رد: نفحات قرأنية رمضانية
قوله - تعالى -: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾: أي: هذا الصوم يكون في شهر رمضان، وهذه فضيلة لهذا الشهر الكريم، وزاده فضيلة أخرى، وهي إنزال كتاب الله - تعالى - قال الشنقيطي: "لَم يبيِّن هنا هل أنزل في الليل منه أو النهار؟ ولكنَّه بيَّن في غير هذا الموضع أنَّه أنزل في ليلة القدر من رمضان في قوله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]، وقوله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ﴾ [الدخان: 3]؛ لأنَّ الليلة المباركة هي ليلة القدر على التحقيق، وفي معنى إنزاله وجهان: الأول: أنه أنزل فيها جملة إلى السماء الدنيا، كما ثبت عن ابن عباس، الثاني: أن معنى إنزاله فيها ابتداء نزوله، كما قال به بعضهم"[11]. قوله - تعالى -: ﴿ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾: هدى هنا قد يكون حالاً، وقد يكون مفعولاً لأجله، وهنا الهدى ورد نكرة، والنكرة عند أهل العلم تعُمُّ، فهدايةُ القرآن عامة شاملة، والتنوين في هدًى للتعظيم، وهذا أسلوب معروف في القرآن أنَّ النكرةَ قد يُراد بها التعظيم، وقد يُراد بها التحقير، وكلاهما في كتاب الله - تعالى - أمَّا التعظيم فهنا مثاله، وأمَّا التحقير كما في قوله - تعالى -: ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ﴾ [البقرة: 96]؛ قال أهلُ العلم: النكرة هنا للتنويع، سواء كانت عزيزة أم ذليلة، المهم عندهم أنَّها حياة؛ قال السعدي: "هو القرآن الكريم المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية، وتبيين الحق بأوضح بيان، والفرقان بين الحقِّ والباطل، والهدى والضلال، وأهل السعادة وأهل الشقاوة، فحقيقٌ بشهر هذا فضله"[12]. قوله - تعالى -: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 185]: وهنا أعاد الرُّخصة؛ خشيةَ أنْ يظن أنَّها منسوخة بحكم ذكرها في الآية السابقة، وهي منسوخة على مَن قال بالنسخ، كما تقدم آنفًا، فقرر أنَّها ما زالت قائمة. قوله - تعالى -: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ﴾ [البقرة: 185]: وهذه قاعدةُ الشريعة في الحكمة من التشريع، فإنْ قصد الشارع في وضع الشريعة أنْ لا تكليفَ بما لا يطاق، ولا تكليف بما فيه حرج، وقد ذكر أهلُ العلم أنَّ الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين: الأول: الخوف من الانقطاع في الطريق وبغض العبادة. الثاني: خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع. قال الشاطبي: "اعلم أنَّ الحرج مرفوع عن المكلف؛ لوجهين: أحدهما: الخوف من الانقطاع من الطريق، وبغض العبادة، وكراهة التكليف، وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله، والثاني: خوف التقصير عند مُزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع، مثل قيامه على أهله وولده إلى تكاليف أُخَر تأتي في الطريق، فربَّما كان التوغُّل في بعض الأعمال شاغلاً عنها، وقاطعًا بالمكلف دونها، وربَّما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء، فانقطع عنها"[13]. لذلك كانت الصفة التي اتَّسمت بها الشريعة هي الاعتدال لتناسب العباد. قال ابن كثير في تفسيره معلقًا على هذه الآية: "أي: إنَّما أرخص لكم في الإفطار للمرض والسفر ونحوهما من الأعذار؛ لإرادته بكم اليسر، وإنَّما أمركم بالقضاء؛ لتكملوا عِدَّة شهركم"[14]؛ قال ابن الجوزي مُبينًا حقيقة المرض والسفر المبيحين للفطر: "ليس المرض والسفر على الإطلاق، فإنَّ المريضَ إذا لم يضر به الصوم، لم يَجز له الإفطار، وإنَّما الرحمة مَوقوفة على زيادة المرض بالصوم، واتفق العلماء على أنَّ السفر مقدر"[15]. قوله - تعالى -: ﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾: قال الآلوسي: "﴿ ولتكبروا الله ﴾ عِلَّة الأمر بالقضاء وبيان كيفيته، ﴿ ولعكم تشكرون ﴾ عِلَّة الترخيص والتيسير، وتغيير الأسلوب؛ للإشارة إلى هذا المطلوب بمنزلة المرجوِّ؛ لقوة الأسباب المتآخذة في حصوله، وهو ظهور كون الترخيص نعمة، والمخاطب موقن بكمال رأفته وكرمه مع عدم فواتِ بَركات الشهر، وهذا نوعٌ من اللفِّ لطيف المسلك قَلَّما يُهتدى إليه؛ لأنَّ مُقتضى الظاهر ترك الواو؛ لكونها عللاً لما سبق؛ ولذا قال: مَن لَمْ يبلغ درجة الكمال إنَّها زائدة أو عاطفة على علة مقدرة ووجه اختياره، أمَّا على الأول فظاهر، وأمَّا على الثاني، فلِمَا فيه من مزيد الاعتناء بالأحكام السابقة مع عدم التكلف؛ لأنَّ الفعل المقدر؛ لكونه مُشتملاً على ما سبق إجمالاً يكون ما سبق قرينة عليه مع بقاء التعليل"[16]. قوله - تعالى -: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186]: وَجْهُ جَعْلِ هذه الآية بعد آيات الصيام أنَّ فيها إشارةً إلى أن الصيام والدعاء متلازمان، فإنَّ العبد خلال صيامه وقيامه وطاعته وبعده عن المعاصي والسيئات يكون قريبًا من ربِّه - سبحانه - وإذا اقتربَ العبدُ من ربه، استجاب دُعاءَه، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال[17]: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله قال: مَن عادى لي وليًّا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلَيَّ عبدي بشيء أَحَبَّ إِلََيَّ مِما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلَيَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سَمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يَمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)). وقوله: ﴿ عبادي ﴾ إضافة تشريف وتكريم لهم؛ إذ أضافهم إلى نفسه - سبحانه - وكان الجواب بلا واسطة؛ إذ الغالبُ في السؤال في القرآن يكون جوابه: قل، إلاَّ في هذا الموضع، وذلك للإشعار بأنَّ الله قريب إلى العبد بلا واسطة. قوله - تعالى -: ﴿ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]: هنا حذف المعمول؛ ليدلَّ على العموم، فالرشادُ يَحصل لهم في أمورِ الدين والدُّنيا؛ قال الشوكاني في تفسيره: "قوله: ﴿ فليستجيبوا لي ﴾؛ أي: كما أجبتهم إذا دعوني، فليستجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعات، وقيل: معناه: يطلبون إجابة الله - سبحانه - لدُعائهم باستجابتهم له؛ أي: القيام بما أمرهم به، والترك لما نهاهم عنه"[18]. قوله - تعالى -: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187]: هذه الآية استفاض في بيانِها المفسرون؛ لأنَّ فيها مسائلَ كثيرة؛ قال القرطبي في تفسيره: "فيه ست وثلاثون مسألة"[19]؛ قال الصابوني مُبينًا المعنى الإجمالي: "وقد يسر - تعالى - على عباده وأباح لهم التمتُّع بالنساء في ليالي رمضان، كما أباح لهم الطعام والشراب، وقد كان ذلك من قبلُ محرمًا عليهم، ولكنه - تعالى - أباح لهم الطعام والشراب، والشهوات الجنسية من الاستمتاع بالنساء؛ ليُظْهِرَ فضله عليهم، ورحمته بِهم، وقد شَبَّه المرأة باللباس الذي يستر البدن، فهي ستر للرجل وسكن له، وهو ستر لها؛ قال ابن عباس: معناه: "هن سكن لكم وأنتم سكن لهن"، وأباح معاشرتهن إلى طلوع الفجر، ثُمَّ استثنى من عموم إباحة المباشرة مباشرتهن وقتَ الاعتكاف؛ لأنَّه وقت تبتل وانقطاع للعبادة، ثُمَّ ختم - تعالى - هذه الآيات الكريمة بالتحذير من مُخالفة أوامره، وارتكاب المحرمات والمعاصي، التي هي حدود الله، وقد بيّنها لعباده؛ حتى يجتنبوها، ويلتزموا بالتمسك بشريعة الله؛ ليكونوا من المتقين"[20]. وأهم ما تتضمنه الآية من مسائل ما يأتي: 1- جواز مجامعة المرأة في أي جزء من أجزاء الليل: ويلزم من ذلك أنْ يكونَ المكلف عند جماعه في آخر لحظة من الليل جُنُبًا أن يدخل عليه الفجر وهو جُنُب، وهذا لا يؤثر في الحكم، فقد ثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - أنْ شرع في الصوم وهو جُنُب. 2- إباحة الأكل والشرب: والآية وإن جاءت في سياق الأمر، إلاَّ أنَّه مُراد، وإنَّما المراد به الإباحة؛ لأنَّه أمر جاء بعد الحظر، والقاعدة عند الأصوليِّين: أنَّ الأمر بعد الحظر إباحة، أو أنَّه يعود إلى ما هو عليه قبل الحظر، وهنا يُنبِّه إلى أنَّ الفجرَ المقصود في الآية هو الفجر الصادق، الذي ينتشر أفقيًّا وليس عموديًّا، فإن الأخير يُعَدُّ كاذبًا، وقد جاء في الصحيح من حديث أنس: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذّن ابن أم مكتوم))[21]. 3- إن زمن الصيام ممتد من الفجر الصادق حتى غروب الشمس: كما دَلَّ عليه الهدي النبوي، وعليه فإن المقصود من الليل في الآية التلبس بأول جزء من الليل وهو سقوط قرص الشمس وغيابه، وعند تَحقُّق ذلك شرع التعجل بالفطر؛ لأنَّه الهدي النبوي الكريم، وسبب للخيرية في الأمة، كما دل عليه قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((لا يزال الناسُ بخير ما عجلوا الفطر))[22]. 3- يشرع الاعتكاف ويتأكد في رمضان: وخاصَّة في العشر الأواخر منه، كما دلَّت عليه النصوص النبوية، والاعتكاف شرعًا: لزوم المسجد؛ طاعةً لله، وله شروط وآداب مظانُّها كتب الفقه والأحكام، والآية دَلَّت على أن الاعتكاف إطارُه المسجد دون سواه، واختلف أهلُ العلم في المراد بالمساجد في الآية، فمن قائل: المراد بها جنس المساجد، فتكون (أل) التعريف فيها جنسيةً، وهو قولُ الجمهور، ومن قائل: إنَّ المرادَ بِها المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، ومرجع الخلاف حديثٌ ثابت عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - رواه حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لا اعتكافَ إلاَّ في المساجد الثلاثة))[23]، إلا أن الجمهور ردُّوا على هذا الاستدلال، وأجابوا عن حديث حذيفة بأنَّ المراد الأفضلية وليس الحصر، ومعناه: أنَّه لا اعتكافَ أفضلُ من المساجد الثلاثة. [1] "التحرير والتنوير"، محمد الطاهر بن عاشور، ج1ص320. [2] "إرشاد الفحول"، محمد بن علي الشوكاني، ج1ص222. [3] رقم الحديث: 16. [4] "فتح الباري شرح صحيح البخاري"، ابن حجر العسقلاني، ج1ص136. [5] "سير أعلام النبلاء"، الذهبي، ج3ص222. [6] "مجموع الفتاوى"، شيخ الإسلام ابن تيمية، ج19ص115. [7] "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص94. [8] "زاد المعاد في هدي خير العباد"، ابن قيم الجوزية، ج2ص28. [9] رقم الحديث: 1145. [10] رقم الحديث: 4235. [11] "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن"، محمد الأمين الشنقيطي، ج1ص73. [12] "تيسير الكريم الرحمن"، مرجع سابق، ص95. [13] "الموافقات في أصول الشريعة"، أبو إسحاق الشاطبي، ج2ص136. [14] "تفسير القرآن العظيم"، ابن كثير، ج1ص295. [15] "زاد المسير في علم التفسير"، أبو الفرج ابن الجوزي، ج1ص185. [16] "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني"، ج2ص62. [17] رقم الحديث: 6137. [18] "فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير"، ج1ص185. [19] "الجامع لأحكام القرآن"، شمس الدين القرطبي، ج2ص314. [20] "روائع البيان في تفسير آيات الأحكام"، ج1ص193. [21] أخرجه مسلم، برقم: 2588. [22] أخرجه مسلم، برقم: 2608. [23] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، برقم: 8357، وصححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة"، برقم: 2786. |
رد: نفحات قرأنية رمضانية
(نفحات قرأنية رمضانية) نفحات قرآنية (32) بخاري أحمد عبده قال تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ï´¾ [البقرة: 183-185]. دين اليسر: يقف المؤمن خاشعًا أمام قوله سبحانه ï´؟ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ï´¾ [البقرة: 185] ويستحضر - وهو يتمعن - كل صفات الجمال التي نعت (بالبناء للمجهول) بها رب العالمين، من حلم، ورحمة، وسلام، وود، وغفران، ورأفة … إلخ. ومثل هذه الوقفة الخاشعة حرية أن تتداعي لها الآيات، وتتنادي لها الأحاديث التي تعمق الإحساس باليسر، والرفق، وسائر الألطاف التي تغمر البرية، قاصيها، ودانيها، تقيها وعاصيها. "ليس أحد أصبر على أذي سمعه من الله، إنهم ليدعون له ولدًا، وإنه ليعافيهم، ويرزقهم" البخاري. "... ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد" متفق عليه. وألطاف الله كانت تملأ خاطر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقد عاش يتطلع إليها، ويستمطرها ويشكرها ويهدي المسلمين إليها. ولعله - عليه الصلاة والسلام - كان يعنيها وهو يسأل ربه النور الغامر "اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، وفي سمعي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، وفوقي نورًا، وتحتي نورًا، وأمامي نورًا، وخلفي نورًا، واجعل لي نورًا) رواه الخمسة. فليس ألطف، ولا أرق وأصفى من الأنوار الربانية ï´؟ اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ.. ï´¾ [النور: 35]. والمولى سبحانه رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه) رواه مسلم. وفي رواية له أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: "عليك بالرفق وإياك والعنف، والفحش، إن الرفق لا يكون في شئ إلا زانه، ولا ينزع من شئ إلا شانه". وشعار الإسلام الذي عليه خاتم محمد - صلى الله عليه وسلم - (بشروا، ولا تنفروا، ويسروا، ولا تعسروا) متفق عليه. وكمال هذا الشعار وثمرته "التطاوع والوفاق" فإنهما يدلان على السماحة، وطيب النفس ويسرها. أما التنافر والشقاق فهما صدي المتربة النفسية وضيق الصدر، والتطاوع، والوفاق تجدهما فيما رواه ابن أبي بردة قال: - بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا موسي، ومعاذا إلي اليمن فقال: يسرا، ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا، ولا تختلفا) متفق عليه. وليس معني هذا أن نعدل، ونغير في الحقائق ولكن المعني أن نوغل برفق، وأن نرعي عند التطبيق حسن المدخل، وننشد روح الإسلام حين يغزر عطاء النص. ومبدأ التيسير المطلق الذي يسود آفاق الإسلام فوق أنه يوفر المناخ الصحي السلس الذي يطلق الطاقات يفسح - كذلك - مجالات الحرية، ويطلق أعنتها (بكسر العين وتشديد النون المفتوحة. جمع عنان) ذلك لأن التعسير تعتيم، وتقييد، وحد لفاعلية المعنويات التي تحفز للطموح، وتغري بالنهوض. و الإسلام - حدا من أوزار المعسرة والتعسير - يكفل للمسلم كل الأجواء النقية التي تشرح الصدور، وتوفر الصحة النفسية. والصحة النفسية هي طيب النفس. وطيب النفس النعيم وانشراح الصدر، وانفكاكه عن الأوزار التي تشد إلي أسفل، وتصد عن السبيل، أول بواعث الوثوب وبشائر النجاح ï´؟ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ï´¾ [الزمر: 22]. وظني أن المولي جل وعلا إذ يقرر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقضايا شرح الصدر، ووضع الوزر، وتحرير الظهر، واذهاب العسر.. إنما يمن على الرسول الكريم بهذه النعم. التي تتيح له - صلى الله عليه وسلم -، وللمسلمين أن يمضوا أصحاء، أسوياء، مستبشرين، متخففين نحو الغاية المثلي التي حددت لهم ï´؟ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ï´¾ [الشرح: 1 - 8] نعم إذا خلص الإنسان من أوضاره، وفرغ من وطأة أوزاره فلا شئ يعوقه عن أن يكدح إلي ربه، وينصب في سبيل مولاه متخففًا من كل العوائق، متحررًا. وإدراكًا لمغبات العسر كان - صلى الله عليه وسلم - لا يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا. فإن كان إثمًا كان أبعد الخلق عنه. مصداق ما جاء في الصحيح. والعسر قد تبذر بذوره في طريقك. وقد تتصاعد أبخرته من أعماقك. وقد تنعقد سحبه في آفاقك منبعثة من عقلك، عالقة بأفكارك. ولعل الإسلام حين كره الشؤم والطيرة، والعيافة، والطرق[1]، وحين نفى العدوى، والهامة[2] وصفر والغول، أراد أن يحرر النفوس والعقول من وطأة هذه المعتقدات التي تكبل العقول، وتحجب الرؤية، وتقلل من حرية الحركة. إن الإسلام حريص على محو درن العقول، وخبث النفوس، والعسرة التي تجثم في الصدور. وتحقيقًا لهذا أولي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضايا الشعوذة، والخبال اهتمامًا زائدًا، وحذر في مواقف عدة عن الاستسلام المخزي لأفكار الجاهلية وعدها من الجبت "من السحر والكهانة". قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة، ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد" وقال فيما رواه أبو داود "العيافة والطرق، والطيرة، من الجبت". اتقوا زيغة الحكيم: والإسلام الذي حرر العقول من التبعية العمياء للآباء، والأجداد، والذي حرر من الأمعية، ومن الدوران الأصم في فلك المترفين أولي النعمة، أو المرموقين أرباب الألسنة النعمة، أو الأقلام أو الأفكار... حررنا كذلك من أن نظن العصمة ببشر خلا الرسول صلوات الله وسلامه عليه. فلا حصانة لفكر بشري، ولا قداسة لرأي بشري، ولا ثقة في علم بشري يستقي مقدماته من الرؤية القاصرة المحدودة، ويبني نتائجه على الاتفاقية فروض قد تشط وتجمح، وقد تضل، وتقصر، ولا في عالم قد تتعدد رؤاه فتلتبس أموره، وقد تتنازعه النوازع فيبعد عن الموضوعية. وقد... وقد... والقصور العلمي قدر البشرية ï´؟ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ï´¾ [الإسراء: 85] والقلة هنا تعني قلة الكم، وتعني ضآلة القدرة على الاستفادة بما نستظهر، فرب حامل فقه غير فقيه". ولعل الإسلام وهو يذكر فتنة قارون بعلمه ï´؟ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ï´¾ [القصص: 78] وحين يركز على مصائر أقوام أثاروا الأرض، وعمروها، ونحتوا من الجبال، واتخذوا المصانع. ï´؟ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ï´¾ [الشعراء: 128-129] ï´؟ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا ءَامِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ.. ï´¾ [الشعراء: 146-149]، وحين يذكر فسوق كثير من الأحبار، والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، وحين يذكر افتتان أقوام بالأحبار، والرهبان ï´؟ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا... ï´¾ [التوبة: 31]... الإسلام بمثل هذا يستهدف تربية المسلم تربية استقلالية تكفل له ألا يعيش دهره ترسًا في عجلة.. يدور حيث دارت العجلة، أو ذنبا في "دبر" يبصبص، أو يرتفع وينخفض، ويهتز بإرادة حيوان، كيف وقد بوأك الإسلام الصدارة، وضمن لك مقام الشهادة، وأتاح فرص الخيرية المطلقة (لك الصدر دون العالمين أو القبر)؟ ولقد تشبع صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الروح الإسلامية المتفتحة الفطنة، وصاغوا من روحهم، الوثابة، ومن تشبعهم بالرحيق السماوي، ومن وعيهم، وانتفاعهم بهدايات الإسلام، ومن رؤيتهم المقتبسة من النبعين الثريين، صاغوا وصايا حكيمة سديدة لتبقي مشاعل ومعالم على الطريق تتضافر كلها على توفير المناخ الصحي الذي تزدهر فيه شجرة الحرية. أ- من ذلك ما رواه الدارمي بسند صحيح. عن زياد بن حدير قال:- قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال:- قلت لا. قال (يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الائمة المضلين). وكل واحد من هؤلاء الثلاثة ينطلق من موقع تأثير. إلا أن العالم قد لا يأمن - بعلمه - غوائل البشرية، وقد تثور في دمه أعاصير المادة والهوى فيتعثر، أو يزل ويسقط وينهار والإمام يغوى من موقع تأثير. والمنافق يماري ملوحًا بالكتاب الكريم ذي التأثير ولكن ليموه ويمكر ويخدع. والمؤمن الحصيف ينبغي ألا يمزج بين الوعاء، والموعي (بضم الميم، وفتح العين) وألا ينسى أن الإناء قد يصدأ، أو يشرخ أو يشدخ ويكسر، ويتفتت، وارتباط المؤمن بالأشخاص ارتباطًا أعمى، وتلقفه لكل أقوالهم بلا تمحيص، يشل كياسته، ويعطل فطنته، ويعجز حركته، ويسكب حريته - المذابة - في إناء غيره ليعيش مسلوب الحرية إمعة، ليعيش ذيلًا. ب- ومن ذلك ما رواه يزيد عن عمير قال:- كان معاذ لا يجلس مجلسًا للذكر إلا قال:- الله حكم قسط. هلك المرتابون. فاحذروا زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق الحق. قال - قلت لمعاذ: وما يدريني؟ فقال:- اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال فيها ما هذه، ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع الحق. وتلق (بفتح اللام وتشديد القاف) إذا سمعته، فإن على الحق نورًا) فتح المجيد ص 273. وظني أن معاذًا رضي الله عنه يشير (بزيغة الحكيم) إلي زلة العالم، ويدعو إلي موضوعية العلم، والتحرر من كل تأثير خارجي. وهذه الآثار التي ذكرناها، أو ألمحنا إليها، تتضافر كلها لتعلن:- 1- إن الإسلام - برغم وضوح معالمه، ودقة نصوصه، وتحدد أهدافه - فيه مجال للنظر وتعدد الرؤي بشرط ألا نتجاوز النطاق الذي تفرضه النصوص القاطعة الصحيحة. 2- وأن المسلم إذا تشعبت أمامه السبل يتحري المسلك الأيسر الذي يصل به إلي الغاية مظللًا (بضم الميم، وفتح الظاء، وتشديد اللام الأولي مفتوحة) بالسكينة، مجنبًا مشاكل الوعورة، وبواعث اللهاث. 3- وأن الرفق: (أ) أن ترفق بنفسك (التي بين جنبيك فلا تكلفها شططًا، ولا تحملها من البلاء ما لا تطيق، ولا تزج بها في دياجير الشعب، ومخاطر المشتبهات … إلخ. (ب) وأن ترفق بغيرك فتجبر كسره، وترعى جوانب ضعفه في كل المواقف (رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشتري، وإذا اقتضي) رواه البخاري. والرسول - صلى الله عليه وسلم - حين يدعو إلي السماحة المترفقة: (1) يؤكد مضمون الآية الكريمة ï´؟ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ... ï´¾ [البقرة: 280]. (2) ويحدوك عليه الصلاة والسلام إلي أفعال المولى جل وعلا الذي يجيب المضطر ويكشف السوء، ويغفر لكل من اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم. ومن الرفق بالغير أن تهديه إذا أدلهمت - عليه - السبل، وأن تختار له إذا التبست - عليه - الأمور، وأن تغضي عن هنأته، وتصفح عن صغائره، وألا تتبع عوراته، أن تهتم به، وبمصالحه، حاضرًا معك أو غائبًا عنك. 4- وإن الاسلام أشبع، وأغني، فلا عطاء يعلو على عطائه ولا اجتهاد في حضرة نصوصه، ولا طاغوت يرعي في ساحته. 5- وأن الناس خلفاء، يخلف اللاحق منهم السابق. والذوات تعظم، أو تصغر بمقدار قربها، أو بعدها من الله، وهداياته، وشريعته. وأن القيم التي علا بها العالون باقية، وأن نعمة الوعي التي فقه بها الأولون ماضية، وأن كلمات الله التي اعترفوا منها لا تنفد. 6- وأن روح الإسلام تخفق من حول المسلمين، وتنعش في سمواتهم فلا يمكن لعين مؤمنة أن تخطئها. وهي الملاذ أن تعددت الرؤي، وكثرت المفاهيم. 7- وأن رائد المسلمين دائمًا أحاديث رسول الله، ومنها ما رواه ابن مسعود، وزيد بن ثابت رضي الله عنهما: (نضر الله عبدًا سمع مقالتي، فحفظها، ووعاها، وأداها: فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلي من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل[3] عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم فإن دعوتهم تحيط من ورائهم". يتبع،، [1] العيافة: زجر الطير، والتفاؤل بأسمائها وأصواتها، والطرق نوع من التكهن. ومنه الضرب بالحصى، والخط في الرمل، واللعب بالودع ونحوها من التمائم... والغول واحد الغيلان وهي جنس من الجن، والشياطين. وكانت العرب تزعم أن الغول يتراءى للناس في الفلاة وتتلون لهم تلوناً في صور شتى وتضلهم عن الطريق وتهلكهم فنفاه النبي، وأبطله. فتح المجيد ص310 [2] الهامة اسم طير كانوا يتشاءَمون به، أو إشارة على ما كانوا يعتقدون من أن روح الميت تنقلب هامة تطير. وصفر ما كانوا يعتقدون من أن في البطن دابة تهيج عند الجوع وربما قتلت صاحبها.. إلى غير ذلك من قولهم أنه العدوى، أو حية في البطن، أو ما كانوا يعتقدون من أن شهر صفر شهر شؤم. [3] لا يدخله حقد، ولا يخون، والمعنى أن هذه الخلال الثلاث تستصلح بها القلوب، فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدخل والشر. أ.هـ «مشكاة». |
رد: نفحات قرأنية رمضانية
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن أحمد مظهر العظمة بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185] في ليلة مباركة من شهر رمضان الذي كان سيدنا محمد يأوي فيه إلى غار حراء، يفكر فيه فيما كان يرى ويسمع من قومه، مما ينكره لبه ولا يميل إليه قلبه، ويمعن في هدوء الغار أمام جمال السماء وجلال الجبل، بآلاء مَن خلَق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعَله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة، فخلق العلقة مضغة، فخلق المضغة عظامًا، فكسا العظام لحمًا، ثم أنشأه خلقًا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين[1]؛ في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر - تنزل القبس الأول من شعلة النور الإلهي، يحمله الوحي إلى رسول العرب والعجم (صلى الله عليه وسلم)، كما يحمل الفجر هدية ذُكاء إلى النهار. تنزل القبس الإلهي في نور من الكلام، ألفاظه مصابيح الهدى، لتكون الأرض كالسماء: لهذه كواكب تضيء، ولهذه عباد صالحون، يملؤونها حقًّا وعدلاً وجمالاً، بعد أن ملئت باطلاً وظلمًا وظلامًا. كلمات وجمل، حية خالدة، عملها أن تثير في النفوس إعجابًا لا ينتهي، ونشوة لا تنقضي، وعلمًا لا ينفد، وإيمانًا لا شك معه ولا فتور ولا ضعف، كلما زدتها نظرًا، زادتك إعجابًا ونشوة وعلمًا وإيمانًا... وانتهت بك إلى معانٍ للإعجاز خلفها معانٍ، كأنها (اللانهاية) لا تقف فيها على حد مهما طويت بُعدًا وبذلت جهدًا! وإن كتابًا عربيًّا على ذلك كلماته وآياته، كيف تنتهي بيناته ومعجزاته؟ وكيف لا يجعل أمة لها للبيان أسواق، ولناشئها فيه أحكام بلغت من لطف الذوق وقوة الإمعان وسلامة الرأي، ما لم نسمع له مثيلاً في آداب الأمم الأخرى[2]، كيف لا يجعلها تؤخذ أخذًا لا تجد عنه سبيلاً؟ حتى كان فيها مَن يسجد لبيانه إذا تليت عليه آياته، كما كان ذلك حين سمع أحدهم قارئًا يقرأ: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ﴾ [النجم: 1][3]، ومن أروع ما يروى في هذا الصدد: أن الوليد بن المغيرة والأخنس بن قيس وأبا جهل بن هشام، وهم من أكابر بلغاء قريش، سمعوا ليلة آيَ الذِّكر الحكيم يتلوها النبيُّ عليه أفضل الصلاة والتسليم، وهو يصلي في بيته، وانصرفوا صباحًا، فجمعتهم الطريق، فتلاوَموا وقالوا: إنه إذا رآكم سفهاؤكم تفعلون ذلك، فعلوه واستمعوا إلى ما يقوله، واستمالهم، وآمنوا به، ولكنهم عادوا في الليلة الثانية، ولما أصبحوا، جمعتهم الطريق، فتحالفوا ألا يعودوا لمثل ما فعلوا، فلما تعالى النهار، جاء الوليد بن المغيرة إلى الأخنس بن قيس، فقال: ما تقول فيما سمعت من محمد؟ فقال الأخنس: ماذا أقول: قال بنو عبدالمطلب: فينا الحجابة، قلنا: نعم، قالوا: فينا السدانة، قلنا: نعم، قالوا: فينا السقاية، قلنا: نعم، يقولون: فينا نبي ينزل عليه الوحي، والله لا آمنتُ به أبدًا، فصدته العصبية كما ترى عن الحق، والوليد بن المغيرة هذا هو الذي طلب إليه أبو جهل أن يقول في النبي صلى الله عليه وآله قولاً يبلغ قومه أنه له كاره، وكان قد سمع منه القرآن، فقال: ماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برَجَزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، والله إن لقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمِر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدَعْني حتى أفكر، فلما فكر قال: (هذا سِحر يؤثر، يأثره عن غيره)، وخير من هؤلاء عمرُ بن الخطاب الذي انقلب إلى الإيمان بالقرآن، وقد جاء ليصد عنه ولينكل بمن آمن به. • • • اجتمعت لغات الغرب ببيان القرآن، على أفضل ما يمكن أن تجتمع عليه من الكمال، فبقي منها الصالحُ للبقاء، وذهب الزبد جفاءً، وكشف بمعانيه ما كان في صدورهم من غِلٍّ، وما يدور بينهم من شَحْناء، فأصبحوا بنعمة الله إخوانًا، ولبث يؤثِّر فيهم تأثيرًا عامًّا برِفْق وحكمة وأناة، حتى يفقهوا الإسلام فقهًا صحيحًا، ويقفوا على أغراضه، ويسعَوا إلى غاياته، فيحملوا راياته من الصحراء إلى الظل والماء، ويحوطوها بهمم وعزائم وثبات، إلى أن يوفوا على القصد فيبلغوا كلمتها سليمة كما أنزلت ففهموها بلغتها وبلاغتها، ويجعلوا الأمم كلها تشترك في بناء جنسية قلوب مؤمنة بالله، عربية بلسان كتابها العربيِّ المبين، ولكن ليست عصبية ما دامت لقلوب أمم وسلامة أوطان. • • • كذلك أخذ القرآن يؤثِّر في العرب، حتى خلقهم خَلْقًا جديدًا، قرآنيًّا، فأصبح القرآن مناجاة الصلاة، وإلهام الخلق، وسنَّة الحكم، ومنهاج العمل، ووحي الأدب، ولسان الدعوة، ونشيد الجهاد، وأصبح العرب معانيَ للفضائل في صور البشر، هبت على العالم، فملأته عطرًا من أنفاس الحق والخير والجمال. • • • وقد تعهد المسلمون كتابهم عملاً وحفظًا ودرسًا وتلاوة، حتى كان لهم به من معارف العلوم والفنون الشيء الكثير، وبلغ تفسير أحد مفسريه مائة مجلد، وكان منهم من يختم تلاوته في شهرين، ومنهم في شهر، وفي عشر ليال، وفي ثمان ليال، وفي سبع - وهذا أفضل الأكثرين من السلف - وفي ست، وفي خمس، وفي أربع، وفي ثلاث، وفي يوم وليلة، وبلغ أبعد من ذلك أن الكاتب الصوفي[4] روى أنه ختم أربع ختمات في الليل، وأربعًا في النهار، وممن كان يختمه في ركعة: عثمان بن عفان، وتميم الدَّاري، وسعيد بن جبير، رضي الله عنهم. وتدبر القرآن هو المقصود بالتلاوة، ولا جرم أن الناس يتفاوتون في تدبرهم بتفاوت مداركهم وأشغالهم، كما يختلف التدبر نفسه بمعانيه الدانية القطوف أو البعيدة المنال. وخير لمن يظهر له بالإمعان في قراءة القليل مع الاتئاد، ما لا يظهر له في قراءة الكثير مع الإسراع: أن يقتصر على قليله؛ فإن قليله جليل، والعبرة (للكيفية) لا (للكمية)، وفي الأثر لا في النظر، وقد كان من السلف من يتلو الآية الواحدة ليلة أو معظمها يتدبرها، وكان ضياء الدين بن الأثير أحد أئمة البلاغة وصاحب كتاب المَثَل السائر، يختم القرآن مرة في الأسبوع، وزاد إمعانه فيه، فأخذ يقرؤه مرة في الشهر، وقوي تدبره إياه، فجعل يقرؤه مرة في السنة، وغاص في طلب درره، فأتى عليه سبع سنين، لم يبلغ فيها بلاغة كلمه وحروفه فحسب، لا معجزاته الخلقية والعلمية والاجتماعية... • • • وإن مما يحز في النفس، أن نرجع البصر اليوم إلى شباب الإسلام - وهم أملنا في الغد - فنرى كثيرًا منهم يتعثر لسانه في قراءته، كأنه يسير في طريق لاغب، فكيف لا يتعذر عليه بعد ذلك تدبره، وكيف ترجو أن يكون على خير، وقد أحاط به التواءُ العصر وتيهه من كل جانب، فأصبح كبيئته: بلسان ملتوٍ، وجنان تائهٍ، وآمال كخضرة الدمن؟ وهكذا ضعفت قراءة القرآن فضعف البيان، وهانت النفوس، وكلَّت العزائم، وفشلت السياسة، وهكذا كانت الرطانة جرثوم المرضى، وعلاجها بالقرآن ثابت؛ إذ ما جرت البلاغة على لسان أو قلم كاتب بالعربية مسلم أو غير مسلم، إلا وجرى من قبلها القرآن على لسانه، وجرى منه إلى نفسه نوره الذي يشرق فيما يخرجه من آثاره للناس. المصدر: مجلة التمدن الإسلامي، السنة الثالثة، العدد السادس، 1356هـ - 1937م [1] اقرأ تفسير أصل الآية العجيب للأستاذ الحكيم داود الأنطاكي، المتوفي سنة 1008، وقد نقلها المرحوم النابغة الأستاذ الرافعي لكتاب: إعجاز القرآن، ص 173. [2] من ذلك أن الخنساء نقدت حسان بن ثابت في سوق عكاظ حين أنشدها قوله: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأسيافنا يقطرن من نجدة دما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولدنا بني العنقاء وابني محرق https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فأكرِمْ بنا خالاً وأكرم بنا ابنما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فقالت له: ضعفت افتخارك وأنزرته في ثمانية مواضع، قال: وكيف؟ قالت: قلت (لنا الجفنات) والجفنات ما دون العشر، فقللت العدد، ولو قلت: (الجفان) لكان أكثر، وقلت (الغر) والغرة: البياض في الجبهة، ولو قلت: البِيض لكان أكثر اتساعًا، وقلت: (يلمعن)، واللمع شيء يأتي بعد الشيء، ولو: (يشرقن) لكان أكثر؛ لأن الإشراق أدوم من اللمعان، وقلت: (بالضحى) ولو قلت: (بالعشية) لكان أبلغ في المديح؛ لأن الضيف بالليل أكثر طروقًا، وقلت: (أسيافنا)، والأسياف: دون العَشر، ولو قلت: سيوفنا كان أكثر، وقلت: (يقطرن) فدللت على قلة القتل، ولو قلت: (يجرين) لكان أكثر لانصباب الدم، وقلة: (دمًا) و(الدماء) أكثر من الدم، وفخرت بمن ولدت، ولم تفتخر بمن ولدك، (فتأمل). [3] حدثنا الأمير شكيب أرسلان حفظه الله عن فتاة ألمانية كانت تسمع في الآستانة القرآن مِن قارئ تركي حسن الصوت، ولما أتم قراءته قال للأمير وقد شهدها تبكي: ما يُبكي هذه أهي موسيقية؟ فسألها الأمير فأجابت: لقد سمعت ما لم أسمع له مثيلاً، وأرجو أن تدعوني لسماع هذا القارئ كلما دعوته للقراءة، فتأمل في موسيقا القرآن وتأثيره منه حتى في الأعاجم. [4] كتاب الأذكار للنووي. |
رد: نفحات قرأنية رمضانية
(نفحات قرأنية رمضانية) نفحات قرآنية (33) بخاري أحمد عبده قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة : 183 - 185]. ذهب رمضانُ الشهرُ، ولكن بقيت النفوس المحمومة التي تتقلب في رمضاء[1] حياة قفرةٍ عجفاء[2]. بقيت نفوسٌ لهفى[3] (بتسكين الهاء، وفتح الفاء)، تعوزها السكينةُ والعزة، والوئام والصحة النفسية، ويؤودها الجحود والجمود، والغلظة والإمعية، والتبعية الذليلة. وظنَّي أنَّ الارتباط الطويل بآلاء الصيام، وأشفية القرآن، ورِضاب[4] الحكمة، ونفحات السماء يوفر لتلك النفوس الرَّمِضَة (بتشديد الراء وكسر الميم؛ أي: المحترقة) فرصَ الصحوة، والنخوة والانبعاث، ويهيِّئ لها أن ترشدَ وتعي، وتستأنف المسيرة على هدًى وبصيرة. فلا ملامة إذا تشبثنا بهذه الآيات، نحتلب دَرَّهَا، ونحيا بَرَّهَا، ونستمطر فَيْضَها؛ عسى أنْ يسَّاقط (بتشديد السين المفتوحة) غَدَقًا[5] فوق أجداث[6] رمت فينبت ما فيها من هشيمٍ، كما تنبت الحبَّة في حميل السيل[7]. فوق أنَّنا - إذْ نظلُّ مشتملين بآيات الصِّيام متلبسين بأرواحِها - نظلُّ نجترُّ أمجادَ الشهر، ونستحضر طلاوتَه وحلاوته، ونعيش أجواءَه العبقة، نغالب بها عفنَ الواقع، وضراوة الأيام. الفضاء القرآني: والفضاء القرآني كالفضاء الكونيِّ، هذا لا يُدرك مداه، وذاك لا تنقضي عجائبُه، مصداقَ ما أُثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلاهما يأسر ويدهش، ويثير بإعجازه مشاعرَ العجز، والضآلة في هذا الإنسان، وكلاهما ينفتح كلَّ يوم عن آفاقٍ جديدة تهدي، وتُرْبي (بضم التاء وتسكين الراء) حقيقةَ الإيمان. ولقد سَبَحْنا سبْحًا طويلاً في الفضاء القرآني المهيب، مقتفين هديَ آياتٍ تَزْخَرُ بالحياة، وتبثُّ من أضواء الحرية، والشَّمم ما تبث، واستقامتْ إشاراتُ القرآن اللطيفة إلى مدارج التحرير وأسباب الخلاص، وإلى مقوِّمات الشخصية الإسلامية المستقلة، استقامتْ معالم بل مفاعلات بناءة تتوهَّج رشيدةً وكأنها أطواقُ النجاة تطفو فوق العُباب، وتتراءى لأبصارِ غرقى لاهثين يعانون ذلَّ المَتْرَبة وحرَّ المَسْغبة، وحقارةَ الأذناب وضغط القيود، وأغلال الجمود. وأطللنا من الفضاء القرآني على عالم المسلمين فأطلنا الإطلالة، ورصدنا - متأثرين بما نعاني من جوًى وقهر - ما كان - كما هو كائن اليوم - من فراغ وجداني، ومن غزوٍ فكري، ومن استثمار خسيس لمشاعر الجهالة، وعقد التخلف، والنقص. وأطللنا فرأينا يدَ الإسلام الآسية تسل سخيمة الصدور، وتمحو علل الهوى، والشهوة، والمادانية العمياء، وكلَّ الآفات التي يبذر بذورَها الشيطان، ويصلى نارَها الحمقى. تنطع وتصدع: وأطللنا - متأثرين بما نعاني - فرأينا عينًا حَمِئَةً، آسِنةً يعمرها قوم لا يكادون يفقهون قولاً، داؤهم الجمود الذي يورث الشَّلل، ويشي بالفراغ الرَّهيب، لا يسمنون ولا يغنون، تحسبهم أيقاظًا وهم رقود، بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتَّى، تراودهم الرؤى، وتلفهم أغشيةٌ تحجب عنهم يُسرَ الإسلام، ورفقه وسماحته، وقدرته على التطوير والإظهار، وحول العين الحمئة[8] - حيث تغرب الشمس - رأينا تيوسًا جاحدة تعرْبِد وتَنِبُّ، حُشي أديمُها بالجذع والمغالطات، والمقت الشديد للنور، ثم أُطلقت لتعبث وتفسد، ودارتْ حول أمعائها كما يدور الحمار بالرَّحى، لا يفطن إلى أنه معلَّق، ولا يدرك أنَّ زمامه في يد غيره. وأولئِك، وهؤلاء ذوو حس متبلِّد صَفيق ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ [الأعراف : 179] فأنى لهم أنْ يحسوا بمثل الإسلام وقيمه، وشأوه الرَّفيع؟ أنى لأمثال هؤلاء المطوِيِّين في لفائف الجمود، وأولئك المستهتكين[9] المنتشين بعرْي (بضم العين وإسكان الراء) الجحود أنْ يدركوا: 1- أنَّ المؤمن إذا امتلأ فراغه بالإيمان استقام على الطريقة وسكن. 2- وأنه إذا داوى علل عالم الشهادة بأشفية من عالم الغيب صحَّ، واتَّزن (بتشديد التاء المفتوحة). 3- وأنه إذا عالج سُعار المادانية بتِرْياق الرَّوحانية سلم، وأمن. 4- وإذا تعاهد وعورةَ النفس ببلسم السَّماحة وسائر صفات الجمال طاب، وغنم. 5- وإذا سالت أوديتُه بقدرها فلم يغل (بإسكان الغين وضم اللام)، ولم يتقعر، وغدا وراح رحب الشمائل فضفاض الرداء رضي وأرضى، ونزل سهلاً، وحلَّ في كل مكان أهلاً. 6- وأنه إذا جمد نبذ، وإذا ركد أسن وتعفَّن، وإذا اشتمل بعقده اشتمال الصماء افتقد مرونة المسلم وتخلف، وبات على الصورة التي جاءت في حديث "أم زرع"[10] على لسان الزَّوجة الأولى التي وصفتْ زوجَها بأنه: ((..لحم جملٍ غث، على رأس جبل، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل..)). 7- وأنَّ الإسلام يحرِّك ويحرِّر، ويكر على الأغلال النفسية وغير النفسية ينقضها ويحطمها، حلقةً حلقةً، وعروةً عروةً، ويتيح - بهذا - للمسلم أن يخمل غيرَه، ويسبق عصره. 8- وأنَّ الخِلال السمحة التي ألزمنا بها الإسلام هي قوام الحرية، وهي المركب الميمون إلى سُدَّة (بضم السين وتشديد الدال المفتوحة؛ أي: الباب) التَّقارب والتكامل والوفاق، وهذه الصفات تعد من دعائم المجتمع الإسلامي المنيع، وهي ومثيلاتُها من رِفْق ويسر وحلم وليدة الأنفس الأبيَّة، السويَّة التي طهرتْ من أحاسيس الهوان، وعُقَدِ النقص. إنَّ إنسانية المسلم تصقلها وتجلوها هذه الخلال، وأصالة المجتمع المسلم ترسخ وتتأكَّد إذا اعتمد البناء على لبِنات مسلمة قوامها تلك الخلال. قداسة الزمان: والإسلام بكلِّ شعائره يستهدف - فيما يستهدف - تنميةَ المعنويات العليا في الإنسان، ثمَّ يحرص على أن "يعسكر" بالمسلم في أوقات ومواسمَ خاصة حتى تبقى لياقته، وتنمو قدراته على مغالبة ما رُكِّب فيه من لَدَدٍ ولجاج، وهوية وأنانية، وهلعٍ وطغيان... إلخ، فما أحراه بعد هذا أن يغزو كلَّ أشهر العام بمعطيات شهر رمضان، وأن ينفقَ فيها مما اكتسب في رمضان. والحقُّ أنَّ الإسلام ميَّز أزمنةً وفضَّل أيامًا، وكرَّم أشهرًا وحرَّم أخرى. إلا أنَّ فيض هذه الأوقات المختارة فيضٌ متعدٍ غيرُ لازم؛ بمعنى أنَّ الأيام التي اجتبيت، وخصت بمزيد فضل تبث خيرَها، وتمد شعاعها، وتشحن بسناها القلوب الملتزمة، وتفيض هذه القلوب بدورها فتملأ بنورها الأرجاء، وتعمُّ بأريحِها كلَّ الأزمنة، فكأنَّ الأوقات التي ميزها الإسلام محطات تقوية لكهربية الإيمان، وفاعلية الخير، وديمومة الإخلاص والإحسان والأخوَّة، وهذه الأوقات المميزة لا تلد هذه الخلال، ولا تصدرها إصدار قرص الشَّمس للحرارة والضوء، ولكنها مستودع ومستقر، والمولى - جلَّ وعلا - اقتضتْ حكمته أن يصدر إلينا أمره السامي الكريم؛ بأن قفوا أمام هذه المقدسات - الزمانية أو المكانية - وامتزجوا بها حتى يَحْدُثَ تفاعلٌ مهيب بينكم وبينها، ومصدر هذه القوة المفاعلة امتثال أمر الله، وتعظيم محارم الله، وتقديس شعائر الله، والقبول والرِّضى - بلا أدنى شكٍّ - بحكم الله، والوقوف - بلا عدوان - عند المعالم التي رفعها الله. وثمرة هذا التفاعل أنْ يدعم المولى هذه الوقفات، وأن يباركها ويرْبيها، حتى تغدو سحَّاحةً، ضخَّاخة، فيَّاضة، وأن يوفق هذا الإنسان المبارك إلى أن يشحن هذه الأوعية بالخير. وهكذا نعلم أنَّ هذه المقدسات تأخذ من الإنسان وتعطيه، لتأخذ منه المزيد، ثم تعطيه أزيد وأزيد على مدار العام كلِّه، والعمرِ كله. أمَّا إذا جفا الإنسان وقلا، وانفكَّ فلا يندمج، ولم ينفعل أو اكتفى بعلاقات شكلية جوفاء، أو ملأ تلك الأوقات بأشياء مبتدعة أو منكرة… إلخ، إذًا لنضب المعين، وانقطع التيار، وجفَّ الضَّرْع الثَّرَار، ورفعت البركة التي يتفضل بها الله. وآثار الانتفاع بخير هذه الأوقات تتجلى وئامًا والتئامًا، وجمعًا للكلمة، ووحدةً في الصف، وتقديسًا للهدف، واستعمالاً للحكمة وفقهًا للسُّنن، وموجبات التَّطور. فإذا انتفتْ هذه الخلال وحلَّ محلها التنافر والتدابر، والغلظة والشقاق وعشق الذات، والتزمت الخ…، فإنَّ لنا أن نوقن بأن هناك انفصامًا بين العقيدة والسُّلوك، وأنَّ الارتباط بالمقدسات ارتباط شكلي، وأنَّ دعوى الالتزام يكذبها الواقع، ويعوزها الدليل، مهما ضخمت العمامة، أو عظمت اللِّحية أو طابت الخطبة، أو خليت القراءة أو حسن السمت، أو قصر اللِّباس. إنَّ الإسلامَ مخبرٌ ومظهر، والشَّكليات المحضة تحيل أصحابها إلى دُمًى (جمع دُمية) وتورث النِّفاق وتشي بالعته، والفراغ. قداسة المكان: كذلك اصطفى اللهُ أراضيَ وأمكنة، وأضفى عليها من القداسة والجلال ما أضفى، وأمر أنَّ نتخذها مشاعرَ ومناسك ومزارات، وهذه المشاعر لا تنضح قداسة ولا تشعُّ جلالاً، ولكنَّها تثير المشاعر وتشبع الأرواح، وتسبي القلوب المؤمنة المذعنة المؤتمرة بأوامر الله، الممتلئة خشيةً، ورغبةً، وطاعةً، وحبًا، وإيثارًا، لما عند الله. وعند الممارسة والاتصال بهذه المقامات يتمُّ تفاعل لا يُدرك كنهُه بين المشاعر وبين الآمِّين النَّاسكين، وتتفتح في الطَّائفين والعاكفين والرَّكع السجود آفاقٌ، وتتحرك أسرار وتزكو أشواق، وتتدفق معانيَ الإجلال والهيبة والروحانية من تلك النفوس المؤمنة المشوقة، لتلتبس بهذه المشاهد، وتلتحم ويختلط المنبع بالمصبِّ، فالقشعريرة التي يحسها العاكف تنبعث من ذاته؛ من نفسه المؤمنة الخاشعة التي تهيَّأتْ لتكون أداةً حسَّاسة تستقبل وتُرسل، ﴿ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ [الزمر: 23]، والمعاني التي في تلك المقامات بتأثير ذلك الاتصال يباركها المولى، ويربيها حتى تغدو زادًا مباركًا يمتد خيرُه لكل مكان، ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة : 197]. إنَّ الأزمنةَ التي آثرها الإسلام، والأمكنةَ التي قدَّسها الإسلام وخصَّها بالشرف والرفعة، هي في الحقيقة طاقات بث، بل شواحن تدور أو تُؤَمُّ[11] (بالبناء للمجهول؛ أي: تقصد) فتفرغ من حمولاتها في القلوب لتزكو بها، ولتحصن - منها -[12] ذخرًا للأيام، وتنشر - منها - إغاثةً للأنام، فهي إذ تتراءى لا تتراءى ضيقةً، وهي إذ تغيب لا تغيب موعية[13] ممسكة، بل تنفح ولا تستبقي، وترسل دائمًا سحائبَها مثارة لتنتظم الأرجاء والآناء[14]. والإنسانُ المؤمن الذي جلا الإيمانُ شغافَ قلبه، هو الذي يستوعب كلَّ هذه النفحات ثمَّ ينشرها، ويغمر بها العباد والبلاد. فإذا جمد المسلم، وغلظت قشرتُه أضحى مصمتًا[15]، مختنق المسام، رديء التوصيل، وإذا ماع وتسيَّب تسيُّبَ الكثيب الهيل[16] افتقد التماسُك، وعجز عن الفاعلية والتأثير. ومِن هنا وجب أنْ يكون المؤمن سريعَ التكيُّف، مرنًا، مصداق الحديث: ((مثل المؤمن كمثل الخَامة من الزَّرع تميلها الريح تارة، وتعدلها أخرى)). ووجب أن يكون هينًا لينًا، مصداق الحديث: (( كالجمل الأنف، إنْ قيد انقاد، وإنْ أنيخ على صخرةٍ استناخ))، فأين نحن من هذا؟ إنَّ معظمنا شارد، ناب، يظهر وفق صورة أخرى سجلها حديثُ أم زرع ((قالت السابعة: زوجي غَيَاياء[17]، أو عَيَاياء[18]، طَبَاقاء[19]، كل داء له داء، شجَّك[20]، أو فلَّك، أو جمع كلاًّ لك..)). معظمنا يرزح في أغلال الخيبة، وينوء تحت أطباق العجز ويشكو متبرِّمًا من كلِّ شيءٍ، ومن لا شيء، ويثور فيفقد توازنه، ويؤذي - قبل البعداء - الأقرباء، فهل يؤتمن مثل هذا على الإسلام، والمسلمين؟ (يتبع) [1] الرمضاء: القيظ الشديد. [2] ذهب خيرها. [3] حسيرة تستغيث. [4] الرضاب الشهد. [5] غزيرًا. [6] الأجداث: القبور، والمراد: من فيها. [7] حميل السيل: ما فيه من طين ونحوه مما يساعد على الإنبات. [8] ذات طين أسود. [9] لا يبالي أن يهتك ستره. [10] حديث صحيح تناول مؤتمرًا نسائيًّا تحدثت فيه الزوجات عن أزواجهن بصراحة. [11] تقصد. [12] تدخر. [13] مختزنة، مخفية. [14] الآناء: الأوقات [15] المصمت الذي لا جوف له. [16] الكثيب المهيل: الرمل المتناثر، من قوله سبحانه: ﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا ﴾ [المزمل : 14]؛ أي: رملاً مجتمعًا متناثرًا بعد أن كنت حجارة صلبة متماسكة. [17] من الغيِّ الذي هو الضلال والخيبة. [18] العيي العاجز الضعيف. [19] تنطبق عليه الأمور وتستغلق فلا يرى لها حلاًّ. [20] كناية عن تخبطه، وتهوره وعدوانيته. |
رد: نفحات قرأنية رمضانية
أسرار القرآن في شهر رمضان خميس النقيب نعيش مع كتاب الله - عزَّ وجلَّ - نعيش مع هذا القرآن، عطاءِ الله للأمَّة في شهر رمضان؛ ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]، كتاب مبارك: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ﴾ [الأنعام: 92]، أُنزل في ليلة مباركة: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴾ [الدخان: 3] ليلة السلام، ليلة الأمن، ليلة القدر؛ ﴿ إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 1- 5]. نعيش مع كتاب الله الذي ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42]. لو أن أمَّة من الأمم أُعْطِيت آية واحدة صحيحة من هذا الكتاب لاتَّخذَتْ ذلك اليوم عِيدًا، ولعَضَّتْ عليها بالنواجذ. إنَّ الله - تعالى - اختارها لِهَذا الكتاب، واختار هذا الكتاب لها، رُزِقت القيادة، ورُزقت الرِّيادة، وجعَلها الله - عزَّ وجلَّ - الأمة الوارثة؛ ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء: 105]، وجعَلَها أمَّة الخيريَّة: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾ [آل عمران:110]، وجعَلَها الله الأُمَّة الشاهدة على الأمم يوم القيامة؛ ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]. لِتَكونوا شهداء على الناس بهذا الكتاب، ويكون الرسول عليكم شهيدًا أيضًا في هذا الكتاب، بلْ ذِكْر الأمَّة مرتبط بالقرآن؛ ﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10]، فيه مجْدُكم، وفيه عِزُّكم، وفيه علُوُّكم؛ ﴿ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139]. حياة أفضل بالقرآن، وطريقة أفْضَل بالقرآن، وشريعة أفْضل بالقرآن، وإنَّ هذا الكتاب ليَشْكو إلى الله - عزَّ وجلَّ - هذه الأمَّة، لماذا اخْتارت الجهل وأمَامَها العلم؟! وهي أمَّة اقرأ؛ ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، اختارت الذِّلَّة وأمَامها العزَّة؛ ﴿ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 139] اختارت الضَّلاَلة وقد هداهَا الله ربُّ العالَمين، ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [الأنعام: 39] ﴿ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 178]. الأمم السابقة آثروا العمَى على الهدى: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [فصلت: 17]. إذًا؛ كتاب ربِّكم بين أيديكم، أيْن أنْتَ من حَلاله وحرامه؟ أين أنت من ذِكْره وشُكْره؟ أين أنت من تلاوته وترتيله؟ أين أنت من حروفه وحدُوده؟ أين أنت من أمْرِه ونَهْيه؟! هل تعلَّمْتَ تلاوته وترتيله؟ هل تدبَّرْت آياتِه ومعانِيَه؟ هل علَّمْتَه أولادك؟ إنَّه حبْل الله المتين، ونورُه المبين، وصراطه المستقيم، ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [الزخرف: 43] نعَم، سوف تُسألون عن آياته، وعن حرُوفه وعن حدوده، وعن أمره ونَهْيه، كتاب الله - عزَّ وجلَّ - مَن ترَكَه مِن جبَّار قصَمه الله، ومَن جعلَه خلْفَ ظهْرِه أضلَّه الله، ومن صَدَّ الناس عنه أذَلَّه الله! كتاب يستقيم مع الفطرة: هل يَحْيا السمك بلا ماء؟! هل يَعيش البشر بلا هواء؟! كلاَّ! كذلك الكون يَحتاج إلى منهج لِيَنتظم مع فطرة الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30] منهج الإصلاح ومنهج التصحيح، منهج الذِّكْر: ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ﴾ [الأنبياء: 10] ومنهج العلو ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139] دستور القوامة والبشر في الأرض؛ ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9] المنهج الحاجز من التدَنِّي، والمانع من الجهالة والعاصم من الضلالة؛ ((ترَكْتُ فيكم شيئين لَن تضلُّوا بعدَهما: كتاب الله وسنَّتِي، ولن يتفرَّقا حتَّى يَرِدا عليَّ الحوض))؛ تخريج السيوطي، عن أبي هريرة، تحقيق الألباني: "صحيح" انظر حديث رقم: 2937 في "صحيح الجامع". ويقول الله - تعالى -: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]. إن الإسلام منهج حياة بالقائد القرآني، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم المنهج الربَّاني وهو الكتاب والسُّنَّة، ثم بالجِيل الذي يَقتدي بالرسول القرآني، ويطبِّق المنهج الرباني. الله - تعالى - يقول: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23] أحسن الحديث تلين له الجلود وتخشع له القلوب، والله - عزَّ وجلَّ - قد وصَف عباده عندما يقرؤون كتاب الله: ﴿ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴾ [الفرقان: 73] كيف؟ لا يَسمعونه سَماع الصُّم، لا يقرؤونه قراءة المنافقين، كيف؟ ((رُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه))؛ يقْرَأ آيات الصدق ويكْذِب، ويقرأ آيات الإخلاص ويُشْرِك، ويقرأ آيات العدل ويظلم، رُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه. أمَّا عباد الرحمن عندما يَجلسون مع القرآن فلَهُم آذان مصْغِية، ولهم قلوب واعية، ولهم أعْين راعية، ترعَى حدود الله - عزَّ وجلَّ - فلا تتعدَّاها. كتاب الله - عزَّ وجلَّ - أنزله على قلب رسوله؛ ليقرأه على الناس على مكث لتخشع قلوبهم، وتتطهَّر صدورهم، وتتزكَّى نفوسهم، وتتألَّق عقولهم؛ ليتعرَّفوا على ربهم وخالقهم ورازقهم - سبحانه وتعالى. كتاب ربَّاني شامل: القرآن فيه آيات الله وأسماؤه وصفاته، فيه صفات المؤمنين والكافرين والمنافقين، ومصاير هؤلاء، فيه الجنة والنار، فيه الوعد والوَعِيد، فيه الترغيب والترْهيب، فيه الأمر والنَّهْي، قال - تعالى -: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89]. كيف لا، وهو رُوحٌ تسْري في الأمَّة؟! ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52]. كيف لا، وهو حياة تَنْعم بها الأمَّة؟! ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 122]. كيف لا، وهو شفاء؟! ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82]. كيف لا، وهو سبيل الهداية لِمَا يُصْلِح البلاد والعباد؟! ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9]. كيف لا، وهو حَبْل الله المَتِين، ونُورُه المبين، وصراطه المستقيم، مَن قال به صدَق، ومن حَكَم به عدَل، ومن عَمل به أُجِر، ومن دَعا إليه هُدِي إلى صراط مستقيم؟! لكل مؤلِّف كتاب، ولكلِّ شاعر ديوان، ولكل فيْلسوف منْطِق، وكلٌّ يقدِّم لِعَملهقائلاً: "إنْ كان هناك تقصير فمن نفسي وان كان غير ذلك فمن الله"، أمَّا كتاب الله فالأمْر فيه يَختلف؛ إنه - سبحانه - يقدِّم له بقوله: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾ [البقرة: 2]. أين نحن من هذا المنْهج الربَّاني؟ أين نحن من دسْتور الأمَّة؟ أيْن نَحْن من حبل الله المتين؟ ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103] أين نحن من حلاله وحرامه؟ مِن دوائه وشفائه؟ من أمْرِه ونهيه؟ من وعْده ووعيده؟ من ترغيبه وترهيبه؟! بل أين نَحن من تلاوته وتدَبُّره والتأثُّر به ذِكْرًا ووجَلاً وقربًا من الله - عزَّ وجلَّ؟! أمَّة بغير قرآن كيف سيكون حالُها؟! أمَّة بغير منْهج كهذا: كيف سيكون مصيرها؟! أمَّة عطَّلَت آياتِه وأحكامَه وحدودَه وهي جريمة شنيعة كيف سيكون مآلُها. كتاب للتدبر والتذكر: جاء القرآن كتابًا مبارَكًا من عند الله؛ لِتَتَّبِعه الأمَّة؛ ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: 155]؛ لتتدبره الأمة؛ ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، ولا تُنْكِرَه؛ ﴿ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾ [الأنبياء:50]، يَصُونوا حدوده، ويَرْعوا عهوده، يحفظوا كلماته ويدَّبَّرُوا آياته؛ ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17]! كتاب تأثَّر به كلُّ شيء في الحياة: تأثَّر المشْرِك حين سمع القرآن فقال: إنَّ له لَحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعْلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يَعْلو ولا يُعْلَى عليه. سَمعه أهل الكتاب فخشعت قلوبُهم، ودمعت أعينهم، وآمنوا بالله ورسوله؛ ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 83]. سمِعَتْه الجن ﴿ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴾ [الجن:1،2] ﴿ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 29] وتحوَّلوا إلى دُعاة لهذا المنهج؛ ﴿ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الأحقاف: 31]. سَمِعه الجماد، فخشَع من خشية الله؛ ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21]. هل بَعد ذلك يتأثَّر المؤمن عند سَماعه للقرآن؟ نعَم، المؤْمن الحقُّ يتأثَّر ويزداد إيمانًا؛ ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]. كتاب يطمْئِنُ النفوس، ويُسكن الأرواح، ويُفْرِح القلوب: ظنَّ البعض بأنَّ مرور الزمان يقلِّل من صلاحية القرآن في الهداية، وهذا خطأ على الإطْلاق؛ فالقرآن هو كتابُ هداية مطْلَق متَى فَهِمه الإنسان فهْمًا صحيحًا، وأنَّ هداية القرآن ليست مُرتبطة بظرف أو زمان؛ ففي كلِّ الظروف هناك هداية ربَّانية، القرآن الكريم له صفة الإطلاق والقطعيَّة والَّتي لا يتَّصِف بها غيره من الكتب السَّماوية، كما أنَّ القرآن يُعْنَى بالكلِّيات والأمور العامة والأصول الثابتة الَّتي لا علاقة لها بالمتغيِّرات. كما أنَّ إعجاز القرآن هو إعجاز عِلْمي يَصْلح في كلِّ زمان ومكان، كما أنَّ القرآن نزل للناس جميعًا على كافَّة مسْتوياتهم، لكنَّ الكثير من المسلمين غاب عنهم "تفعيل القرآن في الحياة". وإنَّ القرآن أصْبح يُقرأ في المآتم أو على الأمْوات، ويَستأجرون مَن يَقرأ عليهم؛ ممَّا طبَع في أذهان الكثير من العوامِّ أنَّ القرآن يُقْرَأ في الأحزان فقط، في حين أنَّ القرْآن جاء للطمأنينة والسَّكِينة والفرح والغِبْطة والسرور، بل إنَّ القرآن جاء أيضًا لإِحْياء القلوب والعقول. فالقرآن الكريم ربَّى الأمَّة المسلمة على كيفية التعامل والتعايش مع الأُمَم الأخرى؛ قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]، وقال - تعالى -: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [البقرة: 83]. يُرْوَى أنَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يَسِير في طرقات المدينة، وإذا به يرى طفلاً صغيرًا ذاهبًا إلى المسجد؛ ليحْفظ كتاب الله، وكان هذا الفتى يمشِي كعادة الفِتْية لاهيًا ولاعبًا في طريقه، لكنَّه كان يردِّد آيات الله التي سيَقوم بتسميعها لمعلِّمه في المسجد، وإذا بأذُنِ عمر بن الخطاب تَسمع هذه الآية من هذا الصبي الصغير: ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ﴾ [الطور: 7 8] فسقط عمر بن الخطاب من سماعها علي الأرض مغشيًّا عليه، وكلما كلَّمَه أحد قال: ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ﴾ [الطور: 7 8] يا ربِّ ارْحم عمر بن الخطاب، يا رب ارحم عمرَ بن الخطاب، وظل مريضًا في فراشه لمدَّة شهْر!. صلاح الدِّين يتفَقَّد خِيَام الجند ليلاً قُبيل حطِّين، فيَسمع أزيز صدور جنودٍ يَقُومون الليل ويَقرؤون القرآنَ فيشير للخيمة محدِّثًا مساعده، قائلاً: من هنا يَأتي النَّصْر، ثم يمرُّ على خيمةٍ أخرى فيَسمع جنودًا يَلْهُون ويلعبون، فيقول: ومن هنا تأتي الهزيمة. قال عبد الله بن مسعود: إنَّ أحَدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته، لا يُسْقِط منه حرفًا واحدًا، وقد أسقَط العمل به. هل تتأثَّر لتلاوة القرآن أو لسماعه؟ يقول صاحب "الظِّلال": "الحياة في ظلال القرآن نعْمة، نعمةٌ لا يعرفها إلاَّ مَن ذاقها، نعمة تَرفع العمر وتباركه وتزكِّيه". وهذا بطل العالَم في الملاكمة "محمد علي كلاي" عام 1960 لما بلَغ العشرين من عمره حصَل على لقب بطل العالَم في الملاكمة في أقْصَر المباريات، وأمام ضَجِيج المعْجَبين، وفلاشات آلات التصوير أَعْلَن إسْلامه قائلاً: "أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله"، ولمَّا سُئِل عن سبب إسلامه قال: "بدَأْتُ أعيش مع القرآن، وخاصَّةً مع الفاتحة أوَّلِ سورة حَفِظتها منه، وبدأتُ رحلةَ الإسلام رحلةَ طُمَأنينة، ورحلة إيمان يَعِيشها صاحبُها بتعاليم خالِقه" وقال: "إننا لو قُمْنا بهذه الدعوة سنَجِد حشودًا كبيرة تَدخل إلي الإسلام، الَّذي عنْدما تقارنه بغيره مِن الأديان تعرف أنَّه الدِّين الذي يهدي القلوب إلى دين الحق والنقاء". جاء القرآن لتأسيس أصُول الحياة وبناء الحياة ونشْر العدالة والمساواة بين الناس، قال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾ [الإسراء: 70]. كما أنَّ القرآن دعا إلى الحرِّية، فمِن نُظُمِ القرآن في الهداية والإصلاح "الإعداد للمستقبل"، مثلما جاء في قصة سيدنا يوسف: ﴿ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ﴾ [يوسف: 47]، فالقصَّة ليست استثناءً، ولكنها دعوة للمسلمين جميعًا إلى التخطيط والإعداد للمستقبل. ولقد استوعبَ القرآنُ الحضاراتِ السابقة؛ فالقرآن الَّذي هو منهاج الإسلام لم يأت للقضاء على الحضارات السابقة، ولكنْ لتقويمها وتصليحها وتعديلها، والاستفادة من تَجارِبها، ولقد رَحَّب الإسلام بكل منْجَزات البشرية، والتي لا تتعارَضُ وإنسانيةَ الإسلام، نزَل مفرَّقًا على ثلاثة وعشرين عامًا على مُكْث؛ لِتُعْلِمَ الناس بما فيه. وعلى هذا؛ فإنَّ جَميع المسلمين مدْعوُّون كلٌّ على قدْر استطاعته إلى العمل بما يخْدم الإسلام والمسلمين، وبالوسائل الممْكِنة والنافعة، فإنَّ الفلاح كلَّ الفلاح في الأخْذ بهذا المنهج القويم، وصدَق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنِّي تارِكٌ فيكم ما إنْ تمَسَّكتم به لن تَضِلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنَّتِي))؛ صحيح مسلم. والأمَّة التي تَستمسك بِهذا القرآن قادمة، نَرى بشائرها في الجهاد المقدَّس، وفي امْتلاء المساجد، وفي الأمْر بالمعروف، وفي النهي عن المنكر، وفي المواقف القويَّة التي تَقُول للفاجر: قِفْ، وللظالِم: توقَّف، وللناسي: تذكَّر، وللجاهل: تعلَّم، وللمقصِّر: عُد، وللمذْنِب: استغْفِر، وللضالِّ: اهْتَدِ. نريد الصَّحْوة التي تنبعث من أعماق البيوت، وتَخرج من أعماق المساجد، وتَدخل في أعماق القلوب؛ لتحرِّكها بالله، وتَجمعها على الله، وتذكِّرها بالله؛ ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45] وتؤثِّر فيها بكتاب الله؛ ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10]. اللَّهم اهْدِنا إلى العمل بكتابك وبسنَّة نبيِّك، وارْزقنا الإخلاص في القول والعمل، ولا تَجْعل الدنيا أكبر همِّنا ولا مبْلغ عِلْمنا، وصلَّى الله على محمد، وعلى آله وصحْبه وسلَّم، والحمد لله ربِّ العالمين. |
خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد
بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـهُ (1) أيامـــاً معدودات الحمد لله الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليلَ والنهارَ خِلْفَةً لمن أراد أن يذَّكر أو أراد شكوراً، وصلى الله على مَنْ بُعِثَ بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد: .. فإن رمضانَ أيامٌ معدوداتٌ، وفرصٌ سانحاتٌ، وإن اغتنام هذه الأيام لدليلُ الحزم، وإنَّ انتهاز تلك الفرص لعنوانُ العقل؛ذلكم أن الوقت رأسُ مالِ الإنسان، وساعاتِ العمرِ هي أنفسُ ما عني الإنسان بحفظه؛ فكل ساعة من ساعاتِ عُمُرِكَ قابلةٌ لأن تضعَ فيها حجراً يزداد بها صرحُ مجدِك ارتفاعاً، ويقطع بها قومك في السعادة باعاً أو ذراعاً. . فإن كنت حريصاً على أن يكون لك المجدُ الأسمى،ولقومك السعادةُ العظمى، وأن تفوز بخيري الآخرة والأولى _ فَدعِ الراحةَ جانباً، واجعل بينك وبين اللهو حاجباً؛ فالحكيمُ الخبيرُ يَقْدُرُ الوقتَ حقَّ قدره، ولا يتخذه وعاءً لأبخس الأشياء، وأسخف الكلام، ويعلم أنه من أجلِّ ما يصان عن الإضاعة والإهمال، وَيقْصُره على المساعي الحميدة التي ترضي الله، وتنفع الناس. .. . ولعظم شأن الوقت أقسم به اللهُ في غير ما آية من كتابه العزيز قال_عز وجل_ : ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ) (الليل: 1- 2) وقال: ( وَالضُّحَى ، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) (الضحى:1- 2) وقال: ( وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) (العصر:1- 2) ولئن كان حفظُ الوقتِ مطلوباً في كل حين وآن، فلهو أولى وأحرى بالحفظ في الأزمنة المباركة. ولئن كان التفريطُ فيه وإضاعتُه قبحاً في كل زمان، فإن قبح ذلك يشتد في المواسم الفاضلة. ومن الناس مَنْ قَلَّ نصيبه من التوفيق، فلا تراه يلقي بالاً لحكمة الصوم، ولا لفضل الشهر، فتراه يجعل من رمضان فرصةً للسهر واللهو الممتد إلى بزوغ الفجر، والنومِ العميق في النهار حتى غروب الشمس. .. . ولا يخفى على عاقل لبيب ما لهذا الصنيع من أضرار على دين الإنسان ودنياه، فهو قلب للفطرة، فالله _عز وجل_ جعل الليل لباساً، والنهار معاشاً، كما أنه إضاعة للوقت، وتعطيل للمصالح. ومن كان هذا صنيعَه فلن يرجى منه خيرٌ في الغالب لا لنفسه ولا لغيره. ثم إن السهرَ سببٌ لإضاعة حقوق الأهل والوالدين؛ فالذي يسهر الليل في مشاهدة الحرام،ويعكف أمام ما تبثه الفضائيات من شرور سيضيِّع أولاده وزوجته إن كانوا يشاهدونها معه، .. . وإن كان يسهر خارجَ المنزل كان ذلك سبباً في بعده عن بيته، وغفلته عما استرعاه الله إياه، وإن كان شاباً في مقتبل عمره أقلق والديه بطول سهره، وبعده عن المنزل. ثم إن الذي يسهرُ ليله وينام نهارَه سيضيع صلة أرحامه؛ إذ لا وقت لديه لِصِلتهم، وهكذا تنفصم عرى الأمة، وتنفك روابطها. كما أن السهر أمام تلك الفضائيات له آثارُه السلوكيةُ المدمرةُ، ومنها الصد عن سبيل الله، وإضعاف أثر الدين في النفوس، وذلك من خلال ما تبثه من مشاهد فاضحة، وما تطرحه من شبهات كثيرة تطعن في الدين، وتُلْقى على عقول خواء، وأفئدة هواء. .. . ومن آثارها: التمرد على القيم النبيلة، والأخلاق الفاضلة، والآداب المرعية. ومنها: شيوع العادات السيئة كالاستهانة بمحارم الله، والاستخفاف بشعائر الدين. ومنها: الإعجابُ بالكفار وتقليدهم في مستهجن عاداتهم من نحو الملبس، والهيئة، وقصات الشعر، وما إلى ذلك. ومنها: انتشار الجريمة، وشيوع المظاهر المخلة بالأمن كالقتل، والسرقة، وتعاطي المخدرات ونحو ذلك. ومنها: الزهد بالفضيلة والعفاف، وذلك من خلال الافتتان بالمذيعات والممثلات والمغنيات؛ فقد يفضي ذلك الصنيعُ إلى الزهد بالزوجات؛ لأن بعض مشاهدي تلك القنوات - لفرط جهله - يعقد مقارنة ظالمةً بين زوجته وبين ما يشاهده من تلك النسوة اللاتي نزعن الحياءَ، ووضعْنَ من الأصباغ ومواد التجميل ما يغري بهن. . . وهذه مقارنةٌ ظالمةٌ لم تُبْنَ على أسس سليمة؛ إذ تغافل ذلك المُقارِنُ عن عفاف زوجته، وسترها، وحيائها. بل ربما تكون أجملَ مما يشاهد، ولكن الشيطان يقبحها في عينه، ويزين ما يشاهده في نفسه. .. . أيها الصائمون: ومن آثار السهر أن له آثاراً على نَفْس الإنسان وخُلُقِه؛ إذ يصبح ونفسه كزَّةٌّ، وخلقُهَ سيئٌ؛ وذلك لما للسهر من تأثير على الأعصاب؛ فينتج من جَرَّاء ذلك انقباضُ النفس، وقلة احتمالها. ولو لم يأت من آثار السهر إلا أنه سبب لترك صلاة الفجر لكفى. أما النوم الكثير _ خصوصاً بالنهار_ فلا يخفى ضرره؛ فذلك مضيعة للوقت، وحرمانٌ للبركة؛ فالنومُ يعطل قوةَ العقل، ويُلْحِقُ الإنسان بالخشب المسندة. وبما أن أمرَه غالبُ ماله من مَرَد فإن أولي الحكمةِ لا يخضعون لسلطانه إلا حيثُ يَغْلِبَ على أمرهم، ولا يعطونه من الوقت إلا أقلَّ ما تفرضُه عليهم الطبيعةُ البشرية، ويبتغون بذلك أن تبقى عقولهم في حركات تثمر علماً نافعاً، أو عملا صالحاً. .. . فحقيق على هؤلاء المُفرِّطين المضيعين أوقاتَهم أن يتنبهوا لأسرار الصيام، وأن يغتنموا مدرستَه العظيمة؛ ليجنوا ثمارَه الصحيحةَ، ويستمدوا منه قوةَ الروح؛ فيكونَ نهارُهم نشاطاً وإنتاجاً وإتقاناً، وتعاوناً على البر والتقوى. ويكونَ ليلُهم تهجداً، وتلاوةً لكتاب ربهم، ومحاسبةً لأنفسهم على ضوئه؛ ليخرجوا من مدرسة الصيام مفلحين فائزين. اللهم أيقظنا من رقدات الغفلات، وأعنا على اغتنام الأوقات في الباقيات الصالحات، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. .. |
رد: نفحات قرأنية رمضانية
(نفحات قرأنية رمضانية) نفحات قرآنية (34) بخاري أحمد عبده قال تعالى:- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185]. النفحات التي تُزجيها هذه الآيات نفحاتٌ ذات شجون[1]، وهي وإن خُيلت (بالبناء للمجهول) مشرقة مغرية، أو تبدَّت للرائين منتشرة متفرقة - حلقات يمسك بعضُها بحُجَز بعض وتدور كلها - من قريب أو من بعيد، حول المحاور الخلاَّقة التي استبانت لنا منذ الوقفة الأولى، وتعينت أصولاً، ومعالم تحدِّد المسار، وتشي بالغاية. ولقد وقفنا - في المقال الماضي - وقفةً متأنية حِيال مقدَّسات الإسلام الزمانية والمكانية، وعرضْنا للتفاعل المهيب الذي ينتظم الإنسانَ المؤمن، والمقدسات، ورأينا آثار ذلك التفاعُل جلاءً للبصائر، وتزكيةً للأفئدة، وتنشيطًا للدورة الإيمانية في الكيان، وتجديدًا لقوى الرُّوح، وتقوية لمعنويات الدَّاعية حتى يدعو من مركز مطمئنٍ، مرموق، متجاوبًا مع استعدادات زمانه ومكانه، بأسلوب يوفق ويحقق الانسجامَ بين حقائق الإسلام الثابتة وبين مطالب الظروف الزَّمانية والمكانية المتغايرة، وأحجام الناس المتفاوِتة. والداعية الذي لا يَعِي الحقائقَ، ولا يقدِّر الظروف، ولا يستبين الأحجام، داعيةٌ يصرخ - كما يقولون - في وادٍ، وينفخ في رمادٍ، وينعق بما لا يُفهم - بالبناء للمجهول - هو داعيةٌ أصم، أعمى، مشلول. الثرى والثريا: وأستطرِدُ مرةً أخرى[2] معتذرًا، وقبل أن أضع النقط على الحروف - فأعود إلى "الظروف" الزمانية والمكانيَّة، والواقعية التي تلابس حياةَ الإنسان فتؤثِّر وتُغير، وتُعلي وتخفض، وتبني وتهدم؛ عسى أن يكون الحديثُ المستفيض هدى لفئاتٍ تعيش على هامش الزَّمان والمكان، دون أن يبلوا الواقع، أو يقدروا الظروف، ذيولاً أو نفايات تحت السَّنابك والعجلات، ولقد علمنا أنَّ آفة المسلمين ومشكلة الإسلام تتركَّزانِ في الجاحدين من أبنائه وفي الجامدين. أمَّا الجاحدون فمثلهم كمثل الذين ينكرون الرُّبوبية والألوهية، ينكرون وجود سلطةٍ غيبية وراء الطبيعة تتحكَّم في الكون، وتصرِّف وتدبِّر، والقرآن الكريم وهو يزرع في القلوب شجرةَ التوحيد لم يعرض لهؤلاء الجاحدين كثيرًا تحقيرًا لشأنهم، وتسفيهًا لمذهبهم الذي يَتَعارَض مع الفطرة والعقل. وأمَّا الجامدون ففي كثيرٍ منهم إخلاصٌ، وعند كثير منهم غيرةٌ على الدِّين وحب للإسلام، إلا أنَّ إهمالَهم لعامل الظُّروف المكانية والزمانية والواقعية أبطل فاعليةَ ذلك الحب، وعَزَلَهم عن روح الإسلام المَرِن الفينان، وأوقفهم موقفَ الدُّبِّ الذي قتل صاحبَه؛ ظانًّا أنه يذُب عنه. واعتبارًا لجوانب الخير الدفينة، ينبغي ألا نقطعَ عنهم أناتنا، وأن نواليهم حتى تلتئمَ الحلقة التي تآكلت فقطعت التيار، وأفقدت الفاعلية والإبصار، وحصرتْهم في قواقع خانقة خالوها الوجود فحجروا الدِّين، وجهلوا عمومية الإسلام وشموليته، وأسفُّوا (بفتح السين وتشديد الفاء المضمومة) فرضُوا بأن يكونوا مع الخوالِف قيد الأوهام والأحلام، وإذا قُدِّر لهم أن يغوصوا ففي الحفر مع الديدان والهوام، وإذا حلَّقوا كان سماؤهم المهدي المنتظر آية آخر الزَّمان، ولا غرابة فقدْ شاهدناهم، واستمعنا لهم في حضرة عالمٍ كبير شدُّوا إليه الرِّحال، وعبروا البحارَ ليسألوه عن أجساد الأنبياء، هل تأكلُها الأرض فتبلى؟ وعن درجة الكفر الذي يتبوَّؤها منكِرُ المهدي المنتظر، وعن عدد الذبذبات التي ينبغي أن تصدرَها السَّبابة والمصلي في وضع التشهد[3]... إلخ، أي بؤس هذا؟ وأي انحدار؟ ذلك وعدونا يقطعُ بمراكبِه أجوازَ الفضاء، ويحطُّ على الزهرة والمريخ، ويرى ويسمع بالأقمار، فما أبعد الثَّرى من الثُّريَّا! إنَّ الله أرسل رسولَه بالهدى ودين الحق ليظهرَه على الدِّين كله، وكلمة "الدين" بأداتها "أل" التي تفيد الاستغراق ويتابعها "كله" الذي يفيد التوكيد، تعني كافَّةَ المذاهب، والأيديولوجيات الغابرة والمعاصرة سماويها وأرضيها، ولكن الدين نزل رفيعًا ظاهرًا وانتشر، وتمكَّن رفيعًا ظاهرًا، فما معنى "ليظهره"؟ إنَّ الدِّين هو المعتصَم والملاذ والمعراج، وإظهاره يعني - ضمن ما يعني - ظهور الملتزمين، ورفعة المعتنقين؛ ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10]، ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ ﴾ [الزخرف: 44]. والمصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - عاش ما عاش يُجاهد كي يرفع النَّاس إلى مستوى الدين. وظني أنَّ من ظلَّ قانعًا بالوِهاد، يعطي الدنايا منكسًا وضيعًا، ينبغي عليه أن يقوِّم (بتشديد الواو المكسورة) من جديد درجةَ انتمائه للإسلام الرفيع العزيز. إِذَا أَنْتَ غَمَّتْ عَلَيْكَ السَّمَاءُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَضَلَّتْ حَوَاسُكَ عَنْ صُبْحِهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فَعِشْ دُودَةً فِي ظَلاَمِ الْقُبُورِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تَغُوصُ، وَتَسْبَحُ فِي قَيْحِهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif درس كوني على الطريق: تعاقبُ الليل والنهار ظاهرةٌ كونيَّة تطوي وتنشر كلَّ الكائنات، وهي ظاهرةٌ معلومة بالضَّرورة، ورغم هذا أطال القرآنُ الوقوفَ عندها، والتمعُّن في أعراضِها وآثارها، تلمَّسْ هذا وأنت تتدبر مثل قوله - تعالى -: ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [الزمر: 5]، ومثل قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ﴾ [الأعراف: 54]، ومثل قوله - سبحانه -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 62]. ومثل قوله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [يس: 37 - 40] وظنِّي أنَّ مثل هذه اللفَتات الكريمة فوق أنها تبصِّر بعظمة الله، وقدرته وعلمه، وفوق أنها تربِّي في المسلم القدرةَ على التأمُّل والتدبُّر والبحث العلمي - تربط النَّاسَ بما وراء هذه الظاهرة من: 1- مضاء الزَّمن: كالسيف القاطع، واختراقه أحشاءَ كلِّ الكائنات. 2- مضيه: كالبرق الخاطف، وتقلبه بما حوى وأوعى بكلمة الله الذي قدر المنقلب والمثوى ﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [النور: 44] 3- ومن: تأثيره وتغلغل إشعاعاته في الأعماق بشكل يورِثُ اللهاث، ويورد المُنْقَلَبَ المحتوم منقلبَ المعرضين، أو منقلبَ الشَّاكرين؛ ﴿ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144]. وتروعك - خلال الآيات - الحركةُ الدائبة، والحيويَّة الفيَّاضة، والنبض الذي تجد صداه في قلبِك حين تندمج في الآيات، وتنفذ منها إلى الحياة، ثمَّ تُشد - بالبناء للمجهول - بأسبابِها إلى الممات، وتستهويك الإيحاءات الدَّقيقة التي تنبعث هادية مُعبرة، ومن تلك الإيحاءات: 1- أنَّ الكون فلكٌ دوَّار، وأنَّ كل ما فيه يدور تلقائيًّا، وبالتَّبعية. 2- وأنَّ من فقد الحركة الذاتية فلم يدر طوعًا، انفردت به التبعية فدار كرهًا بلا اتِّزان ولا انضباط ولا إرادة، وتبارك الذي ﴿ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11]. 3- وأنَّ الكائنات - ولا سيما الأناسي - لم توجَد لتظلَّ خامدة هامدة، بل لتنتعش وتنشطَ حول محاورها - محكومة بسنن الله، وقوانينه التي تحل في الزمان وفي المكان - مستبقة جادة حتى مغرب الشمس ﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ﴾ [يس: 40]. ولعلَّ من مظاهر الاستباق الذي تخوضه الكائنات: 1- اختلاف الليل والنهار طولاً وقِصَرًا حسب تباين الفصول، أو مواقع البلاد. 2- واختلاف الصَّيْف والشتاء وغيرهما من الفصولِ ضِيقًا واتساعًا، وحرارةً وبردًا. 3- واختلاف البِقاع المحكومة بقوانين الله في الزَّمان والمكان، ازدهارًا وإقفارًا، وامتلاءً وخَواءً، وقوةً وضعفًا. 4- وامتداد النهار في بعض البلاد، والتفاف بلادٍ أخرى في ليل طويل. نحو حتفه بظِلْفِه: إنَّ الكون بكلِّ مفاعلاته ومحتوياته، يستحث الخُطى إلى الأجل المسمَّى الفاغر فمه: 1- ليلتقمَ الأفراد ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾ [النساء: 78]. 2- وليلتقم الأُمم ﴿ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ﴾ [الحجر: 5]. 3- وليلتقم القُرى ﴿ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ﴾ [الحجر: 4]. مصايرُ مبصرة تتربَّص بكلِّ الكائنات، يسجلها المولى بارزةً كي ترتفعَ زاجرة، واعظةً محرِّكة للضمائر موقظة من السُّبات العميق ﴿ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 45، 46]. هكذا تتدافع الكائنات، ويخلفُ اللاحِقُ السابقَ ليؤثر كما تأثر، وليرْبِي التراث الذي آل إليه حتى يؤول إلى غيره أربى وأرحب، ولقد اقتضتْ حكمة الله التدرجَ في إيجاد الكون، وإشارة إلى أنَّ الحكمة في هذا أجل من أن تعيها العقولُ المحدودة يختم الله الآيات التي تعكس مشهدَ الخلق بقوله: ﴿ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [يس: 38]، ﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [فصلت: 9 - 12]. واقتضت حكمتُه كذلك أنْ يظلَّ هذا الكون متغيرًا متطورًا نشطًا، حتى يعدو الإنسان قدرَه ويعيد ظنه، ويعميه غرورُه، ويبلغ الذروة التي تشرف على الهاوية؛ ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24]. كن على سفر: روى البخاري عن علىٍّ - رضي الله عنه - أنه قال: "ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مُقبلة". وارتحال الدُّنيا على أجنحة الليالي والأيام حقيقةٌ ملموسة، أمَّا ارتحال الآخرة فأمرٌ اعتباري، فهي تدنو منك بقدر ما تبتعد أنت عن الدُّنيا، بقدر ما يتناقص عمرُك، تمامًا كما تدنو البقعةُ المطلوبة من المسافر كلما طوى نحوها الأشواط، والدنيا المرتحلة كالمركبة المتحرِّكة لا بد أن يسايرَها الراكبُ بكل كتلته، متجاوبًا متأثِّرًا منسجمًا، فإنَّ فَقَدَ الانسجامَ فَقَدَ اتزانَه وانقلب. وعلي - رضي الله عنه - استعار هذا التصويرَ من نبينا - عليه الصلاة والسلام - الذي ألمح إلى أنَّ قدر الإنسان يكون دائمًا متحرِّكًا غيرَ جامد، وأنَّ الأيام مركبُ الأنام إلى مراميهم، فقال فيما رواه أحمدُ وابنُ ماجه والترمذيُّ عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((ما لي وللدنيا؟ وما أنا والدنيا إلا كراكبٍ استظلَّ تحت ظلِّ شجرة ثم راح وتركها))[4]. ذلك لأنَّ الدنيا المتغيرة المتلاشية عَرَضٌ زائل وَفْقَ ما روى عمرو - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خطب يومًا فقال: ((ألا إنَّ الدنيا عرَض حاضر يأكل منه البَرُّ والفاجر، ألا وإنَّ الآخرة أَجَلٌ صادق ويحكم فيه مَلِكٌ قادر...))[5]. ويجدر - قبل أن نمضي - أنْ نومئ إيماءً إلى إيحاءِ كلمات: "راكب" و"استظل" و"راح وتركها"، فكلها كلماتٌ تشي بالحركة والعلو، وبأنَّ المؤمن لا يهمِلُ الدُّنيا إهمالاً، بل ينعم ببردها ويستظل بظلِّها، وبأنَّ حق اتخاذ القرار مكفولٌ للمؤمن، هي المقبلة، وهو باختياره بعوض "راح وتركها". والدُّنيا ككل الأعراض حائلة ثائرة، متقلِّبة تضم فتحنو، وتغط[6] فتعصر، وتطوي وتنشر، والمرء - كي يأمن - لا بد أنْ يكون مرنًا، يحسن استخدام القوى الفعَّالة التي حباه الله بها، والتي تعتم في داخله، فإذا تجاوب مستمسكًا بعرى الإسلام، مسترشِدًا بنور الإيمان بَذَّ الأقرانَ وسبق، وإلا اختلَّ توازنُه وسقط نهب المدى، وتحت الأقدام، ولا يكفيه أن يتعلقَ بأذيال القادرين. والحركة في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - "مالي وللدنيا..."، تبدو وكأنَّها تنبعث من الرَّاكب وحده - فهو الظَّاعن[7]، وهو المستظِلُّّ، وهو الرَّائح التارِك - والحقُّ أنَّ الدنيا هي المركب، وعلى متنها العريض الممتد تنتظم أفواج بعد من بعد أفواج، ولكلِّ فوج "محطته" الأخروية، ومنزله المحتوم، أما القطار - بعرباته الجمَّة - فماضٍ حتَّى يأتي أمرُ الله. الحركة إذًا في الأصل حركة المركب، أمَّا الراكب فتابِعٌ، ودوره التنسيق وإيجاد الانسجام، واستثمار حركة المركب والركب، في هدي الدين على النحو الذي يرضي المولى - جل وعلا - ويحقق الخلافة. وهؤلاء الذين يعمرون الدنيا - متعاقبين - معادنُ متفاوتة، وهم - متكاملين - يتبعون مركزَ الخلافة في صياغة هذه الدُّنيا، واللاحقون - بحكم انتفاعهم بتراث السابقين، وإثرائهم للتراثِ بما استحدثوا وجمعُوا وأوعوا - أوضحُ رؤية، وأضبط حركة، وأحسن مرتفقًا، وأعظمُ مسؤولية من السابقين، وهم - بما أتيح لهم - رُفعوا (بالبناء للمجهول) درجات دنيوية عن الأولين، فبلاؤهم أشدُّ، ومحنتهم أجلُّ، وظني أنَّ هذه المعاني هي التي تسبق إلى خواطرِنا حين نتدبر قولَه - سبحانه -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 165] إنَّ كل جيل يضيف من ثقله على مواقع السَّابقين فترْبُو وتعلو، ويحتاج شاغلوها المتميزون بصياغة فكريةٍ جديدة، إلى عطاء متميِّزٍ جديد. (طابع الأرض، وصبغة الظروف): مما رواه أحمدُ والترمذي عن أبي موسى - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنَّ الله خلق آدم من قبضةٍ قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدمَ على قدر الأرض، فيهم الأحمرُ والأبيض والأسود، وبين ذلك، والسهل والحزن، والخبيث، والطيب)). فالإنسان - كما يقولون - طرْحُ الأرض ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ... ﴾ [طه: 55]، وهو - كالأرض - يخضع لعوامل التَّعرية، وعوامل التنمية ﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5]، وهو - ككل ما تنبت الأرض - قد يمسخ شجرة خبيثة، وقد يسمق شجرة طيبة أصلُها ثابت، وفرعُها في السماء تؤتي أكلَها كل حين بإذن ربها. ولكنَّ الإنسان - مع هذا - حفيدُ أمسه ووليد يومه وصدى ظروفه، فصِلَتُه بماضيه وثيقة، وصلته بحاضره أوثق، لأنَّ الماضي بجميع أحواله رافد من روافد الحاضر، وملامح الماضي دائمًا ترتسم على مُحَيَّا (بضم الميم، وفتح الحاء، وتشديد الياء) الحاضر، وعلى ضوء هذا البيان يمكن أن نفهم ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: "سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الناس أكرم؟ قال ((أكرمهم عند الله أتقاهم)) قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: ((فأكرمُ النَّاسِ يوسف نبيُّ الله، ابن نبي الله ابن نبي الله، ابن خليلِ الله))، قالوا ليس عن هذا نسألك، قال: ((فعن معادنِ العرب تسألون))، قالوا: نعم، قال: ((فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا))؛ متفق عليه. والمعنى: أنَّ أريج الأصول العَطِر يزكِّي الفروع، وأنَّ الماضي يفرغ من شرِّه وخيره على الحاضر، وعبارة "إذا فقهوا" تشير إلى اصطباغ الشخصية بصبغة الظروف. شخصية الإنسان إذًا تتأثر بالتَّاريخ وبالزمان والمكان، وبالظروف المادية والمعنويَّة الملابسة. وليس معنى هذا أنَّ الأناسيَّ الذين تجمعهم مؤثراتٌ متماثلة يتساوون بالضرورة، كيف وهناك حظ الإنسان من أمه الأرض؟ هذا الحظ الذي يختلف قوةً وضعفًا، كثرة، وقلة، ويدق دقة التغاير الذي بين نبرات الأصوات، أو بين بصمات البنان ﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ [القيامة: 4] إنَّ لميراث الأرض وزنًا بين الصفات المتفاعلة التي تبني شخصية أي إنسان. ونبادرُ فنعلن أنَّ هذا التفاعل الحيويَّ سنةُ الله في الكون والكائنات، فهو بعيدٌ كل البعد عما ادَّعاه الطبيعيون أصحاب شعار: ﴿ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ﴾ [الجاثية: 24] مِنْ أنَّ هذا الكون أزليُّ العناصر، قديم المركبات، وأنَّ عناصره تتفاعل منذ القِدَم ذاتية، فتلتئم وتنفصِم، وتجتمع وتفترق… إلخ، هكذا بلا مدبر ولا موجِّه ولا مهيمن، بل بقواها الساذجة المكتومة التي لا تعي، إنَّ وراء كلِّ الظواهر الكونيَّة قوة الخالق البارئ المصور، ملهم النفوس فجورَها، وتقواها وهاديها النَّجْدَيْن. وانفعال الأنفس بالأجواء الكونية التي تكتنفها تحسه وأنت تتدبَّر آيات قرآنية، تلفت النهي إلى آيات كونية، ثمَّ تتحدث عن النفس باعتبارها آية، وإيحاء بارتباطها العميق الدَّقيق بتلك الظواهر التي سبقت، وبحركتها وإشعاعاتها… إلخ، وتنبيهًا إلى أنَّ النفس تتأثر بما تبث هذه الأجرام، وبما تعكِس ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 1 - 8]، وعطاء هذه الأجرام يختلف بلا شكٍّ من بيئة لبيئة، وإذا أخذنا في الاعتبار قدرةَ أهل هذا القرن على ارتياد الآفاق، واستغلال الفضاء، والاستفادة بالطاقة الشمسية - أمكننا أن نقول: إنَّ عطاءَها يختلفُ من زمنٍ إلى زمن. والنتيجة المُستفادة من كلِّ ما سردْنا هي: (أنَّ إنسان اليوم واسعُ الإمكانات، جمُّ المعلومات متشابك الصِّلات، مزدحم الفكر، فلا بد له من أسلوبٍ عصريٍّ باهر يقنعه ويمتعه، ويؤثر فيه). يتبع. [1] متصلة. [2] هدفنا من هذا الاستطراد الطويل توطيد أرضية علمية وفكرية صلبة يتأكد من خلالها أنَّ الإنسانَ يتفاعل تفاعلاً كيمائيًّا مع الأجواء التي تحتويه، وأنَّ رُؤيته - البشرية - تتكيف بهذا التفاعل، وأنَّ إفرازاته تخضع لتأثير الزمان والمكان والملابسات، لعلنا بهذا البيان نزحزح أولئك الذين اتخذوا رؤى الفقهاء دينًا وأسفارهم دساتير، فانطووا فيها وانسلخوا عن زمانهم المتميز. [3] كان هذا في موسم الحج الماضي 1404. [4] ورد هذا المعنى في حديث رواه البيهقي "في الشعب" عن جابر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((... وهذه الدنيا مرتحلة ذاهبة، وهذه الآخرة مرتحلة قادمة...)) [5] رواه الشافعي، وروى نحوه أبو نعيم "في الحلية" بإسناد ضعيف. [6] تضم بشدة. [7] المسافر. |
رد: نفحات قرأنية رمضانية
آيات الصيام: حكم وأسرار جمع وإعداد: حسام العيسوى إبراهيم الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمَّا بعد: فإنَّ الإسلامَ لم يشرعْ شيئًا إلا لحِكمة، عَلِمها مَن عَلِمها، وجَهِلها مَن جَهِلها، وكما لا تخلو أفعالُ الله تعالى من حِكمة فيما خَلَق، لا تخلو أحكامه سبحانه من حِكمة فيما شرَع، فهو حكيمٌ في خلْقه، حكيم في أمْره، لا يخلق شيئًا باطلاً، ولا يشرع شيئًا عبثًا. وهذا يَنطبِق على العبادات، وعلى المعاملات جميعًا، كما يَنطبِق على الواجباتِ والمحرَّمات أيضًا. إنَّ الله تعالى غنيٌّ عن العالمين، وعباده جميعًا هم الفُقراء إليه، فهو سبحانه لا تنفعه طاعَة، كما لا تضرُّه معصية، فالحِكمةُ في الطاعة عائدةٌ إلى مصلحة المكلَّفين أنفسِهم. وفى الصِّيام حِكمٌ ومصالحُ كثيرة، أشارتْ إليها نصوص الشرع ذاتها، منها: 1- قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]. فهذه الآيةُ المبارَكة تبيِّن لنا بعضَ حِكم وأسرار هذه الفريضة: ♦ النِّداء بهذه الصفِّة المحبَّبة إلى النفس: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾، وكأنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يقول لنا: إنَّ الصوم من علاماتِ الإيمان، وإنَّ مَن صام فقدِ استكمل علاماتِ الإيمان، وفي هذا جاء حديث النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم مِن ذنبه))؛ متفق عليه. ♦ التعبير بلفظ ﴿ كُتِبَ ﴾: والملاحِظ لهذا اللفظ يجد أنَّ الله - سبحانه وتعالى - ذكَره قبل الحديث عن الصَّوْم بآيات قليلة في قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ [البقرة: 178]، وذكَره - سبحانه وتعالى - بعدَ الحديث عن الصوم بآيات معدودة؛ فقال تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216]، وهذا يدلُّ دلالةً أكيدة على أنَّ الإسلام كلٌّ متكامل، ونظامٌ شامِل، يشمل مظاهرَ الحياة جميعًا. غاية الصَّوْم وأسْمى مقاصدِه "التقوى". يقول ابن القيِّم: "وللصومِ تأثيرٌ عجيبٌ في حِفْظ الجوارح الظاهرة، والقُوَى الباطنة، وحميتها عن التخليطِ الجالِب لها الموادَّ الفاسدة، التي إذا استولتْ عليها أفسدتْها، واستفراغ الموادِّ الرديئة المانِعة لها من صحَّتها، فالصومُ يحفظ على القلْب والجوارح صِحَّتَها، ويُعيد إليها ما استلبتْه منها أيدي الشهوات، فهو مِن أكبر العَوْن على التَّقْوى؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]". يقول صاحب "الظلال": "وهكذا تبرزُ الغاية الكبيرة من الصوم، إنَّها التقوى، فالتقوى هي التي تستيقظُ في القلوب وهي تؤدِّي هذه الفريضة، طاعةً لله، وإيثارًا لرضاه، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوبَ من إفساد الصَّوْم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمخاطَبون بهذا القرآن يَعلمون مقامَ التقوى عندَ الله، ووزنها في ميزانه، فهي غايةٌ تتطلع إليها أرواحُهم، وهذا الصوم أداةٌ من أدواتها، وطريقٌ موصل إليها، ومِن ثَمَّ يرفعها السِّياق أمامَ عيونهم هدفًا وضيئًا يتَّجهون إليه عن طريقِ الصيام؛ ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾". 2- قال تعالى: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 184 - 185]. ♦ الصَّوْم الإسلامي أفْضَل أنواع الصِّيام: فهو أيامٌ معدودات، يصوم فيها المسلِم عنِ الطعام والشراب والجِماع، مِن طلوع الفجْر إلى غروب الشمس، وبهذا يَتميَّز الصَّوم الإسلامي عن صومِ أصحابِ الأديان، فبعض أصحابِ الأديان يصومون عن كلِّ ذي رُوح فقط، ويأكلون ما لَذَّ وطاب مِن ألوان الطعام والشراب، كما لا يصومون عن شَهْوةِ الفَرْج، وبعضهم يصوم صيامًا يمتدُّ أيامًا، فيجهد البدَن، ويشقُّ على النفس، ولا يقدر عليه إلا الخاصَّة، أمَّا الصيام الواجب في الإسلام فهو لكلِّ المسلمين المكلَّفين، خاصَّتهم وعامَّتهم. يُسْر ورحمة الإسلام: ويَظهر ذلك في تخفيفِ الله على عباده غير القادرين على أداءِ هذه الفريضة، وإعطائهم فرصةً أخرى للقضاء، فإنْ لم يستطيعوا القضاء، فالفِدية تكون عِوضًا لهم عن فِطْرهم، ولذلك حثَّ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الأَخْذ بهذه الرُّخَص، بل إنَّه توعَّد في بعض أحاديثه مَن لم يأخذْ بها؛ فعن جابر - رضي الله عنه - قال: خرَج رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عامَ الفتْح إلى مكة في رمضان، فصامَ حتَّى بلغ "كراع الغميم"، فصام الناس، ثم دعَا بقدح مِن ماء، فرَفَعه حتى نظَر الناس، ثم شَرِب، فقيل له بعد ذلك: إنَّ بعض الناس قد صام، فقال: ((أُولئك العُصاة، أولئك العُصاة))؛ أخرجه مسلم والترمذي. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كنَّا مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في سَفَر، فمِنَّا الصائم ومنَّا المُفطِر، فنزلنا منزلاً في يوم حارّ، أكثرُنا ظلاًّ صاحِبُ الكساء، ومنَّا من يتَّقى الشمس بيده، فسقط الصُّوَّام، وقام المفطِرون، فضربوا الأبنية، وسَقَوا الرِّكاب، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ذهَب المفطِرون اليومَ بالأَجْر))؛ أخرَجه الشيخان والنسائي. القرآن والصيام قُرَناء: قرَن الله - تبارك وتعالى - في هذه الآية بيْن الصيام المفروض في رمضانَ، وبيْن القرآن؛ وذلك لأنَّ القرآن نزَل في هذا الشهر المبارك، وكان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتدارسُ مع جبريلَ القرآن في هذا الشَّهْر، فالله - عزَّ وجلَّ - يَبْعَث لكلِّ مسلمٍ رسالةً أنَّ القرآن دواءٌ لكلِّ إنسان مِن أمراضه وعِلَله، فما على هذا الإنسانِ إلاَّ أن يُحدِّد موضع الداء، والقرآن دواء ناجِع وفعَّال مِن هذا المرَض؛ لأنَّه كلامُ الله - عزَّ وجلَّ - ولذلك عبَّر الله - عزَّ وجلَّ - أنَّ في هذا القرآن هُدًى للناس، فالهِداية عامَّة لكلِّ الناس؛ المسلِم وغير المسلِم، المسلِم الطائع والعاصي، طالما أنَّهم نَظَروا إليه بعُقولهم وأفئدتهم، وتنحَّوْا عن أهوائِهم وشهواتهم، فالقرآنُ الكريم في المقام الأوَّل كتابُ هِداية لكلِّ البشَر. - شُكْر نِعمة الله - عزَّ وجلَّ: ﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾، فعندَما يصوم المسلِم يشعرُ بنعمة الله عليه، فإنَّ إِلْف النعم يُفقد الإنسانَ الإحساسَ بقيمتها، ولا يعرف مقدارَ النِّعمة إلا عندَ فقدها، وبضدِّها تتميَّز الأشياء، فإنَّما يحس المرء بنِعمة الشِّبع والرِّي إذا جاع أو عطِش، فإذا شبِع بعدَ جوع، أو ارْتوى بعدَ عطَش، قال مِن أعماقه: الحمدُ لله، ودفَعه ذلك إلى شُكْر نِعمة الله عليه، وهذا ما أشار إليه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((عَرَضَ عليَّ ربي ليجعلَ لي بطحاءَ مكة ذَهبًا، فقلت: لا يا رب، ولكني أَشْبَع يومًا، وأجوع يومًا، فإذا جعتُ تضرعتُ إليك وذكرتُك، وإذا شَبِعتُ حَمدتُك وشكرتُك))؛ رواه أحمد والترمذي. 3- قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون ﴾ [البقرة: 186]. الصائمُ أقربُ الدعاةِ استجابةً: عن عبدِالله بن عمر - رضِي الله عنه - قال: قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ للصائمِ عندَ فطره دعوة ما ترد))؛ رواه ابن ماجه. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثلاثةٌ لا تُردُّ دعوتُهم: الإمام العادِل، والصائِم حتى يُفطِر، ودعوة المظلوم يَرْفَعها الله دون الغَمام يومَ القيامة، وتُفتح لها أبوابُ السماء، ويقول: بعِزَّتي لأنصرنَّك ولو بعدَ حِين))، ومِن ثَمَّ جاء ذِكْر الدعاء في ثنايا الحديث عن الصِّيام. 4- قال تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187]. إذا كان للصوم دَوْره في كسْر شهوة الغريزة الجِنسيَّة، وإعلاء هذه الغَريزة، وخصوصًا إذا دُووم عليها ابتغاءَ مرضاتِ الله، ولكنَّه مِن جانبٍ آخَرَ احترم هذه الغريزةَ الجِنسية للإنسان مِن خلالِ إباحة الجِماع في جميع اللَّيْل إلى تبيُّن الفجر، رحمةً ورخصةً ورفقًا، وقد ورَد في سبب نزول هذه الآية: "أنه أوَّل ما فُرِض الصيام فقد كانوا يأكلون ويَشربون، ويُباشرون نساءَهم، ما لَمْ يناموا أو يُصلُّوا العشاء، فإذا ناموا وصلوا العشاء لم يَجُزْ لهم شيء مِن ذلك إلى الليلة القادِمة، فشقَّ ذلك على الصحابة - رضي الله عنهم - حتى إنَّ بعضَهم، كعُمر بن الخطَّاب، وكَعْب بن مالك قد أصابَ مِن زوجته بعدَما نام، فشقَّ عليه ذلك وشَكَا ذلك للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأنْزَل الله - عزَّ وجلَّ - هذه الآية ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾، ففرِح بها المسلمون فرَحًا شديدًا. وهكذا تتعدَّد الحِكم والأسرار مِن آيات الصيام. واللهَ نسأل أن يرزقنا صيامًا مقبولاً، وذنبًا مغفورًا، وتجارةً لن تبورَ، إنَّه ولي ذلك والقادِر عليه. |
رد: نفحات قرأنية رمضانية
(نفحات قرأنية رمضانية) نفحات قرآنية (35) بخاري أحمد عبده قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185]. تذكير وتبرير: رمضان كان قاعدةَ العمل الإسلامي الأوَّل؛ ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾، وهو - باعتباره مهْدَ الدِّين، ومنطلق أوَّل إشعاعاته - لا يزال المثابة والمحفِّز، ومصدر الإلهام لكلِّ الغَيورين العاملين في حقْل الدعوة؛ يصنعون الصحوة، ويَرجون الانتفاضة. وعلى أضواء هذا الشهر الكريم، تستبين الشوائب والعِلل، والعوائق التي تعوق استمرار الشَّحْذ، أو تشوِّه جلال العمل الإسلامي. فلا عجب إذ ذهبْنا كلَّ مذهب في استيحاء آيات الصيام، وإذا مضَيْنا نقدح ونقدح[1] زَنْد الفكر المسلم؛ عسى أن نَخرج مما نعاني من صلودٍ وخمود، عسى أن نقدَح فنُوري. لا عجب إذا أطلْنا الوقوف أمام الظاهرة المرضية المتمثِّلة في إهدار بعض الذين يَحْبون - بفتح الباء وسكون الحاء - أو يَجثمون على الساحة الإسلامية قيمة الظروف في تشكيل الناس، وتكييف الدُّعاة، وتحديد الأسلوب. فنحن إذ نُصدِّر المقالات بآيات الصيام، ثم نتجاوزها إلى منعطفات واهتمامات قد تخال بعيدة عن نطاق الآيات لا نشطحُ، أو نستطرد فنوغِل في البُعد، والحق أن مثلَنا كمثل مَن يرْقُب السماء بليلٍ، فيرى - فيما يرى - زُحَل وعَطارد والثُّريا، وسهيلاً، والزهرة... إلخ. أو كمثل مَن يُشعِل عود الثِّقاب يبحث عن شيٍء بعينه، فيرى - مع الشيء - أشياءَ وأشياءَ. لياقة مدعومة: لقد عَلِمنا أنَّ الإسلام بكلِّ روافده فضاءٌ مَهِيب يعجُّ بالأنوار، وأنَّ هذه الأنوار تتعامل مع زمان بركاني يثور ثورةً عارمة، ويعتدل ويَسْكن، إلاَّ أنه حين يسكن يستجمع جأْشه، ويعبِّئ حِمَمه وقذائفه، أو قُلْ: مع زمان كالبحر المحيط يُصاب بالمدِّ والجَزْر، والسيولة والتجمُّد، والبرودة والدِّفء، والهياج والهدوء؛ تبعًا لتغاير الأزمنة واختلاف الأمكنة. والتعامل مع أضواء الإسلام في هذا الخِضَم الهادر محفوفٌ بالمكاره، والاستعانة بها: ﴿ لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45]، واستقبالها يتطلَّب لياقة سامية، وقُدرات عالية؛ ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 35]. وقُدرات الإنسان - مهما علَتْ - محدودة قاصرة، وفضْلُ الله وحْده هو الذي يَدْعم القصور ويَجبر كسْرَ الإنسان؛ ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 21]، ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [النساء: 83]. وجبة توحيد: والأنوار التي ننشدها تتكامل متضافرة متلاحمة؛ لتغدو أطواقَ النجاة، بل فلك السلامة الذي نعتصم به في خِضَمِّ الحياة بين الأعاصير والأنواء، وجبال الجليد؛ لتكون الصوارف التي تقذفُ بالشرور والشَّرَر بعيدًا، حوالَيْنا ولا علينا. ونسارع فنقول: إن كلَّ تلك الأغراض الهادرة الصاخبة التي تنتاب الوجودَ ليستْ تلقائيَّة، ولا وليدة قوى الطبيعة العمياء، ولا نتيجة التفاعل العشوائي بين عناصر الكون، بل وراءها - كما أسلفنا - قَدَرُ الله وقُدرته، وتصاريفه وإرادته الحاكمة القاهرة؛ ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 163 - 165]. هو وَحْده الذي يُثير ويُزْجي، ويؤجِّج ويُخْمِد، ويصيب بالصواعق، ويَصْرف ويُقلِّب الأزمنة والأمكنة، والمحسوس والمعنوي، والأفئدة والأبصار؛ ﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [النور 42 - 44]. إنه - سبحانه - لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام؛ ﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ ﴾ [البقرة: 255]. ومخافة مَكْرهِ ورجاء عطائه عَلَّمنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن نكون دائمًا في مقدمة السائلين، وأن نستعيذَ به من التقليب؛ عن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُكْثر أن يقول: ((يا مُقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك))، فقلتُ: يا نبيَّ الله، آمنَّا بك وبما جئتَ به، فهل تخاف علينا؟ قال: ((نعم، إن القلوب بين أُصبعين من أصابع الله، يقلِّبها كيف يشاء))؛ رواه الترمذي، وابن ماجه، وهو على شرْط مسلم. إن الكون كلَّه - بتُخومه الوَعْرة، وأجوائه المتقلِّبة، وأحواله المتغايرة - مُسْتَبَق الكائنات، فمَن اتَّخذ العُدة، ونظَر في طبائع الأشياء، ورصَدَ المزالق والمهاوي، مستهديًا بالأنوار الربَّانيَّة، مستشفيًا بالأَشْفِيَة الرحمانيَّة، جَبَر الله قصورَه، وأحاطَه بأفضاله. عود إلى فاعلية الظروف: إن الدهر قلوب[2]، والزمان في تقلُّبه ودورانه يطوي، وينشر، ويدمغ، كآلة الطباعة تترك طابعها على ما تضم من شيء، كذلك الزمان؛ يسم بميسمه، ويدمغ بنقوشه، فيُحدِث في الأجيال تغييرات مباشرة، وغير مباشرة في النفس، والمزاج، والفكر، وكما تتعدَّد آلة الطباعة وتتغيَّر، كذلك تتعدَّد نقوش الزمن وتتغيَّر، وتبعًا لهذا تتغاير الأجيال، وتتميَّز بالرغم من السمات المشتركة التي تجمع بينها - بالرغم من العِرق المشترك، ومقتضى هذا أن الإنسان الذي انفعَل بزمان غابر له ملامحه وقسماته غير الإنسان الذي انفعَل بزمان حاضر تطوَّر وتحضَّر، والإنسان الذي تأثَّر ببيئة مزدهرة خضراء غير الذي انفعَل ببيئة مُقفرة جرْداء، والذي تأثَّر بأجواء الضباب غير الذي تأثَّر بالدوِّ[3]، والكُثبان، والسراب. والنتيجة أن لكلِّ فوجٍ من تلك الأفواج رؤيته المتأثرة بظروفه النابعة من موقفه على السُّلَّم الزمني، وله كذلك طريقته في الإرسال والاستقبال، والتحليل والتمثيل والاستنباط، والإقناع والتأثير. ووعي هذه الملابسات التي تُعرض للناس هو في ظني من الحِكمة التي نوَّه المولَى بها، وهو يضع للناس أصول الدعوة إلى سبيله؛ ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125]. إدراك الأوَّلين ومعارفهم مستمدَّة من تُراثهم المحدود، ومن زادهم المتاح، وإدراك الآخرين رهْنٌ بتراثهم الممدود، وزادهم المتزايد، وصدق الله إذ يقول: ﴿ فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ﴾ [الرعد: 17]. الحق أن الإنسان مرتبط بدهْره وعصره، وأي انفصال عن عصْره يطرحه أرضًا نهبَ الحوافر والأظلاف، والأقدام والعجلات. إن الفصول الأربعة - وهي تتعاقب في حيِّز محدود - لها تأثيرها البالغ على النفس، فكيف إذا طال المدَى؟! عصمة الدين وأدب الدعوة: الإسلام دين كل الأزمنة والأمكنة، فهل يتعرَّض كالإنسان لعوامل التعرية والتربية، للتغيُّر والنقْص والزيادة؟ إن الله الذي أنزَل هذا الدين للأوَّلين والآخرين، وللبادِين والحاضرين[4]، كتَب على نفسه أن يحفظ الذِّكر، وإنْ هان الذاكرون؛ ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]. وكفَلَ رِفْعة الدِّين، واستمرار المسيرة، وإنْ تهاوى الدُّعاة، وذَلَّ المسلمون؛ ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾ [التوبة: 33، الصف:9]. وتعهَّد - سبحانه - أن تظلَّ نفحات القرآن نَدِيَّة، سحَّاء، مُشرقة، تُتيح وضوحَ الرؤية، وترشد حَمَلَة المشاعل؛ حتى يواصلوا السَّيْر متتابِعين، ويَبلغوا بالإسلام مغربَ الشمس، وإن طال المدى، وتضاءَلت الفُرص؛ ((إنما بقاؤكم فيما سلَف قبلكم من الأُمم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أُوتي أهل التوراة التوراةَ، فعملوا حتى إذا انتصَف النهار، عجزوا فأُعطوا قيراطًا، قيراطًا، ثم أُوتي أهل الإنجيل الإنجيلَ، فعَمِلوا إلى صلاة العصر، ثم عجزوا فأُعطوا قيراطًا، قيراطًا، ثم أُوتينا القرآن، فعَمِلنا إلى غروب الشمس، فأُعطينا قيراطين، قيراطين... إلخ))؛ البخاري. والمولى تحقيقًا لكلِّ هذا، وعِصمةً لدينه من تقلُّبات الأجواء والأهواء، ثبَّت أصول هذا الدين، وحصَّن جذورَه من أن تمسَّها آفاتٌ، أو يصيبها نحرٌ أو وخرٌ، فألْزَمَ بالاتِّباع، وأنْكَر الابتداع، وحرَّم تعدِّي الحدود، والحوم حوْلَ الحِمَى؛ عن النعمان بن بشير عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الحلال بيِّنٌ، والحرام بيِّنٌ، وبينهما مُشَبَّهات لا يعلمها كثيرٌ من الناس، فمَن اتَّقى الشُّبهات، فقد استبرأَ لعِرْضه ودينه، ومَن وقَع في الشُّبهات، كراعٍ يرعى حول الحِمَى يُوشِك أن يواقِعَه، ألاَ وإنَّ لكلِّ ملك حِمًى، ألاَ وإنَّ حِمَى الله في أرضه مَحارمه...))؛ البخاري. وهكذا تظلُّ أصول الدين منيعة، وتظلُّ ساحته مقدَّسة، لا يقتحمها فكرٌ بشري غير معصوم. وصفحة الدِّين قد يشوب صفوها غُبارٌ يُثيره ركضُ الشيطان، أو كيْد الأعداء، أو سقوط الأنصار، إلاَّ أنَّ المولى - جل وعلا - قيَّض - بتشديد الياء المفتوحة - للدِّين مَن يُجليه، ويُجَدِّد رُواءَه؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يحمل هذا الدِّين من كلِّ خلفٍ عُدولُه، يَنفون عنه تحريفَ الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين))[5]. ومثل هذا ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الله يبعث لهذه الأُمَّة على رأس كلِّ مائة عام مَن يُجدِّد لها دينها))؛ رواه أبو داود، والحاكم في المستدرك، وصحَّحه الذهبي. شيخوخة الحياة: وكلَّما تراكَم الغبار، أو تكاتَف الزَّبَدُ، هيَّأ الله لدينه مَن ينفض ويَجلو صفحته. وكلَّما ظهرت البِدَع، وتفشَّى التحريف والتخريف، قيَّض الله مَن يصدُّ ويَحمي. وكلَّما عَظُم الكيْدُ، وبُرِيَت السِّهام، وكِيلتْ للدِّين الضَّربات، يبعث الله مَن يذود ويردُّ. هكذا تظلُّ طائفة من الأُمَّة ظاهرين على الحقِّ، لا يضرُّهم مَن خالفهم؛ مصداقَ حديث رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم. وهكذا حتى إذا قُبِض العلم، وقُضِي الأمر، شاخَت الدنيا، وتهيَّأت لشِرار الناس. ويومئذ فقط يُعْفَى - بالبناء للمجهول - المجاهد، وتُرْفَع فريضة الجهاد؛ مصداقَ ما أخرجه أبو داود عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((... والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتِلَ آخرُ أُمَّتي الدَّجال...))[6]، ومصداق ما جاء في صحيح مسلم[7] مِن أنه إذا قُتِل الدَّجال، وظهَر يأْجوج ومأجوج، لجأ عيسى - عليه السلام - بِمَن معه إلى الجبال - لعدم قُدرته عليهم، فلا يجب عليه قتالُهم - حتى إذا أهلَكهم الله بأمْرٍ من عنده، وطهَّر الأرض منهم، بعَث ريحًا طيِّبة، تَقبض رُوح كلِّ مؤمنٍ ومسلم ممن عصَمهم الله من فتنة الدَّجال، ولا يبْقى بعدهم إلاَّ شِرَارُ الناس، حتى تقوم الساعة؛ ا. هـ. والساعة توافِق شيخوخة الحياة، فالحياة بكلِّ معنويَّاتها يجري عليها ما يجري على الأحياء؛ ﴿ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ﴾ [الحج: 5]. فالأيَّام مركب الإنسان إلى أرْذَل العُمر، وهي أيضًا مركب الأجيال، ومركب الحياة نفسها، وصدق الله إذ يقول: ﴿ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ﴾ [يس: 68]. وشيخوخة الحياة بما تُخَبِّئ من مخاطر، وبما تدَّخِر من ويلات، كان يتمثَّلها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيَرَاع، ويَقلق؛ خوفًا على أُمَّته أن تُضام، أو تُفتن، وتُسْعر[8] - بالبناء للمجهول - وطالما حذَّر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - من آخر الزمان تحذيرًا يكشف المخاطر، ويصوِّر المخالِبَ والأنياب، من ذلك: 1- ((يأتي على أُمَّتي زمان، الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمْر))؛ رواه الترمذي عن أنس، وقال: غريب الإسناد. 2- وما رواه أحمد عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يكون في آخر الزمان أقوامٌ إخوان العلانية، أعداء السَّريرة))، قيل: وكيف يكون ذلك يا رسول الله؟ قال: ((ذلك برغبة بعضهم في بعض، ورَهْبة بعضهم من بعض)). هذا ولعلَّ العلانية هنا تشي بالمادية التي لا تؤمن إلاَّ بالمشاهَد المحسوس وليدِ التجربة. 3- وما رواه البيهقي في "شُعَب الإيمان" عن عمر بن الخطاب عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنه يُصيب أُمَّتي في آخر الزمان من سُلْطانهم شدائدُ، لا ينجو منها إلاَّ رجل عرَف دينَ الله، فجاهَد عليه بلسانه ويده وقلبه، فذلك الذي سبَقت له السوابقُ، ورجل عرَف دين الله، فصدَّق به، ورجل عرَف دين الله، فسكَت عليه، فإن رأى مَن يعمل الخير أحبَّه، وإن رأى مَن يعمل بباطلٍ أبغَضه، فذلك ينجو على إبطائه كلِّه))[9]. 4- وما رواه الترمذي عن أبي هريرة عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يخرج في آخر الزمان رجالٌ يَخْتلون الدنيا بالدِّين، يَلْبَسون للناس جلودَ الضأْن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذِّئاب؛ يقول الله: أبِي يغترون؟ أم عليّ يَجْترئون؟ فِبي حَلَفتُ لأبعثنَّ على أولئك منهم فتنةً تدَعُ الحليم فيهم حيرانَ))[10]. والمؤثرات الأخرى: وهؤلاء وغيرهم ممن أشارتْ إليهم الأحاديث هم صنائع الزمان، شُكِّلوا في بَوْتقته، وصِيغوا بضواغطه، وعُرِضوا - بالبناء للمجهول - ليبقوا براهينَ على فعْل الزمان، ووشْم الزمان، ووصْم الزمان. والإنسان يتفاعل تفاعُلاً يكاد يكون كيميائيًّا مع الظروف الواقعية التي تَعتريه أو تلابِسُه، فهو يطغى أن رآه استغنى، وهو يضطرب بين النقائض حين يُبْلَى؛ ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴾ [المعارج: 19 - 21]. وهو يغيب عن رُشده إذا مسَّته سرَّاء، ويثوب إذا مسَّته ضرَّاء؛ ﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﴾ [فصلت: 51]. وهو - في جملته - أسيرُ حالتيْن رهيبتَيْن، تتأرْجَحان به - إن لَم يَعتصم بالله؛ ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [هود: 9 - 11]. وهو إن لَم يُوغِل في هذه الحالات إيغالاً، مسَّته نفحة منها، فالثروة مثلاً إذا هَبَطت على امرئ ما، تغيَّر حاله فجَدَّت له أشواق، واستحْدَثت اهتمامات، وظهَرت تَطلُّعات، واجْتَذَبتْه ساحات، وتولَّدت فيه طاقات، حتى إن العين لتكاد تُنكره، وتُنكر أمرَه. وكذلك الجاه والشهرة، وكذلك كلُّ ارتقاءٍ مِن حالٍ إلى حال، وليس شرطًا أن يكون التغيير إلى أسوأ، ولكنَّه على أيَّة حالٍ تغيُّر غريب، كثيرًا ما يؤثِّر على أفكاره، وتصوُّراته، وعطائه... إلخ. ولقد رَوى تاريخ الأدب قصة ذلك الشاعر البدوي[11] الذي اختزنَ مناظر البادية، فراح ينضحُ بما فيه، وقصَد الخليفة مادحًا، فقال: أَنْتَ كَالْكَلْبِ فِي حِفَاظِكِ للْوُدْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif دِ وَكاَلتَّيْسِ فِي قِرَاعِ الخُطُوبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أَنتَ كَالدَّلْوِ لاَ عَدِمْنَاكَ دَلْوًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مِنْ كِبَارِ الدِّلاَ كَثِيرَ الذَّنُوبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فثارَ عليه في مجلس الخليفة مَن ثار، وزَجَره مَن زَجَر، وسبَّه مَن سبَّ، ولكنَّ الخليفة أدْرَك أنه شاعرٌ يعكس ما رأى، ويُشبِّه بما عرَف، فنقله إلى حيث النَّضارة، والرِّقة، والماء، والخُضرة، فلَبِث هناك ما لَبِث، ثم عاوَد الخليفة ينشد في مجلسه القصيدة العذبة المشهورة التي مَطلعها. عُيُونُ المَهَا بَيْنَ الرُّصَافَةِ وَالجِسْرِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif جَلَبْنَ الهَوَى مِنْ حَيثُ أَدْرِي وَلاَ أَدْرِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ذلك تأثير الظروف، وطابع البيئة، والداعية الذي يُشَقْشق دون أن يحسبَ حساب هذه النوازع، ودون أن يَفطِنَ إلى طابع الزمان، ومُتطلبات العصر، يتعاطى ما لا يُحسِن، ويتحمَّل من البلاء ما لا يُطيق، والسلف الصالح راعوا النوازع البشرية بقدْر ما أُتيح لهم؛ فقد رَوى البخاري عن عِكْرمة عن ابن عباس، قال: "حَدِّث الناسَ كلَّ جمعة مرَّة، فإن أبيتَ، فمرَّتين، فإن أكثرتَ، فثلاث مِرَارٍ، ولا تُمِلَّ الناس هذا القرآن، ولا أُلْفِيَنَّك تأتي القوم وهم في حديثٍ من حديثهم، فتقص عليهم، فتقطع حديثَهم، فتُمِلهم، ولكن أنْصِتْ، فإذا أمَرُوك، فحَدِّثهم وهم يشتهون، فانظر السجْعَ من الدعاء، فاجْتَنِبْهُ، فإني عَهِدتُ أصحاب رسول الله لا يفعلون ذلك[12]. يتبع [1] الزَّنْد: عود يُقْدَح به النار، أو جسم صُلب يُحَكُّ بجسم مماثل؛ لتتَّقِدَ النار، تقول: قدحتُ بالزَّنْد إذا حككْته في زَنْدة سُفلى؛ طلبًا للنار، وتقول لِمَن أنجدك فأعانك: "وَرَتْ بك زَنْدي"، وصلَد الزَّنْد صلودًا إذا لَم يُورِ، وصَلُد - بضم اللام - بَخِل، وتقول: قدَح فأوْرَى إذا أشعَل، وقدَح فأصْلَد إذا فَشِل في الإيقاد. [2] القلوب: المتقلِّب الكثير التقلُّب، والمراد بالدهر هنا حقيقته؛ أي: جماع الأزمنة كلها، أمَّا إطلاق الدهر على الله في الحديث: ((لا تسبُّوا الدهرَ؛ فإنَّ الدهر هو الله))، فمَن باب المجاز المرسل، إلا أن البعض عدَّ كلمة "الدهر" في الأسماء الحُسنى، متمسِّكًا بهذا الحديث، ورأى أهل اللغة أنه الأمد، أو الأبد، والحُوَّل القُلَّب - بضم الحاء، والقاف... وفتح الواو واللام مشددتين - البصير بتقلُّب الأمور. [3] الدوُّ بالواو المشددة: الصحراء، والكثبان: جمع كثيب؛ أي: الرمال. [4] البادون: هم أهل البادية، والحاضرون: هم أهل الحضَر. [5] الحديث رواه إبراهيم بن عبدالرحمن مرسلاً، ولكنَّه رُوِي موصولاً عن طريق جماعة من الصحابة، وصحَّحه الإمام أحمد. [6] الحديث في سنده مجهول، هو: يزيد بن أبي نُشْبَة الراوي عن أنس، لكن معنى الحديث صحيح. [7] كتاب الفتن وأشراط الساعة، ج4، 2240، باب 18، وانظر: كنوز السُّنة، الحديث 13، "حقيقة الإيمان والإسلام". [8] السُّعَار: الجنون والجوع والحَرُّ، والمسعور: الحريص على الأكْل - وإنْ مُلِئ بطنُه. [9] في سنده ضَعف؛ كما في السلسلة الضعيفة. [10] ضعيف؛ كما في ضعيف الجامع الصغير. [11] هو كما قيل: علي بن الجهم، الشاعر العباسي المتوفَّى سنة 249هـ - 863م. [12] أي: لا يتعمَّدونه. |
رد: نفحات قرأنية رمضانية
في رحاب القرآن أحمد مختار ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأنعام: 34- 35]. صدق الله العظيم يكادُ يكون محتوى هاتَين الآيتيْن واضحًا من القِراءة الأولى: فالآية الأولى تتحدَّث عن النَّتيجة الحتميَّة للجولة التي يَخوضُها الرُّسل مع البشر، وهدفها تخليص هؤلاء من براثن الشِّرْك، وتبصِرتهم بأنَّ مصدر القوَّة كلها - على مختلف صُوَرِها ودرجاتِها - واحد، ومع أنَّ هذه النتيجة تَهدي إليْها الفطرة السليمة؛ إلاَّ أنَّ رحلة الإنسان إليْها رحلةٌ شاقَّة مَحفوفة بالضَّلال، الَّذي يعمي بصيرته عن الرؤْية النَّافذة لهذه الحقيقة. فيغْشى بصرَه ما يغشاه من اعتزازٍ وكِبْر بقدرتِه العقليَّة، وظنّه أنَّها تستطيع أن تجعله مستقِلاًّ عن الكون الَّذي هو جزءٌ منه، ويظن أنَّ المكتشفات العلميَّة التي من المفروض أن تؤدِّي به إلى التَّسليم بعظمة الخالق، ستؤدِّي به إلى عكس ذلك، فيكون هو المتحكِّم في الكون، والمسيْطِر على نواميسِه، وصدق الله العظيم في وصْف هذه النَّظرة المتعالية عندما قال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [غافر: 56- 57]. ويغْشى قلبَه ما يغشاه من عجزٍ في تصوُّر القدرة الإلهيَّة الواحدة، وتعجز نفسُه عن التخلُّص من كل الأدْران، ويظل مشدودًا إلى قوى أدْنى منها، يتَّخذها للقوَّة العليا زلفى أو ندًّا، إلى غير ذلك من وسائل الشِّرْك، الَّتي ما أُرسل الرسل كلُّهم إلاَّ لتخْليص البشر من إسارِها، على اعتِبار أنَّ الشرك استعباد وحدٌّ من حريَّة الإنسان لحسابِ قوى لا تملك له نفعًا ولا ضرًّا، وأنَّ الإنسان الَّذي يسكُن التَّوحيد قلبَه ينظُر إلى كلِّ ما هو كائن في الحياة، على أنَّه مجرَّد علاقات لا تملك أيَّة واحدة منها قدرة عليْه، ويعالجها ويعاملها بالأُسْلوب المناسب لها: حلاًّ واستِفادة من التيقُّن الكامل أنَّ القوَّة لله جميعًا. هذه النتيجة التي لا بدَّ أن يهتدي إليْها الإنسان بفطرتِه المجرَّدة، إن خلصت نظرته، هي التي عناها الله - تعالى - بأنَّها مضمونة النَّتيجة: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ﴾ [المجادلة: 21]؛ أي: إنَّ رسالة التَّوحيد لا بدَّ منتصِرة، مهْما بعدت الشقَّة، ومهْما كثُرت التَّضْحِيات. والَّذي نبغيه من الحديث عن الآيتَين الكريمتَين: هو أن نستمِرَّ فيما قصدْنا إليْه من إشعار كلِّ مسلم - إزاءَ الغزْو العَقَدي، وكثْرة ما يُقال عن وجوب استِقْلال المنهاج العِلْمي عن الدِّين - أنَّ هاتين الآيتَين الكريمتَين فيهما مثلٌ واضِح لكذِب هذا القول، وأنَّ الدِّين الإسلامي قائمٌ في جوهره على عدم انفِصام التَّفكير العلمي عن العقيدة؛ بل إنَّ هذا النَّوع من التَّفكير هو من مكوِّنات العقيدة الصَّحيحة. وآية ذلك: أنَّ هاتين الآيتَين الكريمتَين تتكلَّمان عن كلِمات الله؛ أي: سُنَنه ونواميسه الكونيَّة، ومن بينها: أنَّ دعوات الرُّسُل الإصلاحيَّة تقتضي منهم التصدِّي لعناد النَّاس وتكْذيبهم وإيذائهم، شأنهم دائمًا شأْن كلِّ مَن يتصدَّى للإصْلاح، وأنَّ الصَّبر في مثل هذه المواقِف أمر لازم، وأمَّا ضيق الصَّدر والتعلُّق بعمل حاسم من الله، فإنَّه وإن كان ذلك في مقْدوره تعالى، إلاَّ أنَّه خارج عن نطاق السُّنَن الكونيَّة، وأنَّ التَّعلُّق بأنَّ الله قد يغيِّر هذه السُّنَن لأمر يعرض هو الجهْل وعدم الفهم. والمهمَّة الصَّحيحة أن يؤمنوا أنَّ الحياة البشريَّة يَجب أن ينظر لها ككُل، لا كحلول فرديَّة، وأنَّ دَوْرَهم في هذه الحياة غيرُ مشروط بانتصار الحقِّ على أيديهم؛ بل قد يكون هذا الدَّور مجرَّد مساهمة، معها الآلاف بل ملايين من المساهَمات الخفيَّة أو غير الخفيَّة عن أعين الأفْراد، في تكْوين التيَّار الَّذي ينتهي إلى الهدَف العام، وهو التَّسْخير الكامل لما سخَّره الله لنا في هذا الكوْن، في ظلِّ اعتقادٍ راسخ في أنَّه لا إله إلا هو، والإيمان الكامِل بالله وملائكته وكتُبه ورسله. ويوضِّح ذلك أنَّ الآيتين تقرِّران أنَّ رسالة الأنبِياء وإن كانوا مكلَّفين بها من الله - تعالى - إلاَّ أنَّها تخضع للنواميس الكونيَّة، وأنَّ الرَّسول لا يجوز له أن يتَّكل على ما يعتَقِدُه في قُدْرة الله على جَميع النَّاس على الإيمان، وإلاَّ لم تكن هناك حاجة إذًا لرسالتِه؛ بل إنَّ إرسال الرُّسل مبشِّرين ومنذِرين هو في حدِّ ذاتِه إفهامٌ لنا بأنَّ كلَّ شيء، حتَّى رسالاته - تعالى - تَخضع في انتِصارها لنفس النَّواميس والسُّنَن الموضوعة للعالم. كيف يقال بعد ذلك: إن للعلم مجالاً وللدِّين مجالاً؟! أيُّها المسلِم، إنَّ عقيدتَك لا تسمح لك فقط بالانطِلاق الفِكْري؛ بل تصِف تعلُّقك بغير التَّفكير المحلَّل والدَّارس لنَواميس الكوْن بأنَّه من عمل الجاهِلِين غير الفاهمين. وحيثُ يطمئنُّ الإنسان إلى عقيدتِه، تزول البلْبلة، وتحلُّ السَّكينة محلَّ الارتِياب. |
رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد
بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـهُ خواطر رمضانية محمد إبراهيم الحمد (2) وكلوا واشربوا ولا تسرفوا الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فإن للصيام آداباً كثيرةً، ومن تلك الآداب: أن يقتصدَ الصائمُ في طعامه وشرابه. ومما يلحظ على بعض الصائمين -بل على أكثرهم- أنهم يجعلون شهرَ رمضانَ موسماً سنوياً للموائد الزاخرة بألوان الطعام، فتراهم يُسرفون في ذلك أيّما إسرافٍ، وتراهم يتهافتون إلى الأسواق؛ لشراء ما لذّ وطاب من الأطعمة التي لا عهدَ لهم بأكثرها في غير رمضان. والنتيجة من وراء ذلك: إضاعةُ المال، وإرهاقُ الأبدان في كثرة الطعام، وثِقَلُ النفوس عن أداء العبادات، وإهدارُ الأوقات الطويلة بالتسوّق، وإعداد الكميّات الهائلة من الأطعمة التي يكون مصيرُها في الغالب صناديقَ الزِّبل. .. إن هذا الاستعدادَ المتناهيَ الذي يقع فيه أكثر المسلمين لرمضان بالتفنن والاستكثار من المطاعم والمشارب - مخالفٌ لأمر الله، منافٍ لحكمة الصوم، مناقضٌ لحفظ الصحة، معاكسٌ لقواعد الاقتصاد. ولو كان هؤلاء متأدبين بآداب الدين لاقتصروا على المعتاد المعروف من طعامهم وشرابهم، ولأنفقوا الزائد في طرق البر والإحسان التي تناسب رمضان، من إطعام الفقراء واليتامى والأيامى، و تفطير الصّوام المعوَزِين، ونحو ذلك. والغالب أن يكون لكل غنيٍّ مسرفٍ من هذا النوع جارٌ أو جيران من الفقراء والمساكين، وهم أحق الناس ببر الجار الغني، وإن لم يكن لهؤلاء الأغنياء جيرانٌ من هذا النوع فإنه يحسن صرفها في وجوه الخير. .. . ولو فعل الأغنياء المسرفون ذلك لأضافوا إلى قربة الصوم قربةً عظيمة عند الله، ألا وهي الإحسان إلى المعدَمين، وللقيام بهذه الخصلة من الخير مزيّة في المجتمع؛ لأنها تقرب القلوبَ في هذا الشهر المبارك، وتشعر الصائمين كلَّهم بأنهم في شهر إحسان، ورحمة وأخوَّة. ثم إن الإنسان لو طاوع نفسَه في تعاطي الشهوات، و التهام ما حلا من المطاعم وما مرّ، وما برد منها وما حرّ، وطاوع نفسه باستيفاء اللذة إلى أقصى حد - لكانت عاقبةُ أمره شقاءً ووبالاً، ونقصاً في صحته واختلالاً، ولكانت الحميةُ في بعض الأوقات واجباً مما يأمر به الطبيب الناصح؛ تخفيفاً على الأجهزة البدنية، وادخاراً لبعض القوة إلى الكِبَر وإبقاءً على اعتدال المزاج، وتدبيراً منظماً للصحة. وإن ذلك لهو الحكمة البارزة في الصوم، فكيف يُقْلَبُ الأمر رأساً على عقب؟! ويجعلَ من شهر الصوم ميداناً للتوسع في الأكل والشرب؟!. .. قال الله - عز وجل - : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ). قال بعض العلماء : " جمع الله بهذه الآيةِ الطبَّ كلَّه ". قال النبي " : " ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلثٌ لطعامه وثلث لشرابه، وثلث لنفسه " أخرجه أحمد، وصححه الألباني في صحيح الجامع. أيها الصوام: لا يخفى على عاقل ما للتوسع في المآكل والمشارب من عواقب وخيمة على دين المرء ودنياه زيادةً على ما مضى؛ فهو مما يورث البلادة، ويعوق عن التفكير الصحيح، وهو مدعاةٌ للكسل،وموجبٌ لقسوة القلب، وهو سببٌ لمرض البدن، وتحريك نوازع الشر، وتسلُّط الشيطان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " وقد ثبت عن النبي " أنه قال: " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " رواه البخاري. ولاريب أن الدَّمَ يتولد من الطعام والشراب؛ ولهذا إذا أكل أو شرب اتسعت مجاري الشيطان، ولهذا قيل: " فضيقوا مجاريَه بالجوع " . وإذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات التي تُفْتَحُ بها أبواب الجنة، وإلى ترك المنكرات التي تفتح بها أبواب النار، وصفِّدت الشياطين، فضعفت قوتُهم وعملُهم بتصفيدهم، فلم يستطيعوا أن يفعلوا في شهر رمضان ما كانوا يفعلونه في غيره ولم يقل: " إنهم قتلوا " ، ولا ماتوا، بل قال: "صفِّدوا" والمصفَّد من الشياطين قد يؤذي، لكن هذا أقل وأضعف مما يكون في غير رمضان، فهو بحسب كمال الصوم ونقصه، فمن كان صومه كاملاً دفع الشيطان دفعاً لا يدفعه الصوم الناقص، فهذه المناسبة ظاهرة في منع الصائم من الأكل والشرب، والحكم ثابت على وَفْقِهِ " ا-هـ. قال لقمان - عليه السلام - لابنه: " يا بني! إذا امتلأت المعدة؛ نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقَعَدت الأعضاءُ عن العبادة " وقال عمر - رضي الله عنه -: " من كثر أكله لم يجد لذكر الله لذة ". وقال علي - رضي الله عنه -: " إن كنت بَطِناً؛ فعد نفسك زَمِناً ". وقال بعض الحكماء: " أقلل طعاماً، تحمدْ مناماً ". وقال بعض الشعراء: وكم من لقمةٍ منعت أخاها *** بـلذةٍ سـاعةٍ أكلاتِ دهرِ وكم من طالبٍ يسعى لأمر *** وفيه هلاكُه لو كان يدري https://dl.dropbox.com/u/63580683/fo15.gif وقال ابن القيم - رحمه الله -: " وأما فضول الطعام: فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر؛ فإنه يحرك الجوارحَ إلى المعاصي، ويثقلُها عن الطاعات، وحسبك بهذين شراً، فكم من معصية جَلَبها الشبعُ، وفضولُ الطعام، وكم من طاعة حال دونها؛ فمن وقي شرَّ بطنه؛ فقد وقي شراً عظيماً، والشيطان أعظم ما يتحكَّم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام " . إلى أن قال - رحمه الله -: " ولو لم يكن من الامتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله - عز جل - وإذا غفل القلب عن الذكر ساعةً واحدةً جَثَم عليه الشيطانُ ، ووعده ، ومنَّاه ، وشهَّاه وهام به في كل وادٍ؛ فإن النفس إذا شبعت تحركت، وجالت وطافت على أبواب الشهوات، وإذا جاعت سكنت - وخشعت وذلت " ا-هـ. بل إن الذين يتوسعون في المآكل لا يجدون لها لذةً كما يجدُها المقتصدون. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : " فالذين يقتصدون في المآكل نعيمُهم بها أكثرُ من المسرفين فيها؛ فإن أولئك إذا أدمنوها، وألِفُوها لا يبقى لها عندهم كبير لذة مع أنهم قد لا يصبرون عنها، وتكثر أمراضهم بسببها " ا-هـ. .. . أيها الصائمون الكرام: إذا كان الأمر كذلك؛ فما أحرانا أن نجعل من شهرنا الكريم فرصةً لتوطين نفوسنا على الاعتدال في المآكل والمشارب؛ فالنفوسُ طُلَعةٌ لا ترضى بالقليل من اللذات؛ فإذا جاهدناها؛ انقدعت عن شهواتها، وكفَّت عن الاسترسال مع لذاتها ورغباتها، وإن من أحكم ما قالته العرب قولَ أبي ذؤيب الهذلي: والنفسُ راغبةٌ إذا رغَّبتها *** وإذا تُـرَدُّ إلى قليلٍ تقنع أما إذا استرسلنا معها، وأعطيناها كل ما تريد؛ فإنها ستقودنا إلى الغواية، وتنزع بنا إلى شر غاية. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. https://dl.dropbox.com/u/63580683/fo18.png |
رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد
بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـهُ خواطر رمضانية محمد إبراهيم الحمد (3) رمضان شهر الفرح الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: فإن الفرح مطلب مُلحٌّ، وغاية مبتغاة، وهدفٌ منشود، والناس كل الناس يسعى إلى فرح قلبه، وزوال همِّهِ وغمِّهِ، وتفرق أحزانه وآلامه. ولكنْ قَلَّ من يصل إلى الفرح الحقيقي، ويحصل على السعادة العظمى، وينجو من الآلام والأتراح. والحديث ههنا سيدور حول معنى الفرح، وأسبابه، وموانعه. وبعد ذلك نصل إلى معنى الفرح في الصيام، وكيفيةِ كونِ هذا الشهر الكريم شهرَ فرحٍ. أيها الصائم الكريم! الفرحُ لذةٌ تقع في القلب بإدراك المحبوب، ونيل المشتهى، فيتولّدُ من إدراكه حالةٌ تسمى الفرح والسرور. كما أن الحَزَنَ والغَمَّ مِنْ فقد المحبوب، فإذا فقده تولد مِنْ فقده حالةٌ تسمى الحزَن والغم. . . والفرحُ أعلى نعيمِ القلب ولذتِه وبهجتِه، فالفرحُ والسرورُ نعيمهُ، والهمُّ والغمُّ عذابُه. والفرحُ بالشيء فوق الرضا به، فإن الرضا طمأنينُةٌ وسكونٌ وانشراحٌ. والفرح لذةٌ وبهجةٌ وسرورٌ، فكل فَرِحٍ راضٍ، وليس كلُّ راضٍ فَرِحاً. ولهذا كان الفرحُ ضدَّ الحزن، والرضا ضدَّ السخط، والحزنُ يؤلم صاحبَه، والسُّخط لا يؤلمه إلا إذا كان مع العجز عن الانتقام. . . ولقد جاء الفرح في القرآن على نوعين: مطلقٍ ومقيدٍ، فالمطلقُ جاء في الذم كقوله - تعالى -: ( لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ )، وقوله:( إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ). والفرح المقيَّدُ نوعان - أيضاً - مقيَّدٌ بالدنيايُنْسِي فضل الله ومنته، وهو مذموم كقوله - تعالى - :( حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ). والثاني فرحٌ مقيَّدٌ بفضل الله ورحمته:وهو نوعان - أيضاً - فضلٌ ورحمةٌ بالسبب، وفضل بالمسبِّب، فالأول كقوله - تعالى-: ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ )، والثاني كقوله - تعالى -: ( فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ). . . ولقد ذكر الله - سبحانه - الأمر بالفرح بفضله ورحمته عقيب قوله: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) . ولا شيءَ أحقُّ أن يَفْرح به العبدُ من فضل الله ورحمته التي تتضمن الموعظةَ وشفاءَ الصدور من أدوائها بالهدى والرحمة: الهدى الذي يتضمَّن ثَلْجَ الصدور باليقين، وطمأنينةَ القلبِ به، وسكونَ النفسِ إليه، وحياةَ الروح به. والرحمةُ التي تجلب لها كلَّ خيرٍ ولذةٍ، وتدفع عنها كلَّ شرٍّ وألمٍ. والموعظةُ التي هي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب. وشفاءُ الصدورِ المتضمنُ لعافيتها من داء الجهل، والظلمة، والغي، والسفه؛ تلك الأدواءُ التي هي أشدُّ ألماً لها من أدواء البدن. . . فالموعظةُ، والشفاءُ، والهدى، والرحمةُ هي الفرح الحقيقي، وهي أَجَلُّ ما يفرح به؛ إذ هو خيرٌ مما يجمع الناس من أعراض الدنيا وزينتها؛ فهذا هو الذي ينبغي أن يُفْرح به، ومَنْ فرح به، فقد فرح بأجلّ مفروحٍ به، لا ما يجمع أهل الدنيا فيها؛ فإنه ليس بموضع للفرح؛ لأنه عرضةٌ للآفات، وشيكُ الزوال، وخيمُ العاقبة، وهو طيفُ خيالٍ زار الصبَّ في المنام، ثم انقضى المنامُ، ووَلَّى الطيف، وأعقب مزاره الهجران. فالدنيا، لا تتخلص أفراحُها من أتراحِها وأحزانِها البتة، بل ما من فرحة إلا ومعها تَرْحةٌ سابقةٌ، أو مقارنة، أو لاحقة. ولا تتجرد الفرحةُ، بل لا بد من تَرْحة تقارنها؛ ولكن قد تقوى الفرحةُ على الحزن، فينغمر حكمُه وألمهُ مع وجودها وبالعكس. فالفرحُ بالله وبرسوله، وبالإيمان، وبالقرآن، وبالسنة، وبالعلم يُعَدُّ مِنْ أعلى مقامات العارفين، وأرفع منازل السائرين. وضدُّ هذا الفرحِ الحزنُ، الذي أعظم أسبابه الجهلُ، وأعظمُه الجهل بالله، وبأمره، ونهيه؛ فالعلمُ يوجب نوراً، وأنساً، وضدُّه يوجب ظلمةً، ويوقع في وحشة. . . ومن أسباب الحزن تَفَرُّقُ الهمِّ عن الله؛ فذلك مادةُ حزنه، كما أن جَمْعِيَّة القلب على الله مادةُ فرحِهِ ونعيمِه؛ ففي القلب شَعَثٌ لا يَلُمُّه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشةٌ لا يزيلها إلا الأنسُ به في خلوته، وفيه حَزَنٌ لا يذهبه إلا السرورُ بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلقٌ لا يسكِّنه إلا الاجتماعُ عليه والفرارُ منه إليه، وفيه نيرانُ حسراتٍ لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه، وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلبٌ شديدٌ لا يقف دونَ أن يكون هو وحده مطلوبَهُ، وفيه فاقةٌ لا يسدُّها إلا محبتُه والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تُسدَّ تلك الفاقةُ منه أبداً. ولقد قرَّر العلماء العالمون بالله وبأمره هذا المعنى، وعلى رأس أولئك العلامةُ ابن القيم - رحمه الله -. . . أيها الصائمون! هذا هو الفرح الحق، وهذا هو فرح أهل الإيمان، لا فرحُ أهلِ الأشر والبطر والطغيان. هذا وإن للصائمين من هذا الفرح نصيباً غيرَ منقوص؛ كيف وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: " وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه ". . . قال ابن رجب - رحمه الله -: " أما فرحة الصائم عند فطره؛ فإن النفوسَ مجبولةٌ على الميل إلى ما يلائمها من مطعم، ومشرب، ومنكح؛ فإذا امتنعت من ذلك في وقت من الأوقات، ثم أبيح لها في وقت آخر، فرحت بإباحة ما منعت منه، خصوصاً عند اشتداد الحاجة إليه؛ فإن النفوسَ تفرح بذلك طبعاً؛ فإن كان ذلك محبوباً لله كان محبوباً شرعاً. والصائمُ عند فطره كذلك، فكما أن الله - تعالى - حَرَّم على الصائم في نهار الصيام تناولَ هذه الشهواتِ، فقد أذن له فيها في ليل الصيام، بل أحب منه المبادرةَ إلى تناولها من أول الليل وآخره؛ فأحب عباد الله إليه أعجلهم فطراً، والله وملائكته يصلون على المتسحرين؛ فالصائمُ ترك شهواتِه في النهار تقرباً إلى الله، وطاعةً له، وبادر إليها بالليل تقرباً إلى الله، وطاعة له؛ فما تركها إلا بأمر ربه، ولا عاد إليها إلا بأمر ربه؛ فهو مطيعٌ في الحالين؛ ولهذا نُهِيَ عن الوصال؛ فإذا بادر الصائم إلى الفطر تقرباً إلى مولاه، وأكل وشرب وحمد الله فإنه ترجى له المغفرةُ، أو بلوغُ الرضوان بذلك ". إلى أن قال - رحمه الله -: " ثم إنه ربما استجيب دعاؤه عند فطره، وعند ابن ماجة: " إن للصائم عند فطره دعوةً لا تُرد ". وإن نوى بأكله وشربه تقوية بدنه على القيام والصيام كان مثاباً على ذلك، كما أنه إن نوى بنومه في الليل والنهار التقوّيَ على العمل كان نومُه عبادة. . . ومن فهم هذا الذي أشرنا إليه، لم يتوقَّف في معنى فرحه عند فطره؛ فإن فطره على الوجه المشار إليه من فضل الله ورحمته، فيدخل في قوله - تعالى -: ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ). وقال ابن رجب - رحمه الله -: " وأما فرحه عند لقاء ربه، ففيما يجده عند الله من ثواب الصيام مدَّخراً ؛ فيجده أحوجَ ما كان إليه كما قال - تعالى - : ( وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ). وقال - تعالى -: ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ). وقال - تعالى -: ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه ) ا.هـ. اللهم أفرح قلوبنا بالإيمان، والقرآن، والسنة، والعلم، والصيام.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: نفحات قرأنية رمضانية
(نفحات قرأنية رمضانية) نفحات قرآنية (36) بخاري أحمد عبده بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185]. هو البَرُّ الرحيم: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 64]. والبَرِيَّة قاطبة لن تحصي ثناء عليه، وهو كما أثنى على نفسه، ولو ذهبت البريَّة تنظم كَلِم الحمد؛ تعبيرًا عن العرفان، وانفعالاً بالنِّعم التي لا تُحصى، والبِرِّ الذي فاض فغمر الدارين، ووَسِعَ الحياتين ما وُجِدَت كلماتٌ أرحب، وأوجز وأغنَى من كلمتين اثنتين ردَّدَتْهما - في الجنَّة - ألسنةُ المؤمنين، وباركَهما ربُّ العالَمين؛ ﴿ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 28]. فأقدار العباد المنفَعِلين بفضلِ الله الغامر، وقفَتْ خاشعة عند وُسْعِها، مكتفيةً بهاتين الكلمتين اللتين جاءتا صدًى لإحساس المتَّقين العميق بما اكتنفَهم من نعيم الإيجاب والسَّلب، والتكريم بالمحسوس وبالمعنويِّ، على النَّحو الذي عرض في آيات "الطُّور"، حتَّى كان القارئُ يلمس المشاهد "جمع مَشْهَد"، ويجد المذاقَ، ويشمُّ العبير: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 17 - 28]. كلمتان - كما ترى - ذَواتا سعةٍ، وفيهما كناية؛ لأنَّهما مشمولَتان برِضا المولى، ولأنَّه سبحانه أثنى بهما على نفسه، وارتضى بهما شُكرانًا، برغم أنَّ نعمه لا تحصى، وأنَّ يده سبحانه سحَّاء الليل والنهار. وهو - تبارك وتعالى - إذا دخل رمضانُ كان أجزلَ مثوبةً، وأبسطَ يدًا، وأوسعَ رحمةً؛ مصداقَ ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل رمضان فُتحت أبواب السماء))، وفي رواية: ((فتحت أبواب الرحمة))؛ متفق عليه. أو مصداقَ ما رواه الترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان أوَّل ليلة من شهر رمضان صُفِّدت - بالبناء للمجهول - الشياطينُ، ومرَدَةُ الجنِّ، وغلقت أبواب النار، فلم يُفْتَح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشرِّ أقصر، ولله عُتَقاء من النار، وذلك كل ليلة)). كذلك الملأ الأعلى، تلهَجُ - مستجيبةً لفطرتها، منفَعِلة بما حولها - بالدُّعاء لأهل الأرض، وتستغفر للأنام - كلِّ الأنام - مصداق ما ذَكَر القرآنُ: ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشورى: 4 - 5]. والملأ الأعلى في شهر الصيام يُرَوْن - بالبناء للمجهول - أكثرَ اهتمامًا، ورأفةً واحتفاءً بالذَّاكرين الصائمين؛ مصداقَ ما روى البيهقي في "الشُّعَب" عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان ليلة القدر نزل جبريلُ في كبكبةٍ من الملائكة، يصلُّون على كلِّ عبد قائم، أو قاعد يذكر الله)). كذلك رسولنا - صلى الله عليه وسلم - كما رُوِي عن ابن عباس - رضي الله عنه - في الصِّحاح -: "أجود الناس بالخير، وكان أجودَ ما يكون في رمضان". وكذلك المسلمون؛ تميَّزوا في هذا الشهر بمزيدِ عبادة، وطُهْر، وبِرٍّ، وأُمِروا (بالبناء للمجهول) - وفق ما رُوِي في الصِّحاح عن ابن عباس - بزكاة الفِطْر على العبد والحُرِّ، والذَّكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة؛ متفق عليه. وأخرج أبو داود بإسناد جيِّد عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - قال: "فرَض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زكاةَ الفطر؛ طهرة للصِّيام من الَّلغو، والرفث، وطُعْمة للمساكين". إذًا فلا عجب إذا أطَلْنا المقام مع نفحات آيات الصِّيام، ولا غرابة إذا ازدحمَت المعاني، وتواردت سخيَّة سحَّاء، محيطة بمجتمع المسلمين، قانصةً من الشَّوارد، نافذةً إلى الأغوار، فيَّاضة بالخيرات كشهر الصيام. سلفيُّون وأيضًا عصريون: ولقد أفضنا - وسنُفيض - في الحديث عن فاعليَّة الظُّروف، وقابليَّة الإنسان. وهذا الإنسان الذي ندعوه إلى أن يتفاعل مع روح هذا الدِّين، وأن يُنسِّق بفطنة بين الدعوة وبين الظُّروف المتجدِّدة المتغيِّرة غير باغٍ، ولا عادٍ، هذا الإنسان - كما تبيَّن - عجيبٌ، تتأثَّرُ "كيميائيَّتُه" بالأعراض التي تنتابُه، أو تعتريه. يتغيَّر إذا امتلأ، ويتغيَّر إذا علم، وإذا ارتفع أو أمسى وجيهًا، وإذا حقَّق شهرة، أو نَعِمَ بصحة، أو ابتُلِي بقوة... إلخ. ويتأثر كذلك بكلِّ ضُمورٍ يطرأ عليه؛ في عِلمه، أو جسمه، أو جاهه، أو ماله، أو... أو... والتفاعل الأوَّل خطير؛ لأنَّه إيجابي، وخطورته تَكْمُن في أنه قد يورث عُتوًّا وتطاولاً، أو انحرافًا وتسيبًا، أو ترَفًا وإخلادًا إلى الأرض. أما الثاني فسلبيٌّ قد يحدُّ من القدرة، وقد يرجعه القَهْقَرى، وينحدر به، ويُسلمُه إلى الفتور والخمول، والعجز شيئًا فشيئًا. كذلك الأجيال؛ تتقلَّب بين الزيادة والنقص، وتتأثَّر بعوامل التَّعرية. والإسلام - بحكم عالَمِيَّتِه، وشموله، وخلودِه - ينشد الحياة المهذَّبة، ويحدو نحو الأساليب التي تكفل التفاعل المبارك بين الدِّين وقيمه وهداياته - من جهةٍ - وبين قُوَى الواقع، ومشكلات الحياة بكلِّ عُقَدِها، ومنحنياتها - من جهةٍ أخرى. فالحقُّ أن الإسلام قديرٌ على أن يفتح الآفاقَ، ويستوعِبَ مشاكل الدُّنيا؛ لأنَّه - برغم مثاليَّتِه - رَحْب، مَرِن، بعيدٌ مدى الرُّؤية. والداعية الحَصِيف يضع نُصْبَ ناظرَيْه كلَّ هذه الحقائق، ويصل الماضي بالحاضر على هُدًى وبصيرة كلَّما قاد وخطط، أو جال ونفَّذ، أو كرَّ وفر - وإلا اضطربَتْ رؤيته، واختلَّت خُطاه - لا يلهث لهاثَ الكلاب وراء أي جديد، نابذًا كلَّ قديم؛ حتى لا يفقد الأصالة، ويضحي بالمقومات، ولا يرتبط ارتباطًا أعمى بكل قديم، فيفقد الانسجام، وتلفظه الحياة وراءها ظِهْريًّا. وهذا الفقه الواعي للحياة في كنف الدِّين - أو قُلْ إن شئتَ: للدين في كنف الحياة - هو السِّياسة الشرعيَّة، أو السلفيَّة الحقة؛ لأنَّ السلف كانوا على وعيٍ عالٍ بحياتهم، وبمشاكل عصرهم، وكانوا يطلُّون - من خلال الإسلام - على عالمهم، وما يدور فيه. ربَّانيون لا رهبانيُّون: بل ذلك الفقه هو الربَّانية التي أُغْرِينا بها في قول الله سبحانه: ﴿ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آل عمران: 79]. 1- والربَّانيُّ قد يكون منسوبًا إلى الربِّ، فالكلمة - حينئذ - توحي بالثَّراء، والعطاء، والاقتداء بالربِّ سبحانه في التيسير، وسداد التدبير[1]، كما تنمُّ عن الحكمةِ والالتزام. 2- وهي تَحْمل في تضاعيفها معانِيَ "التربية"، القائمة على التدرُّج، والتوصُّل إلى المقصود بصغار العلم قبل كباره؛ الأمر الذي يتطلَّب فقهًا، وسياسة[2]. 3- وربما كانت الكلمة - كما أُثِرَ عن المبرِّد - جمعًا واحِدُها "ربَّان" من قولهم: رب يربُّ، فهو ربان، إذا دبَّر وأصلح، وبُنِيَ على علمٍ؛ فهي - إذًا - توحي بالإصلاح، وتدبير أمور الناس، الأمر الذي يتطلَّب بصَرًا وحذقًا، ومعرفةً بمشاكل التطبيق، مع العلم بالحلال والحرام، والوقوف على أنباء الأمم، وما كان، وما يكون[3]. 4- وجِمَاعُ كلِّ هذا ما قيل من أنَّ الربانيَّ هو الذي يجمع إلى العِلمِ البصرَ بالسياسة، ويربط الحاضرَ بالماضي، مستعينًا بالفَراسة، وحُسْن القياس، والألمعيَّة. 5 - ومراعاة لأبعاد الكلمة قالوا: الربانيُّون فوق الأحبار[4]؛ لأنَّ الحَبْر قد لا يتجاوز العِلم إلى البصر بالسِّياسة، وحُسْن تناول الأمور، ومعرفة المداخل والمخارج. هذا، ومن النماذج العليا للربانيَّة: حَبْرُ الأمة "عبدالله بن عباس" - رضي الله عنهما - فقد تميَّز بفقه النظريَّة، وسداد التأويل، واستيعاب مشاكل التطبيق، قال "محمد بن الحنفيَّة" يوم مات ابن عباس: "اليوم مات ربانيُّ هذه الأمة". كلُّ تلك المعاني تستشعرها إذا استرجعْتَ الآيات الكريمة التي وردت فيها الكلمة. أ- وردَتْ في قول الله: ﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آل عمران: 79]. والآية تَنْزيه للأنبياء من الإسفاف والميل، والإنصاتِ لصوت الطِّين، ونزعاته الدُّنيا التي تغرُّ، وتُغْري بالتعالي، وتَنْزيهٌ كذلك للدُّعاة "ورثة الأنبياء" عن أن يَحِيدوا عن دروب العلم، والحكمة، وأخلاق الأنبياء، وعلَّة ذلك التَّنْزيه أنَّهم أُوتوا أسباب السَّداد والنَّزاهة، وهُدوا إلى الصِّراط: "الكتاب والحكم والنبوَّة"، والأنبياء - بِما عندهم من ذخائر - على قمَّة شامخةٍ، فلا يتهافَتون ولا يسفون، بل يحصرون على إيجاد الصفِّ الثاني، والعروج بهم إلى قمَّة تالية تُتيح لهم وضوح الرُّؤية، والحركة الرَّشيدة السديدة على ضوء الكتاب والحكمة وتُراث النبوَّة، والصفُّ الثاني الذي يسلك درب الأنبياء هم الربانيُّون المُتَحلون بكل معاني هذه الكلمة، إن كلمة ﴿ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ﴾ [آل عمران: 79] تنهض بالدُّعاة كي يرتفعوا إلى الذروة التي تليق بورثة الأنبياء. ب- ووردَتْ في قول الله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ﴾ [المائدة: 44]. والآية رتَّبت العاملين في ساحات الدعوة ترتيبًا تنازليًّا؛ "النبيُّون، الربَّانيون، الأحبار"، وذكرت - كذلك - من أسباب السَّكينة، والطُّمأنينة، والسداد: الحُكم والهُدى والنُّور، وذكرت تمكُّنهم من الكتاب تمكُّنًا يتيح لهم وضوح الرُّؤية وصدق الشهادة، والحفاظَ على الوديعة، والاعتزاز بالمولى اعتزازًا تهون معه المخاطر، وتتضاءل معه الأقدار؛ أقدار المتربصين، ﴿ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ [المائدة: 44]، إنَّ الرَّبانيين في الآية هم الصف الثاني. جـ- ووردَتْ في قول الله: ﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [المائدة: 63]. والآية جاءت بين آيات تُعالِج أمراضًا عقديَّة، وأخلاقية اجتماعيَّة، تفشَّت في مجتمعات أهل الكتاب في غيبة الأنبياء، وتستحِثُّ الصفَّ الثاني "الربَّانيين"، والصف الثالث "الأحبار"؛ كي ينهضوا ضدَّ هذه المنكرات، ويحملوا رسالة الأنبياء. ومواجهة الأمراض الاجتماعيَّة تتطلب احتكاكًا بالمجتمع، وعِلمًا بالنفسيَّات، وإحاطةً بالدَّوافع والظواهر... إلخ، تتطلب خبرة، وبصَرًا، وسياسة، تتطلب ربانيَّة، إن الربَّاني[5] يضيف إلى العلم اليقظة والفطنةَ، والحكمة والحركة، والبصيرةَ التي تملأ أنحاء المجتمع. والرهبانيَّة؟ الكلمة مأخوذة من "رهب" بمعني خاف، فهي نسبةٌ إلى الرَّهْبان "بفتح الراء المشدَّدة"، وهو الخائف، والخوف إذا طوى في تلافيفه، والتقَمَ بأضراسه وفكَّيْه، وتمكن حتَّى أمسى سِمَة ونسبة، طحن، وأذاب. والرهبانيَّة - في أحسن معانيها - لا تَعْدو المبالغة في الرِّياضة، والإفراطَ في العبادة والانقطاع - جسميًّا أو فكريًّا - عن الناس؛ إيثارًا للعزلة، وعجزًا عن مُجاراة الحياة، فهي إذًا هروبٌ من الساحة، وانطواءٌ في مفاهيم معتمة ضيِّقة، وإيثارٌ للشلل على الحركة، وحملٌ للنَّفس - على غير سجيَّتِها - على العزوف عن زينة الله التي أخرج لعباده بالامتناع عن المَطْعَم، والمشرَب، والنِّكاح، وبالتعلُّق بالصوامع، والكهوف، وأكنان الجبال، ولا نزاع في أنَّ هذا تزمُّتٌ يأباه الإسلام، وتقوقعٌ يُفْضي إلى الجمود، والتبتُّل المودي[6]. وبقدر ما تجد في الربَّانية من انتشارٍ وتحليق، واتِّزان، وسعَةِ أفُق، تجد في الرَّهبانية انطواءً وإسفافًا، وإخلالاً، وضيقَ أفق، هي إذًا عقديَّة، وفكرية، وحضارية، والإسلام يرفض كلَّ أنواع الرِّدة، ويرى أن الارتداد الحضاريَّ أو السُّلوكي كمن يمشي القهقرى، والصحابة كانوا يتحرَّجون من أن يأتوا عملاً فيه شبهة الارتداد الحضاري؛ مصداقَ ما روي عن سلمة بن الأكوع أنَّه دخل على الحجَّاج، فقال له: "يا ابن الأكوع، ارتددتَ على عقبيك؟ تعرَّبْتَ؟ قال: لا، ولكن رسول الله أذِنَ لي في البدو". وكانون يرون مَن رجع بعد هجرته أعرابيًّا مرتدًّا؛ أخْذًا من حديث رسول الله: ((لعن الله آكلَ الرِّبا، وموكِلَه، ومن رجع بعد هجرته أعرابيًّا)). ورهبانيَّة ابتدعوها: والرهبانيَّة - وإنْ صاحبَها حسْنُ النيَّة - بِدْعة مذمومةٌ، وهروبٌ من معمَّة الحياة المكتوبة على الناس؛ ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2]. والآية الكريمة: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ [الحديد: 27] تقصُّ قصَّة مؤمنين جَبُنوا عن مواجهة الشرِّ، ومقاومة الطُّغيان فآثروا السَّلامة واعتزلوا، نقل الضحَّاك من رواية عن ابن عبَّاس أنَّ ملوكًا من بعد عيسى فجروا وأجرموا، وعصفوا بالآمرين بالمعروف النَّاهين عن المنكر، وداخلَت الرَّهبةُ بقيَّةً باقية من الملتزمين ففرُّوا، واتَّخذوا الصوامع، وتخلَّوْا عن الدعوة، وجَمدوا في قواقعهم، فلم ينتشروا، وكانوا يحسبون أنَّهم يُحْسنون صنعًا، ويبتغون بما ابتدعوا رضوانَ الله، وهؤلاء بصنيعهم هذا ارتكبوا عدَّة جرائر: جريرة التخلِّي عن الموقع والرِّسالة، وجريرة الابتِداع، وجريرة المظهريَّة، والتنازع على الرِّياسة، وليتهم حين عزموا أظهروا رجولةً وصلابة! بل سرعان ما أخَلُّوا وأهمَلوا. روى أحمد عن أبي أمامة الباهليِّ - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سريَّة من سراياه، فقال: مرَّ رجل بغارٍ فيه شيءٌ من ماء، فحدَّث نفسه بأن يُقِيم في ذلك الغار، فيقتات بما فيه من ماءٍ، ويصيب مِمَّا حوله من البقل، ويتخلَّى عن الُّدنيا، قال: لو أنِّي أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرتُ له ذلك فإن أَذِن لي فعلتُ، وإن لم يأذن لم أفعل، فأتاه فذكر له الأمر، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنِّي لم أُبْعَث باليهوديَّة، ولا بالنصرانية، ولكني بُعِثت بالحنيفيَّة السَّمحة، والذي نفس محمَّد بيده، لغدوة أو روحة في سبيل الله خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، ولَمُقام أحدكم في الصفِّ الأول خيرٌ من صلاته ستِّين سنَة))، إنَّ المسلم لا ينبغي له أن يتبتَّل بِجِسمه، كيف والإسلام في مَسِيس الحاجة إلى قُوَاه وطاقاته، وغدوه ورواحه؟ ولا يَنبغي له أن يتبتَّل بفِكْره؛ لأنَّ مُعترك الحياة هو الرَّافد الذي يمدُّ، ويَرْوي الأفكار، واحتكاكُ الأفكار بالأفكار يجلوها، ويغذوها، ويكسبها المَضاء، والتفتُّحَ على آيات الآفاق، وصفحاتِ الكون التي تنشر يجدِّد الدم، ويكفل حُسْنَ التجاوب مع عالَمٍ يتطوَّر كل يوم. والرهبانيَّة لا يوجد سندٌ لها في الكُتُب المقدَّسة الأولى، ولا في سُنة الأنبياء - عليهم السَّلام - بل إنَّ الناظر في سيرة المسيح وأصحابه ليجد ما يضادُّ هذه النَّزعة التبتليَّة، وهذه الرُّوح الانعزاليَّة لم تظهر في الكنائس إلاَّ في أواخر الجيل الثاني، وأوائل الجيل الثالث؛ منتقلةً إليها من الهنود الوثنيِّين[7]. ولا يهمُّني - هنا - أن أتعرَّض لتفاصيل الرهبانيَّة والاعتزال، والتقشُّف، والتبتُّل.. إلخ؛ فكلُّنا يعرف أنه لا رهبانيَّة في الإسلام، وأن قدر المسلمين الجهاد الجهير؛ مصداقَ ما أخرجه أبو داود عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((... والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخِرُ أمَّتِي الدجَّال، لا يبطله جَوْرُ جائرٍ، ولا عَدْلُ عادل…))[8]. ولكن الذي يهمُّني - هنا - أن أحذِّر من تبتُّلٍ جديد، طوى بعض الناس في أَسْمالٍ بالية، فبدَوْا جامدين مشتَمِلين بأسمالهم اشتمالَ الصمَّاء، وفقدوا القدرةَ على المُواءمة بين أسمالِهم وبين مطالب الحياة العصريَّة. وهذه الرهبانية الجديدة تختلف عن رهبانيَّة الصوامع، وتبتُّلِ الكهنة، ودعاوى المتصوِّفين، ولكنها تتَّفِق معها في النتائج؛ فكلاهما إغماضٌ عن الواقع، وإيغالٌ في الغفلة، وعجْزٌ عن التكيُّف بالأجواء، والانسجامِ مع موكب الحياة الحافل بكلِّ بديع. [1] نقل هذا عن ابن عبَّاس. [2] روي معنى هذا عن عبدالله بن مسعود. [3] روي هذا عن أبي عُبَيدة. [4] روي هذا عن مجاهد، وحسَّنه النحَّاس. [5] إذا اتَّفقنا على أن الكلمة نسبة إلى الربِّ، فأصلها: ربِّيٌّ، وزِيدَت الألف والنُّون؛ للمبالغة، كما يقال: روحاني وعلماني، وماداني، ولحياني لعظيم اللِّحية. [6] التبتُّل: الانقِطاع. [7] انظر "محاسن التأويل" ص 5698 من الجزء السادس عشر؛ ففيه تناوُلٌ شافٍ لقضية الرهبانيَّة؛ نقلاً عن مؤلفات علماء المسيحيين المتأخرين. [8] في سنده «يزيد بن أبي نشبة» وهو مجهولٌ، لكن معنى الحديث صحيح. |
رد: نفحات قرأنية رمضانية
|
رد: نفحات قرأنية رمضانية
(نفحات قرأنية رمضانية) نفحات قرآنية (37) بخاري أحمد عبده بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185]. خذوا زينتكم: تتجاذَبُني - وأنا أستهِلُّ المقالَ - نوازِعُ شتَّى؛ كل نازعة منها تشدُّ لمعنى جديد. والنازعة التي استأثرَتْ بمبادرتي تتمثَّل في أنَّ مخلصين كرامًا تناولوا معي أمر النفحات، فكان مما أخذوا: 1- فخامة الكلم، ورصانة السَّبك، وأناقة الأسلوب، ورأَوْا أن مِثْل هذه الصياغة قد يَجْعل النَّفحات عزيزةَ المنال، منيعةَ المُسْتَقى. وعذري: أ) أنَّ قَدْر الوعاء "التعبير" من قدر الموعيِّ "نفحات القرآن"، والقرآن هو ما علمنا إعجازًا، وبلاغة، وقوَّة سَبْك، وعمقًا وجلالَ معنى، ونحن إنما نُدَندن، ونرفرف حول أضواء القرآن، ونحو عطاياه، ومن الأدب - ونحن في محراب القرآن نتعبَّد - أن نترفَّع خاشعين، عن التَّهافُت، والتفاهة، والإسفاف. ونفحات القرآن أجَلُّ من أن نعرضها في أَسْمالٍ بالية، مطروحة في الطريق. ثم لمن تُدخر - بالبناء للمجهول - الكلمةُ المختارة، والسَّبْك الرصين إذا ضُنَّ - بالبناء للمجهول - بهما على القرآن العظيم؟ إن الكلمة العابرة - ولا سيَّما في هذا المجال - من الباقيات الصَّالحات، فهي تحمل أصولاً ثرَّة، وتهدي إلى قواعد طيِّبة، وتنشر من أريج القرآن، فالواجب أن ترسل رصينة، فَضْفاضة بلا افتعال، واحتمال بقائها طويلاً قائم، وربما عبَرَت الأزمنة، والأمكنة، وانتقلت إلى أقدارٍ مُتفاوتة، فما أحسن أن تكون مرنةً في دقَّة، موحِيَة، حَمَّالةَ أوجُه! ب) وقُرَّاؤنا - أكرمهم الله - علِموا من القرآن، ثم علموا من السُّنة، وقرؤوا، وسمعوا، فمِن المخجل أن نقدِّم لأمثالهم الغثَّ الهزيل، ومثل هذه الصِّياغة حريٌّ أن يؤنس الماضين على الطَّريق، وأن يشجع المتردِّدين، ويحفِّز المقيمين على ما أَلِفوا. ج) ونحن - في كلِّ مُحاولاتنا - نتعبَّد في محراب القرآن على أضواء السُّنة، فما أحرانا أن نأخذ زينتنا في معبدنا المهيب! د) ولقد أُثِر عن الإمام البخاريِّ أنه قال: "ما وضعتُ في كتاب الصحيح حديثًا إلاَّ اغتسلتُ وصلَّيتُ ركعتين"، وصنيع البخاريِّ - رحمه الله - يُنْبِئ عن إجلاله الشديدِ لِكَلِم من لا ينطق عن الهوى، وهذا الإجلال صدَى عرفانٍ، وانفعالٍ بالغ بالرسول الكريم، وآثارِه الشريفة، وهذا الإحساس الفيَّاض يحمله على أن يتهيَّأ، ويتجمَّل، ويأخذ في معبده زينتَه، ولِمَ لا، والإسلام الحنيفُ قضَى أن نأخذ زينتنا عند كلِّ مسجد، ونبِيُّ الإسلام سنَّ لنا سنة الاحتفاء بأعياد الإسلام، فدعا - فيما رواه أبو داود بسند جيِّد - دعا إلى أن نغتسل ليوم الجمعة، ونلبس من أحسن ثيابنا، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه أبو داود، وابن ماجه بإسنادٍ صحيح عن عبدالله بن سلام: ((ما على أحَدِكم - إنْ وجَد - أن يتَّخِذ ثوبين ليوم الجمعة، سوى ثوبَيْ مهنته))؟! وظنِّي أن كل هذه الآثار تستقي من قول الله تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ... ﴾ [الأعراف: 31]. والآية تمسُّ - بالدرجة الأولي - من كان يطوف بالبيت عريانًا، غير أنَّها لا تقف عند خصوص السَّبب، بل تعمُّ كل مسجد للصلاة، وربما تجاوَزَت المحلَّ إلى العبادة ذاتِها، بل إلى كلِّ العبادات، تتهيَّأ لكل عبادة بما يناسبها من زينة، ومن هنا استحبَّ بعض العلماء أخذ الزينة لكلِّ عبادة، وقالوا: إن الوقوف عند حدِّ الطواف إغضاءٌ عن مفهوم الكليَّة في عبارة ﴿ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾؛ إذ الطَّواف لا يكون إلا في مسجد واحد فقط، وحول بيت واحدٍ، هو بيت الله المحرم. أما عطاء كلمة ﴿ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ فهو أرحَبُ وأغنى. استطراد: هذا.. ويَحْسن هنا أن نذكر - إتمامًا للفائدة - أن السَّلف أخذوا من الآية، ومن قوله تعالى بعد الآية: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ﴾ [الأعراف: 32] مشروعيَّةَ ارتداء الرَّفيع من الثياب؛ تجمُّلاً، وإظهارًا للنِّعمة، واحتفاءً بالجُمَع، والأعياد، وعند مُزَاورة الإخوان؛ فقد ورد أن المسلمين كانوا إذا تزاوروا تجمَّلوا، ويُروى عن تميمٍ الداريِّ أنه اشترى لصلاته حُلَّة بألف درهم! والسَّلف - في ترفُّعِهم عن الثياب الدُّون، وتخيُّرِهم الأجود للصلوات وللمناسبات - استرشَدوا بِمِثل ما روي عن مكحولٍ أنَّه روى عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: كان نفَرٌ من أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ينتظرونه على الباب، فخرج يريدهم، وفي الدَّار ركوةٌ فيها ماء، فجعل ينظر في الماء، ويسوِّي لحيته وشعرَه، قالت: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا؟ قال: ((نعم، إذا خرج الرجل لإخوانه فليُهَيِّئ من نفسه؛ فإنَّ الله جميل، يحب الجمال)). ومن هذا ما أخرج مسلم عن ابن مسعود عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا يدخل الجنَّة من كان في قلبه مثقالُ ذرَّة من كِبْر))، فقال رجلٌ: إن الرَّجل يحب ثوبه حَسَنًا، ونعله حسَنة؟ قال: ((إن الله جميل يحبُّ[1] الجمال؛ الكِبْر بطر الحقِّ، وغَمط الناس)). لا تهويم، ولكن مشاكل تطبيق: 2- وكان مِمَّا أخذوا: أنَّني سرحت، سرحًا كأنه التهويم، وأوغلتُ في الفلسفة بحديثي عن الزَّمان والمكان، والفضاء، والكون، وكيمائيَّة الإنسان... إلخ، ومثل هذا التهويم يحرم كثيرين من المُتابعة والفائدة. والذي أعرفه أن التَّهويم، ونظائره أمور نسبيَّة؛ فأحلام بعض الناس حقائق واقعةٌ عند آخرين، والمشاركة الوجدانيَّة - وهي مَطْلب إسلام - حساسية تورث الجنون في مذهب الأنويِّين. والنظرة الشموليَّة العميقة التي تبصر الهُوَى - بضم الهاء وفتح الواو؛ جمع هوَّة - وتحيط بالمخاطر، والتي ترصد في الوقت نفسِه آفاقَ الأعداء تعجُّ بالصواريخ، والمراكب، والأقمار، ثُمَّ توازن بعد ذلك بين ثرانا وذراهم؛ تلك النظرة عند المنطوين، المنـزوين في فِتْرٍ[2] صغير من ساحة الإسلام المترامية؛ إفلات زمام، وتهويم، وربما رأَوْها ميوعةً وتسيُّبًا. والحقُّ أنَّ أبصار بعض الناس لا تتجاوز موضع أقدامهم، والإسلام في نظرهم لا يعدو قواقِعَهم ومحاراتِهم، وهؤلاء وغيرهم من النظريِّين لا يَنْفُذون إلى مشاكل التطبيق، ولا تروعهم العقبات، والنهايات المشؤومة للثَّورات، والثَّروات والصحوات، والسِّياسات، والحركات، والشِّكايات، والاحتجاجات والصرخات التي ترتَفِع من ديار المسلمين كنار الهشيم! والحقُّ أن سبيلنا هو عين البصر بمشاكل التَّطبيق، وشأن المؤمن أن يتصوَّر أبعاد الميدان، ويخبر طبيعته، وأن يستحضر مشاكل التطبيق؛ لينظر في الحلول، وذلك - كما أسلفتُ - عين الربَّانية التي نُدِبْنا إليها بقوله سبحانه: ﴿ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ﴾ [آل عمران: 79]. ويهمُّني - كي تتَّضِح خطورة القضيَّة التي نُعالجها - أن أُشِير إلى أنَّ مجلة "الأمة" القطَرِيَّة شغلها ما شغلنا؛ أدركَتْنا في الطريق، ثم مضت معنا تخوض فيما خُضْنا فيه[3]، وتدور حول عناصر، مِن أهَمِّها: 1- أهميَّة فقه المراحل، وحَتْميَّة التخطيط البصير عند الانتقال بالمبادئ إلى أطوار التنفيذ خلال الظروف المحيطة، والمتاحة. 2- ضرورة الإحاطة بطبيعة الموقع، وجغرافيَّة الميدان، مع البصر بأعراف المُجتمع، وظروف معاشهم. 3- إمكان تغيُّر الأحكام "الفرعيَّة" بتغيُّر الأزمنة. 4- رُوَّاد العمل الإسلاميِّ ينبغي أن يتمتَّعوا بحسٍّ مرهف صادق، ووعيٍ ثاقب، وفطنة تحيط بأبعاد المعركة، ومقتضيات الظُّروف، ووسائل الانفتاح على الناس. 5- وَصْل الواقع ذي البيئة الماديَّة، والمجتمع الواقعي بالمثاليَّة الشرعية أمرٌ شاقٌّ يتطلَّب قدرات عالية، وتدرُّجًا وفقهًا بالأوَّليات، والأولويَّات دقيقًا، وبلا استغراقٍ في المثالية، بل نتعامل مع السُّنن، ولا ننتظر المعجزات. 6- اتِّساع قاعدة الإيمان يكفل فُرَص النَّجاح، فلا بد من جمع الشَّمل، والتغاضي السياسي؛ كي نلتقي ولو على حد أدني. 7- التديُّن تحرُّز، والتوحيد خلاصٌ وانبعاث، أما الجمود فصوفيَّةٌ تُغْري بالاستبداد، وتفضي إلى الاستِعْباد. 8- ما أحوجَ السلبيِّين الجامدين إلى هزَّات توقِظُهم، وتحملهم نحو منهجٍ يقوم على الوعي العميق بطبيعة الأمَّة، وروح العصر، وواقع البيئة، وأخاديد السِّياسة، وألاعيب السَّاسة[4]... إلخ. ألاَ إن كلَّ الدلائل تشير إلى أهمِّية وضع كلِّ القوى الواقعيَّة في الحسبان كي نُوائم بينها وبين مثاليَّات الإسلام، ومعاييره الدقيقة. ومن مُنطلق الإيمان بهذه الحقيقة، ومن خلال الرُّؤية المروعة للانفصام الشديد بين العقيدة والسُّلوك؛ مضيتُ أنظر إلى المستقبل، وأتساءل: إنَّ الحياة في عصور الإسلام الأولى كانت محدودة، وكانت رقعة البلاد - رغم اتِّساعها - ضيِّقة، وهي بالنسبة لحياتنا، وبلادنا المترامية - الآن - شيءٌ ضئيل. والدِّين - الذي غطَّى حياة الأوَّلين، واستجاب لمتطلَّباتها - رحْبٌ فضفاض، نزل صالحًا لتغطية حياتنا الممدودة، كما غطَّى تلك الحياة المحدودة، ولكن كيف؟ إذا رُزِقنا البصيرة المرِنة التي تهدينا إلى أنَّ حقائق الدِّين ثابتة، وأصوله راسخة، أمَّا الفرعيَّات والاجتهاديَّات وكل المسائل التي تتعدَّد فيها الرُّؤى، فيُمْكِن التصرُّف فيها على نحوٍ يَرْبطها بالواقع، ولا يُخْرِجها عن نطاق الإسلام. وأعودُ فأقول: إنَّني مراعاةً لبعض المستويات؛ حرصتُ - برغم وحدة الموضوع - على أن أرصِّع المقالات بآيات، وأحاديث هي - بلا شكٍّ - تخدم الموضوع، ولكنَّها يمكن أن تنفرد بعطايا سخيَّة تتجمع زادًا لكلِّ الراغبين[5]. فأووا إلى الكهف: هذا، وقد ذكرت - في مقالي السابق - أننا سلَفِيُّون، وأيضًا عصريُّون، ومضيت أحذِّر من تبتُّل جديدٍ طوى بعض الناس في أكفانٍ بالية، وحشرهم في رهبانيَّة حديثة تتَّفق في النتائج مع رهبانيَّة الصوامع، وتبتُّل الرهبان، فكلاهما غفلة عن السنن، ورحلة مع الظَّلام في سراديب الموت. ولقد قصَّ الله علينا بالحقِّ نبأ أصحاب الكهف والرقيم؛ ﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 9 - 10]. قالوا: فالقصَّة صريحة في مشروعيَّة التعامل مع الكهوف[6] والغِيران، واعتزال الأهل والأوطان؛ فرارًا بالدِّين، واستجابةً للأمر الكريم؛ ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا ﴾ [الكهف: 16] وحالة أهل الكهف - بكلِّ ملابساتها - لا تعدو التبتُّل إلى الله الذي جعل لنا من الجبال أكنانًا[7]. والحقُّ: 1- أن الفتية كانوا يدينون بدينٍ محدودِ الجوانب، يتَّفِق مع حجم الإنسانية يومئذٍ[8]، أما الإسلام فدينٌ عامٌّ شامل، خطَّط للدارين، وربَّى للحياتين، وقعَّد القواعد، وقنَّن ونظَّم، ووضع أسس المعاملات، وحَمَّل أهله مسؤوليَّة الدعوة، والدولة، والسِّياسة، والعلاقات؛ فمسؤوليَّة المسلم جسيمة، وحياته موصولةٌ، تبتدئ بالميلاد، وتصبُّ - إن شاء الله - في الجنَّة. ولعلَّ هذا هو إيحاء الأثر الذي رواه رزين عن ابن مسعودٍ أنه - رضي الله عنه - سُئِل: ما الصراط المستقيم؟ فقال: "تركَنا محمَّدٌ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أدناه، وطرَفه في الجنَّة، وعن يمينه جوادّ[9]، وعن يسارِه جوَادّ، وثَمَّ رجال يَدْعون من مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النَّار، ومن أخذ على الصِّراط المستقيم انتهى به إلى الجنَّة، ثم قرأ ابنُ مسعودٍ: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153]. والمسلم مبتلًى بهذه الحياة الموصولة، الحافلة بالمتناقضات، وقدَرُه أن يُجاهد، ويتبصَّر الجوادّ، ويواجه المخاطر، ويقاوم قُوَى الشرِّ، فإذا انطوى في كهف، أو انزوى في غارٍ فقد فرَّ من الميدان، وهو في فراره قد ينجو ببعض دينه، مخلِّفًا وراءه جلَّ دينه، ومعظم مسؤولياته، هو إذًا لم يفِرَّ بدينه، بل فرَّ من دينه. 2- وأهل الكهف لم يعتزلوا مؤمنين، وإنَّما اعتزلوا الشِّرك والمشركين؛ فرُّوا حين حاصرَتْهم الفتنة، وتعقَّبَهم الملك الغَشُوم ليحملهم على الشِّرك أو ليقتلهم، فكلمة: ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ﴾ [الكهف: 16]، تعني هجرانَهم لأولئك الضالِّين المتلبِّسين بالشِّرك؛ ابتغاء سلامة النفس، والنفيس[10]. 3- فالآية لا تدلُّ على مشروعيَّة الاعتزال أو التبتُّل مطلقًا، بل توحي باستحباب التأسِّي بأهل الكهف حيث تتنمَّر الفِتَن، ويحمل العبد على الشِّرك، وتخلو الساحة فلا إمام، ولا جماعة، ولا قدرةَ على المناوأة والحركة الفعَّالة، حينئذٍ فقط يحقُّ للمسلم أن يعتزل، ويعضَّ بأصل شجرة؛ مصداقَ حديثِ رسول الله الصحيح. 4- وإضافة إلى ما سبق، فإنَّ سياق الآيات يدلُّ على أن الأمر كان أمر اضطهاد، وطلبًا حثيثًا، وفهم شيء غير هذا افتئات وغلو. ولعلَّ الفتية تحرَّكوا حركة مرحليَّة - كما لجأ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى غار ثور - ولعلَّهم كانوا قد خطَّطوا لانطلاقٍ وشيك، وخطوة أخرى فعَّالة إذا هدأَت الأجواء، وهيَّأ الله لهم المرفق الذي ينشدون؛ ﴿ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا ﴾ [الكهف: 16][11]، والإسلام دين المجاهدة، والمثابرة، والمصابرة، ومن تعاليمه أنَّ "المؤمن الذي يُخالط الناس، ويَصْبِر على أذاهم أفضلُ من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم"[12]. 6- ولقد علِمْنا مِمَّا روي عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ قدر المسلم أن يظلَّ آخذًا وضع الاستعداد؛ فالجهاد في حقِّ المسلم ماضٍ حتَّى يقاتِلَ آخِرُ الأمة الدجَّالَ، ووَضْع الاستعداد يتطلَّب يقظة، وحركة، واطِّلاعًا على شؤون الناس، ورصدًا لذبذبات الأعداء، ورباطًا إلى يوم القيامة؛ تحقيقًا لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما أخرجه مسلمٌ عن جابر بن سَمُرة: ((لن يَبْرَح هذا الدِّينُ قائمًا يقاتل عليه عصابةٌ من المسلمين حتَّى تقوم الساعة)). نعم؛ روي البخاريُّ عن أبي سعيدٍ عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((يوشِكُ أن يكون خيْر مال المسلم غنَمٌ يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القَطْر؛ يفِرُّ بدينه من الفِتَن)). والحديث - كما ترى - يصوِّر مطاردةً قاهرة، وينبئ عن تكالُبِ الأخطار واستشرائها، وتهديدها الأنفس، والأموال، وهذه حالة خطيرة، لا تستحكم إلاَّ إذا أفلت الزِّمام، وانحلت عُرَى الجماعة. هي الحالة التي صوَّرها حديثُ مسلمٍ عن أبي بكر قال: قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّها ستكون فِتَن، ألا ثُمَّ تكون فِتَن، ألاَ ثم تكون فتنة، القاعد فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خير من السَّاعي إليها، ألاَ فإذا وقعت فمن كان له إبِلٌ فلْيَلحق بإبِلِه، ومن كان له غنم، فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه))، فقال رجلٌ: يا رسول الله، أرأيتَ من لم يكن له إبل، ولا غنم ولا أرض؟ قال: ((يَعْمد إلى سيفه، فيدقُّ على حدِّه بحجر، ثم لْيَنجُ إن استطاع النَّجاء، اللهم هل بلَّغتُ؟)) ثلاثًا... إلخ؛ فالحديث يشير إلى الفِتَن التي تموج كموج البحر، ويعلمنا كيف نتَّقي العواصف، ونُطَأطئ للزَّوابع حتَّى تمر، فإذا مرَّت أعَدْنا على ضوئها حساباتِنا، وأصلحنا من وضعنا، وغيَّرنا ما بأنفسنا. والمتبتِّلون الجدد بعيدون - بُعْد المشرقين - عن مقصود الحديث، وهم لم يتبعوا شعف الجبال، ولا أوَوْا إلى غِيران وكهوفٍ، ولا تجرَّدوا من فضول الأموال، ولكنهم أقحموا أنفُسَهم في نقوب[13] بأذهانهم، وفي مساقط ومنحدَرات في عقولهم، ومن خلالها أبصروا الدِّين، فظنُّوه آسنًا ضيقًا! وهو دين الواسع العليم، رحمته واسعة، وأرضه واسعة، ودينه واسع، يستوعب الأوَّلين والآخرين، ويكفل للبشر خير الدَّارين. والمسلم حمل أمانة الدِّين، بما في الدين من رحابةٍ وسعة، وثقل، راعت السَّماوات والأرض فأبَيْن، وأشفقن، وهو كي يُعان على هذا العبء غذَّاه المولى بِهدايات ونفحات، وقِيَم تنبته، "راداريَّ" البصيرة، "إلكترونيَّ" الفِكْر، مكرًّا، مفرًّا[14]، وتخلِّي المسلمين عن هذا المقام المحمود أصابهم بالصَّمم، والعمى، وتبلُّد الحواسِّ، وأطاح بهم إلى حيث الضَّعةُ والهوان، وكأنَّهم - لضيق الدُّنيا في وجههم، وتدفُّق الذلِّ من فوقهم، وتفجُّره من تحتهم - أضحوا على النحو الذي ذكره الله: ﴿ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ﴾ [التوبة: 57]. [1] فأين هذا من دين الصُّوفية الذين يحرِّمون زينة الله، مُدَّعين أنَّهم مكتفون بلباس التَّقوى، وهم بصنيعهم هذا يرفضون سُنَّة أتقى العالَمِين. [2] الفِتْرُ ما بين طرَفَي الإبهام والسبَّابة؛ كناية عن الصِّغر والضِّيق. [3] أُثيرت هذه القضايا في أعداد: ربيع الأول، وربيع الآخر 1405هـ في حوار المجلة مع الدكتور "حسن الترابي"؛ للوقوف على أصداء التجربة الميدانيَّة التي يخوضها السُّودان، وهو يطبِّق الشريعة، وينتقل بالمبادئ إلى طور التنفيذ. [4] انظر "الأمة" عدد جمادى الأولى 1405هـ "المَنْهج العصري في سلفيَّة الإمام ابن باديس". هذا، ويجدر أن أشير هنا إلى أنَّ مقالات "التوحيد" هي السابقة. [5] وشغل بعضَ الناس طولُ الحلقات، فقالوا مداعبين: متى تُكْمِل العِدَّةَ، وتكبِّر الله؟! وأقول لهؤلاء مداعبًا: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 36]. [6] الكهف: النقب المتَّسِع في الجبل، فإن لم يتَّسع فهو غار. [7] الأكنان جمع كِنّ: وهي الغِيران في الجبال. [8] تابعَ الله بين الشرائعِ وفق تطوُّر الإنسانية، ونُموِّها الفكري، فكلُّ شريعة تقدِّم الجرعة التي تتناسب مع العمر الفعلي للبشرية، أما الإسلام فقد جاء لبشريَّةٍ بلغَتْ أشُدَّها، واستوَتْ، وراعى ما سيكون من تطوُّر داخل نطاق بلوغ الأَشُدِّ. [9] الجوادُّ - بتشديد الدال - جمع جادة، والجادَّة الطريق. [10] المراد العقيدة. [11] المرفق ما يرتفق به؛ أي: ما يُستعان به على بلوغ الغاية. [12] رواه البغويُّ عن ابن عمر. [13] جمع نقب، والنقب الشقّ. [14] يجيد الأقدام، ويعرف مواضع الأحجام، ويتقن أساليب الكَرِّ، والفر. |
رد: نفحات قرأنية رمضانية
|
رد: نفحات قرأنية رمضانية
فضل قراءة القرآن سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شديداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَ كَذِباً ﴾ [الكهف:1-5]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأكثروا من قراءة القرآن في هذا الشهر يعظم الله لكم بذلك الأجر؛ لأن في كل حرف من القرآن عشر حسنات، وقد وردت الأحاديث بفضل تلاوة القرآن عموما وبعض السور خصوصاً، ففي صحيح مسلم (أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لم تقرأ حرفاً منها إلا أوتيته) وقال صلى الله عليه وسلم: (البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان) رواه أحمد ومسلم. وكان أسيد بن حضير رضي الله عنه يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده، وله ابن قريب منها، فجالت الفرس، فسكت، فسكنت، فقرأ، فجألت الفرس مرة ثانية، فسكت، فسكنت، ثم قرأ، فجالت الفرس مرة ثالثة، فخاف أن تصيب ابنه، فانصرف، ثم رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فإذا مثل الظلمة فيها أمثال المصابيح، فلما أصبح أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: (أتدري ما ذاك؟ قال: لا، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى فيهم). وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن سورة البقرة وآل عمران تظللان صاحبهما يوم القيامة. وتحاجان عنه، ونزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ومعها من الملائكة نحو سبعين ألف ملك ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح، والأرض ترتج بهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سبحان الله العظيم). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن سورة من القرآن ثلاثين آية شفعت لصاحبها حتى غفر له تبارك الذي بيده الملك). وقد ورد أنها تنجي من عذاب القبر، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن)، وقال له رجل: إني أحبها، فقال: (حبك إياها أدخلك الجنة)، وقال رجل آخر إنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخبروه أن الله يحبه)، وقال صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ [الفلق: 1]، و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾ [الناس: 1] فاقرؤوا القرآن بتدبر، وتفهم، وإذا مررتم بآية رحمة، فاسألوا الله من فضله، وإذا مررتم بآية وعيد، فتعوذوا بالله من عقابه، وإذا مررتم بآية سجدة، فاسجدوا في أي وقت كان، فالسجود للتلاوة لا نهي عنه؛ لأنه تابع للتلاوة، وإذا سجدتم، فكبروا، وقولوا: سبحان ربي الأعلى في السجود، وإذا رفعتم من السجود، فلا تكبروا، ولا تسلموا؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا سجد القارئ وهو يصلي، فإنه يكبر للسجود، وللرفع منه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر:29،30]. اللهم بارك لنا في القرآن العظيم واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين. |
رد: نفحات قرأنية رمضانية
(نفحات قرأنية رمضانية) نفحات قرآنية (38) بخاري أحمد عبده بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185]. ضفادع في ظلماء ليلٍ تجاوبتْ، في حديث عن سراديبَ معنويةٍ طوتْ في أحشائِها مسلمين أذهلهم فرطُ ما بين واقع المسلمين، وبين الصياغة الإسلاميَّة مِن بعد، فظلُّوا من الهول يعودون القَهْقرى حتى تردَّوْا، وانطووا وتبتَّلوا. تناولنا قِصَّة فتية مهتدين اعتزلوا مجتمعَهم الغشوم الظلوم، ولاذوا بكلِّ ما طووا، وآووا إلى الكهْف ريثما تهدأ الأنفاس، ويسكُن الطلب، ويجود الله برحمتِه، أووا إلى الكهف وما دروا أنَّهم قد غدوا آيةً تتناقلها القرون، وقصة ملهمة تفيض بأرواح الإيمان. والمتبتِّلون - باعتبارهم كائناتٍ حيةً - فيهم طاقات تبحَث عن متنفَّس. وهذه الطاقات إذا أخذتْ مسارها الوطني، بلِ الإسلامي الصحيح - حَرِيَّة أن تعصِف بمخطَّطات الأعداء، ومناورات العملاء المضاربين، حرية أن تتكامَل، وتصوغ المجاهِد الرهيب الذي يؤرِّق شبحه ليل الصليبيَّة والإلْحاد، الذي لمحتْه إسرائيل في تضاعيفِ الصحوة الحاضرة ماردًا، بل قوَّة مدرَّعة، طاحِنة فارتاعت، وصرخت محذِّرة تحرض على إجهاض الصحْوة، وإسقاط الجنين، وإلاَّ فالويل للغرْب، وللشرق[1]. وصدَى كل هذا أن ضاعفتِ الجبهات المعادية مِن قواها، ونوَّعت مِن أساليبها، وأحكمت مِن شِباكها حتى يضيقَ الخناق، ويُحتوى (بالبناء للمجهول) المجال، وتختنق الطاقات. فهم لا يَزالون يضرِبون في رماد المسلمين المحترِق خشيةَ أن يكون تحتَ الرَّماد وميضُ نار يُنذر بضرام. ولا يزالون يحشرون مصادرَ الطاقات، ومفاعلاتها في مضايقَ وحفر، ويشغلونهم باهتمامات، وتطلُّعات، وقضايا عقيمة تشبع فيهم عاطفةَ اعتبار الذات، وتُذكي فيهم حيويةَ كحيوية الطيور الدواجن[2]، تُشقشق، وتُقرقر، وتنبش الأرض، وتتنافر نافِشة، قافزة. كذلك كل مُسلِمي الجيل، دواجن تموء، وتثغو، وترغو، وتصهل[3]، وفيهم من ينق[4] نقيقَ الضفادع ولا هدف، ولا عائد، فهم كما قال الشاعر: تَنِقُّ بِلاَ شَيْءٍ شُيوخُ مُحَارِبٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَمَا خِلْتُهَا كَانَتْ تَرِيشُ[5] وَلاَ تَبْرِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ضَفَادِعُ فِي ظَلْمَاءِ لَيْلٍ تَجَاوَبَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فَدَلَّ عَلَيْهَا صَوْتُهَا حَيَّةَ الْبَحْرِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إقصاء عن مواقع التأثير: وهمُّ القُوى المضادة إشباعُ الرغبات الدفينة، وتأمين العُبوات التي في الصدور؛ حتى لا تنفجر فيهم، وهم يعلمون أنَّ الهِرَّ قد يحكي انتفاخًا صولةَ الأسد، وأنَّ البغاث[6] ربَّما عدا قدره واستنسر، وأنَّ الضفادع قد تتجمَّع، وتشكل بنقيقها جوقة[7] شيطانيَّة تحطِّم الأعصاب، ومِن الطبيعي أن يحسبوا حسابَ هذه الاحتمالات، وأن يُهيِّئوا بين الفينة والفينة أجواءً مصنوعة - في مجالات نائية عن مناطقِ نفوذهم - تمارس فيها عمليات التنفيس، وتخفيف الضغوط التي تنوء بها طاقاتُ المطيقين، وفي هذه المجالات المعدَّة بإحكام، والبعيدة كلَّ البُعد عن مواقع التأثير، نصول ونجول، ونطلب الطعنَ وحْدَنا، والنزال، وفق ما قال الشاعر: وَإِذَا مَا خَلاَ الضَّعِيفُ بِأَرْضٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif طَلَبَ الطَّعْنَ وَحْدَهُ وَالنِّزَالاَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومِن علوم الأعداء أنَّ الطاقاتِ المُلجَمة (بضم الميم الأولي، وفتح الجيم "اسم مفعول") قوَّة عمياء، يحطِّم بعضها بعضًا، وأنَّها إنْ حِيل بينها وبين المدارات العُليا حيث الأنْسَام، والأضواء، والحريَّة، هوتْ متحجِّرة إلى الحضيض لتلعب - بين أرجل إبليس - دورها المشؤوم؛ لتخون، وتهون، وتسرق وتفسق، وتعدو على الغافلات، الآمنات[8]. أو تضاغطتْ[9] ذليلةً منكمشة يأكُل بعضها بعضًا، وتنفذ - بلا وعي - مخطَّط الأعداء[10]؛ ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ [آل عمران: 139]. والإسلام بكلِّ تعاليمه يُزكِّي الأنفس حتى تعيشَ أبيَّة، ويهذِّب العواطف حتى تسري نقيةً سوية، ويأسو الغرائز حتى لا تجمح بهيميَّة عاصِفة، ثم يطلق عِنان الطاقات كي تجنحَ رشيدةً نحوَ مقام ﴿ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ﴾ [آل عمران: 139]، بلا منَعة ولا انطواء، ولا تبتُّل. ومقام "وأنتم الأعْلَون" خلص - بنطق إلهي كريم - للأمَّة التي تتوفَّر فيها خصائصُ عقديَّة، ونفسيَّة، وسلوكيَّة، وتتمتَّع بقدرات عالية تُتيح لها أن تنتشر، وتلتف، وأن ترتبط بسُنن الله وتتفاعَل، وأن تنطلق بهمَّة عالية نحوَ غايات غالية رفيعة، ولسان حالها قول الشاعر: بَلَغْنَا السَّمَاءَ سُؤْدُدًا وَمَكَانَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَإِنَّا لَنَرْجُو فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif بل قرآنها المحرِّك دعوة سليمان - عليه السلام - ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [ص: 35] [11]. بل دعاؤها الضارِع كلمة محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( اللهمَّ آثِرْنا، ولا تؤثِر علينا..))[12]، ومسوغات ذلك المقام المرموق تبرُق حولَ الآية التي تحمل - فيما تحمل - قرارَ العُلو[13]؛ ﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139]. 1- فالإيمان محور وأصل، ومِن لوازمه أن تنطلق، وتنظر، وتعي، وتعتبر بسنن الله؛ ﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [آل عمران: 13]. وهذه الحرَكة البصيرة التي أمرْنا بها هي عونُ الأمة على وطأة الأعباء التي أُلقيتْ على كاهلها، وعلى سطوةِ الأعداء المحدقين بها متصدِّين لها، وعلى التقلُّبات، والتغيُّرات، والمحدَثات، وكل العجائب المرتقبة. وَاللَّيَالِي مِنَ الزَّمَانِ حُبَالَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مُثْقَلاَتٌ يَلِدْنَ كُلَّ عَجِيبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والبَحْث في السُّنن قدْر مشترَك بيْن الناس بل هو مُستبق البشرية قاطبة، وإشارة إلى هذا أعْلن القرآن أن التعامُل مع السنن أمرٌ يهم كلَّ الناس؛ ﴿ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 138]، ولكنَّ المؤمنين بما أُوتوا من جلاء بصري، ومِن نفاذ بصيرة، هم أعلمُ الناس بها، وأفْهم الناس لها، وأرجى الناس لمفاهيمها؛ ﴿ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 138]. 2- والنفس الإنسانية تنطوي على مولدات الوهَن، والحزن، فالإنسان ﴿ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴾ [المعارج: 19-21]. وهو يتقلَّب بيْن نزعتين تنتقِلان به مِن يأس كافر، إلى زهوٍ ناسف؛ ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ﴾ [هود: 9 -10]. وسبيل المؤمنين المتَّقين أن يكسِروا حواجزَ الوهن، وينبذوا دواعي الحُزن؛ ﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139]. وهذا المطلَب قد يُرى عسيرًا، ولكن الذي يبصر، ويتدبَّر، ويستهدي قضايا التاريخ، ويَعتبر، سرعان ما يكتشف قُدراته، ويَمضي عملاقًا إلى غايته، وابتغاء إيقاظ قُوى النفْس العليا يضرِب القرآن لنا الأمثال، ويعرِض علينا نماذجَ عالية أسكتوا دواعي الوهَن، ووأدوا رُوح الاستكانة والجزَع، ثم سألوا الله تزكيةَ الوجدان، وإذكاءَ جذوة الإيمان؛ ذلك قول الله: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ[14] كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 146 - 184]، قهْر لنوازع الدُّنيا، وصبر، وطهارة، ورجاء في الله، وإحسان. 3- والمولَى بعد هذه الأشفية الكريمة الغنيَّة بالعناصر الغلاَّبة، يضع للأمَّة قاعدة وُثقَى، جلية المقدِّمات، حتمية النتائج، تُصدِّقها كل السنن التي قد خلَت؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ * سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ * وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 149 - 152]. آيات كريمة تُجسِّم أمامَ أعيننا المزالق والمهاوي، وتحذِّر الأدواء والمثالِب، ولقدْ تكدَّست كلها في أمَّتنا الحاضرة: 1- قلوب مريضة تُسارِع في الأعداء؛ ﴿ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ﴾ [المائدة: 52]. 2- وأنفس تطايرتْ شعاعًا، وحطَّتْ في حجورهم تلتمس الدفْء. 3- وقرابين تقرّب إلى السدنة ولا تتقبّل. 4- وأرقاء[15] يَدينون لهم بالطاعةِ العمياء. 5- وترد - مِن أجلهم - في مهاوي الشِّرْك الجلية، والخفية. 6- وعمًى مطبق عن الأُسس التي ارْتفع بها الأسلافُ الأوَّلون، ثم تمرد، وتمرق، وتنازع، وإخلاد إلى النوازع السُّفْلى، وتعصب مقيت، ورسوب فاضِح في كلِّ امتحان، فلا عجب إذا تناثرتِ الطاقات أشلاءً، ولا غرابة إذا حصَدْنا الوهن، والحزن، والاستكانة، والفشَل الذريع. إنَّ الله إذْ نهانا نهيًا عن الوهن والحزن، نهانا في الواقِع عن هذه الأدواء، وتلك المثالِب التي لا تجلب غيرَ الوهن، والحزن، والفشَل. وتبتَّل إليه تبتيلاً[16]: وإذا وضح ممَّا سُقناه مِن أحاديث، مِن مثل ما أخرجه الشيخان عن سعدِ بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: "أراد عثمانُ بن مظعون أن يتبتَّل، فنهاه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولو أجاز له ذلك لاختصَيْنا"، ومما يُستوحى مما جاء في الصحاح مِن قصَّة أولئك الرَّهْط الذين تقالُّوا عبادةَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبيَّتوا في أنفسهم أن يَصوموا النهارَ ويقوموا الليل، ويعتزلوا النِّساء، وينبذوا الأطايبَ ويرْفضوا الدُّنيا، ويترهَّبوا ... إلخ، فتداركهم رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وردهم إلى سُنَّته قائلاً: ((ولكنِّي أُصلِّي، وأنام، وأصوم، وأفطر، وأتزوَّج النِّساء، فمَن رغِب عن سُنتي فليس منِّي))[17]. إذا وضح أنَّ الإسلام يرفض التبتُّل، فما الرأي في آية أمرَتْ بالتبتُّل أمرًا مؤكدًا "بالمفعول المطلَق"؟ ما تأويلُ قولِ الله: ﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً [18]﴾ [المزمل: 8]؟ إنَّ الآية تضمَّنت توحيدَ الإيجاب بفِقرتها الأولى؛ ﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ﴾ [المزمل: 8]، وتضمنت توحيدَ السَّلْب بفقرتها الثانية. و﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾، فهي تعْني أنَّ تفرُّده بالعبادة، وأن تتبرَّأ ممَّا عداه، مستحضرًا الأسس التي أودَعها الله آيات الأنعام: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام:161 - 164]. والاعتصام بركائزِ التوحيد المنبثَّة في هذه الآيات يُحتِّم ألا نتجاوزَ دائرةَ الشرع الحنيف. فآية المزمِّل بمنطوقها الموجِب، ومضمونها السالِب، تدور حولَ كلمة الشهادة "لا إله إلا الله" إثباتًا، ونفيًا، كما تصِل بقول الله سبحانه: ﴿ أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36]. وتربط بالآية الكريمة: ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 14]. وخلاصةُ القضية قولُ الله تعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ [النساء: 36]. إنَّ المولى إذْ يدعو (هنا) إلى التبتُّل إنَّما يأمر بتجريدِ النفس عن غيره، وإخلاص العبادة له - سبحانه - كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ﴾ [البينة: 5]، فالتبتل المعنيُّ هو الانقطاع إليه بمجامِع الهمَّة، واستغراق العزيمة في مراقبتِه، وتجريد النَّفْس عن العوائق الصادَّة عنه، والذي لا يتبتَّل (بهذا المعني) تتشعَّب به السبل، ويضطرب - مكبًّا على وجهه - بين المشرق والمغرب، غافلاً عن ربِّ المشارق والمغارب. فإذا أمَر القرآن (هنا) بالتبتُّل، ونهَتِ السُّنة عنه، فإنَّ متعلّق الأمر غير متعلّق النهي، فلا تناقُض؛ لأنَّ المأمور به هو الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة له، والنهي عنه هو سلوكُ مسلَك النصارى في اعتزال الحياة، والترهُّب في الصوامع. والتبتُّل: بالتجرُّد، والإخلاص والاستغراق في المراقبة إعداد وتربية لرسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى يتأهَّل للمهمَّة الثقيلة المفهومة مِن قول الله تعالى: ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ﴾ [المزمل: 5]، وهذا التبتُّل مع المطالب الأخرى التي ذكرتْ في السورة من: الحرَكة، والتهجُّد، والترتيل، والذِّكْر، والصبر، والهجر[19]... إلخ، تجلو نفسية الدُّعاة وتشحنهم قوَّة، وتَزيدهم بصيرة، وتُتيح لهم البصيرة، والحرَكة، والصمود. والتبتُّل - بهذا المعنى - ربَّما اقتضى عُزلةً مؤقَّتة كالتي كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُمارسها في غار حِراء، أو كالتي يُباشِرها المعتكِف، أو العاكِف على عِلم، إلا أنَّ مِثل هذا لا يُعدُّ تبتُّلاً عن الناس، بل هو تبتُّل من أجل الناس. والتبتُّل المشروع مكفولٌ للمسلم في كلِّ سَكناته وحرَكاته، حتى حين يأتي شهوتَه؛ ذلك لأنَّ المسلِم يمكنه أن يَعبُد الله بكلِّ فِعاله، ولأنَّ الإسلام منهج حياة، ينظُر إلى الحياة نظرةً شاملة، ويحوطها بقوانين، وقِيم تذللها، وتهذِّبها، وتسحجها حتى لا تَمضي هوجاء، عمياء عادية، باغية. إنَّ حياةَ المرء بكلِّ أبعادها نوعٌ مِن العبادة في الإسلام، والمجتمع المسلم لا تشكِّله الأهواء، ولا يُدبِّر أمرَه متسلِّطون، كيف وقدْ نظَّمت الشريعة مساره، وحدَّدت أصول سياسته، وحتمت أن يكون الولاء كله لله؟! فمراعاة نُظم الإسلام في العبادات والمعاملات، والسلوكيَّات في السياسة، والحرْب والسِّلم، وفي وقتِ الفراغ... إلخ، مراعاة باعِثُها امتثالُ أمر الله، وابتغاء رِضا الله تبتُّل إلى الله. وهكذا تتَّسع دائرةُ التبتُّل، وتتعدَّد مظاهره. والتبتُّل قد يُوجد مشوبًا بما ينال مِن ورائه كأنْ يداخلَه رياء، أو يُصاحبه هوًى، أو يُعكِّره ملالةٌ وضيق، أو ضعْف. وإذا التبَس التبتُّل بشيء مِن هذه الأمور لم يُعطِ الثمرة المرجوة؛ وكي تجرِّدَ تبتُّلك وتحرِص كلَّ الحِرص على أن يكون نقيًّا خالصًا، ذيَّل الفِعل، "وتبتَّل" بمفعول مطلَق يشد العزيمة، ويُفيد التوكيد "تبتيلاً". [1] هكذا قالت إسرائيل وهي تحذِّر من نموِّ الجماعات الإسلامية، والمدِّ الإسلامي. [2] الأليفة. [3] الثغاء صوتُ الغَنم، والرغاء صوتُ البعير، والنعام والصهيل للخيل. [4] يَنِقّ: بفتح الياء، وكسر النون، وتشديد القاف. [5] تَبري السهام وتضَع فيها الريش استعدادًا للرمي. [6] البُغاث: ضِعاف الطير. [7] الجوقة: الفِرقة الموسيقيَّة. [8] كظاهرة قطْع الطريق، واختِطاف النِّساء، والعدوان عليهنَّ. [9] ضغط بعضها بعضًا. [10] لعلَّ مِن أساليب الأعداء في إجهاضِ الطاقات شغلهم العالَم الإسلامي كله بظاهرة النِّعال التي نقشوا في أسفلها اسمَ الجلالة، ثم غَمروا بها كلَّ الأسواق، وظاهِرة "الألبسة" التي كتَبوا على جوانبَ حسَّاسة فيها عبارات مقدَّسة، والهدف أن نجول ونصول، ونتحاور مع الصَّدَى، فننفس عمَّا نُعاني مِن كبْت، ثم نعود منتفخين ظانِّين أنَّنا قهرنا الإلْحاد والملحدين، واللُّعبة في الواقِع لعبة العدوِّ الذي ما مِن صداقته بُدٌّ. [11] مثل هذا الطلب لا يُعتبر تعديًا وتطاولاً على المفهوم مَن ﴿ لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ﴾؛ لأنَّ سليمان - عليه السلام - لم يرِد أن يحجر على مَن بعده مِن الناس، وإنَّما مراده: لا يَنبغي لأحد أن يسلبنيه، والمُلْك الذي نسأله غيرَ الملك الذي خلص لسليمان، فلا تعارض، أما ما عرَض لرسولنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن أنَّ عِفريتًا من الجن تفلَّت عليه ليقطع عليه صلاته، وأنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - تمكَّن منه وهمَّ أن يوثقه لولا دعوةُ سليمان ﴿ لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ﴾، وَفقَ ما جاء في الصحيحين، واللفظ لمسلم عن أبي الدرداء: قال: قام رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فسمعْناه يقول: ((أعوذ بالله مِنك، ثم قال: ألْعَنك بلعنة الله التامَّة - ثلاثًا)) وبسَط يدَه كأنَّه يتناول شيئًا، فلمَّا فرغ قلنا: يا رسولَ الله، سمعناك تقول في الصلاة شيئًا لم نسمعْك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطتَ يدك، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((إنَّ عدوَّ الله إبليس جاء بشهاب مِن نار ليجعلَه في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك - ثلاثًا - ثم قلت: ألعَنك بلعنة الله التامَّة - ثلاثًا - فلم يستأخِرْ، ثم أردت أنْ آخذه وأوثقه إلى ساريةٍ مِن سواري المسجد، واللهِ لولا دعوةُ أخي سليمان لأصبحَ موثقًا، يلعب به صبيانُ أهل المدينة))؛ فهذا لأنَّ إيثاق الجن ومعاقبتهم مِن جملة المُلْك الذي خصَّ به سليمان؛ ﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ﴾ [ص: 36 - 38]. [12] جزء مِن حديث أخْرَجه الترمذي عن ابن الخطَّاب وتمامه: ((اللهمَّ زِدْنا ولا تنقصنا، وأكرمْنا ولا تهنَّا، وأعطِنا ولا تحرِمنا، وآثرنا ولا تؤثِر علينا، وأرضِنا وارْضَ عنَّا)). [13] راجع آيات آل عمران مِن الآيات [137 - 152]. [14] كأين بمعنى "كم" الخبرية التي تُفيد التكثير، والرِّبيُّون هم الربانيُّون الذين نوهنا بشأنهم في المقال السابِق. [15] جمَع رقيق. [16] أردتُ مِن هذا الموضوع، ومِن الذي قبله - فوقَ استكمال البحث، وتقصِّي حذافيره - توفيرَ جرعات مُرْضية (بسكون الراء) لإخواننا الذين قد ترهقهم المتابعةُ فيستعجلون الثمرَة. [17] جزءٌ مِن حديث خرَّجه مسلم عن أنس، وخرَّج البخاري نحوَه عن أنس أيضًا، قال: جاء ثلاثةُ رهط إلى بيوت أزواج النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يسألون عن عبادته، فلمَّا أُخبروا كأنهم تقالُّوها - فقالوا: وأين نحنُ مِن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قد غفَر الله مِن ذنْبه ما تقدَّم، وما تأخَّر، فقال أحدُهم: أمَّا أنا فإنِّي أُصلِّي الليل أبدًا، وقال آخر: أمَّا أنا فأصوم الدَّهْر، ولا أُفطر، وقال آخرُ: أمَّا أنا فأعتزل النِّساءَ ولا أتزوَّج أبدًا، فجاء رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((أنتم الذين قُلتُم كذا، وكذا؟ أمَا واللهِ إني لأخشاكم لله، وأتْقاكم له، لكنِّي أصوم وأُفطر، وأُصلِّي وأرْقد، وأتزوَّج النساء، فمَن رغِب عن سُنتي فليس مني)). [18] التبتُّل: الانقطاع يُقال: بتلت الشيء؛ أي: قطعته، وسُمِّي الراهب متبتلاً لانقِطاعه عن الناس. [19] المولى - عزَّ وجلَّ - بأوائل سورة المزمِّل يهيِّئ رسولَه - صلَّى الله عليه وسلَّم - لطور الحرَكة، واليَقظة والعناء، ويضَع على الطريق قواعدَ تذكي الجذوة، وتعدِّل النفسية، وتُعين على النوائب: ﴿ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [المزمل:2]، ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً ﴾ [المزمل:4]، ﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً * وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً ﴾[المزمل: 8 -11]. |
رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد
بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـهُ خواطر رمضانية محمد إبراهيم الحمد (4) رمضان شهر الدعوة نحمدك اللهم أن هديتنا سُبُلَ الفلاح، ونستعين بك على إعلاء كلمة الحق والدعوة إلى الصلاح، ونصلي ونسلم على نبيك محمد الذي أنـزلت إليه قرآناً عربياً، وعلى كل من دعا إلى سبيلك مخلصاً تقياً. أما من زاغ عن الهدى،واتخذ من المضلين عضداً فإليك إيابه، وعليك حسابه، أما بعد: فإن الدعوة إلى الله لمن أوجب الواجبات، وأهم المهمات، وأعظم القربات. وإن شهرَ رمضانَ لفرصةٌ سانحةٌ، ومناسبة كريمة، وأرضٌ لنشر الدعوةِ خصبةٌ، ذلكم أن القلوب في رمضان تخشع لذكر الله، وتستعد لقبول المواعظ الحسنة، وتقوى بها إرادة التوبة. والحديث في هذه الليلة سيدور حول الدعوة إلى الله من حيث مفهومها، وفضائلها وآدابها، وما يدور في فلكها. . . أيها المسلمون الكرام: الدعوة إلى الله _عز وجل_ تشمل كلَّ ما يُقصد به رفعةُ الإسلام، ونشرُه بين الناس، ونفيُ ما علق به من شوائب، وردُّ كلِّ ما يغضُّ من شأنه، ويصرف الناس عنه. والدعوة إلى الله تشمل كلَّ قولٍ،أو فعل،أو كتابة،أو حركة،أو سكنة،أو خُلق، أو نشاط، أو بذل للمال، أو الجاه،أو أي عمل يخدم الدين، ولا يخالف الحكمة. ولا ريب أن العلم هو مرتكز الدعوة، وهو أساسها، ودليلها، وقائدها. ولكن الدعوة تحتاج مع العلم إلى كثير من الجهود التي مضى شيء منها؛ فكلٌّ يعمل على شاكلته، وقد علم كل أناس مشربهم. . . أيها الصائمون الكرام: لقد جاءت نصوص الشرع آمرةً بالدعوة، منوهةً بشأنها، محذرةً من التخاذل في تبليغها، مبينةً فضائلَها، والأجورَ المترتبةَ عليها. ولقد جاءت النصوص في ذلك الصدد على وجوه شتى، وصيغ متعددة. فجاءت بصيغة الأمر بالدعوة بصريح لفظها قال_تعالى_: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) (النحل: 125) وقال: (إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ) (الرعد: 36). وجاءت بصيغة الأمر بالمعروف،والنهي عن المنكر قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ). وجاءت بصيغة التبليغ قال الله _تعالى_: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (المائدة: 67). وجاءت بصيغة النصح قال_عز وجل_: (إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) (التوبة: 91). وجاءت بصيغة التواصي قال الله_تعالى_: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر: 3). وجاءت بصيغة الوعظ قال_سبحانه_: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ) (سبأ: 46). وجاءت بصيغة التذكير، قال الله_عز وجل_: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذاريات: 55). وجاء بصيغة الإنذار،قال الله_تعالى_: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) (الشعراء:214) . وجاءت بصيغة التبشير قال _تبارك وتعالى_: ( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة: من الآية112) وجاءت بصيغة الجهاد قال _عز وجل_: (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:52) . وجاءت بصيغة التحذير من التولي عن الدعوة، ونصرة الدين قال _عز وجل_: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) (المائدة: من الآية54) . . أما فضائل الدعوة وثمراتها التي تعود على الأفراد بخاصة، وعلى الأمة بعامة _ فلا تكاد تحصى، وأدلةُ الوحيينِ مليئةٌ بذلك، متضافرةٌ عليه. فالدعوة إلى الله طاعة لله، وإرضاءٌ له، وسلامةٌ من وعيده. والدعوةُ إلى الله إعزازٌ لدين الله، واقتداءٌ بأنبيائه ورسله، وإغاظةٌ لأعدائه من شياطين الجن والإنس، وإنقاذٌ لضحايا الجهل والتقليد الأعمى. والدعوةُ إلى الله سبب في زيادة العلم والإيمان، ونـزول الرحمة ودفع البلاء، ورفعه. وهي سبب لمضاعفة الأعمال في الحياة وبعد الممات، وسبب للاجتماع والألفة، والتمكين في الأرض. والدعوةُ إلى الله أحسنُ القول، فلا شيء أحسن من الدعوة إلى الله (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33). وهدايةُ رجلٍ واحدٍ خيرٌ من الدنيا وما عليها، والدعاةُ إلى الله هم أرحمُ الناس، وأزكاهم نفوساً، وأطهرهم قلوباً، وهم أصحابُ الميمنة، وهم ورثة الأنبياء. . . أيها الصائمون الكرام: هناك صفات يحسن بالداعي إلى الله أن يتَّصف بها _سواء كانت دعوته فردية أم عامة_ فمن ذلك: العلمُ، والعملُ بالعلم، والإخلاصُ، والصبرُ، والحلمُ، وحسنُ الخلقِ، والكرمُ،والإيثارُ، والتواضعُ، والحكمةُ، والرحمةُ، والحرصُ على جمع الكلمة على الحق. ومن الصفات التي يجمل بالداعي أن يتَّصف بها: الصفحُ الجميلُ، ومقابلةُ الإساءةِ بالإحسان، والثقةُ بالله، واليقينُ بنصره، والرضا بالقليل من النتائج، والسعيُ للكثير من الخير. ومنها تجنبُ الحسدِ، وتجنبٌ استعجالِ النتائج، وتجنبٌ التنافس على الدنيا والانهماك في ملذاتها ومشاغلها. ومن آداب الداعي إلى الله أن يكون ملازماً للِّينِ والرفق، حريصاً على هداية الخلق، مستشعراً للمسؤولية ، قويَّ الصلة بالله، كثير الذكر والدعاء والإقبال على الله بسائر القربات. ومن آدابه: الحرصُ على مسألة القدوة، وأن يغتنم كل فرصة للدعوة، وألا يحتقر أي جهد في سبيلها مهما قل. ومن آدابه: أن ينـزلَ الناسَ منازلَهم، وأن يتحامى قدر المستطاع ما يسوؤهم، وأن يتحمل همَّهم، وألا يحمِّلهم شيئاً من همومه. ومن آدابه: تحسُّسُ أدواء المدعوين، ومعرفة أحوالهم. ومنها: البعدُ عن الجدال إلا في أضيق الحدود، وبالتي هي أحسن. ومنها: تعاهدُ المدعوين، وتشجيعُهم، وربطُهم بالرفقة الصالحة، ومراعاة الحكمة في إنقاذهم من رفقة السوء. ومنها: البدء بالأهم فالمهم، والبعد عن الانتصار للنفس. ومنها: تنويع وسائل الدعوة، فتارة بالموعظة، وتارة بالهدية، وتارة بالتوجيه غير المباشر وهكذا. .. ومنها: إظهار الاهتمام بالمدعو، ومعرفةُ اسمه، وإشعارهُ بأهميته، وإشغاله بما ينفعه. . . أيها الصائمون الكرام: هذه هي الدعوة إلى الله،وتلك فضائلها،وآداب أهلها؛ فحريّ بنا أن نكون دعاة إلى الله؛ كُلٌ بحسبه، فهذا بعلمه، وهذا بماله، وهذا بجاهه، وهذا بجهده؛ لنحقِّقَ الخيرية ولنسلمَ من الوعيد. فيا طالب العلم هذا شهرُ رمضانَ فرصةٌ عظيمة للدعوة إلى الله، فهاهي القلوب ترق، وها هي النفوس تهفو إلى الخير،وتجيب داعي الله؛ فهلا استشعرت مسؤوليتك، وهلا استفرغت في سبيل الدعوة طاقتك وجهدك، وهلا أبلغت وأعذرت، ورفعت عن نفسك التبعة!!. ويا من آتاه الله بسطةً في المال: ألا تؤثر الدعوة إلى الله بجانب من مالك، فتساهم في كفالة الدعاة، وإعدادهم، وتشارك في طباعة الكتب النافعة،ونحو ذلك مما يدور في فلك الدعوة، ألا تريد أن تدخل في زمرة الدعاة إلى الله. ويا من آتاه الله جاهاً: ألا بذلته في سبيل الله، ألا سعيت في تيسير أمور الدعوة إلى الله؟. ويا أيها الإعلامي المسلم أيَّا كان موقِعُك ألا يكون لك نصيب في نشر الخير، والدعوة إلى الله بالكلمة الطيبة، والطرح البناء، أما علمت أنك ترسل الكلمةَ أو تعين على إرسالها، فتسير بها الركبانُ، وتبلغ ما بلغ الليل والنهار؟ أما علمت أن لك غُنْمَها، وعليك غُرْمَها؟ ويا من حباه الله دراية ومعرفة بشبكة الاتصالات وما يسمى بالإنترنت، ألا جعلت من ذلك وسيلة لنشر الدعوة إلى الله؟ أليس من اليسير في حقك أن تبث الخير على أوسع نطاق، وبأقل مؤونة، ألست تخاطب العالم، وأنت منزوٍ في قعر بيتك؟ . ويا أيتها المرأة المسلمة ألا تسعين جاهدة في نشر الخير في صفوف النساء بما تستطيعين؟. ويا أيها المسلمون عموماً: ألا نتعاون جميعاً في سبيل الدعوة إلى الله، ألا نجعل من شهرنا هذا ميداناً لاستباق الخيرات، ألا نتعاون في نصح الغافلين، وتذكير الناسين، وتعليم الجاهلين؟!. (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33). اللهم اجعلنا من أنصار دينك، ومن الدعاة إلى سبيلك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. |
رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد
بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـهُ خواطر رمضانية محمد إبراهيم الحمد (5) الصوم والإخلاص الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن وآلاه، أما بعد: فإن حديث هذه الليلة سيدور حول فضيلة الإخلاص، وأثرِ الصوم في اكتسابها. وقبل الدخول في أثر الصوم في اكتساب الإخلاص يحسن الوقوفُ عند الإخلاص من حيث مفهومُه، وأهميتُه. . . معاشر الصائمين: أصل الإخلاص في اللغة: مادة خَلُصَ، والخالص: هو مازال عنه شوبُه بعد أن كان فيه. والإخلاصُ في الشرع: هو تصفيةُ العمل من كل شائبة تشوبه. ومدارُ الإخلاصِ على أن يكون الباعثُ على العمل امتثالَ أمرِ الله، وإرادتَه -عز وجل- فلا يمازج العملَ شائبةٌ من شوائب إرادة النفس: إما طلبُ التزيُّن في قلوب الخلق، وإما طلبُ مدحِهم والهربُ من ذمهم،أو طلبُ تعظيمهم، أو طلبُ أموالهم أو خدمتِهم ومحبتِهم،وقضائهم حوائجه، أو غيرُ ذلك من العلل، والشوائب التي يجمعها: إرادةُ ما سوى الله في العمل؛ فهذا هو مدار الإخلاص. ولا حرج بعد هذا على من يطمح إلى شيء آخر، كالفوز بنعيم الآخرة، أو النجاة من أليم عذابها. بل لا يذهب بالإخلاص-بعد ابتغاء وجه الله-أن يخطر في بالِ العامل أن للعمل الصالح آثاراً طيبةً في هذه الحياة الدنيا كطمأنينة النفس،وأَمْنِها من المخاوف، وصيانتها عن مواقف الذل والهون، إلى غير ذلك من الخيرات التي تعقب العمل الصالح، ويزداد بها إقبال النفوس على الطاعات قوة إلى قوة. هذا هو مفهوم الإخلاص. أما أهميته فيكفي أنه شرط لقبول العبادة؛ فالعبادة تقوم على شرطين هما: الإخلاص لله، والمتابعة للرسول-صلى الله عليه وسلم-قال الله-تعالى-:(وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ). وقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله-تعالى-: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ فمن عمل عملاً، فأشرك فيه غيري -فأنا منه بريء، وهُوَ للذي أشرك"رواه مسلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- متحدثاً عن الإخلاص وفضله وأهميته: "بل إخلاص الدين لله هو الدين الذي لا يقبل الله سواه، وهو الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل، وأنزل به جميع الكتب، واتفق عليه أئمة أهل الإيمان،وهو خلاصة الدعوة النبوية، وهو قطب رحى القرآن الذي تدور عليه رحاه". إلى أن قال-رحمه الله-: "قال -تعالى- في حق يوسف: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ). فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور المحرمة، والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله. ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله، والإخلاص له بحيث تغلبه نفسه على اتباع هواها. فإذا ذاق طعم الإخلاص، وقوي قلبه-انقهر بلا علاج"ا-هـ. معاشر الصائمين هذا هو مفهوم الإخلاص، وذلك شيء من أهميته وفضله. هذا وإن للصيام أثراً عظيماً في تربية النفوس على فضيلة الإخلاص، وألا يراعى في الأعمال غيرُ وجه الله-جل وعلا-. ذلكم أن الصائم يصوم إيماناً واحتساباً، ويدع شهوته وطعامه وشرابه من أجل الله -تعالى- وأيُّ درسٍ في الإخلاص أعظمُ من هذا الدرس؟ روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". قال ابن حجر -رحمه الله- قوله: "إيماناً": أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه، و"احتساباً": أي طلباً للأجر، لا لقصد آخر من رياء ونحوه" ا-هـ. وفي البخاري-أيضاً-من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفسي بيده لخُلوف فمِ الصائمِ أطيبُ عند الله من ريح المسك؛ يترك طعامه وشرابه، وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها". قال ابن حجر -رحمه الله- في شرح الحديث: "قوله:"يترك طعامه وشرابه، وشهوته من أجلي" هكذا وقع هنا، ووقع في الموطأ "وإنما يذر شهوته" الخ... ولم يصرح بنسبته إلى الله، للعلم به، وعدم الإشكال فيه". وقال -رحمه الله-: "وقد يفهم من صيغة الحصر في قوله: "إنما يذر"الخ... التنبيه على الجهة التي بها يستحق الصائم ذلك، وهو الإخلاص الخاصُّ به، حتى لو كان ترك المذكورات لغرض آخر كالتُخمة لا يحصل للصائم الفضلُ المذكور" ا-هـ . معاشر الصائمين: هكذا يربينا الصوم على فضيلة الإخلاص؛ فالصومُ عبادةٌ خفيةٌ، وسِرٌّ بين العبد وربه، ولهذا قال بعض العلماء: الصوم لا يدخله الرياء بمجرد فعله، وإنما يدخله الرياء من جهة الإخبار عنه. بخلاف بقية الأعمال؛ فإن الرياء قد يدخلها بمجرد فعلها. ولا ريب أن الإخلاص من أعظم الخصال، وأحمد الخلال إن لم يكن أعظمها وأحمدها. ثم إن للإخلاص آثارَهُ العظيمةَ على الأفراد بخاصة، وعلى الأمة بعامة، فللإخلاص تأثير عظيم في تيسير الأمور، فمن تعكست عليه أمورُه، وتضايقت عليه مقاصدُه -فليعلم أنه بذنبه أصيب، وبقلة إخلاصه عوقب. والإخلاص هو الذي يجعل في عزم الرجل متانةً، ويربط على قلبه؛ فيمضي في عمله إلى أن يبلغ الغاية. وكثيرٌ من العقبات التي تقوم دون بعض المشروعات لا يساعدك على العمل لتذليلها إلا الإخلاص. ولولا الإخلاص الذي يضعه الله في نفوس زاكيات لَحُرِمَ الناسُ من خيراتٍ كثيرةٍ تقف دونها عقبات. أيها الصائمون: قد يُخِلُّ الرجلُ في بعض الأعمال، ويتغلب عليه الهوى في بعضها؛ فيأتي بالعمل صورةً خاليةً من الإخلاص. والذي يرفع الشخص إلى أقصى درجات الفضل والمجد إنما هو الإخلاص الذي يجعله الإنسانُ حليفَ سيرته؛ فلا يُقْدِم على عمل إلا وهو مستمسك بعروته الوثقى. ولا تبالغُ إذا قلت: إن النفسَ التي تتحرر من رق الأهواء، ولا تسير إلا على وفْق ما يمليه عليها الإخلاص هي النفسُ المطمئنةُ بالإيمان، المؤدبة بحكمة الدين، ومواعظه الحسنة. قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وإذا كان العبد مخلصاً لله اجتباه ربه؛ فأحيا قلبه، واجتذبه إليه، فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء،ويخاف ضد ذلك. بخلاف القلب الذي لم يُخْلِص لله؛ فإن فيه طلباً،وإرادةً،وحباً مطلقاً؛ فيهوى كلَّ ما يسنح له، ويتشبث بما يهواه كالغصن أيُّ نسيمٍ مرَّبِهِ عطفه وأماله" ا-هـ. معاشر الصائمين: إذا أخلص المسلمُ صيامه لله، وقام به على الوجه الذي يرضي الله كان ذلك داعياً له لأن يخلص لله في شتى أموره، وكافة أحواله، وسائر أيامه، فَرَبُّ رمضانَ هو ربُّ سائرِ الشهور، والذي فرض الصيام هو الذي فرض غيره من سائر الطاعات والقربات، والذي يُتَقَرَّبُ إليه بالصيام هو الذي يُتَقَرَّبُ إليه بسائر الأعمال. وهكذا يفيد المسلمُ هذا الدرسَ العظيمَ من شهر الصوم. ولقد وقف الحديث في الدرس الماضي عند أثر الإخلاص على الأفراد بخاصة، وعلى الأمة بعامة؛ فإليكم جملة من تلكم الآثار التي تعود بالخير على الأفراد والجماعات. أيها الصائمون: الإخلاصيرفع شأن الأعمال حتى تكون مراقيَ للفلاح، فصغير الأعمال -بالإخلاص- يكون كبيراً، وقليلها يكون كثيراً. والإخلاص هو الذي يحمل الإنسانَ على مواصلة عمل الخير؛ فمن يصلي رياءاً، أو حياءاً من الناس لابد أن تمرَّ عليه أوقاتٌ لا ينهض فيها إلى الصلاة، ومن يحكم بالعدل؛ ابتغاءَ السمعةِ، أو خوفَ العزلِ من المنصب قد تَعْرِضُ له منفعةٌ يراها ألذَّ من السمعة، أو يصادفه أمنُ العزلِ-فلا يبالي أن يدع العدل جانباً. ومن يدعو إلى الإصلاح ابتغاء الجاه قد ينزل بين قوم لا يحظى بينهم إلا من ينحط في أهوائهم، فينقلب داعياً إلى الأهواء. ومن يفعل المعروف لأجل أن تُردِّدَ ذِكْرَهُ الألسنةُ في المجالس أو الصحف قد يرى بعينه سبيلاً من سبل الخير في حاجة إلى مؤازرة؛ فيصرف عنه وجهه وهو يستطيع أن يمد إليه يده، ويسدَّ حاجته. أيها الصائمون: الإخلاص الذي يقوم على الإيمان الصادق هو الذي يسمو سلطانه على كل سلطان،ويبلغ أن يكون مبدأً راسخاً تصدر عنه الأعمال الصالحة. وهو الذي يجد له صاحبه حلاوة، فيسهل عليه أن يكون أحد السبعة المشار إليهم بقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح:"سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظلَّ إلا ظله" إلى أن قال: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". حكى أشعبُ بنُ جبيرأنه كان في بعض سكك المدينة، فلقيه رجل، وقال له: كم عيالك؟ قال: فأخبرته، فقال لي: قد أُمِرتُ أن أجْرِي عليك وعلى عيالك ما كنتَ حيَّاً، فقلت من أمرك؟، قال: لا أخبرك، قلت: إنَّ هذا معروفٌ يشكر، قال: الذي أمرني لم يرد شكرَك. قال أشعب بن جبير: فكنت آخذ ذلك إلى أن توفي خالد بن عبدالله بن عمر بن عثمان، فحفل له الناس، فشهدته، فلقيني ذلك الرجل، فقال: يا أشعب! هذا -والله-صاحبك الذي كان يجري عليك ما كنت أعطيك. فهذا فاعلُ خيرٍ من وراء حجاب. أيها الصائم: لعلك لا تجد أحداً يتصدى لعمل إلا وهو يدَّعي الإخلاص فيما يعمل؛ ذلك أن الإخلاصَ موطِنُه القلبُ، والقلوبُ محجوبةٌ عن الأبصار. وإذا وصفتَ أحداً بالإخلاص أو عدمه فإنما ترجع في وصفك إلى أمارات تبدو لك من أحواله الظاهرة. ومن هذه الأحوال ما يدلك على سريرته دِلالةً قاطعةً، ومنها ما لا يتجاوز بك حدَّ الظن. وهذا موضع التثبت والاحتراس؛ ففي وصف المخادعِ بالإخلاص ووصفِ المخلص بالمخادع ضررٌ اجتماعيٌّ كبير؛ فإن وثقت بمجردِ الظن لم تأمن أن تقضيَ على فاسد الضمير بالإخلاص؛ فيتخذه الناسُ موضعَ قدوةٍ؛ فيستدرجهم من فساد صغير، حتى إذا ألِفوه نقلهم إلى فساد كبير. وربما قضيت على طاهر القلب بعدم الإخلاص، فكنت كمن يسعى لإطفاء سراج، والناس في حاجة إلى سُرِجٍ تنير لهم السبيل. أيها الصائمون: الإخلاص فضيلة في نفسه، ولا ينزل في نفس إلا حيث تنزل فضائلُ كثيرةٌ، فالإخلاص يَمُدُّ قلبَ صاحبه بقوة؛ فلا يتباطأُ أن ينهضَ للدفاع عن الحق، ولا يبالي في دفاعه إذا أصابه ما أصابه. والإخلاصُ يشرحُ صدر صاحبه للإنفاق في بعض وجوه البر؛ فتراه يؤثرها بجانب من ماله وإن كان به خصاصة. والإخلاص يعلم صاحبَه الزهد في عرض الدنيا؛ فلا يُخشى منه أن يناوئ الحقَّ، أو يُلْبِسَهُ بشيء من الباطل، ولو أمطر عليه أشياع الباطل فضةً أو ذهباً. والإخلاص يحمل القاضي على تحقيق النظر في القضايا؛ فلا يفصل في قضية إلا بعد أن يتبين له الحق. والإخلاص يوحي إلى الأستاذ أن يبذلَ جُهْدَه في إيضاح المسائل، وأن لا يبخل على الطلاب بما تسَعُهُ أفهامُهم من المباحث المفيدة،وأن يسلكَ في التدريس الأساليبَ التي تجددُ نشاطَهم للتلقي عنه. والإخلاص يصون التاجر عن أن يخون الذي يأتمنه في صنف البضاعة أو قيمتها، ويحمل الصانع على إتقان عمله حسب الطاقة. والإخلاص يردع قلم الكاتب عن أن يقلب الحقائق، أو يكسوها لوناً غير لونها؛ إرضاءًا لشخص أو طائفة. . . أيها الصائمون: هذه بعض مآثر الإخلاص الذي ينميه الصوم في نفوسنا؛ ويبعثنا إلى أن نخلص لله في جميع أعمالنا، وشتى أحوالنا. فحقيق علينا أن نربي أنفسنا ومن تحت أيدينا على فضيلة الإخلاص،وأن نلقن ناشئتنا ماذا يناله المخلص من حمدٍ وكرامة وحسن عاقبة؛ لكي يَخْرُجَ لنا رجال مخلصون يقوم كل منهم بالعمل الذي يتولاه بحزم وإتقان. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. اللهم ارزقنا الإخلاص في ما نأتي وما نذر، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد. |
نظرات على صيام الصالحين
نظرات على صيام الصالحين سادات الصائمين (1 - 12) الشيخ سيد حسين العفاني وردت آثار كثيرة عن السابقين في علوِّ هِمَمهم وأخذِهم بالعزائم في العبادات، وهُم جبال في الاقتداء والتأسِّي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ويقول الشاطبِيُّ في "الاعتصام" (1/ 404): "نحن نحمل ما داوم عليه الأولون من الأعمال على أنه لم يكن شاقًّا عليهم، وإن كان ما هو أقل منه شاقًّا علينا، فليس عمل مثلهم بما عملوا به حجة لنا أن ندخل فيما دخلوا فيه، إلا بشرط أن يمتد مَناطُ المسألة فيما بيننا وبينهم، وهو أن يكون ذلك العمل لا يشق الدوام على مثله. وليس كلامنا هذا لمشاهدة الجميع، فإن التوسُّط والأخذ بالرفق هو الأولى والأحرى للجميع، وهو الذي دلَّت عليه الأدلَّة دون الإيغال الذي لا يَسهُل مثله على جميع الخلق ولا أكثرهم؛ إلاَّ على القليل النادِر منهم، والشاهد لصحة هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لست كهيئتكم، إني أبيت عند ربي، يُطعِمُني ويسقيني))[1]، يريد - عليه الصلاة والسلام - أنه لا يشق عليه الوصال، ولا يَمنعه عن قضاء حق الله وحقوقِ الخلق. فعلى هذا: من رُزِقَ أنموذجًا مما أعطيه - عليه الصلاة والسلام - فصار يوغل في العمل - مع قوته ونشاطه وخفة العمل عليه - فلا حرج"[2]. يقول الشاطبي: كم من رجل صلَّى الصبح بوضوء العشاء كذا وكذا سنة، وسرد الصيام كذا وكذا سنة، وكانوا هم العارفين بالسنة، لا يميلون عنها لحظة، وروي عن ابن عمر وابن الزبير: أنهما كانا يواصلان الصيام[3]، وأجاز مالك – وهو إمام في الاقتداء[4] - صيام الدهر؛ يعني إذا أفطر أيَّام العيد، والآثار في هذا المعنى كثيرة عن الأولين، وهي تدل على الأخذ بما هو شاقٌّ على الدوام، ولم يعدهم أحد بذلك مخالفين للسنة، بل عدوهم من السابقين- جعَلَنَا الله منهم – وأيضًا فإن النهي ليس عن العبادة المطلوبة بل هو عن الغلوِّ فيها غلوًّا يُدخِل المشقة على العامل، فإذا فرضنا من فُقِدَت في حقِّه تلك العِلَّة فلا ينهض النهي في حقِّه؛ كما إذا قال الشارع: لا يقضي القاضي وهو غضبان، وكانت علة النهي تشويش الفكر عن استيفاء الحجج؛ اطرد النهي مع كل مشوش، وانتهى عند انتفائه حتى أنه مع وجود الغضب اليسير الذي لا يمنع من استِيفاء الحجج، وهذا صحيح جارٍ على الأصول. وحال من فُقِدَت في حقه العلة حالُ من يعمل بحكم من غلبة الشوق أو غلبة الرجاء أو المحبة؛ فإن الخوف شرٌّ سائق، والرجاء حادٍ قائد، والمحبَّة سبيل حامل، فالخائف إن وجد المشقَّة؛ فالخوف مما هو أشق يحمله على الصَّبر على ما هو أهون، وإن كان العمل شاقًّا، والراجي يعمل وإن وَجَد المشقة؛ لأن راء الراحةِ التامة يَحمله على الصبر على بعض التعب، والحب يعمل ببذل المجهود؛ شوقًا إلى المحبوب، فيَسهُل عليه الصعب، ويَقرُب عليه البعيد، فيوهن القُوَى، ولا يَرَى أنه أوفى بعهد المحبة ولا قام بشكر النعمة، ويعصر الأنفاس، ولا يرى أنه قضى نَهَمَتَه. وَإذا كان كذلك صَحَّ بين الأدلة، وجاز الدخول في العمل التزامًا مع الإيغال فيه! إمَّا مطلقًا وإما مع ظن انتفاء العلَّة، وإن دخَلَت المشقَّة فيما بعد؛ إذا صح من العامل الدوام على العمل، ويكون ذلك جاريًا على مقتضى الأدلة وعملِ السلف الصالح"[5]. فالحاصل: جواز الاجتهاد في العبادة بشروط: الأول: أن لا يحصل له مَلَل يُفقِده لذَّة العبادة بدليل: ((ليصل أحدكم نشاطه)). الثانِي: أن يكثر حسَب طاقته، ودليله: ((عليكم من الأعمال ما تطيقون)). الثالث: لا يفوت من الأعمال ما هو أهم، ويدلُّ عليه قول عمر: "لأن أشهد الصبح في جماعة أحبُّ إليَّ من أن أقوم ليلة". الرَّابع: أن لا يضيع حقًّا شرعيًّا، كما حصل لابن عمرو وأبي الدرداء. الخامس: أن لا يبطل رخصة شرعيَّة، كما ظن الرهط الذين تقالُّوا عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته. السادس: أن لا يوجب ما ليس بواجب شرعيٍّ، كما أوجب ابن مظعون على نفسِه. السابع: أن ياتي بالعبادة المجتهد فيها بتمامها، بدليل: ((لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث)). الثامن: أن يُداوم على ما يختاره من العبادة، بدليل: ((أحب الأعمال إلى الله أدومها)). التاسع: أن لا يجتهد بحيث يورث الملل لغيره، أخذًا بحديث ((إذا صلى أحدكم فليخفف)).العاشر: أن لا يعتقد أنه أفضل عملاً مما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من تقليل العمل[6]. (1) صوم الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - المفارق للتنعُّم والتَّرفيه، المعانق لما كُلِّف من التَّشمُّر والتوجُّه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لم أر عبقريًّا يفري فرية))[7]. عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: ما مات عمر حتى سرد الصوم[8]. فَمَنْ يَسْعَ أو يَرْكَبْ جَنَاحَي نَعَامَةٍ لِيُدْرِكَ مَا قَدَّمْت بِالأمْسِ يَسْبِقُ[9] (2) صوم ذي النورين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أمير البررة وقتيل الفجرة. حَبِيبُ مُحَمَّدٍ وَوَزِيرُ صِدْقٍ وَرَابِعُ خَيْرِ مَنْ وَطِئَ التُّرَابَا قال أبو نعيم عنه: "حفظه من النهار الجود والصيام، ومن الليل السجود والقيام، مبشر بالبلوى، ومنعم بالنجوَى"[10]. وعن الزبير بن عبدالله، عن جدة له يقال لها هَيْمَة قالت: "كان عثمان يصوم الدهر، ويقوم الليل إلا هجعة من أوله"، رضي الله عنه، قتلوه وقد كان صائمًا [11]. وروى ابن كثير في "البداية والنهاية" (7/207): "صلى صلاة الصبح ذات يوم، فلما رفغ أقبل على الناس فقال: إني رأيت أبابكر وعمر أتياني الليلة، فقالا لي: صم يا عثمان؛ فإنك تفطر عندنا، وإني أشهدكم أني وقد أصبحت صائمًا، وإني أعزم على من كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخرج من الدار سالمًا مسلومًا منه، ثم دعا بالمصحف فأكب عليه - رضي الله عنه - ما طوى المصحف.. وقتلوه وهو يقرؤه". يتبع |
رد: نظرات على صيام الصالحين
نظرات على صيام الصالحين سادات الصائمين (1 - 12) الشيخ سيد حسين العفاني (3) صوم أبي طلحة الأنصاري زيد بن سهل: أحد أعيان البدريين، وأحد النقباء الاثنَى عشر ليلة العقبة، قال عنه - صلى الله عليه وسلم -: ((لصوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل))[12]. عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان أبو طلحة لا يصوم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل الغزو، فلمَّا قُبِض النبي - صلى الله عليه وسلم - لم أره يفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر[13]. وقال الذهبي: "كان قد سرد الصوم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -"[14]. قال أبو زرعة الدمشقي: إن أبا طلحة عاش بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين سنة يسرد الصوم[15]. قال الذهبي: "قلت بل عاش بعده نيفًا وعشرين سنة"[16]. وعن أنس: "أن أبا طلحة صام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين سنة لا يفطر إلا يوم فطر أو أضحى"[17]. (4) صوم عائشة زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصديقة بنت الصديق، العتيقة بنت العتيق، حبيبة الحبيب، وأليفة القريب، سيد المرسلين محمد الخطيب، المبرأة من العيوب، المعراة من ارتياب القلوب لرؤيتها جبريل رسول علام الغيوب"[18]. عن عبدالرحمن بن القاسم أن عائشة كانت تصوم الدهر[19]، وأخرجه ابن سعد عن القاسم بلفظ: إن عائشة كانت تسرد الصوم[20]. عن عروة: أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تسرد الصوم، وعن القاسم أنها كانت تصوم الدهر، لا تُفطِر إلا يوم أضحى أو يوم فطر[21]، قال عروة: بعث معاوية مرة إلى عائشة بمائة ألف درهم، فقسمتها؛ لم تترك منها شيئًا، فقالت بريرة: أنت صائمة، فهلا ابتعت لنا منها بدرهم لحمًا؟ قالت: "لو ذكَّرتِنِي لفعلتُ"[22]. وعن محمد بن المنكدر عن أم ذرة، وكانت تغشى عائشة - رضي الله عنه - قالت: بعث إليها الزبير بمال في غرارتين، قالت: أراه ثمانين ومائة ألف، فدعت بطبق، وهي صائمة يومئذ، فلما أسمت قالت: "يا جارية، هلمِّي فطوري" فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم ذرة: أما استطعت مما قسمت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحمًا نفطر عليه؟ فقالت: "لا تعنفيني، لو كنت ذكَّرتِنِي لفعلت"[23]. |
رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد
بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـهُ خواطر رمضانية محمد إبراهيم الحمد (6) رمضان شهر البر الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: فإن رمضانَ شهرُ البرِّ، وموسمُ الخير ، وميدان التنافس. وإن من أعظم البرِّ، وأجل القربات، برَّ الوالدين ، ذلكم أن حقَّ الوالدين عظيم، ومنزلتهما عالية في الدين؛ فَبِرُّهما قرينُ التوحيد، وهو من أعظم أسباب دخول الجنة، وهو مما أقرته الفطر السوية، واتفقت عليه الشرائع السماوية. وهو خلق الأنبياء،ودأب الصالحين،وهو سبب في زيادة العمر، وسعة الرزق، وتفريج الكربات، وإجابة الدعوات، وانشراح الصدر، وطيب الحياة. وهو _أيضاً_ دليل صدق الإيمان،وعلامة حسن الوفاء،وسبب البر من الأبناء. وفي مقابل ذلك فإن عقوق الوالدين ذنب عظيم، وكبيرة من الكبائر، فهو قرين للشرك،وموجب للعقوبة في الدنيا، وسبب لرد العمل، ودخول النار في الأخرى. وهو جحودٌ للفضل، ونكرانٌ للجميل، ودليلٌ على الحمق والجهل، وعنوانٌ على الخسة، والدناءة، وأمارةٌ على حقارة الشأن وصَغرِ النفس. ولعظم حق الوالدين تظاهرت نصوص الشرع آمرةً ببرهما والإحسان إليهما، ناهيةً عن عقوقهما والتقصير في حقهما، قارنة حقوقهما بحق الله_تعالى_. قال الله_عز وجل_: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)(النساء: من الآية36). وقال:(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)(الأنعام: من الآية151). وقال: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً)(الإسراء: 23-24) الوفي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال: سألت رسول الله " أي العمل أحب إلى الله_تعالى_؟ قال:=صلاة على وقتها + قلت ثمَّ أي؟ قال:بر الوالدين وعن عبد الله بن عمرو بن العاص _رضي الله عنهما_ عن النبي " قال: =الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس رواه البخاري. ومع عظم تلك المكانة للوالدين إلا أننا نرى عقوقهما قد تفشّى، وأخذ صوراً عديدةً، ومظاهر شتى؛ فمن ذلك إبكاؤهما وتحزينُهما،ونهرُهما وزجرُهما، والتأففُ والتضجر من أوامرهما، والعبوسُ وتقطيبُ الجبينِ أمامهما. .. . ومن صور العقوق احتقارُ الوالدين، والنظر إليهما شزراً، والإشاحةُ بالوجه عنهما إذا تحدثا، وقلةُ الاعتداد برأيهما، وإثارةُ المشكلات أمامهما. ومن ذلك _عياذاً بالله_ شتمُ الوالدين، وذمُّهما عند الناس، والتخلي عنهما وقت الحاجة أو الكبر، والتبرؤُ منهما، والحياءُ من ذكرهما والنسبة إليهما. ومن صور العقوق الإثقالُ على الوالدين بكثرة الطلبات، والمكثُ طويلاً خارجَ المنزل إلى ساعات متأخرة من الليل، أو النوم خارج المنزل دون علم الوالدين بمكان الولد، خصوصاً إذا كان صغيراً. ومن صور العقوق المتناهية بالقبح لعنُ الوالدين، والتعدي عليهما بالضرب، وإيداعُهما دورَ الملاحظة. ومن صور العقوق هجرُ الوالدين، والبخلُ عليهما، وتركُ نصحهما، والسرقةُ من أموالهما، والأنينُ وإظهارُ التوجُّع أمامهما. ومن أقبح صور العقوق -إن لم تكن أقبحها- تمني زوالِهما، وقَتْلُهما، والتخلصُ منهما، رغبةً في الميراث، أو رغبة في التحرُّر من أوامر الوالدين؛ فيا لشؤم هذا، ويا لِسوادِ وجهه، ويا لِسوءِ سوء مصيره إن لم يتداركه الله برحمته. هذه بعض صور العقوق، وتلك بعض مظاهره؛ فما أبعد الخير عن عاق والديه، وما أقرب العقوبة منه، وما أسرع الشر إليه. وهذا أمر مشاهد محسوس يعرفه كثير من الناس، ويرون بأم أعينهم، ويسمعون قصصاً متواترة لأناس خذلوا وعوقبوا بسبب عقوقهم لوالديهم. قال الأصمعي: أخبرني بعض العرب أن رجلاً كان في زمن عبد الملك بن مروان، وكان له أب كبير، وكان الشابُّ عاقاً بأبيه، وكان يقال للشاب منازل فقال الأب الشيخ الكبير: جَزَتْ رحمٌ بيني وبينَ منازلٍ *** جزاءً كما يستنجزُ الدَينَ طالبُه تَرَبَّت حتى صار جعداً شمردلاً *** إذا قام ساوى غاربَ الفحلِ غاربُه تظلَّمني مالي كذا ولوى يدي *** لوى يدَه اللهُ الذي لا يغالبُه وإني لداعٍ دعوةً لو دعوتُها *** على جبل الريان لانْهَدَّّ جانِبُه فبلغ ذلك أميراً كان عليهم، فأرسل إلى الفتى؛ ليأخذه، فقال له أبوه الشيخ: اُخْرُجْ من خلف البيت، فسبق رُسَلَ الأمير، ثم ابتلي الفتى بابن عقَّه في آخر حياته، واسم الولد خليج فقال منازل فيه: تظلمني مالي خليجٌ وعقني *** على حين كانت كالحَنيِّ عظامي تخيَّرتُه وازددته ليزيدني *** وما بعضُ ما يزدادُ غيرُ عرامِ لعمري لقد ربَّيته فرحاً به *** فلا يفرحنْ بعدي امرؤٌ بغلام فأراد الوالي ضرب الابن، فقال للوالي: لا تعجل هذا أبي منازل بن فرعان الذي يقول فيه أبوه: جزت رحمٌ بيني وبينَ منازلٍ *** جزاءً كما يستنجز الدَّينَ طالبُه فقال الوالي: يا هذا عَقَقْتَ وعُقِقْتَ وقال الأصمعي:حدثني رجلُ من الأعراب، وقال: خرجت أطلب أعقَّ الناس؛ فكنت أطوف بالأحياء،حتى انتهيت إلى شيخٍ في عنقه حبلٌ يستقي بدلو لا تطيقه الإبلُ في الهاجرة، والحرِّ الشديد، وخلفه شابٌّ في يده رُشاءٌ _أي حبل_ من قِدٍّ ملوي (والقِدُّ هو السوط) وهو يضرب الشيخ الكبير بالقدِّ، وقد شقَّ ظهره بذلك الحبل، فقلت: أما تتقي الله بهذا الشيخ الضعيف؟ أما يكفيه ما هو فيه مِنْ مَدِّ هذا الحبل حتى تضربه؟. قال: إنه مع هذا أبي، قلت: فلا جزاك الله خيراً. قال: اسكت؛ فهكذا كان يصنع بأبيه، وكذا كان أبوه يصنع بجده، فقلت: هذا أعقُّ الناس. ثم جُلت حتى انتهيت إلى شاب وفي عنقه زبيلٌ فيه شيخٌ كأنه فَرْخٌ، فكان يضعه بين يديه في كل ساعة،فيطعمه كما يُطعَمُ الفرخ، فقلت من هذا؟ قال: أبي وقد خرف وأنا أكفله، قلت: هذا أبر الناس. .. . الحمد لله مُعِزِّ من أطاعه، ومُذِلِّ من عصاه، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فقد عَلِمنا في الحديث الماضي عِظَم حق الوالدين، والترغيبَ في برهما، والترهيبَ من عقوقهما. ومر شيءٌ من مظاهر العقوق وصورِه؛ فإذا كان الأمر كذلك فما أحرى بذي اللب أن يبر والديه،وأن يتجنَّب عقوقهما؛ لينال الخيرَ والبركةَ في العاجل،وليحظى بالثواب الجزيل والعطاءِ غيرِ المجذوذ في الآجل. أيها الصائمون: هناك آداب ينبغي لنا مراعاتها، ويجدر بنا مع الوالدين سلوكها؛ لعلنا نرد لهما بعض الدين، ونقوم ببعض ما أوجب الله علينا نحوهما؛ لنرضيَ بذلك ربنا، وتنشرحَ صدورنا، وتطيبَ حياتنا، وَتُيَسَّرَ أمورُنا، ويبارك لنا في أعمارنا، ويبسَط لنا في أرزاقنا. فمما يجدر بنا سلوكه مع الوالدين طاعتُهما، واجتنابُ معصيتهما في غير مخالفة لأمر الله. ومن ذلك الإحسانُ إليهما،وخفضُ الجناح لهما،والبعدُ عن زجرهما. ومن صور البرِّ الإصغَاءُ إلى الوالدين، وذلك بالإقبال عليهما إذا تحدثا، وتركِ مقاطعتهما أو منازعتهما الحديث أو تكذيبهما. ومن الآداب مع الوالدين التلطُّلفُ بهما، والفرحُ بأوامرهما، والحذر من التأفف والتضجر منهما. ومن ذلك_أيضاً_التودّدُ لهما، والتحبُّب إليهما، والجلوس أمامهما بأدب واحترام، وتجنُّبُ المنَّة في الخدمة أو العطية. ومن صور البر مساعدةُ الوالدين في الأعمال، والبعدُ عن إزعاجهما وقتَ راحتهما، أو تكديرِ صفوهما بالجلبة، ورفعِ الصوت، أو بالأخبارِ المحزنة. ومن ذلك تجنُّبُ الشجارِ، وإثارةِ الجدل أمامهما، وذلك بالحرص على حل جميع المشكلات مع الإخوة أو الزوجةِ أو أهل البيت عموماً، بعيداً عن أعين الوالدين إلا إذا اقتضت الحكمةُ والمصلحةُ إشراكَهما في الأمر. ومن صور البر تلبيةُ نداءِ الوالدين بسرعة، والاستئذان عليهما حال الدخول عليهما وإصلاحُ ذات البين إذا فسدت بين الوالدين، والحرصُ على التوفيق بينهما وبين الزوجة، وتعويد الأولاد على برهما. ومن صور البر تذكيرُ الوالدين بالله، ونصحُهما بالتي هي أحسن. ومن برهما _أيضاً_ الاستئذانُ منهما، والاستنارةُ برأيهما، والمحافظةُ على سمعتهما، والبعدُ عن لومهما وتقريعهما. ومن ذلك فهمُ طبيعة الوالدين، ومعاملتهما بمقتضى ذلك. ومن البر بهما كثرةُ الدعاءِ والاستغفار لهما، وصلةُ الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإنفاذ عهدهما، والتصدُّق عنهما. ومما يعين على بر الوالدين أن يستعينَ الإنسانُ بالله،وأن يستحضر فضائلَ البر، وعواقبَ العقوق، وأن يستحضر فضل الوالدين، وأن يضع نفسه موضعهما، وأن يقرأ سير البارين بوالديهم. .. أيها الصائمون: هاهو بر الوالدين، وهذه هي الآداب التي يجدر بنا مراعاتها معهما،وتلك أسباب تعين على البر،فما أحرانا بمراعاة تلك الأمور، وما أجدرنا، بالأخذ بها، وإليكم معاشر الصائمين بعضَ النماذجِ من قصص البر: هذا إسماعيل بن إبراهيم _عليهما السلام_ يضرب أروع أمثلة البر في تاريخ البشرية، وذلك عندما قال له أبوه: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ). فما كان من ذلك الولد الصالح إلا أن قال: ( يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(الصافات: من الآية102). وقد ورد أن إبراهيم _عليه السلام_ لما تيقَّن مما رأى في منامه قال لابنه: يا بني خُذِ الحبلَ والمُديةَ، وانطلق بنا إلى هذا الشعب نحتطب، فلما خلا بهِ في شعب ثبير أخبره بما أمره الله به، فلما أراد ذبحه قال له: يا أبت اشدد رباطي؛ حتى لا أضطرب، واكْفُفْ ثيابك؛ حتى لا يصيبَها الدَّمُ فتراه أمي، واشحذ شفرتك، وأسرع في السكينِ على حلقي؛ ليكون أهونَ علي، وإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني. قال إبراهيم:نعم العونُ أنت يا بني، ثم أقبل عليه، وهما يبكيان، ثم وضع السكينَ على حلقه، فلم تحزَّ، فشحذها مرتين أو ثلاثاً بالحجر فلم تقطع. فقال الابن عند ذلك:يا أبتِ كُبَّني على وجهي؛ فإنك إن نظرت إلى وجهي رحمتني، وأدركتك رِقَّةٌ تحول بينك وبين أمر الله _تعالى_ وأنا لا أنظر إلى الشفرة؛ فأجزع. ففعل إبراهيم ذلك، ووضع السكين على قفاه،فانقلب السكين، وسلبت منها خاصيتها، ونودي ( أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا )(الصافات: الآية 104). .. . وإليكم أيها الصائمون صوراً مشرقة في البر من سير السلف الصالح، تدل على شدة اهتمامهم ببر الوالدين. فهذا أبو هريرة رضي الله عنه كان يستخلفه مروان، وكان يكون بذي الحليفة، فكانت أمه في بيت وهو في بيت آخر، فإذا أراد أن يخرج وقف على بابها وقال:السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فتقول:وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمكِ الله كما ربيتني صغيراً، وتقول:ورحمك الله كما بررتني كبيراً. وهذا ابنُ عمرَ _رضي الله عنهما_ لقيه رجل من الأعراب بطريق مكة، فسلَّم عليه عبد الله بن عمر وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه. قال ابنُ دينارٍ:فقلنا له أصلحك الله إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير. فقال عبدُ اللهِ بنُ عمرَ:إن أبا هذا كان وُدَّاً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإني سمعت رسول الله يقول: إن أبرَّ البرِّ صلةُ الولدٍ أهلَ ودِّ أبيه.رواه مسلم وأبو داود. وهذا أبو الحسن عليُّ بنُ الحسينِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالب -وهو المسمى بزين العابدين وكان من سادات التابعين_ كان كثير البر بأمه، حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولا نراك تؤاكل أُمَّك؛ فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه، فأكون قد عققتها. وقال هشام بنُ حسان: حدثتني حفصةُ بنتُ سيرين قالت، كانت والدة محمد بن سيرين حجازية، وكان يعجبها الصِّبغ، وكان محمد إذا اشترى لها ثوباً اشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيدٌ صَبَغَ لها ثياباً، وما رأيته رافعاً صوته عليها، وكان إذا كلمها كالمصغي. وعن بعض آل سيرين قال:ما رأيت محمد بن سيرين يكلم أمه قط إلا وهو يتضرع. وعن ابن عون أن محمداً كان إذا كان عند أمه لو رآه رجل ظن أن به مرضاً من خفض كلامه عندها. وعن ابن عون قال: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه فقال: ما شأن محمد؟ أيشتكي شيئاً قالوا: لا، ولكن هكذا يكون عند أمه. وروى جعفر بن سليمان عن محمد بن المنكدر أنه كان يضع خدَّه على الأرض ثم يقول لأمه: قومي ضعي قَدَمَكِ على خدي. وعن ابن عون المزني أن أمه نادته،فأجابها، فعلا صوتُه صوتَها؛ فأعتق رقبتين. وقيل لعمرَ بن ذرٍّ:كيف كان بر ابنك بك؟ قال ما مشيت نهاراً قط إلا مشى خلفي، ولا ليلاً إلا مشى أمامي، ولا رقى سطحاً وأنا تحته. وهذا بُندارُ المحدثُ قال عنه الذهبي: جمع حديث البصرة، ولم يرحل؛ براً بأمه. وقال عبد الله بن جعفر بن خاقان المروزي: سمعت بنداراً يقول:أردت الخروج _يعني الرحلة لطلب العلم_ فمنعتني أمي، فأطعتها، فبورك لي فيه. وكان طلق بن حبيب من العلماء العباد، وكان يقبل رأس أمه، وكان لا يمشي فوق ظهر بيت وهي تحته؛ إجلالاً لها. وقال عامر بن عبد الله بن الزبير:مات أبي، فما سألت الله حولاً كاملاً إلا العفو عنه. اللهم اجعلنا من الأتقياء الأبرار، ومن المصطفين الأخيار إنك أنت الرحيم الكريم الغفّار. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. https://dl.dropbox.com/u/63580683/fo18.png |
رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد
بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـهُ خواطر رمضانية محمد إبراهيم الحمد (7) رمضان فرصة لترك التدخين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فإن التدخينَ وباءٌ خطير، وشرٌ مستطيرٌ، وبلاءُ مدمرٌ. وقد وقع في شَرَكِه فِئامٌ من الناس، وكثيرٌ مِنْ أولئك يملكون قلوباً حية، وعواطفَ للإسلامِ قوية، إلا أنهم بلوا بالتدخين. وأكثرُ هؤلاءِ لا يكابرونَ في ضررِ التدخين، ولا يشكُّون في أثرهِ وحرمتهِ، بل تراهم يؤمِّلونَ في تركهِ، ويسعونَ للخلاصِ منهُ؛ فلهؤلاءِ حقٌّ على إخوانهم أن يعينوهم، ويأخذوا بأيديهم خصوصاً في هذا الشهر الكريم. . معاشر الصائمين: لو توجَّهنا بالسؤال إلى كلِّ مدخنٍ وقلنا له: " لماذا تدخن؟ " لأجابوا إجاباتٍ مختلفةً؛ فَمِنْ قائلٍ: أدخن إذا ضاق صدري؛ كي أروِّح عن نفسي، ومِنْ قائلٍ: أدخن كي أتسلى في غربتي، وبُعدي عن أهلي، إلى قائلٍ: أدخن إذا سامرت زملائي؛ ليكتمل فرحي وأنسي، إلى قائل: أدخنُ؛ لأتخلصَ من القلقِ، والتوترِ، والغضبِ، إلى قائل: أدخنُ مجاملةً للرفاقِ، إلى قائلٍ: أدخنُ لفرطٍ إعجابي بفلانٍ من الناسِ، فهو يدخنُ وأنا أتابعةُ، واعملُ على شاكلتهِ، إلى مسكينٍ يقولُ: تعلقتُ بهِ منذُ الصِّغرِ فعزَّ عليَّ تركهُ، إلى مكابرٍ عنيدٍ يقول: أدخن لقناعتي بجدوى التدخين؛ فلا ضررَ فيه، ولا عيبَ، ولا حرمة. هذه - تقريباً - هي الأسبابُ الحاملةُ على التدخين؛ فإذا كانَ الأمرُ كذلك، فاسمح أيها الأخُ المدخن بالحوار معكَ مدة ًيسيرةً؛ عسى أن نصل إلى نتيجة مُرْضِيَةٍ. . . أخي الحبيب: ألستَ مقتنعاً من حُرْمِةِ التدخين، ومن أثرهِ البالغ؟ ألا تفكر جاداً في تركهِ إلى غيرِ رجعة؟ ستقول: بلى، ولكن آملُ أن أزدادَ قناعةً بضررِ التدخين، وإمكانيةِ تركه، ويقالُ لكَ: إليكَ ما تريد، فأعِر سَمْعَك قليلاً، وأَصْغِِ فؤادك لما يقال: أولاً:أيها الحبيب: تذكر قبلَ كل شيء أنك عبدٌ لله، وأكْرِم بها من عبودية، فعبوديتُكَ لله تحررُكَ من كلِّ شيء حتى من نفسِكَ التي بين جَنْبَيك، فتصبحُ حراً طليقاً عبداً لربٍّ واحدٍ لا لأربابٍ متفرقين. وإن مقتضى عبوديتك لله أن تُطيعَه فلا تعصيَه، وذلك عنوان فلاحك وسعادتك، إذا تقررَ هذا عندك، فتذكر أن الدخانَ خبيثٌ، وأنه تبذيرٌ وإسرافٌ، وأنه قتلٌ للنفس، وإلقاءٌ باليد إلى التهلكة، وأنه إيذاء للمسلمين؛ فهل هذه الأمور من طاعةِ الله، أو من معصيتِه؟ ثانياً: التدخين يبعث على النفور منك، ومن مجالستك، بل والسلام عليك؛ لأن رائحتك لا تشجع على شيء من ذلك. ثالثاً: التدخين قد يتسبب في حرمانك من نعمة الذرية؛ فهو يضعف النسل، ويضعف القدرة الجنسية، بل وربما قاد إلى العقم. رابعاً: وإذا رزقت بأولاد فربما تعرضوا للتشويه، ونقص النمو، وزيادة العيوب الخلقية؛ فللتدخين أثرٌ بالغٌ على صحة أولاد المدخن. خامساً: وإذا رزقت أولاداً فلا شك أنك ترغب في صلاحهم واستقامتهم ورجولتهم، وإذا كنت مدخناً ربما كانت النتيجةُ عكسَ ذلك؛ فربما تسببت في إغوائهم، وانحرافهم؛ لأنهم مُوْلَعُون بمحاكاتك وتقليدك. سادساً: التدخين قد يَصْرِفُك عن برِّ والديك، وصلةِ أرحامك؛ لأنك تخشى عِلْمَهم بأنك تدخن؛ فلهذا تتحاشى قُربَهم، وتألفُ البعدَ عنهم؛فأي خير يرجى من عمل يتسبب في عقوق والديك وقطيعة أرحامك؟ سابعاً: بالتدخين تساهم في خذلان أمتك،ودعم أعدائها الذين يحاربونها ليل نهار. وبفضل جهدك قد غدوت لصانعي تلك السموم السود خَيْرَ معين تَحْبوهم المال الذي لولاه لم يجدوا السبيل لكيد هذا الدين ثامناً: بالتدخين تُقصِّر عمرك، وتهدد حياتَك بالفناء؛ فمعظم وفيات العالم الصناعي إنما هي بسبب التدخين؛ حيث يموت سنوياً في العالم بسبب التدخين وحده مليونان وخمسمائة ألف شخص؛ فالدخان يجلب لك الموت العاجل، فضلاً عن أن سنواتِ العمرِ الأخيرةَ تكون معاناةً من الأثر السييء للدخان. وقد أجمعت البحوث العلمية على أن السجائر هي من كبرى المهلكات التي تصيب الإنسان بالعجز، وتهدده بالفناء. تاسعاً: الدخان يحرمك السعادة الحقة، ويوهمك بالسعادة المزيفة؛ و إلا كيف يَسْعَدُ الإنسان وحياتُه مليئةٌ بالأسقام مهددةٌ بالأخطار. عاشراً: التدخين يؤثر على عقلك، ويضعف تفكيرَك، ويورثك البَلادَة، وهذا مشاهد في الطلاب وغيرهم، ولقد أجريت تجارب لاختبار الذكاء بين طلاب المدارس فتبين بشكل واضح أن المدخنين أقل ذكاءًا ومقدرةً على الفهمِ من غيرهم ممن لا يدخنون. الحادي عشر: من أضرار التدخين: التدخين يعرضك للجلطة، وتصلُّب الشرايين، وموت الفجأة. الثاني عشر: التدخين يؤذي عينيك أيما أذى، فهو يزيد من احتمال إصابتها بالماء الأزرق، ومرض إعتام العيون، كما أنه يؤدي إلى التهاب الجفون، وتَحسُّسِها،بل ويؤدي إلى التهاب عَصَب الأبصار والعَمى. الثالث عشر: التدخين يثلم مروءتَك، ويُنْقِص من قدرك، ويدل على ضعف إرادتك. الرابع عشر: التدخينُ يثقِلُ عليك العبادةَ، ويدعوك لمخالطة الأشرار والأراذل، ويزهِّدك بالأكابر، والأخيار، والأفاضل. الخامس عشر: التدخين يوهن قواك، ويضعف قدرتَك، ويورثك الخمول والكسل. السادس عشر: لا يكاد عضوٌ من أعضاء المدخن يسلم من أضرار التدخين. السابع عشر: التدخين سببٌ رئيسٌ للسرطان بأنواعه المتعددة؛ فهو سبب لسرطان الرئة، والحنجرة، والشفة، والبلعوم، والمريء، والبنكرياس، والمثانة، والكُلى. الثامن عشر: التدخين يتسبب في تسوس الأسنان، واصفرارها، واسودادها، ويتسبب في التهاب اللِّثَةِ، وتقرُّحات الفمِ واللسانِ، وتشويهِ الشفاه، ووسخ الأسنان. التاسع عشر: التدخين يسبب الربوَ، وضيقَ النَّفسَ، والسعالَ، والبصاقَ، وضَعفَ كفاءةِ الرئة،وسوءَ الهضم، وتليّفَ الكبدِ، والسكتةَ الدماغيةَ، والذبحةَ الصدريةَ، وإصابةَ شرايينِ المخِّ بالتصلّب، ويسبب الغثيانَ، والإمساكَ المزمنَ، والصداعَ، والأرقَ، والفشلَ الكُلويَّ،وضعفَ السمعِ، وفقدانَ حاسةِ الشم أو إضعافَها، وضعفَ الجهاز المناعي، والاستعدادَ للإصابة بأمراض خطيرة، وزيادةَ أمراض الحساسية، والتهاباتِ الجلدِ، وقُرْحَة المعدة، والاثني عشرَ. العشرون: أن المدخنين -كغيرهم- عُرضَة لسائر الأمراض، ولكنها تزداد لديهم، وتتضاعف بسبب التدخين. . . أيها الحبيب: ألم تقتنع بعد؟ أليس فيما مضى ذكره عِبْرةٌ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؟ ستقول -كعادتك- بلى، ويقال لك: متى ستقلع عن التدخين إذاً؟ ستقول: غداً، أو بعد غدٍ، أو بعد ذلك سأحاول الإقلاع عن التدخين. إذاً لعلك لم تقتنع بما قيل سابقاً، بل ستستمر على التدخين، ولن تقلع عنه؟ ستقول: لا، عفواً، إنني مقتنعٌ تمامَ الاقتناع بما مضى ولكن يصعب عليّ ترك التدخين، وأخشى ألا أستمر على تركه. إذاً ما الحل أيها الحبيب، هل نقف معك أمام طريق مسدود؟ ونرضى منك أن تواصل التدخين حتى يهوي بك في مكان سحيق؟ ستقول: لا يا أخي لم يصل الأمر إلى هذا الحد. إذاً ما العمل؟ ربما تقول: لعلي أسلك طريقاً آخر؛ كي أنجو من أضرار التدخين؛ حيث سأتحول عن التدخين إلى الغليون أو الشيشة، فلعلها أقل ضرراً أو أهون خطراً. ويقال لك: ما أنت - والحالة هذه - إلا كالمستجير من الرمضاء بالنار. أما علمت أن ما مضى ذكرُه من أضرار التدخين ينطبق على الشيشة والغليون ونحوها. ربما تقول: إذاً سأنتقل إلى نوع خفيف من السجائر ذاتِ المحتوى المنخفض من النيكوتين والقطران؛ فحنانيك بعض الشر أهون من بعض. ويقال لك: إن هذه خُدعةٌ كبرى قد ثبت ضررها وعدم جدواها وذلك لما يلي: - أن ذلك سببٌ لتدخينِ أكبرِ عددٍ من السجائر. - وأن المدخنين في هذه الحالة يسحبون عدداً أكبر من الأنفاس من السيجارة الواحدة. وأنهم يستنشقون الدخان بعمق، ويحتفظون به أطول فترة ممكنة، ليعوضوا نسبة النيكوتين التي فقدوها. -وكل ذلك يؤدي إلى امتصاص المزيد من النيكوتين والقطران، ويحدث هذا بطريقة لا إرادية ودون أن يشعر بها المدخن؛ فكيف تلجأ إلى هذا الحل إذا؟ . . كان الحديث الماضي يدور حول أضرار التدخين، والحديث ههنا سيكون حول السبل المعينة على تركه، فيا أيها المدخن: ربما تقول بعد ذلك: لقد أعيتني الحيل، وضاقت بي السبل، ولم أستطع ترك التدخين. ويقال لك:لا ما أعيتك الحيل،ولا ضاقت بك السبل، فلكل داءٍ دواءٌ، ولكل مُعْضِلةٍ حلٌ، وما من قُفْلٍ بلا مفتاح وإلا فما هو بقفل. تقول ما هو الحل؟ ويقال لك: أن تقلع عن التدخين فوراً، وان تهجره بلا رجعة. ستقول بزفرة، ولهفة، وأمل، وشوق، كيف الوصول إلى ذلك السبيل، وكيف النجاة من هذا الداء الوبيل؟ وما العلاج الناجع، والدواء النافع، من هذا السم الزعاف الناقع؟ يقال لك حينئذٍ: أيها الحبيب، كلّ ما تريده ستجده طالما بحثت عنه، وسعيت له سعيه، وطرقت أبوابه،وأخذت بأسبابه، فأعِرْ سمعك، وافتح قلبك، فستجد -إن شاء الله- ما يشفي عِلَّتك، ويروي غُلَّتك، فمِمَّا يعينك على ترك التدخين ما يلي: أولاً: استحضار أضرار التدخين، واستحضار حرمته في الدين. ثانياً: التوبة النصوح؛ فتب إلى ربك،وعد إلى رشدك،قبل أن يُتْلِف التدخين جسدك، وقبل أن يفجأك الموتُ على غِرَّةٍ منك، فأقدم غير هيَّاب، ولا وَجِل، ولا متردد، وإياك والتأجيلَ؛ فإن التأجيل ذنبٌ يجب أن تتوب منه. ثالثاً: استعن بالله وفوّض أمرك إليه، والتمس إعانته ولطفه، وتضرع إليه بالدعاء، واسأله بصدق وإخلاص وإلحاح أن يعينك على ترك التدخين. رابعاً: أقبل على الله بالمحافظة على الصلاة؛ فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأقبل على الله بالصيام؛ فإنه علاج نبوي يهذّب النفس، ويسمو بالخلق، ويقوي الإرادة، ويعين على محاربة الهوى، وأقبل على كتاب ربك؛ ففيه الهداية للتي هي أقوم، وأكثر من ذكر الله -عز وجل- ففيه الطمأنينة والسكينة، واستعذ بالله من الشيطان الرجيم؛ فإن الشيطان هو الذي يزيِّن لك المعصية؛ فإذا استعذت بالله من الشيطان بصدق، أعاذك الله منه. خامساً: استحضر الثمرات الحاصلة بترك التدخين. سادساً: تذكّر أن مَنْ ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه، وأن العِوَضَ أنواع مختلفة، وأجل ما تعوَّض به: الأنس بالله، ومحبته، وطمأنينة القلبِ بذكره. سابعاً: تذكّر الأجرَ المترتبَ على ترك التدخين؛ فكما أن ثوابَ الطاعةِ الشاقة أعظمُ مما لا مشقة فيه، فكذلك ثوابُ تركِ المعصية إذا شقَّ وعَظُمَ. ثامناً: وتذكّر أنك بترك التدخين تنقذ نفسك من ضرر محقق. تاسعاً: تذكّر لذة الانتصار على النفس،ومخالفة الهوى؛فإن تلك اللذةَ أعظمُ من لذة كاذبة عابرة. عاشراً: قارن بين لذة التدخين -إذا كان فيه من لذة- بالضرر البالغ الذي يحصل من جرَّائه،حينئذٍ يتبين لك الغبن،فكيف-إذاً-تُقْدِمُ على لَذَّةٍ وهميةٍ سريعةِ الزوال يكون بعدها هلاكك وعطبك؟1 الحاديَ عشر: مما يعين على ترك التدخين: العزيمةُ الصادقةُ، والإرادة القوية، التي هي عنوان عظماء الرجال. الثانيَ عشر: الصبر؛ فالذي يريد ترك التدخين قد يجد مشقة كبرى خصوصاً في بداية الأمر؛ فالإقلاع عن التدخين ثقيل على النفس،ولكنه ليس متعذِّراً ولا مستحيلاً، والصعوبةُ في تركهِ تَكْمُنُ في ضغط العادة، ولأن كثيراً من المدخنين -وخصوصاً المُفَرِطين منهم- يشعرون بالكآبة في الأسابيع التالية لإقلاعهم عن التدخين، إلى جانب معاناة الرغبة الشديدة في التدخين؛ ذلك أن نتائجَ تركِ التدخين ربما تتضمن الخمولَ،وشدة َالتوترِ، وسرعةَ الغضبِ، والقلقَ، والنومَ المتقطعَ، وصعوبةَ التركيزِ الذهنيِّ، وأعراضاً أخرى في المعدة والأمعاء، مع انخفاض في الدم، ومعدل النبض العام. ومع هذا فبعض تلك النتائج قد يكون نفسياً فقط،وقد لا تظهر تلك الأعراض إذا كانت العزيمةُ صادقةً، والإرادةُ قويةً. ثم إن تلك المشقة لا تزال تَهُوْنُ شيئاً فشيئاً إلى أن يألف المدخن ترك التدخين. قال ابن القيم -رحمه الله- : " إنما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد مَنْ تركها لغير الله، أما من تركها مخلصاً من قلبه لله، فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة، ليُمْتَحن أصادق هو في تركها أم كاذب؛ فإن صبر على ترك المشقة قليلاً استحالت لذة"اهـ-. فيا أيها الحبيب تجرَّع مرارةَ الصبر، وغُصَصَ الحرمان في البداية؛ لتذوق الحلاوة، وتحصل على اللذة الحقيقية في النهاية. والصبر مثل اسمه مرٌّ مذاقَتُه لكنْ عواقِبُهُ أحلى من العسل واعلم أن الصَّابرَ معان من الله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه: "ومن يتصَبَّرْ يُصَبِّره الله ". واستحضر أن الصبرَ عن التدخين أسهلُ بكثيرٍ مما يوجبه التدخين، فإنه يورث ألماً، وعقوبةً، وهمًّا، وغمًّا، وندامةً، وذلاً، وضررًا - كما مرَّ-. الثالت عشر: من الأمور المعينة على ترك التدخين:الحذرُ من اليأس،فقد تحاول تركَ التدخين مرةً أو أكثر فلا تفلح، وقد تتركه فترةً ثم ترجع إليه مرةً أخرى؛ فربما قادك ذلك إلى اليأس، وربما ألقى الشيطانُ في قلبك أنْ لا سبيل إلى ترك التدخين، وأنَّ كلَّ محاولةٍ منك ستبوء بالإخفاق؛ فإياك أن يَدِبَّ هذا الشعورُ إليك، أو أن يجد منفذاً إلى قلبكَ، بل حاول مرةً بعد أخرى، ولا تيأسنَّ مهما حاولت وأخفقت، فلعلك إن أخفقت مراتٍ نجحت في آخر المطاف، بل من الناس من ينجح في أول محاولة جادة. الرابعَ عشرَ: البعد عن رفقة السوء، وعن كل ما يذكر بالتدخين،من فراغٍ، ورؤية مدخنين، أو شم دخان. الخامسَ عشَر: لا تلتف إلى هؤلاء؛ فقد تبتلى بأناس يخذِّلونك إذا رأوك همَمَتَ بترك التدخين، فربما عوَّقوك، ووضعوا العراقيلَ والصعوباتِ في طريقك، فلا تلتفت إلى هؤلاء، بل أدِرْ ظهرَك لهم، وتوكل على ربك، واستشعر روح التحدي والإصرار، وستصل إلى غايتك بإذن الله. السادس عشرَ: وإذا ضَعفتْ نفسك عن ترك التدخين فوراً، و لم تستطع أن تهجره مباشرة بلا رجعه -فلا أقل من أن تتدرج، وتمضي في طريقك لِتركه، فتقلل من شربه، إلى أن تتركه بالكلية، ومما يعينك على ذلك أن تدع المجاهرة في شربه؛ لأن المجاهرة تقودك إلى شربه في كل مكان. ومن ذلك أن تمكث في أماكن تعينك على ترك التدخين كأن تجالس الأخيار والصالحين، وأن تتردد على الوالدين، وعلى من تستحيي من التدخين أمامهم؛ فذلك يبعدك، ويسليك عن التدخين إلى أن تعتاد تركه والسلوَّ عنه. السابع عشر: عرض الحال على من يعين، سواءً كان طبيباً ناصحاً، أو من تتوسم فيه الخير والصلاح، والنصح، فستجد عنده ما يعينك على الخروج من مأزقك. وأخيراً نسأل الله أن يعينك، وأن يهديك لأرشد أمرك، وأن يحبب إليك الإيمان، ويزينه في قلبك، وأن يكره إليك الكفر والفسوق والعصيان، ويجعلك من الراشدين. وصلّى الله وسلّم على نبينا محمد. https://dl.dropbox.com/u/63580683/fo18.png |
رد: نظرات على صيام الصالحين
نظرات على صيام الصالحين سادات الصائمين (1 - 12) الشيخ سيد حسين العفاني (5) صوم أم المؤمنين حفصة بنت عمر: القوامة الصوامة، حفصة بنت عمر بن الخطاب، وارثة الصحيفة، الجامعة للكتاب[24]. عن قيس بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلق حفصة بنت عمر فدخل عليها خالاها قدامة وعثمان ابنا مظعون، فبكت، وقالت: والله، ما طلقني عن شبع، وجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فتجلْبَبَت، قال: فقال لي جبريل - عليه السلام -: راجع حفصة؛ فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة[25]، أيُّ شهادة أعظم من شهادة الله وجبريل لحفصة - رضي الله عنها - وأنعِم بها من عبادةٍ كانت سببًا لرجوع أم المؤمنين حفصة إلى رسولنا - صلى الله عليه وسلم - لتبقى له زوجة في الجنة. وعن نافع قال: "ماتت حفصة حتى ما تفطر". (6) صوم أبي الدرداء، حكيم الأمة، وسيد القراء: وامَقَ العبادةَ، فارَق التجارةَ، داوَم على العمل استباقًا، وأحب اللقاء اشتياقًا، تفرغ من الهموم ففتحت له الفهوم، صاحب الحكم والعلوم[26]. قال أبو الدرداء: "كنت تاجرًا قبل أن يبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - فلما بعث محمد زاولت العبادة والتجارة، فلم يجتمعا، فأخذت في العبادة، وتركت التجارة"[27]. وفي رواية: "كنت تاجرًا قبل المبعث، فلما جاء الإسلام جمعت التجارة والعبادة، فلم يجتمعا، فتركت التجارة، ولزمت العبادة"[28]. قال ابن إسحاق: كان الصحابة يقولون: أتبعُنا للعلم والعمل أبو الدرداء[29]. وعن يزيد بن معاوية أن أبا الدرداء كان من العلماء الفقهاء الذين يشفون من الداء[30]. عن أبي جحيفة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخى بين سلمان وأبي الدرداء، فجاءه سلمان يزوره، فإذا أم الدرداء متبذلة[31]، فقال: ما شأنك؟ قالت: إن أخاك لا حاجة له في الدنيا، يقوم الليل ويصوم النهار، فجاء أبو الدرداء فرحب به وقرَّب إليه طعامًا، فقال له سلمان: كل، قال: إني صائم، قال: أقسَمْت عليك لتُفطِرن، فأكل معه، ثم بات عنده، فلما كان من الليل، أراد أبو الدرداء أن يقوم، فمنعه سلمان وقال: إن لجسدك عليك حقًّا، ولربك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، صم، وأفطر، وصل، وائت أهلك، وأعط كل ذي حق حقه، فلما كان وجه الصبح، قال: قم الآن إن شئت؛ فقاما، فتوضأا، ثم ركعا، ثم خرجا إلى الصلاة، فدنا أبو الدرداء ليخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي أمره سلمان، فقال له: ((يا أبا الدرداء، إن لجسدك عليك حقًّا، مثل ما قال لك سلمان))[32] |
رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد
بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـهُ (8) رَمَضَانْ شَهَر التَوْبَة الحمد لله غافر الذنب، وقابل التوب شديد العقاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو الكريم الوهاب، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله والأصحاب، أما بعد: فإن التوبةَ وظيفةُ العمرِ، وبدايةُ العبدِ ونهايتُه، وأولُ منازلِ العبودية، وأوسطها، وآخرها. وإنَّ حاجتَنا إلى التوبة ماسّةٌ، بل إنَّ ضرورتنا إليها مُلِحَّة، فنحن نذنب كثيراً، ونفرّط في جنب الله ليلاً ونهاراً؛ فنحتاج إلى ما يصقل القلوبَ، وينقّيها من رَيْن المعاصي والذنوب. . . أيها الصائمون الكرام: التوبة هي: تركُ الذنبِ علماً بقبحه،وندماً على فعله، وعزماً على ألا يعود التائبُ إليه إذا قدر، وتداركاً لما يمكن تداركُه من الأعمال، وأداءً لما ضيع من الفرائض؛ إخلاصاً لله، ورجاءً لثوابه، وخوفاً من عقابه، وأن يكون ذلك قبل الغرغرة، وقبل طلوع الشمس من مغربها. أيها الصائمون الكرام:لقد فتح الله _بمنِّه وكرمه_ بابَ التوبة؛ حيث أمر بها، ووعد بقبولها مهما عظُمت الذنوب. قال_تعالى: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)(الزمر:54). وقال: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (الشورى:25) . وقال: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً) (النساء:110) . وقال في شأن النصارى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المائدة:73) . ثم قال_جلّت قدرته_محرضاً لهم على التوبة: (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(المائدة:74) . وقال في حق أصحاب الأخدود الذين حفروا الحُفَر لتعذيب المؤمنين وتحريقهم بالنار: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) (البروج:10) . . . قال الحسن البصري رحمه الله:(انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة). ا هـ. بل إنه_عز وجل_حذّر من القنوط من رحمته فقال: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(الزمر:53) . قال ابن عباس_رضي الله عنهما_: (من أيّس عبادَ الله من التوبة بعد هذا؛ فقد جحد كتاب الله_عز وجل_). . . أما فضائلُ التوبةِ وأسرارُها، وبركاتُها فمتعددةٌ،متنوعةٌ،متشعبةٌ؛ فالتوبة سبب الفلاح، وطريق السعادة، وبالتوبة تكفّر السيئات، وإذا حسُنت بدّل الله سيئاتِ صاحِبها حسنات. وعبوديةُ التوبةِ من أحبِّ العبوديات إلى الله، والله_تبارك وتعالى_يفرح بتوبة التائبين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (للهُ أفرحُ بتوبة العبد من رجل نـزل منـزلاً، وبه مهلكة، ومعه راحلتُه عليها طعامُه وشرابُه، فوضع رأسَهُ، فنام نومةً، ثم رفع رأسَهُ، فاستيقظ وقد ذهبت راحلتُه؛ حتى اشتد عليه الحرُّ والعطشُ، أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني، فرجع، فنام نومةً، ثم رفع رأسه؛ فإذا راحلتُه عنده) رواه البخاري ومسلم. ولم يجيء هذا الفرحُ في شيء من الطاعات سوى التوبة، ومعلوم أن لهذا الفرح تأثيراً عظيماً في حال التائب وقلبِه، ومزيدُ هذا الفرح لا يعبر عنه. . . ومن فضائل التوبة: أنها توجب للتائب آثاراً عجيبة من مقامات العبودية التي لا تحصل بدون التوبة؛ فتوجب له المحبةَ، والرقّةَ، واللطفَ، وشكرَ اللهِ، وحمدَه، والرضا عنه، فَرُتِّب له على ذلك أنواعٌ من النعم لا يهتدي العبد إلى تفاصيلها، بل لا يـزال يتقلب في بركتها وآثارها ما لم ينقضْها أو يفسدْها. ومن تلك الآثار: حصولُ الذلِ،والانكسارِ،والخضوعِ لله، وهذا أحب إلى الله من كثير من الأعمال الظاهرة _وإن زادت في القدر والكمية على عبودية التوبة_ فالذلُّ، والانكسارُ روحُ العبوديةِ، ولبُّها، ولأجل هذا كان الله_عز وجل_عند المنكسرةِ قلوبُهم،وكان أقربَ ما يكون من العبد وهو ساجد؛لأنه مقامُ ذلِّ وانكسار، ولعل هذا هو السِّرُ في استجابةِ دعوة المظلوم والمسافر والصائم؛ للكسرة في قلب كل واحد منهم؛ فإن لوعةَ المظلومِ تُحْدِثُ عنده كسرةً في قلبه،وكذلك المسافر يجد في غربته كسرةً في قلبه، وكذلك الصوم، فإنه يكسر سَوْرةَ النَّفْسِ السَّبُعية الحيوانية كما قرر ذلك ابن القيم رحمه الله. . . أيها الصائمون الكرام: ومع عظم شأن التوبة وعظيم بركاتها إلا أن هناك أخطاءً يقع فيها كثير من الناس في باب التوبة؛ وذلك ناتج عن الجهل، أو التفريط، وقلة المبالاة. وإليكم نبذةً مختصرةً عن تلك الأخطاء على سبيل الإجمال؛ إذ المقام لا يسمح بالإطالة، وذكرِ الأدلة، والتفصيل في الأقوال. فمن تلك الأخطاء ما يلي: أولاً: تأجيل التوبة: فيجب على العبد_والحالة هذه_ أن يتوب من ذنبه، وأن يتوب من تأجيل التوبة. ثانياً: الغفلة عن التوبة مما لا يعلمه العبد من ذنوبه: فهناك ذنوبٌ خفيةٌ، وهناك ذنوبٌ يجهل العبد أنها ذنوبٌ، ولا ينجي من ذلك إلا توبةٌ عامةٌ مما يعلمه من ذنوبه ومما لا يعلمه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل فقال أبو بكر: فكيف الخلاص منه يا رسول الله؟ قال: أن تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم) رواه البخاري في الأدب المفرد. ثالثاً: ترك التوبة مخافةَ الرجوع للذنب أو خوفاً من لمز الناس، أو مخافة سقوط المنـزلة، وذهاب الجاه والشهرة: وهذا خطأ يجب تلافيه؛ فعلى العبد أن يعزم على التوبة، وإذا رجع إلى الذنب فليجدد التوبة مرة أخرى وهكذا، وعليه أن يدرك أنه إذا تاب عوّضه الله خيراً مما ترك. رابعاً: التمادي في الذنوب اعتماداً على سعة رحمة رب العالمين: وهذا خطأ عظيم، فكما أن الله غفور رحيم فإنه شديد العقاب،( وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام: من الآية147). خامساً: توبة الكذابين: الذين يهجرون الذنوب هجراً مؤقتاً لمرض،أو عارض، أو مناسبة أو خوف،أو رجاء جاه، أو خوف سقوطه، أو عدم تمكُّن، فإذا أتتهم الفرصة رجعوا إلى ذنوبهم؛ فهذه توبة الكذابين، وليست بتوبة في الحقيقة. ولا يدخل في ذلك من تاب، فحدثته نفسه بالمعصية، أو أغواه الشيطان بفعلها ثم فعلها، فندم وتاب؛ فهذه توبة صادقة، كما لا يدخل في ذلك الخطَرَاتُ ما لم تكن فعلاً متحققاً. سادساً: الاغترار بإمهال الله للمسيئين: وهذا من الجهل، ومما يصد عن التوبة، قال صلى الله عليه وسلم:( إذا رأيت الله_عز وجل_يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب؛ فإنما هو استدراج)ثم تلا قوله_عز وجل:(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(الأنعام:44-45) . أخرجه أحمد ورجاله ثقات. قال ابن الجوزي رحمه الله:( فكـلُ ظالمٍ معاقبٌ في العاجل على ظلمه قبل الآجل، وكذلك كلُّ مذنبٍ ذنباً، وهو معنى قوله_تعالى_: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ)(النساء: من الآية123). وربما رأى العاصي سلامة بدنه، فظن أنْ لا عقوبة، وغفلته عما عوقب به عقوبة). وقال:(الواجبُ على العاقل أن يحذرَ مغبةَ المعاصي؛ فإن نارها تحت الرماد، وربما تأخرت العقوبةُ، وربما جاءت مستعجلة). وقال: (قد تبغت العقوبات، وقد يؤخرها الحلمُ، والعاقلُ من إذا فعل خطيئةً بادرها بالتوبة، فكم مغرور بإمهال العصاة لم يُمهل). سابعاً: من الأخطاء في التوبة، اليأس من رحمة الله، واليأس من التوبة: فبعض الناس إذا تمادى في الذنوب، أو تاب مرة أو أكثر ثم رجع إلى الذنب مرة أخرى_ أيس من رحمة الله، وهذا خطأ عظيم؛ لأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. اللهم إنا نسألك التوبة النصوح، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد. |
رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد
بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـهُ خواطر رمضانية محمد إبراهيم الحمد (9) رَمَضَانْ شَهَر الصِلَة الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن رمضان شهر البر والصلة، وشهر التعاطف والمرحمة، فالقلوب تلين لذكر الله، والنفوس تستجيب لداعي الله، فلا ترى من جَرَّاء ذلك إلا أعمالاً زاكيات، وقرباً من ربّ الأرض والسماوات. ولعل الحديث ههنا يدور حول صلة الرحم، وفضلها، والأمور المعينة عليها، لعل نفوسنا تنبعث إلى الصلة، وإلى مزيد منها، وتُقْصِر عن القطيعة، وتنأى عن أسبابها. . . أيها الصائمون الكرام: لقد تظاهرت نصوص الشرع في عظم شأن الصلة، وفضلها، والتحذير من قطيعتها، قال _تبارك وتعالى_:(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ)(النساء: من الآية1) . وقال_عز وجل_:(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد: 22-23) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قاطع) رواه البخاري ومسلم، وقال سفيان في روايته: (يعني: قاطع رحم). وقال صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه) متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك، قالت: بلى: قال فذلكِ لكِ)رواه البخاري ومسلم. . . وهكذا يتبين لنا عظمُ شأن الصلة، وأنها شعار الإيمان بالله واليوم الآخر، وأنها سبب في بسط الرزق وطول العمر، وأنها تجلب صلةَ الله للواصل. ثم إنها من أعظم أسباب دخول الجنة،وهي من أسباب تيسير الحساب،وتكفير الذنوب، وتعمير الديار، ودفعِ ميتة السوء. وهي مما اتفقت عليه الشرائعُ السماوية، وأقرته الفطرُ السوية، كما أنها دليل على كرم النفس، وسعة الأفق، وطيب المنبت، وحسن الوفاء. وصلة الرحم مدعاةٌ لرفعةِ الواصل، وسببٌ للذكر الجميل، وموجبةٌ لشيوع المحبة، وعزة المتواصلين. . . أيها الصائمون: صلةُ الأرحامِ ضدُّ القطيعة، وهي كنايةٌ عن الإحسان للأقربين من ذوي النسب، والأصهارِ. وتكون بزيارتهم،وتَفَقُّدِ أحوالهم،والسؤالِ عنهم،والإهداءِ إليهم، والتصدُّق على فقيرهم، والتلطفِ مع وجيههم وغنيهم، وتوقيرِ كبيرهم، ورحمةِ صغيرهم. وتكون باستضافتهم، وحسن استقبالهم، وإعزازهم،ومشاركتهم في أفراحهم، ومواساتهم في أتراحهم. وتكون الصلة بالدعاء للأرحام، وسلامة الصدر لهم، والحرص على نصحهم، ودعوتهم إلى الخير، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وإصلاح ذات البين إذا فسدت. وهذه الصلة تستمر إذا كانت الرحم صالحةً مستقيمةً أو مستورةً. أما إذا كانت الرحمُ كافرةً أو فاسقةً فتكون بالعِظَةِ والتذكير، وبذلِ الجهد في ذلك. فإذا أعيته الحيلة في هدايتهم كأن يرى منهم عناداً، أو استكباراً، أو أن يخاف على نفسه أن يتردى معهم، ويهوي في حضيضهم _فَلْينأَ عنهم، وليهجرْهُمُ الهجرَ الجميل الذي لا أذى فيه بوجه من الوجوه، وليكثرْ من الدعاء لهم بالهداية. وإن صادف منهم غرة، أو سنحت له لدعوتهم فرصةٌ فليُقْدِمْ، وليُعِدْ الكرَّة بعد الكرة. . . أيها الصائمون: ومع عظم شأن الصلة، إلا أن كثيراً من الناس مضيعون لهذا الحق، مفرِّطون فيه؛ فمن الناس من لا يعرف قرابَته بصِلة لا بالمال، ولا بالجاه، ولا بالخلق، تمضي الشهور، وربما الأعوام وهو ما قام بزيارتهم، ولا تودد إليهم بصلة أو هدية، ولا دفع عنهم حاجة أو ضرورة أو أذية، بل ربما أساء إليهم، وأغلظ في القول لهم. ومن الناس من لا يشارك أقاربَه في أفراحهم، ولا يواسيهم في أتراحهم، ولا يتصدَّق على فقرائهم، بل تجده يقدم عليهم الأباعدَ في الصِّلات والصدقات. ومِنَ الناس مَنْ يصل أقارِبَهُ إن وصلوه، ويقطعهم إن قطعوه، وهذا _في الحقيقة_ ليس بواصل، وإنما هو مكافئٌ للمعروف بمثله، وهو حاصل للقريب وغيره، والواصلُ _حقيقة_ هو الذي يتقي الله في أقاربه، فيصلهم لله سواء وصلوه أو قطعوه. ومن مظاهر القطيعة: أن تجد بعض الناس _ممن آتاه الله علماً ودعوة_ يحرص على دعوة الأبعدين، ويغفل أو يتغافل عن دعوة الأقربين، وهذا لا ينبغي؛ فالأقربون أولى بالمعروف، قال الله _عز وجل_:(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء:214). . . وإذا أمعنا النظر في أسباب قطيعة الأرحام وجدنا أنها تحدث لأسباب عديدة تحمل على القطيعة. فمن تلك الأسباب: الجهلُ بعواقب القطيعة، والجهل بفضائل الصلة. ومنها ضعفُ التقوى،والكبرُ،فبعضُ الناس إذا نال منصباً رفيعاً،أو حاز مكانة عالية، أو كان تاجراً،أو مشهوراً تكبر على أقاربه، وأَنِفَ من زيارتهم، والتودد إليهم. ومن أسباب القطيعة:الانقطاعُ الطويلُ الذي يقود إلى الوحشة، واعتياد القطيعة. ومنها: العتابُ الشديدُ، فبعضُ الناس إذا زاره أحدٌ من أقاربه؛ أمطر عليه وابلاً من التقريع والعتاب على تقصيره في حقه، وإبطائه في المجيء إليه؛ ومن هنا تحصل النفرة من ذلك الشخص، وتُوجَد الهيبةُ من المجيء إليه. ومن أسباب القطيعة: التكلفُ الزائدُ، فهناك مِنَ الناس مَنْ إذا زاره أقاربه تكلَّف لهم أكثر من اللازم، وخسر الأموالَ الطائلةَ، وقد يكون _مع ذلك_ قليلَ ذاتِ اليد. ومن هنا تجد أن أقاربه يُقْصِرُون عن المجيء إليه، خوفاً من إيقاعه في الحرج. وفي مقابل ذلك تجدُ مَنْ إذا زاره أقاربهُ لم يهتمَّ بهم، ولم يصغ لحديثهم، وتراه لا يفرح بمقدمهم، ولا يستقبلهم إلا بكل تثاقل وبرود؛ مما يقلل رغبتهم في زيارته. ومن الأسبابِ الحاملةِ على القطيعةِ: الشحُّ والبخلُ، فمن الناس من إذا رزقه الله مالاً أو جاهاً بَعُد من أقاربه، حتى لا يرهقوه بطلباتهم المتنوعة. و من أعظم أسباب القطيعة: تأخيرُ قِسْمَةِ الميراث؛ فقد يكون بين الأقارب ميراثٌ لم يقسم، إما تكاسلاً منهم، أو قلةَ وفاقٍ فيما بينهم، وكلما تأخر قسم الميراث شاعت العداوة، وكثرت المشكلات، وزاد سوءُ الظن، وحلَّت القطيعة. ومن أسباب القطيعة: الشركة بين الأقارب؛فكثيراً ما يشترك الإخوة أو غيرهم من الأقارب في مشروع أو شركة ما، دون أن يتفقوا على أسس ثابتة، ودون أن تقوم الشركة على الوضوح والصراحة،بل تقوم على المجاملة، والحياء، وإحسان الظن. فإذا زاد الإنتاج، واتَّسعت دائرة العمل؛ دبّ الخلافُ، وساد البغي، ونـزغ الشيطان، وحدث سوءُ الظن، خصوصاً إذا كانوا من قليلي التقوى والإيثار، أو كان بعضهم مستبداً برأيه، أو كان أحد الأطراف أكثرَ جدية من صاحبه. ومن هنا تسوء العلاقة، وتحل الفرقة، وربما وصلت بهم الحال إلى الخصومات في المحاكم؛ فيصبحون سُبَّةً لغيرهم: (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ)(صّ: من الآية24). ومن أسباب القطيعة: الاشتغالُ بالدنيا، والطلاقُ بين الأقارب إذا لم يكن بإحسان، وبعدُ المسافة، والتكاسلُ عن الزيارة. وقد يكون التقاربُ في المساكن بين الأقارب مسبباً للقطيعة بسبب ما يكون من التزاحم على الحقوق، وبسبب ما يحدث بين الأولاد من مشكلات قد تنتقل إلى الوالدين. ومن الأسبابِ الحاملةِ على القطيعة: قلةُ التحمُّل، وقلةُ الصبرِ على الأقارب، ونسيانُهم في الولائم والمناسبات، فقد يُفَسَّر هذا النسيانُ بأنه تجاهلٌ واحتقار، فيقود ذلك الظن إلى الصرم والهجر. . . أيها الصائمون: فقد مرّ بنا _سالفاً_ حديث عن صلة الرحم وفضلها، وعن قطيعة الرحم، وصورها، والأسباب الحاملة عليها. والحديث ههنا إكمال لما مضى، حيث سيدور حول الأسباب المعينة على صلة الرحم؛ فهناك آداب يجدر بنا سلوكها مع الأقارب، وهناك أمور تعين على الصلة. فمن ذلك: التفكرُ في الآثار المترتبة على الصلة؛ فإن معرفَة ثمراتِ الأشياء، واستحضارَ حُسْنِ عواقبها من أكبر الدواعي إلى فعلها، وتَمثُّلها، والسعي إليها. وكذلك النظرُ في عواقب القطيعة، وتأمُلُ ما تجلبه من همٍّ، وغمٍّ، وحسرةٍ، وندامة، ونحوِ ذلك، فهذا مما يعين على اجتنابها، والبعد عنها. ومما يعين على الصلة: الاستعانةُ بالله، وسؤالُه التوفيقَ، والإعانةَ على صلة الأرحام. ومما يحسن سلوكه مع الأقارب: مقابلةُ إساءتهم بالإحسان، فهذا مما يبقي على الود، ويحفظ ما بين الأقارب من العهد، ويهون على الإنسان ما يلقاه من شراسة الأقارب؛ وقد أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي قرابةً أصِلُهم ويقطعونني، وأُحْسِنُ إليهم ويسيئون إليّ، وأَحْلُم عنهم ويجهلون عليّ. قال: (لئن كنت كما قلت؛ فكأنما تسفهم الملّ) رواه مسلم. قال الإمام النووي رحمه الله في شرح الحديث: (وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكلَ الرماد الحار من الألم، ولا شيء على هذا المحسن، بل ينالهم الإثمُ العظيمُ في قطيعتهِ، وإدخالِهم الأذى عليه. وقيل معناه: إنك بالإحسان إليهم تخزيهم، وتحقِّرهم في أنفسهم؛ لكثرة إحسانك، وقبيح فعلهم من الخزي والحقارة عند أنفسهم كمن يسف الملّ. وقيل:ذلك الذي يأكلونه من إحسانك كالمل يحرق أحشاءهم؛ والله أعلم) أ_هـ. فهذا الحديث عزاءُ لكثير من الناس ممن ابتلوا بأقارب شرسين، يقابلون الإحسانَ بالإساءة، وفيه تشجيعٌ للمحسنين على أن يستمروا على طريقتهم المثلى؛ فإن الله معهم، وهو مؤيدهم، وناصرهم، ومثيبهم. ومن جميل ما قيل في هذا المعنى قولُ المقنّعِ الكنديِّ يصف حالَه مع قرابته: وإن الذي بيني وبين بني أبي *** وبين بني عمِّي لَمُختلفٌ جِدّا إذا قدحوا لي نارَ حربٍ بزندهم *** قدحت لهم في كلِّ مكرمةٍ زندا وإن أكلوا لحمي وَفَرْتُ لحومَهُمْ *** وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجدا ولا أَحْمِل الحقدَ القديمَ عليهمُ *** وليس رئيسُ القومِ مَنْ يَحْمِلُ الحقدا وأعطيهمُ مالي إذا كنت واجداً *** وإن قلّ مالي لم أكَلّفْهمُ رِفْدا ومما يحسن فعله مع الأقارب:أن يقبل الإنسانُ أعذارَهم إذا أخطأوا واعتذروا. ومن جميل ما يذكر في ذلك ما جرى بين يوسف _عليه السلام_ وإخوته، فلقد فعلوا به ما فعلوا، وعندما اعتذروا قَبِلَ عُذْرَهُم، وصَفَحَ عنهم الصفحَ الجميلَ، فلم يقرِّعْهم، ولم يوبِّخْهم، بل دعا لهم، وسأل الله المغفرة لهم. بل يحسن بالإنسان أن يصفح عن أقاربه، وينسى معايبهم ولو لم يعتذروا، فهذا دليل سمو النفس، وعلو الهمة. ومن جميل ما يذكر في ذلك قول القائل: وحَسْبُكَ من ذلٍّ وسوءِ صنيعةٍ *** مناواةُ ذي القربى وإن قيل: قاطعُ ولكنْ أواسيه وأنسى عيوبَه *** لِتُرْجِعَهُ يوماً إليَّ الرواجعُ ولا يستوي في الحكِم عبدانِ: *** واصلٌ وعبدٌ لأرحامِ القرابةِ قاطعُ ومما يحبب الإنسان لقرابته، ويدنيه منهم تواضُعُه ولينُ جانبه مَنْ كان يَحْلُم أن يسودَ عشيرةً *** فعليه بالتقوى ولينِ الجانب ويغضَّ طرفاً عن مساوي من أسـا *** منهم ويحلم عند جهل الصاحب ومما يجمل فِعْلُه مع الأقارب: بذلُ المستطاعِ لهم من الخدمة بالنفس، أو الجاه، أو المال، وأن يدعَ المنةَ عليهم، ومطالبتَهم بالمثل،فالواصل ليس بالمكافئ،والعاقلُ الكريمُ يوطِّن نفسَه على الرضا بالقليل من الأقارب؛ فلا يستوفي حقه كاملاً، بل يقنع بالعفو وباليسير، حتى يستميلَ بذلك قلوب أقاربه، ويُبْقي على مودتهم. إذا أنت لم تستبق ودّ صحابةٍ *** على دَخَنِ أكثرتَ بثَّ المعايبِ ثم إن الأقارب يختلفون في أحوالهم،وطباعهم، ومنازلهم؛ فمنهم من يرضى بالقليل؛ فتكفيه الزيارةُ السنوية، والمكالمةُ الهاتفية، ومنهم من يرضى بطلاقة الوجه، والصلة بالقول، ومنهم من يعفو عن حقه كاملاً، ويلتمس المعاذير لأرحامه، ومنهم من لا يرضى إلا بالزيارة المستمرة، وبالملاحظة الدائمة؛ فمعاملتهم بهذا المقتضى تعين على الصلة، واستبقاء المودة. ومما يغري بالصلة تركُ التكلف مع الأقارب،ورفعُ الحرج عنهم،وتجنبُ الشدة في عتابهم، فإذا علموا بذلك عن شخص قريب لهم انبعثوا إلى زيارته، وصلته. . . ومن أجملِ الآدابِ التي ينبغي سلوكُها مع الأقارب تَحَمُّلُ عتابِهم، وحَمْلُه على أحسن المحامل، فهذا أدب الفضلاء، ودأب النبلاء ممن تمت مروءتهم، وكملت أخلاقهم، وتناهى سؤددهم، ممن وسِعوا الناس بحلمهم، وحسن تربيتهم، وسعة أفقهم؛ فإذا عاتبهم أحدٌ من الأقارب، وأغلظ عليهم؛ لتقصيرهم في حقه _لم يثرّبوا عليه، ولم يُجاروه في عتابه، بل يتلطّفون به، ويحملون عتابه على المحمل الحسن؛ فيرون أن هذا المعاتبَ محبٌ لهم،حريصٌ على مجيئهم،ويشعرونه بذلك، ويشكرونه، ويعتذرون إليه، حتى تَخِفَّ حِدَّتُه، وتهدأ ثورته؛ فبعضُ الناس يُقَدِّر ويحب، ولكنه لا يستطيعُ التعبيرَ عن ذلك إلا بكثرة اللوم والعتاب. والكرامُ يحسنون التعامل مع هؤلاء،ولسانُ حالهم يقول: لو أخطأت في حُسْنِ أسلوبك ما أخطأتَ في حسن نيتك. ومما يَحسن سلوكُه مع الأقارب: أن يعتدل الإنسانُ في مزاحه مع أقاربه، وأن يتجنَّب الخصامَ، وكثرةَ الملاحاةِ والجدالَ العقيمَ معهم؛ ذلك أن مجالسَ الأقاربِ كثيرةٌ، واجتماعاتِهم عديدةٌ متكررةٌ، واللائق بالعاقل أن يداريَهم، وأن يبتعدَ عن كلِّ ما مِنْ شأنهِ أن يكدرَ صفو الودادِ معهم. وإذا اشَعُرَ بأن واحداً من الأقارب قد حَمَل في نفسه مُوْجِدَةً أو موقفاً _فليبادر إلى الهدية؛ فالهدية تجلب المودة، وتكذِّب سوء الظن، وتستل سخائمَ القلوب. ومما يعين على الصلة: أن يستحضر الإنسانُ أن أقاربَه لُحْمَةٌ مِنْه؛ فلا بد له منهم، ولا فِكَاكَ لـه عنهم، فعزُّهم عزٌّ له، وذُلُّهم ذلٌّ له، والرابح في معاداة أقاربه خاسر، والمنتصر مهزوم. ومما يحسن بالإنسان أن يحرص عليه كلَّ الحرص تَذَكُّرُ قراباته في المناسبات والولائم. ومن الطرق المجدية: أن يسجِّل أسماء أقارِبِه، وأرقامَ هواتِفهم، ثم يحفظها عنده؛ حتى يستحضرهم جميعاً، ويتصلَ بهم إما مباشرة،أو عبر الهاتف، أو غير ذلك. ثم إذا نسي أحداً منهم فليذهبْ إليه، وليعتذرْ منه، ولْيَسْعَ في تطييب قلبه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ومما يحسن بالأقارب:أن يَسْعوا إلى إصلاح ذات البين،إذا فسدت بين بعضهم، وأن تكونَ لهم اجتماعاتٌ دوريةٌ سنويةً كانت أو شهريةً، أو نحو ذلك، وأن يكون هناك دليل خاص،يحتوي على أرقام هواتف القرابة، يقوم بعض الأفراد بإعداده، وطبعه وتوزيعه؛ فهذا الصنيع يعين على الصلة، ويذكر المرء بأقاربه، إذا أراد السلام عليهم، أو دعوتهم. ومما يحسن فعلُه في هذا الصدد، أن يكون للقرابة صندوقٌ تُجْمَع فيه تبرعاتُ الأقارب واشتراكاتهم، ويشْرِفُ عليه بعض الأفراد، فإذا ما احتاج أحدٌ من الأسرة مالاً لزواج، أو نازلة أو غير ذلك _قاموا بدراسة حاله، ورفدوه بما يستحق؛ فهذا مما يولد المحبة بين الأقارب. ومما يحسن بالأقارب إذا كان بينهم ميراثٌ أن يعجِّلوا قِسْمَتَهُ؛ حتى يأخذ كلُّ واحدٍ نصيبَه، لئلا تكثر المطالباتُ والخصومات، ولأجل أن تكون العلاقةُ بين الأقارب خالصةً صافيةً من المكدارت. وإذا كان بين بعض الأقارب شَرِكة في أمر ما؛ فليحرصوا كلَّ الحرص على الوئام التام، والاتفاق في كل الأمور، وأن تسودَ بينهم روحُ المودةِ، والإيثارِ، والشورى، والرحمةِ، والصدقِ، وأن يحبَّ كلُّ واحدٍ منهم لأخيه ما يحبه لنفسه، وأن يعرف كلُّ طرفٍ ما له وما عليه. كما يحسن بهم أن يناقشوا المشكلاتِ بمنتهى الوضوح، والصراحة بعيداً عن المجاملة والمراوغة،والمواربة، وأن يحرصوا على الإخلاص في العمل، وأن يتغاضى كلٌّ منهم عن صاحبه. ويجمل بهم أن يكتبوا ما يتفقون عليه، فإذا كانت هذه حَالَهم أيسَ الشيطان منهم، وسادت بينهم المودة، ونـزلت عليهم الرحمة، وحلَّت عليهم بركات الشركة. وأخيراً: يراعى في صلة الأرحام أن تكون الصلةُ قربةً لله، خالصة لوجهه الكريم، وأن تكون تعاوناً على البر والتقوى، لا يقصد بها حمية الجاهلية. اللهم اجعلنا من الواصلين، وأعذنا من القطيعة يا رب العالمين. وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. |
رد: نظرات على صيام الصالحين
|
رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد
بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـهُ (10) رَمَضَانْ شَهَر السَخَاءِ والجُوُد الحمد لله الكريم الوهاب، والصلاة والسلام على من أنـزل إليه خير كتاب، أما بعد: فإن رمضانَ شهرُ الجود، وشهر السخاء؛ فالنفوس في هذا الشهر تقترب من مولاها، وتنبعث إلى ما يزكيها ويطهرها من شحها،( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(الحشر: من الآية9). ولقد جاء في الصحيحين عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل في كل ليلة، فيدارسه القرآن، فلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة). هكذا وصف حال النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا ينبغي للمسلم أن يكون(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(الأحزاب: من الآية21). . . أيها الصائمون الكرام: للصدقة والسخاء فضائلُ، لا تُحصى كثرة؛ فالصدقة تطفئ غضبَ الرب، وتدفعُ ميتةَ السوء، وتدل على الإيمان بالله، والثقة به، وإحسان الظن به _عز وجل_. والصدقة دليل على الرحمة، والشعور بالآخرين، كما أنها سبب لتيسير الأمور، وتفريج الكربات، وإعانة الرب _جل وعلا_ فالله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه. والصدقة مدعاة لزيادة المال، ونـزول الخيرات، وحلول البركات، وهي سبب للاستظلال في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، كما أن لها تأثيراً في دفع البلايا. قال ابن القيم رحمه الله: (وللصدقة تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء، ولو كانت من فاجر، أو ظالم، بل من كافر، وهذا أمر معلوم عند الناس، وأهل الأرض مُقِرُّون بذلك)ا_هـ. والصدقة تشرح الصدر، وتفرح النفس. قال ابن القيم رحمه الله: (المتصدق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه، وانفسح لهـا صدره، وقوي فرحه، وعظم سروره. ولو لم يكن في الصدقة إلا هـذه الفائدة لكان العبد حقيقاً بالاستكثار منها، والمبادرة إليها). . . أيها الصائمون الكرام: ومن فضائل الصدقة: أنها سبب للخلف من الله _ عز وجل_قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ما من يوم يصبح فيه العباد، إلا وملكان ينـزلان فيقول أحدهما:اللهم أعط منفقاً خلفاً،ويقول الآخر:اللهم أعط ممسكاً تلفاً) متفق عليه. ثم إن للسخاء أثراً في صيانة الأعراض، ونباهة الذكر، وائتلاف القلوب، وتأكيد رابطة الإخاء. وللسخاء أثرٌ في القضاء على كثير من الأخلاق المرذولة، كالحسد من الفقراء للأغنياء، وكالكبر من الأغنياء على الفقراء. وللسخاء أثرٌ في ستر العيوب، قال الشافعي رحمه الله: وإنْ كثرت عيوبُكَ في البرايا *** وَسرَّك أن يكون لها غطاءُ تَسَتَّرْ بالسخـاء فكلُّ عيبٍ *** يُغَطِّيه كما قيل السخـاءُ . . ثم إن السخيَّ قريبٌ من الله، ومن خلق الله، ومن الجنةِ، والبخيلُ بعكس ذلك. والسخاءُ مُتَّصِل بفضائلَ أخرى؛ فالسخيُّ في أغلب أحواله يأخـذ بالعفو، ويتحلّى بالحلم، ويجري في معاملاته على الإنصاف، ويؤدي حقوقَ الناسِ من تلقاء نفسه. ولتجدنّ السخيَّ بحق متواضعاً، لا يطيش به كبر، ولا تستخفه خيلاء، ولتجدنَّه أقربَ الناس إلى الشجاعة وعزة النفس؛ وإنما يخسر الإنسانُ الشجاعةَ والعزةَ بشدَّة حرصه على متاع الحياة الدنيا. ولقد جَرَتْ سُنةُ اللهِ بأن السخيَّ بحقٍّ يفوز بالحياة الطيبة، ولا تكون عاقبتُه إلا الرعايةَ من الله والكرامة؛فلما كان رحيماً بالفقراء،والمساكين،والمحتاجين،حريصاً على إسعادهم، وإدخال السرور والبهجة على نفوسهم_ كان جزاؤه من جنس عمله. هذا، وإن السخاء ليس مقتصراً على بذل المال فحسب، بل إن مفهومَه أوسعُ، وصورَهُ أعمُّ وأشمل. . . فمن صور السخاء: أن يكونَ للإنسان دَيْنٌ على آخر؛ فيطرحَه عنه، و يُخْلِيَ ذمته منه، وهو يستطيع الوصول إليه، دون عناء ولا تعب. كان قيسُ بنُ سعدِ بنِ عبادة _رضي الله عنهما- من الأجواد المعروفين، حتى إنه مرض مرة، فاستبطأ إخوانه في العيادة، فسأل عنهم فقيل له: إنهم كانوا يستحيون مما لك عليهم من الدين، فقال: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر منادياً ينادي: من كان لقيس عليه مالٌ فهو منه في حِل؛ فما أمسى حتى كُسِرتْ عتبةُ بابِه من كثرة من عاده. ويدخل في قبيل الأسخياء مَنْ يستحق على عمل أجراً؛ فيترك الأجر من تلقاء نفسه. ويدخل في قبيلهم مَنْ يسعى في قضاء حوائج الناس، وتفريج كرباتهـم، فعـن الحسن رحمه الله قال: (لأنْ أقضيَ حاجةَ أخٍ لي أحبُّ إلي من أن أعتكفَ سنة). وقيل لابن المنكدر رحمه الله:(أي الأعمال أحب إليك؟ قال: إدخال السرور على المؤمن، وقيل: أي الدنيا أحب إليك؟ قال: الإفضال على الإخوان). وقال الشافعي رحمه الله: وأفضلُ الناسِ ما بينَ الورى رجلٌ *** تُقضى على يدهِ للناسِ حاجاتُ . . ويدخل في السخاء سخاوة الإنسان بجاهه؛ بحيث يبذله في سبيل الخير، والشفاعات الحسنة: من إحقاق حق، ونُصْرِة مظلوم، وإعانة ضعيف، ومَشْيٍ مع الرجل إلى ذي سلطان، قال_تعالى_: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا)(النساء: من الآية85). وقال صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا)رواه البخاري ومسلم. ومن السخاءِ سخاءُ الإنسان برياسته؛ فيحمله سخاؤه على امتهانها، والإيثار في قضاء حاجات الملتمس. ومن السخاءِ سخاءُ الإنسانِ براحته، ووقته، ونصحه؛ في سبيل نفع الناس. ومن أعلى مراتبِ السخاء سخاءُ الإنسان بالعلم؛ فذلك أشرف من السخاء بالمال. ومن السخاءِ سخاءُ الإنسانِ بِعرِضه؛ بحيث يعفو ويصفح عمن ناله بسوء.. مر الشعبيُّ رحمه الله بقوم يذكرونه بسوء، فتمثَّل بقول كُثَيِّر عزةَ: هنيئاً مريئاً غيرَ داءٍ مخامرٍ *** لِعَزَّةَ من أعراضنا ما استحلتِ أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةً *** لدينا ولا مقليةً إن تقلَّتِ . . وفي هذا السخاءِ من سلامة الصدر،وراحة القلب،والتخلُّص من معاداة الخلق ما فيه. ومن السخاءِ السخاءُ بالصبر، والاحتمال، والإغضاء، وهي مرتبةٌ شريفةٌ لا يقدر عليها إلا النفوسُ الكبار. ومن السخاءِ السخاءُ بالخلق، والبشر، والتبسم، والبشاشة، والبسطة، ومقابلة الناس بالطلاقة؛ فذلك فوق السخاء بالصبر، والاحتمال، والعفو، وهذا هو الذي بلغ بصاحبه درجةَ الصائم القائم، وهو أثقلُ ما يوضع في الميزان، وفيه من أنواع المسارّ والمنافع والمصالح ما فيه. يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: وإني لأكسو الخلَّ حُلَّةَ سُندسٍ *** إذا ما كساني من ثياب مداده ويدخل في السخاء حَضُّ الناس على الخير، ودِلالتهم على وجوهه، وشُكْرُ الأسخياءِ، والدعاءُ لهم. ومن صور السخاء الخفية المحمودة سخاء النفس بترفُّعها عن الحسد، وحبِّ الاستئثار بخصال الحمد، وذلك بأن يحب المرء لإخوانه ما يحبه لنفسه، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه، فيفتح لهم المجالات، ويعطيهم فرصة للإبداع، والحديث، والمشاركة، ونحو ذلك؛ فيفرح لنجاحهم، ويحزن لإخفاقهم؛ فهذه من الصور الخفية للسخاء، وقلَّ من يتفطَّن لها، ويأخذ نفسه بها. ومن جميل السخاءِ سخاءُ المرء عما في أيدي الناس، فلا يلتفت إليه، ولا يستشرف له بقلبه، ولا يتعرَّض له بحاله ولسانه. وأروع ما في السخاء، سخاء المرء بنفسه، وأروع ما في ذلك ما كان في سبيل الله _عز وجل_. . . أيها الصائمون الكرام: يتفاضل الناس بالسخاء، على قدر هممهم، وشرف نفوسهم. فيتفاضلون من جهة الإنفاق؛ فالذي ينفق في السر أكمل من الذي لا ينفق إلا في العلانية. ويتفاضلون من جهة استصغارِ ما يُنْفَق واستعظامِه؛ فالذي ينفق في الخير، وينسى أو يتناسى أنه أنفق، هو أسخى ممن ينفق ثم لا يزال يذكر ما أنفق، ولا سيما إذا كان في معرض الامتنان. ويتفاضل الناس في السخاء من جهة السرعة إلى البذل، والتباطؤ فيه؛ فمن يبذل المال لذوي الحاجة لمجرد شعوره بحاجتهم، يَفْضُل مَنْ لا يبذل إلا بعد أن يسألوه. ومن يقصد بالبذل موضع الحاجة _عرفه أو لم يعرفه_ يكون أسخى ممن يَخُصُّ بالنوال من يعرفهم ويعرفونه. ومن يعطي عن ارتياحٍ، وتلذُّذٍ بالعطاء يعد أسخى ممن يحسن وفي نفسه حرجٌ. ومن علامات الرسوخ في السخاء ملاقاةُ السائلين بأدب وحفاوة؛ حتى يحفظ عليهم عزتهم. وأبلغ ما يدل على أصالة الرجل، ورسوخ قدمه في فضيلة السخاء _أن يرقَّ عطفُه، حتى يبسط إحسانه إلى ذي الحاجة، وإن كان من أعدائه؛ فذلك من كِبَر النفس، وضروب العزة، والترفع عن العداوات. ومن علامات الرسوخ في السخاء أن يتألمَ المرءُ، وأن يتأسف أشد الأسف إذا سئل شيئاً وهو غيرُ واجدٍ له، قال الشافعي رحمه الله: إن اعتذاري لمن قد جاء يسألني *** ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات ومن الأسخياء من تَسْمُو به الحال، فيرى أن الفضل والمنَّة إنما هي لمن جاء يستجديه ويسأله؛ حيث أحسن الظنَّ به، وتكرَّم عليه؛ فهذا من غرائب السخاء. ينسب لابن عباس _رضي الله عنهما_ أنه قال: إذا طارِقَاتُ الهمِّ ضَاجعت الفتى *** وأعْمل فكرَ الليلِ والليلُ عاكرُ وباكرني في حاجة لم يجدْ بها *** سواي ولا مِنْ نكبة الدهرِ ناصرُ فَرَجتُ بمالي همَّهُ من مقامه *** وزايله همٌّ طروقٌ مسامرُ وكان له فضل عليَّ بظنه *** بي الخير إني للذي ظنَّ شاكرُ وأرفع درجات السخاء أن يكون الإنسان في حاجة ملحَّة إلى ما عنده؛ فيدع حاجته، ويصرف ما عنده في وجوه الخير؛ وذلك ما يسمى بالإيثار. اللهم قنا شح أنفسنا، واجعلنا من المفلحين، وصلِّ اللهم وسلم على خاتم المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. https://dl.dropbox.com/u/63580683/fo18.png |
رد: نظرات على صيام الصالحين
نظرات على صيام الصالحين سادات الصائمين (1 - 12) الشيخ سيد حسين العفاني (9) صوم أبي أمامة الباهلي: صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. عن رجاء بن حيوة، عن أبي أمامة: "أنشأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشًا فأتيته، فقلت: يا رسول الله، ادع الله لي بالشهادة، قال: ((اللهم، سلِّمْهم وغنمهم))، فغزونا، فسلِمْنا وغنمنا، حتى ذكر ذلك ثلاث مرات، قال: ثم أتيته، فقلت: يا رسول الله، إني أتيتك تترى ثلاث مرات، أسألك أن تدعو لي بالشهادة، فقلت: ((اللهم سلمهم وغنمهم))، فسلِمْنا وغنمنا، يا رسول الله، فمرني بعمل أدخل به الجنة، فقال: ((عليك بالصوم؛ فإنه لا مثل له))، قال: فكان أبو أمامة لا يرى في بيته الدخان نهارًا إلا إذا نزل بهم ضيف، فإذا رأوا الدخان نهارًا عرفوا أن قد اعتراهم ضيف"[44]. وعن أمامة: فكان أبو أمامة، وامرأته، وخادمه لا يلفون إلا صيامًا[45]. قال الذهبي: ولأبي أمامة كرامة باهرة جزع هو منها، وهي في كرامات الدَّاكالي وأنه تصدق بثلاثة دنانير، فلقي تحت كراجته ثلاث مئة دينار[46]. وفي "تاريخ الذهبي" (3/315) عن مولاة لأبي أمامة، قالت: "كان أبو أمامة يحب الصدقة، ولا يقف به سائل إلا أعطاه، فأصبحنا يومًا وليس عنده إلا ثلاثة دنانير، فوقف به سائل، فأعطاه دينارًا ثم آخر فكذلك، ثم آخر فكذلك، قلت: لم يبق لنا شيء، ثم راح إلى مسجده صائمًا، فرققت له واقترضت له ثمن عشاء، وأصلحت فراشه، فإذا تحت المرفقة ثلاثمائة دينار، فلما دخل ورأى ما هيأت له، حمد الله وابتَسَم، وقال: هذا خير من غيره، ثم تعشَّى، فقلت: يغفر الله لك جئت بما جئت به، ثم تركته بموضع مضيعة، قال: و ما ذاك؟ قلت: الذهب، ورفعت المرفقة، ففزع لما رأى تحتها، وقال: ما هذا ويحك؟ قلت: لا علم لي، فكثر فزعه". (10) صوم عبدالله بن الزبير: أمير المؤمنين ابن الحواري عائذ ببَيْت الله، المشاهد في القيام، المواصِل للصيام. قال الذهبي: عدُّوه في صغار الصحابة، وإن كان كبيرًا في العلم والشرف والجهاد والعبادة. قالت عنه أسماء بنت أبي بكر: إنه قوَّام الليل، صوَّام النهار، وكان يُسمَّى حمامة المسجد[47]. عن ابن أبي مليكة قال: "كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام، ويصبح في اليوم السابع وهو ألْيَثُنَا"[48]. لقد كان ابن الزبير مع ملكه صنفًا في العبادة[49]. وقال ابن عمر، وقد رآه مصلوبًا: "السَّلاَمُ عَلَيْكَ، أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ، أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ، أَبَا خُبَيْبٍ، أَمَا وَاللَّهِ، لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ، لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ، لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ، إِنْ كُنْتَ مَا عَلِمْتُ صَوَّامًا قَوَّامًا وَصُولاً لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللَّهِ لأُمَّةٌ أَنْتَ أَشَرُّهَا لأُمَّةٌ خَيْرٌ"[50]. يتبع |
رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد
بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـهُ (11) رَمَضَانْ شَهَر القِوَة الحمد لله القوي العزيز الجبار، والصلاة والسلام على النبي الكريم المصطفى المختار، وعلى آله وصحبه الأخيار الكرام الأطهار، ومن اتبعهم واقتفى أثرهم ما تعاقب الليل والنهار، أما بعد: فإن الإسلامَ دينُ القوة؛ فالمؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، والله-عز وجل-أمرنا بإعداد القوة، وجاء الثناء في القرآن الكريم على القوي الأمين. وإن من أسرار الصيام، وآثار شهره الكريم أنه يبعث القوة في نفوس الصائمين، وهذا ما سيتبين في ثنايا هذا الحديث إن شاء الله. . . أيها الصائمون الكرام: هذه الحياةُ ميدانٌ لا يفوز فيها إلا الأقوياءُ، ونحن في عصر يكاد يكون شعاره: "إن لم تكن آكلاً فأنت مأكولٌ، وكن قوياً تُحترم". ثم إن القوةَ ضَربان: قوةٌ ماديةٌ، وقوة ٌمعنويةٌ، ومن مبادئ الإسلام أن القوة المادية قد تنتصر، ولكن انتصارها لا يكون طويلاً، ولن يكون مفيداً. ولقد قص القرآن الكريم علينا فيما قص: أن أمماً كانت قويةً في مظاهر الحياةِ الماديةِ؛ فعاثت في الأرض فساداً، وحاربت أنبياء الله ورسله وأولياءه؛ فكانت عاقبة أمرها خسراً. وما خبرُ عادٍ وثمودَ وغيرهما من الأمم بغريب على من يقرأ القرآن، (أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) تلك هي نهايةُ الأمم التي أخذت من القوة المادية بأعلى نصيب، ولكنها خِلْوٌ من القوة الروحية والمعنوية. وأما القوةُ المعنويةُ وحدها دون سند من القوة المادية -فيقرر الإسلام: أنه لا سبيلَ لها إلى النصر، ولا شأنَ لها في توجيهِ الحياة؛ فسنُنُ اللهِ ماضيةٌ، لا تحابي أحداً كائناً من كان. لا خيرَ في حقٍّ إذا لم تَحْمِه *** حِلقُ الحديدِ وألسنُ النيرانِِ وقد رأينا أمماً وشعوباً عاشت في التاريخ هضيمةَ الحقِّ، كسيرةَ الجناح، تُسام في ديارها الخسفَ والهوانَ؛ لأنها لم تَسْلُكْ سبلَ القوة؛ فانهزمت أمام الأقوياء. . . والسبيلُ الصحيحُ إلى حياة كريمةٍ سعيدةٍ أن تتضافرَ المادةُ مع الروح، على تقويم الإنسان، وبناء معيشته، وأن تُمْسِك الأمَّةُ بجناحين من قوةِ المادة، وقوةِ الروح، لا يطغى أحدهما على الآخر. ومما أدبنا القرآن به أن أمرنا أن نقول: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). وكما أوجب علينا القرآن أن نُصَحِّحَ العقيدة، ونهذِّب النفوس، ونسموَ بالروح -أمرنا بأن نُعِدّ القوة إلى أقصى ما نستطيع (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ). وكما أمرنا بأن نقيمَ الصلاة، ونؤتيَ الزكاة-وهما من أبرزِ دعائم القوةِ الروحيةِ المعنوية-أمرنا أن نضربَ في الأرض،ونمشي في مناكبها،وألا ننسى نصيبنا من الدنيا. ومما يقرره الإسلام: أن القوةَ المعنوية مع قليلٍ من القوةِ المادية تغلب القوةَ الماديةَ إذا هي فقدت الوازعَ النفسيَّ، والباعثَ المعنوي، قال الله-عز وجل-: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). . . وفي معركة بدر أروعُ مثالٍ شاهدٍ على ذلك؛فالمسلون الثلاثُمائة الذين انتصروا في بدر كانوا عرباً ككفار قريش الذين بلغ عددُهم في بدر ألفاً، وأولئك أقرباء هؤلاء، ومن بلد واحد، وميزاتٍ واحدة، والسلاحُ الذي في يد الألف أكثرُ وأضر. ولكن المسلمين كانوا يملكون من قوة العقيدة، وقوةِ الخُلُق، وقوةِ الروح ما لا يملكه أولئك الكفرة؛ فانهزم الكفرةُ، هزيمةً سجلها القرآن كمثلٍ رائع يدل على ما تستطيع القوة المعنوية أن تحرزه من نصر على القوة المادية؛ إذا هي أخذت من قوة السلاح بالمستطاع، ولو كان أدنى نصيب؛ لأنها بذلك تستحق النصر والمدد الإلهي. وكما ضربَ القرآنُ المثلَ بالأمة التي تجمع بين القوتين؛ فكذلك ضرب مثلاً للفرد الذي يجمع بين القوتين؛ فَيُفْلِحُ وينجح بموسى-عليه السلام-حين سقى للفتاتين الماء بقوة عضل وجسم، ومشى معهما إلى أبيهما، لا يرتفع طرفُه إليهما عن حياء وتكرم، وخلق نبيل (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ). وضرب القرآن المثل بالأمة، التي تجمع بين القوتين، فتسعد وتنتصر بأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- قال-تعالى-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ)، وهذا عنوان القوة المادية (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) وهذا عنوان القوة المعنوية، (تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً)، وهذا ثمرةُ الجمعِ بين القوتين، وأبرزُ عناصر السعادة للأمة التي تجمع بينهما. . . والصيامُ الذي فرضه الله على المسلمين؛ يجمع بين القوتين جمعاً رائعاً متلائماً، يؤتي أحسنَ الثمار؛ فهو من الناحية الصحية قوةٌ للجسم، يدفع عنه كثيراً من الأمراض، ويشفيه من كثيرٍ من العلل. وهو من الناحية المعنوية يعطي المسلم قوىً معنويةً متنوعةً، لها أكبرُ الأثرِ في سعادة الأفراد والجماعات، فيعطيه: قوةَ الصبرِ، وقوةَ النظام، وقوةَ الطاعة، وقوةَ التحملِ، وقوةَ الإيمانِ. أترون أمةً من الأمم تتحلى بهذه القوى المعنوية، ثم تجد سبيلها إلى الانهيار؟! أترون جيشاً يتحلى أفراده بهذه الأخلاق القوية يجد نفسه على عتبة الهزيمة؟! أترون مجتمعاً تسود فيه هذه الأخلاق، يتطرق الفساد إلى قواعده وأُسُسِه؟! أترون المسلمين يومَ بدرٍ وقد كانت في السابع عشر من رمضان أترونهم استطاعوا أن يحرزوا هذا النصر لولا أن الله قيَّض لهم هذا الصيام الذي بث فيهم القوة الروحية الكاملة، فجعلهم يخوضون المعركة أقوياء أحراراً؟! أترون معاركَنا التي انتصرنا فيها في اليرموك، والقادسية، وجلولاءَ، وحطينَ وغيرها، هل كانت تتم بهذه الروعةِ المُعجزةِ، التي لا تـزال تذهل كبار الباحثين، في أسرارها لولا أن أهلَها كانوا يتخلَّقون بخلق الصائمين من عفة،وسموٍّ، وتضحية، وتحمّلٍ للشدائد، وخضوعٍ لله، واستعلاءٍ على كل ما سواه؟!! هل تُراهم يثبتون هذا الثباتَ، لو أنهم خاضوا المعارك بنفوس المنهزمين، الذين تغلبهم شهواتُهم،وتستحوذُ عليهم شياطينُهم، فلا يستطيعون مقاومةَ الجوع والعطش ساعات معدودة؟! كلا ثم كلا!! . . أيها المسلم الصائم: لا تنس وأنت تصوم رمضان، أنهُ يراد منك أن تكون مثالَ القويِّ الأمين؛ فحذارِ أن ينسلخ عنك رمضان وأنت الضعيفُ الخائن. وأيها المسلمون الصائمون: لا تنسوا وأنتم تصومون رمضان، أن الله يريد أن تكونوا بالصيام أشداءَ على الكفار رحماءَ بينكم؛ فاحذروا أن ينسلخ الشهر عنكم وأنتم ممن ينطبق عليه قوله-تعالى-: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ). اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، وانصر عِبادك الموحدين يارب العالمين، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. |
رد: نظرات على صيام الصالحين
نظرات على صيام الصالحين سادات الصائمين (1 - 12) الشيخ سيد حسين العفاني (11) صوم عبدالله بن رواحة: الأمير السعيد الشهيد البدري النقيب، أبو عمرو الأنصاري الخزرجي شاعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: "خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره في يوم حارٍّ، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - وابن رواحة"[51]. وعند الذهبي في "السيَر": "إن كنا لنكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر في اليوم الحار، ما في القوم أحد صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن رواحة"[52]. عن ابن أبي ليلة: تزوج رجل امرأة ابن رواحة، فقال لها: تدرين لم تزوجتك؟ لتخبريني عن صنيع عبدالله في بيته، فذكرت له شيئًا لا أحفظه غير أنها قالت: كان إذا أراد أن يخرج من بيته، صلى ركعتين، وإذا دخل صلى ركعتين، لا يدع ذلك أبدًا"[53]. (12) صوم الصحابي الجليل حمزة بن عمرو الأسلمي: كان - رضي الله عنه - يسرد الصوم. روى الإمام أحمد عن عائشة - رضي الله عنها - أن حمزة بن عمرو الأسلمي سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إني رجل أسرد الصوم فأصوم في السفر، قال: ((صم إن شئت وأفطر إن شئت)). قال النووي: "فيه دلالة لمذهب الشافعي، وموافقته أن صوم الدهر وسرده غري مكروه لمن لا يخاف منه ضررًا، ولا يفوت به حقًّا بشرط فطر يومي العيدين والتشريق؛ لأنه أخبر بسرده، ولم ينكر عليه، بل أقره عليه، وأذن له فيه في السفر، ففي الحضر أولى". وهذا محمول على أن حمزة بن عمرو كان يطيق السرد بلا ضرر ولا تفويت حق، كما في الرواية التي بعدها: (أجد بي قوة على الصيام في السفر)، وأما إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على ابن عمرو بن العاص صوم الدهر؛ فلأنه علم - صلى الله عليه وسلم - أنه سيضعف عنه، وهكذا جرى بأنه ضعف في آخر عمره، وكان يقول: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب العمل الدائم، وإن قل ويحثهم عليه[54]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] جزء من حديث صحيح. [2] "الاعتصام" (1/404). [3] قال في "الاعتصام" (1/405): "ويكون عمل ابن الزبير وابن عمر وغيرهما في الوصال جاريًا على أنهم مما أعطيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا بناء على أصل مذكور في كتاب "الموافقات" والحمد لله. [4] قال الشافعي: إذا جاء الأثر فمالك النجم. [5] "الاعتصام" (1/400 – 401). [6] بتصرُّف من "إقامة الحجة على أن الإكثار من التعبد ليس ببدعة"، للكنوي (من 147 – 153)، ط مكتب المطبوعات الإسلامية. [7] متفق على صحته. [8] "صفة الصفوة"، لابن الجوزي (1/286)، والأثر أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (1/121)، والبيهقي في "سننه" (4/301)، وابن حزم في "المحلى" (7/14). [9] "صفة الصفوة" (1/292). [10] "الحلية" (1/55). [11] "الحلية" (1/56)، و"صفة الصفوة" (1/302). [12] صحيح: رواه الحاكم في "المستدرك" عن جابر، ورواه ابن عساكر، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (5081). [13] "المعجم الكبير" للطبراني (5/91)، وأشار الشيخ حمدي عبدالمجيد السلفي إلى صحته. [14] "سير أعلام النبلاء" (1/27). [15] "تاريخ دمشق"، لأبي زرعة (562). [16] "سير أعلام النبلاء" (1/29). [17] "المستدرك" (3/353)، وقال: على شرط مسلم. [18] "حلية الأولياء" (3/43). [19] "سير أعلام النبلاء" (1/187)، ورجاله ثقات، أخرجه ابن سعد (8/68). [20] أخرجه ابن سعد (8/75). [21] "السمط الثمين" (ص9)، و"صفة الصفوة" (2/31). والمعنى: أنها كانت تصوم غير الأيام المنهي عنها: كالعيدين، وأيام التشريق والحيض. [22] أبو نعيم في "الحلية" (2/47)، والحاكم (4/13). [23] ابن سعد (8/46)، و"الحلية" (2/47)، ورجاله ثقات. [24] "الحلية" (2/50). [25] حسَن: أخرجه الحاكم في "المستدرك" عن أنس وقيس بن زيد. [26] "الحيلة" (1/28). [27] "الحلية" (1/29). [28] ابن سعد (7/391)، قال الهيثمي (9/367): رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. [29] ابن عساكر (2/13/371). [30] "سير أعلام النبلاء" (2/346). [31] أي: لابسة ثياب البذلة، وهي المهنة. [32] البخاري، والترمذي. [33] "سير أعلام النبلاء" (3/80). [34] رواه البخاري في كتاب: "فضائل القرآن" باب: "في كم يقرأ القرآن" (8/712، 713). [35] رواه النسائي. [36] أبو داود والترمذي وابن ماجة. [37] رجاله ثقات. [38] إسناده حسن، رواه أحمد في "مسنده" (2/200). [39] "سير أعلام النبلاء" (3/204). [40] صحيح: رواه البخاري، ومسلم، وأحمد. [41] صحيح: رواه البخاري، ومسلم وابن ماجة. [42] "سير أعلام النبلاء" (3/215). [43] إسناده صحيح: أخرجه ابن سعد (4/185)، والذهبي في "السير" (3/232). [44] إسناده صحيح على شرط مسلم، أخرجه ابن حبان في "صحيحه"، وابن أبي شيبة، والنسائي، والطبراني، وعبدالرزاق. [45] "سير أعلام النبلاء" (3/360). [46] "سير أعلام النبلاء" (3/362). [47] "حلية الأولياء" (1/335)، و"سير أعلام النبلاء" (3/367). [48] رواه الحاكم (3/549)، أليثنا، أي: كأنه ليث. [49] "سير أعلام النبلاء" (3/368). [50] رواه مسلم في "صحيحه". [51] خ، م، د، هـ، رواه البخاري ومسلم وأبو داود، وابن ماجة. [52] "سير أعلام النبلاء" (1/232 – 233). [53] إسناده صحيح: نسبة الحفاظ في "الإصابة" (6/78 – 179)، ابن المبارك في "الزهد" وصحح سنده، ورواه الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (1/33)، ورجاله ثقات. [54] صحيح: مسلم بشرح النووي. |
رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد
بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـهُ (12) آثارُ الصَومْ وأسْرَارُه الحمدُ للهِ المُوفِقِ المُعِينِ، إياهُ نعبدُ وإياهُ نستعينُ، منجزِ الوعدِ بالنصرِ لعبادهِ المؤمنين، منزلِ السكينةِ على الصابرين المخلصين، والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لآثارهم في نُصْرَة الدين إلى يوم الدين، أما بعد: فإن لكل عبادة في الإسلام حِكمة ً أو حِكَماً يظهر بعضها بالنص عليه، أو بأدنى عملٍ عقلي، وقد يخفي بعضُها إلا على المتأملين المتعمقين في التفكر والتدبر، والموفقين في الاستجلاء، والاستنباط. والحكمةُ الجامعةُ في العباداتِ كلِّها هي تزكيةُ النفوسِ، وتطهيرُها من النقائص، وتصفيتُها من الكُدُراتِ وإعدادُها للكمال الإنساني، وتقريبُها للملأ الأعلى، وتلطيفُ كثافَتِها الحيوانيةِ اللازمةِ لها من أصل الجِبِلَّة، وتغذيتُها بالمعاني السماوية الطاهرة؛ فالإسلام ينظر للإنسان على أنه كائنٌ وسطٌ ذو قابليةٍ للصفاء الملكي، والكدرِ الحيواني، وذو تركيبٍ يَجْمَعُ حَمَأ الأرضِ، وإشراقَ السماء، وقد أوتي العقل والإرادة والتمييز؛ ليسعد في الحياتين المنظورة والمذخورة، أو يشقى بهما. ولكل عبادة في الإسلام تُؤدَّى على وجهِها المشروعِ، أو بمعناها الحقيقي آثارٌ في النفوس، تختلف باختلاف العابدين في صدق التوجه، واستجماع الخواطر، واستحضار العلاقة بالمعبود. والعباداتُ إذا لم تعطِ آثارَها في أعمالِ الإنسان الظاهرة فهي عبادة مدخولة أو جسم بلا روح. . . وما قست قلوبُ المسلمين،ولا تقاعسوا عن أداء واجبهم، فكانوا عرضة لغزو أعدائهم في شتى الميادين - إلا بسبب بعدهم عن هِدَاية دينهم، وقلةِ تأثرهم بما يكررون قَوْلَه وفِعْلَه من أركان الإسلام، وشعائره، مما جعلها عند كثير منهم بمثابة العادات. ولو أنهم تأثروا بما يقولون ويفعلون تأثراً صحيحاً لتغير وجه الأرض، ولملأوها بجمال الحق بدلاً من شغب الباطل. هذا وإن للصوم حكماً باهرة وأسراراً بديعة، وآثاراً عظيمة على الفرد والجماعة. وقد كان يكفي في الحث على الصيام، والدعوة إليه أن يقال للمسلم: إن الله يأمرك بالصيام دون ذكرٍ لفوائد الصيام، وآثاره، وحكمه، وأسراره؛ ذلك أن الصومَ تشريعٌ ربانيٌّ إلهيٌّ، صادرٌ عن الرب بمقتضى ربوبيته، وألوهيته، فله-عز وجل-أن يكلِّفَ عباده بما شاء، وعليهم طاعةُ أمرِه، واجتنابُ نهيِه. وَلَكنَّ الحاجةَ تدعو إلى بيان بعض الأسرار، والحِكَم، والفوائد و الآثار التي ينطوي عليها شهر الصوم؛ذلك أن الله-عز وجل-علمنا في آيات كثيرة من كتابه المبين أسرارَ تشريعه،وفوائدَه؛شحذاً للأذهان أن تفكر وتعمل، وإيماءاً إلى أن هذا التشريعَ الإلهيَّ الخالدَ لم يقم إلا على ما يحقق للناس مصلحة، أو يدفع عنهم ضرراً، وليزداد إقبال النفوس على الدين قوة إلى قوة. . . انظروا إلى قوله - تعالى - حين يعلمنا آداب الاستئذان في البيوت كيف يختم ذلك بقوله:(هُوَ أَزْكَى لَكُمْ). بل إن الله - تعالى - حين أمرنا بالصيام ذَكَرَ حكمتَهُ وفائدتَه الجامعةَ بكلمة واحدة من كلامه المعجز، فقال-عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) البقرة 183. فالتقوىهي الحكمة الجامعة من تشريع الصيام. بل انظروا إلى قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-عن آداب الصائم: "إنما الصوم جنة - أي وقاية - فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، ولا يجهل"الحديث متفق عليه. فقد قدم الحكمة من الصيام ثم بين آدابه؛ ليكون أوقع في النفس، وأعمق أثراً. وما دام الإسلام لا يتنكَّر للعقل، ولا يخاطب الناس إلا بما يتفق مع التفكير السليم، والمنطق القويم ولا يأمر من التشريع بشيء إلا إذا كانت المصلحة تحتِّم العمل به أو تركه-لم يكن علينا من حرجٍ حين ننظرُ في أسرار التشريع وبيان فوائده. . . وما برح الناسُ في كل عصر يرون من فوائد التشريع ما يتفق مع تفكيرهم، ومصالحهم. وهذا دليل على أن وراء هذا التشريع رباً حكيماً، أحسن كل شيء خَلْقَهُ ثم هدى. فإذا وفَّقَ الله في مثل هذه الأحاديث أن تُشرح صدور المؤمنين لفريضة الصيام، ويُبَيَّن لهم شيء من حكم الصيام وأسراره وآثاره كان ذلك سبباً كبيراً لأن يُؤتَى بالصيام على وجهه الأكمل. . . معاشر الصائمين ينفرد الصوم من بين العبادات بأنه قمعٌ للغرائز عن الاسترسال في الشهوات، التي هي أصل البلاء على الروح والبدن، وفطمٌ لأمهات الجوارح عن أمهات الملذات. ولا مؤدِّبَ للإنسان كالكبح لضراوة الغرائز فيه، والحدِّ من سلطان الشهوات عليه. بل هو في الحقيقة نصرٌ له على هذه العوامل التي تُدَسِّي نفسه، وتبعده عن الكمال. وكما يحسن في عُرْف التربية أن يؤخذ الصغيرُ بالشدة في بعض الأحيان، وأن يعاقب بالحرمان من بعض ما تمليه إليه نفسه-فإنه يجب في التربية الدينية للكبار المكلفين أن يؤخذوا بالشدة في أحيان متقاربة كمواقيت الصلاة (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ). أو متباعدة كشهر رمضان، فإنه لا يأتي إلا بعد أحد عشر شهراً كلها انطلاق في الشهوات، وإمعانُ فيها، واسترسال مع دواعيها. وإن شهراً في التقييد الجزئي بعد أحد عشر شهراً من الانطلاق الكلي لقليل، وإن جزءاً من اثني عشر جزءاً في حكم المقارنات النسبيبة - ليسير. ولكنه يسر الإسلام الذي ليس بعده يسر، وسماحته التي ما بعدها سماحة. إن في الصوم جوعاً للبطن، وشبعاً للروح، وإضواءاً للجسم، وتقوية للقلب، وهبوطاً باللذة، وسمواً بالنَّفْس. في الصوم يجِدُ المؤمنُ فراغاً لمناجاة ربه، والاتصال به، والإقبال عليه، والأنس بذكره، وتلاوة كتابه. هذه بعضُ أسرارِ الصومِ وآثارِه، وهذا هو ماكان يفهمه السلفُ الصالحُ من معاني الصوم، وبذلك كانوا معجزة الإسلام في الثبات على الحق، والدعوة إليه، والتخلق به، فلم تر الإنسانية من يضاهيهم بسمو أنفسهم، ونبل غاياتهم، وبعد هممهم، وإشراقةِ أرواحهم، وهدايةِ قلوبهم، وحسنِ أخلاقهم. . . . أفليست الإنسانية اليوم بأمسِّ الحاجة إلى مثل ذلك الجيل أو ما يقاربه؟ بل أليست مجتمعات المسلمين بحاجة إلى مثل تلك النفوس؟ بلى ثم بلى ثم بلى. اللهم أفِضْ علينا من جودك وكرمك، ولا تحرمنا بركاتِ هذا الشهرِ الكريم، واجعل لنا منه أوفر الحظ والنصيب، واجعلنا ممن صامه وقامه إيماناً واحتساباً. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. |
رد: نظرات على صيام الصالحين
|
رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد
بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـهُ (13) أََسْرَارِ الصِيَام الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأكرمنا بأن كتب علينا فريضة الصيام، والصلاة والسلام على خير الأنام، نبينا محمد وعلى آله وصحبه السادة الكرام، أما بعد: فإن الإسلامَ دينُ تربيةٍ للملكات، والفضائل والكمالات، فهو يَعُد المسلم تلميذاً ملازماً في مدرسة الحياة دائماً فيها، دائباً عليها، يتلقى فيها ما تقتضيه طبيعتُه من نقصٍ وكمال، وما تقضيه طبيعتُها من خيرٍ وشر. ومن ثَمَّ فهو يأخذهُ أخذَ المربي في مزيج من الرفق والعنف بامتحانات دورية متكررة، لا يخرج من امتحان إلا ليدخل في امتحان آخر، وفي هذه الامتحانات من الفوائد للمسلم ما لا يوجد عشرُه، ولا مِعْشاره في الامتحانات المدرسية المعروفة. وامتحاناتُ الإسلام تتجلى في هذه الشعائر المفروضةِ على المسلم، تلك الشعائر التي شرعت للتربية، والتزكية، والتعليم، لا ليضيَّق بها على المسلم، ولا لِيُجْعل عليه في الدين من حرج، ولكنَّ الإسلامَ يريد ليطهرَه بها، وينميَ ملكاتِ الخيرِ والرحمةِ فيه، وليقويَ إرادتَه وعزيمتَه في الإقدام على الخير، والإقلاع عن الشر، ويروضَه على الفضائل الشاقة كالصبر والثبات،والحزم، والعزم، والنظام، وليحرِرَه من تعبِّد الشهوات له، ومَلكِ-ها لعنانه. . . وفي كل فريضةٍ من فرائض الإسلام امتحانٌ لإيمان المسلم، وعقله، وإرادته، غيرَ أن الصيامَ أعسرُها امتحاناً؛ لأنه مقاومة عنيفة لسلطان الشهوات الجسمية، فعليه تروَّض النفوس المطمئنة، وبه تروض النفوس الجامحة، فمدتُه شهرٌ قمريٌّ متتابعُ، وصورتُهُ الكاملةُ فطمٌ عن شهوات البطن، والفرج، واللسان، و الأذن، والعين. وكلَّ ما نقص من أجزاء ذلك الفطام فهو نقصٌ في حقيقة الصيام، كما جاءت بذلك الآثار عن صاحب الشريعة، وكما تقتضيه الحكمةُ الجامعةُ من معنى الصوم. قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه: "الصوم جنة " . أي وقاية، ففي الصومِ وقايةٌ من المأثم، ووقايةٌ من الوقوع في عذاب الآخرة، ووقاية من العلل والأدواء الناشئة عن الإفراط في تناول الملذات. إذا المرء لم يتركْ طعاماً يُحِبُّهُ *** ولم يَنْهَ قلباً غاوياً حيث يمما فيوشك أن تلقى له الدهرَ سُبَّةً *** إذا ذُكِرَتْ أمثالهُا تملأ الفمـا . . فلا يتوهمِ المسلمُ أن حقيقةَ الصومِ إمساكٌ عن بعض الشهوات في النهار ثم يعقبه انهماكٌ في جميع الشهوات في الليل؛ فإن الذي نشاهده من آثار هذا الصوم إجاعةُ البطنِ،وإظماءُ الكبدِ، وفتورُ الأعضاءِ وانقباضُ الأساريرِ،وبذاءة ُ اللسانِ، وسرعةُ الانفعالِ، واتخاذُ الصومِ شفيعاً فيما لا يُحَبُّ من الجهر بالسيئ من القول، وعذراً فيما تَبْدُرُ به البوادرُ من اللِّجاج والخصام، والأيمان الفاجرة. كَلا إن الصومَ لا يَكْمُل، ولا تَتِمُ حقيقتُه، ولا تظهر حِكَمُهُ، ولا آثاره - إلا بالفطام عن جميع الشهوات الموزعةِ على الجوارح؛ فللأذن شهواتٌ في الاستماع، وللعين شهوات من مدِّ النظر وتسريحه، وللِّسان شهواتٌ في الغيبة والنميمة ولذاتٌ في الكذب، واللغو. وإن شهواتِ اللسانِ لَتربو على شهوات الجوارح كلها، وإن له لضراوةً بتلك الشهوات لا يستطيع حَبْسَهُ عنها إلا الموفقون من أهل العزائم القوية. . . أيها الصائمون الكرام: صومُ رمضان محكٌّ للإرادات النفسية، وقمعٌ للشهوات الجسمية،ورمزٌ للتعبد من صورته العليا، ورياضةٌ شاقةٌ على هجر اللذائذ والطيبات، وتدريبٌ منظمٌ على حملِ المكروه من جوع وعطش،ونطقٍ بحقٍّ،وسكوتٍ عن باطل. والصومُ درسٌ مفيدٌ في سياسة المرء لنفسه، وَتَحكُّمِهُ في أهوائه، وضبطِه بالجد لنوازع الهزل، واللغو، والعبث. وهو تربيةٌ عمليةٌ لخلُقِ الرحمةِ بالعاجز المعدم؛ فلولا الصيامُ لما ذاق الأغنياء الواجدون ألمَ الجوع، ولما تصوروا ما يفعله الجوعُ بالجائعين. وفي الإدراكاتِ النفسيةِ جوانبُ لا يغني فيها السماعُ عن الوَجَدان؛ فلو أن جائعاً ظل وبات على الطَّوى خمس ليال، ووقف خمساً أخرى يصور للأغنياء البِطَانِ ما فعله الجوعُ بأمعائه وأعصابه، وكان حالُه أبلغَ في التعبير من مقاله-لما بلغ في التأثير فيهم ما تبلغه جوعةٌ واحدة ٌ في نفس غنيٍّ مترف. ولذلك كان نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- أجودَ الناس،وكان أجودَ ما يكون في رمضان،حين يدارسه جبريل القرآن،فلرسولُ الله أجودُ بالخير من الريح المرسلة. . . أيها الصائمون الكرام: رمضان نفحاتٌ إلهيةٌ تَهُبُّّّ على العالم الأرضي في كل عام قمريٍّ مرةً، وصفحةٌ سماويةٌ تتجلى على أهل الأرض فتجلو لهم من صفات الله عطفَه وبرَّه، ومن لطائف الإسلام حِكمتَه وسرَّه؛ فلينظرِ المسلمون أين حظهم من تلك النفحة، وأين مكانُهم من تلك الصفحة. ورمضانُ مستشفى زمانيِّ يجد فيه كل مريض دواءَ دائه، حيث يستشفي فيه مرضى البخلِ بالإحسان، ومرضى البِطْنةِ بالجوع والعطش، ومرضى الخصاصةِ والجوع بالكفاية والشِّبَع. شهرُ رمضانَ عند الأَيْقاظ المُتَذَكِّرين شهرُ التجلياتِ الرحمانية على القلوب المؤمنة، ينضحها بالرحمة، ويفيض عليها بالرَّوح، ويأخذها بالمواعظ، فإذا هي كأعواد الربيع جِدَّةً ونُضْرَةً، وطراوة ًوخُضْرةً. ولحكمةٍ ما كان شهراً قمرياً لا شمسياً، ليكون ربيعاً للنفوس، متنقلاً على الفصول، فيروِّض النفوس على الشدة في الاعتدال، وعلى الاعتدال في الشدة. ثم إن رمضانَ يحرك النفوسَ إلى الخير، ويسكِّنها عن الشر، فتكون أجود بالخير من الريح المرسلة، وأبعد عن الشر من الطفولة البريئة. ورمضانُ يطلق النفوسَ من أسر العادات، ويحررُها من رق الشهوات، ويجتث منها فسادَ الطباع، ورعونةَ الغرائز، ويطوفُ عليها في أيامه بمحكمات الصبر، وَمُثبِّتات العزيمة، وفي لياليه بأسباب الاتصال بالله، والقرب منه. ثم إن الصومَ ينمِّي في النفوس رعايةَ الأمانة، والإخلاصَ في العمل، وألا يراعى فيه غيرُ وجهِ الله-تعالى-. وهذه فضيلةٌ عظمى تقضي على رذائل المداهنة والرياء والنفاق. . . والصومُ من أكبر الحوافز لتحقيق التقوى، وأحسنِ الطرق الموصلة إليها؛ ولهذا السر خُتِمتْ آياتُ الصومِ بقوله -تعالى-: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) . شهرُ الصيام يربي في النفوس مكارمَ الأخلاقِ، ومحاسنَ الأعمالِ، فيبعثها إلى بر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الأهل والجيران. ومن أثر الصيام على النفوس حصولُ الصحة العامة بجميع معانيها، ففيه صحةٌ بدنيةٌ حسيةٌ، وفيه صحةٌ روحيةٌ معنويةٌ، وفيه صحةٌ فكريةٌ ذهنية. فالصحة البدنية تأتي من كون الصيام يقضي على المواد المترسبة في البدن، ولا سيما أبدان أولي النَّعمة والنَّهْمة والتُّخمة وقليلي العمل والحركة؛ فقد قال الأطباء: إن الصيام يحفظ الرطوباتِ الطارئةَ، ويطهر الأمعاءَ من فساد السموم التي تحدثها البِطْنة، ويحول دون كثرةِ الشحوم التي لها خطرها على القلب، فهو كتضمير الخيل الذي يزيدها قوةً على الكر والفر. وأما الصحةُ المعنويةُ فكما تقدم من أن الصوم من أعظم ما تصح به القلوب، وتزكو به الأرواح. وأما الصحة الفكرية فتأتي من أثر الصيام الصحيح، حيث يحصل به حسنُ التفكير، وسلامةُ النظرةِ، والتدبرُ في أمر الله ونهيه وحكمته. وبذلك يصح للصائم تفكيرُه،ويستنير بنور ربه، ويستجيب لنداءاته، ويحقق طاعته، فيخرج من صيامه بنفس جديدة، وفكر نيِّر،يسلم به من وصف البهيمية، ويصعد في مراتب السعادة والسيادة درجات. . . أيها الصائمون الكرام: هذه بعض أسرار الصوم في النفوس؛ فجدير بالصائم أن يستحضر هذه المعاني، وأن يكون له من صيامه أوفر الحظ والنصيب، وألا يفعل بعد إفطاره، أو نهاية شهره ما يُخِلُّ بهذه القوة أو يوهِنُها، فَيهدِم في ليله ما بناه في نهاره، وفي نهاية شهره ما بناه في شهره؛ فما أسعد الصائم، وما أحزمه لو اغتنم شهر الصيام، وجعله مدرسةً يتدرب فيها على هجر مألوفاته التي اعتاد عليها. وإنْ هو عكس الأمرَ، فصار يتأفف على ما حَرَمَهُ منه الصيامُ، ويتلهف لساعة الإفطار؛ ليسارع إلى تناول مألوفاته، المضرَّةِ به، فقد ضيع الحزمَ والعزمَ، وبرهن على خوره، وضعف نفسه، وقلةِ فائدته من صيامه. هذه صورة عامة مجملة،وإشارات سريعة عابرة لبعض الحكم والآثار والأسرار التي ينطوي عليها شهر الصيام. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد. |
رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد
بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـهُ (14) رَمَضَانْ وحُقُوقْ الجِيرَانْ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،أما بعد: فإن رمضانَ شهرُ الترابط، وشهرُ التواصي، وشهرُ التقارب، وشهر المودّات. والحديث اليوم سيدور حول معنى من هذه المعاني، ألا وهو حق الجار؛ فلقد أوصى الإسلام بالجار، وأعلى من قدره؛ حيث قرن الله حق الجار بعبادته _عز وجل_ وبالإحسان إلى الوالدين، واليتامى، والأرحام. قال الله_عز وجل_: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ )(النساء: من الآية36). أما السنَّةُ النبويةُ فقد استفاضت نصوصُها في بيان رعاية حقوقِ الجارِ، والوصايةِ به، وصيانةِ عرضه، والحفاظ على شرفه، وستر عورته، وسدّ خلَّته، وغضِّ البصر عن محارمه، والبعد عن كل ما يريبه، ويسيء إليه. ومن أجلِّ تلك النصوص وأعظمها ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة وابن عمر_رضي الله عنهم_أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مازال جبريل يوصني بالجار حتى ظننت أنه سيوَرِّثه). أي: ظننت أنه سَيبْلُغني عن الله الأمرُ بتوريث الجارِ الجارَ. . . أيها الصائم الكريم: الجار في الاصطلاح الشرعي هو من جاورك جواراً شرعياً، سواء كان مسلماً أو كافراً، براً أو فاجراً، صديقاً أو عدواً، محسناً أو مسيئاً، نافعاً أو ضاراً، قريباً أو أجنبياً، غريباً أو بلدياً. وله مراتب بعضها أعلى من بعض، تزيد وتنقص بحسب قربه وقرابته، ودينه وتقواه، ونحو ذلك؛ فيعطى بحسب حاله وما يستحق. أما حدّ الجوار؛ فقد اختلفت عباراتُ أهل العلم في حدِّ الجوار المعتبر شرعاً، والأقـرب _والله أعلم_ أن حدَّ الجوار يُرجع فيه إلى عُرْفِ الناس؛ فما عُلِمَ عُرْفاً أنه جارٌ فهو جار. ولا ريب أن الجوارَ في المسكن هو أجل صور الجوار وأوضحُها، ولكنَّ مفهومَّ الجار والجوار لا يقتصر على ذلك فحسب، بل هو أعمُّ من ذلك وأشمل؛ فالجار معتبرٌ في المتجر، والسوق، والمزرعة، والمكتب، ومقعد الدرس. ومفهومُ الجارِ يشمل الرفيقَ في السفر؛ فإنه مجاورٌ لصاحبه مكاناً وبدناً، والزوجةُ كذلك تسمى جارةً، وكذلك مفهومُ الجوارِ يشمل الجوارَ بين المدن، والدول، والممالك، فلكل منهما حق على الآخر. . . أيها الصائمون الكرام: حقوق الجار على وجه التفصيل كثيرة جداً، أما أصولها فتكاد ترجع إلى أربعـة حقوق. أولها: كف الأذى: فالأذى على كل أحد بغير حق محرم، وأذية الجار أشد تحريما ً. جاء في صحيح البخاري عن أبي شريح رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن قيل: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمـن جاره بوائقـه). وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره). وفي مسند الإمام أحمد، والأدب المفرد للبخاري، وعند الحاكم وصحَّحه، ووافقه الذهبي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله إن فلانةً تصلي الليل، وتصوم النهار، وفي لسانها شيء تؤذي جيرانها سليطة، قال: (لا خير فيها هي في النار). وقيل له: إن فلانةً تصلي المكتوبة، وتصوم رمضان، وتتصدق بالأثوار(وهي القطع الكبيرة من الأقط وهو اللبن الجامد المستحجر) وليس لها شيء غيره، ولا تؤذي جيرانـها، قال: (هي في الجنة). ولفظ الإمام أحمد:(لا تؤذي بلسانها جيرانـها). بل لقد جاء الخبر بلعن من يؤذي جاره، ففي حديث أبي جُحيفة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره فقال له: (اطرح متاعك في الطريق). قال: فجعل الناس يمرون به فيلعنونه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما لقيتُ من الناس؟ قال: وما لقيتَ منهم، قال: يلعنوني، قال: فقد لعنك الله قبل الناس قال: يا رسول الله فإني لا أعود). أخرجه البخاري في الأدب المفرد،والبزار، والحاكم، وصححه، ووافقه الذهبي. قال علي بن أبي طالب للعباس _رضي الله عنهما_: (ما بقي من كرمِ إخوانك؟ قال الإفضالُ إلى الإخوان، وتركُ أذى الجيران). فانظر كيفَ عدَّ العباسُ رضي الله عنه تركَ أذى الجيران من الكرم. ولقد كان العرب يتمدحون بكف الأذى عن الجار، قال هُدْبَةُ بنُ الخَشْرم: ولا نَخْذِلُ المولى ولا نرفع العصا *** عليه ولا نزجي إلى الجار عقربا وقال لبيد: وإن هوانَ الجارِ للجار مؤلمٌ *** وفاقرةٌ تأوي إليها الفواقر . . الثاني من حقوق الجار: حماية الجار: فمما ينبه لشرف همّة الرجل نهوضُه لإنقاذ جاره من بلاءٍ يُنال به في عرضه، أو بدنه أو ماله، أو نحو ذلك. ولقد كانت حمايةُ الجار من أشهر مفاخر العرب التي ملأت أشعارهم، قال عنترة: وإني لأحمي الجارَ من كل ذلّة *** وأفرحُ بالضيف المقيم وأَبْهَجُ وقالت الخنساءُ تمدح أخاها بحمايته جارَه: وجارُكَ مَحْفُوظٌ منيعٌ بنجوة *** من الضيم لا يُؤذى ولا يتذللُ بل لقد غالى العرب، وبالغوا في المحاماة عن الجار؛ إذ لم تتوقَّف محاماتُهم عن الجار الإنسان، بل لقد تعدّوا ذلك؛ فأجاروا ما ليس بإنسان إذا نـزل حول بيوتهم حتى ولو كان لا يعقل ولا يستجير؛ مبالغةً في الكرامة والعزَّة، وتحدياً لأن يَخْفِرُ الجوارَ أحدٌ، مثل ما فعل مدلجُ بنُ سويدٍ الطائيُّ،الذي نـزل الجرادُ حول خبائه؛ فمنع أن يصيدَه أحدٌ حتى طار وبَعُدَ عنه. وكان كليبٌ يجير الصيدَ، فلا يَعْرِضُ له أحدٌ. . . الثالثُ من حقوق الجار: الإحسانُ إليه؛ فذلك دليل الفضل، وبرهان الإيمان، وعنوان الصدق. جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره) الحديث، ولمسلم_أيضاً_: (فليحسن إلى جاره). ومن ضروب الإحسان إلى الجار تعزيته عند المصيبة،وتهنئته عند الفرح، وعيادته عند المرض، وبداءته بالسلام، وطلاقة الوجه عند لقائه، وإرشاده إلى ما ينفعه في دينه ودنياه، ومواصلته بالمستطاع من ضروب الإحسان. . . الرابع: من حقوق الجار احتمال أذاه: وذلك بأن يغضيَ عن هفواته، ويتلقى بالصفح كثيراً من زلاته، ولا سيِّما إساءةً صدرت من غير قصد، أو إساءةً ندم عليها، وجاء معتذراً منها؛ فاحتمالُ أذى الجارِ ومقابلةُ إساءتِه بالإحسان من أرفع الأخلاق، وأعلى الشيم. ولقد فقه السلف هذا المعنى، وعملوا به، روى المرّوذي عن الحسن: ليس حسنُ الجوارِ كفَّ الأذى، حسنُ الجوارِ الصبرُ على الأذى. هذه هي الأصولُ الأربعةُ التي عليها مدارُ حقوقِ الجارِ، ومع عظم ذلك الحقِّ إلا أن هناك تقصيراً كبيراً في حقِّ الجار من كثيرٍ من ا لناس. فمن صورِ ذلك التقصير مضايقةُ الجارِ، وحسدُه، واحتقارُه، وكشفُ أسراره، وتتبعُ عثراته، والفرحُ بزلاته. ومن ذلك: إيذاؤه بالجلبة، ورفعُ الأصوات، وتأجيرُ مَنْ لا يرغب الجيران في إسكانه. ومن صور التقصير في حق الجار: خيانتُه، والغدرُ به، وقلةُ الإحسان إليه، وتركُ النهوضِ لحمايته، وقلةُ الحرص على التعرُّف على الجيران، وقلةُ التفقُّد لأحوالهم. ومن ذلك: قلّةُ التهادي بين الجيران، والتكبُّرُ عن قبول هداياهم، ومنعُهم ما يحتاجون إليه من الأدوات اليسيرة، وقلةُ الاهتمام بإعادة المعار من الجيران إليهم. ومن صور التقصير في حق الجيران: تركُ الإجابةِ لدعوتهم، وقلَّةُ المبالاة بدعوتهم إلى الولائم والمناسبات،وقلَّةُ المناصحة لهم، وقلةُ التعاون معهم على البر والتقوى. ومن ذلك: كثرةُ الخصومةِ معهم، والتهاجرُ، والتدابرُ عند أدنى سبب، وقلةُ الحرص على إصلاح ذات البين إذا فسدت بين الجيران. ومن صور التقصير في حق الجار: تركُ الإحسان إلى الجار الغريب، وقلّةُ العناية باختيار الجار الصالح، والتفريطُ به، وقلّةُ الوفاء للجيران بعد الرحيل عنهم. وخلاصة القول: إن انتظام رابطة الجوار أكبر شاهد على رقي المجتمع، وسمو آدابه، والعكس بالعكس، وبإصلاح تلك الرابطة تطوى عند المحاكم قضايا كثيرة لا منشأ لها إلا عدم رعاية حق الجار. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. |
رد: نظرات على صيام الصالحين
نظرات على صيام الصالحين سادات الصائمين (13 - 39) الشيخ سيد حسين العفاني 15) صوم الأسد بن يزيد النخعي: الإمام القدوة، القارئ القوام، الساري الصوام، الفقيه الأثير، الفقير الأسير، "هو نظير مسروق في الجلالة والعلم والثقة والسن يضرب بعبادتهما المثل"[10]. سئل الشعبي عن الأسود فقال: "كان صوَّامًا قوامًا حجاجًا"[11]. وعن علقمة بن مرثد، قال: "انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين منهم الأسود ابن يزيد كان مجتهدًا في العبادة يصوم حتى يخضر جسده ويصفرَّ، وكان علقمة ابن قيس يقول له: ويحك؛ لِمَ تعذب هذا الجسد؟ قال: راحةَ هذا الجسد أريد، "إن الأمر جد، إن الأمر جد"[12]، فلما احتضر بكى فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: ما لي لا أجزع، ومن أحق بذل مني، والله، لو أتيت بالمغفرة من الله - عز وجل - لهمَّنِي الحياء منه مما قد صنعته، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه، فلا زال مستحيًا منه"[13]. وروى شعبة عن الحكم أن الأسود كان يصوم الدهر[14]. وروى حماد عن إبراهيم، كان الأسوَدُ يصوم حتى يسوَدَّ لسانه من الحر[15]. وعن عبدالله بن بشر أن علقمة والأسود بن يزيد حجا، وكان الأسود صاحب عبادة، وصام يومًا فكان الناس بالهجير، وقد تربد وجهه، فأتاه علقمة فضرب على فخذه، فقال: ألا تتَّقِ الله، يا أبا عمرو، في هذا الجسد؟ علام تعذب هذا الجسد؟ فقال الأسود: يا أبا شبل، الجد الجد[16]. قال حنس بن حارث: رأيت الأسود، وقد ذهبت إحدى عينيه من الصوم[17]، لا ضير إن كان الجنة فسيبدل الله بعين أصح منها. ما ضرهم ما أصابهم جبر الله لهم بالجنة كل مصيبة. (16) صوم مسروق بن عبدالرحمن: "في العلم معروق، وبالضمان موثوق، ولعباد الله معشوق، أبو عائشة مسروق"[18]. عن الشعبي قال: "غشي على مسروق في يوم صائف، وكانت عائشة قد تبنته فسمَّى بِنتَه عائشة، وكان لا يعصي ابنته شيئًا، قال: فنزلت إليه، فقالت: يا أبتاه، أفطر واشرب، قال: ما أردت بي يا بنية؟ قالت: الرِّفق، قال: يا بنية، إنما طلبت الرِّفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة"[19]، وفي رواية: "إنما طلبت الرفق لتعبِي"[20]. قالت له عائشة الصديقة: "يا مسروق، إنك من ولدي، وإنك لَمِن أحبهم إلي"[21]. وكان لا يأخذ على القضاء أجرًا، وكان يقول: "لأن أفتي يومًا بعدل وحق أحبُّ إليَّ من أن أغزو سنة"[22]. قال الأصمعي: كان مسروق يتمثل: وَيَكْفِيكَ مِمَّا أُغْلِقَ البَابُ دُونَهُ وَأَرْخَى عَلَيْهِ السِّتْرَ مِلْحٌ وَجَرْدَق وَمَاءٌ فُرَاتٌ بَارِدٌ ثم تَغْتَدِي تُعَارِضُ أصْحَابَ الثَّرِيدِ الْمُلَبَّق تَجَشَّأ إذَا مَا هُمْ تَجَشًَّؤوا كَأنَّمَا غُذِّيتَ بِألْوَانِ الطَّعَامِ الْمُفَتَّق يتبع |
رد: نظرات على صيام الصالحين
نظرات على صيام الصالحين سادات الصائمين (13 - 39) الشيخ سيد حسين العفاني (17) صوم العلاء بن زياد: "المبشر المحزون، المستتر المخزون، تجرد من الثلاد، وتشمر للمهاد، وقدم العتاد للمعاد، العلاء بن زياد"[23]. كان ربانيًّا تقيًّا قانتًا لله، بكاء من خشية الله. قال قتادة: كان العلاء بن زياد قد بكى حتى غشي بصره، وكان إذا أراد أن يقرأ أو يتكلم، جهشه البكاء، وكان أبوه قد بكى حتى عمي. قال الحسن لعلاء بن زياد، وقد سله الحزن: كيف أنت يا علاء؟ فقال: واحزناه على الحزن. قال الحسن: "قوموا فإلى هذا والله انتهى استقلال الحزن"[24]. وعن هشام بن حسان أن العلاء بن زياد كان قوت نفسه رغيفًا كل يوم، وكان يصوم حتى يخضر، أو يصلي حتى يسقط فدخل عليه أنس بن مالك والحسن فقالا: إن الله تعالى لم يأمرك بهذا كله، فقال: إنما أنا عبد مملوك لا أدع من الاستكانة شيئًا إلا جئته به"[25]. قال له رجل: رأيت كأنك في الجنة فقال له: ويحك، أما وجد الشيطان أحدًا يسخر به غيري وغيرك[26]. وكان يقول: "لينزل أحدكم نفسه أن قد حضره الموت فاستقال ربه تعالى نفسه، فأقاله فليعمل باعة الله عز وجل"[27]. قال سلمة بن سعيد رئي العلاء بن زياد أنه من أهل الجنة، فمكث ثلاثًا لا ترقأ له دمعة، ولا يكتحل بنوم ولا يتذوق طعامًا فأتاه الحسن فقال: أي أخي، أتقتل نفسك أن بشرت بالجنة، فازداد بكاءً"، فمل يفارقه حتى أمسى، وكان صائمًا فطعم شيئًا[28]. عن هشام بن زياد العدوي قال: تجهَّز، رجل من أهل الشام، وهو يريد الحج، فأتاه آتٍ في منامه فقال: ائت العراق، ثم ائت البصرة، ثم ائت بني عدي، فائت بها العلاء ابن زياد؛ فإنه رجل أقصم الثنية، بسام، فبشره بالجنة، قال: فقال: رؤيا ليست بشيء حتى إذا كانت الليلة الثانية، رقد فأتاه آت، فقال: ألا تأتي العرق فذكر مل ذلك حتى إذا كانت الليلية الثالثة جاءه بوعيد فقال: ألا تأتي العراق ثم تأتي البصرة ثم تأتي بني عدي فتلقى العلاء بن زياد، رجل ربعة، أقصم الثنية، بسام، فبشره بالجنة، قال فأصبح، وأخذ جهازه إلى العراق، فلما خرج من البيوت إذا الذي أتاه في منامه يسير بين يديه ما سار حتى قدم البصرة، فأتى بني عدي فدخل دار العلاء ابن زياد، فوقف الرجل على باب العلاء فسلم، قال هشام: فخرجت إليه، فقال لي: أنت العلاء بن زياد؟ قلت: هو في المسجد، قال: وكان العلاء يجلس في المسجد، ويدعو بدعوات، ويحدث قال هشام: فأتيت العلاء فخفف من حديثه وصلى ركعتين، ثم جاء فلما رآه العلاء تبسَّم فبَدَت ثنيته، فقال: هذا، والله، صاحبي قال: فقال العلاء: انزل، رحِمَك الله، قال: فقال الرجل: أدخلني قال، فدخل العلاء منزله، وقال: يا أسماء، تحولي إلى البيت الآخر، قال: فتحولت، ودخل الرجل، وبشره برؤياه، ثم خرج فرَكب، قال: وقام العلاء، فأغلق بابه، وبكى ثلاثة أيام، وقال: سبعة أيام لا يذوق فيهما طعامًا، ولا شرابًا ولا يفتح بابه، قال هشام فسمعته، يقول في خلال بكائه: أنا أنا، قال: فكنا نهابه أن نفتح بابه، وخشيت أن يموت، فأتيت الحسن، فذكرت له ذلك، وقلت: لا أراه إلا ميتًا لا يأكل ولا يشرب باكيًا، قال: فجاء الحسن حتى ضرب عليه بابَه، وقال: افتح، يا أخي، فلما سمع كلام الحسن قام ففتح بابه، وبه من الضر شيءٌ الله به عليم، فكلَّمه الحسن، ثم قال: رحمك الله، ومن أهل الجنة، إن شاء الله، أفقاتل نفسك أنت، قال هشام: حدثنا العلاء لي وللحسن بالرؤيا، وقال: لا تحدثوا بها ما كنت حيًّا"[29]. لك الله، يا علاء، أئن بشرت بالجنة صمت، وبكيت حتى أشرفت على الموت، لك الله، يا إمام، ولك من اسمك أوفر نصيب. (18) صوم سعيد بن المسيب سيد التابعين: عالم العلماء كما قال مكحول فقيه الفقهاء. حدث يزيد بن أبي حازم أن سعيد بن المسيب كان يسرد الصوم وقال ابن المسيب، ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلاَّ وأنا في المسجد[30]. يتبع |
رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد
بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـهُ (15) رَمَضَانْ و غَضْ البَصَر الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله صحبه ومن والاه، أما بعد: فقد جاء في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر، وأحصنُ للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء). قال ابن حجر في شرح الحديث:(الوجاء: رضُّ الخصيتين، وقيل: رضُّ عُروقِهما، ومن يُفعَل به ذلك تنقطع شهوته، ومقتضاه أن الصومَ قامعٌ للشهوة).انتهى كلامه. معاشر الصائمين: في هذا الحديث إشارة إلى فائدة كبرى من فوائد الصوم، ألا وهي غض البصر، وإحصان الفرج. فالصائم ينال هذه الفضيلة، ويسلم من معاطب إطلاق البصر وآفاته؛ فالعين مرآةُ القلب، وإذا أطلق الإنسان بصرَه أطلق القلبُ شهوتَه، ومن أطلق بصرَه دامت حسرتُه؛ فأضرُّ شيٍء على القلب إرسالُ البصر؛ فإنه يريد ما يشتدُ إليه طلبُه، ولا صبر له عنه، ولا سبيل إلى الوصول إليه، وذلك غايةُ ألمه وعذابه. ثم إن النظرةَ سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس _كما جاء في الحديث_ وشأنُ السهمِ أن يسريَ في القلب؛ فيعملَ فيه عملَ السمِّ الذي يُسقاه المسموم، فإن بادر، واستفرغه وإلا قتله ولابد. وكذلك النظرةُ؛ فإنها تفعل في القلب ما يفعله السهمُ في الرَّميَّة، فإن لم تقتله جرحته. والنظرةُبمنزلة الشرارة تُرمى في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقْه كلَّه أحرقت بعضه كما قيل: كلُّ الحوادثِ مبداها من النظر *** ومعظمُ النارِ من مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها *** فتكَ السهام بلا قوسٍ ولا وتر والمرءُ مادام ذا عينٍ يقلبها *** في أعين الغيد موقوفٌ على الخطر يسرُّ مُقْلَتَهُ ما ضرَّ مهجتَه *** لا مرحباً بسرور عاد بالضرر والناظر يرمي من نظره بسهامٍ غَرضُها قلبه وهو لا يشعر، قال المتنبي: وأنا الذي اجتلب المنيةَ طرفُهُ *** فَمَنِ المطالبُ والقتيلُ القاتلُ قال ابن القيم رحمه الله: (ولما كان النظرُ أقربَ الوسائلِ إلى المحرم اقتضت الشريعةُ تحريمَه، وأباحتْه في موضع الحاجة. وهذا شأن كلِّ ما حُرِّم تحريم الوسائل؛ فإنه يباح للمصلحة الراجحة). قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرفَ بصري). قال ابن القيم رحمه الله: (ونظرُ الفجأةِ هي النظرة الأولى، التي تقع بغير قصد؛ فما لم يتعمدْه القلبُ لا يعاقب عليه، فإذا نظر الثانيةَ تَعَمُّداً أثِم؛ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم عند نظرة الفجأة أن يصرفَ بصرَه، ولا يستديم النظر، فإنَّ استدامته كتكريره). معاشر الصائمين: ما أحوجنا إلى غضِّ البصر،وإلى ما يذكرنا به، خصوصاً في هذه الأزمنة، التي كثرت فيها الفتن، وتنوعت؛ حيث التبرجُ والسفورُ، والمجلاتُ الهابطةُ،والأفلام الخليعة، والقنوات الفضائية التي تغري بالرذيلة، وتزري بالفضيلة. فغض البصر _بإذن الله_ أمانٌ من الفتنة، وسبيلٌ إلى الراحة والسلامة؛ فإذا غض العبدُ بصره غضَّ القلب شهوتَه وإرادته. قال_تعالى_:(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ)(النور: من الآية30). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فجعل _سبحانه_ غضَّ البصر، وحفظَ الفرج هو أقوى تزكيةٍ للنفوس. وزكاةُ النفوسِ تتضمن زوالَ جميعِ الشرورِ من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب، وغير ذلك). وقال ابن الجو زي رحمه الله: (والو اجب على من وقع بصرُه على مُسْتَحسنٍ، فوجد لذةَ تلك النظرةِ في قلبه أن يصرفَ بصرَه؛ فمتى ما تَثَّبَت في تلك النظرة أو عاود وقع في اللوم شرعاً وعقلاً. فإن قيل: فإن وقع العشقُ بأول نظرةٍ فأي لومٍ على الناظر؟ فالجواب: أنه إذا كانت النظرةُ لمحةً لم تَكَدْ توجبُ عِشقاً،إنما يوجبه جمودُ العين على المنظور بقدر ما تَثْبُتُ فيه، وذلك ممنوع منه. ولو قَدَّرنا وجودَه باللمحة، فأثَّر محبةً سَهُلَ قمْعُ ما حصل). إلى أن قال رحمه الله: فإن قيل: فما علاج العشق إذا وقع بأول لمحة؟ قيل: علاجهُ الإعراضُ عن النظر؛ فإن النظرةَ مثلُ الحبةِ تُلْقَى في الأرض؛ فإذا لم يُلتَفَتْ إليها يَبَستْ، وإن سقيت نَبَتَتْ؛ فكذلك النظرةُ إذا أُلحقت بمثلها). وقال: (فإن جرى تفريطٌ باتْباعِ نظرةٍ لنظرةٍ فإن الثانية هي التي تُخاف وتُحذر؛ فلا ينبغي أن تُحْقَر هذه النظرةُ؛ فربما أورثت صبابةً، صبَّت دمَ الصبِّ). وقال ابن القيم : (فعلى العاقلِ ألا يُحَكِّم على نفسه عشقَ الصور؛ لئلا يؤدِّيَه ذلك إلى هذه المفاسد، أو أكثرِها، أو بعضِها؛ فمن فعل ذلك فهو المفرِّط بنفسه، المُضِرُّ بها؛ فإذا هلكت فهو الذي أهلكها؛ فلولا تكرارُه النظرَ إلى وجه معشوقه، وطمُعه في وصاله لم يتمكَّنْ عِشْقُه من قلبه) ا_هـ اللهم إنَّا نسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى، وللحديث صلة _إن شاء الله_ وصلى الله وسلم على نبينا محمد. |
رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد
بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـهُ (16) فإنَه أغَضُّ للبَصَر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فقد كان الحديث بالأمس يدور حول أثرِ الصيام في غضِّ البصر، وذلك انطلاقاً من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري :(من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء). وقد جاء في الحديث الماضي ذكرٌ لأضرار إطلاق البصر، والحديث ههنا إكمال لما مضى، وبيان لفوائد غض ّالبصر. معاشرَ الصائمين قد يقول بعض الناس: إذا نظرتُ نظرةً، فاشتدَّ تعلقي بمن نظرتُ إليه؛ فهل لي أن أكررَ النظرَ، لعلي أراه دون ما في نفسي، فَأَسْلوَ عنه؟ والجواب: أن ذلك من تلبيس الشيطان، ولا يجوز فعلُه لأوجهٍ عديدةٍ ذكرها ابن الجوزي، وابن القيم _رحمهما الله_ ومن تلك الأوجه ما يلي: أولاً: أن الله _سبحانه_ أمر بغضِّ البصر، ولم يجعلْ شفاءَ القلبِ فيما حرَّمه على العبد. الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن نظر الفجأة،ِ وقد علم أنَّه قد يؤثر في القلب، فـأمر بمداواته بصرف البصر، لا بتكرار النظر. الثالث: أنه صرح بأن الأولى له،وليست له الثانية،ومحالٌ أن يكون داؤه مما هو له، ودواؤه فيما ليس له. الرابع: أن الظاهرَ أن الأمرَ كما رآه في أول مرة؛ فلا تحَسُنُ المخاطرةُ بالإعادة. الخامس: أنه ربما رأى ما هو فوق الذي في نفسه؛ فزاد عذابُه. السادس: أن إبليس عند قصده للنظرة الثانية، يقوم في ركائبه، فيزيِّن له ما ليس بحسن؛ لتتمَّ البلية. السابع: أنه لا يعان على مطلوبه، إذا أعرض عن امتثال أمر الشرع، وتداوى بما حرمه عليه، بل هو جديرٌ أن تتخلَّف عنه المعونة. الثامن: أن النظرةَ الأولى سهمٌ مسمومٌ من سهامِ إبليس،ومعلومٌ أن الثانية أشدُّ سُمَّاً؛ فكيف يتداوى من السم بالسم؟! التاسع: أن صاحبَ هذا المقام في مقام معاملة الحق _عز وجل_ في ترك محبوب _كما زعم_ وهو يريد بالنظرة الثانية أن يتبينَ حالَ المنظور إليه؛ فإن لم يكن مرضياً تَرَكَهُ؛ فإذاً يكون تَرْكُهُ لأنه لا يلائم غرضه، لا لله _تعالى_ فأين معاملة الله _تعالى_ بترك المحبوب لأجله؟ وبهذه الأوجه وغيرها مما لم يذكر يتبينُ لنا خطورةُ إطلاقِ البصر، وإتْبَاعُ النظرةِ النظرة. معاشر الصائمين: لغضِّ البصر فوائدُ عظيمةٌ، لو استحضرها العاقل لقادته إلى غض البصر، ولمنعته من الاسترسال فيه، ومن تلك الفوائد ما يلي: الفائدة الأولى: تخليص القلب من ألم الحسرة. الفائدة الثانية: أنه يورثُ القلبَ نوراً وإشراقاً، يَظْهرُ في العين، وفي الوجه، وفي الجوارح. الفائدة الثالثة: أن غضَّ البصر يورثُ صحةَ الفِرَاسَة؛ فإنها من النور، وثمراته، وإذا استنار القلبُ صحَّت الفِراسةُ؛لأنه يصير بمنزلة المرآةِ المجلوَّةِ تظهر فيها المعلوماتُ كما هي، والنظرُ بمنزلة التنفُّس فيها؛ فإذا أطلق العبد نظره تنفَّست نفسُه الصُّعَداءُ في مرآة قلبه، فطمست نورها كما قيل: مرآةُ قلبِكَ لا تُريكَ صلاحَهُ *** والنَّفسُ فيها دائماً تتنفسُ والله _عز وجل_ يجازي العبدَ على عمله بما هو من جنسه، فمن غضَّ بصرَه عن المحارم عوَّضه الله إطلاقَ بصيرتِه؛ فلما حبس بصرَه لله أطلق اللهُ نور بصيرتِه، ومن أطلق بصره في المحارم حبس الله عنه بصيرتَه. الفائدة الرابعة من فوائد غض البصر: أنه يفتحُ للعبد طرقَ العلمِ ويسهلُ عليه أسبابَه، وذلك بسب نور القلب؛ فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائقُ المعلومات، وانكشفتْ له بسرعة، ونفذَ من بعضها إلى بعض. ومن أرسلَ بصَره تكدَّر عليه قلبه، وأظلم، وانسدَّ عليه بابُ العلم وطرقُه. الفائدة الخامسة: أن غضَّ البصر يورث القلبَ سروراً، وفرحاً، وانشراحاً، أعظم من اللذة والسرور الحاصلِ بالنظر؛ وذلك لقهره عدوَّه بمخالفته، ومخالفة نفسه، وهواه. ثم إنه لما كفَّ لذَّتَهُ، وحبسَ شهوتَه لله وفيها مسرةُ نفسه الأمارةِ بالسوء أعاضه الله مَسَرَّةً، ولذةً أكملَ منها، كما قال بعضهم: والله لَلَذَّةُ العفةِ أعظمُ من لذة الذنب. ولا ريب أن النفس إذا خالفت هواها أعقبها ذلك فرحاً، وسروراً، ولذّةً أكملَ من لذّة الهوى بما لا نسبة بينهما، وههنا يمتاز العقل من الهوى. الفائدة السادسة: أن غضَّ البصر يُخَلِّص القلب من أسر الشهوة؛ فإن الأسير هو أسيرُ شهوته وهواه. الفائدة السابعة: أن غضَّ البصر يسد عنه باباً من أبواب جهنم؛ فإن النظرة باب الشهوة الحاملة على مواقعة الإثم. الفائدة الثامنة: أن غضَّ البصر يقوي العقلَ، ويزيده ويثبِّته؛ فإن إطلاق البصر وإرسالَه لا يحصل إلا من خِفة العقل، وطيشِه، وعدمِ ملاحظته للعواقب. الفائدة التاسعة: أنه يُخَلِّصُ القلب من سُكْرِ الشهوة، ورقدةِ الغفلة. وبالجملة ففوائدُ غضِّ البصر، وآفاتُ إرسالِه أضعافُ أضعاف ما ذكر؛ فعلى من يريد السلامة لنفسه أن يغضَّ طرفَه عما تشتهيه نفسُه من الحرام، وليكن له في ذلك الغض نيةٌ يحتسب بها الأجرَ، ويكتسب الفضلَ، ويدخل في جملة مَنْ نهى النفسَ عن الهوى. . وهكذا معاشر الصائمين: يتبيَّن لنا أثرُ الصيامِ في غضِّ البصر، ويتّضح لنا آثار إرسالِ البصر، وثمراتُ غَضِّه. وإذا استفاد الصائم هذا الدرس من صيامه بعثه ذلك إلى غضِّ بصره،واستحضار مشاهدة الرب _عز وجل_ له؛ فينال بذلك فوائدَ غضِّ البصر، ويدخل في زمرة المحسنين الذين يعبدون الله كـأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم. اللهم اجعلنا ممن خافك، واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين. وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد. |
الساعة الآن : 02:47 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour