سعيد أخو يحيى بن سعيد الأنصاري ضعيف الحديث، وعبد ربه بن سعيد هو أخو يحيى بن سعيد جميعاً ثقتان». «العلل ومعرفة الرجال» (1 / 513). ورأى ابنُ حبان أنّ ضَعفه ووهمه ليس بالفَاحش، حيثُ قال -رحمه الله تعالى-: «وكان يخطىء لم يفحش خطأه، فلذلك سلكناه مسلك العدول». «الثقات» (6 / 379). ونحوه قول ابن عدي، حيث قال -رحمه الله تعالى-: «ولسعد بن سعيد أحاديث صالحة تقرب من الاستقامة، ولا أرى بحديثه بأسا بمقدار ما يرويه». «الكامل» (4 / 389).
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وأما آخرون، فقبلوا حديثه، فقد وثّقه ابن سعد، فقال -رحمه الله تعالى-: «وكان ثقة قليل الحديث دون أخيه». «الطبقات الكبرى»، وقد اعتمده مسلم كما نرى في هذا الحديث، وقد ساق له البخاري حديثاً مُسْتشهداً به (1482). وقال الذهبي -رحمه الله تعالى-: «سعد بن سعيد الأنصاري أخو يحيى، حسنُ الحديث تابعي، ضعّفه أحمد وابن معين». «المغني» (1 / 254)، ومثل هذا الراوي غايته أنه صَدوق لكن يهم، كما قاله الحافظ ابن حجر في «تقريب التهذيب»، ومنْ كان هذا حالُه؛ لا يهدر حديثه كله، بل يُقبل من حديثه ما تبيّن منه أنّه لمْ يهم ولم يخطئ فيه. والإمام مسلم مِنْ أئمّة علم الحديث؛ فإخراجه لحديث سعد في «الصّحيح» دليلٌ على أنه ترجّح لديه صحة هذه الرواية. وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: «سلّمنا ضعفه، لكنْ مسلم إنّما احتجّ بحديثه؛ لأنه ظَهرَ له أنه لمْ يُخْطىء فيه، بقَرائنَ ومتابعات، ولشواهد دلته على ذلك، وإنْ كان قد عرف خطؤه في غيره، فكون الرجُل يُخطىء في شيءٍ؛ لا يَمْنع الاحتجاج به، فيما ظهر أنّه لم يخطىء فيه. وهكذا حُكْم كثيرٍ من الأحاديث التي خرّجَاها، وفي إسنادها مَنْ تُكلّم فيه من جهة حفظه». «تهذيب السنن» (3 / 1216).

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
قرائن تدل على حفظ سعد له
وهذا الحديث قد احتفت به قرائن تدل على حفظ سعد له، وعدم وهمه فيه، فقد أخذه عنه عددٌ من الحفّاظ وقبلوه منه، ورووه عنه. قال ابن عدي -رحمه الله تعالى-: «حديث سعد بن سعيد عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب: «من صام رمضان...» فهو مشهور، ومدار هذا الحديث عليه، قد حدّث به عنه: يحيى بن سعيد أخوه، وشعبة والثوري، وابن عيينة وغيرهم من ثقات الناس. «الكامل» (4 / 388). وقال الدارقطني -رحمه الله تعالى-: «يرويه جماعة من الثّقات الحفّاظ، عن سعد بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيّوب. منهم: ابن جريج، والثّوريّ، وعمرو بن الحارث، وابن المبارك، وإسماعيل بن جعفر، وغيرهم». «العلل» (6 / 107). كما قد قوّاه أهل العلم أيضاً، بمتابعات وشواهد، يُنْظر تفصيلها بمظانّها.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png


ابوالوليد المسلم 03-03-2024 12:00 AM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

– باب: تَرْكُ صِيامِ عَشْرِ ذِي الحِجّة


  • شَهرُ ذي الحِجَّةِ منَ الأَشهُرِ الحُرمِ وفيهِ الأيَّامُ العَشرُ والعملُ الصَّالحُ فيها له فَضلٌ عظيمٌ
  • الصّيام مِنْ أفضل الأعمال وأبرّها وهو داخلٌ في العمل الصالح المُسْتحب في هذه الأيام المباركة
عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَائِماً فِي العَشْرِ قَطُّ. الحديث رواه مسلم في الاعتكاف (2/833) باب: صوم عَشر ذي الحجة، وفيه تُخبِرُ أمُّ المُؤمِنينَ عائشةُ -رضي الله عنها- أنَّها ما رأتْ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صائمًا في العَشْرِ الأوائلِ مِن ذي الحِجَّةِ، وَقالت في رِوايةٍ بعدها أخرَجَها مسلِمٌ: «أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لَم يَصُمِ العَشرَ»، والمُرادُ بالعَشرِ هاهُنا: الأيَّامُ التِّسعةُ مِن أوَّل ذي الحِجَّةِ، وذلك لأنَّ يومَ العيدِ يحرُمُ صيامُه كما هو معلوم.
لكن قد ثبت أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يصومها، وثبت ما يدلّ على أنّه يُستحب صيام الأيام التسعة الأولى منْ ذي الحجّة، وعلى ذلك جماهير أهل العلم، وهذه بعض الأحاديث في ذلك: ما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ، يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟ قال: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ ومَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ». رواه البخاري (969)، وأبو داود (2438) واللفظ له، والترمذي (757)، وابن ماجة (1727).

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
الصّيام مِنْ أفضل الأعمال وأبرّها
ولا شكّ أنّ الصّيام مِنْ أفضل الأعمال وأبرّها، وهو داخلٌ في العمل الصالح المُسْتحب في هذه الأيام المباركة، بنص هذا الحديث، وقال الشوكاني -رحمه الله-: «تَقَدَّمَت أَحَادِيثُ تَدُلُّ علَى فَضِيلَةِ العَمَلِ فِي عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ عَلَى الْعُمُومِ، والصَّوْمُ مُنْدَرِجٌ تَحْتِهَا». «نيل الأوطار» (4/283). وما جاء في فَضْلِ صِيامِ يومِ عَرَفةَ لغَيرِ الحاجِّ، وهو ما رَواه مسلِمٌ مرفوعاً: «صيامُ يومِ عَرَفةَ، أحتَسِبُ على اللهِ، أنْ يُكفِّرَ السَّنةَ الَّتي قبلَه، والسَّنةَ الَّتي بعدَه»، واستحبابه متأكّد، وفضله عظيم. ما روى هُنَيْدَةَ بن خالد - رضي الله عنه - عن امرأته: عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عن الجميع، قالت: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ». قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: «إسناده صحيح» في «صحيح سنن أبي داود».

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
توجيه أهل العلم لحديث عائشة -رضي الله عنها
أمّا توجيه أهل العلم: لحديث عائشة -رضي الله عنها- أنّها ما رأتْ النّبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم في العَشر من ذي الحجّة. فللعلماء في هذه المسألة أقوال، منها:
  • أولا: أن عائشة -رضي الله عنها- أخبرتْ بما عَلمت، وأخبرَ غيرها بخلافِ خَبرها، ومَن عَلِم حُجة على من لم يعلم. والمثبت مقدم على النافي.
  • ثانيا: أنّ القولَ مُقدّم على الفعل، وحديث ابن عباس من القول، وحديث عائشة منَ الفعل، فيقدّم القولُ لاحتمال خُصُوصية الفعل، أو لحُصول عذر، ونحوه.
قال العلامة الألباني -رحمه الله-: «القول الصّادر من الرسُول -عليه السلام- المُوجّه إلى الأمّة هو شَريعة عامة، أمّا الفعل الذي يفعله هو، فيمكن أنْ يكونَ شريعة عامّة حينما لا يُوجد مُعارض له، ويمكن أنْ يكون أمراً خاصّاً به - صلى الله عليه وسلم ».
  • ثالثا: يحتمل أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - تَرَك صيام هذه الأيام لعارض، من سفرٍ أو مرض أو شغل ونحوه، فحدّثت عائشة -رضي الله عنها- بما رأته من ذلك.
قال النووي -رحمه الله-: «وأَمَّا حَدِhttps://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
يثُ عائِشَةَ قالتْ: «ما رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَائِماً فِي الْعَشْرِ قَطُّ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «لَمْ يَصُمْ الْعَشْرَ»، رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، فقالَ العُلَمَاءُ: وهُوَ مُتَأَوِّلٌ علَى أَنَّها لَمْ تَرَهُ، ولَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَرْكُهُ في نَفْسِ الْأَمْرِ، لِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَكُونُ عِنْدَهَا فِي يَوْمٍ مِنْ تِسْعَةِ أَيَّامٍ، والْبَاقِي عِنْدَ بَاقِي أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ -رضي الله عنهن-، أَوْ لَعَلَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَصُومُ بَعْضَهُ في بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وكُلَّهُ في بَعْضِها، ويَتْرُكُهُ فِي بَعْضِها لِعَارِضِ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ». «المجموع» (6/441).
  • رابعا: أنْ يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يترك صيام هذه الأيام أحياناً؛ لأنّه كان يحبّ أنْ يفعل العمل ويتركه، خشية أنْ يفرض على الأمة، كتركه صلاة التراويح جماعة بأصحابه في رمضان، وربّما ترك الشيء وسهّل فيه شفقة على الأمة.
  • https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
فقد روت عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: «ما رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ، وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا، وإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيَدَعُ الْعَمَلَ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ». رواه البخاري (1128)، ومسلم (718). قال الحافظ -رحمه الله-: «واسْتُدِلَّ بِهِ - أي بحديث ابن عباس - عَلَى فَضْلِ صِيَامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِانْدِرَاجِ الصَّوْمِ فِي العَمَلِ، ولَا يَرد عَلَى ذَلِكَ ما رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وغَيْرُهُ: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَائِماً الْعَشْرَ قَطُّ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ كَانَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ، وهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَهُ، خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ». «فتح الباري» (2/460).
  • خامسا: أنّها نفت صيامه - صلى الله عليه وسلم - على وجه الوجوب: قال الأثرم: فأمّا حديث عائشة الأول، فإنّه ليس فيه بيان مذهب، وذلك أنّها لمّا حَكت أنّها لمْ تَره صائم العشر، فقد يكون ذلك على أنّها لم تَرَه هي، ورآه غيرها، وذلك أنّه إنّما كان يكون عندها في الأيام يوماً، وقد يكون ذلك على أنْ يكون لمْ يَصمْ العَشر على أنّه ليس بواجب، ومَنْ صَامه فله فضل، فليس في هذا بيان، «ناسخ الحديث ومنسوخه» (ص 180).
  • سادسا: تأويل حديث حفصة -رضي الله عنها- المُثْبت للصوم: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم تسع ذي الحجة»، بأنّ المراد به اليوم التاسع فقط.
  • https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
ويُجاب عنه بأن الحديث عند النسائي بلفظ: «كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ العَشْرَ»، سنن النسائي (2418).
هل صام النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر ذي الحجة كاملة
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: هل ورد عن الرسُول - صلى الله عليه وسلم - صيام عشر ذي الحجة كاملة؟ فأجاب: «ورد عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ما هو أبلغُ مِنْ أنْ يَصُومها، فقد حثّ على صِيامها بقوله -عليه الصّلاة والسلام-: «ما مِنْ أيامٍ العَملُ الصّالح فيهنّ أحبّ إلى الله، مِنْ هذه الأيام العشر»، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجُلٌ خرج بنفسه وماله فلمْ يَرجع منْ ذلك بشيء»، ومِنَ المعلوم أنّ الصّيام من أفضل الأعمال الصّالحة.
فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه
أمّا فعله - صلى الله عليه وسلم - هو بنفسه: فقد جاء فيه حديثان: حديث عائشة، وحديث حفصة، أمّا حديث عائشة فقالت: «ما رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - صام العشر قط»، وأمّا حديث حفصة فإنّها تقول: «إنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - لمْ يكنْ يدع صيامها»، وإذا تعارض حديثان، أحدهما: يثبِت، والثاني: ينفي، فالمثبتُ مُقدّم على النافي، ولهذا قال الإمام أحمد: حديث حفصة مثبت، وحديث عائشة نافي، والمثبت مقدم على النافي. وأنا أريد أن أعطيك قاعدة: إذا جاءت السّنُّة في اللَّفظ، فخُذْ بما دلَّ عليه اللّفظ، أمّا العمل فليس في الشّرط أنْ نَعلم أنّ الرسُول فعله، أو فعله الصّحابة، ولو أنّنا قلنا: لا نَعملُ بالدليل، إلا إذا علمنا أنّ الصّحابة عَمِلوا به، لفاتَ علينا كثيرٌ منَ العبادات، ولكنْ أمامنا لفظ، وهو حُجّة بالغة واصل إلينا، يجبُ علينا أنْ نَعْملَ بمدلوله، سواءً علمنا أنّ الناسَ عَمِلوا به فيما سبق، أمْ لم يعملوا به». «لقاء الباب المفتوح» (92 /12).
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
فوائد الحديث
1- الحَديثُ قد يُفهَمُ مِنه كَراهةُ صومِ العَشرِ، لكن قدْ جاءَ ما يدُلُّ على فَضلِ العَملِ الصَّالحِ- ويَدخُلُ فيهِ الصَّومُ- في هَذه العَشرِ. 2- عَدمُ صِيامِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - هَذه الأَيَّامَ، لاحْتمالِ أنْ يَكونَ ذلكَ لكونِه كان يَترُكُ العَملَ وهوَ يُحِبُّ أنْ يَعمَلَه، خَشيةَ أنْ يُفرَضَ عَلى أُمَّتِه، أو أنّه كان يَصُومها أحياناً. 3- شَهرُ ذي الحِجَّةِ منَ الأَشهُرِ الحُرمِ، وفيهِ الأيَّامُ العَشرُ في أوَّلِه، والعملُ الصَّالحُ فيها له فَضلٌ عظيمٌ، وفيها يومُ عَرفةَ في التَّاسعِ مِنها، وفيها يومُ عيدِ الأَضْحى يومُ العاشرِ، وقد وَردتْ رِواياتٌ في فَضلِها.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png


ابوالوليد المسلم 03-03-2024 12:04 AM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

– باب: صوم يوم عرفة


  • صيام داود عليه السلام مِن أحَبِّ الصِّيامِ إلى اللهِ عزَّوجلَّ كما جاء في الصَّحيحَينِ وذلك أنَّه ليس صَوماً مُستمِرّاً ولا إفطاراً مُستمِرّاً
  • كانَ النَّاسُ يَسألونَ عن هَديِ النبي صلى الله عليه وسلم فِيما أَشْكلَ عَليهِم أو ما أَحبُّوا أنْ يَعلَموه حتَّى يَقتَدوا به ويَفوزوا بالفلاحِ
  • كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ للمسلمِ أنْ يَفعَلَ مِن الأعمالِ ما يُطِيقُها ويُداوِمُ عليها
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ: رَجُلٌ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: كَيْفَ تَصُومُ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ - رضي الله عنه - غَضَبَهُ، قَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، وَغَضَبِ رَسُولِهِ، فَجَعَلَ عُمَرُ - رضي الله عنه - يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ، حَتَّى سَكَنَ غَضَبُهُ، فَقَال عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ؟ قَالَ: «لَا صَامَ ولَا أَفْطَرَ» أَوْ قَالَ: «لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ»، قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْماً؟ قَال: «ويُطِيقُ ذَلِكَ أَحَدٌ؟»، قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْماً، وَيُفْطِرُ يَوْماً؟ قَالَ: «ذَاكَ صَوْمُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام»، قَال: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْماً، وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: «وَدِدْتُ أَنِّي طُوِّقْتُ ذَلِكَ»، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلَاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، ورَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، والسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ، أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ». الحديث رواه مسلم (2/818-819) باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كلّ شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
يَرْوي الصحابي أبو قَتادةَ الأنصاريُّ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن عادته في صَومِه، وفي رِوايةِ أحمَدَ: ذُكِر أنَّ السَّائلَ كان أعرابيًّا، وهم مَنْ يَسكُنُ الصَّحراءَ، فغَضِب - صلى الله عليه وسلم -، وظَهَر أثرُ الغضبِ على وجْهِه مِن قوْلِ الرَّجلِ وسُؤالِه، ولعلَّ سَببَ غضَبِه: أنَّه كَرِهَ مَسألتَه؛ لأنَّه يَحتاجُ إلى أنْ يُجيبَه، ويَخْشى مِن جَوابِه مَفسَدةً، وهي أنَّه ربَّما اعتقَد السَّائلُ وُجوبَ عمله - صلى الله عليه وسلم -، أو أنْ يستقَلَّه ويراه قليلا، أو يقتصَرَ عليه وحالُه يَقْتضي أكثرَ منه.
اقتصار النبي على صيامه
وإنَّما اقتَصَر على صيامه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، لشُغلِه بمَصَالحِ المُسلِمين، والقيام بحُقوقِهم، وحُقوقِ أزواجِه، وحقوق أضيافِه والوافدينَ إليه، فلا يَقتديَ به كلُّ أحدٍ في ذلك، وكان حقُّ السَّائلِ أنْ يقولَ: كمْ أصُومُ؟ أو: كيْف أصومُ؟ فيخُصَّ السُّؤالَ بنفْسِه، ليُجِيبَه بما تَقْتضيهِ حالُه، كما أجاب غيرَه بمُقْتضى أحوالِهم. وأيضاً: لم يكُنْ صَومُه - صلى الله عليه وسلم - على مِنوالٍ واحدٍ، بلْ كان يَختلِفُ باختلافِ الأحْوالِ، فتارةً يُكثِرُ الصَّومَ، وتارةً يُقلِّلُه، ومِثلُ هذا الحالِ يَتعذَّرُ جَوابُ السُّؤالِ فيه.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
رضِينا باللهِ ربًّا وبالإسلامِ دِينًا وبمُحمَّدٍ رسولًا
فلمَّا رأى عُمرُ - رضي الله عنه - غضَبَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال -أدباً وإكْراماً له صلى الله عليه وسلم ، وشَفقةً على السَّائلِ، واعتذاراً عنه، واسْترضاءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم -: «رَضِينا باللهِ ربًّا، وبالإسلامِ دِينًا، وبمُحمَّدٍ رسولًا». أي: رَضِينا بتَدبيرِ الله وقَضائِه لنا، واتَّخذَناه دُونَ ما سِواهُ إلَهَنا ومَعبودَنا، ورَضِينا بالإسلامِ دِينًا، فاختَرْناه مِن بيْنِ سائِرِ الأديانِ، فدخَلنا فيه راضِين مُسْتَسلِمين، ولم نَبتغِ غيرَ الإسلامِ دِينًا، ورَضِينا بِمحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - رَسولًا، وبجَميعِ ما جاء به مِن عندِ اللهِ -تعالى-، وقَبِلنا ذلك بالتَّسليمِ والانْشراحِ، فصدَّقناه فيما أخْبَر، وأطعناه فيما أمَرَ، واجتنَبْنا ما عنه نهَى وزجَرَ، وأحبَبْناه واتَّبعْناه ونَصَرْناه. ثم قال عُمر: «نعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، وَغَضَبِ رَسُولِهِ، فَجَعَلَ عُمَرُ - رضي الله عنه - يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ، حَتَّى سَكَنَ غَضَبُهُ» أعوذ بالله، أي: ألجأُ وأستجيرُ بالله، بما يرضَى به عنِّي، ممَّا يَسخَط ويغضَب به عليَّ، وكذا اسْتجار بالله مِنْ غَضب رسوله - صلى الله عليه وسلم -، عندما شَعروا أنّهم أغْضبوه؛ لأنّهم يعلمون أنّ غَضبه مظنة الهلاك، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يغضب إلا إذا انْتُهكت حُرمات الله -تعالى.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
صِيام الدَّهرِ
فلمَّا هَدَأ غَضبُه - صلى الله عليه وسلم - سَأله عُمرُ -كما في رِوايةٍ أُخرى لمُسلمٍ- بعبارة أكثَرَ إحكاماً وتَعقُّلًا، وأقرَبَ إلى الحقِّ، فجَعَله سُؤالًا عامًّا يَنتفِعُ به جَميعُ النَّاسِ، فسَأله عن صِيامِ الدَّهرِ، وهو صِيامُ كلِّ أيَّامِ السَّنةِ مُتَّصِلةً، وكيْف حالُ صائمِه، وهلْ هو مَحمودٌ أو مَذمومٌ؟ فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا صامَ ولا أفطَر؟»، أو قال: «ما صَامَ وما أفطَر». والمعنى: لم يُكابِدْ سَوْرةَ الجُوعِ وحَرَّ الظَّمأِ، لاعْتيادِه الصَّومَ حتَّى خَفَّ عليه، ولم يَفتقِرْ إلى الصَّبرِ على الجُهدِ الَّذي يَتعلَّقُ به الثَّوابُ، فصار كأنَّه لم يَصُمْ، وحيث إنَّه لم يَنَلْ راحةَ المُفطِرين ولذَّتَهم فكأنَّه لم يُفطِرْ. وقيل: مَعناه الدُّعاءُ عليه، زجْراً له، ويجوزُ أنْ يكونَ إخبارًا، يعني أنَّ هذا الشَّخصَ كأنَّه لم يُفطِرْ، لأنَّه لم يَأكُلْ شيئًا، ولم يَصُمْ، لأنَّه لم يكُنْ بأمرِ الشَّارعِ.
صيام المسلم يَومينِ ويُفطِرُ يوماً
ثمّ سَأله عن أنْ يَصومَ المسلم يَومينِ ويُفطِرُ يوماً، فيكون صَومِه ضِعفَ فِطرُه، ويَجعَلَ العبادةَ غالِبةً على العادةِ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ومَن يُطِيق ذلك؟!»، أي: ومَن يَستطيعُ فِعلَ ذلك؟ فيَقْوى ويُتابِعُ الصِّيامَ، ويَقومُ بما عليه مِن واجباتٍ أُخرى في يومِه؟! وكأنَّه كَرِهه، لأنَّه ممَّا يُعجَزُ عنه في الغالِبِ، فلا يَرغَبُ فيه، وديننا دِينٌ سَهلٌ سمْحٌ. وقيل: فيه إشارةٌ إلى أنَّ العلَّةَ في النَّهيِ: إنَّما هو الضَّعفُ، فيكونُ المعنى: إنَّه إنْ أطاقَه أحدٌ فلا بأْسَ.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
صيام الإنسانُ يومًا ويُفطِرُ يَومينِ
ثمّ سَأله عن أنْ يَصومَ الإنسانُ يومًا ويُفطِرُ يَومينِ، فيكون صَومُه ضِعفَ فِطرِه، مُستمِرًّا على ذلك حَياتَه، فأجابه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ليْتَ أنَّ اللهَ قوَّانا لفِعلِ ذلك، فكأنَّه استَحسَنَ هذا النَّوعَ مِن الصِّيامِ وتَمنَّاه، قيل: إنَّ هذا التَّمنِّيَ لغَيرِه مِن أمَّتِه، فقدْ كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُطيقُه ويُطيقُ أكثَرَ منه، فقدْ ثبَت عنه - صلى الله عليه وسلم - الوِصالُ في الصَّومِ، وقيل: مَعناه أنَّ الرَّسولَ - صلى الله عليه وسلم - لانشِغالِه بأهلِه وضُيوفِه، وبأعمالِه وبالنَّاسِ، يَجعَلُه لا يَصومُ هذا المِقدارَ باستمرارٍ، وليْس لضَعْفِ جِبلَّتِه عن احتمالِ الصِّيامِ، أو قِلَّةِ صَبرهِ عن الطَّعامِ في هذه المُدَّةِ.
صيام الإنسان يوماً ويُفطِرُ يوماً
ثم سَأله عن أنْ يَصومَ الإنسانُ يوماً ويُفطِرُ يوماً، وتكون هذه عادتَه، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ذَاكَ صَوْمُ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَام»، وفي لفظ: «ذاك صَومُ أخي داودَ -عليه السَّلامُ»، وهذا كِنايةٌ عن تَرغيبِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فيه، فهو صِيامٌ في غايةٍ مِن الاعتدالِ، ومُراعاةٍ لِجانبَي العبادةِ والعادةِ بأحسَنِ الأحوالِ، وهو مِن أحَبِّ الصِّيامِ إلى اللهِ -عزَّ وجلَّ-، كما جاء في الصَّحيحَينِ، وذلك أنَّه ليس صَوماً مُستمِرّاً، ولا إفطاراً مُستمِرّاً.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
صِيام ثَلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ
ثمَّ أخبَرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ صِيامَ ثَلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ، وسواء كان صِيامِ الأيَّامِ البِيضِ، وهي: الثَّالثَ عشَرَ، والرَّابعَ عشَرَ، والخامسَ عشَرَ، أو على الإطلاقَ، فيَصومُ الثَّلاثةَ في أوَّلِه، أو أوسَطِه، أو آخِرِه، على التَّوالي أو مُتفرِّقة، وصيامَ رمَضانَ مِن كلِّ سَنةٍ، أنَّ هذا يَعدِلُ صِيامَ الدَّهرِ كلِّه، أي: أنَّ اللهَ تَفضَّلَ بكَرمِه بأنْ ضاعَفَ أجْرَ كلِّ عمَلٍ مِن أعمالِ الخيْرِ والطَّاعةِ، مِن الأقوَالِ والأفعالِ إلى عَشْرةِ أمثالِه، فالحسَنةُ تُضاعَفُ إلى عشْرِ حسَناتٍ مِثلِها، فكذلك صِيامُ اليوْمِ يُكتَبُ بصِيامِ عَشَرَةِ أيَّامٍ، فإذا صام ثَلاثةَ أيَّامٍ فكأنَّه صامَ ثَلاثينَ يوماً، وهي شَهْرٌ كامِلٌ، فيكونُ بصِيامِه ثَلاثةَ أيَّامٍ كلَّ شهْرٍ، كأنَّه صامَ السَّنةَ كلَّها، مع صِيامُ الفريضةِ في شَهرِ رَمضانَ.
صَوم يومِ عرَفةَ
ثم سَأله عن صَومِ يومِ عرَفةَ، فأجابه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ مَن صامَه يَغفِرُ اللهُ له ذُنوبَ سَنتينِ: السَّنةِ الماضيةِ والسَّنةِ الآتيةِ، وهذا الصَّومُ يكونُ لغَيرِ الحاجِّ، فإنَّ الحاجَّ يُكرَهُ له صِيامُ يَومِ عَرَفةَ؛ وذلِكَ لأنَّ الصَّومَ في هذا اليَومِ يُضعِفُ الحاجَّ عنِ الوُقوفِ والدُّعاءِ، وأمَّا غَيرُ الحاجِّ فإنَّه مُخاطَبٌ بهذا الحَديثِ في الفَضلِ والنَّوالِ مِن اللهِ -عزَّ وجلَّ-، والمُرادُ بيَومِ عَرَفةَ: هو يومُ التَّاسِعِ مِن ذي الِحجَّةِ، سُمِّي بذلِكَ؛ لأنَّ فيه رُكناً مِن أرْكانِ الحجِّ، وهو الوُقوفُ بعَرَفةَ بمكَّةَ.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
صَوم يومِ عاشوراءَ
ثم سَأله عن صَومِ يومِ عاشوراءَ، وهو يومُ العاشرِ مِن شَهرِ المُحرَّمِ، وهو اليومُ الَّذي أنْجى اللهُ فيه مُوسى -عليه السَّلامُ- وقَومَه مِن فِرعَونَ، فَصامَه مُوسى شُكراً للهِ على نِعمَتِه في إهْلاكِ الظَّالِمينَ، فأخبَرَ -[- أنَّ صِيامَه يَغفِرُ اللهُ به ذُنوبَ السَّنةِ الماضيةِ، وهذا التَّكفيرُ يَشمَلُ صَغائرَ الذُّنوبِ دونَ كَبائرِها، وأمَّا الكَبائرُ فلَا يُكَفِّرُها إلَّا التَّوبةُ، أو رَحمةُ اللهِ، أو يُرْجَى تَخفِيفُ الكَبائرِ، وقيل: تَكْفيرُ السَّنةِ الآتِيةِ أنْ يَحفَظَه مِن الذُّنوبِ فيها، وقيلَ: أنْ يُعطِيَه مِن الرَّحمةِ والثَّوابِ قَدْرًا يكونُ كفَّارةً للسَّنةِ الماضِيةِ، والآتيةِ إذا جاءتْ ووقَعَ في ذُنوبٍ.
فقه عُمرَ - رضي الله عنه
وهذه الأسئلةُ مِن عُمرَ - رضي الله عنه - تدُلُّ على فِقهِه، فقدْ هَدَّأ مِن غضَبِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أوَّلًا، ثمَّ سَأَله عن أنواعٍ مِن الصِّيامِ تَشمَلُ كلَّ ما يُمكِنُ أن يَصومَه المسلِمُ وعرَفَ أحكامَها، مع بيانِ ما يَصِحُّ منها وما لا يَصِحُّ، وبيانِ فَضلِ بعضِها، فعلَّمَنا كلَّ ذلك، فمَن شاء صامَ ما يَصِحُّ، ويَختارُ ما هو أوفَقُ لنَفسِه وقُدرتِه.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
صوم الدهر
الصيام كل يوم - عدا الأيام المنهي عن صيامها كالعيدين- يُسَمَّى في الاصطلاح الشرعي «صوم الدهر»، أو «صوم الأبد»، وقد اختلف أهل العلم في حكمه على أقوال، حتى اختلف أصحاب المذهب الواحد في هذه المسألة، وأصح ما جاء هو المنع من ذلك، فينهى عن صوم الدهر مطلقاً، إمّا على وجه الكراهة، كما هو مذهب الحنفية، واختيار ابن قدامة، وابن تيمية من الحنابلة خلافاً للمذهب، وهو اختيار اللجنة الدائمة للإفتاء (23/221)، أو على وجه التحريم، كما ذهب إليه ابن حزم، وجاء في «الدر المختار» (2/84) من كتب الحنفية، وهو الأصحّ. يقول ابن قدامة -رحمه الله-: «الذي يقوى عندي أنّ صوم الدهر مكروه، وإنْ لم يصم هذه الأيام - يعني العيد والتشريق- فإنْ صامها قد فعلَ مُحرّماً، وإنّما كره صوم الدهر؛ لما فيه من المشقة والضعف، وشبه التبتل المنهي عنه». «المغني» (3/53).، وقال ابن حزم -رحمه الله-: «لا يحلّ صوم الدهر أصلاً». «المحلى» (4/41).
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
ويستدل لهذا القول بما يلي: 1- قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ». رواه البخاري (1977) ومسلم (1159). 2- ما جاء عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جَاءَ ثَلاثُ رَهطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسأَلُونَ عَن عِبَادَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا أُخبِرُوا كَأَنَّهُم تَقَالُّوهَا، فَقَالًوا: وأَينَ نَحنُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَد غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُم: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي الَّليلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهرَ وَلَا أُفطِر، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَنتُمُ الَّذِينَ قلُتُم كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخشَاكُم للَّهِ وَأَتقَاكُم لَه، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَن رَغِبَ عَن سُنَّتِي فَلَيسَ مِنِّي». رواه البخاري (5063) ومسلم (1401). فدلّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: لكني أصوم وأفطر... فمن رغب عن سنتي، فليس مني». على أنّ صيام الدهر مُخالف لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه. 3- ما جاء عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: يَا عبداللَّهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا...إلى آخر الحديث. وفي رواية: فَقُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ». رواه البخاري (1975)، ومسلم (1159). ولا يصح الاستدلال بالنصوص العامة في فضل الصيام، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا». رواه البخاري (2840)، ومسلم (1153).فقد جاءت الأدلة السابقة بتخصيص صيام الدهر من عموم الاستحباب.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
فوائد الحديث
  • فضْلُ صَومِ يومِ الاثنينِ.
  • وفيه: فضْلُ صَومِ يومِ عاشوراءَ.
  • وفيه: فضْلُ صَومِ يومِ عرَفةَ.
  • وفيه: فضْلُ صَومِ شَهرِ رَمَضانَ.
  • وفيه: لُطفُ اللهِ -عزَّ وجلَّ- بعبادِه، والتَّيسيرُ عليهم، ورفْعُ المشقَّةِ والحرَجِ عنهم.
  • وفيه: النَّهيُ عن صَومِ الدَّهرِ.
  • وفيه: الزَّجرُ عن التَّشديدِ على النَّفسِ في العباداتِ بما لا تُطيقُ.
  • كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّ للمسلمِ أنْ يَفعَلَ مِن الأعمالِ ما يُطِيقُها ويُداوِمُ عليها، وكانَ النَّاسُ يَسألونَ عن هَديِه - صلى الله عليه وسلم - فِيما أَشْكلَ عَليهِم، أو ما أَحبُّوا أنْ يَعلَموه، حتَّى يَقتَدوا به ويَفوزوا بالفلاحِ.
  • https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png


ابوالوليد المسلم 03-03-2024 04:32 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

– باب: تَرْكُ صَومِ يَومِ عَرَفة للحَاجّ


  • الأَوْلى للحاجِّ أنْ يُفطِرَ يوم عرفة اسْتِقواءً على ما فيه مِن جَهْدٍ ففي الحَجِّ جِهادٌ ومَشَقَّةٌ أمّا المقيم فالصِّيامُ يومَ عَرَفَةَ مستحب ومتأكّد لما فيه مِن الأجر العظيمِ
عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الحَارِثِ -رضي الله عنها-: أَنَّ نَاسًا تَمَارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَائِمٌ، وَقَال: بَعْضُهُمْ لَيْسَ بِصَائِمٍ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ، فَشَرِبَهُ. صحابي الحديث: أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ بن حزن الهلالية، وهي لُبَابَة الكُبْرى، وهي زوجة العباس بن عبدالمطلب، ووالدة ابن عباس والفضل بن العباس -رضي الله عنهم-، وتُسمّى الكبرى، تمييزًا لها من أختٍ لها لأبيها تُعرف بالصغرى.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وهي أختُ ميمونة بنت الحارث زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأيضًا أخت أم المؤمنين وزوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت خزيمة، وهي أخت الصحابية لبابة الصغرى والدة خالد بن الوليد، وهي أخت الصحابية المهاجرة أسماء بنت عميس، وأيضاً: هي أخت سلمى بنت عميس زوجة حمزة بن عبدالمطلب، وهي التي ضربت أبا لهب بعمود فشجّته، حين رأته يضرب أبا رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في حجرة زمزم بمكة، على أثر وقعة بدر، وكان موت أبي لهب بعد ضربة أم الفضل له بسبع ليال. يقال: إنّها أول امرأة أسلمت بعد خديجة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزورها ويَقِيلُ عندها، وكانت من المُنْجبات، ولدت للعباس ستة رجال، لمْ تلدْ امرأة مثلهم، توفيت نحو 30 هـ في خلافة عثمان.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
صِيامِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ عَرَفَةَ
وفي هذا الحَديثِ: تُخبِرُ أمُّ الفضل بنتُ الحَارِثِ -رضي الله عنها- أنَّ النَّاسَ شَكُّوا في صِيامِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ عَرَفَةَ، فقال قومٌ: هو صائمٌ، وقال آخَرون: غيرُ صائمٍ، وذلك في حَجَّةِ الوَداعِ التي حَجَّها في السَّنةِ العاشرةِ مِن الهجرةِ. قولها: «أنّ ناسًا تَمَاروا» أي: اخْتلفوا. وفي البُخاري: «شَكَّ النَّاسُ يَومَ عَرَفَةَ، في صَوْمِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم ». قولها: «في صيام النّبي - صلى الله عليه وسلم -» هذا يُشعر بأنّ صَوم يوم عرفة كان مَعروفاً عندهم، مُعتاداً لهم في الحَضَر، وكأنّ مَنْ جَزَم بأنّه صائم، استند إلى ما ألفه مِنْ العبادة، ومَنْ جَزم بأنّه غيرُ صائم، قامتْ عنده قرينة كونه مُسافراً، وقد عُرف نهيه عن صوم الفَرْض في السّفر، فضلاً عن النّفل، قاله الحافظ. قولها: «فأرسلتُ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ»، وفي رواية البخاري: أنّ ميمونة بنت الحارث هي التي أرْسلت، فيَحتمل التّعدّد، ويَحْتمل أنّهما معاً أرْسلتا، فنُسب ذلك إلى كلٍّ منهما؛ لأنّهما كانتا أخْتين، فتكونُ ميمونة أرْسَلت بسُؤال أمّ الفضل لها في ذلك، لكشفِ الحال في ذلك، ويحتمل العكس، وسيأتي الإشارة إلى تعيين كون ميمونة هي التي باشرت الإرْسال. ولمْ يسمَّ الرسُول في طُرق حديث أمّ الفضل، لكن روى النسائي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، ما يدل على أنه كان الرسُول بذلك، ويقوّي ذلك أنّه كان ممّن جاء عنه أنّه أرسل إمّا أمّه، وإمّا خالته. (الفتح).
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وإرسالها للبن، للتَّأكُّدِ مِن الأمرِ وقَطْعِ الشَّكِّ باليقينِ. قولها: «وهو واقفٌ على بَعيره بعَرفة» قولها: «وهو واقفٌ على بَعيره بعَرفة»، وفي البخاري: «وهو واقِفٌ في المَوْقِفِ». زاد أبو نعيم في «المُستخرج» عن مالك: «وهو يَخطُبُ الناسَ بعَرفة». وللمُصنف في الأشْربة: «وهو واقفٌ عَشيّة عَرفة». ولأحمد والنسائي: من طريق عبدالله بن عباس عن أمه أمّ الفَضل: «أنّ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - أفْطَرَ بِعَرفة». قولها: «فشربه» زاد في حديث ميمونة «والناسُ يَنْظرون». أَرْسَلتْ مَيمونةُ -رضي الله عنها- إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بحِلَابٍ -وهو إناءٍ فيه لَبَنٌ- وهو واقِفٌ بعَرَفَةَ، وذلك لِتَتبيَّنَ به صِيامَه مِن فِطْرِه، فشَرِب منه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - والنَّاسُ يَنظُرون، فظَهَرَ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان مُفطِراً يومَ عَرَفَةَ، وأنَّ هذا ما يُشرَعُ للحاجِّ الواقِفِ بعَرَفَةَ.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
فوائد الحديث
  • من فوائد الحديث أنَّ الأَوْلى للحاجِّ أنْ يُفطِرَ يوم عرفة، اسْتِقواءً على ما فيه مِن جَهْدٍ، ففي الحَجِّ جِهادٌ ومَشَقَّةٌ، أمّا المقيم فالصِّيامُ يومَ عَرَفَةَ مستحب ومتأكّد، لما فيه مِن الأجر العظيمِ.
  • وفيه إظهارُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الأمْرَ الشرعي للنَّاسِ وقتَ الحاجةِ، وهذا مِن حِرصِه عليهم ورَحمتِه وشَفَقتِه بهم.
  • وفيه: حِرصُ الصَّحابَةِ على مَعرِفَةِ هديّ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الأحْوالِ المختلِفَةِ.
  • وفيه: أنَّ المُشاهَدةَ بالعِيانِ أقطَعُ للحُجَّةِ وأنَّها فوقَ الخبَرِ.
  • وفيه: مَشروعيَّةُ الأكْلِ والشُّربِ في المَحافلِ، والأكْلِ والشُّربِ واقفاً.
  • وفيه: تَأسِّي النَّاسِ بأفعالِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - واتّباعهم له.
  • وفيه: التّلطف والتَّحيُّلُ على الاطِّلاعِ على الحُكْمِ بغَيرِ سُؤالٍ.
  • وفيه: بَيانُ ذكاء أمّ الفضل -رضي الله عنها- وفطنتها.
  • https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png


ابوالوليد المسلم 03-03-2024 04:35 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

– باب: النّهيُّ عنْ صِيَامِ يَومِ الأضْحَى والفِطْر


  • عيد الفطر وعيد النّحر هما العيدان الإسْلاميان المُباركان العظيمان جَعَلهما الله تبارك وتعالى للفَرَح وللبَهْجَة وللسُّرور وللحُبور وللذكر وإظْهار الشُّكر لله تبارك وتعالى
  • الصَّحابَةُ أخذوا كلَّ ما يُصلِحُ شُؤونَ دِينِهم ودُنْياهم عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَهو القُدوةُ والأُسْوةُ لهم في كلامُهُ وفِعْلُهُ
عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ أَنَّهُ قَالَ: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه -، فَجَاءَ فَصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَيْنِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صِيَامِهِمَا: يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَالْآخَرُ يَوْمٌ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ. الحديث رواه مسلم في الصوم (2/799) باب: النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى.
ورواه البخاري في الأضاحي (5571) باب: ما يُؤكل منْ لُحوم الأضاحي، ولفظه: أنَّهُ شَهِدَ العِيدَ يَومَ الأضْحَى مع عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه -، فَصَلَّى قَبْلَ الخُطْبَةِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: يا أيُّها النَّاسُ، إنَّ رَسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قدْ نَهَاكُمْ عن صِيَامِ هَذَيْنِ العِيدَيْنِ، أمَّا أحَدُهُما فَيَوْمُ فِطْرِكُمْ مِن صِيَامِكُمْ، وأَمَّا الآخَرُ فَيَوْمٌ تَأْكُلُونَ مِن نُسُكِكُمْ. أَبِو عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ تابعي، واسْم أبي عبيد هذا: سعد بن عبيد، مولى عبدالرحمن بن أزهر بن عوف، ابن أخي عبدالرحمن بن عوف. قال الواقدي: يُنسب ولاؤه إلى عبدالرحمن بن أزهر، وأحياناً ينسب إلى عبدالرحمن بن عوف. وقال الزُّبير بن بكّار: هو مولى عبدالرحمن بن عوف. مات سنةَ ثمانٍ وتِسعينَ.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
النهى عَنْ صِيامِ يَومِ عيدِ الفِطرِ وعيدِ الأضحى
في هذا الحَديثِ: يُخبِرُ التابعيُّ أبو عُبيدٍ سَعدُ بنُ عُبَيدٍ، أنَّه شَهِدَ صَلاةَ العيدِ يَومَ الأضحى، وهو يومُ العاشِرِ مِن ذي الحِجَّةِ، مَع عُمرَ بنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - في عَهدِه وخلافَتِه، فصَلَّى قبْلَ الخُطبَةِ، ثُمَّ خطَبَ النَّاسَ يَقتدي بِالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فذكر في خُطبَتِه هذه: أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ نهى عَنْ صِيامِ يَومِ عيدِ الفِطرِ، وعيدِ الأضحى، فأمَّا عيدُ الفِطرِ، فيَومُ الفِطرِ من صيامِ شَهرِ رَمَضانَ، وأمَّا يومُ عِيدِ الأضحى، فيَومُ الأكْلِ مِن الأضاحيِّ. وهذا كما أنّ المسلم تعبّده الله -تبارك وتعالى- بصيامِ شهر رَمضان، بالإمْساك عن الطّعام والشّراب، فهو جل وعلا يتعبّده بإظْهار الأكل والشُّرْب والفَرح، فلذلك هو يُطيع الله -تعالى- ويُظهر الامتثال في الإمْساك، ويُظْهر الامْتثال في الأكل والطّعام يوم العيد. وأيضاً: يَظهر قَرْنُ هذه الأشياء المُباحة، وهي الطّعام والشراب والزينة بذكر الله -تبارك وتعالى-، فتَجد أنّه في يوم الأضْحى يأكلُ الناس مِنَ الأضَاحي والهدايا، وفي أيام التّشريق، ويُقرنُ هذا كلّه بشُكر الله -تعالى- وذِكْره، ولذلك قال النّبي - صلى الله عليه وسلم -: «أيامُ التّشْريق، أيامُ أكْلٍ وشُرْب، وذِكْرٍ لله -تبارك وتعالى-». فلذلك حَرُم صَوم يومِ الفِطر، وصوم يوم الأضحى، وكذلك حَرُمَ صيام أيام التَّشْريق الثلاثة، كما سيأتي.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
منْ صَامَ يوم العيد فعليه التّوبة والاستغفار
وعلى هذا: فالصّومُ في عيد الفِطر والأضْحى وأيامِ التَّشْريق لا يَنْعَقد ولا يَصحّ، والصّوم باطل، ومَنْ صَامَ فعليه التّوبة والاستغفار؛ لأنّ هذا مَعصية، وتعمّقٌ وتنطعٌ وتكلّف في دِين الله -تبارك وتعالى-، لأنّ النّهيَ في هذا الحديث، وحديث أبي سعيد، هو للتّحْريم بإجْماعِ أهل العلم، كما ذَكر ذلك ابن قدامة -رحمه الله تعالى- وغيرُه، فلا يصحّ الصّيامُ فيها، سواءً كان قضاءً أم نفلاً، أم نَذْراً، كلُّ هذا مُحرّم، ولا يصحّ كما ذكر أهلُ العلم -رحمهم الله تعالى.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
الحِكْمة مِنْ النّهي
والحِكْمة مِنْ النّهي: هو أنْ تتميّز العِبادة عن غيرها، فيتميّز رمضان عن غيره، فرمَضان: نَهى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن تقدّمه بصومِ يومٍ أو يومين، ونهى - صلى الله عليه وسلم - عن صيامِ يوم الفِطر، ليتميز الصيام في بدايته وفي نهايته، فهو شهر واحد، فلا يُزاد في العبادة ولا يُنقص منها شيئاً.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
الفرح بعطاء الله ونعمته
ومِنَ الحِكم: أنّ الفِطْر في يومي الفِطْر والأضحى، الفرح بعطاء الله ونعمته، فالفطر فيه الأكل والشرب بعد الصيام، والأضحى فيه الأكل من الهدايا والضّحايا، فالناس في هذين اليومين أضياف على الكريم الجواد، الملك الرزاق، القوي المتين -سبحانه وتعالى-، فهم أضياف الله -تبارك وتعالى-، فليقبلوا ضيافته، وليفطروا في هذين اليومين. والمَشْروع للمُسْلم في عيد الفِطر والسنَّة له: أنْ يأكل تَمراتٍ وِتْراً قبل خُروجه إلى المُصلّى يوم الفِطر، وذلك تأكيداً للإفْطار في هذا اليوم. وأمّا في الأضْحى: فالسُنَّة ألا يطعمَ شيئاً حتّى يرجع ويذبح أضْحيته ويأكل منْها، اتباعاً لسنَّة النّبي - صلى الله عليه وسلم .

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
العبادات توقيفية
وفيه: أنّ العبادات توقيفية، فلا يصحّ أنْ نتقرّب إلى الله -تعالى- إلا بما ورد في الشّرع، فمدارُ قبول العَمل: على الإخْلاص لله -تبارك وتعالى-، ثمّ المُتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك قال أهلُ العلم: ليس كلُّ عملٍ مشروعٍ، تُشْرع آحاده. وروى عبدالرزاق عن ابن المُسيّب: أنّه رأى رجُلاً يُكرّرُ الركوع بعد طلوع الفجر؟ فنَهاه عن ذلك، فقال يا أبا محمد: أيُعذّبني اللهُ على الصّلاة؟! قال: لا، ولكن يُعذّبك على خِلاف السُّنَّة.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
باب: كرَاهيةُ صِيام أيامِ التّشْريق
عَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ». وفِي رواية: «وَذِكْرٍ لِلَّهِ». الحديث رواه مسلم في الصيام (2/800) باب: تحريمُ صَوم أيّام التشريق. ونبيشة بن عبدالله الهُذلي، صحابي قليل الحديث. قوله: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» أيام التَّشريق الثلاثة، وتُسمّى أيام النَّحر، وهي: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، ويُقال لها: أيام التّشريق، ويقال لها: أيام النّحر، فهذه لا تُصام لأنّها أيامُ عيدٍ، ولأنّها ملحقة بعيد الأضْحى، فهذه خمسة أيام في السّنة، لا يجوزُ للمسلم أنْ يَصُومها، الفطر والأضْحى، وأيام التّشريق الثلاثة، فيجبُ على المُسلم الإفطار فيهما، وإعلان الأكلِ والشّرب فيها، وإشاعة الفرحة والسرور. فلا يجوز صيام أيام التشريق، وقال بعضُ أهل العلم بكراهتها، والصّحيح: المَنع، فلا تُصام ولو كانت الأيّام البيض، أو الاثنين أو الخميس. إلا مَنْ عجز عنْ هدْي التّمتّع والقِرَان، فله أنْ يصومَ أيّام التَّشْريق بصفةٍ خاصة مستثناة، لما روت عائشة وابن عمر -رضي الله تعالى عنْهما- قالا: «لمْ يُرخَصّ في أيامِ التَّشْريق أنْ يَصُمنَ، إلا لمَنْ لمْ يَجدِ الهَدْي». رواه البخاري.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
فوائد الحديث
  • عيد الفطر وعيد النّحر هما العيدان الإسْلاميان المُباركان العظيمان، جَعَلهما الله -تبارك وتعالى- للفَرَح وللبَهْجَة وللسُّرور وللحُبور، وللذكر وإظْهار الشُّكر لله -تبارك وتعالى-، والمُسْلمون يُظهرون الزّينة، وكمال دين الإسْلام، ويَتمتعون بالأكلِ والطّعام والشّراب، مع ذِكْر الله -تبارك وتعالى.
  • وفيه: أنَّ خُطبةَ العيدِ تكونُ بعْدَ الصَّلاةِ.
  • وأنّ الخطيب ينبغي له أنْ يَعْتني بخُطْبة عيد الفطر وعيد الأضْحى، وأنْ يذكر فيهما ما يُنَاسبُ الحال والزّمان، مِنَ الأحْكام والمناسبات، فيُبيّن للناس أحكام عيد الفطر، والقَضَاء، والستّ مِنْ شوال، ويبين لهم في الأضحى أحكام الأضاحي، ويُبيّن لهم المأمورات والمنهيات في هذا الباب، فإمَام العيد: يُعلّم الناس ما يتعلق بالعيد مِنْ أحكام الشّرع ممّا أمَرَ اللهُ -عزّ وجل- به، وممّا نهى عنه.
  • وفيه: أنّ الصَّحابَة الكِرام أخذوا كلَّ ما يُصلِحُ شُؤونَ دِينِهم ودُنْياهم عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَهو القُدوةُ والأُسْوةُ لهم، وكلامُهُ وفِعْلُهُ هو المَرْجِعُ عندهم.
  • وفيه: النهيُ عن صيامِ يَومِ الفِطرِ ويومِ الأَضحى.
  • https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png


ابوالوليد المسلم 04-03-2024 11:47 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي



– باب: صِيام يوم الاثنين


  • لم يشرع النبيّ صلى الله عليه وسلم لأحدٍ من الصحابة أو غيرهم أنْ يصوموا يوم مولدهم فدلّ ذلك على عدم مشروعيته وأنّ الاحتفال به بدعة
  • كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أعبدَ الناسِ لربِّه وكان أكثرَهم وأحسنَهم شُكرًا لِلهِ عزّ وجلَّ على نِعَمِه بالطَّاعةِ والعبادةِ
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ صَوْمِ الِاثْنَيْنِ، فَقَال: «فِيهِ وُلِدْتُ، وفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ»، الحديث رواه مسلم في الصيام (2/819) باب: استحباب صيام ثلاثة من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس، وهذا الحديثِ جزءٌ من حديث طويل: أنَّ رجلًا سأَل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم- عن صَومِ يَومِ الاثنَينِ، فقال: «فيه وُلِدتُ، وفيه أُنْزِلَ عليَّ القرآنُ».
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
قوله: «فيه وُلِدتُ» أي: في يوم الإثنين، في عام الفيل، هذا هو الثابت، لكنّنا لا نَعْلم شيئاً يُفيدُ أنه - صلى الله عليه وسلم- سُئِل عن تاريخ مولده، ولا أنّه ذُكر في حديثٍ صحيح ولا ضعيف أنه وُلد في الثاني عشر مِنْ ربيع الأول، وإنّما ثبتَ عنه فقط أنّه - صلى الله عليه وسلم- سُئِل عن صَوم الإثنين، فقال: فيه وُلِدت، وكذلك هو ماتَ - صلى الله عليه وسلم- في يوم الإثنين، فيوم الإثنين وُلد فيه النبي - صلى الله عليه وسلم-، لكن في أيّ شهر لم يتبين، لكن هو - صلى الله عليه وسلم- قد مات في شهر ربيع الأول، في اليوم الثاني عشر منه.
قوله: «ويوم بُعثتُ فيه،أو: أُنْزِلَ عليَّ فيه»
وقوله: «ويوم بُعثتُ فيه، أو: أُنْزِلَ عليَّ فيه» أي: بدَأ نُزولُ القرآنِ عليه - صلى الله عليه وسلم-، وكلُّ ذلك في يومِ الاثنَينِ، أي: نزول جبريل -عليه السلام- عليه، فقال له ثلاث مرات: «اقرأ»، فيقول: ما أنا بقارئٍ، قال: فغطَّني الثالثة حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1). حتى بلغ: {علّم الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 5). رواه البخاري. وليوم الإثنين فضائل أخرى: فقد روى الترمذي (747) وحسّنه وأحمد: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ والْخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وأَنَا صَائِمٌ». وصححه الألباني في «صحيح الترمذي»، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحرَّى صوم الإثنين والخميس». رواه الترمذي (745) والنسائي (2361) وابن ماجة (1739) وصححه الألباني في «صحيح الترغيب» (1044)، وبناء عليه، فإنّه يسنّ صوم يوم الإثنين، لهذه الأحاديث النبوية الثابتة.
مسألة مهمة
بعض الذين يَحتفلون ببدعة المولد النبوي، يحتجُّون بهذا الحديث؛ لما يقومون به منْ احتفالات ونحو ذلك. وهو استدلال غير صحيح؛ لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم- شَرع لنا الصيام كلّ اثنين؛ لأجل ثلاثة أمُور مُجْتمعة، وأقرّ هذه العبادة، وهو الصيام في يوم الاثنين. أمّا الذين يحتفلون بالمولد، فلا يستطيعون تحديد تاريخ مولد النبي - صلى الله عليه وسلم- بدليلٍ صحيح ثابت، ثمّ لو حَصل أنّنا حدّدنا ذلك اليوم، فلا يُشْرع لنا فعل هذه الأمُور في ذلك اليوم؛ لأنّها مِنَ البدع المُحدثة في الدّين، ولم يرد فيها نصٌّ وشرعٌ لفعلها، فالثابتُ هو أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد يوم اثنين من عام الفيل، وشرع لنا صيام يوم الاثنين لثلاثة أشياء؛ ولذا فلا يشرع لنا الاحتفال مثلاً في يوم بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم-، ولا يشرع الاحتفال بيوم نُزُول الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك لا يَشرع الاحتفال بيوم مولد النبي - صلى الله عليه وسلم.
الموالد تشتمل على منكرات
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
والموالد - مع كونها بِدْعَةً مُحْدَثة في الإسلام - فإنّها لا تَخلو مِنْ اشْتمالها على منكرات، كاخْتلاط النّساء بالرجال، واسْتعمال الأغاني والمعازف، وغير ذلك، مما هو مشاهَد ومعلوم لجميع الناس، وقد يقع في الموالد ما هو أعظم من ذلك، وهو الشرك بالله -تعالى-، وذلك بالغلوِّ في رسُول الله - صلى الله عليه وسلم- أو غيره من الأولياء، وذلك بدعائه والاسْتغاثة به، وطلب الْمَدَدِ منه - صلى الله عليه وسلم -، أو الذّبح له، وكلّ هذا من الغلو، ولقد نهانا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - عن الغلوّ فيه، وعن الغلو في الدّين. فروى البخاري: عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تُطْرُوني -أي: لا تُبالغوا في مَدْحي - كما أطْرَتِ النّصارى ابنَ مريم، فإنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبدالله ورسوله». البخاري. وروى أحمد: عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم والغلوَّ في الدِّين! فإنما أُهْلِكَ مَنْ كان قبلكم بالغلو في الدين». رواه أحمد (1/ 215) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1283). وإنّما يكفينا الصيام يوم الاثنين كما جاء في السنة النبوية. والعجب أنّهم يحتفلون في شهر ربيع الأول بيوم مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يظنّون، مع أنّ هذا اليوم وهو الثاني عشر من شهر ربيع الأول، هو اليوم الذي تُوفي فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على قول الجُمهور، فهم يحتفلون بيوم وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعوى الاحتفال بالمولد؛ فنعوذ بالله مِنَ البدعِ المضلة. ومَنْ زعم أنّ الاحتفال بمَولِد النبي - صلى الله عليه وسلم- بدعةً حسنة، فقد أخطأ أيضاً، فليس هناك بدعةٌ حَسَنة وبدعة سيئة، بل البدعُ في الدّين كلُّها شرٌّ وضلالة؛ فقد روى مسلم: عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه -: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنّ خَيرَ الحديث كتابُ الله، وخَيرَ الهَدْيِ هَدْيُ محمد - صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمُور مُحْدثاتها، وكل بدعة ضلالة». مسلم (867). وبهذا الحديث نقول: مَنْ زعم أنّ في البدع التي ابتُدعت في دين الله -تعالى- شيئًا مَحمودًا، فإنما هو في الحقيقة استدراك على شريعة الله الكاملة، وردٌّ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وهذان أمران خطيران جدًّا؛ لِما فيهما من المحادَّة لله -تعالى- ولرسوله - صلى الله عليه وسلم-؛ يقول الله -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} المائدة: 3.
قراءة السّيرة النّبوية
وكذلك ظهر بعض المعاصرين مَن يقول بأنه: يُشْرع قراءة السّيرة النّبوية في شهر ربيع الأول منْ كلّ عامٍ دون احْتفالات، ويستدلون بهذا الحديث، وليس في هذا الحديث أي دليل على مشروعية قراءة السيرة في شهر ربيع الأول من كلّ عام، فالحديث يدل على مشروعية صيام يوم الاثنين من كل أسبوع فقط، وذلك للبعثة وإنْزال الوحي والمولد، ولو لمْ يُقرّه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لما جازَ تخصيصه بالصيام دون دليل. مسألة: أيُّهما أفضلُ صيامُ الإثنين والخميس، أو صيام ثلاثة أيامٍ من كل شهر؟ والجواب: أنّ صيام الإثنين والخميس أفضل من صيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ لأنّ من صام الإثنين والخميس كلّ أسبوع، فإنه قد صام ثمانية أيام مِنْ كلّ شهر، فيكون بذلك قد جمع بين الفضيلتين: صيام الإثنين والخميس، وصيام ثلاثة أيام منْ كلّ شهر، والثلاثة أيام من كل شهر يصح صيامها من أول الشهر أو وسطه أو آخره، متفرقة أو متتابعة، إلا أنّ الأفضل أن يجعلها الأيام البِيض، وهي الأيام التي يكون القمر فيها مكتملاً، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر القمري. 1- أنّ الأصل في العبادات المنع إلا بدليل.
2- كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أعبدَ الناسِ لربِّه، وكان أكثرَهم وأحسنَهم شُكرًا لِلهِ -عزّ وجلَّ- على نِعَمِه بالطَّاعةِ والعبادةِ.


3- ولا يوجد أي دليل على إقامة الموالد النّبوية، ولا على تخصيص شهر ربيع الأول بقراءة السيرة.
4- أيضاً: ما شاع بين الناس اليوم ممّا يسمونه بعيد الميلاد، وانتشار احتفالهم به هو بدعة غير مشروعة، وليس للمسلمين أعياد يحتفلون بها سوى عيدي الفطر والأضحى.
5- لم يشرع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لأحدٍ من الصحابة أو غيرهم أنْ يصوموا يوم مولدهم، فدلّ ذلك على عدم مشروعيته، وأنّ الاحتفال به بدعة.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png

ابوالوليد المسلم 04-03-2024 11:51 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي


– باب: كراهيةُ صِيام الجُمُعة مُنْفَرداً


  • النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَت له أحوالٌ مُتعدِّدةٌ في الصِّيامِ فأخبَرَ كلُّ صَحابيٍّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بما عَلِم أو بما رأَى وجميعُ الأخبارِ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في صَومِه صِحاحٌ
  • الحِكمةُ في النَّهيِ عن صِيامِ يوم الجُمعةِ منفردًا أنَّه يومُ دُعاءٍ وذِكرٍ وعِبادةٍ متنوّعة مِنْ الغُسلِ والتنظّف والتّطيّب والتَّبكيرِ إلى صّلاةِ الجُمعة وانْتظارِها واسْتماعِ الخُطبةِ والإكثارِ من الذِّكرِ بعْدَها
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَصُمْ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِلَّا أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ يَصُومَ بَعْدَهُ»، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم - قَال: «لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ». الحديثان رواهما مسلم في الصيام (2/801) باب: كراهية صيام يوم الجمعة منفرداً.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
في هذين الحَديثين يَذكُرُ أبو هُرَيرةَ - رضي الله عنه - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهى عن صَومِ يَومِ الجُمُعةِ تَطوُّعًا مُنْفرِداً، إلَّا أنْ يَصومَ يَومًا قبْلَه، وهو يومُ الخميسِ، أو يومًا بعْدَه، وهو يومُ السَّبْتِ.
في الباب أحاديث أخرى
عن محمدِ بنِ عبَّادٍ قال: سألتُ جابراً - رضي الله عنه -: «أنَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن صَومِ يومِ الجُمُعةِ؟ قال: نعم». رواه البخاري (1984)، ومسلم (1143)، وعن جُوَيريةَ بنتِ الحارِثِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا-: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها يومَ الجُمُعةِ وهي صائمةٌ، فقال: «أصُمْتِ أمْسِ؟» قالت: لا، قال: «تُريدينَ أنْ تَصُومي غداً؟» قالت: لا، قال: «فأفطِري». رواه البخاري (1986). وأيضاً: هذا النَّهيُ مَحمولٌ على مَنْ لم تكُنْ له عادةٌ في الصيام، كمَن يَصومُ يوماً ويُفطِرُ آخَرَ، فوافق صيامه يوم الجمعة، أو نذَرَ أنْ يَصومَ يومَ شِفاءِ مَريضِه، فوافَقَ ذلك يومَ الجُمعةِ؛ فإنه لا يُنْهَ عنه.
الحِكمةُ في النَّهيِ عن صِيامِ يومَ الجُمعةِ
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
والحِكمةُ في النَّهيِ عن صِيامِ يومَ الجُمعةِ: أنَّه يومُ دُعاءٍ وذِكرٍ وعِبادةٍ متنوّعة؛ مِنْ الغُسلِ والتنظّف والتّطيّب، والتَّبكيرِ إلى صّلاةِ الجُمعة وانْتظارِها، واسْتماعِ الخُطبةِ، والإكثارِ من الذِّكرِ بعْدَها، لقولِ اللهِ -تعالى-: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} (الجمعة: 10)، فعَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ قَال: قَال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَسَّلَ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَدَنَا وَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَجْرُ سَنَةٍ، صِيَامُهَا وقِيَامُهَا». رواه الترمذي وصحّحه الشيخ الألباني -رحمه الله. وكذلك كثرة الصلاة على نبيّه - صلى الله عليه وسلم -، وقراءة سورة الكهف، وغيرِ ذلك مِن العباداتِ في يَومِها؛ فنُهي عن صِيامِه ليَكونَ ذلِك أعوَنَ له على هذه الوَظائفِ، وأدائِها بنَشاطٍ وقوّة، وانْشراحٍ لها، وتِلذّذٍ بها، مِن غَيرِ مَلَلٍ ولا سآمةٍ. وهو نَظيرُ النّهي عن صِيامِ الحاجِّ يومَ عَرَفةَ بعَرَفةَ؛ فإنَّ السُّنَّةَ له الفِطرُ لهذه الحِكم، وأنَّه يَحصُلُ له بفَضيلةِ الصَّومِ الَّذي قبْلَه أو بعْدَه، ما يُجبِرُ ما قدْ يَحصُلُ مِن فُتورٍ أو تَقْصيرٍ في وَظائفِ يومِ الجُمعةِ بسَببِ صَومِه.
خشية أن يفرض على الناس
ويَحتمِلُ أنْ يكونَ نَهْيُه - صلى الله عليه وسلم - عن صَيامِ يومِ الجُمعةِ: خَشيةَ أنْ يَستمِرَّ النَّاسُ على صَومِه، فيُفرَضَ عليهم، كما خَشِيَ مِنْ فرض صَلاةِ اللَّيلِ، فقَطَعَه لذلك، وخَشِيَ أنْ يَلتزِمَ النَّاسُ مِن تَعظيمِ يومِ الجُمعةِ ما الْتَزَمَه اليهودُ والنَّصارى في يومِ السَّبتِ والأحدِ، مِن ترْكِ العَمَلِ والتَّعظيمِ، فأمَرَ بإفطارِه، ورَأى أنَّ قطْعَ الذَّرائعِ أعظَمُ أجراً مِن إتمامِ ما نَوى صَومَه للهِ، أو أنّه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالفِطْر فيه؛ لأنَّه يومُ عِيدٍ للمُسلِمينَ.
كرَاهةُ إفرادِ يومِ الجُمُعةِ بالصَّومِ
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وقد قال بكرَاهة إفراد يومِ الجُمُعةِ بالصَّومِ إلَّا أن يوافِقَ ذلك صَوماً جمهور العلماء: الشَّافِعيَّةُ، والحَنابِلة، وبعض الحَنَفيَّة، وهو قولُ بعض السَّلَف، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابنُ القيم، والشوكاني، والشنقيطي.
  • قال ابن قدامة الحنبلي: «يُكْرَهُ إفْرَادُ يَوْمِ الجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ، إلا أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ صَوْماً كَانَ يَصُومُهُ، مِثْلُ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْما، فَيُوَافِقُ صَوْمُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمَنْ عَادَتُهُ صَوْمُ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ الشَّهْرِ، أَوْ آخِرِهِ، أَوْ يَوْمِ نِصْفِهِ». المغني (3 /53).
  • وقال النووي: «قَال أَصْحَابُنَا (يعني الشافعية): يُكْرَهُ إفْرَادُ يَوْمِ الجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ، فَإِنْ وَصَلَهُ بِصَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ وَافَقَ عَادَةً لَهُ، بِأَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ شِفَاءِ مَرِيضِهِ، أَوْ قُدُومِ زَيْدٍ أَبَداً، فَوَافَقَ الجُمُعَةَ لَمْ يُكْرَهْ». «المجموع شرح المهذب» (6 /479).
  • وقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: إنّ السنّة مضتْ بكراهة إفْراد رَجَب بالصّوم، وكراهة إفْراد يوم الجمعة ..اهـ. «الفتاوى الكبرى» (6 /180).
  • ويستثنى من هذا النّهي: ِمَنْ صَامَ يوماً قَبْله أَوْ بَعْده.
  • https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وكذلك إنْ اِتَّفَقَ وُقُوعُهُ فِي أَيَّامٍ لَهُ عَادَةٌ بِصَوْمِهَا، كَمَنْ يَصُوم أَيَّام الْبِيضِ، أَوْ مَنْ لَهُ عَادَةٌ بِصَوْمِ يَوْمٍ وإفطار يوم، أو وافق يوماً يستحب صومه كَيَوْمِ عَرَفَةَ، أو عاشوراء، لأن نيّته صيام عاشوراء وعرفة، وليس الجمعة. أو نَذَرَ صوم يَوْم قُدُوم زَيْدٍ مَثَلًا أَوْ يَوْم شِفَائه، فوافق يوم الجمعة. انظر «فتح الباري» لابن حجر.
  • وفي الحديث: أنّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فصَّلَ أحكامَ صِيامِ التَّطوُّعِ، وأوضَحَ الكيفيَّةَ المُناسِبةَ لصِيامِ بَعضِ الأيَّامِ، ومِن ذلِك يومُ الجُمعةِ.
باب: صَومُ ثلاثة أيامٍ مِنْ كلّ شَهْر
عن مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ أَنَّهَا قالت: سَأَلْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقُلْتُ لَها: مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ كَانَ يَصُومُ؟ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ يُبَالِي مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ يَصُومُ. في هذا الحَديثِ تُخبِرُ التَّابعيَّةُ مُعاذةُ العَدويَّةُ أنَّها سألَتْ أُمَّ المؤمنينَ عائشةَ -رَضِي اللهُ عنها-: «أَكانَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصومُ مِن كلِّ شَهرٍ ثَلاثةَ أيَّامٍ؟» وذلك أنّ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم - كان قدْ رغَّب في صِيامِ ثَلاثةِ أيَّامٍ مِنْ كلِّ شَهرٍ، كما في الصَّحيحينِ، فأجابتْها عائشةُ -رَضِي اللهُ عنها-: «نَعمْ» كان يَصومُها، وهذا أقلُّ ما كان يَقتصِرُ عليه مِن الصِّيامِ في الشَّهرِ.
تَحديد هَذه الأَيَّامِ
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
  • ثمّ سَألَتْ مُعاذةُ العَدويَّةُ عنْ تَحديدِ هَذه الأَيَّامِ، وهلْ كانت هَذه الثَّلاثةُ مِن أوَّلِ الشَّهرِ أو أَوسطِه أو آخِرِه، وهلْ كانتْ مُتَّصلةً أو مُنفصِلةً؟ فَأخبرَتْها عائشةُ -رَضِي اللهُ عنها- أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَم يكُنْ يَهتمُّ بالتَّعيينِ، فقد تَجِدُه صائماً في أوَّلِ الشَّهرِ، ووَسطِه وآخِرِه.
قيل: ولَعلَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يُواظِبْ عَلى ثَلاثةٍ مُعيَّنةٍ؛ لئلَّا يُظَنَّ وجوب تَعيينُها.
  • وقدْ ورَد عندَ أبي داودَ: عن عبدَاللهِ بنِ مَسعودٍ - رضي الله عنه - قال: «كان رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصومُ -يعني مِن غُرَّةِ كلِّ شَهرٍ- ثَلاثةَ أيَّامٍ». أي: أوَّلَ الشَّهرِ، وغُرَّةُ الشَّيءِ: أوَّلُه. وقيل: إنَّه أراد الأيَّامَ البِيضَ مِن مُنتصَفِ الشَّهرِ، الَّتي يَكتمِلُ فيها القَمرُ، وهي: الثَّالثَ عشَرَ والرَّابعَ عشَرَ والخامِسَ عشَرَ مِنَ الشهر القمري؛ لأنَّ الغُرَّةَ تُطلَقُ أيضاً على البياضِ.
ولعلَّ الصَّحابيَّ عبدَاللهِ بنَ مسعودٍ راويَ الحديثِ، قدْ أخبَر عن الغالبِ فيما اطَّلَع علَيه مِنْ أحْوالِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه كان يَصومُ هذه الأيَّامَ.
أحوالٌ مُتعدِّدةٌ في الصِّيامِ
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وقد روَتْ عائشةُ -رَضِي اللهُ عنها كما في الصَّحيحينِ- أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُكثِرُ الصِّيامَ في غيرِ رمَضانَ، حتَّى يُقالَ: إنَّه لا يُفطِرُ، وكان يُفطِرُ حتَّى يُقالَ: إنَّه لا يَصومُ، ومع ذلك فقدْ كان يُخصِّصُ أيَّاماً للصِّيامِ، مِثْلَ غُرَرِ الشُّهورِ وأوساطِها، ومِثلَ يومِ الاثنينِ والخميسِ. فالحاصِلُ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَت له أحوالٌ مُتعدِّدةٌ في الصِّيامِ، فأخبَرَ كلُّ صَحابيٍّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بما عَلِم، أو بما رأَى، وجميعُ الأخبارِ عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم - في صَومِه صِحاحٌ، وهو مِن بابِ التيسير والتَّوسُّعِة على الأمّة، لِمَن أراد أنْ يَصومَ كيْفَما شاء، معَ التَّحرِّي لسُنَّةِ النَّبيِّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-، والبُعدِ عَن الأيَّامِ المَنهيِّ عَن صِيامِها.
  • بيانُ ما كان عليه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِن إكثارِ الصَّومِ والاجتهادِ فيه.
  • أنّ النَّاسُ كانوا يَسألونَ زَوجاتِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن هَديِه -صلى الله عليه وسلم - فِيما أشْكَلَ عَليهِم، أو ما أَحبُّوا أنْ يَعلَموه مِنْ عباداته التي لا تظهر لهم.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png

ابوالوليد المسلم 05-03-2024 11:24 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي


– باب: كَرَاهية سَرْدِ الصّيام


  • كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أعبَدَ النَّاسِ للهِ وأحرَصَهم على مَرضاتِه ومع هذا فقدْ علَّمَنا اليُسرَ في العبادةِ وأخْذَ النَّفْسِ بما تَستطيعُ وتَرْكَ التَّشديدِ عليها
  • الإسلامُ دِينُ الوسَطيَّةِ والسَّماحةِ في كلِّ الأُمورِ وقد حثَّ على الاقتِصاد وفِعلِ المُستطاعِ والاقتِصادُ في العِباداتِ يُبَقي بَعض القوَّةِ لغَيرِها
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
عن عبداللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضِيَ اللهُ عنهما- يَقُولُ: بَلَغَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنِّي أَصُومُ أَسْرُدُ، وَأُصَلِّي اللَّيْلَ، فَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ، وَإِمَّا لَقِيتُهُ، فَقَالَ: «أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ وَلَا تُفْطِرُ؟ وَتُصَلِّي اللَّيْلَ؟ فَلَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ لِعَيْنِكَ حَظًّا، ولِنَفْسِكَ حَظًّا، ولِأَهْلِكَ حَظًّا، فَصُمْ وأَفْطِرْ، وصَلِّ وَنَمْ، وصُمْ مِنْ كُلِّ عَشْرَةِ أَيَّامٍ يَوْماً، وَلَكَ أَجْرُ تِسْعَةٍ». قَالَ: إِنِّي أَجِدُنِي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَال: «فَصُمْ صِيَامَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام»، قَال: وكَيْفَ كَانَ دَاوُدُ يَصُومُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَال: «كَانَ يَصُومُ يَوْماً، وَيُفْطِرُ يَوْماً، ولَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى». قَال: مَنْ لِي بِهَذِهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ عَطَاءٌ: فَلَا أَدْرِي كَيْفَ ذَكَرَ صِيَامَ الْأَبَدِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -[-: «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ، لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ، لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ»، الحديث رواه مسلم في الصيام (2/815) باب: النّهي عن صَوم الدّهر لمَنْ تضرّر به، أو فوّت به حقّاً أو لم يُفطر العيدين والتّشريق، وبيان تفضيل صوم يومٍ وإفطار يوم، ورواه البخاري في الصوم (1977) باب: حقّ الأهل في الصوم.
في هذا الحَديثِ يَحْكي عبداللهِ بنُ عَمْرٍو بن العاص -رضِيَ اللهُ عنهما- أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بلغه أَنِّي أَصُومُ أَسْرُدُ، أي: أصوم ولا أفطر. «وَأُصَلِّي اللَّيْلَ» أي: أُصلّي الليل كلّه ولا أنام.
قوله: «فَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ وَإِمَّا لَقِيتُهُ»
وفي رواية البخاري.: «أنْكَحَنِي أبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ، فَكانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ، فَيَسْأَلُهَا عن بَعْلِهَا، فَتَقُولُ: نِعْمَ الرَّجُلُ مِن رَجُلٍ! لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا، ولَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أتَيْنَاهُ، فَلَمَّا طَالَ ذلكَ عليه، ذَكَرَ للنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم -، فَقالَ: الْقَنِي به، فَلَقِيتُهُ بَعْدُ، فَقالَ: كيفَ تَصُومُ؟ فَأجابَه: أصُومُ كُلَّ يَومٍ. وَكَيْفَ تَختِمُ القُرآنَ؟ فَأجابَه: أخْتِم كُلَّ لَيلةٍ خَتمةً. فأشار عليه -صلى الله عليه وسلم - بأن يصومَ في كُلِّ شَهرٍ ثَلاثةَ أيَّامٍ، وأن يقرَأَ القُرآنَ في كُلِّ شَهْر خَتْمةً. فراجع عبداللهِ - رضي االله عنه - رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وذكر أنَّه يَقدِرُ على أكثَرَ من ذلك، فأشار عليه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأن يصومَ ثَلاثةَ أيَّامٍ في الأُسبوعِ، فذكر عبداللهِ - رضي الله عنه - لرَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم - أنَّه يقدِرُ على أكثَرَ من ذلك، فَقالَ له -صلى الله عليه وسلم -: أفطِرْ يَومَينِ، وصُم يَومًا. فَقالَ عبداللهِ بنُ عَمْرٍو - رضي الله عنه -: أُطيقُ أكثَرَ مِن ذَلك، فقالَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم -: «صُم أفضَلَ الصَّومِ، صَومَ داوُدَ نَبيِّ اللهِ -عليه السَّلامُ-: صيامُ يَوْمٍ، وَإِفْطارُ يَومٍ، واقرَأْ في كُلِّ سَبْعِ لَيالٍ مَرَّةً». يعني: اختِمِ القُرآنَ مَرَّةً كُلَّ أُسبوعٍ؛ فتمَنَّى عبداللهِ بنُ عَمرٍو -رضِيَ اللهُ عنهما- بعدما كَبِرَ وضَعُفت قوَّتُه، أنْ لو كان قَبِلَ التخفيفَ مِن رَسولِ الله -صلى الله عليه وسلم -، فَكانَ يَقرَأُ على مَن تَيسَّرَ له من أهلِه السُّبْعَ مِن القُرْآنِ بِالنَّهارِ، والَّذي يُريدُ أن يَقْرَأه بِاللَّيْلِ يَعرِضه مِن النَّهارِ؛ ليَكونَ أخَفَّ عليه بِاللَّيلِ. وَإِذا أرادَ أن يَتَقَوَّى على الصِّيامِ أفْطَرَ أيَّاماً، وَأحْصى عَدَد الأيَّام التي أفطرها وَصامَ أيَّامًا مِثلَهنَّ؛ لئلَّا يَترُكَ شَيْئًا مات النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان عبداللهِ - رضي الله عنه - يفعَلُه.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ قوله: «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ، لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ، لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ»، أي: مَنْ صام الأبدِ، بأنْ هو سَرْدُ الصِّيامِ طوالَ أيَّامِ السَّنةِ، فلا صيام له، وأكّده ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات. وفي الرواية الأخرى: «فلا صَامَ ولا أفطَرَ»، وهذا إخبارٌ مِن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لا أجْرَ له في صِيامِه، فكأنَّه لم يَصُمْ أصلًا، أو هو دُعاءٌ مِن النَّبيِّ -[- على مَن فعَلَ هذه الطَّريقةِ في الصِّيامِ، وتشنيعٌ عليهم؛ وذلك لأنَّ صَومَ الدَّهرِ منهيٌّ عنه، ومُخالِفٌ لسُنَّةِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم -، وقد قال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم كما في الصَّحيحَينِ-: «لكنِّي أصومُ وأُفطِرُ... فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليس منِّي». وقد وردت أحاديث في ذلك: فعن عبدالله بن الشخير - رضي الله عنه - قال: قال رَسولِ الله -صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صامَ الأبدَ فلا صامَ ولا أفطَرَ»، أخرجه ابن ماجة (1705) واللفظ له، وأخرجه النسائي (2380)، وأحمد (16308) باختلاف يسير، وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن صَام الدَّهرَ ضُيِّقَت عليه جهنَّمُ هكذا». وعقَد تِسعينَ. رواه ابن حبان في صحيحه، وصححه الأرناؤوط. قال النووي -رحمه الله-: «ومعنى: «ضيقت عليه» أي: عنه، فلم يدخلها».قال ابن قدامة -رحمه الله-: «الذي يقوى عندي أن صوم الدهر مكروه وإن لم يصم هذه الأيام - يعني العيد والتشريق - فإنْ صامها قد فعل مُحرّما، وإنّما كره صوم الدهر لما فيه من المشقة والضّعف، وشبه التبتّل المنْهي عنه». «المغني» (3/53)، وكذا قال ابن تيمية من الحنابلة خلافا للمذهب، وهو اختيار اللجنة الدائمة للإفتاء (23/221)، وذهب ابن حزم إلى التحريم، فقال -رحمه الله-: «لا يحلّ صَومُ الدَّهر أصْلاً» انتهى. «المحلى» (4/41)..
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
فوائد الحديث
  • كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أعبَدَ النَّاسِ للهِ، وأحرَصَهم على مَرضاتِه، ومع هذا فقدْ علَّمَنا اليُسرَ في العبادةِ، وأخْذَ النَّفْسِ بما تَستطيعُ، وتَرْكَ التَّشديدِ عليها، فيَجمَعُ الإنسانُ بيْن دُنياهُ وآخِرتِه.
  • الإسلامُ دِينُ الوسَطيَّةِ والسَّماحةِ في كلِّ الأُمورِ، وقد حثَّ على الاقتِصاد وفِعلِ المُستطاعِ، والاقتِصادُ في العِباداتِ؛ يُبَقي بَعضُ القوَّةِ لغَيرِها.
  • أنَّ أفْضلَ صَومِ التَّطوُّع هو صَوْمُ نَبيِّ الله داوُدَ -عليه السَّلامُ.
  • وفيه: بَيانُ رِفقِ رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - بأُمَّتِه، وَشَفَقَتِه عليهم، وَإِرشادِه إيَّاهُم إلى ما يُصلِحهم، وَحَثِّه إيَّاهم على ما يُطيقونَ الدَّوامَ عليه، وَنَهْيهم عَن التَّعمُّقِ في العِبادةِ؛ لما يُخْشى مِن إِفْضائِه إلى المَلَلِ والسآمة.
  • وفيه: تقديمُ الواجِبِ من حَقِّ الأهلِ وكذا الولد، على التطَوُّعِ بالصِّيامِ والقيامِ.
  • وفيه: جواز الإخبارُ عن الأعمالِ الصَّالحةِ، والأورادِ، ومحاسِنِ الأعمالِ عند أَمْنِ الرِّياءِ.
  • وفيه: تفَقُّدُ الوالِدِ أحوالَ وَلَدِه وزوجتِه في بَيتِه.
  • وفيه: استخدامُ الكناياتِ في الكلامِ عَمَّا يُستقبَحُ ذِكْرُه، في قولها: «لم يطأ لنا فراشا..».
  • وفي الحديثِ: النَّهيُ عن صيامِ الدَّهرِ.
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png


ابوالوليد المسلم 05-03-2024 11:26 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

– باب: أفضلُ الصّيام صيام داود صومُ يومٍ وإفْطار يوم


عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وأَحَبَّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَام-، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، ويَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَكَانَ يَصُومُ يَوْماً، وَيُفْطِرُ يَوْمًا، الحديث رواه مسلم في الصيام (2/816) في الباب السابق نفسه.
في هذا الحديثِ يُخبِرُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم - بأفضلِ كَيفيَّةٍ في قِيامِ اللَّيلِ، وصَيامِ النَّافلةِ، وهما قِيامُ نَبيِّ اللهِ داودَ عليه السَّلامُ وصَومُه؛ فأمَّا قِيامُه: فكان يَنامُ نصْفَ اللَّيلِ الأوَّلَ، ثمَّ يَقومُ ثُلثَ اللَّيلِ، ثمَّ يَنامُ سُدسَه الأخيرَ، وأمَّا صِيامُه فكان يَصومُ يَومًا ويُفطِرُ يومًا، فهذا أكثَرُ ما يكونُ القِيامُ والصِّيامُ مَحبوباً للهِ -عز وجل-، ويَنالُ به صاحبُه أعْلى الدَّرجاتِ، وإنَّما كانتْ هذه الطَّريقةُ أحَبَّ إلى اللهِ -عز وجل-؛ مِن أجْلِ الأخذِ بالرِّفقِ على النُّفوسِ الَّتي يُخشَى منها السَّآمةُ والملَلُ، والَّذي هو سَببٌ إلى تَرْكِ العِبادةِ، واللهُ يُحِبُّ أنْ يُديمَ العبدُ العبادة، ليدوم فضْل الله عليه، ويُواليَ إحسانَه إليه أبدًا، وإنَّما كان ذلك أرفَقَ؛ لأنَّ النَّومَ بعدَ القِيامِ يُريحُ البدَنَ، ويُذهِبُ ضرَرَ السَّهرِ، وذُبولَ الجِسمِ، بخِلافِ السَّهرِ إلى الصَّباحِ.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
المصالح المترتبة على صيام داود
وفيه مِن المصلحةِ أيضاً: استِقبالُ صَلاةِ الصُّبحِ وأذكارِ النَّهارِ بنَشاطٍ وإقبالٍ، وأنَّه أقرَبُ إلى عدَمِ الرِّياءِ؛ لأنَّ مَن نام السُّدسَ الأخيرَ من الليل، أصبَح ظاهرَ اللَّونِ، سَليمَ القُوى؛ فهو أقربُ إلى أنْ يُخفيَ عمَلَه الماضيَ على مَن يَراهُ. وكذلك صِيامُ يَومٍ وإفطارُ يَومٍ، أفضَلُ مِن صِيامِ الدَّهرِ كلِّهِ؛ إذْ بصِيامِ الدَّهرِ يَضعُفُ البَدَنُ، ويَقصُرُ المُسلِمُ عن أداءِ الحُقوقِ لأصْحابِها، من أهلٍ وولد وضيف، وغير ذلك من الفوائد والمصالح. وأيضاً: فإنَّ سَرْدَ الصِّيامِ طَوالَ العامِ تَألَفُه النَّفْسُ وتَعْتادُه، فيَفقِدُ الصِّيامُ أثَرَهُ في تَهْذيبِ نفْسِ الصَّائمِ، أمَّا إعْطاءُ النَّفْسِ حظّها يوماً، وحِرمانُها آخَرَ، فهو أشدُّ عليها وأقْوى في تَهْذيبِها، وبذلِكَ يكونُ الصَّومُ أنفَعَ لصاحِبِه، وأحَبَّ إلى اللهِ -تعالَى. وقد بيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أيضاً: السَّبَبَ في تَفضيلِ صِيامِ نَبيِّ اللهِ داودَ على غَيرِه، فقالَ: «كان يَصومُ يَومًا ويُفطِرُ يَومًا، ولا يَفِرُّ إذا لاقَى»، كما في رِوايةِ الصَّحيحَينِ. أي: لا يَفِرُّ مِن العَدوِّ إذا لَقِيَه في الحربِ؛ لقُوَّةِ نفْسِه بما أبقَى فيها، من غَيرِ إنهاكٍ وإضعافٍ لها بصَومٍ مُستمر.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
الْأَخْذ بِالرِّفْقِ لِلنَّفْسِ
قال الحافظ -رحمه الله-: «قَالَ المُهَلَّب: كَانَ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَام- يُجِمّ نَفْسه بِنَوْمٍ أَوَّل اللَّيْل، ثُمَّ يَقُوم فِي الْوَقْت الَّذِي يُنَادِي اللَّه فِيهِ: هَلْ مِنْ سَائِل فَأُعْطِيَهُ سُؤْله، ثُمَّ يَسْتَدِرْك بِالنَّوْمِ مَا يَسْتَرِيح بِهِ مِنْ نَصَب القِيَام فِي بَقِيَّة اللَّيْل. وإِنَّمَا صَارَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَة أَحَبّ مِنْ أَجْل الْأَخْذ بِالرِّفْقِ لِلنَّفْسِ الَّتِي يُخْشَى مِنْهَا السَّآمَة، وقَدْ قَالَ -صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّه لَا يَمَلّ حَتَّى تَمَلُّوا». واَللَّه أَحَبَّ أَنْ يُدِيم فَضْله ويُوَالِي إِحْسَانه، وإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَرْفَق؛ لِأَنَّ النَّوْم بَعْد الْقِيَام يُرِيح الْبَدَن وَيُذْهِب ضَرَر السَّهَر، ودُبُول الجِسْم بِخِلَافِ السَّهَر، إِلَى الصَّبَاح، وفِيهِ مِنْ المَصْلَحَة أَيْضاً: اِسْتِقْبَال صَلَاة الصُّبْح وَأَذْكَار النَّهَار؛ بِنَشَاطٍ وإِقْبَال، وأَنَّهُ أَقْرَب إِلَى عَدَم الرِّيَاء، لِأَنَّ مَنْ نَامَ السُّدُس الْأَخِير، أَصْبَحَ ظَاهِر اللَّوْن، سَلِيم القُوَى، فَهُوَ أَقْرَب إِلَى أَنْ يُخْفِي عَمَله الْمَاضِي عَلَى مَنْ يَرَاهُ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ اِبْن دَقِيق العِيد». انتهى. وقال الإمامُ ابنُ القيم -رحمه الله-: «وهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ أَحَبّ إِلَى اللَّه؛ لِأَجْلِ هَذَا الوَصْف، وَهُوَ مَا يَتَخَلَّل الصِّيَام والقِيَام، مِنْ الرَّاحَة الَتِي تجمّ بها نَفْسه، ويَسْتَعِين بِهَا علَى القِيَام بِالحُقُوقِ». «تهذيب سنن أبي داود» (1 /475).

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
فوائد الحديث
  • الاقتداءُ بالأنبياءِ قبْلَ نبيِّنا مُحمَّدٍ -عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ- في العِباداتِ، كما قال -تعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: 90).
  • وفيه: الحَثُّ على قِيامِ اللَّيلِ، وصِيامِ التَّطوُّعِ.
  • وفيه: أنَّ صَومَ يَومٍ وفِطرَ يَومٍ أحَبُّ إلى اللهِ -تعالَى- مِن غَيرِه، وإنْ كان أكثَرَ منه.
  • وأنّ الإقبال على اللهِ -عزَّوجلَّ- بالعمَلِ الصالحِ، والاجتِهادِ في العِبادةِ باللَّيلِ والنَّهارِ، سَمْتُ الصالحينَ الأبرارِ، وقد وجَّهَ النبيُّ -[- أُمَّتَه لأخْذِ النَّفْسِ بما تُطيقُ، وكان أنبياءُ اللهِ همُ القُدوة في هذا الشَّأنِ.
  • https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png


ابوالوليد المسلم 05-03-2024 11:29 PM

رد: شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم
 
https://upload.3dlat.com/uploads/13824298991.png
شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

– باب: مَنْ يُصْبِح صَائماً تطوّعاً ثمَّ يُفْطر


عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» فَقُلْنَا: لَا، قَالَ: «فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ»، ثُمَّ أَتَانَا يَوْماً آخَرَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَقَالَ: «أَرِينِيهِ، فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِماً، فَأَكَلَ».، الحديث رواه مسلم في الصيام (2/808) باب: جواز صوم النافلة بنيةٍ مِنَ النّهار قبل الزّوال، وجواز فِطر الصّائم نفلاً منْ غير عُذر، والحديث من أفراد مسلم -رحمه الله.
تقول أمُّ المُؤمنينَ عائشةُ -رضي الله عنها-: إنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَألها ذاتَ يومٍ، وهو في بيتِها صباحاً، كما في رِوايةٍ للنَّسائيِّ، فقال: «يا عائشةُ، هلْ عندَكم شَيءٌ؟» يَقصِدُ طَعاماً يَأكُلُه؛ فأَجابتْه بأنَّه لا طَعامَ عِندَها، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عاقِدًا الصَّومَ: «فإِنِّي إذن صائمٌ»، أي: فإنِّي صائمٌ ومُمسِكٌ عنِ الطَّعامِ.
مَشروعيَّة عقْدِ نِيَّةِ صِيامِ النَّفلِ في النَّهارِ
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وهذا يدُلُّ: على مَشروعيَّةِ عقْدِ نِيَّةِ صِيامِ النَّفلِ في النَّهارِ، لمَن لم يَأكُلْ أو يَشرَبْ شيئًا منذُ أذانِ الفجر. وهو مذهب الجمهور، أنّ صوم النافلة يجوز بنية في النهار قبل زوال الشمس. قالت عائشة -رضي الله عنها-: ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَقَالَ: «أَرِينِيهِ، فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِماً؛ فَأَكَلَ». والحيس: بفتح الحاء المهملة، هو التّمر مع السّمن والأقط «اللَّبَنُ المُجفَّفُ». وقيل: يُضافُ إليه الدَّقيقُ. وقال الهروي: ثريدة من أخلاط، والأول هو المَشهور. فالنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمّا جاء إلى بَيتِ أُمِّ المُؤمنينَ عائشةَ -رضي الله عنها- أَخبرتْه بذلكَ، وأنَّها أخْفَت له جُزءاً مِن الطَّعامِ ليَأكُلَه؛ لِعِلْمِها بأنَّه كان يُريدُ أن يَأكُلَ.
تأويلٌ فاسد وتكلّفٌ بعيد
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
قال النّووي: ويتأوله الآخرون على أنَّ سُؤاله - صلى الله عليه وسلم -: «هلْ عِنْدكم شيء؟» لكونه ضَعُف عن الصّوم، وكان نواه مِنَ الليل، فأراد الفِطْر للضّعف، وهذا تأويلٌ فاسد، وتكلّفٌ بعيد، وفي الرواية الثانية التّصريح بالدلالة لمذهب الشافعي وموافقيه، في أنَّ صومَ النافلة يجوز قطعه، والأكل في أثناء النّهار، ويبطل الصّوم، لأنه نَفْلٌ، فهو إلى خيرةِ الإنْسَان في الابتداء، وكذا في الدوام. قال: وممّن قال بهذا: جماعةٌ من الصحابة، وأحمد وإسحاق وآخرون، ولكنّهم كلهم والشافعي معهم متفقون على اسْتِحباب إتمامه. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز قطعه ويأثم بذلك، وبه قال الحسن البصري ومكحول والنخعي، وأوجبوا قضاءه على مَنْ أفطر بلا عذر، قال ابنُ عبد البر: وأجمعوا على ألا قضاء على من أفطره بعذر. والله أعلم. انتهى.
الصّائمُ المُتطَوّع أميرُ نَفْسِه
https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
وأيضاً: يدلُّ لصحّة قول الجمهور: قول النّبي - صلى الله عليه وسلم -: «الصّائمُ المُتطَوّع أميرُ نَفْسِه، إنْ شَاءَ صامَ، وإنْ شَاءَ أفْطَر». حديث صحيح، رواه أحمد والترمذي، عن أم هانئ -رضي الله عنها. - وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا دُعِيَ أحَدُكم إلى طَعامٍ فَلْيُجبْ، فإنْ كانَ مُفْطراً فليأكل، وإنْ كانَ صَائماً فليُصَلّ». أي: فليَدع. أخرجه أحمد ومسلم عن أبي هريرة.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
الفَرْض لا يجوز الخروج منه
قال الحافظ النووي رحمه الله: إنْ كان صومُه فرضاً؛ لمْ يَجُزْ له الأكل، لأنّ الفَرْض لا يجوز الخروج منه، وإنْ كان نفلاً، جازَ الفِطْرُ وتركه، فإنْ كان يَشُقُّ على صاحب الطعام صومه فالأفْضلُ الفطر، وإلا فإتمام الصوم. انتهى. وفي رواية لمسلم: قالَ طَلْحَةُ: فَحَدَّثْتُ مُجَاهِدًا بهذا الحَديثِ، فَقالَ: ذَاكَ بمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يُخْرِجُ الصَّدَقَةَ مِن مَالِهِ، فإنْ شَاءَ أَمْضَاهَا، وإنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا. يقول طَلحةُ بنُ يَحيى الرَّاوي عن عائشةَ بنتِ طَلْحةَ: فحَدَّثتُ مُجاهدَ بنَ جَبرٍ المكِّيَّ، الإمامَ الحُجَّةَ بهذا الحَديثِ الَّذي حَّدَثَته عائشةُ بنتُ طَلحةَ، فَقال: ذاكَ بمَنزلةِ الرَّجلِ يُخرِجُ الصَّدقةَ مِن مالِه؛ فإنْ شاءَ أَمْضاها، وإِن شاءَ أَمْسكَها. أي: فَعَلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلكَ؛ لأنَّ لَه حُرِّيَّةَ الاختِيارِ في التَّطوُّعِ، وهوَ بمَنزلةِ الرَّجلِ الَّذي يَنْوي أنْ يُخرِجَ الصَّدقةَ مِن مالِه؛ فإنْ شاءَ أَنفذَها وأَعطاها لِمن كانَ يَنوي أنْ يُعطيَها لَه، وَإن أَرادَ أَمسَكَها ومَنَعها وَلم يُخرِجْها.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300201.png
فوائد الحديث
1- إفطارُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في صِيامِ التَّطوُّعِ في أيِّ وَقتٍ مِن اليَومِ. 2- والحَديثُ يُوضِّحُ جانباً مِن هَديِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في عَقدِه الصِّيامَ إذا لم يَجِدْ طعاماً في بيته، وفي إفطارِه إذا وَجَدَ الطَّعامَ، وهذا مِن يسر الإسلامِ وعَدمِ تَشدُّدِه، وتَعليمٌ مِن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للمُسلِمينَ لِيقتَدوا بهِ. 3- وفيه: ما كان عليه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِن التَّقلُّلِ مِن الدُّنيا؛ زُهداً في مَلذَّاتِها الفانيةِ، وإيثاراً لِما عندَ اللهِ مِن نَعيمِ الآخرةِ. 4- وفيه: أنَّ مَن أخرَجَ شيئًا مِن مالِه للتَّصدُّقِ به، ثمَّ بَدا له ألَّا يَتصدَّقَ؛ فله ذلك.

https://upload.3dlat.com/uploads/13824300222.png



الساعة الآن : 02:47 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 429.73 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 428.08 كيلو بايت... تم توفير 1.65 كيلو بايت...بمعدل (0.38%)]